الإبهاج في شرح المنهاج ج / 1 ص -43-
الباب الأول في الحكم وفيه فصول
الفصل الأول في تعريفه
"الحكم خطاب
الله القديم المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو
التخيير".
لما كان الكلام في الحكم الشرعي لم يحتج إلى تقييده وقد
تقدم الكلام في كونه إنشائيا أو خبريا وتفسيره بالخطاب
وتقسيمه إلى الاقتضاء أو التخيير يدل على أن المراد
الإنشائي والخطاب مصدر خاطب يخاطب خطابا مخاطبة وفي تسمية
كلام الله تعالى في الأزل خطابا خلاف قال القاضي أبو بكر
الكلام يوصف بأنه خطاب دون وجود مخاطب ولذلك أجزنا أن بكون
كلام الله في أزله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في
وقته مخاطبة على الحقيقة وأجزنا كونه أمرا أو نهيا وعلى
هذا لا يقال للموصي إنه مخاطب بما يودعه وصيته ويقال أمر
من تفضي إليه الوصية انتهى فعلى هذا لا يصح أن يؤخذ الخطاب
في حد الحكم لأن الحكم عندنا قديم ويجب أن يقال الكلام
والمصنف تبع الإمام في لفظ الخطاب وكأن الإمام رأى أنه
يقال في القديم باعتبار ما يصير إليه وإذا قلنا لا يطلق
الخطاب في الأزل فهو يطلق بعد ذلك عند وجود المأمور
والمنهي ينبغي أن يقال إن حصل إسماعه لذلك كما في موسى
عليه السلام فيسمى خطابا بلا شك وإلا فلا على قياس قول
القاضي وإذا سمينا ما يحصل إسماعه خطابا فلا يخرجه ذلك عن
كونه قديما على أصلنا في جواز إسماع الكلام القديم وفي بعض
نسخ الكتاب خطاب الله القديم كأنه رأى أن الخطاب يطلق على
الكلام
ج / 1 ص -44-
القديم
على غير مذهب القاضي وعلى الأصوات والحروف الدالة على ذلك
وهي حادثة فقال القديم ليخرجها وفي بعض النسخ لم يقل
القديم نظرا إلى أن الخطاب هو الكلام والكلام حقيقة في
النفساني فقط وهو المشهور عند المتكلمين فلا حاجة إلى قوله
القديم فحصل في الخطاب قولان:
أحدهما: أنه الكلام وهو ما تضمن نسبة
إسنادية.
والثاني: أنه أخص منه وهو ما وجه من
الكلام نحو الغير لإفادته وإضافته إلى الله بخرج خطاب غيره
والمتعلق بأفعال المكلفين يخرج المتعلق بذاته تعالى
والجمادات وذوات المكلفين وفعله كقوله الله لا إله إلا هو
ويوم نسير الجبال ولقد خلقناكم والمراد بالمكلفين من كان
بالغا عاقلا ولنا في الصبي خلاف هل هو مأمور بالصلاة
والصوم بأمر الشارع أو بأمر الولي وعلى كل تقدير ليس
تكليفا لأن أمر الندب لا كلفة فيه ومن رأى أنه مأمور بأمر
الشرع قال في حد الحكم الخطاب المتعلق بأفعال العباد ولا
يرد على المجنون لأنه لم يوجه له خطاب ومنهم من يقول
بأفعال الإنسان لأن كلامنا فيما يتعلق بهم وإن كانت
الملائكة والجن مكلفين لكنهم خارجون عن نظرنا.
وقوله: "بالاقتضاء أو التخيير" يخرج قوله تعالى:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}1 فإنه خطاب متعلق بأعمالنا على وجه الإخبار عنها بكونها مخلوقة
لكنه ليس اقتضاء ولا تخييرا فخرج عن الحد والمراد
بالاقتضاء الطلب فيشمل طلب الفعل إيجابا أو ندبا وطلب
الترك تحريما أو كراهة والمراد بالتخيير الإباحة.
"قالت المعتزلة خطاب الله قديم عندكم والحكم حادث لأنه
يوصف به ويكون صفة لفعل العبد ومعللا به كقولنا حلت
بالنكاح وحرمت بالطلاق" هذا سؤال على الحد مركب وعلى
مقدمتين الأولى مسلمة وإن كانت المعتزلة لا يقولون بها
فإنا نقول بقدم الكلام والثانية لا نقول نحن بها فاستدلوا
عليها بثلاثة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصافات 96.
ج / 1 ص -45-
أحدها: أن الحكم يوصف به أي بالحدوث فنقول حلت هذه المرأة بعد أن لم تكن
حلالا وحرمت بعد أن لم تكن حراما والبعدية تصريح بالحدوث.
والثاني: أنه أي الحكم يكون صفة لفعل
العبد فتقول هذا الفعل حلال وهذا فعل حلال أو حرام والعبد
حادث ففعله أولى أن يكون حادثا فصفة فعله أولى بأن تكون
حادثة.
والثالث: أنه أي الحكم يكون معللا به أي
بالحادث كقولنا حلت بالنكاح فالنكاح علة في الحل وحرمت
بالطلاق فالطلاق علة في التحريم.
"وأيضا فموجبية الدلوك ومانعية النجاسة وصحة البيع وفساده
خارجة عنها". هذا سؤال ثان وهو أن الحد غير جامع والحد يجب
أن يكون جامعا لجميع أفراد المحدود مانعا من دخول غيره فيه
فمتى خرج منه شيء أو دخل فيه غيره فيفسد والمراد بالدلوك
زوال الشمس هذا هو الصحيح وقيل غروبها وكل منهما موجب
لصلاة وغيره ذكر مع ذلك شرطية الطهارة والمراد أن هذه
الخمسة أحكام شرعية غير الخمسة الأولى التي تضمنها الحد.
"وأيضا فيه الترديد وهو ينافي التحديد" هذا سؤال ثالث على
قوله بالاقتضاء أو التخيير أو للترديد والترديد ينافي
التحديد لأن المقصود بالتحديد الإيضاح والبيان والمقصود
بالترديد الشك والإبهام.
واعلم أن مدلول "أو" إما شك كقولك جاء زيد أو عمرو وإما
إبهام كقوله تعالى:
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ}1 وإما تبيين قسمة كقولك العدد زوج أو فرد وإما إباحة كجالس الحسن
أو ابن سيرين وإما تخيير كخذ درهما أو دينارا فالشك
والإبهام منافيان للبيان بلا إشكال والتقسيم ليس فيه بيان
المقسم والحد إنما يؤتى فيه بما يفيد البيان أو التخيير
والإباحة لا محل لهما هنا وفيهما الترديد فلا يدخلان في
الحدود.
"قلنا الحادث التعلق" هذا جواب عن الوجه الأول من تقرير
المقدمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ 24.
ج / 1 ص -46-
الثانية من السؤال الأول وهو أن الحكم يوصف بالحدوث فمنع
ذلك وقال الحادث إنما هو التعلق فإذا قلنا حلت هذه المرأة
بعد أن لم تكن حلالا فليس معناه أن إحلالها حدث وإنما
معناه أنه تعلق بالعبد وهذا اختيار من المصنف أن التعلق
حادث وهو المذكور في المحصول هنا وفي موضع آخر خلافه وهو
المختار1 ولو كان التعلق حادثا لكان الخطاب المتعلق حادثا
ضرورة أخذ التعلق قيدا فيه ويلزم على هذا أن يكون الحكم
حادثا وهو قد فر منه وأن الكلام في الأزل لا يسمى حكما ومن
ضرورته ألا يكون أمرا ولا نهيا ونحن لا نقول به ولا ينجى
من هذا إلا أن يقال وصف الحكم في الأزل بالتعلق على سبيل
الصلاحية ولكن هذا لا ضرورة إليه فالمختار أن الإحلال مثلا
قديم وكذلك تعلقه وأن التعلق نسبة فهو يستدعي حصول متعلقه
في العلم لا في الخارج وإنما الذي يحدث بعد ذلك الحل وهو
غير الإحلال وإنما ينشأ عنه بشروط كلما وجدت وجد كما لو
قلت أذنت لك أن تبيع عبدي هذا يوم الخميس فالإذن قبل
الخميس موجود متعلق به وأثره يظهر يوم الخميس وعلى هذا يجب
أن يحمل قولهم بحدوث التعلق فلا يكون بين الكلامين مخالفة
في المعنى وكأن للتعلق طرفين من جهة المتكلم يتقدم ومن جهة
المخاطب قد يتأخر.
"والحكم متعلق بفعل العبد لا صفته كالقول المتعلق
بالمعدومات".
هذا جواب عن قوله ويكون صفة لفعل العبد فأجاب بأن الحكم
قول متعلق بالفعل لا صفة للفعل لأن معنى الإحلال قول الله
رفعت الحرج عن فاعله وهذا القول صفة لله تعالى قائم بذاته
متعلق بغيره لا صفة كالقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هامش النسخة المطبوعة: والمنسوب إلى الشيخ أبي الحسن
الأشعري أنه قديم، وعليه مدار كلام الأئمة، وفي ابن الحاجب
التصريح به في مسألة أمر المعدوم، وهو الحق، ولو قيل: إن
التعلق لا يوصف بقدم ولا حدوث، لكونه نسبة لم يبعد، إذ
النسب والأمور الاعتبارية المختار فيها كذلك، لأنها عدمية،
كما هو الحق، وقد فاه بذلك جميع متأخري علمائنا، لكن
المشهور القول بالحدوث فليتأمل اهـ.
ج / 1 ص -47-
المتعلق بالمعدومات إذا أخبرت عنها مثلا فليس القول صفة
لها وإلا لزم قيام الموجود بالمعدوم وأما كون للقديم
متعلقا بالحادث فلا يمتنع.
"والنكاح والطلاق ونحوهما معرفات له كالعالم للمصانع".
هذا جواب عن الدليل الثالث وهو قوله: "ومعللا به" أي
بالحادث كقولنا حلت بالنكاح وحرمت بالطلاق فأجاب بأن هذه
العلل شرعية والعلل الشرعية معرفات لا مؤثرات وكأن الله
تعالى قال إذا تزوج فلان بفلانة بشروط كيت وكيت فاعلموا
أني حللتها له فإذا وجد النكاح بتلك الشروط عرفنا الإحلال
الأزلي ويجوز أن يكون الحادث معرفا للقديم كما أن العالم
يعرفنا وجود الباري سبحانه وتعالى ووحدانيته فليس علة له.
واسم الصانع اشتهر على ألسنة المتكلمين في هذا المثال ولم
يرد في الأسماء وقرئ في الشواذ: "صنعه الله"1 بالنون فمن
اكتفى في الأسماء بورود الفعل يكتفي بمثل ذلك وما ذكره
المصنف من الجواب يحسن إيراده على وجهين:
أحدهما: على سبيل المنع ابتداء فيقال لا
نسلم أن النكاح والطلاق ونحوهما علل وإنما هي معرفات.
