أصول السرخسي فصل فِي بَيَان الْكَلَام فِي الْقسم
الثَّانِي وَهُوَ السَّبَب
أما الْكَلَام فِي الْقسم الثَّانِي فَنَقُول تَفْسِير
السَّبَب لُغَة الطَّرِيق إِلَى الشَّيْء قَالَ تَعَالَى
{وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء سَببا فأتبع سَببا} أَي طَرِيقا
وَقيل هُوَ بِمَعْنى الْبَاب قَالَ تَعَالَى {لعَلي أبلغ
الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات} أَي أَبْوَابهَا وَمِنْه
قَول زُهَيْر وَلَو نَالَ أَسبَاب السَّمَاء بسلم أَي
أَبْوَابهَا
وَقيل هُوَ بِمَعْنى الْحَبل قَالَ تَعَالَى {فليمدد بِسَبَب
إِلَى السَّمَاء} الْآيَة يَعْنِي بِحَبل من سقف الْبَيْت
فَالْكل يرجع إِلَى معنى (وَاحِد) وَهُوَ طَرِيق الْوُصُول
إِلَى الشَّيْء
وَفِي الْأَحْكَام السَّبَب عبارَة عَمَّا يكون طَرِيقا للوصول
إِلَى الحكم الْمَطْلُوب من غير أَن يكون الْوُصُول بِهِ
وَلكنه طَرِيق الْوُصُول إِلَيْهِ بِمَنْزِلَة طَرِيق
الْوُصُول إِلَى مَكَّة فَإِن الْوُصُول إِلَيْهَا يكون بمشي
الْمَاشِي وَفِي ذَلِك الطَّرِيق لَا بِالطَّرِيقِ وَلَكِن
يتَوَصَّل إِلَيْهَا من ذَلِك الطَّرِيق عِنْد قصد الْوُصُول
إِلَيْهَا
وَكَذَلِكَ الْحَبل فَإِنَّهُ طَرِيق للوصول إِلَى قَعْر
الْبِئْر أَو إِلَى المَاء الَّذِي فِي الْبِئْر وَلَكِن لَا
بالحبل بل بنزول النَّازِل أَو استقاء النازح بالحبل
وَأما تَفْسِير الْعلَّة فَهِيَ الْمُغيرَة بحلولها حكم
الْحَال وَمِنْه سمي الْمَرَض عِلّة لِأَن بحلولها بالشخص
يتَغَيَّر حَاله وَمِنْه يُسمى الْجرْح عِلّة لِأَن بحلوله
بالمجروح يتَغَيَّر حكم الْحَال
وَقيل الْعلَّة حَادث يظْهر أَثَره فِيمَا حل بِهِ لَا عَن
اختبار مِنْهُ وَلِهَذَا سمي الْجرْح عِلّة وَلَا يُسمى
الْجَارِح عِلّة لِأَنَّهُ يفعل عَن اخْتِيَار وَلِأَنَّهُ غير
حَال بالمجروح
وَفِي أَحْكَام الشَّرْع الْعلَّة معنى فِي النُّصُوص وَهُوَ
تغير حكم الْحَال بحلوله بِالْمحل يُوقف عَلَيْهِ بالاستنباط
فَإِن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ
مثلا بِمثل غير حَال بِالْحِنْطَةِ وَلَكِن فِي الْحِنْطَة وصف
هُوَ حَال بهَا وَهُوَ كَونه مَكِيلًا مؤثرا فِي الْمُمَاثلَة
ويتغير حكم الْحَال بحلوله فَيكون عِلّة لحكم الرِّبَا فِيهِ
حَتَّى إِنَّه لما لم يحل
(2/301)
الْقَلِيل الَّذِي لَا يدْخل تَحت الْكَيْل
لَا يتَغَيَّر حكم العقد فِيهِ بل يبْقى بعد هَذَا النَّص على
مَا كَانَ عَلَيْهِ قبله
وَكَذَلِكَ البيع عِلّة للْملك شرعا وَالنِّكَاح عِلّة للْحلّ
شرعا وَالْقَتْل الْعمد عِلّة لوُجُوب الْقصاص شرعا
بِاعْتِبَار أَن الشَّرْع جعلهَا مُوجبَة لهَذِهِ الْأَحْكَام
وَقد بَينا أَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَا تكون مُوجبَة
بذواتها وَأَنه لَا مُوجب إِلَّا الله إِلَّا أَن ذَلِك
الْإِيجَاب غيب فِي حَقنا فَجعل الشَّرْع الْأَسْبَاب الَّتِي
يمكننا الْوُقُوف عَلَيْهَا عِلّة لوُجُوب الحكم فِي حَقنا
للتيسير علينا فَأَما فِي حق الشَّرْع فَهَذِهِ الْعِلَل لَا
تكون مُوجبَة شَيْئا وَهُوَ نَظِير الإماتة فَإِن المميت
والمحيي هُوَ الله تَعَالَى حَقِيقَة ثمَّ جعله مُضَافا إِلَى
الْقَاتِل بعلة الْقَتْل فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ من
الْأَحْكَام
وَكَذَلِكَ أجزية الْأَعْمَال فَإِن الْمُعْطِي للجزاء هُوَ
الله تَعَالَى بفضله ثمَّ جعل ذَلِك مُضَافا إِلَى عمل
الْعَامِل بقوله تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ}
فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب المرضي التَّوَسُّط بَين
الطَّرِيقَيْنِ لَا كَمَا ذهب إِلَيْهِ الجبرية من إِلْغَاء
الْعَمَل أصلا وَلَا كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْقَدَرِيَّة من
