أصول السرخسي

فصل فِي بَيَان فَسَاد الْوَضع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن فَسَاد الْوَضع فِي الْعِلَل بِمَنْزِلَة فَسَاد الْأَدَاء فِي الشَّهَادَة وَأَنه مقدم على النَّقْض لِأَن الاطراد إِنَّمَا يطْلب بعد صِحَة الْعلَّة كَمَا أَن الشَّاهِد إِنَّمَا يشْتَغل بتعديله بعد صِحَة أَدَاء الشَّهَادَة مِنْهُ فَأَما مَعَ فَسَاد فِي الْأَدَاء لَا يُصَار إِلَى التَّعْلِيل لكَونه غير مُفِيد
ثمَّ تَأْثِير فَسَاد الْوَضع أَكثر من تَأْثِير النَّقْض لِأَن بعد ظُهُور فَسَاد الْوَضع لَا وَجه سوى الِانْتِقَال إِلَى عِلّة أُخْرَى فَأَما النَّقْض فَهُوَ جحد مجْلِس يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ فِي مجْلِس آخر
وَبَيَانه فِيمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي إِسْلَام أحد الزَّوْجَيْنِ إِن الْحَادِث بَينهمَا اخْتِلَاف الدّين فالفرقة بِهِ لَا تتَوَقَّف على قَضَاء القَاضِي كالفرقة بردة أحد الزَّوْجَيْنِ
لأَنا نقُول هَذَا الِاخْتِلَاف إِنَّمَا حصل بِإِسْلَام من أسلم مِنْهُمَا فَأَما بِاعْتِبَار بَقَاء من بَقِي على الْكفْر الْحَال حَال الْمُوَافقَة فقد كَانَ بَينهمَا الْمُوَافقَة وَهَذَا على دينه فَعرفنَا أَن الِاخْتِلَاف الْحَادِث بِإِسْلَام الْمُسلم مِنْهُمَا هُوَ سَبَب لعصمة الْملك وَزِيَادَة معنى الصيانة فِيهِ فالتعليل بِهِ لاسْتِحْقَاق الْفرْقَة يكون فَاسِدا وضعا فِي الْفَرْع وَإِن كَانَ صَحِيحا فِي الأَصْل من حَيْثُ إِن الِاخْتِلَاف هُنَاكَ حَادث بِالرّدَّةِ وَهِي سَبَب لزوَال الْملك والعصمة
وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ إِنَّه ركن فِي الطَّهَارَة فَيسنّ تثليثه كَغسْل الْوَجْه فَاسد وضعا لِأَنَّهُ يرد الْمسْح الْمَبْنِيّ

(2/276)


على التَّخْفِيف إِلَى الْغسْل الْمَبْنِيّ على الْمُبَالغَة ليثبت فِي الْمسْح زِيَادَة غلظ فَوق مَا فِي الْغسْل فَإِن فِي الْغسْل الْإِكْمَال بالتثليث فِي مَحل الْفَرْض خَاصَّة وَبِهَذَا التَّعْلِيل يَجْعَل التَّثْلِيث فِي الْمَمْسُوح مَشْرُوعا للإكمال فِي مَوضِع الْفَرْض وَغير مَوضِع الْفَرْض فَإِن الْفَرْض يتَأَدَّى بِالربعِ وَهُوَ يَجْعَل التَّثْلِيث مسنونا بالاستيعاب
وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي الضَّرُورَة إِذا حج بنية النَّفْل يَقع عَن الْفَرْض لِأَن فرض هَذِه الْعِبَادَة يتَأَدَّى بِمُطلق النِّيَّة فيتأدى بنية النَّفْل أَيْضا كَالزَّكَاةِ فَإِن التَّصَدُّق بالنصاب على الْفَقِير بِمُطلق النِّيَّة لما كَانَ يتَأَدَّى بِهِ الزَّكَاة فنية النَّفْل كَانَ كَذَلِك
وَلَكنَّا نقُول هَذَا فَاسد وضعا لِأَنَّهُ بِهَذَا الطَّرِيق يرد الْمُفَسّر إِلَى الْمُجْمل وَيحمل الْمُقَيد على الْمُطلق وَإِنَّمَا الْمُجْمل يرد إِلَى الْمُفَسّر ليصير بِهِ مَعْلُوم المُرَاد وَالْمُطلق يحمل على الْمُقَيد عِنْده فِي حادثتين أَو فِي حكمين وَعِنْدنَا فِي حَادِثَة وَاحِدَة فِي حكم وَاحِد حَتَّى رددنا مُطلق الْقِرَاءَة فِي صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْيَمين إِلَى الْمُقَيد بالتتابع فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَأحد لَا يَقُول الْمُقَيد يحمل على الْمُطلق وَهُوَ نَظِير مُطلق النَّقْد ينْصَرف إِلَى نقد الْبَلَد الْمَعْرُوف لدلَالَة الْعرف فَأَما الْمُقَيد بِنَقْد آخر فَإِنَّهُ لَا يحمل على الْمُطلق لينصرف إِلَى نقد الْبَلَد
وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي عِلّة الرِّبَا إِن صفة الطّعْم معنى يتَعَلَّق بِهِ الْبَقَاء يعنون أَن بَقَاء النَّفس يكون بالطعم فَيكون ذَلِك عِلّة مُوجبَة لزِيَادَة شرطين فِي العقد على المطعوم عِنْد مُقَابلَة الجنسية
وَنحن نقُول هَذَا فَاسد وضعا لِأَن البيع فِي الأَصْل مَا شرع إِلَّا للْحَاجة وَلِهَذَا اخْتصَّ بِالْمَالِ الَّذِي بذله لحوائج النَّاس وَصفَة الطّعْم تكون عبارَة عَن أعظم أَسبَاب الْحَاجة إِلَى ذَلِك المَال لِأَن مَا يتَعَلَّق بِهِ الْبَقَاء يحْتَاج إِلَيْهِ كل وَاحِد وَذَلِكَ إِنَّمَا يصلح عِلّة لصِحَّة العقد وتوسعة الْأَمر فِيهِ لَا للْحُرْمَة لِأَن تَأْثِير الْحَاجة فِي