والثاني: على سبيل الاستفسار فيقال إن
أردت بالعلل المعرفات فمسلم ولا يفيدك وإن أردت المؤثرات
فممنوع والعلة تطلق بمعنى المعرف والداعي والمؤثر
والمتكلمون ينكرون المؤثر بناء على أن الأفعال كلها من
الله تعالى وهو تعالى فاعل بالاختيار لا مؤثر بالذات ولا
وجود للعلة المؤثرة هذا مذهب أهل السنة والحكماء2 وكثير من
المتكلمين غير أن أهل السنة تثبتها وإلا اختلف مدركهم وهذا
تمام الأدلة الثلاثة التي قرر بها السؤال الأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية 138 من سورة البقرة وهي قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ
لَهُ عَابِدُونَ}
وهي القراءة الصحيحة المتواترة.
أما قراءة صنعة الله بالنون فهي قراءة شاذة مروية عن الحجة
في القراءات السبع لابن طالون 1/228.
2 المقصود بالحكماء هنا: الفلاسفة.
ج / 1 ص -48-
"والموجبية والمانعية أعلام الحكم لا هو وإن سلم فالمعنى بهما
اقتضاء الفعل والترك وبالصحة إباحة الانتفاع وبالبطلان
حرمته".
هذا جواب عن السؤال الثاني بأحد طريقين: إما بأن تلك
الأشياء التي ادعى خروجها عن الحد ليست أحكاما بل إعلاما
بالحكم فلا معنى لكون الدلوك واجبا إلا أن الله تعالى
أعلمنا به الوجوب ولا معنى لكون الوضوء شرطا إلا أن الله
أعلمنا بعدمه بطلان الصلاة وإما بأن نسلم أنها حكم ونقول
إنها ليست خارجة عن الحد بل راجعة إليه بتأويل وهو أن
المعني بالموجبية اقتضاء الفعل وبالمانعية اقتضاء الترك
ومعنى هذا أن موجبية الدلوك مثلا بمنزلة جعلت الدلوك معرفا
لوجوب الصلاة والاقتضاء المذكور في الحد معناه وجبت الصلاة
عند الدلوك وحاصل العبارتين سواء فبذلك يكون الحد جامعا
وكلام المصنف ناطق بهاتين الطريقتين في الموجبية والمانعية
وأما الصحة والبطلان فاقتصر فيهما على الجواب الثاني وهو
رجوعهما إليه بتأويل وهو أن صحة البيع لا معنى لها إلا
إباحة الانتفاع وفساده لا معنى له إلا حرمة الانتفاع وفيه
نظر لأنا نعلل إباحة الانتفاع بالصحة وحرمته بالفساد
والعلة غير المعلول ولأن بتمام الإيجاب والقبول تحصل الصحة
ولا يباح الانتفاع حينئذ حتى يتم الخيار ويقبض ولم يذكر
المصنف صحة العبادة وفسادها والسؤال وارد فيها أيضا وقد
ذكر المصنف بعد هذا ما هو المعتمد في تفسير الصحة وهو أنها
استتباع الغاية ومعناه أن العبادة أو العقد بحيث يترتب
عليه أثره وهو الغاية المقصودة منه وغاية البيع مثلا إباحة
الانتفاع فإن وقع البيع بحيث يكون كذلك كان صحيحا وإلا كان
فاسدا وبهذا يصح تعليل إباحة الانتفاع بالصحة ويندفع توقف
الإباحة على الخيار والقبض لأنه قد ينعقد السبب بحيث يترتب
عليه مقصوده وإن توقف على شرط إذا وجد ذلك الشرط أضيف
المشروط إلى السبب السابق إذا عرفت هذا فكون البيع بحيث
يترتب عليه حل الانتفاع حكم ليس اقتضاء ولا تخيير فهو خارج
عن الحد ورجوعه إليه بالطريق التي تقدمت في الدلوك وهو أن
نقول الصحة نزلت منزلة قول الشارع جعلته مبيحا للانتفاع أي
معرفا للإباحة والتخيير المذكور في الحد معناه إباحة
الانتفاع عنده وحاصل العبارتين سواء.
ج / 1 ص -49-
بقي
هنا نظر آخر وهو كون البيع بحيث يترتب عليه حل الانتفاع هل
هو معنى شرعي زائد على الإيجاب والقبول وسائر ما يعتبر معه
أو هو تلك الأشياء فقط بغير زيادة أو مجموعهما يحصل به ذلك
فإن كان الأول وهو المشهور عند الجمهور كان ذلك المعنى
حكما شرعيا مفارقا لذات الدلوك مساويا لجعل الدلوك معرفا
للوجوب فلذلك تعللت بطلب الطريق للثاني إذ لا يمكن إنكار
كون ذلك شرعيا وإن كان الثاني وهو مقتضى كلام بعضهم ساوى
الدلوك من كل وجه أمكن أن يقال حينئذ إن معنى الصحة
الإعلام بإباحة الانتفاع عند اجتماع تلك الأمور وليست حكما
بل إعلاما بالحكم وكذلك إن جعلنا الصحة وقوع البيع أو
العبادة على وفق الوجه المشروع وقلنا إن هذا معنى عقلي لا
شرعي فيأتي الطريقان أيضا في الجواب.
"والترديد في أقسام المحدود لا في الحد".
هذا جواب عن السؤال الثالث وبيانه أن الترديد المنافي
للتحديد هو الترديد في الحد وهنا ليس كذلك لأن الترديد
إنما يكون في الحد لو كانت أو داخلة بين الجنس والفصل أو
بين الفصول وههنا إنما وقعت بين أقسام الفصل الآخر وذلك
أنه لما كان الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين يشمل الاقتضاء
والتخيير وغيرهما أتى بالفصل الآخر ليخرج غيرهما ويصير
الفصل أحدهما من غير تعيين أعم من كونه اقتضاء أو تخييرا
فهذا القدر المطلق هو الفصل ولا ترديد فيه ولكنه ينقسم إلى
اقتضاء وتخيير فأتت أو بين قسميه فلا يحصل بها إخلال في
الحد والفصل مساو للمحدود وكل ما كان أقساما لشيء كان
أقساما لمساويه فلذلك قال المصنف إنها في أقسام المحدود
ولم يكن الحد بدون أحدهما مانعا فلذلك لا بد من الفصل
بأحدهما مطلقا و أو داخلة بين المعنيين وكل منهما معينا
أخص من أحدهما مطلقا ولو وجد عبارة تشملهما أو تخرج غيرهما
استراح من هذا السؤال وجوابه وقد خطر لي أن يكون الإنشاء
فإنه يخرج الخبر ويشمل الاقتضاء والتخيير فيقال هذا الحكم
الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على وجه
الإنشاء،
ج / 1 ص -50-
ويندرج
فيه خطاب الوضع وكون الشيء سببا وشرطا ومانعا والحكم
بالصحة والفساد سواء قلنا إن ذلك يرجع بتأويل إلى الاقتضاء
والتخيير أم لا ويندرج فيه مثل قوله تعالى:
{زَوَّجْنَاكَهَا} فتزويج الله لنبيه "زينب" حكم شرعي.
ج / 1 ص -51-
الفصل الثاني في تقسيماته الأول
"الخطاب إن اقتضى الوجود ومنع النقيض فوجوب وإن لم يمنع
فندب وإن اقتضى الترك ومنع النقيض فحرمة وإلا فكراهة وإن
خير فإباحة".
لما فرغ من
تعريف الحكم الشرعي شرع في تقسيمه وحذف قوله وهو من وجوه
لدلالة الكلام عليه والألف واللام في الخطاب للمعهود
السابق في حد الحكم وهذا التقسيم بحسب ذات الحكم والاقتضاء
هو الطلب وقابل المصنف الوجود بالترك ولو جعل موضع الوجود
الفعل أو موضع الترك العدم لكان أحسن من حيث اللفظ وأما
المعنى ففيه تسمح على التقديرين لأن الترك فعل وجودي فلا
يكون تقسيما لا للفعل ولا للوجود ولذلك قال غيره المطلوب
إما فعل غير كف وإما كف وهذا بحسب حقيقة الفعل عقلا وأهل
العرف يقابلون بين الفعل والترك المطلقين والأولى اعتماده
في هذا التقسيم1 وعدم التقييد بكونه كفا وغير كف وقوله
فوجوب صوابه فإيجاب فإنه الحكم والوجوب أثره تقول أوجبه
الله إيجابا فوجب وجوبا وكذلك قوله حرمه صوابه تحريم ووجه
الحصر بين
"ويرسم الواجب بأنه الذي يذم شرعا تاركه قصدا مطلقا".
لما ذكر الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة في
التقسيم المذكور بأن به ماهية كل واحد منها فالإيجاب طلب
الفعل المانع من النقيض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هامش النسخة المطبوعة: "عبارة غيره: فالأول أن يعتمد
في هذا التقسيم، ولعله الأول كما لا يخفى".
ج / 1 ص -52-
والتحريم طلب الترك المانع من النقيض والإباحة هي التخيير
بين الفعل والترك ولك أن تجعل مكان المانع من النقيض
الجازم في جميع المواضع فهما مترادفان والأفعال التي هي
متعلق هذه الأحكام هي الواجب والمندوب والحرام والمكروه
والمباح تظهر ماهيتها بذلك أيضا فيقال الواجب المطلوب
الفعل طلبا جازما والمندوب المطلوب الفعل طلبا غير جازم
والحرام المطلوب الترك طلبا جازما والمكروه المطلوب الترك
طلبا غير جازم والمباح المخير فيه ولكنه ذكر لها رسوما
أخرى تظهر بها حقائقها وبدأ بالواجب
وترك ذكر الجنس وهو الفعل لدلالة الكلام عليه واكتفى بذكر
الخواص فقوله الذي صفة لمحذوف أي الفعل الذي فالفعل جنس
يشمل الخمسة والذي يذم تاركه أخرج المندوب والحرام
والمكروه والمباح وعادة الأصوليين يقولون الذي يذم يخرج
المندوب والمكروه والمباح وتاركه يخرج الحرام وكان الباجي
يشرحه كذلك وأنا لا أختار هذا لأن الذي يذم وحده لا يصلح
أن يكون فصلا ألا ترى أنك لو قلت الفعل الذي يذم لم بكن
جنسا للمحدود ولا مفيدا للمقصود وقوله شرعا احترازا عن
مذهب المعتزلة فإن عندهم الذم بالعقل فأشار بهذا إلى قاعدة
الأشاعرة وهي أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع وقدم شرعا على
تاركه حتى يتبين أن انتصابه عن يذم وقوله قصدا متعلق تاركه
وهو قيد ليس في المحصول ولا في الحاصل وأراد به إدخال
الواجب إذا ترك سهوا فإنه لا يذم ولا يخرجه ذلك عن الواجب
ولو لم يقل ذلك لكان الرسم مطردا وغير منعكس لأن ما لا يذم
تاركه قد يكون واجبا بأن يتركه سهوا وإطلاق تاركه مع ما
فيه من العموم المستفاد من الإضافة يقتضي أن ما لا يذم كل
تارك له ليس بواجب فقيد التارك بالقصد وكل قيد في الفصل
يكثر به المحدود بخلاف زيادة الفصول فإنه ينقص بها الحدود
وصار الرسم بهذا القيد مطردا منعكسا أما اطراده فلأن كل ما
يذم تاركه قصدا ليس بواجب.