الْإِضَافَة إِلَى الْعَمَل حَقِيقَة وَجعل (الْعَامِل) مستبدا
بِعَمَلِهِ
ثمَّ هَذِه الْعِلَل الشَّرْعِيَّة تسمى نظرا وَتسَمى قِيَاسا
وَتسَمى دَلِيلا أَيْضا على معنى أَنه يُوقف بِهِ على معرفَة
الحكم وَالدَّلِيل على الشَّيْء مَا يُوقف بِهِ على مَعْرفَته
كالدخان دَلِيل على النَّار وَالْبناء دَلِيل على الْبَانِي
وَلَكِن مَا يكون عِلّة يجوز أَن يُسمى دَلِيلا وَمَا يكون
دَلِيلا مَحْضا لَا يجوز أَن يُسمى عِلّة أَلا ترى أَن حُدُوث
الْأَعْرَاض دَلِيل على حُدُوث الْأَجْسَام وَلَا يجوز أَن
يُقَال إِنَّهَا عِلّة لحدوث الْأَجْسَام والمصنوعات دَلِيل
على الصَّانِع وَلَا يجوز أَن يُقَال إِنَّهَا عِلّة للصانع
تَعَالَى فَعرفنَا أَن الدَّلِيل قطّ لَا يكون عِلّة وَقد تكون
الْعلَّة دَلِيلا
وَأما الشَّرْط فَمَعْنَاه لُغَة الْعَلامَة اللَّازِمَة
وَمِنْه يُقَال أَشْرَاط السَّاعَة
(2/302)
أَي علاماتها اللَّازِمَة لكَون السَّاعَة
آتِيَة لَا محَالة وَمِنْه الشرطي لِأَنَّهُ نصب نَفسه على
زِيّ وهيئة لَا يُفَارِقهُ ذَلِك فِي أغلب أَحْوَاله
فَكَأَنَّهُ لَازم لَهُ وَمِنْه شَرط الْحجام لِأَنَّهُ يحصل
بِفِعْلِهِ فِي مَوضِع المحاجم عَلامَة لَازِمَة وَمِنْه
الشُّرُوط فِي الوثائق لِأَنَّهَا تكون لَازِمَة فَعرفنَا أَن
الشَّرْط فِي اللُّغَة الْعَلامَة اللَّازِمَة وَمِنْه سمى أهل
اللُّغَة حرف إِن حرف الشَّرْط من قَول الْقَائِل لغيره إِن
أكرمتني أكرمتك فَإِن قَوْله أكرمتك بِصِيغَة الْفِعْل
الْمَاضِي وَلَكِن بقوله إِن أكرمتني يصير إكرام الْمُخَاطب
عَلامَة لَازِمَة لإكرام الْمُخَاطب إِيَّاه فَكَانَ شرطا من
هَذَا الْوَجْه
وَفِي أَحْكَام الشَّرْع (الشَّرْط) اسْم لما يُضَاف الحكم
إِلَيْهِ وجودا عِنْده لَا وجوبا بِهِ فَإِن قَول الْقَائِل
لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق يَجْعَل دُخُول
الدَّار شرطا حَتَّى لَا يَقع الطَّلَاق بِهَذَا اللَّفْظ
إِلَّا عِنْد الدُّخُول وَيصير الطَّلَاق عِنْد وجود الدُّخُول
مُضَافا إِلَى الدُّخُول مَوْجُودا عِنْده لَا وَاجِبا بِهِ بل
الْوُقُوع بقوله أَنْت طَالِق عِنْد الدُّخُول وَمن حَيْثُ
إِنَّه لَا أثر للدخول فِي الطَّلَاق من حَيْثُ الثُّبُوت بِهِ
وَلَا من حَيْثُ الْوُصُول إِلَيْهِ لم يكن الدُّخُول سَببا
وَلَا عِلّة وَمن حَيْثُ إِنَّه مُضَاف إِلَيْهِ وجودا عِنْده
كَانَ الدُّخُول شرطا فِيهِ وَلِهَذَا لَا نوجب الضَّمَان على
شُهُود الشَّرْط بِحَال وَإِنَّمَا نوجب الضَّمَان على شُهُود
التَّعْلِيق بعد وجود الشَّرْط إِذا رجعُوا
وَقد يُقَام الشَّرْط مقَام السَّبَب فِي حكم الضَّمَان عِنْد
تعذر إِضَافَة الْإِتْلَاف إِلَى السَّبَب نَحْو حافر الْبِئْر
على الطَّرِيق يكون ضَامِنا لما يسْقط فِيهِ وَهُوَ صَاحب
الشَّرْط من حَيْثُ إِنَّه أَزَال بِفِعْلِهِ المسكة عَن
الأَرْض وَهُوَ مَحل يسْتَقرّ فِيهِ الثقيل والمحال فِي حكم
الشُّرُوط وَلَكِن لما تعذر إِضَافَة الْإِتْلَاف إِلَى مَا
هُوَ السَّبَب حَقِيقَة وَهُوَ ثقل الْمَاشِي ومشبه جعل
مُضَافا إِلَى الشَّرْط فِي حكم الضَّمَان حَتَّى لَو دفع
الْوَاقِع فِي الْبِئْر إِنْسَان فَإِن الضَّمَان يكون على
الدَّافِع دون الْحَافِر لِأَن السَّبَب هُنَا صَالح لإضافة
الْإِتْلَاف إِلَيْهِ
وسنقرر هَذَا فِي فصل الشَّرْط إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(2/303)
أما الْعَلامَة لُغَة فَهِيَ الْمُعَرّف
بِمَنْزِلَة الْميل والمنارة والميل عَلامَة الطَّرِيق
لِأَنَّهُ معرف لَهُ والمنارة عَلامَة الْجَامِع لِأَنَّهَا
معرفَة لَهُ وَمِنْه سمي الْمُمَيز بَين الْأَرْضين من المسناة
منار الأَرْض قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لعن الله من غير منار
الأَرْض أَي الْعَلامَة الَّتِي تعرف بهَا لتمييز بَين
الْأَرْضين