(2/277)


الْإِبَاحَة بِمَنْزِلَة إِبَاحَة الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة وَلِهَذَا حل لكل وَاحِد من الْغَانِمين تنَاول مِقْدَار الْحَاجة من الطَّعَام والعلف الَّذِي يكون فِي الْغَنِيمَة فِي دَار الْحَرْب قبل الْقِسْمَة بِخِلَاف سَائِر الْأَمْوَال فَكَانَت الْعلَّة فَاسِدَة وضعا مَعَ أَنه لَا تَأْثِير لَهَا فِي إِثْبَات الْمُمَاثلَة بَين الْعِوَضَيْنِ الَّذِي هُوَ شَرط جَوَاز العقد بِالنَّصِّ
وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي طول الْحرَّة إِن الْحر لَا يجوز لَهُ أَن يرق مَاءَهُ مَعَ غنيته عَنهُ كَمَا لَو كَانَ تَحْتَهُ حرَّة فَإِن تَأْثِير الْحُرِّيَّة فِي أصل الشَّرْع فِي اسْتِحْقَاق زِيَادَة النِّعْمَة والكرامة وَفِي إِثْبَات صفة الْكَمَال فِي الْملك وَلِهَذَا حل للْحرّ أَربع نسْوَة بِالنِّكَاحِ وَلم يحل للْعَبد إِلَّا اثْنَتَانِ فالتعليل لإِثْبَات الْحجر عَن العقد بِصفة الْحُرِّيَّة فِيمَا لَا يثبت الْحجر عَنهُ بِسَبَب الرّقّ يكون فَاسِدا فِي الْوَضع مُخَالفا لأصول الشَّرْع
وَمن ذَلِك قَوْلهم فِيمَن جن فِي وَقت صَلَاة كَامِل أَو فِي يَوْم وَاحِد فِي الصَّوْم إِنَّه لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن الْخطاب عَنهُ سَاقِط أصلا وَوُجُوب الْقَضَاء يبتنى على وجوب الْأَدَاء بِمَنْزِلَة مَا لَو جن أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة فِي الصَّلَاة أَو استوعب الْجُنُون الشَّهْر كُله فِي الصَّوْم
وَنحن نقُول هَذَا فَاسد وضعا لِأَن الْحَادِث بالجنون عجز عَن فهم الْخطاب والائتمار بِالْأَمر وَلَا أثر للجنون فِي إِخْرَاجه من أَن يكون أَهلا لِلْعِبَادَةِ لِأَن ذَلِك يبتنى على كَونه أَهلا لثوابها والأهلية لثواب الْعِبَادَة بِكَوْنِهِ مُؤمنا وَالْجُنُون لَا يبطل إيمَانه وَلِهَذَا يَرث الْمَجْنُون قَرِيبه الْمُسلم وَلَا يفرق بَين الْمَجْنُونَة وَزوجهَا الْمُسلم
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَا يبطل إِحْرَامه بِسَبَب الْجُنُون فَدلَّ أَنه لَا يبطل بِهِ إيمَانه فَكَذَلِك لَا يبطل صَوْمه حَتَّى لَو جن بعد الشُّرُوع فِي الصَّوْم بَقِي صَائِما وَلَا وَجه لإنكار هَذَا فَإِن بعد صِحَة الشُّرُوع فِي الصَّوْم لَا يشْتَرط قيام الْأَهْلِيَّة للبقاء فِيهَا سوى الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشَّهَوَات وَالْجُنُون لَا يَنْفِي تحقق هَذَا الْفِعْل وَإِذا بَقِي صَائِما حَتَّى تأدى مِنْهُ عرفنَا أَنه تأدى فرضا كَمَا شرع