فإن قلت الساهي غير مكلف فليس الفعل في حقه واجبا فلا يوصف
بترك الواجب قلت إما أن يكون بني هذا على رأى الفقهاء
فإنهم يقولون الصلاة واجبة على الساهي والنائم ولذلك يجب
القضاء عليهما وإما أن يفرض
ج / 1 ص -53-
فيهن
سهى عن الصلاة بعد دخول وقتها ووجوبها عليه واستمر سهوه
حتى خرج الوقت فالوجوب قد تحقق وتحقق الترك ولا معصية بسبب
السهو كمن مات في أثناء الوقت لا يعصى على الصحيح فطريان
السهو في أثناء الوقت كطريان الموت وكذا إذا طرأ النوم عن
غلبة وإنما قيدت بقولي عن غلبة لأنه إذا قصد النوم حيث
يحتمل عنده أن يستيقظ قبل خروج الوقت وألا يستيقظ
والاحتمالان على السواء فإنه إذا نام يكون قد عرضها للفوات
فيظهر عصيانه وهذا قلته تفقها ثم وجدته في فتاوى أبي عمرو
بن الصلاح1 واستدل بما جاء في الحديث في العشاء أنه نهى عن
النوم قبلها وإن غلب على ظنه أو يستيقظ قبل خروج الوقت2
فالذي يظهر جواز النوم ولا يعصى إذا استغرق به النوم على
ندور حتى خرج الوقت ويحمل الحديث على ما سوى هذه الصورة أو
على أنه نهى تنزيه وإن ظن أنه لا يستيقظ حرم بلا إشكال
مهما نام بعد الوقت أما إذا نام قبله فلا لأن التكليف لم
يتعلق به ودع3 من يعلم من عادته أنه لا يستيقظ إلا بعد
الوقت لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"إذا استيقظت فصل" فإن قلت هل هذا القيد الذي زاده المصنف لا بد منه حتى يكون الحد
بدونه فاسدا قلت ينبني على شيء وهو أن عدم الفعل أعم من
تركه فمن مات ونام غلبه أو أقبل الوقت حتى خرج يقال في حقه
لم يصل ولا يقال ترك الصلاة ومن اشتغل بضدها وهو ذاكر لها
فقد تركها قصدا ومن نام عن اختيار في أثناء الوقت مع علمه
من عادته ألا يستيقظ داخل في ذلك وأما الساهي وهو الذي
اشتغل بضدها قاصدا لذلك الضد ولم يخطر بباله الصلاة فيقال
إنه لم يصل وهل يقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عثمان بن عبد الرحمن، أبو موسى الشهرزوري، المعروف
بابن الصلاح، أحد العلماء المبرزين في التفسير، والحديث،
والفقه، أسماء الرجال وغير ذلك من العلوم النقلية
والعقلية.
من مؤلفاته: "معرفة أنوع علم الحديث" والمعروف مقدمة ابن
الصلاة، والفتاوى، وشرح الوسيط في فقه الشافعية، طبقات
الفقهاء الشافعية.
توفي رحمه الله تعالى سنة 643هـ وفيات الأعيان 1/312،
الأعلام 4/369.
2 روى عن أبي برزة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم:
"كان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره
النوم قبلها والحديث بعدها" رواه الجماعة.
3 في هامش النسخة المطبوعة: في شرح ابن النحوي: ودع بصيغة
الأمر والمعنى –والله أعلم- واترك من يعلم من عاداته إلخ
فلا تقيد به". اهـ.
ج / 1 ص -54-
إنه
تارك الصلاة لأجل تلبسه بضدها مختارا له أولا لا يقال ذلك
لعدم قصده لها فأشبه من لا ينسب إليه فعل هذا محل نظر فإن
أطلقنا عليه اسم التارك فلا بد من القيد المذكور وإلا فلا
حاجة إليه وهو الأولى لأن قولنا الواجب ما يذم على تركه
معناه على تركه حين كونه واجبا والناس حين نسيانه لم يكن
الفعل واجبا عليه فتركه الذي لم يذم عليه والوجوب لم
يجتمعا في زمن واحد ولذلك أن القاضي أبو بكر وغيره من
الأئمة لم يذكروا هذا القيد.
"وقوله مطلقا" متعلق أيضا بتاركه وهو قيد في الفصل زائد في
المحدود كما أشرنا إليه من قبل وأن مقتضاه الإدخال لا
الإخراج وقصد به إدخال الواجب الموسع والمخير وفرض الكفاية
فإن كلا منها قد يتركه قصدا تركا مقيدا فلا يذم كما إذا
ترك الموسع في أول الوقت وفعله في آخره وترك خصلة من خصال
المخير وفعل الأخرى وترك فرض الكفاية وقام به غيره لا يأثم
في الصور الثلاث وإنما يأثم في الموسع إذا ترك هو لا غيره
فإنه يصح حينئذ إطلاق الترك عليه والنوع الرابع من أنواع
الواجبات وهو الواجب المضيق إطلاق الترك صادق عليه حيث ترك
فلا قيد فشمل كلامه الواجبات الأربعة وهذا القيد وهو قوله
مطلقا قاله صاحب الحاصل1 وحذف قول الأصحاب على بعض الوجوه
لأن به يستغنى عنه وهم يجعلون على بعض الوجوه متعلقا بذم
وفائدة هذا الرسم أنه إذا لم يرد من الشارع طلب لفعل ولكن
ورد ذمه أو ذم فاعله لأجله استدللنا بذلك على وجوبه والذم
معروف لغة وعرفا فلا حاجة إلى تفسيره والمعتزلة فسروه بأنه
قول أو فعل أو ترك قول أو ترك فعل ينبني على إيضاح حال
الفاعل ولأصحابنا معهم مشاححات متكلفة وأورد في المحصول
أنه يدخل في هذا التحديد السنة فإن الفقهاء قالوا إن أهل
محلة إذا اتفقوا على ترك سنة الفجر بالإصرار فإنهم يحاربون
بالسلاح وهذا الذي قاله في سنة الفجر لم أر من الفقهاء ولا
من غيرهم من قاله غيره وإنما قالوه في الأذان والجماعة
ونحوهما من الشعائر الظاهرة ومع ذلك الصحيح عندهم إذا قلنا
بسنتيها إنهم لا يقاتلون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو تاج الدين محمد بن حسين الأرموي، المتوفى سنة 656هـ
اختصر كتاب "المحصول" للإمام الرازي في كتاب سماه "الحاصل"
لا يزال مخطوطاً.
ج / 1 ص -55-
على
تركها خلافا لأبي إسحاق المروزي1 ويجاب على هذا القول بأن
المقاتلة على ما يدل عليه ذلك من الاستهانة بالدين المحرمة
لا على ترك السنة.
"ويرادفه الفرض وقالت الحنيفة الفرض ما ثبت بقطعي والواجب
بظني" قال أبو زيد الدبوسي2 من الحنفية الفرض والتقدير
والوجوب السقوط فخصصنا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع
لأنه الذي يعلم من حاله أن الله قدره علينا والذي عرف
وجوبه بدليل ظني نسميه بالواجب لأنه ساقط علينا ولا نسميه
بالفرض لأنا لا نعلم أن الله قدره قلنا الفرض المقدر أعم
من كونه علما أو ظنا والواجب هو الساقط أعم من كونه علما
أو ظنا فتخصيص كل من اللفظين بأحد القسمين تحكم ولو قالوا
إن هذا مجرد اصطلاح لم نشاححهم والنزاع في موافقته للأوضاع
اللغوية ثم زادوا وادعوا أن الفرض والواجب مختلفان
بالحقيقية وقصدهم من هذا أن الوتر واجب وليس بفرض وقراءة
الفاتحة في الصلاة واجبة بالحديث3 وأصل القراءة فرض بقوله
تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}4 ولو سلم لهم الاختلاف في الطريق لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: إبراهيم بن أحمد المروزي، صاحب المزني، أحد أئمة
الشافعية، من مصنفاته "الفصول في معرفة الأصول" توفي
340هـ.
الأعلام للزركلي 10/10، الفهرست لابن النديم ص313.
2 هو: عبد الله بن عمر بن عيسى، أبو زيد أول من وضع علم
الخلاف، كان فقيها باحثا. ألف "تأسيس النظر" فيما اختلف
فيه الفقهاء، أبو حنيفة وصاحباه، ومالك والشافعي.
و"الأسرار" في الأصول والفروع عند الحنفية، و"تقويم
الأدلة" في الأصول.
توفي رحمه الله تعالى سنة 430هـ.
وفيات الأعيان 1/253، الأعلام 4/248.
3 صح في قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة أحاديث
كثيرة منها:
أ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه –أن النبي صلى الله
عليه وسلم- قال:
"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". رواه الجماعة.
ب وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال، قال رسول الله –صلى
الله عليه وسلم:
"من صلى لم يقرأ فيها بأم القرآن"- وفي رواية:
"بفاتحة الكتاب"-
فهي خداج، هي خداج غير تمام". رواه الشيخان وأحمد.
قال الخطابي: هي خداج: ناقصة نقص بطلان وفساد. فقه السنة
1/135.
4 سورة المزمل 20.
ج / 1 ص -56-
يلزم
منه الاختلاف في الحقيقة ثم لم يستمروا على ذلك وجعلوا
القعدة في الصلاة فرضا ومسح ربع الرأس فرضا ولم يثبتا
بقاطع.
وقد جاء في الحديث فريضة الصدقة يعني النصب والمقادير
ويلزم الحنفية ألا يكون شيء من ذلك فرضا وألزمهم القاضي
ألا يكون شيء مما ثبت وجوبه بالسنة كنية الصلاة ودية
الأصابع والعاقلة فرضا وأن يكون الاشهاد عند السامع ونحوه
من المندوبات الثابتة بالقرآن فرضا لما ادعوا أن الفرض ما
ثبت بالقرآن والواجب ما ثبت بالسنة.