وَكَذَلِكَ فِي أَحْكَام الشَّرْع الْعَلامَة مَا يكون مُعَرفا
للْحكم الثَّابِت بعلته من غير أَن يكون الحكم مُضَافا إِلَى
الْعَلامَة وجوبا لَهَا لَا وجودا عِنْدهَا على مَا نبينه فِي
فصل على حِدة إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل فِي بَيَان تَقْسِيم السَّبَب
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن أَسبَاب الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة أَنْوَاع أَرْبَعَة سَبَب صُورَة لَا معنى
وَهُوَ يُسمى سَببا مجَازًا وَسبب صُورَة وَمعنى وَهُوَ يُسمى
سَببا مَحْضا وَسبب فِيهِ شُبْهَة الْعلَّة وَسبب هُوَ
بِمَعْنى الْعلَّة
وَقد بَينا أَن السَّبَب مَا هُوَ طَرِيق الْوُصُول إِلَى
الشَّيْء
فَأَما الَّذِي يُسمى السَّبَب مجَازًا فنحو الْيَمين بِاللَّه
تَعَالَى يُسمى سَببا لِلْكَفَّارَةِ مجَازًا بِاعْتِبَار
الصُّورَة وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَب معنى فَإِن أدنى حد السَّبَب
أَن يكون طَرِيقا للوصول إِلَى الْمَقْصُود وَالْكَفَّارَة
بِالْيَمِينِ إِنَّمَا تجب بعد الْحِنْث وَهِي مَانِعَة من
الْحِنْث مُوجبَة لضده وَهُوَ الْبر فَعرفنَا أَنه لَيْسَ
بِسَبَب لِلْكَفَّارَةِ معنى قبل الْحِنْث وَلَكِن يُسمى سَببا
مجَازًا لِأَنَّهُ طَرِيق الْوُصُول إِلَى وجوب الْكَفَّارَة
بعد زَوَال الْمَانِع وَهُوَ الْبر وَكَذَلِكَ النّذر
الْمُعَلق بِالشّرطِ الَّذِي لَا يُرِيد كَونه سَبَب لوُجُوب
الْمَنْذُور صُورَة لَا معنى لِأَنَّهُ يقْصد بِهِ منع مَا يجب
الْمَنْذُور عِنْد وجوده وَهُوَ إِيجَاد الشَّرْط وَإِنَّمَا
يكون سَببا بعد زَوَال الْمَانِع حَقِيقَة
وَكَذَلِكَ الطَّلَاق وَالْعتاق الْمُعَلق بِالشّرطِ فَإِن
التَّعْلِيق سَبَب صُورَة لَا معنى لِأَنَّهُ بِالتَّعْلِيقِ
يمْنَع نَفسه مِمَّا يَقع الطَّلَاق وَالْعتاق عِنْد وجوده
(2/304)
وعَلى هَذَا قُلْنَا التَّعْلِيق بِالْملكِ
صَحِيح وَإِن لم يكن الْملك مَوْجُودا فِي الْحَال لِأَن
الْمُعَلق لَيْسَ بِطَلَاق وَلَا هُوَ سَبَب الطَّلَاق
حَقِيقَة وَلَكِن يصير سَببا عِنْد وجود الشَّرْط وَهَذَا
لِأَن الطَّلَاق وَالْعتاق لَا يكون بِدُونِ الْمحل
وَالتَّعْلِيق يمْنَع الْوُصُول إِلَى الْمحل
وَكَذَلِكَ النّذر فَإِنَّهُ الْتِزَام فِي الذِّمَّة
وَالتَّعْلِيق يمْنَع وُصُول الْمَنْذُور إِلَى الذِّمَّة
وَالتَّصَرُّف بِدُونِ الْمحل لَا يكون سَببا كَبيع الْحر
إِلَّا أَن هُنَاكَ ينْعَقد تصرف آخر وَهُوَ الْيَمين
لِأَنَّهُ عقد مَشْرُوع لمقصود وَفِي ذَلِك الْمَقْصُود
التَّصَرُّف صَادف مَحَله وَهُوَ ذمَّة الْحَالِف بِخِلَاف بيع
الْحر فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد أصلا وعَلى هَذَا لَا يجوز
التَّكْفِير بعد الْيَمين قبل الْحِنْث بِالْمَالِ وَلَا
بِالصَّوْمِ لِأَنَّهَا لَيست بِسَبَب لِلْكَفَّارَةِ معنى
وَالْأَدَاء قبل تحقق السَّبَب لَا يجوز بِخِلَاف تَعْجِيل
الْكَفَّارَة بعد الْجرْح قبل زهوق الرّوح فِي الْآدَمِيّ
وَالصَّيْد لِأَنَّهُ سَبَب مَحْض من حَيْثُ إِنَّه طَرِيق مفض
إِلَى الْقَتْل عِنْد زهوق الرّوح بِالسّرَايَةِ يُوضحهُ أَن
الْيَمين لَا تبقى بعد الْحِنْث لِأَنَّهَا مَشْرُوعَة لمقصود
وَهُوَ الْبر وَذَلِكَ يفوت بِالْحِنْثِ أصلا وَالْعقد لَا
يبْقى بعد فَوَات مَقْصُوده
وَلما كَانَت الْكَفَّارَة لَا تجب إِلَّا بعد الْحِنْث
الَّذِي يرْتَفع بِهِ الْيَمين عرفنَا أَن الْيَمين لَيست
بِسَبَب لَهَا معنى إِذْ العقد لَا يكون سَببا للْحكم الَّذِي
يثبت (بعد فَسخه
وَكَذَلِكَ الْيَمين بِالطَّلَاق فَإِن الطَّلَاق إِنَّمَا
يكون وَاقعا بِمَا يبْقى بعد وجود الشَّرْط وَهُوَ قَوْله
أَنْت طَالِق وَالنّذر إِنَّمَا يثبت) بِاعْتِبَار مَا يبْقى
بعد وجود الشَّرْط وَهُوَ قَوْله على صَوْم أَو صَلَاة