(2/278)


فِيهِ وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا مَعَ تقرر سَبَب الْوُجُوب فِي حَقه
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ بَقَاء حجَّة الْإِسْلَام فرضا لَهُ بعد الْجُنُون وَبَقَاء مَا أدّى من الصَّلَاة فِي حَالَة الْإِفَاقَة فرضا فِي حَقه فَبِهَذَا التَّحْقِيق يتَبَيَّن أَن سَبَب الْوُجُوب مُتَحَقق مَعَ الْجُنُون وَالْخطاب بِالْأَدَاءِ سَاقِط عَنهُ لعَجزه عَن فهم الْخطاب وَذَلِكَ لَا يَنْفِي صِحَة الْأَدَاء فرضا بِمَنْزِلَة من لم يبلغهُ الْخطاب فَإِنَّهُ تتأدى مِنْهُ الْعِبَادَة بِصفة الْفَرْضِيَّة كمن أسلم فِي دَار الْحَرْب وَلم تبلغه فَرضِيَّة الْخطاب لَا يكون مُخَاطبا بهَا وَمَعَ ذَلِك إِذا أَدَّاهَا كَانَت فرضا لَهُ
وَكَذَلِكَ النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ فَإِن الْخطاب بِالْأَدَاءِ سَاقِط عَنْهُمَا قبل الانتباه والإفاقة ثمَّ كَانَ السَّبَب متقررا فِي حَقّهمَا فَكَانَ التَّعْلِيل بِسُقُوط فعل الْأَدَاء عَنهُ لعَجزه عَن فهم الْخطاب على نفي سَبَب الْوُجُوب فِي حَقه أصلا فَيكون فَاسِدا وضعا مُخَالفا للنَّص وَالْإِجْمَاع وَلِأَن الْخطاب بِالْأَدَاءِ يشْتَرط لثُبُوت التَّمَكُّن من الائتمار وَذَلِكَ لَا يكون بِدُونِ الْعقل والتمييز فسقوطه لِانْعِدَامِ شَرطه لَا يجوز أَن يكون دَلِيلا على نفي تقرر السَّبَب وَثُبُوت الْوُجُوب الَّذِي هُوَ حكم السَّبَب على وَجه لَا صنع للْعَبد فِيهِ بل هُوَ أَمر شَرْعِي يخْتَص بِمحل صَالح لَهُ وَهُوَ الذِّمَّة فَإِذا ثَبت تقرر السَّبَب ثَبت صِحَة الْأَدَاء وَوُجُوب الْقَضَاء عِنْد عدم الْأَدَاء بِشَرْط أَن لَا يلْحقهُ الْحَرج فِي الْقَضَاء فَإِن الْحَرج عذر مسْقط بِالنَّصِّ قَالَ تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَقَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فَعِنْدَ تطاول الْجُنُون حَقِيقَة أَو حكما بتكرار الْفَوَائِت من الصَّلَوَات وباستيعاب الْجُنُون الشَّهْر كُله أسقطنا الْقَضَاء لدفع الْحَرج وَهُوَ عذر مسْقط
وَمعنى الْحَرج فِيهِ أَنه تتضاعف عَلَيْهِ الْعِبَادَة الْمَشْرُوعَة فِي وَقتهَا وَلَا يشْتَبه معنى الْحَرج فِي الْأَدَاء عِنْد تضَاعف الْوَاجِب وَلِهَذَا أسقطنا بِعُذْر الْحيض قَضَاء الصَّلَوَات لِأَنَّهَا تبتلى بِالْحيضِ فِي كل شهر عَادَة وَالصَّلَاة يلْزمهَا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة خمس مَرَّات فَلَو أَوجَبْنَا الْقَضَاء تضَاعف الْوَاجِب فِي زمَان الطُّهْر وَلَا يسْقط بِالْحيضِ قَضَاء الصَّوْم لِأَن فَرضِيَّة

(2/279)


