أصول السرخسي فصل فِي بَيَان الِانْتِقَال
قَالَ رَضِي الله عَنهُ الِانْتِقَال على أَرْبَعَة أوجه
انْتِقَال من عِلّة إِلَى عِلّة أُخْرَى لإِثْبَات الأولى بهَا
وانتقال من حكم إِلَى حكم لإثباته بِالْعِلَّةِ الأولى وانتقال
من حكم إِلَى حكم (آخر) لإثباته بعلة أُخْرَى
وَهَذِه الْأَوْجه الثَّلَاثَة مُسْتَقِيمَة على طَرِيق النّظر
لَا تعد من الِانْقِطَاع
أما الأول فَلِأَن الْمُعَلل إِنَّمَا الْتزم إِثْبَات الحكم
بِمَا ذكره من الْعلَّة ويمكنه من ذَلِك بِإِثْبَات الْعلَّة
فَمَا دَامَ سَعْيه فِيمَا يرجع إِلَى إِثْبَات تِلْكَ
الْعلَّة يكون ذَلِك وَفَاء مِنْهُ بِمَا الْتزم لَا أَن يكون
إعْرَاضًا عَن ذَلِك واشتغالا بِشَيْء آخر
وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا عللنا فِي نفي الضَّمَان عَن
الصَّبِي الْمُسْتَهْلك للوديعة بِأَنَّهُ اسْتِهْلَاك عَن
تسليط صَحِيح ثمَّ نشتغل بِإِثْبَات هَذِه الْعلَّة فَإِنَّهُ
يكون هَذَا انتقالا من عِلّة إِلَى أُخْرَى لإِثْبَات الْعلَّة
الأولى بهَا وَلَا يشك أحد فِي أَن ذَلِك مُسْتَقِيم على
طَرِيق النّظر وعَلى هَذَا إِذا اشْتغل بِإِثْبَات الأَصْل
الَّذِي يتَفَرَّع مِنْهُ مَوضِع الْخلاف حَتَّى يرْتَفع
الْخلاف بِإِثْبَات الأَصْل فَإِن ذَلِك حسن صَحِيح نَحْو مَا
إِذا وَقع الِاخْتِلَاف فِي الْجَهْر بِالتَّسْمِيَةِ فَإِذا
قَالَ الْمُعَلل هَذَا يبتنى على أصل وَهُوَ أَن التَّسْمِيَة
لَيست بِآيَة من الْفَاتِحَة ثمَّ يشْتَغل بِإِثْبَات ذَلِك
الأَصْل حَتَّى يثبت الْفَرْع بِثُبُوت الأَصْل يكون
مُسْتَقِيمًا
وَكَذَلِكَ إِذا علل بِقِيَاس فَقَالَ خَصمه الْقيَاس عِنْدِي
لَيْسَ بِحجَّة فاشتغل بِإِثْبَات كَونه حجَّة بقول صَحَابِيّ
فَيَقُول خَصمه قَول الْوَاحِد
(2/286)
من الصَّحَابَة عِنْدِي لَيْسَ بِحجَّة
فاشتغل بِإِثْبَات كَونه حجَّة بِخَبَر الْوَاحِد فَيَقُول
خَصمه خبر الْوَاحِد عِنْدِي لَيْسَ بِحجَّة فيحتج بِكِتَاب
على أَن خبر الْوَاحِد حجَّة فَإِنَّهُ يكون طَرِيقا
مُسْتَقِيمًا وَيكون هَذَا كُله سعيا فِي إِثْبَات مَا رام
إثْبَاته فِي الِابْتِدَاء
وَأما الثَّانِي فَلِأَن الِانْتِقَال من حكم إِلَى حكم
إِنَّمَا يكون عِنْد مُوَافقَة الْخصم فِي الحكم الأول وَمَا
كَانَ مَقْصُود الْمُعَلل إِلَّا طلب الْمُوَافقَة فِي ذَلِك
الحكم فَإِذا وَافقه خَصمه فِيهِ فقد تمّ مَقْصُوده ثمَّ
الِانْتِقَال بعده إِلَى حكم آخر ليثبته بِالْعِلَّةِ الأولى
يدل على قُوَّة تِلْكَ الْعلَّة فِي إجرائها فِي المعلولات
وعَلى حذاقة الْمُعَلل فِي إِثْبَات الحكم بِالْعِلَّةِ
وَذَلِكَ نَحْو مَا إِذا عللنا فِي تَحْرِير الْمكَاتب عَن
كَفَّارَة الْيَمين لِأَن الْكِتَابَة عقد مُعَاوضَة يحْتَمل
الْفَسْخ فَلَا تخرج الرَّقَبَة من أَن تكون محلا للصرف إِلَى
الْكَفَّارَة كَالْبيع فَإِذا قَالَ الْخصم عِنْدِي عقد
الْكِتَابَة لَا يخرج الرَّقَبَة من الصلاحية لذَلِك وَلَكِن
نُقْصَان الرّقّ هُوَ الَّذِي يخرج الرَّقَبَة من ذَلِك
فَنَقُول بِهَذِهِ الْعلَّة يجب أَن لَا يتَمَكَّن نُقْصَان
فِي الرّقّ لِأَن مَا يُمكن نُقْصَانا فِي الرّقّ لَا يكون
فِيهِ احْتِمَال الْفَسْخ فَهَذَا إِثْبَات الحكم الثَّانِي
بِالْعِلَّةِ الأولى أَيْضا وَهُوَ نِهَايَة فِي الحذاقة
وَكَذَلِكَ إِن تعذر إِثْبَات الحكم الثَّانِي بِالْعِلَّةِ
الأولى فَأَرَادَ إثْبَاته بِالْعِلَّةِ بعلة أُخْرَى
لِأَنَّهُ مَا ضمن بتعليله إِثْبَات جَمِيع الْأَحْكَام
بِالْعِلَّةِ الأولى وَإِنَّمَا ضمن إِثْبَات الحكم الَّذِي
زعم أَن خَصمه ينازعه فِيهِ فَإِذا أظهر الْخصم الْمُوَافقَة
فِيهِ وَاحْتَاجَ إِلَى إِثْبَات حكم آخر يكون لَهُ أَن يثبت
ذَلِك بعلة أُخْرَى وَلَا يكون هَذَا انْقِطَاعًا مِنْهُ
فَأَما الْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ الِانْتِقَال من عِلّة إِلَى
عِلّة أُخْرَى لإِثْبَات الحكم الأول فَمن أهل النّظر من صحّح
ذَلِك أَيْضا وَلم يَجعله انْقِطَاعًا اسْتِدْلَالا بِقصَّة
الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين حَاج اللعين بقوله تَعَالَى
{رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت} فَلَمَّا قَالَ اللعين {أَنا
أحيي وأميت} حاجه بقوله تَعَالَى {فَإِن الله يَأْتِي بالشمس
من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب} وَكَانَ ذَلِك (مِنْهُ)
(2/287)
انتقالا من حجَّة إِلَى حجَّة لإِثْبَات
شَيْء وَاحِد وَقد ذكر الله تَعَالَى ذَلِك عَنهُ على وَجه
الْمَدْح لَهُ بِهِ فَعرفنَا أَنه مُسْتَقِيم
وَكَذَلِكَ الْمُدَّعِي إِذا أَقَامَ شَاهِدين فعورض بِجرح
فيهمَا كَانَ لَهُ أَن يُقيم شَاهِدين آخَرين لإِثْبَات حَقه