"والمندوب ما يحمد فاعله ولا يذم تاركه"
لك أن تجعل ما بمعنى الذي كما قال في الواجب وأن تجعلها
نكرة أي فعل وهو جنس للخمسة ويحمد فاعله خرج به المباح
والحرام والمكروه ولا يذم تاركه خرج به الواجب والعموم
المستفاد من النفي في قوله: ولا يذم تاركه أغنى عن التقييد
بقوله قصدا مطلقا وفي بعض النسخ يمدح مكان يحمد وقد تقدم
الكلام في الخطبة على الحمد والمدح ولا بد من قوله شرعا
وكأنه لما ذكرها في حد الواجب اكتفى به عن ذكرها في
الأربعة مع إرادتها1 وظن شيخنا الجزري2 أن الناسخ أسقطها
فلحقها بالأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأقول: إن البضاوي ذكر كلمة "شرعاً" مرتين وليس مرة
واحدة كما قال السبكي، وكان البيضاوي دقيقاً في تعبيره،
حيث ذكرها مرة في أول الأقسام وهو الواجب، الذي هو أعلى
مراتب الفعل المطلوب تحصيله.
ولما طال العهد ذكرها مرة أخرى عند تعريف الحرام، وهو أعلى
مراتب الفعل المطلوب تركه، ليشمل كل منهما ما تحته،
والملحوظ كالملفوظ تماماً، وبهذا يندفع ما أورده الإسنوى
على البيضاوي من اعتراض حيث قال: وأيضاً فقد تعرض المصنف
لقوله شرعاً في رسمي الواجب والحرام، دون رسم المندوب
والمكروه والمباح، مع أن المدح على الفعل في المندوب، وعلى
الترك في المكروه لا يثبت عندنا إلا بالشرع، وكذلك نفي
المدح، فالصواب ذكرها في الجميع، كما فعل صاحب الحاصل
والتحصي.
نهاية السول الشيخ بحيث 1/82.
2 هو: محمد بن يوسف بن عبد الله بن محمود الجزري، المتوفى
سمة 711هـ كان أحد علماء القرن السابع الهجري، ومن
المبرزين في سائر العلوم النقلية والعقلية، وهو أحد شيوخ
الإمام السبكي.
من مؤلفاته: شرح على "منهاج الوصول للبيضاوي يسمى "معراج
المنهاج" وهو من أقدم =
ج / 1 ص -57-
"ويسمى سنة ونافلة" من أسمائه أيضا أنه مرغب فيه وتطوع ومستحب
والترادف في هذه الأسماء عند أكثر الشافعية وجمهور
الأصوليين.
وقال القاضي حسين1 من الشافعية السنة ما واظب عليه النبي
صلى الله عليه وسلم والمستحب ما فعله مرة أو مرتين والتطوع
ما ينشئه الإنسان باختياره ولم يردد فيه نقل وقالت
المالكية السنة ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله
مظهرا له والنافلة عندهم وله رتبة من الفضيلة التي هي أنزل
رتبة من السنة وللحنفية اصطلاح آخر في الفرق بين السنة
والمستحب والصحيح ما قدمناه أولا لقوله صلى الله عليه
وسلم:
"من سن سنة"2 ولقوله:
"ولكن أنسى لأسن"3 فانظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الشروح التي وضعت على المنهاج. وقد وفقني الله تعالى
لتحقيقه على نسختين مخطوطتين بدار الكتب المصري، ومكتبة
الأزهر، لكنه لم يطبع حتى الآن ا هـ. محققه.
راجع في ترجمة الجزري: الوافي بالوفيات 5/263 طبقات
الشافعية للاسنوي 1/383 ولابن السبكي 6/31 شذرات الذهب
6/42.
1 هو: الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي القاضي، أحد أعلام
المذهب الشافعي، كان جبل فقه منيعاً صاعداً، تفقه على
القفال المروزي.
قال عنه الرافعي: "وكان يقال له حبر الأمة".
توفي – رحمه الله تعالى- في المحرم سنة 462هـ.
من شعره.
إذا ما رماك الدهر يوماً بكنية
فأوسع لها صدراً وأحسن لها صبراً
فإن إله العالمين بفضله
سيعقب بعد العسر من فضله يسراً
طبقات الشافعية للسبكي
4/356-1365، شذرات الذهب 3/310، وفيات الأعيان 1/400.
2 أخرجه الإمام مسلم في حديث طويل من رواية عمرو بن جرير
بن عبد الله وفيه
"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن
ينقص من أجورهم شيء؛ ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه
وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم
شيء".
3 رواه الإمام مالك في الموطأ – كتاب السهو حديث 4 ص83-
ولفظه: "إني لأنسى أو أنسي لأسن" ورواه الغزالي بلفظ:
"إني لا أنسى ولكن أنسى لأسن"
ثم قال: وظاهر هذا الحديث أنه –صلى الله عليه وسلم- لا
ينسى بباعث البشرية، وإنما ينسيه الله ليشرع، وعلى هذا فهو
مخالف لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود
مرفوعاً
"إنما أنا بشر
أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني"
سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني 2/4.
ويبدو لي أنه لا تنافي بين الأحاديث الثلاثة، وأنها في
جملتها تفيد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- كان =
ج / 1 ص -58-
كيف
جعل السنة بما يحصل نسيانا وهو أندر شيء يكون وأما المندوب
فلا شك في عمومه لجميع ما ذكر والأصل المندوب إليه ولكنه
حذف إليه وتوسع فيه فقبل المندوب وفي السنة اصطلاح وهو ما
علم وجوبه أو ندبيته بيته بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
"والحرام ما يذم شرعا فاعله" فبقوله يذم
فاعله خرجت الأربعة وكان ينبغي للمصنف على طريقته أن يقول
قصدا لأن وطء الشبهة يصفه بعض الفقهاء بالتحريم ولا يذم
عليه الصواب حذفها من الموضعين وأما قوله في الواجب مطلقا
فلإدخال الواجب المخير والموسع وفرض الكفاية وليس ذلك في
الحرام إلا أن الآمدي1 نقل خلافا في الحرام المخير
فأصحابنا أثبتوه في نكاح الأختين والمعتزلة نفوه وكان
الباجي يقول الحق نفيه لأن المحرم الجمع بينهما كما نطق به
القرآن لا إحداهما ولا كل واحدة منهما بخلاف الواجب المخير
فإن الواجب إما أحدهما وإما كل منهما على التخيير فلذلك
الذي قال على بعض الوجوه في الواجب لم يذكرها في الحرام
ولم يحتج المصنف إلى زيادة قيد آخر وأنا أقول في الأختين
كذلك إن الحرام الجمع فقط وأثبت الحرام المخير كما أثبته
القاضي أبو بكر وغيره من الأشعرية وأمثله بما إذا أعتق
إحدى أمتيه فإنه يجوز له وطء إحداهما ويكون الوطء تعيينا
للعتق في الأخرى وكذا إذا طلق إحدى امرأتيه وقلنا الوطء
تعيين على أحد القولين ففي هذين المثالين الحرام واحدة لا
بعينها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ينسيه الله عز وجل في بعض الأمور لحكم كثيرة لأجل تعليم
الأمة وتشريع الأحكام المترتبة عليها، وأن الحديث الذي
رواه الغزالي ليس المراد منه نفي حكم النسيان بالجملة،
وإنما فيه نفي لفظه وكراهة لقبه، كقوله صلى الله عليه
وسلم:
"بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كذا، ولكنه نسى" أو نفي الغفلة وقلة الاهتمام ويؤيد ذلك قوله تعالى:
{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ
يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} الأعلى: 6-7 ه هـ. محققة.
1 هو: أبو الحسن، علي بن أبي علي محمد بن سالم التغلبي
الأمدي، أحد العلماء المبرزين في العلوم النقلية والعقلية،
من مؤلفاته في الأصول كتاب "الإحكام في أصول الأحكام"
والذي لا يستغني عنه أي باحث.
توفي رحمه الله تعالى سنة 631هـ. الأعلام للزركلي 2/694.
ج / 1 ص -59-
وقسم
القاضي الأفعال إلى متماثلة ومختلفة فالمتماثلة لا يتعلق
الأمر باثنين مبهما ولا جمعا بلا تخيير كاللونين في مكان
واحد لعدم غيرهما والمختلفان كاللون والكلام يصح الأمر
والنهي عنهما جمعا وتخييرا والضدان يجوز النهي تخييرا
والنهي عنهما جميعا ولا يصح الأمر بهما جميعا وصورة
التحريم المخير صريحا يقول حرمت هذا أو هذا وكذا لو قال لا
تفعل كذا أو لا تفعل كذا فإن قال لا تفعل أو تفعل كذا
بإسقاط أو كذا أو قال لا تفعل كذا أو كذا احتمل النهي
المخير والنهي عن كل منهما وهو في الثاني أظهر وعلى ذلك
قوله:
{وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}1 وقريب من هذا في المأخذ وإن اختلفا في الصورة قولك ما ضربت زيدا
أو عمرا محتمل فإن قلت ولا عمرا كان نصا في أنه لم يضرب
واحدا منهما وعند عدمها لا نص ولا ظهور في ذلك.
"والمكروه ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله"
فبقوله يمدح خرج الواجب والمندوب والمباح وبقوله ولا يذم
فاعله خرج الحرام وليس معنى المكروه أن الله لم يرد فعله
وإنما معناه ما ذكرناه وليس هو حسنا ولا قبيحا وفي المكروه
ثلاثة اصطلاحات:
أحدها: الحرام فيقول الشافعي أكره كذا
وكذا ويريد التحريم وهو غالب إطلاق المتقدمين تحرزا عن قول
الله تعالى:{وَلا
تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا
حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}2 فكرهوا لفظ التحريم.
الثاني: ما نهى عنه نعي تنزيه وهو المقصود
هنا.
الثالث: ترك الأولى كترك صلاة الضحى لكثرة
الفضل في فعلها والفرق بين هذا والذي قبله ورود النهي
المقصود والضابط ما ورد فيه نهي مقصود يقال فيه مكروه وما
لم يرد فيه نهي مقصود يقال ترك الأولى ولا يقال مكروه
وقولنا مقصود احتراز من النهي التزاما فإن الأمر بالشيء
ليس إلا نهيا عن ضده التزاما فالأولى مأمور به وتركه منهي
عنه التزاما لا مقصودا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإنسان 24.
2 سورة النحل 116.