الصَّوْم فِي السّنة فِي شهر وَاحِد وَأكْثر الْحيض فِي ذَلِك الشَّهْر عشرَة فإيجاب قَضَاء عشرَة أَيَّام فِي أحد عشر شهرا لَا يكون فِيهِ كثير حرج وَلَا يُؤَدِّي إِلَى تضَاعف الْوَاجِب فِي وقته
وَكَذَلِكَ إِذا لَزِمَهَا صَوْم شَهْرَيْن فِي كَفَّارَة الْقَتْل فأفطرت بِعُذْر الْحيض لم يلْزمهَا الِاسْتِقْبَال بِخِلَاف مَا إِذا لَزِمَهَا صَوْم عشرَة أَيَّام متتابعة بِالنذرِ فأفطرت بِعُذْر الْحيض فِي خلالها يلْزمهَا الِاسْتِقْبَال لِأَنَّهَا قَلما تَجِد شَهْرَيْن خاليين عَن الْحيض عَادَة فَفِي التَّحَرُّز عَن الْفطر بِعُذْر الْحيض فِي شَهْرَيْن معنى الْحَرج وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي عشرَة أَيَّام وَلِهَذَا أسقطنا قَضَاء الْعِبَادَات عَن الصَّبِي بعد الْبلُوغ لِأَن الصَّبِي لَا يكون إِلَّا متطاولا عَادَة فَيتَحَقَّق معنى الْحَرج فِي إِيجَاب الْقَضَاء
وَلم يسْقط الْقَضَاء عَن النَّائِم لِأَنَّهُ لَا يكون متطاولا عَادَة فَلَا يلْحقهُ الْحَرج فِي إِيجَاب الْقَضَاء بعد الانتباه وألحقنا الْإِغْمَاء بالجنون فِي حكم الصَّلَاة لِأَن ذَلِك يُوجد عَادَة فِي مِقْدَار مَا يتَكَرَّر بِهِ الْفَائِت من الصَّلَاة وألحقناه بِالنَّوْمِ فِي حكم الصَّوْم لِأَنَّهُ لَا يَتَطَاوَل عَادَة بِقدر مَا يثبت بِهِ حكم تطاول الْجُنُون فِي حكم الصَّوْم وَهُوَ أَن يستوعب الشَّهْر كُله
وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي النُّقُود إِنَّهَا تتَعَيَّن فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات لِأَنَّهَا تتَعَيَّن فِي التَّبَرُّعَات كَالْهِبَةِ وَالصَّدَََقَة فتتعين فِي الْمُعَاوَضَات بِمَنْزِلَة الْحِنْطَة وَسَائِر السّلع لأَنا نقُول هَذَا التَّعْلِيل فَاسد وضعا فَإِن التَّبَرُّعَات مَشْرُوعَة فِي الأَصْل للإيثار بِالْعينِ لَا لإِيجَاب شَيْء مِنْهَا فِي الذِّمَّة والمعاوضات لإِيجَاب الْبَدَل بهَا فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء أَلا ترى أَن البيع فِي الْعرف الظَّاهِر إِنَّمَا يكون بِثمن يجب فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَالنِّكَاح يكون بِصَدَاق يجب فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء فَكَانَ اعْتِبَار مَا هُوَ مَشْرُوع للإلزام فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء إِنَّمَا هُوَ مَشْرُوع لنقل الْملك وَالْيَد فِي الْعين من شخص إِلَى شخص فِي حكم التَّعْيِين فَاسِدا وضعا أَلا ترى أَن البيع لما كَانَ لنقل الْملك وَالْيَد فِي عين الْمَعْقُود عَلَيْهِ لم يجز أَن يكون مُوجبا الْمَبِيع فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء لَا رخصَة بِسَبَب الْحَاجة إِلَيْهِ فِي السّلم وَذَلِكَ حكم ثَابت بِخِلَاف الْقيَاس

(2/280)