وَالْمذهب الصَّحِيح عِنْد عَامَّة الْفُقَهَاء أَن هَذَا
النَّوْع من الِانْقِطَاع لِأَنَّهُ رام إِثْبَات الحكم
بِالْعِلَّةِ الأولى فانتقاله عَنْهَا إِلَى عِلّة أُخْرَى قبل
أَن يثبت الحكم بِالْعِلَّةِ الأولى لَا يكون إِلَّا لعجز عَن
إثْبَاته بِالْعِلَّةِ الأولى وَهَذَا انْقِطَاع على مَا نبينه
فِي فَصله
ثمَّ مجَالِس النّظر للإبانة فَلَو جَوَّزنَا الِانْتِقَال
فِيهَا من عِلّة إِلَى عِلّة أدّى ذَلِك إِلَى أَن يَتَطَاوَل
الْمجْلس وَلَا يحصل مَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْإِبَانَة
وَكَانَ هَذَا نَظِير نقض يتَوَجَّه على الْعلَّة فَإِنَّهُ
لَا يشْتَغل بالاحتراز عَنهُ وَلَكِن إِذا تعذر دَفعه بِمَا
ذكره الْمُعَلل فِي الِابْتِدَاء يظْهر بِهِ انْقِطَاعه فِي
ذَلِك الْمجْلس فَهَذَا مثله
فَأَما قصَّة الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَهُوَ
مَا انْتقل قبل ظُهُور الْحجَّة الأولى لَهُ وَلَكِن الأولى
كَانَت حجَّة ظَاهِرَة لم يطعن خَصمه فِيهَا إِنَّمَا ادّعى
دَعْوَى مُبتَدأَة بقوله {أَنا أحيي وأميت} وكل مَا صنعه
مَعْلُوم الْفساد عِنْد المتأملين إِلَّا أَنه كَانَ فِي
الْقَوْم من يتبع الظَّاهِر وَلَا يتَأَمَّل فِي حَقِيقَة
الْمَعْنى فخاف الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
الِاشْتِبَاه على أمثالهم فضم إِلَى الْحجَّة الأولى حجَّة
ظَاهِرَة لَا يكَاد يَقع فِيهَا الِاشْتِبَاه فبهت الَّذِي كفر
وَهَذَا مستحسن فِي طَرِيق النّظر لَا يشك فِيهِ فَإِن
الْمُعَلل إِذا أثبت علته يَقُول وَالَّذِي يُوضح مَا ذكرت
فَيَأْتِي بِكَلَام آخر هُوَ أوضح من الأول فِي إِثْبَات مَا
رام إثْبَاته وَهَذَا لِأَن حجج الشَّرْع أنوار فضم حجَّة
إِلَى حجَّة كضم سراج إِلَى سراج وَذَلِكَ لَا يكون دَلِيلا
على ضعف أَحدهمَا أَو بطلَان أَثَره فَكَذَلِك ضم حجَّة إِلَى
حجَّة وَإِنَّمَا جعلنَا هَذَا انْقِطَاعًا فِي مَوضِع يكون
الِانْتِقَال للعجز عَن إِثْبَات الحكم بِالْعِلَّةِ الأولى
ثمَّ كل هَذِه التَّصَرُّفَات للمجيب لَا للسَّائِل فَإِن
الْمُجيب بَان والسائل هَادِم مَانع وَالْحَاجة إِلَى هَذِه
الِانْتِقَالَات للباني الْمُثبت لَا للمانع الدَّافِع
على مَا أخبر الله بِهِ عَن اللعين عِنْد إِظْهَار الْخَلِيل
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّته بقوله {فبهت الَّذِي كفر}
(2/288)
فصل بَيَان الِانْقِطَاع
ووجوه الِانْقِطَاع أَرْبَعَة أَحدهَا وَهُوَ أظهرها السُّكُوت
وَالثَّانِي جحد مَا يعلم ضَرُورَة بطرِيق الْمُشَاهدَة لِأَن
سعي الْمُعَلل ليجعل الْغَائِب كالشاهد وَالْعلم بالمشاهدات
يثبت ضَرُورَة فَإِذا اشْتغل الْخصم بجحد مثله علم أَنه مَا
حمله على ذَلِك إِلَّا عَجزه عَن دفع عِلّة الْمُعَلل فَكَانَ
انْقِطَاعًا
وَالثَّالِث الْمَنْع بعد التَّسْلِيم فَإِنَّهُ يعلم أَنه لَا
شَيْء يحملهُ على الْمَنْع بعد التَّسْلِيم إِلَّا عَجزه عَن
الدّفع لما اسْتدلَّ بِهِ خَصمه
وَلَا يُقَال يحْتَمل أَن يكون تَسْلِيمه عَن سَهْو أَو غَفلَة
لِأَن عِنْد ذَلِك يبين وَجه الدّفع بطرِيق التَّسْلِيم ثمَّ
يبْنى عَلَيْهِ اسْتِدْرَاك مَا سَهَا فِيهِ فَأَما أَن يرجع
عَن التَّسْلِيم إِلَى الْمَنْع من غير بَيَان الدّفع بطرِيق
التَّسْلِيم فَذَلِك لَا يكون إِلَّا للعجز
وَالرَّابِع عجز الْمُعَلل عَن تَصْحِيح الْعلَّة الَّتِي قصد
إِثْبَات الحكم بهَا حَتَّى انْتقل مِنْهَا إِلَى عِلّة
أُخْرَى لإِثْبَات الحكم فَإِن ذَلِك انْقِطَاع لِأَن حكم
الِانْقِطَاع مقتضب من لَفظه وَهُوَ قُصُور الْمَرْء عَن
بُلُوغ مغزاه وعجزه عَن إِظْهَار مُرَاده ومبتغاه
وَهَذَا الْعَجز نَظِير الْعَجز ابْتِدَاء عَن إِقَامَة
الْحجَّة على الحكم الَّذِي ادَّعَاهُ وَالله أعلم
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَقسَام
الْأَحْكَام وأسبابها وعللها وشروطها وعلاماتها - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن جملَة مَا ثَبت
بالحجج الشَّرْعِيَّة الْمُوجبَة للْعلم بِمَا تقدم ذكرهَا
قِسْمَانِ الْأَحْكَام الْمَشْرُوعَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا
المشروعات
فنبدأ بِبَيَان قسم الْأَحْكَام فَنَقُول هَذِه الْأَحْكَام
أَرْبَعَة حُقُوق الله خَالِصا وَحُقُوق الْعباد خَالِصا
أَيْضا وَمَا يشْتَمل على الْحَقَّيْنِ وَحقّ الله فِيهِ أغلب
وَمَا يشْتَمل عَلَيْهِمَا وَحقّ الْعباد فِيهِ أغلب
(2/289)
فَأَما حُقُوق الله خَالِصَة فَهِيَ
أَنْوَاع ثَمَانِيَة عبادات مَحْضَة وعقوبات مَحْضَة وعقوبة
قَاصِرَة ودائرة بَين الْعِبَادَة والعقوبة وَعبادَة فِيهَا
معنى المئونة ومئونة فِيهَا معنى الْعِبَادَة ومئونة فِيهَا
معنى الْعقُوبَة وَمَا يكون قَائِما بِنَفسِهِ وَهِي على