ج / 1 ص -60-
"والمباح ما لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم"
لا بد من الإتيان بلا بين الفعل والترك وبين المدح والذم
وبذلك تخرج الأحكام الأربعة فإن الواجب يتعلق بفعل مدح
وبتركه ذم والحرام عكسه والمندوب يتعلق بفعله مدح ولا ذم
في تركه والمكروه يتعلق بتركه مدح ولا ذم في فعله هذا تمام
الرسوم وفيها زيادة على ما اقتضاه التقسيم من تعريف
حقائقها وهي فائدة جليلة كما إذا رأينا فعلا لم يرد في
الشرع في فعله مدح ولا ذم ولا في تركه أو ورد مدح أو ذم
فيحكم بمقتضى ذلك وإن لم تأت صيغة طلب ولا تخيير وقد تقدم
التنبيه على أنه لا بد من التقييد في الشرع في الكل وقد
تعرض له الإمام في المندوب وصاحب الكتاب تعرض له في الواجب
والحرام لأن الذم فيهما وكما أن الذم الذي ثبوته علامة
الواجب والحرام هو الذم الشرعي وهو أخص من انتفاء الذم
مطلقا فبدون هذا القيد يكون الرسم غير جامع لخروج المباحات
التي انتفى الذم الشرعي فيها ووجد فيها ذم عقلي أو عرفي
وأعني بالتقييد أن يكون كل من الوصفين المذكورين في طرفي
الأحكام الثلاثة ثابتا بالشرع والتنبيه لذلك في قول المصنف
المباح ما لا يتعلق بفعله وبتركه مدح ولا ذم إن أراد به
عرف من الشرع انتفاء ذلك فصحيح وإن أراد أنه لم يوجد في
الشرع مدح ولا ذم كذلك فلا يلزم كونه مباحا فقد يكون باقيا
على حكم الأشياء قبل ورود الشرع ولذلك قال الإمام المباح
ما علم فاعله أنه لا حرج في فعله ولا في تركه ولا نفع في
الآخرة وقول الإمام هذا احتراز عن فعل البهيمة وغير المكلف
فلا يكفي في الإباحة عدم الحكم بذلك بل الحكم بعدمه ويحتاج
في المندوب والمكروه أن يأتي بقوله شرعا في طرفي الفعل
والترك جميعا وتصحيح كلام المصنف أن يحمل على أنه أراد ذلك
فإنه محتمل له على أني أقول إن ما لم يوجد في الشرع دليل
على مدح ولا ذم في فعله ولا في تركه مباح بأدلة شرعية
وإنما أورد عليه فعل غير المكلف كالساهي والنائم والبهائم
وطريق الاعتذار عنه ما ذكرته أو يقال إنه إنما يتكلم في
فعل المكلف.
ج / 1 ص -61-
التقسيم الثاني للحكم باعتبار الحسن والقبيح
"الثاني ما
نهى عنه شرعا فقبيح وإلا فحسن كالواجب والمندوب والمباح
وفعل غير المكلف".
الحكم ينقسم بذاته إلى التحسين والتقبيح وتنقسم صفة الفعل
الذي هو متعلقه إلى الحسن والقبيح ويتبع ذلك انقسام اسمه
إلى حسن وقبيح فلذلك قسم الفعل إلى ما نهى عنه شرعا وهو
القبيح وما لم ينه عنه شرعا وهو الحسن ومنه يعرف الحسن
والقبيح والتحسين والتقبيح وإطلاق الحسن على الواجب
والمندوب لا شك فيه وعلى المباح فيه خلاف والأصح إطلاقه
عليه للإذن فيه والجواز الثناء على فاعله وإن لم يؤمر
بالثناء عليه وفعل الله تعالى حسن باتفاق من به يعتمد
لوجوب الثناء عليه وفعل ما سواه من غير المكلف كالنائم
والساهي والبهيمة فيه خلاف مرتب على الخلاف في المباح
وأولى بالمنع وهو الذي اختاره إمام الحرمين1 ولا شك في عدم
إطلاق القبح في المباح وفعل غير المكلف فإذا أخرجناهما عن
قسم الحسن كانا واسطة بين الحسن والقبح وأما المكروه فقال
إمام الحرمين إنه ليس بحسن ولا قبيح فإن القبيح ما يذم
عليه وهو لا يذم عليه والحسن ما يسوغ الثناء عليه وهذا لا
يسوغ الثناء عليه ولم أر أحدا يعتمد خالف إمام الحرمين
فيما قال إلا ناسا أدركناهم قالوا إنه قبيح لأنه منهى عنه
والنهي أعم من نهي تحريم وتنزيه وعبارة المصنف بإطلاقها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، الفقيه،
الشافعي، شيخ الإمام الغزالي، ولد سنة 419هـ وتوفي
بنيسابور سنة 478هـ.
طبقات الشافعية للإسنوي 4091- الأعلام للزركلي 2/598.
ج / 1 ص -62-
تقتضي
ذلك وليس أخذ الحكم المذكور من هذا الإطلاق بأولى من رد
هذا الإطلاق بقول إمام الحرمين.
فإن قلت: إدراج المصنف وغيره لفعل غير المكلف لا يتعلق به
الحكم لأن الحكم هو المتعلق بأفعال المكلفين قلت: الفعل
الذي هو متعلق الحكم والفعل الحسن بينهما عموم وخصوص من
وجه فقسمنا الأول إلى حسن وغيره والحسن من هذه القسمة لا
يشمل فعل غير المكلف ثم قسمنا مسمى الحسن مطلقا إلى فعل
المكلف وغيره مما ليس متعلقا بالحكم فخرج من التقسيمين أن
الواجب والمندوب والمباح من قسم الحسن المحكوم فيه وأن فعل
غير المكلف من قسم الحسن غير المحكوم فيه وهذا شأن العام
من وجه حيث وقع وإنما يلزم أن يكون المقسم إلى المقسم إلى
الشيء صادقا على ذلك الشيء مطلقا إذا كان التقسيم في الأعم
والأخص مطلقا.
"والمعتزلة قالوا ما ليس للقادر عليه العالم بحاله أن
يفعله وما له أن يفعله وربما قالوا الواقع على صفة توجب
الذم والمدح فالحسن بتفسيرهم الأخير أخص".
يعني أن المعتزلة قالوا إن القبيح ما ليس للقادر عليه
للعالم بحاله أن يفعله والحسن ما للقادر عليه العالم بحاله
أن يفعله هذا تفسيرهم الأول والإمام نقله عن أبي الحسين1
واعترض عليه بأن قولك ليس له أن تفعله تقال للعاجز عن
الفعل للقادر عليه إذا منع منه وإذا كان شديد النفرة وإذا
زجره الشرع عنه والأولان غير مرادين ولا الثالث لأن الفعل
قد يكون حسنا مع النفرة الطبيعية عنه والرابع يصير القبيح
مفسرا بالمنع الشرعي يعني وهو قولنا وأنتم لا تقولون به
فصار الحد غير كاشف عن مرادكم وأصل هذا أن صفة الحسن
والقبح عندهم بالعقل وعندنا بالشرع فلا بد لهم من بيانها
وذكر الإمام تفسيرهم الأخير أيضا عن أبي الحسين واعترض
عليه بأنه يجب تفسير الاستحقاق فقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: محمد بن علي الطيب، القاضي أبو الحسن البصري، شيخ
المعتزلة، ولد بالبصرة وسكن بغداد، من مؤلفاته في علم
الأصول "المعتمد" شرح "العمد" للقاضي عبد الجبار.
توفي سنة 426هـ وفيات الأعيان 1/609- شذرات الذهب 3/259.
ج / 1 ص -63-
يقال:
الأثر يستحق المؤثر أي يفتقر إليه لذاته والمالك يستحق
الانتفاع بملكه أي يحسن منه والأول ظاهر الفساد والثاني
يقتضي تفسير الاستحقاق بالحسن مع أنه فسر الحسن بالاستحقاق
حيث قال الحسن هو الذي لا يستحق فاعله الذم فيلزم الدور
فإن أراد معنى ثالثا فليبينه ثم نازعهم في تفسير الذم قال
وهذه الإشكالات غير واردة على قولنا والمصنف أخذ معنى الحد
الثاني دون لفظه ومراده أن القبيح هو الواقع على صفة توجب
الذم والحسن هو الواقع على صفة توجب المدح وفي بعض نسخ
المنهاج "فالحسن بتفسيرهم أخص" وفي بعضها "فالحسن بتفسيرهم
الأخير أخص" وكلاهما صحيح فإن الحسن بتفسيرهم الأخير أخص
منه بتفسيرهم الأول لدخول المباح في الأول دون الأخير
والحسن بتفسيرهم أخص منه بتفسيرنا لدخول فعل غير المكلف في
تفسيرنا دون تفسيرهم ولم يتعرض للقبيح ما حاله على
التفسيرين ولا شك أنه بالتفسير الأخير لا يقع على غير
الحرام وبتفسيرهم الأول هل يختص به فيستوي على التفسيرين
أو يقع عليه وعلى المكروه فيكون بتفسيرهم الأخير أخص
كالحسن فيه احتمال والأقرب الأول وقد نقل إمام الحرمين عن
بعض المعتزلة أنه ارتكب إطلاق القبيح على فعل البهيمة وهذا
يخالف التفسيرين ولعله يرتكب ذلك في الحسن.
ج / 1 ص -64-
التقسيم الثالث للحكم إلى السبب والمسبب
"الثالث:
قيل الحكم إما سبب وإما مسبب كجعل الزنا سببا لإيجاب الجلد
على الزاني فإن أريد بالسببية الإعلام فحق وتسميتها حكما
بحث لفظي وإن أريد التأثير فباطل لأن الحادث لا يؤثر في
القديم ولأنه مبني على أن للفعل توجب الحسن والقبح وهو
باطل.
هذا تقسيم آخر للحكم باعتبار أنه كما يكون بالاقتضاء أو
التخيير يكون بالوضع كجعل الزنا سببا وقد تقدم الكلام في
هذا في تعريف الحكم وهذا التقسيم منسوب إلى الأشعرية وهو
مطرد في كل حكم عرفت علته فلله فيه حكمان.
أحدهما: الحكم بالسببية واختلف الناس في
جواز القياس:
والثاني: الحكم بالمسبب والقياس عليه جائز
باتفاق القايسين واتفق الأشعرية على أنه ليس المراد من
الأول كون السبب موجبا للحكم لذاته أو لصفة ذاتية بل
المراد منه إما المعرف وعليه الأكثرون وإما الموجب لا
لذاته أو لصفة ذاتية ولكن يجعل الشرع إياه موجبا وهو
اختيار الغزالي والإمام وافق الأكثرين معنى وخالفهم لفظا
وخالف العزالي معنى ولفظا وإلى موفقة الأكثرين في المعنى
دون اللفظ أشار المصنف بقوله "فإن أريد بالسببية الإعلام
فحق وتسميتها حكما بحث لفظي" وإلى مخالفة الغزالي لفظا
ومعنى أشار ببقية كلامه فإن الإمام زيف كلام الغزالي من
ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الزنا حادث والإيجاب قديم
والحادث لا يؤثر في القديم.
ج / 1 ص -65-
الثاني: أن الزنا قبل الجعل لم يكن مؤثرا فإن بقي بعد الجعل كما كان وجب
ألا يصير مؤثرا وإن لم يبق كان إعداما لتلك الحقيقة والشيء
بعد عدمه لا يكون مؤثرا.