فَفِيمَا يكون البيع مُوجبا لَهُ فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَهُوَ الثّمن لَا يجوز أَن يَجْعَل مُوجبه نقل الْملك وَالْيَد فِيهِ من شخص إِلَى شخص بِالتَّعْيِينِ وَقد عرفنَا أَنه لَا يسْتَحق النَّقْد بِالْعقدِ الَّذِي هُوَ مُعَاوضَة إِلَّا ثمنا وَمَعَ التَّعْيِين لَا يُمكن إِثْبَات مُوجبه فَظهر أَن هَذَا التَّعْيِين لم يُصَادف مَحَله وَأَنه بِمَنْزِلَة هبة المَال دينا فِي ذمَّته من إِنْسَان فَإِنَّهُ لَا يكون صَحِيحا لِأَن مُوجب الْهِبَة نقل الْملك وَالْيَد فِي الْعين فَلَا يجوز أَن يَجْعَل مُوجبه الْإِيجَاب فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء بِالشَّكِّ وَمَا كَانَ تعْيين النَّقْد فِي عقد الْمُعَاوضَة إِلَّا نَظِير الْإِيجَاب فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء بِعقد الْهِبَة فَكَمَا أَن ذَلِك يُنَافِي صِحَة العقد لِأَن مُوجبه نقل الْملك فِي الْعين وَالْيَد فبدون مُوجبه لَا يكون صَحِيحا فَهُنَا لَو تعين بَطل العقد لِأَنَّهُ يَنْعَدِم مَا هُوَ مُوجب هَذَا العقد فِي الثّمن وَهُوَ الالزام فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَفِي الْحِنْطَة كَذَلِك فَإِنَّهُ مَتى كَانَ ثمنا كَانَ وَاجِبا فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء فَأَما بعد التَّعْيِين يصير مَبِيعًا فَيكون مُوجب العقد فِيهِ تَحْويل ملك الْعين وَالْيَد من شخص إِلَى شخص والسلع لَا تكون إِلَّا مبيعة وَلِهَذَا لَا يجوز ترك التَّعْيِين فِيهَا فِي غير مَوضِع الرُّخْصَة وَهُوَ السّلم الَّذِي هُوَ ثَابت بِخِلَاف الْقيَاس لِأَنَّهُ لَو صَحَّ ذَلِك كَانَ ثَابتا بِالْعقدِ فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَهُوَ خلاف مُوجب العقد فِيهَا
وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي المُشْتَرِي إِذا أفلس فِي الثّمن قبل النَّقْد إِنَّه يثبت للْبَائِع حق نقض البيع واسترداد سلْعَته لِأَن الثّمن أحد الْعِوَضَيْنِ فِي البيع فالعجز عَن تَسْلِيمه بِحكم العقد يثبت للمتملك حق فسخ العقد دفعا للضَّرَر عَن نَفسه كالعوض الآخر وَهُوَ الْمَبِيع إِذا كَانَ عينا فعجز البَائِع عَن تَسْلِيمه بالإباق أَو كَانَ دينا كالسلم فعجز البَائِع عَن تَسْلِيمه بانقطاعه عَن أَيدي النَّاس
لأَنا نقُول هَذَا التَّعْلِيل فَاسد وضعا فَإِن مُوجب البيع فِي الْمَبِيع اسْتِحْقَاق ملك الْعين وَالْيَد وَلِهَذَا لَا نجوز بيع الْعين قبل وجود الْملك وَالْيَد للْبَائِع فِي الْمَبِيع لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق مِنْهُ اكْتِسَاب سَبَب اسْتِحْقَاق ذَلِك لغيره إِذا لم يكن مُسْتَحقّا لَهُ وَكَذَلِكَ فِي الْمَبِيع الدّين يشْتَرط قدرته على التَّسْلِيم باكتسابه حكما بِكَوْنِهِ مَوْجُودا فِي الْعَالم وباشتراط الْأَجَل الَّذِي هُوَ مُؤثر

(2/281)


فِي قدرته على التَّسْلِيم باكتسابه فِي الْمدَّة أَو إِدْرَاك غلاته فَإِنَّهُ مُوجب بِالْعقدِ فِي الثّمن الْتِزَامه فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَالشّرط فِيهِ ذمَّة صَالِحَة للالتزام فِيهَا وَلِهَذَا لَا يشْتَرط قيام ملك المُشْتَرِي فِي الثّمن وَقدرته على تَسْلِيمه عِنْد العقد حَقِيقَة وَحكما
فَتبين بِهَذَا أَن بِسَبَب الْعَجز عَن تَسْلِيم الْمَعْقُود عَلَيْهِ يتَمَكَّن خلل فِيمَا هُوَ مُوجب العقد فِيهِ (وَهُوَ) مُسْتَحقّ بِهِ وبسبب الْعَجز عَن تَسْلِيم الثّمن لَا يتَمَكَّن الْخلَل فِيمَا هُوَ مُوجب العقد فِيهِ وَهُوَ الْتِزَام (الثّمن) فِي الذِّمَّة وَأي فَسَاد أبين من فَسَاد قَول من يَقُول إِذا ثَبت حق الْفَسْخ عِنْد تمكن الْخلَل فِي مُوجب العقد يَنْبَغِي أَن يثبت حق الْفَسْخ بِدُونِ تمكن الْخلَل فِي مُوجب العقد
وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَا جَوَاز إِسْقَاط حق قبض الثّمن بِالْإِبْرَاءِ أصلا وَعدم جَوَاز ذَلِك فِي الْمَبِيع الْمعِين قبل الْقَبْض حَتَّى إِنَّه إِذا وهبه من البَائِع وَقَبله كَانَ فسخا للْبيع بَينهمَا
وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا الْكِتَابَة فَإِن عجز الْمكَاتب عَن أَدَاء بدل الْكِتَابَة بعد مَحل الْأَجَل تمكن الْمولى من الْفَسْخ وَالْبدل هُنَاكَ مَعْقُود بِهِ يثبت فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَلَا يتَمَكَّن الْخلَل فِيمَا هُوَ مُوجب العقد فِيهِ بِسَبَب الْعَجز عَن تَسْلِيمه لِأَن مُوجب العقد لُزُوم بدل الْكِتَابَة على أَن يصير ملكا للْمولى بعد حل الْأَجَل بِالْأَدَاءِ فَإِن الْمولى لَا يسْتَوْجب على عَبده دينا وَلِهَذَا لَا تجب الزَّكَاة فِي بدل الْكِتَابَة وَلَا تصح الْكفَالَة بِهِ
فَعرفنَا أَن الْملك هُنَاكَ لَا يسْبق الْأَدَاء فَإِذا عجز عَن الْأَدَاء فقد تمكن الْخلَل فِي الْملك الَّذِي هُوَ مُوجب العقد فِيهِ فَأَما هُنَا مُوجب العقد ملك الثّمن دينا فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَذَلِكَ قد تمّ بِنَفس العقد وبسبب الإفلاس لَا يتَمَكَّن الْخلَل فِيمَا هُوَ مُوجب العقد وَلِهَذَا لَو مَاتَ مُفلسًا لَا يتَمَكَّن البَائِع من فسخ العقد أَيْضا وَإِن لم تبْق صَلَاحِية الْمحل وَهُوَ الذِّمَّة بعد مَوته مُفلسًا لِأَن بِنَفس العقد قد تمّ مُوجب العقد فِيهِ فَمَا كَانَ فَوَاته بعد ذَلِك إِلَّا بِمَنْزِلَة هَلَاك الْمَبِيع بعد الْقَبْض وَذَلِكَ لَا يُوجب انْفِسَاخ العقد وَلَا يثبت للْمُشْتَرِي بِهِ حق الْفَسْخ فَهَذَا مثله
وَهَذِه الْمسَائِل فقههم فِيهَا بطرِيق إِحَالَة الْعلَّة أظهر وأنور للقلوب وَقد بَينا فَسَاد الْوَضع