ثَلَاثَة أوجه مَا يكون مِنْهُ أصلا وَمَا يكون زَائِدا على
الأَصْل وَمَا يكون مُلْحقًا بِهِ
فَأَما الْعِبَادَات الْمَحْضَة فرأسها الْإِيمَان بِاللَّه
تَعَالَى وَالْأَصْل فِيهِ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ
لَا يسْقط بِعُذْر مَا من إِكْرَاه أَو غَيره وتبديله
بِغَيْرِهِ يُوجب الْكفْر على كل حَال وَالْإِقْرَار
بِاللِّسَانِ ركن فِيهِ مَعَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ فِي
أَحْكَام الدُّنْيَا وَالْآخِرَة جَمِيعًا وَقد يصير
الْإِقْرَار أصلا فِي أَحْكَام الدُّنْيَا بِمَنْزِلَة
التَّصْدِيق حَتَّى إِذا أكره على الْإِسْلَام فَأسلم
بِاللِّسَانِ فَهُوَ مُسلم فِي أَحْكَام الدُّنْيَا لوُجُود
ركن الْإِقْرَار وَقيام السَّيْف على رَأسه دَلِيل على أَنه
غير مُصدق بِالْقَلْبِ وَلِهَذَا لَا يحكم بِالرّدَّةِ إِذا
أكره الْمَرْء عَلَيْهَا لِأَن التَّكَلُّم بِاللِّسَانِ
هُنَاكَ دَلِيل مَحْض على مَا فِي الضَّمِير من غير أَن
يَجْعَل أصلا بِنَفسِهِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ وَإِن
كَانَ دَلِيلا على التَّصْدِيق فَعِنْدَ الْإِكْرَاه يَجْعَل
أصلا بِنَفسِهِ يثبت بِهِ الْإِيمَان فِي أَحْكَام الدُّنْيَا
بِمَنْزِلَة التَّصْدِيق وَيَسْتَوِي إِن أكره الْحَرْبِيّ على
ذَلِك أَو الذِّمِّيّ عندنَا لهَذَا الْمَعْنى
وَعند الشَّافِعِي مَتى كَانَ الْإِكْرَاه بِحَق بِأَن كَانَ
الْمُكْره حَرْبِيّا لَا أَمَان لَهُ كَذَلِك الْجَواب وَمَتى
كَانَ بِغَيْر حق بِأَن أكره الذِّمِّيّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ
لَا يصير مُسلما بِهِ
ثمَّ الصَّلَاة بعد الْإِيمَان من أقوى الْأَركان فَإِنَّهَا
عماد الدّين مَا خلت عَنْهَا شَرِيعَة الْمُرْسلين
وَهِي تَشْمَل الْخدمَة بِظَاهِر الْبدن وباطنه وَلكنهَا
صَارَت قربَة بِوَاسِطَة الْبَيْت الَّذِي عظمه الله وأمرنا
بتعظيمه لِإِضَافَتِهِ إِلَى نَفسه فَقَالَ {أَن طهرا بَيْتِي
للطائفين} الْآيَة حَتَّى لَا تتأدى هَذِه الْقرْبَة إِلَّا
باستقبال الْقبْلَة فِي حَالَة الْإِمْكَان وَفِي ذَلِك من
معنى التَّعْظِيم مَا أَشَارَ الله تَعَالَى إِلَيْهِ فِي
قَوْله {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} ليعلم بِهِ أَن
الْمَطْلُوب وَجه الله
(2/290)
وَوجه الله لَا جِهَة لَهُ فَجعل الشَّرْع
اسْتِقْبَال جِهَة الْكَعْبَة قَائِما مقَام مَا هُوَ
الْمَطْلُوب لأَدَاء هَذِه الْقرْبَة
وأصل الْإِيمَان فِيهِ تقرب إِلَى الله تَعَالَى بِلَا
وَاسِطَة وَفِي الصَّلَاة تقرب بِوَاسِطَة الْبَيْت فَكَانَت
من شرائع الْإِيمَان لَا من نفس الْإِيمَان
ثمَّ الزَّكَاة الَّتِي تُؤدِّي بِأحد نَوْعي النِّعْمَة
وَهُوَ المَال فالنعم الدُّنْيَوِيَّة نعمتان نعْمَة الْبدن
ونعمة المَال والعبادات مَشْرُوعَة لإِظْهَار شكر النِّعْمَة
بهَا فِي الدُّنْيَا ونيل الثَّوَاب فِي الْآخِرَة فَكَمَا أَن
شكر نعْمَة الْبدن بِعبَادة تُؤدِّي بِجَمِيعِ الْبدن وَهِي
الصَّلَاة فَشكر نعْمَة المَال بِعبَادة مُؤَدَّاة بِجِنْس
تِلْكَ النِّعْمَة وَإِنَّمَا صَار الْأَدَاء قربَة بِوَاسِطَة
المصروف إِلَيْهِ وَهُوَ الْمُحْتَاج على معنى أَن الْمُؤَدِّي
يَجْعَل ذَلِك المَال خَالِصا لله تَعَالَى فِي ضمن صرفه إِلَى
الْمُحْتَاج ليَكُون كِفَايَة لَهُ من الله تَعَالَى لهَذَا
كَانَ دون الصَّلَاة بِدَرَجَة فَإِنَّهَا قربَة بِوَاسِطَة
الْبَيْت الَّذِي لَيْسَ من أهل الِاسْتِحْقَاق بِذَاتِهِ
وَهَذَا قربَة بِوَاسِطَة الْفَقِير الَّذِي هُوَ من أهل أَن
يكون مُسْتَحقّا بِنَفسِهِ لِحَاجَتِهِ
ثمَّ الصَّوْم الَّذِي هُوَ من جنس الْمَشْرُوع شكرا لنعمة
الْبدن وَلكنه دون الصَّلَاة من حَيْثُ إِنَّه لَا يشْتَمل على
أَعمال مُتَفَرِّقَة على أَعْضَاء الْبدن بل يتَأَدَّى بِرُكْن
وَاحِد وَهُوَ الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشهوتين شَهْوَة الْبَطن
وشهوة الْفرج فَإِنَّمَا صَارَت قربَة بِوَاسِطَة النَّفس
المحتاجة إِلَى نيل اللَّذَّات والشهوات فَهِيَ أَمارَة بالسوء
كَمَا وصفهَا الله تَعَالَى بِهِ فَفِي قهرها بالكف عَن
اقْتِضَاء شهواتها لابتغاء مرضاة الله تَعَالَى معنى الْقرْبَة
وبالتأمل فِي هَذِه الْوَسِيلَة يتَبَيَّن أَنه دون مَا سبق
ثمَّ الْحَج الَّذِي هُوَ زِيَارَة الْبَيْت الْمُعظم وَعبادَة
بطرِيق الْهِجْرَة يشْتَمل على أَرْكَان تخْتَص بأوقات وأمكنة
وفيهَا معنى الْقرْبَة بِاعْتِبَار معنى التَّعْظِيم لتِلْك
الْأَوْقَات والأمكنة
فَأَما الْعمرَة فَإِنَّهَا سنة قَوِيَّة بِاعْتِبَار أَن
أَرْكَانهَا من جنس أَرْكَان الْحَج وَمَا بَينا من
الْوَسِيلَة لَا يُوجب عددا من الْقرْبَة وَلِهَذَا لَا
تَتَكَرَّر فَرضِيَّة