فَعرفنَا أَن الْمَوْجُود قبل وجود الشَّرْط لَا يكون سَببا
معنى بِخِلَاف كَفَّارَة الْقَتْل فَإِنَّهُ جَزَاء الْفِعْل
وَالْفِعْل بِالسّرَايَةِ يَتَقَرَّر وَلَا يرْتَفع فَكَانَ
قبل السَّرَايَة سَببا وَملك النّصاب قبل كَمَال الْحول
هَكَذَا لِأَنَّهُ يَتَقَرَّر عِنْده مَا لأَجله كَانَ النّصاب
سَببا وَهُوَ معنى النمو إِلَّا أَن مَعَ هَذَا التَّعْلِيق
بِالشّرطِ لكَونه سَببا مجَازًا أثبتنا فِيهِ معنى
السَّبَبِيَّة بِوَجْه بِخِلَاف مَا يَقُوله زفر رَحمَه الله
إِنَّه لَا يثبت فِيهِ حكم السَّبَبِيَّة بِوَجْه
وَبَيَان هَذَا فِي تَنْجِيز الثَّلَاث بعد
(2/305)
صِحَة التَّعْلِيق فَإِنَّهُ مُبْطل
للتعليق عندنَا لِأَن التَّعْلِيق يَمِين وموجبه الْبر فَإِذا
كَانَ هَذَا السَّبَب مَضْمُونا (بِالْبرِّ) كَانَ لَهُ
شُبْهَة السَّبَبِيَّة فِي الحكم الَّذِي يجب بِهِ بعد فَوَات
الْبر على وَجه الْخلف عَنهُ كالغصب فَإِنَّهُ مُوجب ضَمَان
الرَّد فِي الْعين ثمَّ لَهُ شُبْهَة السَّبَبِيَّة فِي حكم
ضَمَان الْقيمَة الَّذِي ثَبت خلفا عَن رد الْعين عِنْد فَوَات
الْعين فَكَمَا يشْتَرط قيام الْملك وَصفَة الْحل فِي الْمحل
لبَقَاء مَا هُوَ سَبَب للْحكم حَقِيقَة فَكَذَلِك يشْتَرط
لبَقَاء مَا فِيهِ شُبْهَة السَّبَبِيَّة للْحكم وتنجيز
الثَّلَاث يفوت ذَلِك كُله
وَزفر يَقُول لَيْسَ فِي التَّعْلِيق شُبْهَة السَّبَبِيَّة
للْحكم وَهُوَ الطَّلَاق وَالْعتاق وَإِنَّمَا هُوَ تصرف آخر
وَهُوَ الْيَمين محلهَا الذِّمَّة وَاشْتِرَاط الْملك فِي
الْمحل عِنْد انْعِقَاده ليترجح جَانب الْوُجُود على جَانب
الْعَدَم حَتَّى يَصح إِيجَاب الْيَمين بِهِ وَهَذَا غير
مُعْتَبر فِي حَال الْبَقَاء أَلا ترى أَن بعد التطليقات
الثَّلَاث لَو علق الطَّلَاق ابْتِدَاء بِالنِّكَاحِ كَانَ
صَحِيحا وَصفَة الْحل الَّذِي بِهِ يصير الْمحل محلا للطَّلَاق
مَعْدُوم أصلا
وَلَكنَّا نقُول الْملك سَبَب هُوَ فِي معنى الْعلَّة فَإِن
النِّكَاح عِلّة لملك الطَّلَاق فالتطليق بِمَنْزِلَة سَبَب
هُوَ فِي معنى الْعلَّة على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فَأَما الْإِضَافَة إِلَى وَقت لَا تعدم السَّبَبِيَّة معنى
كَمَا يعدمه التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي
قَوْله تَعَالَى {فَعدَّة من أَيَّام أخر} إِنَّه لَا يخرج
شُهُود الشَّهْر من أَن يكون سَببا حَقِيقَة فِي حق جَوَاز
الْأَدَاء
وَقَوله تَعَالَى {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} يخرج الْمُتَمَتّع من
أَن يكون سَببا لصوم السَّبْعَة قبل الرُّجُوع من منى حَتَّى
لَو أَدَّاهُ لَا يجوز لِأَنَّهُ لما تعلق بِشَرْط الرُّجُوع
فَقبل وجود الشَّرْط لَا يتم سَببه معنى وَهُنَاكَ إِضَافَة
الصَّوْم إِلَى وَقت فَقبل وجود الْوَقْت يتم السَّبَب فِيهِ
معنى حَتَّى يجوز الْأَدَاء
وَأما السَّبَب الْمَحْض وَهُوَ مَا يكون طَرِيقا للوصول إِلَى
الحكم وَلَكِن
(2/306)
لَا يُضَاف الحكم إِلَيْهِ وجوبا بِهِ
وَلَا وجودا عِنْده بل تتخلل بَين السَّبَب وَالْحكم الْعلَّة
الَّتِي يُضَاف الحكم إِلَيْهَا وَتلك الْعلَّة غير مُضَافَة
إِلَى السَّبَب وَذَلِكَ نَحْو حل قيد العَبْد فَإِنَّهُ
طَرِيق لوصول العَبْد إِلَى الْإِبَاق الَّذِي هُوَ متو
مَالِيَّة الْمولى فِيهِ وَلَكِن يَتَخَلَّل بَينه وَبَين
الْإِبَاق الَّذِي تتوى بِهِ الْمَالِيَّة قصد وَذَهَاب من
العَبْد وَهُوَ غير مُضَاف إِلَى السَّبَب السَّابِق فَيبقى حل
الْقَيْد سَببا مَحْضا
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو فتح بَاب الاصطبل فندت الدَّابَّة أَو
بَاب القفص فطار الطير لم يجب الضَّمَان عَلَيْهِ لِأَن
الْعلَّة قُوَّة الدَّابَّة فِي نَفسهَا على الذّهاب وَقُوَّة