الثالث: أنه لو جعل الزنا علة فالصادر بعد
الجعل إما الحكم فالمؤثر في الحكم هو الشارع فلم يكن الزنا
مؤثرا وإما شيء يوجب الحكم فيكون المؤثر في الحكم وصفا
حقيقيا وهو قول المعتزلة في الحسن والقبح وهو باطل وإن لم
يكن الحكم ولا ما يوجبه فهو محال لأن الشرع لما أثر في شيء
غير الحكم وغير مستلزم للحكم لم يكن لذلك الشيء تعلق
بالحكم أصلا والمصنف اقتصر على الأول وأخذ أقسام الثالث
لأنها صفوة الكلام قال سراج الدين1 "ولقائل أن يقول على
الأول لعلهم أرادوا جعل الزنا سببا لتعلق الحكم به وعلى
الثاني أنه يجوز بقاء الحقيقة مع طريان صفة المؤثرية به
وعلى الثالث أن الصادر من الشارع وهي غيرهما ولهما تعلق
بالحكم" ولك أن تقول على الأول إن التعلق قديم فالسؤال
بحاله وعلى الثاني إن المؤثرية نسبة والمؤثر لا بد أن
يشتمل على صفة حقيقية لأجلها يصدر الأثر عنه والمؤثرية
بدون ذلك محال وعلى الثالث أن المؤثرية بدون صفة حقيقية
محال لما سبق ومعها يوافق قول المعتزلة وكلام الإمام يرشد
إلى هذا فإنه قال إن كان الصادر ما يوجب الحكم كان المؤثر
في الحكم وصفا حقيقيا فدخل في قوله ما يوجب الحكم المؤثر
والمؤثرية ولذلك لم يقل كان وصفا حقيقيا بل قال كان المؤثر
في الحكم فأخذ الإمام على التقديرين وقال إنه هل يعقل
تأثير من غير أن يكون المؤثر مؤثرا بذاته أو بصفة قائمة أو
لا يعقل ذلك وعلى هذا ينبني كون العبد موجدا لفعل نفسه
باقدار الله تعالى له وخلقه له ما يقتضي تأثيره في الفعل
من غير أن يكون العبد مؤثرا بذاته وبصفة ذاتية فأصحابنا
ينكرون ذلك ويقولون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمود بن أبي بكر الأرموي المتوفى سنة 682هـ اختصر
كتاب "المحصول" للإمام الرازي في كتاب سماه "التحصيل" وعلى
هذا الكتاب شرح للإمام محمد بن يوسف الجزري المتوفى سنة
711هـ لكنه مفقود لم أعثر عليه بعد البحث الطويل.
معجم المطبوعات ص919.
ج / 1 ص -66-
الصادر
عنه فعل الله والمعتزلة لا يتحاشون من القول بتأثيره بذاته
أو بصفة وشذوذ منا توسطوا فقالوا بمثل ما قالوا به هنا في
الحكم بالسببية ويلزمهم ما لزم هذا ما يتعلق بكلام الإمام
وأما المصنف وقوله أنه ينبني على أن للفعل جهات توجب الحسن
والقبح فيحتاج إلى مقدمة وهي أن المعتزلة مع إجماعهم على
القول بالحسن والقبح العقليين افترقوا فطائفة منهم قالوا
إن الفعل لذاته يكون حسنا أو قبيحا من غير صفة وطائفة
قالوا بصفة وطائفة قالوا بوجوه واعتبارات وهو الذي أشار
إليه المصنف ويلزم من بطلان قولهم في ذلك بطلان قولهم في
الصفة وفي الذات من طريق الأولى فما سلكه أتم في الزام
مذهب المعتزلة مما سلكه الإمام في الصفة لأنه قد لا يوافق
قائل هذه المقالة المعتزلة في الذات والصفة الحقيقية
ويوافقهم في الوجوه والاعتبارات فإذا بين بطلان قولهم فيه
بطل قوله والمراد بالوجوه أن الوطء مثلا له جهة نكاح وجهة
زنا فيحسن بالأولى ويقبح بالثانية.
ج / 1 ص -67-
التقسيم الرابع للحكم باعتبار الصحة والفساد
"الرابع: الصحة استتباع
الغاية وبإزائها البطلان والفساد وغاية العبادة موافقة
الأمر عند المكلمين وسقوط القضاء عند الفقهاء فصلاة من ظن
أنه متطهر صحيحة على الأول لا الثاني".
تفسير الصحة باستتباع الغاية جيد من جهة كونه شاملا
للعبادات والمعاملات إلا أن الأولى في تحرير العبارة أن
يقال كون ذلك الشيء يستتبع غايته فإن استتباع الغاية يقتضي
حصول التبعية وقد يتوقف ذلك على شرط كالعقد في زمن الخيار
وكونه يستتبع الغاية صحيح وإن توقفت التبعية على شرط لأن
معناه أنه بهذه الحيثية وتفسير المتكلمين جيد لأن الصحة في
اللغة مقابلة للمرض وعلى هذا النحو ينبغي أن يكون في
الاصطلاح فما وافق الأمر لا خلل فيه فيسمى صحيحا وجب قضاؤه
أم لم يجب وما لم يوافق الأمر فيه خلل فيسمى فاسدا والخلاف
بين الفريقين في التسمية ولا خلاف في الحكم وهو وجوب
القضاء على من صلى ظانا الطهارة فتبين حدثه إذا كانت
الصلاة فريضة وتسمية الفقهاء إياها فاسدة ليس لاعتبارهم
سقوط القضاء في حد الصحة كما ظنه الأصوليون بل لأن شرط
الصلاة الطهارة في نفس الأمر والصلاة بدون شرطها فاسدة ولا
مأمور بها بل هو ظن أنه متطهر فترتب عليه الحكم بمقتضى ظنه
وأمره ظاهرا بها كأمر المجتهد المخطئ بما ظنه وغايته أنه
سقط عنه الإثم وأما أنه أتى بالمأمور به فلا وقولهم إن
المامور به صلاة على مقتضى ظنه فممنوع بل صلاة على شروطها
في نفس الأمر ويسقط عنه الإثم بظنه وجودها وقد رأينا
الفقهاء قيدوا فقالوا كل من صحت صلاته صحة مغنية عن القضاء
جاز الاقتداء به وهذا التقييد يقتضي انقسام الصحة إلى ما
ج / 1 ص -68-
يغني
عن القضاء وما لا يغني وقالوا فيمن لم يجد ماء ولا ترابا
إنه يصلي على حسب حاله ويقضي وحكى إمام الحرمين في هذه
الصلاة هل توصف بالصحة أو الفساد وجهين وهو غريب والمشهور
وصفها بالصحة وكيف نأمره بالإقدام على صلاة يحكم بفسادها
هذا لا عهد به وليس بمثابة الإمساك تشبها بالصائمين.
والفرق بين هذه الصلاة وصلاة من ظن الطهارة أن هذا عالم
بحاله والظان جاهل فالعالم أتى بجميع ما كلف به الآن وبقي
شرط أسقط عنه لعجزه ووجب استدراكه بعد ذلك بالقضاء والظان
لم يأت بما هو الآن فريضة فالصواب أن يكون حد الصحة عند
الفريقين موافقة الأمر غير أن الفقهاء يقولون ظان الطهارة
مأمور بها مرفوع عنه الإثم بتركها والمتكلمون يقولون ليس
مأمورا فلذلك يكون صلاته صحيحة عند المتكلمين لا الفقهاء
ومن أمرناه بصلاة بلا طهارة ولا تيمم حيث يجب القضاء صحيحة
على المذهبين وإن أوجب القضاء فليس كل صحيح يسقط.
واقتصر المصنف على غاية العبادة لذكر الخلاف ولم يذكر غاية
العقود والمراد من كون العقد صحيحا عند المتكلمين على ما
اقتضاه كلام القاضي أبي بكر وقوعه على وجه يوافق حكم الشرع
من الإطلاق له وعند الفقهاء كونه بحبث يترتب أثره عليه وهو
معنى إطلاقهم ترتب أثره.
والباطل هو الذي لا يترتب أثره عليه والبطلان والفساد
لفظان مترادفان والإزاء والحذاء والمقابل ألفاظ مترادفة
وجعل المصنف هذا تقسيما رابعا للحكم يقتضي أن الصحة
والبطلان حكمان شرعيان ويكون الحكم تارة بالصحة وتارة
بالبطلان وقد تقدم الكلام في رده إلى الاقتضاء والتخيير أو
في كونه زائدا عليه وخالف ابن الحاجب1 الجمهور فقال إن
الصحة والبطلان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، المشهور بابن
الحاجب، نشر العلم بين ربوع مصر وإسنا والقاهرة
والإسكندرية والشام حتى توفي سنة 646هـ.
وله العديد من المؤلفات، ومن أشهرها في الأصول "منتهى
السول والأمل في علمي الأصول والجدل" وقد اختصره في كتاب
آخر سماه "مختصر منتهى السول والأمل" وقد طبع عدة طبعات
ووضع عليه العلماء الشروح والحواشي.
ابن خلكان 1/314، الأعلام للزركلي 2/629.
ج / 1 ص -69-
أو
الحكم بهام أمر عقلي وقال في المنتهى "القول بأن الحكم
بالصحة والبطلان حكم شرعي بعيد" وحجته أن الموافقة أمر
عقلي وقد فسرنا الصحة بها وأورد عليه أن العقلي ما لا مدخل
للشرع فيه وهذا للشرع فيه مدخل فتسميته شرعيا غير بعيد
وفهم بعض من شرح كتابه أنه لا يطرد قوله في صحة العقود لأن
ترتب الأثر شرعي ولا يبعد طرده لأن الصحة ليست ترتب الأثر
بل كونه بحيث يترتب الأثر عليه ومعنى ذلك وقوعه على وجه
مخصوص وذلك أمر عقلي لكن تسميته شرعيا باعتبار أن للشرع
مدخلا كما قلنا في العبادات.
وأعلم أن الإمام وأتباعه ومنهم المصنف أنكروا كون الصحة
حكما زائدا على الاقتضاء والتخيير وأنكروا الحكم بالسببية
كما سبق في الموضعين فلم يبق للصحة معنى عندهم في العقود
إلا إباحة الانتفاع وهو شرعي ومن يفسر الصحة بكونه مبيحا
للانتفاع يلزمه أن يوافق الغزالي في الحكم بالسببية أو
يقول إنها عقلية وحكم القاضي مثلا بصحة عقد إنما يصح إذا
قصد المعنى الشرعي لأنه الذي يثبته القاضي بخلاف الأمر
العقلي وليس للقاضي أن يحكم إلا بما يصح أن يكون حكما من
الشارع من اقتضاء أو تخيير أو خطاب وضع إن قلنا به وإذا
جعلت الصحة عقلية لم يكن للقاضي الحكم بها بل بأثر الصحيح.