(2/291)
الْحَج فِي الْعُمر فَعرفنَا أَن الْعمرَة
زِيَارَة وَهِي سنة قَوِيَّة فعلهَا رَسُول الله عَلَيْهِ
السَّلَام وَأمر بهَا
وَالْجهَاد قربَة بِاعْتِبَار إعلاء كلمة الله وإعزاز الدّين
وَلما فِيهِ من توهين الْمُشْركين وَدفع شرهم عَن الْمُسلمين
وَلِهَذَا سَمَّاهُ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام سَنَام
الدّين
وَكَانَ أَصله فرضا لِأَن إعزاز الدّين فرض وَلكنه فرض
كِفَايَة لِأَن الْمَقْصُود وَهُوَ كسر شَوْكَة الْمُشْركين
وَدفع شرهم وفتنتهم يحصل بِبَعْض الْمُسلمين فَإِذا قَامَ بِهِ
الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ
وَالِاعْتِكَاف قربَة زَائِدَة لما فِيهَا من تَعْظِيم
الْمَكَان الْمُعظم بالْمقَام فِيهِ وَهُوَ الْمَسْجِد وَلما
فِي شَرطهَا من منع النَّفس عَن اقْتِضَاء الشَّهَوَات يَعْنِي
الصَّوْم
وَالْمَقْصُود بهَا تَكْثِير الصَّلَاة إِمَّا حَقِيقَة أَو
حكما بانتظار الصَّلَاة فِي مَكَانهَا على صفة الاستعداد لَهَا
بِالطَّهَارَةِ
وَأما صَدَقَة الْفطر فَهِيَ عبَادَة فِيهَا معنى المئونة
وَلِهَذَا لَا تتأدى بِدُونِ نِيَّة الْعِبَادَة بِحَال وَلَا
تجب إِلَّا على الْمَالِك لما يُؤَدِّي بِهِ حَقِيقَة
بِمَنْزِلَة الزَّكَاة وَلَكِن لَا يشْتَرط لوُجُوبهَا صفة
كَمَال الْملك وَالْولَايَة حَتَّى تجب على الصَّبِي فِي مَاله
بِخِلَاف الزَّكَاة وَتجب على الْغَيْر بِسَبَب الْغَيْر
فَعرفنَا أَن فِيهَا معنى المئونة كَالنَّفَقَةِ
وَأما الْعشْر فَهُوَ مئونة فِيهِ معنى الْعِبَادَة
وَالْخَرَاج مئونة فِيهِ معنى الْعقُوبَة من حَيْثُ إِن وجوب
كل وَاحِد مِنْهُمَا بِاعْتِبَار حفظ الْأَرَاضِي وإنزالها
إِلَّا أَن فِي الْخراج معنى الذل على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين رأى آلَة
الزِّرَاعَة فِي دَار قوم فَقَالَ مَا دخل هَذَا فِي دَار قوم
إِلَّا ذلوا وَكَأن ذَلِك لما فِي الِاشْتِغَال بالزراعة من
الْإِعْرَاض عَن الْجِهَاد وَإِنَّمَا يلْتَزم الْخراج من
يشْتَغل بِعَمَل الزِّرَاعَة وَلِهَذَا لَا يبتدأ الْمُسلم
بالخراج فِي أرضه وَيبقى عَلَيْهِ الْخراج بعد إِسْلَامه
لِأَنَّهُ يتَرَدَّد بَين المئونة والعقوبة فَلَا يُمكن
إِيجَابه على الْمُسلم ابْتِدَاء لِمَعْنى المئونة لمعارضة
معنى الْعقُوبَة إِيَّاه وَلَا يُمكن إِسْقَاطه
(2/292)
بعد الْوُجُوب إِذا أسلم بِاعْتِبَار معنى
الْعقُوبَة لمعارضة معنى المئونة إِيَّاه
وَأما الْعشْر فَفِيهِ معنى الْعِبَادَة على معنى أَنه
مَصْرُوف إِلَى الْفَقِير كَالزَّكَاةِ وَقد بَينا أَن
بِوَاسِطَة هَذَا المصروف يثبت فِيهِ معنى الْقرْبَة وَإِن
كَانَ وُجُوبه بِاعْتِبَار مئونة الأَرْض وَلِهَذَا يجب فِي
الْأَرَاضِي النامية من غير اشْتِرَاط الْمَالِك لَهَا نَحْو
الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَة وَأَرْض الْمكَاتب وَلِهَذَا قَالَ
أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ إِذا تحولت الأَرْض العشرية
إِلَى ملك الذِّمِّيّ تصير خَرَاجِيَّة لِأَن فِيهَا معنى
الْعِبَادَة وَالْكَافِر لَيْسَ من أهل الْعِبَادَة أصلا وكل
وَاحِد مِنْهُمَا وَاجِب بطرِيق المئونة فَعِنْدَ تعذر
أَحدهمَا يتَعَيَّن الآخر وَالْخَرَاج يبْقى وَظِيفَة الأَرْض
بعد انْتِقَال الْملك فِيهَا إِلَى الْمُسلم لِأَن الْمُسلم من
أهل أَن توجب عَلَيْهِ المئونة الَّتِي فِيهَا معنى الْعقُوبَة
فَإِنَّهُ بعد الْإِسْلَام أهل لإلزام الْعقُوبَة عِنْد تقرر
سَببهَا مِنْهُ وَالْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل الْعِبَادَة أصلا
فالأهلية لِلْعِبَادَةِ تبتنى على الْأَهْلِيَّة لثوابها
وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله يتضاعف الْعشْر على
الْكَافِر اعْتِبَارا بالصدقات المضاعفة فِي حق بني تغلب
وأبى هَذَا أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لِأَن التَّضْعِيف حكم
ثَابت بِخِلَاف الْقيَاس بِإِجْمَاع الصَّحَابَة فِي قوم
بأعيانهم وَغَيرهم من الْكفَّار لَيْسُوا بمنزلتهم فَأُولَئِك
لَا تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة وَغَيرهم من الْكفَّار تُؤْخَذ
مِنْهُم الْجِزْيَة
وَمُحَمّد رَحمَه الله يَقُول تبقى عشرِيَّة كَمَا كَانَت
لِأَن الْبَقَاء بِاعْتِبَار معنى المئونة كالخراج فِي حق
الْمُسلم
ثمَّ عَنهُ رِوَايَتَانِ فِي مصرف هَذَا الْعشْر فِي
إِحْدَاهمَا يصرف إِلَى الْمُقَاتلَة كالخراج لاعْتِبَار معنى
المئونة الْخَالِصَة (وَفِي الْأُخْرَى تكون مصروفة إِلَى
الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين لِأَنَّهَا لما بقيت بِاعْتِبَار
معنى المئونة تبقى) على مَا كَانَت مصروفة إِلَى من كَانَت