الطير على الطيران وَهُوَ غير مُضَاف إِلَى السَّبَب الأول
وَكَذَلِكَ لَو دلّ إنْسَانا على مَال الْغَيْر فأتلفه أَو على
نَفسه فَقتله أَو على قافلة حَتَّى قطع الطَّرِيق عَلَيْهِم لم
يكن ضَامِنا شَيْئا لِأَن الدّلَالَة سَبَب مَحْض من حَيْثُ
إِنَّه طَرِيق الْوُصُول إِلَى الْمَقْصُود ويتخلل بَينه
وَبَين حُصُول الْمَقْصُود مَا هُوَ عِلّة وَهُوَ غير مُضَاف
إِلَى السَّبَب الأول وَذَلِكَ الْفِعْل الَّذِي يباشره
الْمَدْلُول
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو قَالَ لرجل هَذِه الْمَرْأَة حرَّة
فَتَزَوجهَا فَذهب وَتَزَوجهَا واستولدها ثمَّ ظهر أَنَّهَا
كَانَت أمة فَإِنَّهُ لَا يرجع بِضَمَان قيمَة الْأَوْلَاد على
الْمخبر بِخِلَاف مَا إِذا زَوجهَا مِنْهُ على أَنَّهَا حرَّة
لِأَن إخْبَاره سَبَب للوصول إِلَى الْمَقْصُود وَلَكِن تخَلّل
بَينه وَبَين الْمَقْصُود وَهُوَ الِاسْتِيلَاد مَا هُوَ عِلّة
فَهُوَ غير مُضَاف إِلَى السَّبَب الأول وَذَلِكَ عقد
النِّكَاح الَّذِي باشرته الْمَرْأَة على نَفسهَا
وعَلى هَذَا قُلْنَا الْمَوْهُوب لَهُ الْجَارِيَة إِذا
اسْتَوْلدهَا ثمَّ اسْتحقَّت لم يرجع بِقِيمَة الْأَوْلَاد على
الْوَاهِب وَالْمُسْتَعِير إِذا أتلف الْعين بِاسْتِعْمَالِهِ
ثمَّ ظهر الِاسْتِحْقَاق لم يرجع بِالْقيمَةِ على الْمُعير
لِأَن الْهِبَة والإعارة سَبَب وَلَكِن تخَلّل بَينه وَبَين
حُصُول الْأَوْلَاد مَا هُوَ عِلّة وَهُوَ الِاسْتِيلَاد
والاستعمال المفضي إِلَى التّلف وَذَلِكَ غير مُضَاف إِلَى
السَّبَب الأول بِخِلَاف المُشْتَرِي إِذا اسْتَوْلدهَا ثمَّ
ظهر الِاسْتِحْقَاق فَإِنَّهُ يرجع بِقِيمَة الْأَوْلَاد لِأَن
بِمُبَاشَرَة عقد الضَّمَان قد الْتزم لَهُ صفة السَّلامَة عَن
الْعَيْب وَلَا عيب فَوق الِاسْتِحْقَاق وبمباشرة عقد
التَّبَرُّع لَا يصير مُلْتَزما سَلامَة الْمَعْقُود عَلَيْهِ
عَن الْعَيْب وَلِهَذَا لَا يرجع بِالْعقدِ فِي الْوَجْهَيْنِ
لِأَنَّهُ لزمَه بَدَلا عَمَّا اسْتَوْفَاهُ وَلَا رُجُوع
(2/307)
لَهُ بِسَبَب الْعَيْب فِيمَا اسْتَوْفَاهُ
لنَفسِهِ وَإِن كَانَ البَائِع ضمن لَهُ صفة السَّلامَة عَن
الْعَيْب
وَزعم بعض أَصْحَابنَا أَن رُجُوع الْمَغْرُور بِاعْتِبَار
الْكفَالَة وَذَلِكَ بِاشْتِرَاط الْبَدَل فَإِن البَائِع يصير
كَأَنَّهُ قَالَ ضمنت لَك سَلامَة الْأَوْلَاد على أَنه إِن لم
يسلم لَك فَأَنا ضَامِن لَك مَا يلزمك بِسَبَبِهِ
وَهَذَا الضَّمَان لَا يثبت فِي عقد التَّبَرُّع وَإِنَّمَا
يثبت فِي حق الضَّمَان بِاشْتِرَاط الْبَدَل إِلَّا أَن الأول
أصح
وَقد قَالَ فِي كتاب الْعَارِية العَبْد الْمَأْذُون إِذا آجر
دَابَّة فَتلفت بِاسْتِعْمَال الْمُسْتَأْجر ثمَّ ظهر
الِاسْتِحْقَاق رَجَعَ الْمُسْتَأْجر بِمَا ضمن من قيمتهَا على
العَبْد فِي الْحَال وَالْعَبْد لَا يُؤَاخذ بِضَمَان
الْكفَالَة مَا لم يعْتق وَهُوَ مؤاخذ بِالضَّمَانِ الَّذِي
يكون سَببه الْعَيْب بَعْدَمَا الْتزم صفة السَّلامَة عَن
الْعَيْب بِعقد الضَّمَان
وَلَا يدْخل على مَا قُلْنَا دلَالَة الْمحرم على قتل الصَّيْد
فَإِنَّهَا توجب عَلَيْهِ ضَمَان الْجَزَاء وَهِي سَبَب مَحْض
لَا يَتَخَلَّل بَينهَا وَبَين الْمَقْصُود مَا هُوَ الْعلَّة
وَهُوَ الْقَتْل من الْمَدْلُول وَهَذَا لِأَن وجوب الضَّمَان
عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ بِإِزَالَة الْأَمْن عَن الصَّيْد
فَإِن أَمنه فِي الْبعد عَن أَيدي النَّاس وأعينهم وَقد الْتزم
بِعقد الْإِحْرَام الْأَمْن للصَّيْد عَنهُ فَإِذا صَار
بِالدّلَالَةِ جانيا من حَيْثُ إِزَالَته الْأَمْن كَانَ
ضَامِنا لذَلِك إِلَّا أَن قبل الْقَتْل لَا يجب عَلَيْهِ
الضَّمَان لبَقَاء التَّرَدُّد فقد يتَوَارَى الصَّيْد على
وَجه لَا يقدر الْمَدْلُول عَلَيْهِ فَيَعُود آمنا كَمَا كَانَ