(2/282)


فِي عللهم فِيهَا ليتبين لَك أَن أَكثر مَا يعللون بِهِ فِي الْمسَائِل بِهَذَا الطَّرِيق فَاسد إِذا تَأَمَّلت فِيهِ وَأَن أعدل الطّرق فِي تَصْحِيح الْعلَّة مَا كَانَ عَلَيْهِ السّلف من اعْتِبَار التَّأْثِير

فصل المناقضة
قد بَينا تَفْسِير النَّقْض وَحده فِيمَا مضى وَهَذَا الْفَصْل لبَيَان الدّفع بالمناقضة يلجىء أَصْحَاب الطَّرْد إِلَى الِاحْتِجَاج بالتأثير
وَبَيَانه فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي اشْتِرَاط النِّيَّة فِي الْوضُوء أَن التَّيَمُّم وَالْوُضُوء طهارتان كَيفَ يفترقان لِأَن عِنْد إِطْلَاق إِنْكَار التَّفْرِقَة بَينهمَا ينْتَقض بِكُل وَجه يفترقان فِيهِ من اشْتِرَاط أصل الْفِعْل فِي التَّيَمُّم دون الْوضُوء وَمن اشْتِرَاط الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة فِي الْوضُوء دون التَّيَمُّم وَمن صفة كل وَاحِد مِنْهُمَا وَغير ذَلِك مِمَّا يفترقان فِيهِ
فَإِن قَالَ عنيت إِثْبَات التَّسْوِيَة بَينهمَا فِي اشْتِرَاط النِّيَّة خَاصَّة بِهَذَا الْوَصْف قُلْنَا هُوَ بَاطِل بِغسْل النَّجَاسَة عَن الثَّوْب أَو الْبدن فَإِنَّهُ طَهَارَة ثمَّ لَا يشْتَرط فِيهِ النِّيَّة فيضطر عِنْد ذَلِك إِلَى الرُّجُوع إِلَى التَّأْثِير وَهُوَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا طَهَارَة حكمِيَّة غير معقولة الْمَعْنى بل ثَابِتَة شرعا بطرِيق التَّعَبُّد إِذْ لَيْسَ على الْأَعْضَاء شَيْء يَزُول بِهَذِهِ الطَّهَارَة وَالْعِبَادَة لَا تتأدى بِدُونِ النِّيَّة بِخِلَاف غسل النَّجَاسَة فَإِنَّهُ مَعْقُول بِمَا فِيهِ من إِزَالَة عين النَّجَاسَة عَن الثَّوْب أَو الْبدن
وَنحن نقُول المَاء بطبعه مطهر كَمَا أَنه بطبعه مزيل فَإِنَّهُ خلق لذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} وَالطهُور الطَّاهِر بِنَفسِهِ المطهر لغيره يعْمل فِي التَّطْهِير من غير النِّيَّة كالنار لما كَانَت محرقة بطبعها تعْمل فِي الإحراق بِغَيْر النِّيَّة ثمَّ الْحَدث لَا يخْتَص بالأعضاء بل يثبت حكمه فِي جَمِيع الْبدن كالجنابة وَالْحيض وَالنّفاس لِأَنَّهُ لَو اخْتصَّ بِموضع كَانَ أولى الْمَوَاضِع بِهِ مخرج الْحَدث وَلَا يثبت لُزُوم التَّطْهِير فِي ذَلِك الْموضع فَعرفنَا أَنه ثَابت فِي جَمِيع الْبدن إِلَّا أَن الشَّرْع أَقَامَ غسل الْأَعْضَاء الَّتِي هِيَ ظَاهِرَة وَهِي بِمَنْزِلَة الْأُمَّهَات فِي تطهيرها بِالْمَاءِ مقَام جَمِيع الْبدن تيسيرا على الْعباد لِأَن إِقَامَة الْغسْل فِيهَا تيسير على وَجه