مصروفة إِلَيْهِ قبل هَذَا كالخراج فِي حق الْمُسلم
وَأما الْحق الْقَائِم بِنَفسِهِ فنحو خمس الْغَنَائِم
والمعادن والركاز فَإِنَّهُ لَا يكون وَاجِبا ابْتِدَاء على
أحد وَلَكِن بِاعْتِبَار الأَصْل الْغَنِيمَة كلهَا لله
تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل الْأَنْفَال لله} وَهَذَا
لِأَنَّهَا أُصِيبَت لإعلاء كلمة الله تَعَالَى إِلَّا أَن
الله تَعَالَى جعل أَرْبَعَة أخماسها للغانمين على سَبِيل
الْمِنَّة عَلَيْهِم فَبَقيَ الْخمس لَهُ كَمَا
(2/293)
كَانَ فِي الأَصْل مصروفا إِلَى من أَمر
بِالصرْفِ إِلَيْهِ
وَكَذَلِكَ خمس الْمَعَادِن فَإِن الْمَوْجُود مَا كَانَ لأحد
فِيهِ حق فَجعل الشَّرْع أَرْبَعَة أخماسه للواجد وَبَقِي
الْخمس لله مصروفا إِلَى من أَمر بِالصرْفِ إِلَيْهِ وَلِهَذَا
جَازَ وضع خمس الْغَنِيمَة فِيمَن هُوَ من جملَة الْغَانِمين
عِنْد حَاجتهم وَفِي آبَائِهِم وَأَوْلَادهمْ وَجَاز وضع خمس
الْمَعْدن فِي الْوَاجِد عِنْد الْحَاجة فَعرفنَا أَنه لَيْسَ
بِوَاجِب عَلَيْهِ بل هُوَ حق الله تَعَالَى قَائِم كَمَا
كَانَ وَلِهَذَا جَازَ صرفه إِلَى بني هَاشم لِأَن بِاعْتِبَار
هَذَا الْمَعْنى لَا يتَمَكَّن فِيهِ معنى الأوساخ بِخِلَاف
الصَّدقَات وَأمر الله بِصَرْف الْبَعْض مِنْهُ إِلَى ذَوي
الْقُرْبَى وَكَانَ ذَلِك عندنَا بِاعْتِبَار النُّصْرَة
الْمَخْصُوصَة الَّتِي تحققت مِنْهُم بالانضمام إِلَى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال مَا هجره النَّاس
وَدخُول الشّعب مَعَه لمؤانسته وَالْقِيَام بنصرته فَإِن ذَلِك
كَانَ فعلا من جنس الْقرْبَة فَيجوز أَن يتَعَلَّق بِهِ
اسْتِحْقَاق مَا هُوَ صلَة ومنة من الله تَعَالَى كاستحقاق
أَرْبَعَة الْأَخْمَاس فَأَما الْقَرَابَة خلقَة لَا تسْتَحقّ
بذاتها مَال الله تَعَالَى ثمَّ صِيَانة قرَابَة رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اسْتِحْقَاق عوض مَالِي بمقابلتها
أولى من إِثْبَات الِاسْتِحْقَاق بِسَبَب الْقَرَابَة
وَلَا يجوز جعل الْقَرَابَة قرينَة للنصرة أَو النُّصْرَة
قرينَة لِلْقَرَابَةِ لما بَينا أَن التَّرْجِيح إِنَّمَا يكون
بِمَا لَا يصلح عِلّة بانفرادها للاستحقاق دون مَا يصلح لذَلِك
وعَلى هَذَا الأَصْل اسْتِحْقَاق الْمُصَاب من الْغَنِيمَة
وَتَمَامه يكون بالإحراز بِالدَّار بعد الْأَخْذ
والمسائل على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها إِذا تَأَمَّلت
وَذَلِكَ مَعْلُوم فِيمَا أملينا من فروع الْفِقْه
فَأَما الْعُقُوبَات الْمَحْضَة فَهِيَ الْحُدُود الَّتِي شرعت
زواجر عَن ارْتِكَاب أَسبَابهَا المحصورة حَقًا لله تَعَالَى
خَالِصا نَحْو حد الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر
أما الْعقُوبَة القاصرة فنحو حرمَان الْمِيرَاث بِسَبَب
مُبَاشرَة الْقَتْل الْمَحْظُور فَإِنَّهَا عُقُوبَة وَلكنهَا
قَاصِرَة حَتَّى تثبت فِي حق الخاطىء والنائم إِذا انْقَلب
(2/294)
على مُوَرِثه وَلَا تثبت فِي حق الصَّبِي
وَالْمَجْنُون عندنَا أصلا لِأَنَّهَا عُقُوبَة والأهلية
للعقوبة لَا تسبق الْخطاب بِخِلَاف الخاطىء إِذا كَانَ بَالغا
عَاقِلا فالبالغ الْعَاقِل مُخَاطب وَلكنه بِسَبَب الْخَطَأ
يعْذر مَعَ نوع تَقْصِير مِنْهُ فِي التَّحَرُّز وَالصَّبِيّ
لَا يُوصف بالتقصير الْكَامِل والناقص فَلَا يثبت فِي حَقه مَا
يكون عُقُوبَة قَاصِرَة كَانَت أَو كَامِلَة وَلِهَذَا لَا
تثبت فِي حق الْقَائِد والسائق وَالشَّاهِد إِذا رَجَعَ عَن
شَهَادَته وحافر الْبِئْر وَوَاضِع الْحجر لِأَنَّهُ جَزَاء
على مُبَاشرَة الْقَتْل الْمَحْظُور وَالْمَوْجُود من
هَؤُلَاءِ تسبب لَا مُبَاشرَة
وَعند الشَّافِعِي هَذَا ضَمَان يتَعَلَّق بِهَذَا الْفِعْل
بِمَنْزِلَة الدِّيَة فَيثبت فِي حق الْمُسَبّب والمباشر
جَمِيعًا وَفِي حق الصَّبِي والبالغ وَهَذَا غلط بَين لِأَن
الضَّمَان مَا يجب جبرانا لحق الْمُتْلف عَلَيْهِ وَيسْقط
بِاعْتِبَار رِضَاهُ أَو عَفْو من يقوم مقَامه وحرمان
الْمِيرَاث لَيْسَ من ذَلِك فِي شَيْء
فَأَما الدائر بَين الْعِبَادَة والعقوبة كالكفارات لِأَنَّهَا
مَا وَجَبت إِلَّا جَزَاء على أَسبَاب تُوجد من الْعباد فسميت
كَفَّارَة بِاعْتِبَار أَنَّهَا ستارة للذنب فَمن هَذَا
الْوَجْه عُقُوبَة فَإِن الْعقُوبَة هِيَ الَّتِي تجب جَزَاء
على ارْتِكَاب الْمَحْظُور الَّذِي يسْتَحق المأثم بِهِ وَهِي
عبَادَة من حَيْثُ إِنَّهَا تجب بطرِيق الْفَتْوَى وَيُؤمر من
عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ بِنَفسِهِ من غير أَن تُقَام عَلَيْهِ
كرها وَالشَّرْع مَا فوض إِقَامَة شَيْء من الْعُقُوبَات إِلَى
الْمَرْء على نَفسه وتتأدى بِمَا هُوَ مَحْض الْعِبَادَة