"وأبو حنيفة ما لم يشرع بأصله ووصفه كبيع الملاقيح باطلا
وما شرع بأصله دون وصفه كالزنا فاسدا"
عند الحنفية إن كان العوضان غير قابلين للبيع كبيع
الملاقيح بالدم مثلا فهو باطل قطعا وكذا إن كان المبيع
وحده كبيع الملاقيح بالدراهم على الصحيح عندهم وإن كانا
قابلين للبيع ولكن جاء الخلل من أمر آخر كبيع درهم بدرهمين
كل من العوضين قابل للبيع والخلل من الزيادة فهو فاسد قطعا
وكذا إن كان الثمن فقط كبيع ثوب بدم على الصحيح عندهم
والفاسد عندهم إذا اتصل بالقبض يفيد الملك الخبيث والباطل
لا يفيد شيئا وعندنا الباطل والفاسد سواء في المعنى والحكم
ولا يفيد شيء منهما الملك.
ج / 1 ص -70-
والملاقيح ما في بطون الأمهات وقد علمت المراد بأصله وهو
كون المبيع يصح بيعه ووصفه هو الصحيح
وأما فرق أصحابنا بين الباطل والفاسد في الكتابة فلا يضرنا
في نصب الخلاف في البيع ومحل الرد عليهم في ذلك كتب الفقه
وكتب الخلاف.
ج / 1 ص -71-
تعريف الأجزاء
"والأجزاء
هو الأداء الكافي التعبد به وقيل سقوط القضاء ورد بأن
القضاء حينئذ لم يجب لعدم الموجب فكيف سقط فإنكم تعللون
سقوط القضاء به والعلة غير المعلول"
لما كان الإجزاء معناه قريب من معنى الصحة ذكره معها ولم
يفرده بتقسيم ولكن الصحة أعم فإنها تطلق على المعاملات ولا
يطلق الإجزاء في المعاملات.
وقوله الأداء يجب حمله على الأداء اللغوي لأن الإجزاء كما
يكون في الأداء يكون في القضاء والإعادة فلو قال الفعل كان
أحسن والضمير في به يعود على الأداء وما أورده من أن
القضاء إذا لم يجب لا يقال سقط صحيح وهو وارد من حد الصحة
بسقوط القضاء أيضا وما أورده من تعليل سقوط القضاء
بالإجزاء تبع فيه الحاصل وعبارة المحصول لأنا نعلل وجوب
القضاء بأن الفعل الأول لم يكن مجزئا والعلة مغايرة
للمعلول فظن بعض الناس أنه انقلب على الإمام وكان الباجي
يقول إنها إحدى عقد المحصول ويحتج بحلها زاعما أنه لو ادعى
تعليل سقوط القضاء بالإجزاء منعه الخصم وقال هذا عين
النزاع فأخذ مقابلها وأثبت التغاير بينهما وهو خارج عن محل
النزاع ثم ينقل التغاير إلى محل النزاع لثبوت تغاير
المقابلين ومن ضرورة ذلك تغاير مقابليهما و وأيا ما كان
فقد أورد عليه أن العلة قد تكون لشيء وقد تكون لحكمنا كما
إذا قلت هذا إنسان وسئلت لم حكمت عليه بذلك فتقول لأنه
حيوان ناطق فالمغايرة هنا بين العلة وحكمك لا بينها وبين
المحكوم به وهذا الإجزاء عن لحكمنا بسقوط القضاء لا لسقوط
القضاء نفسه وليس هذا بالقوى.
في المحصول إيراد ثالث وهو أنه لو أتى بالفعل عند اختلال
بعض
ج / 1 ص -72-
شرائطه
ثم مات لم يكن الفعل مجزئا مع سقوط القضاء ولك أن تمنع
سقوط القضاء هنا بل يبقى في ذمته إن كان مفرطا.
وقول المصنف لعدم الموجب يعني أن القضاء إنما يجب بأمر
جديد بعد خروج الوقت إذا ترك ولم يوجد.
"وإنما يوصف به وبعدمه ما يحتمل وجهين كالصلاة لا المعرفة
ورد الوديعة".
الصلاة تقع تارة على وجه يكفي في سقوط التعبد بها وتارة
على وجه لا يكفي فوصفت بالأجزاء وبعدمه لاحتمالها للوجهين
المذكورين وأما المعرفة فلا يقال فيها مجزئة وغير مجزئة
لأنه إن تعلق العلم بالله تعالى فهو المعرفة وإلا فلا
معرفة بل الجهل وكذلك رد الوديعة والمغصوب إن حصل إلى
المالك أو وكيله برئ وإلا فلا رد وقال الأصفهاني1 في شرح
المحصول إنه لا يقال في العبادة المندوب إليها إنها مجزئة
أو غير مجزئة وهذا الذي قاله بعيد وكلام الفقهاء يقتضي أن
المندوب يوصف بالإجزاء كالفرض وقد ورد في الحديث:
"أربع لا تجزئ في الأضاحي"2
واستدل به من قال بوجوب الأضحية وأنكر عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: محمد بن محمود بن محمد بن عياد السلماني، أبو عبد
الله الأصفهاني من فقهاء الشافعية بأصفهان، ولد وتعلم بها،
ثم رحل إلى بغداد والشام وتولى قضاء "نبج" وقوص بصعيد مصر،
ثم استقر آخر الأمر بالقاهرة مدرساً.
من مؤلفاته: شرح المحصول في أصول الفقه، والقواعد في أصول
الفقه والدين والمنطق والجدل.
توفي سنة 688هـ.
البداية والنهاية 13/315، الأعلام 7/308-309.
2 وتمام الحديث كما رواه الترمذي وحسنه، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:
"أربع لا تجزيء في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البين
مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تنقى" العجفاء التي ذهب مخها من شدة الهزال.
ويلحق بهذه الأربعة:
1- الغضباء: التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها.
2- الهتماء: وهي التي ذهبت ثنايا من أصلها.
3- العصماء: وهي التي انكسر غلاف قرنها.
4- العمياء: التي لا ترى.
5- التولاء: وهي التي تدور في المرعى ولا ترعى.
فقها لسنة 3/322 طبعة بيروت.
ج / 1 ص -73-
وفي
حديث أبي بردة "يجزئ عنك"1
ضبطه ابن الأثير بالوجهين بضم الياء مع الهمزة وفتحها مع
الياء يقال: أجزأ بمعنى كفى وجزا بمعنى قضى ولا توصف
المعاملات بالأجزاء وإنما يوصف به ما كان مأمورا به فالصحة
أعم محلا منه لأنها تكون في المعاملات والعبادات ولا يوصف
بها أيضا إلا ما يحتمل وجهين أن يقع صحيحا وفاسدا كالصلاة
والعقود فإنها إن وقعت مستجمعة الأركان والشروط كانت صحيحة
وإن وقعت على غير ذلك الوجه كانت فاسدة بخلاف المعرفة ليس
لها إلا وجه واحد وهو إذا جعلنا اسم الصلاة موضوعا للصحيح
والفساد ظاهر وأما إذا قلنا هو موضوع للصحيح فقط ولا يطلق
على الفاسد إلا مجازا فإنه لا يكون لها إلا وجه واحد
فكأنهم نظروا إلى المعنى الأعم الموجب للإطلاق المجازي
وجعلوه مورد التقسيم إلى الصحيح وغيره ولا يرد هذا السؤال
في الإجزاء لإنقسام الصحيح إلى مجزئ وغير مجزئ كصلاة
المتيمم في الحضر ونحوه.
وعند أبي حنيفة كل صلاة وجب قضاؤها لا يجب أداؤها وكل صلاة
يجب أداؤها لا يجب قضاؤها فيستوي عنده الصحة والإجزاء
فيكون انقسام العبادة إليها بالإعتبار الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولفظ الحديث- كما رواه أبو داود- عن أبي بردة بن نيار
أنه قال يا رسول الله: إن عندي عناقاً جذعاً هي خير من
شاتي لحم، فقال صلى الله عليه وسلم:
"تجزئك ولا تجزيء عن أحد بعدك".
فقد أفاد هذا الحديث أن العناق وهي: الأنثى من أولاد المعز
والغنم من حين الولادة إلى تمام الحول، لا تجزيء في
الأضحية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، بين في هذا
الحديث أنها تجزيء عن أبي بردة وحده، لخصوصية قد لا توجد
في غيره، ومن هنا نص علماء الأصول على أن هذا الحكم مقصور
على من قيل في حقه الحديث المتقدم. اهـ. محققة.
ج / 1 ص -74-
التقسيم الخامس للحكم إلى الأداء والإعادة والقضاء
"الخامس العبادة إن وقعت في وقتها المعين ولم تسبق بأداء
مختل وإلا فإعادة وإن وقعت بعده ووجد فيه سبب وجوبها فقضاء
وجب أداؤه كالظهر المتروكة قصدا أو لم يجب وأمكن كصوم
المسافر والمريض أو امتنع عقلا كصلاة النائم أو شرعا كصوم
الحائض".
هذا تقسيم آخر للعبادة التي هي متعلق الحكم ويصح جعله
تقسيما للحكم من جهة أن الأمر قد يكون بالإعادة.
وقوله: العبادة يشمل الفرض والنفل فكل منهما إذا كان مؤقتا
يوصف بالثلاثة وزعم بعضهم أنه لم يوصف بشيء من الثلاثة إلا
الواجب وزعم بعضهم أن القضاء لا يوصف به إلا الواجب وكل
ذلك خطأ والصواب أن الواجب والمندوب كل منهما يوصف بالأداء
والإعادة والقضاء.
وقوله: إن وقعت لو قال إن أوقعت كان أحسن لأن الأداء
والإعادة والقضاء أنواع للإيقاع لا للوقوع لكن لك أن تنتصر
لتصحيح كلامه بأن العبادة فعل الفاعل ففعلها وإيقاعها
وأداؤها ووقوعها سواء.
وقوله: في وقتها المعين الأحسن عندي في تفسيره أنه الزمان
المنصوص عليه لفعلها من جهة الشرع فإن المأمور به تارة
يعين الأمر وقته كالصلوات الخمس وتوابعها وصيام رمضان
وزكاة الفطر فإن جميع ذلك قصد فيه زمان معين وتارة يطلب
الفعل من غير تعرض للزمان وإن كان الأمر يدل على الزمان
بالالتزام ومن ضرورة الفعل وقوعه في زمان ولكنه ليس مقصودا
للشارع ولا مأمورا به قصدا فالقسم الأول يسمى مؤقتا والقسم
الثاني يسمى غير مؤقت وسواء قلنا في القسم الثاني إن الأمر
يقتضي الفور والتراخي أو كان قد
ج / 1 ص -75-
دل على
ذلك قرينة كإنقاذ الغريق ونحو ذلك وإلا فإن المقصود من هذا
كله إنما هو الفعل من غير تعرض إلى الزمان والقسم الأول
قصد فيه الفعل والزمان إما لمصلحة اقتضت تعيين ذلك الزمان
وإما تعبدا محضا والقسم الثاني ليس فيه إلا قصد الفعل
فالقسم الثاني لا يوصف فعله بأداء ولا قضاء لأنهما فرعا
الوقت ولا وقت له وينبغي أن يوصف بالإعادة إذا تقدم فعل
مثله على ما سأبينه.