(2/283)


لَا يَتَيَسَّر فِي سَائِر أَجزَاء الْبدن وَسبب الْحَدث تعم بِهِ الْبلوى ويعتاد تكراره فِي كل وَقت وَبَقِي حكم تَطْهِير جَمِيع الْبدن بِالْغسْلِ فِي الْجَنَابَة وَالْحيض وَالنّفاس على أصل الْقيَاس فَظهر أَن مَا لَا يعقل فِيهِ الْمَعْنى بل هُوَ ثَابت شرعا إِقَامَة الْمحَال الْمَخْصُوصَة مقَام جَمِيع الْبدن لَا فعل هُوَ اسْتِعْمَال المَاء فِي حُصُول الطَّهَارَة بِهِ وكلامنا فِي اشْتِرَاط النِّيَّة فِي الْفِعْل الَّذِي يحصل بِهِ الطَّهَارَة دون الْمحل وَفِي هَذِه الطَّهَارَة من الْحَدث والجنابة بِمَنْزِلَة غسل النَّجَاسَة
وَكَذَلِكَ الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإِنَّهُ قَائِم مقَام فعل الْغسْل الَّذِي هُوَ تَطْهِير فِي ذَلِك الْعُضْو بِمَعْنى التَّيْسِير بِخِلَاف التَّيَمُّم فَإِنَّهُ فِي الأَصْل تلويث وتغبير وَهُوَ ضد التَّطْهِير وَلِهَذَا لَا يرْتَفع بِهِ الْحَدث فَعرفنَا أَنه جعل طَهَارَة لضَرُورَة الْحَاجة إِلَى أَدَاء الصَّلَاة فَإِنَّمَا يكون طَهَارَة بِشَرْط إِرَادَة الصَّلَاة وَهَذَا الشَّرْط لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَمَا يَقُول إِن فِي الْوضُوء والاغتسال معنى الْعِبَادَة فَشرط الْعِبَادَة النِّيَّة فَهُوَ مُسلم عندنَا وَمَتى لم تُوجد النِّيَّة لَا يكون وضوءه عبَادَة وَلَكِن الطَّهَارَة الَّتِي هِيَ شَرط صِحَة أَدَاء الصَّلَاة مَا يكون مزيلا للْحَدَث لَا مَا يكون عبَادَة وَاسْتِعْمَال المَاء فِي مَحل الطَّهَارَة بِدُونِ النِّيَّة مزيل للْحَدَث فَبِهَذَا التَّقْرِير تبين أَن الْوضُوء نَوْعَانِ نوع هُوَ عبَادَة وَهُوَ لَا يحصل بِدُونِ النِّيَّة وَنَوع هُوَ مزيل للْحَدَث وَهُوَ حَاصِل بِغَيْر النِّيَّة بِمَنْزِلَة الْغسْل الَّذِي هُوَ مزيل للنَّجَاسَة وَهُوَ مُثبت شَرط جَوَاز الصَّلَاة
وَمن ذَلِك قَوْلهم الطَّلَاق لَيْسَ بِمَال فَلَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال كالحدود
فَإِن مُطلق هَذِه الْعبارَة تنْتَقض بالبكارة وَالرّضَاع فَلَا بُد من الرُّجُوع إِلَى التَّأْثِير وَهُوَ أَن شَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال لَيْسَ بِحجَّة أَصْلِيَّة وَلكنهَا حجَّة ضَرُورَة يجوز الْعَمَل بهَا شرعا فِيمَا تكْثر بِهِ الْبلوى والمعاملة فِيهِ بَين النَّاس فِي كل وَقت وَذَلِكَ الْأَمْوَال وَمَا يتبع الْأَمْوَال فَفِيمَا لَا يكثر فِيهِ الْبلوى لَا تجْعَل فِيهِ شَهَادَة النِّسَاء

(2/284)