فَعرفنَا أَنَّهَا دَائِرَة بَين الْعِبَادَة والعقوبة وَأَن
سَببهَا دائر بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة كاليمين المعقودة
على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل وَالْقَتْل بِصفة الْخَطَأ
وَلِهَذَا لم نجْعَل الْغمُوس والعمد الْمَحْض سَببا لوُجُوب
الْكَفَّارَة
وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله هَذِه الْكَفَّارَات وُجُوبهَا
بطرِيق الضَّمَان وَقد بَينا أَن هَذَا غلط وَوُجُوب الضَّمَان
فِي الأَصْل بطرِيق الْجبرَان وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِيمَا
يخلص لله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى يتعالى عَن أَن يلْحقهُ
خسران حَتَّى تتَحَقَّق الْحَاجة إِلَى الْجبرَان وَكَانَ معنى
الْعِبَادَة فِي هَذِه الْكَفَّارَات مرجحا على معنى
الْعقُوبَة كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ وتكفير الْإِثْم بِهِ
بِاعْتِبَار أَنه طَاعَة وَحسن فِي نَفسه قَالَ تَعَالَى {إِن
الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات}
(2/295)
وَلِهَذَا أَوجَبْنَا الْكَفَّارَة على
المخطىء وَالْمكْره والبار فِي الْيَمين والحنث جَمِيعًا بِأَن
حلف لَا يكلم هَذَا الْكَافِر فَيسلم ثمَّ يكلمهُ وَلِهَذَا لم
نوجب شَيْئا من هَذِه الْكَفَّارَات على الْكَافِر
فَأَما كَفَّارَة الْفطر فِي رَمَضَان فَمَعْنَى الْعقُوبَة
فِيهَا مُرَجّح على معنى الْعِبَادَة حَتَّى إِن وُجُوبهَا
يَسْتَدْعِي جِنَايَة متكاملة عرفنَا ذَلِك بِخَبَر
الْأَعرَابِي حَيْثُ قَالَ هَلَكت وأهلكت
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من أفطر فِي رَمَضَان مُتَعَمدا
فَعَلَيهِ مَا على الْمظَاهر فاتفق الْعلمَاء على أَنه يسْقط
بِعُذْر الْخَطَأ والاشتباه فَلَمَّا ظهر رُجْحَان معنى
الْعقُوبَة فِيهَا من هَذَا الْوَجْه جعلنَا وُجُوبهَا بطرِيق
الْعقُوبَة فَقُلْنَا إِنَّهَا تندرىء بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى
لَا تجب على من أفطر بعد مَا أبْصر هِلَال رَمَضَان وَحده
للشُّبْهَة الثَّابِتَة بِظَاهِر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
صومكم يَوْم تصومون أَو بِصُورَة قَضَاء القَاضِي يكون
(الْيَوْم) من شعْبَان وَلم يُوجب على الْمُفطر فِي يَوْم إِذا
اعْترض مرض أَو حيض فِي ذَلِك الْيَوْم لتمكن الشُّبْهَة وَلم
يُوجب على من أفطر وَهُوَ مُسَافر وَإِن كَانَ الْأَدَاء
مُسْتَحقّا عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت بِعَيْنِه بِكَوْنِهِ
مُقيما فِي أول النَّهَار وَلم يُوجب على من نوى قبل انتصاف
النَّهَار ثمَّ أفطر للشُّبْهَة الثَّابِتَة بِظَاهِر قَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام لَا صِيَام لمن لم يعزم الصّيام من
اللَّيْل وَقُلْنَا بالتداخل فِي الْكَفَّارَات والاكتفاء
بكفارة وَاحِدَة إِذا أفطر فِي أَيَّام من رَمَضَان لِأَن
التَّدَاخُل من بَاب الْإِسْقَاط بطرِيق الشُّبْهَة وأثبتنا
معنى الْعِبَادَة فِي الِاسْتِيفَاء لِأَنَّهَا سميت كَفَّارَة
فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون الْوُجُوب بطرِيق الْعقُوبَة
والاستيفاء بطرِيق الطهرة كالحدود بعد التَّوْبَة وَلَا يجوز
أَن يكون الْوُجُوب بطرِيق الْعِبَادَة والاستيفاء بطرِيق
الْعقُوبَة بِحَال
وَمَا يجْتَمع فِيهِ الحقان وَحقّ الله فِيهِ أغلب فنحو حد
الْقَذْف عندنَا
فَأَما حد قطاع الطَّرِيق فَهُوَ خَالص لله تَعَالَى
بِمَنْزِلَة الْعُقُوبَات الْمَحْضَة وَلِهَذَا لَا نوجب على
الْمُسْتَأْمن إِذا ارْتكب سَيِّئَة فِي دَارنَا بِمَنْزِلَة
حد الزِّنَا وَالسَّرِقَة بِخِلَاف حد الْقَذْف وَأما مَا
يجْتَمع فِيهِ الحقان وَحقّ الْعباد أغلب فنحو الْقصاص فَإِن
فِيهَا حق الله تَعَالَى وَلِهَذَا يسْقط بِالشُّبُهَاتِ وَهِي
جَزَاء الْفِعْل فِي الأَصْل وأجزية الْأَفْعَال تجب لحق الله
تَعَالَى وَلَكِن لما كَانَ وُجُوبهَا بطرِيق الْمُمَاثلَة
عرفنَا أَن معنى حق العَبْد رَاجِح فِيهَا وَأَن وُجُوبهَا
للجيران بِحَسب الْإِمْكَان كَمَا وَقعت الْإِشَارَة إِلَيْهِ
فِي قَوْله تَعَالَى {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} وَلِهَذَا جرى
فِيهِ
(2/296)
الْإِرْث وَالْعَفو والاعتياض بطرِيق
الصُّلْح بِالْمَالِ كَمَا فِي حُقُوق الْعباد
وَأما مَا يكون مَحْض حق الْعباد فَهُوَ أَكثر من أَن يُحْصى
نَحْو ضَمَان الدِّيَة وَبدل الْمُتْلف وَالْمَغْصُوب وَمَا
أشبه ذَلِك
وَهَذِه الْحُقُوق كلهَا تشْتَمل على أصل وَخلف
فَالْأَصْل فِيمَا ثَبت بِهِ الْإِيمَان التَّصْدِيق
وَالْإِقْرَار ثمَّ قد يكون الْإِقْرَار مُسْتَندا فِي حق
الْمُكْره على أَنه قَائِم مقَام التَّصْدِيق ثمَّ التَّصْدِيق