فبالقتل تَسْتَقِر جِنَايَته بِإِزَالَة الْأَمْن
فَهُوَ نَظِير الْجراحَة الَّتِي يتَوَهَّم فِيهَا
الِانْدِمَال بالبرء على وَجه لَا يبْقى لَهَا أثر فَإِنَّهُ
يستأني فِيهَا مَعَ كَون الْجرْح جِنَايَة وَلَكِن لبَقَاء
التَّرَدُّد يستأني حَتَّى يَتَقَرَّر حكمهَا فِي حق الضَّمَان
بِخِلَاف الدّلَالَة على مَال الْغَيْر فَإِن حفظ الْأَمْوَال
بِالْأَيْدِي لَا بالبعد عَن الْأَيْدِي والأعين فالدال لَا
يصير جانيا بِإِزَالَة الْحِفْظ بدلالته وَهَذَا بِخِلَاف
الْمُودع إِذا دلّ سَارِقا على سَرقَة الْوَدِيعَة فَإِنَّهُ
يصير ضَامِنا لِأَنَّهُ جَان بترك مَا الْتَزمهُ من الْحِفْظ
بعقده وَهُوَ ترك التضييع وبالدلالة يصير مضيعا فَهُوَ نَظِير
الْمحرم يدل على قتل الصَّيْد حَتَّى يصير ضَامِنا لتَركه مَا
الْتَزمهُ بِالْعقدِ وَهُوَ أَمن الصَّيْد عَنهُ
وعَلى هَذَا قُلْنَا من أخرج ظَبْيَة من الْحرم فَولدت فَهُوَ
ضَامِن للْوَلَد لِأَنَّهَا بِالْحرم آمِنَة وَثُبُوت يَده
عَلَيْهَا يفوت معنى الصيدية فَيثبت بِهِ معنى إِزَالَة
الْأَمْن فِي حق الْوَلَد
(2/308)
بِخِلَاف الْغَاصِب فَإِنَّهُ لَا يكون
ضَامِنا للزوائد لِأَن الْأَمْوَال مَحْفُوظَة بِالْأَيْدِي
فَإِنَّمَا يجب الضَّمَان هُنَا بِالْغَصْبِ الَّذِي هُوَ
مُوجب قصر يَد الْمَالِك عَن مَاله وَذَلِكَ غير مَوْجُود فِي
الزِّيَادَة مُبَاشرَة وَلَا تسبيبا وَلَا يُنكر كَونه
مُتَعَدِّيا فِي إمْسَاك الْوَلَد وَلِهَذَا نجعله آثِما ونوجب
عَلَيْهِ رده
وَلَكنَّا نقُول هُوَ لَيْسَ بغاصب للْوَلَد تسبيبا وَلَا
مُبَاشرَة وبتعد آخر سوى الْغَصْب لَا يُوجب ضَمَان الْغَصْب
وَالْيَد الثَّابِتَة على الْأُم عِنْد انْفِصَال الْوَلَد
عَنْهَا حكم الْغَصْب لَا نفس الْغَصْب فَعرفنَا أَنه لم يثبت
الْغَصْب فِي الْوَلَد بطرِيق السَّرَايَة وَلَا قصدا بطرِيق
الْمُبَاشرَة وَلَا بطرِيق التَّسَبُّب بِغَصب الْأُم لِأَن
قصر يَد الْمَالِك تكون بِإِزَالَة يَده عَمَّا كَانَ فِي يَده
أَو بِإِزَالَة تمكنه من أَخذ مَا لم يكن فِي يَده وَذَلِكَ
غير مَوْجُود فِي الْوَلَد أصلا قبل أَن يُطَالِبهُ بِالرَّدِّ
وَمن السَّبَب الْمَحْض أَن يدْفع سكينا إِلَى صبي فيجأ
الصَّبِي بِهِ نَفسه فَإِنَّهُ لَا يجب على الدَّافِع ضَمَان
وَإِن كَانَ فعله بعلة طَرِيق الْوُصُول وَلَكِن قد تخَلّل
بَينه وَبَين الْمَقْصُود مَا هُوَ عِلّة وَهُوَ غير مُضَاف
إِلَى السَّبَب الأول وَذَلِكَ قتل الصَّبِي بِهِ نَفسه
بِخِلَاف مَا إِذا سقط من يَده على رجله فعقره لِأَن السُّقُوط
من يَده مُضَاف إِلَى السَّبَب الأول وَهُوَ مناولته إِيَّاه
فَكَانَ هَذَا سَببا فِي معنى الْعلَّة على مَا نبينه إِن
شَاءَ الله تَعَالَى
وَكَذَلِكَ لَو أَخذ صَبيا حرا من يَد وليه فَمَاتَ فِي يَده
بِمَرَض لم يضمن الْآخِذ شَيْئا بِخِلَاف مَا إِذا قربه إِلَى
مسبعَة حَتَّى افترسه سبع فَإِن السَّبَب هُنَا بِمَعْنى
الْعلَّة بِاعْتِبَار الْإِضَافَة إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقَال
لَوْلَا تقريبه إِيَّاه من هَذِه المسبعة مَا افترسه السَّبع
وَلَا يُقَال لَوْلَا أَخذه من يَد وليه لم يمت من مَرضه
وَلَو قتل الصَّبِي فِي يَد الْآخِذ رجلا فضمن عَاقِلَته
الدِّيَة لم يرجِعوا بِهِ على عَاقِلَة الْآخِذ لِأَنَّهُ
تخَلّل بَين السَّبَب وَوُجُوب الضَّمَان عَلَيْهِم مَا هُوَ
عِلّة وَهُوَ غير مُضَاف إِلَى ذَلِك التسبيب
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لصبي ارق هَذِه الشَّجَرَة فانفضها لي
فَسقط كَانَ ضَامِنا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ كل ثَمَرَتهَا أَو
فانفضها لنَفسك لِأَن كَلَامه تسبيب قد تخَلّل بَينه وَبَين
السُّقُوط مَا هُوَ عِلّة وَهُوَ صعُود الصَّبِي الشَّجَرَة