حجَّة وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْوكَالَة وَمَا أشبه ذَلِك لَا يُوجد فِيهَا من عُمُوم الْبلوى مثل مَا يكون فِي الْأَمْوَال
وَنحن نقُول إِنَّهَا حجَّة أَصْلِيَّة بِمَنْزِلَة شَهَادَة الرِّجَال وَلَكِن فِيهَا ضرب شُبْهَة بِاعْتِبَار نُقْصَان عقل النِّسَاء لتوهم الضلال وَالنِّسْيَان لِكَثْرَة غفلتهن وَلِهَذَا ضمت إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى ليكونا كَرجل وَاحِد فِي الشَّهَادَة فَإِنَّمَا لَا يثبت بِهَذِهِ الشَّهَادَة مَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ كالحدود فَأَما النِّكَاح يثبت مَعَ الشُّبُهَات أَلا ترى أَنه أسْرع ثبوتا من المَال حَتَّى يَصح من الهازل وَالْمكْره والمخطىء عندنَا وَكَذَلِكَ الطَّلَاق وَالْوكَالَة فَإِنَّهَا تثبت مَعَ الْجَهَالَة فتحتمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَكَانَت أقرب إِلَى الثُّبُوت مَعَ الشُّبْهَة من الْأَمْوَال بِخِلَاف الْحُدُود
وَمن ذَلِك قَوْلهم الْغَصْب عدوان مَحْض فَلَا يكون سَببا للْملك فِي الْعين كَالْقَتْلِ لِأَن هَذَا ينْتَقض باستيلاد الْأَب جَارِيَة ابْنه واستيلاد أحد الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة فَإِنَّهُ عدوان من حَيْثُ إِنَّه حرَام ثمَّ كَانَ سَببا للْملك فيضطر الْمُعَلل عِنْد إِيرَاد هَذَا النَّقْض إِلَى الرُّجُوع إِلَى التَّأْثِير وَهُوَ أَن الْفِعْل إِنَّمَا يتمخض عُدْوانًا إِذا خلا عَن نوع شُبْهَة واستيلاد أحد الشَّرِيكَيْنِ لم يخل عَن ذَلِك فَإِنَّهُ بِاعْتِبَار جَانب ملكه يتَمَكَّن شُبْهَة فِي هَذَا الْفِعْل وَكَذَلِكَ مَا للْأَب من الْحق فِي مَال وَلَده يُمكن شُبْهَة
فَنَقُول عِنْد ذَلِك الْغَصْب الَّذِي هُوَ عدوان مَحْض لَا يكون سَببا لملك الْعين عندنَا وَلَكِن ثُبُوت الْملك فِي بدل الْعين وَهُوَ حكم مَشْرُوع غير مَوْصُوف بِأَنَّهُ عدوان هُوَ الَّذِي ثَبت بِهِ الْملك فِي الْعين شرطا لَهُ على مَا قَررنَا
وَمن ذَلِك قَوْله فِي الْمَنَافِع إِن الْمُتْلف مَال فَيكون مَضْمُونا على الْمُتْلف ضمانا يسْتَوْفى كَالْعَيْنِ لِأَن ظَاهر هَذَا ينْتَقض بِمَا إِذا كَانَ الْمُتْلف مُعسرا لَا يجد شَيْئا
فَإِن قَالَ هُنَاكَ الضَّمَان وَاجِب عِنْدِي وَلَكِن يتَأَخَّر الِاسْتِيفَاء لعجز من عَلَيْهِ عَن الْمثل الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الضَّمَان
قُلْنَا هَكَذَا نقُول فِي الْفَرْع فَإِن عندنَا يتَأَخَّر اسْتِيفَاء الضَّمَان إِلَى الْآخِرَة للعجز عَن الْمثل الَّذِي يُوفي بِهِ هَذَا

(2/285)


الضَّمَان فَإِن ضَمَان الْعدوان يتَقَدَّر بِالْمثلِ بِالنَّصِّ وَلَيْسَ للمنفعة مثل فِي صفة الْمَالِيَّة يُمكن استيفاؤها فِي الدُّنْيَا وَعند ذَلِك يتَبَيَّن فقه الْمَسْأَلَة أَن الْمَانِع من إِلْزَام الضَّمَان عندنَا انعدام الْمُمَاثلَة لظُهُور التَّفَاوُت بَين الْمَنَافِع والأعيان فِي صفة الْمَالِيَّة وَقد تقدم بَيَان ذَلِك فيقرر بِمَا ذكرنَا أَن الِاعْتِمَاد على الاطراد من غير طلب التَّأْثِير ضَعِيف فِي بَاب الِاحْتِجَاج وَأَنه بِمَنْزِلَة الِاحْتِجَاج بِلَا دَلِيل على مَا أوضحنا فِيهِ السَّبِيل