وَالْإِقْرَار من الْأَبَوَيْنِ يثبت الْإِيمَان فِي حق
الْوَلَد الصَّغِير على أَنه خلف عَن التَّصْدِيق
وَالْإِقْرَار فِي حَقه ثمَّ تَبَعِيَّة الدَّار فِي حق
الَّذِي سبى صَغِيرا وَأخرج إِلَى دَار الْإِسْلَام وَحده حلف
عَن تَبَعِيَّة الْأَبَوَيْنِ فِي ثُبُوت حكم الْإِيمَان لَهُ
ثمَّ تَبَعِيَّة السابي إِذا قسم أَو بيع من مُسلم فِي دَار
الْحَرْب خلف عَن تَبَعِيَّة الدَّار فِي ثُبُوت حكم
الْإِيمَان لَهُ حَتَّى إِذا مَاتَ يصلى عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ فِي شَرَائِط الصَّلَاة فَإِن من شرائطها
الطَّهَارَة وَالْأَصْل فِيهِ الْوضُوء أَو الِاغْتِسَال ثمَّ
التَّيَمُّم يكون خلفا عَن الأَصْل فِي حُصُول الطَّهَارَة
الَّتِي هِيَ شَرط الصَّلَاة بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى
{وَلَكِن يُرِيد ليطهركم} وَهُوَ خلف مُطلق فِي قَول
عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله
وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله هُوَ خلف ضَرُورِيّ وَلِهَذَا
لم يعْتَبر التَّيَمُّم قبل دُخُول الْوَقْت فِي حق أَدَاء
الْفَرِيضَة وَلم يجوز أَدَاء الفريضتين بِتَيَمُّم وَاحِد
لِأَنَّهُ خلف ضَرُورِيّ فَيشْتَرط فِيهِ تحقق الضَّرُورَة
بِالْحَاجةِ إِلَى إِسْقَاط الْفَرْض عَن ذمَّته وَبِاعْتِبَار
كل فَرِيضَة تتجدد ضَرُورَة أُخْرَى وَلم يجوز التَّيَمُّم
للْمَرِيض الَّذِي لَا يخَاف الْهَلَاك على نَفسه لِأَن تحقق
الضَّرُورَة عِنْد خوف الْهَلَاك على نَفسه وَجوز التَّحَرِّي
فِي إناءين أَحدهمَا طَاهِر
(2/297)
وَالْآخر نجس لِأَن الضَّرُورَة لَا
تتَحَقَّق مَعَ وجود المَاء الطَّاهِر عِنْده وَمَعَ رَجَاء
الْوُصُول إِلَيْهِ بِالتَّحَرِّي فَلَا تكون فَرضِيَّة
التَّيَمُّم وَشرط طلب المَاء لِأَن الضَّرُورَة قبل الطّلب
لَا تتَحَقَّق
وَعِنْدنَا هُوَ بدل مُطلق فِي حَال الْعَجز عَن الأَصْل
فَثَبت الحكم بِهِ على الْوَجْه الَّذِي يثبت بِالْأَصْلِ مَا
بَقِي عَجزه
ثمَّ على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رَحْمَة الله
عَلَيْهِمَا التُّرَاب خلف عَن المَاء
وَعند مُحَمَّد رَحمَه الله التَّيَمُّم خلف عَن الْوضُوء
وَتظهر الْمَسْأَلَة فِي الْمُتَيَمم عِنْد مُحَمَّد لَا يؤم
المتوضئين لِأَن التَّيَمُّم خلف فَكَانَ الْمُتَيَمم صَاحب
الْخلف وَلَيْسَ لصَاحب الأَصْل الْقوي أَن يَبْنِي صلَاته على
صَلَاة صَاحب الْخلف كَمَا لَا يَبْنِي الْمُصَلِّي بركوع
وَسُجُود صلَاته على صَلَاة المومي
وَعِنْدَهُمَا التُّرَاب كَانَ خلفا عَن المَاء فِي حُصُول
الطَّهَارَة بِهِ ثمَّ بعد حُصُول الطَّهَارَة كَانَ شَرط
الصَّلَاة مَوْجُودا فِي حق كل وَاحِد مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ
بِمَنْزِلَة الماسح يؤم الغاسلين لهَذَا الْمَعْنى وَقد يكون
التَّيَمُّم خلفا ضَرُورَة فِي حَال وجود المَاء وَهُوَ أَن
يخَاف فَوَات صَلَاة الْجِنَازَة أَن لَو اشْتغل بِالْوضُوءِ
أَو يخَاف فَوَات صَلَاة الْعِيد أَن لَو اشْتغل بِالْوضُوءِ
ثمَّ الْخلَافَة هُنَا عِنْد مُحَمَّد بَين التَّيَمُّم
وَالْوُضُوء بطرِيق الضَّرُورَة حَتَّى لَو صلى عَلَيْهَا
بِالتَّيَمُّمِ ثمَّ جِيءَ بِجنَازَة أُخْرَى يلْزمه تيَمّم
آخر وَإِن لم يجد بَين الجنازتين من الْوَقْت مَا يُمكنهُ أَن
يتَوَضَّأ فِيهِ
وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله التُّرَاب خلف عَن
المَاء فَيجوز لَهُ أَن يُصَلِّي على الْجَنَائِز مَا لم يدْرك
من الْوَقْت مِقْدَار مَا يُمكنهُ أَن يتَوَضَّأ فِيهِ على
وَجه لَا تفوته الصَّلَاة على جَنَازَة
وَهَذَا الَّذِي بَينا يَتَأَتَّى فِي كل حق مِمَّا سبق ذكره
إِلَّا أَن بِبَيَان ذَلِك يطول الْكتاب وَالْحَاجة إِلَى
معرفَة الأَصْل هُنَا وَهُوَ أَن الْخلف يجب بِمَا بِهِ يجب
الأَصْل وَشرط كَونه خلفا أَن ينْعَقد السَّبَب مُوجبا
للْأَصْل بمصادفته مَحَله ثمَّ بِالْعَجزِ عَنهُ يتَحَوَّل
الحكم إِلَى الْخلف وَإِذا لم ينْعَقد السَّبَب مُوجبا
للْأَصْل بِاعْتِبَار أَنه لم يُصَادف مَحَله لَا يكون مُوجبا
للخلف حَتَّى إِن الْخَارِج من الْبدن إِذا لم يكن مُوجبا
للْوُضُوء كالدمع والبزاق والعرق لَا يكون مُوجبا للتيمم
وَالطَّلَاق قبل الدُّخُول لما لم يكن مُوجبا لما هُوَ الأَصْل
وَهُوَ الِاعْتِدَاد بِالْأَقْرَاءِ لَا يكون مُوجبا لما هُوَ
خلف عَنهُ وَهُوَ الِاعْتِدَاد بِالْأَشْهرِ وَالْيَمِين
الصادقة لما لم تكن مُوجبَة للتكفير بِالْمَالِ لَا تكون
مُوجبَة لما
(2/298)
هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ التَّكْفِير
بِالصَّوْمِ وَالْيَمِين الْغمُوس عندنَا لما لم تَنْعَقِد