لمَنْفَعَة نَفسه وَفِي الأول لما كَانَ صُعُوده لمَنْفَعَة
الْآمِر صَار بِسَبَبِهِ فِي معنى الْعلَّة بطرِيق
(2/309)
الْإِضَافَة إِلَيْهِ
وَكَذَلِكَ لَو حمل صَبيا على الدَّابَّة فَسقط مَيتا كَانَ
الْحَامِل ضَامِنا لديته وَلَو سَيرهَا الصَّبِي فَسقط مِنْهَا
فَمَاتَ لم يضمن الَّذِي حمله عَلَيْهَا شَيْئا
ليعلم أَن السَّائِل على هَذَا الأَصْل أَكثر من أَن تحصى
وَمِمَّا هُوَ فِي معنى السَّبَب الْمَحْض مَا هُوَ أحد شطري
عِلّة الحكم نَحْو إِيجَاب البيع وَأحد وصفي عِلّة الرِّبَا
فَإِنَّهُ سَبَب مَحْض على معنى أَنه طَرِيق الْوُصُول إِلَى
الْمَقْصُود عِنْد غَيره وَذَلِكَ الْغَيْر لَيْسَ بمضاف
إِلَيْهِ فَيكون سَببا مَحْضا
فَإِن قيل قد جعلتم حد السَّبَب مَا يَتَخَلَّل بَينه وَبَين
الْمَقْصُود مَا هُوَ عِلّة للْحكم وَهنا الَّذِي يَتَخَلَّل
هُوَ الْوَصْف الآخر وَهُوَ لَيْسَ بعلة للْحكم بِانْفِرَادِهِ
فَكيف يَسْتَقِيم قَوْلكُم إِن أحد الوصفين سَبَب مَحْض
قُلْنَا هُوَ مُسْتَقِيم من حَيْثُ إِن الحكم مَتى تعلق بعلة
ذَات وصفين فَإِنَّهُ يُضَاف إِلَى آخر الوصفين على معنى أَن
تَمام الْعلَّة بِهِ حصل وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْمُوجب
لِلْعِتْقِ الْقَرَابَة الْقَرِيبَة مَعَ الْملك ثمَّ يُضَاف
الْعتْق إِلَى آخر الوصفين وجودا حَتَّى إِذا كَانَ العَبْد
مُشْتَركا بَين اثْنَيْنِ ادّعى أَحدهمَا نسبه كَانَ ضَامِنا
لشَرِيكه وَإِذا اشْترى نصف قَرِيبه من أحد الشَّرِيكَيْنِ
كَانَ ضَامِنا لشَرِيكه
وَكَذَلِكَ النّسَب مَعَ الْمَوْت مُوجب للإرث فيضاف إِلَى آخر
الوصفين ثبوتا حَتَّى إِن شُهُود النّسَب بعد الْوَفَاة إِذا
رجعُوا ضمنُوا بِخِلَاف شُهُود النّسَب فِي حَالَة الْحَيَاة
فَإِذا ثَبت أَن إِضَافَة الحكم إِلَى آخر الوصفين وَهُوَ
يَتَخَلَّل بَين الْوَصْف الأول وَبَين الحكم عرفنَا أَن
الْوَصْف الأول فِي معنى السَّبَب الْمَحْض
وَهَذَا أصل مُسْتَمر فِي الشُّرُوط والعلل جَمِيعًا حَتَّى
قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت هَاتين الدَّاريْنِ
فَأَنت طَالِق فَأَبَانَهَا وَدخلت إِحْدَى الدَّاريْنِ فِي
غير ملكه ثمَّ تزَوجهَا فَدخلت الْأُخْرَى فِي ملكه تطلق لِأَن
الحكم يكون مُضَافا إِلَى تَمام الشَّرْط وجودا عِنْده
وَذَلِكَ حصل بِدُخُول الدَّار الْأُخْرَى فَيشْتَرط قيام
الْملك عِنْده لَا عِنْد دُخُول الأولى
وَمن الْأَسْبَاب السَّفِينَة إِذا كَانَت تحْتَمل مائَة من
وَقد جعل فِيهَا ذَلِك الْقدر فَوضع إِنْسَان آخر فِيهَا منا
فغرقت كَانَ ضَامِنا
(2/310)
للْجَمِيع لِأَن تَمام عِلّة الْغَرق حصل
بِفِعْلِهِ
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله
عَنْهُمَا فِي المثلث إِن السكر مِنْهُ حرَام ثمَّ السكر
الَّذِي هُوَ حرَام الْقدح الْأَخير لِأَن تَمام عِلّة
الْإِسْكَار عِنْدهَا فَيكون مُضَافا إِلَيْهَا خَاصَّة
وَمُحَمّد رَحمَه الله ترك هَذَا الأَصْل فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة احْتِيَاطًا لإِثْبَات الْحُرْمَة فَإِنَّهَا
تثبت بِاعْتِبَار الصُّورَة تَارَة وَبِاعْتِبَار الْمَعْنى
أُخْرَى
وَأما السَّبَب الَّذِي هُوَ فِي معنى الْعلَّة فنحو قَود
الدَّابَّة وسوقها فَإِنَّهُ طَرِيق الْوُصُول إِلَى
الْإِتْلَاف غير مَوْضُوع لَهُ ليَكُون عِلّة وَهُوَ فِي معنى
الْعلَّة من حَيْثُ إِن الْإِتْلَاف مُضَاف إِلَيْهِ يُقَال
أتْلفه بقود الدَّابَّة أَو سوقها
وَكَذَلِكَ إِذا أشرع جنَاحا فِي الطَّرِيق أَو وضع حجرا أَو
ترك هدم الْحَائِط المائل بعد التَّقَدُّم إِلَيْهِ فِيهِ
فَهَذَا كُله سَبَب فِي معنى الْعلَّة
وَكَذَلِكَ إِذا أَدخل دَابَّته زرع إِنْسَان حَتَّى أكلت
الدَّابَّة الزَّرْع فَهَذَا سَبَب فِي معنى الْعلَّة للإتلاف
وَلِهَذَا كَانَ مُوجبا عَلَيْهِ ضَمَان الْمُتْلف وَلَا يكون