مُوجبَة للْأَصْل وَهُوَ الْبر بِاعْتِبَار أَنَّهَا أضيفت
إِلَى مَحل لَيْسَ فِيهِ تصور الْبر لَا تَنْعَقِد مُوجبَة لما
هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْكَفَّارَة وَالْيَمِين على مس
السَّمَاء وَنَحْوه لما انْعَقَدت مُوجبَة للبر لمصادفتها
محلهَا كَانَت مُوجبَة لما هُوَ خلف عَن الْبر وَهُوَ
الْكَفَّارَة وَقد تقدم بَيَان هَذَا فِيمَن أسلم فِي آخر
الْوَقْت بَعْدَمَا بَقِي مِنْهُ مِقْدَار مَا لَا يُمكنهُ أَن
يُصَلِّي فِيهِ فَإِن الْجُزْء الآخر من الْوَقْت لما صلح أَن
يكون مُوجبا لأَدَاء الصَّلَاة صلح مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ
وَهُوَ الْقَضَاء
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا
الله إِذا جَاءَ الْمَشْهُود بقتْله حَيا أَو رَجَعَ الشُّهُود
وَالْوَلِيّ جَمِيعًا بعد اسْتِيفَاء الْقصاص فَاخْتَارَ ولي
الْقَتِيل تضمين الشُّهُود فَإِنَّهُم يرجعُونَ على الْوَلِيّ
بِمَا يضمنُون لِأَن السَّبَب وَهُوَ الضَّمَان الَّذِي
لَزِمَهُم بطرِيق الْعدوان مُوجب للْملك فِي الْمَضْمُون
والمضمون وَهُوَ الدَّم مِمَّا يحْتَمل أَن يكون مَمْلُوكا فِي
الْجُمْلَة أَلا ترى أَن نفس من عَلَيْهِ الْقصاص فِي حكم
الْقصاص كالمملوك لمن لَهُ الْقصاص فَإِذا انْعَقَد السَّبَب
مُوجبا للْأَصْل لمصادفة مَحَله ينْعَقد مُوجبا للخلف وَهُوَ
الدِّيَة عِنْد الْعَجز عَن إِثْبَات مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ
الْقصاص بِمَنْزِلَة من غصب مُدبرا فغصبه مِنْهُ آخر وأبق من
يَده ثمَّ ضمن الْمولى الْغَاصِب الأول فَإِنَّهُ يرجع على
الْغَاصِب الثَّانِي بِالضَّمَانِ وَإِن لم يملك الْمُدبر
وَلَكِن لما انْعَقَد السَّبَب مُوجبا للْأَصْل بمصادفته
مَحَله يثبت الْخلف قَائِما مقَامه
وَكَذَلِكَ شُهُود الْكِتَابَة بِبَدَل مُؤَجل إِذا رجعُوا
فضمنهم الْمولى قيمَة الْمكَاتب كَانَ لَهُم أَن يرجِعوا على
الْمكَاتب بِبَدَل الْكِتَابَة لِأَن السَّبَب قد تقرر مُوجبا
للْأَصْل وَهُوَ الْملك فِي الْمَضْمُون لمصادفته مَحَله
فَثَبت (بِهِ الْخلف) وَهُوَ الرُّجُوع بِبَدَل الْكِتَابَة
لوُجُود الْعَجز عَمَّا هُوَ الأَصْل وَهُوَ ملك الرَّقَبَة
بِاعْتِبَار قيام الْكِتَابَة
وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول قد وجد من الشُّهُود
التَّعَدِّي بِإِتْلَاف النَّفس حكما وَمن الْوَلِيّ
التَّعَدِّي بِإِتْلَاف النَّفس حَقِيقَة والمساواة ثَابِتَة
بَين الْحكمِي والحقيقي فِي حكم الضَّمَان ثمَّ إِذا اخْتَار
تضمين الْمُتْلف حَقِيقَة
(2/299)
وَهُوَ الْوَلِيّ لم يرجع على الشُّهُود
بِشَيْء لِأَنَّهُ ضمن بِجِنَايَتِهِ من حَيْثُ الْإِتْلَاف
فَكَذَلِك إِذا اخْتَار تضمين الشُّهُود قُلْنَا لَا يرجعُونَ
على الْوَلِيّ لأَنهم ضمنُوا بجنايتهم بِخِلَاف مَا إِذا
شهدُوا بِالْقَتْلِ الْخَطَأ وَأخذ الْوَلِيّ الدِّيَة لِأَن
وجوب الضَّمَان هُنَاكَ بِاعْتِبَار تملك المَال على من ألزمهُ
القَاضِي الدِّيَة فَإِذا ضمن الْوَلِيّ كَانَ هُوَ المتملك
والمملوك سَالم لَهُ وَإِذا ضمن الشُّهُود كَانُوا هم الَّذين
تملكوا والمملوك فِي يَد الْمولى أَو قد صرفه إِلَى حَاجته
فيرجعون عَلَيْهِ بِمَا ملكوه لهَذَا الْمَعْنى
قَوْلهمَا إِن السَّبَب هُنَا انْعَقَد مُوجبا للْأَصْل
مَمْنُوع لِأَن الدَّم لَا يملك بِالضَّمَانِ بِحَال وَفِي
الْقصاص الَّذِي قَالَا الْوَلِيّ لَا يملك نفس من عَلَيْهِ
الْقصاص وَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيه بطرِيق الْإِبَاحَة وَلِهَذَا
لم يكن لَهُ حق الِاسْتِيفَاء فِي الْحرم وَلَا يتَحَوَّل حَقه
إِلَى الْبَدَل إِذا قتل من عَلَيْهِ الْقصاص ظلما وَإِذا لم
يكن محلا للْملك عرفنَا أَن السَّبَب مَا انْعَقَد مُوجبا
للْأَصْل وَلَو كَانَ الدَّم بِمحل أَن يملك لم يكن إِيجَاب
الضَّمَان للشُّهُود على الْوَلِيّ أَيْضا لِأَنَّهُ صَار
متلفا عَلَيْهِم ملك الدَّم وَإِتْلَاف ملك الدَّم لَا يُوجب
الضَّمَان سَوَاء أتْلفه حَقِيقَة أَو حكما أَلا ترى أَن من
قتل من عَلَيْهِ الْقصاص فَإِنَّهُ لَا يضمن لمن لَهُ الْقصاص
شَيْئا
وَكَذَلِكَ شُهُود الْعَفو إِذا رجعُوا أَو الْمُكْره على
الْعَفو لَا يضمن أحد مِنْهُم شَيْئا وَإِن أتلف ملك الدَّم
الثَّابِت لمن لَهُ الْقصاص وَبِه فَارق الْمُدبر وَالْمكَاتب
لِأَن هُنَاكَ مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ ملك الرَّقَبَة فِي
الْموضع الَّذِي يكون ثَابتا يكون مُوجبا ضَمَان خَلفه عِنْد
الْإِتْلَاف فَكَذَلِك إِذا انْعَقَد السَّبَب مُوجبا للْأَصْل
ثمَّ لم يعْمل لعَارض وَهُوَ التَّدْبِير وَالْكِتَابَة
قُلْنَا يكون مُوجبا لما هُوَ خَلفه وَهُوَ الْقيمَة وَبدل
الْكِتَابَة فَيرجع بهما
(2/300)
|