شَيْء من هَذَا مُوجبا لحرمان الْمِيرَاث وَلَا الْكَفَّارَة
فَإِن ذَلِك جَزَاء مُبَاشرَة الْفِعْل
وَكَذَلِكَ قطع حَبل الْقنْدِيل الْمُعَلق وشق الزق وَفِيه
مَائِع سَبَب هُوَ فِي معنى الْعلَّة
وَكَذَلِكَ شَهَادَة الشُّهُود بِالْقصاصِ يكون سَببا للْقَتْل
من غير مُبَاشرَة لِأَن قَضَاء القَاضِي بعد الشَّهَادَة يكون
عَن اخْتِيَار
وَكَذَلِكَ اسْتِيفَاء الْوَلِيّ وَالشَّهَادَة غير مَوْضُوعَة
للْقَتْل فِي الأَصْل وَلِهَذَا لَا يُوجب الْكَفَّارَة وَلَا
يثبت حرمَان الْمِيرَاث فِي حق الشُّهُود وَلَا يُوجب
عَلَيْهِم الْقصاص
وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله لَا يُنكر هَذَا وَلَكِن يَقُول
هُوَ تسبيب قوي من حَيْثُ إِنَّه قصد بِهِ شخصا بِعَيْنِه
فيصلح أَن يكون مُوجبا للقود عَلَيْهِ لِأَن فِيهِ معنى
الْعلَّة من حَيْثُ إِن قَضَاء القَاضِي من مُوجبَات
الشَّهَادَة وَالْقَتْل مُضَاف إِلَى ذَلِك
إِلَّا أَنا نقُول القَاضِي إِنَّمَا يقْضِي عَن اخْتِيَار
مِنْهُ وَلَيْسَ فِي وسع الشَّاهِد مَا يظهره القَاضِي
بِقَضَائِهِ أَو يُوجِبهُ فَبَقيت شَهَادَة الشُّهُود تسبيبا
فِي الْحَقِيقَة وَلَا مماثلة بَين التسبيب والمباشرة وَوُجُوب
الْقصاص يعْتَمد الْمُبَاشرَة
وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير إِذا قَالَ للغزاة أدلكم على حصن
فِي دَار الْحَرْب تَجِدُونَ فِيهِ الْغَنَائِم فَإِن ذهب
مَعَهم حَتَّى دلهم عَلَيْهِ كَانَ شريكهم فِي الْمُصَاب لِأَن
فعله تسبيب
(2/311)
فِيهِ معنى الْعلَّة وَإِن وصف لَهُم الطَّرِيق حَتَّى وصلوا
إِلَيْهِ بوصفه وَلم يذهب مَعَهم لم يكن شريكهم فِي الْمُصَاب
لِأَن مَا صنعه تسبيب مَحْض وَلَيْسَ فِيهِ من معنى الْعلَّة
شَيْء
وَأما السَّبَب الَّذِي لَهُ شُبْهَة الْعلَّة كحفر الْبِئْر
فِي الطَّرِيق فَإِنَّهُ سَبَب للْقَتْل من حَيْثُ إِيجَاد
شَرط الْوُقُوع وَهُوَ زَوَال المسكة وَلَيْسَ بعلة فِي
الْحَقِيقَة فالعلة ثقل الْمَاشِي فِي نَفسه وَالسَّبَب
الْمُطلق مَشْيه فِي ذَلِك الْموضع فَأَما الْحفر فَهُوَ
إِيجَاد شَرط الْوُقُوع وَلَكِن لَهُ شُبْهَة الْعلَّة من
حَيْثُ إِن الحكم يُضَاف إِلَيْهِ وجودا عِنْده لَا ثبوتا بِهِ
وَلِهَذَا لم يكن مُوجبا الْكَفَّارَة وَلَا حرمَان الْمِيرَاث
فَإِن ذَلِك جَزَاء الْفِعْل وَفعله تمّ من غير اتِّصَال
بالمقتول وَإِنَّمَا اتَّصل بالمقتول عِنْد الْوُقُوع بِسَبَب
آخر وَهُوَ مَشْيه إِلَّا أَنه يجب ضَمَان الدِّيَة عَلَيْهِ
لِأَن ذَلِك بدل الْمُتْلف لَا جَزَاء الْفِعْل وَقد حصل
التّلف مُضَافا إِلَى حفره وجودا عِنْده فَإِذا كَانَ ذَلِك
تَعَديا مِنْهُ وَجب الضَّمَان عَلَيْهِ بِمُقَابلَة الْمُتْلف
حَتَّى لَو اعْترض على فعله مَا يُمكن إِضَافَة الحكم إِلَيْهِ
نَحْو دفع دَافع إِيَّاه فِي الْبِئْر فَإِنَّهُ يكون
الضَّمَان على الدَّافِع دون الْحَافِر
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا تزوج كَبِيرَة ورضيعة فأرضعت
الْكَبِيرَة الرضيعة فَإِن الزَّوْج يغرم نصف صَادِق
الصَّغِيرَة ثمَّ يرجع بِهِ على الْكَبِيرَة إِن تَعَمّدت
الْفساد وَإِن لم تتعمد ذَلِك لم يرجع عَلَيْهَا بِشَيْء لِأَن
ثُبُوت الْحُرْمَة بالإرضاع وَذَلِكَ مَوْجُود من الصبية
إِلَّا أَن إلقام الثدي إِيَّاهَا سَبَب من الْكَبِيرَة لَهُ
شُبْهَة الْعلَّة من حَيْثُ إِن الحكم يُضَاف إِلَيْهِ وجودا
عِنْده
وَهَذَا الضَّمَان لَيْسَ بِضَمَان إِتْلَاف ملك النِّكَاح
فَإِنَّهُ لَا يضمن بِالْإِتْلَافِ عندنَا وَلَكِن ضَمَان
تَقْرِير نصف صدَاق على الزَّوْج فَإِذا صَار ذَلِك مُضَافا
إِلَى فعلهَا وجودا عِنْده كَانَ لفعلها شُبْهَة الْعلَّة وَقد
كَانَت متعدية فِي ذَلِك حِين تَعَمّدت الْفساد فيلزمها ضَمَان
الْعدوان وَالله أعلم |