ومن هذا القسم الإيمان فإنه لا وقت له والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وإن كان وقته وقت سببه ولكنه ليس وقتا
معينا من حيث هو وإنما هو حضوره وكذا زكاة المال إذا حال
الحول كل هذه واجبات فورية غير مؤقتة وكذا الواجبات على
التراخي بلا حد وقد أطلق الفقهاء على الحج الأداء متى أوقع
حجة الإسلام في عمره والقضاء في صورتين:
أحداهما: إذا قضي عنه بعد موته.
والثانية: إذا حج العبد وأفسد حجه ثم عتق
فحج عن حجة الإسلام ثم عن القضاء.
وعندي أن إطلاقهم الأداء والقضاء في ذلك بطريق المجاز فإن
الحج من القسم الثاني الذي لم يقصد فيه غير الفعل وإن وسع
فيه مدة العمر عندنا أو ضيق وجب فيه الفور عند غيرنا فإن
ذلك لا يصير الوقت مقصودا فيه وأما إذا أفسد حجة الإسلام
وأمرناه بقضائها فقد صرحوا أن ذلك ليس بقضاء يعنون بل هو
أداء معاد.
وإذا عرفت هذا فلنتكلم في مقصودنا وهو القسم الأول مؤقت
بوقت معين سواء كان مضيقا كصوم رمضان أو موسعا كالصلاة فإن
فعل في وقته فهو أداء سواء فعله مرة أخرى قبل ذلك أم لا
هذا هو الذي تختاره وهو مقتضى إطلاقات الفقهاء ومقتضى كلام
الأصوليين القاضي أبي بكر في التقريب والإرشاد والغزالي في
المستصفى والإمام في المحصول ولكن الإمام لما أطلق ذلك ثم
قال إنه إن فعل ذلك ثانيا بعد ذلك سمي إعادة ظن صاحبا
الحاصل والتحصيل أن هذا مخصص للإطلاق المتقدم فقيداه
وتبعهما
ج / 1 ص -76-
المصنف
فإنه كثيرا ما يتبع الحاصل وليس لهم مساعد من اطلاقات
الفقهاء ولامن كلام الأصوليين فالصواب أن الأداء اسم لما
وقع في الوقت مطلقا مسبوقا كان أو سابقا أو منفردا وقد قال
القاضي حسين من الشافعية إنه إذا شرع في الصلاة ثم أفسدها
ثم صلاها في وقتها كانت قضاء وتبعه غيره على ذلك ومأخذه في
ذلك أنه لما شرع فيها تعين ذلك الوقت لها حتى لا يجوز له
الخروج منها ولم يبق لها وقت شروع وإنما بقي وقت استدامة
فإذا أفسدها أو فسدت وقد فات وقت الشروع لم يكن فعلها بعد
ذلك إلا قضاء لأن وقت الاستدامة وحده لا يكفي ولا يكون إلا
مبنيا على وقت الشروع كما أن المغرب عند العراقيين من
أصحابنا لها وقت ابتداء بقدر ما يشرع فيها ووقت استدامة
فإذا أخرها مقدار الشروع صارت قضاء عندهم وإن بقي قدر
ركعتين وشيء.
هذا مأخذ القاضي حسين ومع ذلك هو مردود بوجهين:
أحدهما: على رأي الإمام والغزالي أعني
قولهما إنه يجوز الخروج من الفريضة إذا أمكن تداركها في
الوقت فلا يصح ما احتج به له.
والثاني: أن تعين ذلك الوقت بالشروع بفعله
لا بأمر الشرع له أن يفعله وبهذا فارقت المغرب وبما ذكرناه
من مأخذ القاضي حسين يعلم أنه ليس مخالفا لما ذكرنا في حد
الأداء فإنه إنما قال بالقضاء وعدم الأداء لظنه أن الوقت
قد خرج فلا مخالفة في المصطلح وإذا قلنا بقول القاضي حسين
فلو دخل في الجمعة ثم أفسدها وأراد إعادتها في الوقت فعلى
مقتضى قول القاضي يكون قضاء فإن قال بأنه يعيدها جمعة وهو
الذي يظهر فيدخل القضاء في جمعة ولم أر أحدا من الأصحاب
تعرض له وإن قال أنه يعيدها ظهرا فبعيد لأن وقت الجمعة على
الجملة باق.
وقول المصنف: "وإلا فإعادة" أي وإن سبقت بأداء مختلف
فإعادة ومراده بالمختل ما فقد ركنا أو شرطا هكذا صرح
القاضي أبو بكر فمعنى المختل الفاسد فالإعادة على قول
المصنف في الوقت فعل مثل ما مضى فاسدا وقد يورد على هذا
بأن الثاني صحيح فليس مثلا للفاسد ويجاب بأنهما اشتركا في
الحقيقة الموصوفة بالصحة والفساد وجعل اسم الصلاة شاملا
للصحيح والفاسد
ج / 1 ص -77-
"حقيقة أو مجازا" ولو صلى في أول الوقت صلاة صحيحة ثم صلاها في
الوقت إما على وجه أكمل من الأول أو على خلافه فكلام
الأصوليين يقتضي أنها لا تسمى إعادة بل أداء والأقرب إلى
إطلاقات الفقهاء أنه تصدق الإعادة عليها واللغة تساعد على
ذلك فليكن هذا هو المعتمد ولا يجئ مثل هذا في الصوم ولا في
الحج فان من حج صحيحا ثم حج تائبا كانت حجته الأولى غير
الثانية بخلاف الصلاة فان الثانية هي الأولى ولهذا ينوي
فيه الفرض ولعل الأصوليين لا يوافقون على نية الفرض في
الثانية ويقولون إن الثانية صلاة مبتدأة فلذلك عرفوا
الإعادة بما ذكروه ولكن نفس الشريعة تخالفه ولو حج فاسدا
ثم حج فقد قلنا إنه لا يسمى قضاء حقيقية وأما تسميته إعادة
فلا يمتنع وهذا هو الذي وعدنا به من قبل فخرج من هذا أن
الإعادة فعل مثل ما مضى فاسدا كان الماضي أو صحيحا أداه أو
غيره فبين الأداء والإعادة عموم وخصوص من وجه ينفرد الأداء
في الفعل الأول وتنفرد الإعادة فيما مضى إذا قضى صلاة
وأفسدها ثم أعادها وفي الحج كما صورناه ويجتمعان في الصلاة
الثانية في الوقت على ما أخترناه خلافا للمصنف ومن وافقه
وكذا يكون بين الإعادة والقضاء عموم وخصوص من وجه.
وقد تكلم الفقهاء في إعادة صلاة الجنازة ولا أداء فيها إذ
لا وقت يتعين ولا يسمى القضاء الأول إعادة لأن القضاء بأمر
جديد فهو غير المأمور به في الوقت وإن سميناه قضاء
للمشابهة كانت الاعادة تستدعي من المماثلة أكثر مما يستدعي
القضاء وقول المصنف وإن وقعت بعده ووجد فيه سبب وجوبها
فقضاء موافق لقول المحصول إن الفعل لا يسمى قضاء إلا إذا
وجد سبب وجوب الأداء مع أنه لم يوجد الأداء ومن هنا توهم
بعضهم أن المندوب لا يسمى قضاء وأن قول الفقهاء بقضاء
الرواتب مجاز والذي يقتضيه كلام الأكثرين والاصطلاح أنه
لافرق بين الواجب والمندوب فينبغي أن يقال ووجد فيه سبب
الأمر بها.
واعلم أن الشرط المذكور أعني تقدم السبب يذكر في شيئين:
أحدهما: في الأمر بالقضاء فلا يؤمر بقضاء
عبادة إلا إذا تقدم سبب الأمر
ج / 1 ص -78-
بأدائها ونعني بالسبب ما هو مقتضى لوجوبها أو الندب إليها
سواء أقارنه مانع من ترتب الحكم عليه أم لا ومتى تقدم
السبب ولم تفعل أمر بقضائها ومتى لم يتقدم السبب أصلا لم
يؤمر بالقضاء فلذلك تارك الصلاة عمدا يقضي لوجود السبب
والوجوب والنائم يقضي لوجود السبب الذي قارنه مانع الوجوب
وهو النوم والطفل لم يوجد في حقه السبب أصلا فلا يؤمر
بالقضاء بعد البلوغ لا إيجابا ولا ندبا ولو أن المميز ترك
الصلاة ثم بلغ فالظاهر أنه يستحب له قضاؤها كما كان يستحب
له أداؤها إن قلنا كان مأمورا بأمر الشرع والحائض لا يستحب
لها بعد الطهر قضاء الصلاة لأن سقوطها في حقها عزيمة فليست
من أهل الصلاة فلم يوجد سبب الوجوب والمجنون سقوط القضاء
في حقه رخصة لأنه إنما سقط عنه تخفيفا.
الثاني: مما يذكر فيه تقدم السبب تسمية
القضاء اقتضى كلام الإمام أنه لا يسمى قضاء إلا إذا وجد
السبب فيقتضي هذا أن الطفل لو أراد أن يقضي ما فاته في
طفوليته لا يسمى ذلك قضاء ولا يصح قضاء بل إن صح صح فعلا
مطلقا وهذا صحيح لأن القضاء يستدعي تقدم أمر وفوات أدائه
فمتى لم يوجد استحالت هذه التسمية فقد تحرر أن الأداء فعل
العبادة في وقتها والقضاء فعل العبادة خارج وقتها ولا حاجة
إلى قيد آخر لأنه متى لم يتقدم سببها لا يكون المفعول بعد
الوقت تلك العبادة بل غيرها والإعادة فعل العبادة من بعد
أخرى إذا كانت أداء وقضاء أو غيرهما وقولنا فعل العبادة
نعني به الواقعة فخرج به إنشاء التطوع التطوع بحج بعد حج
الفرض أو بصلاة مطلقة بعد الفريضة والراتبة وظهر أن
الإعادة تدخل في جميع العبادات والأداء والقضاء يدخلان في
المؤقتة فقط وكل عبادة يصح وصفها بالأداء والقضاء إلا
الجمعة فإنها توصف بالأداء ولا توصف بالقضاء لأنها لا تقضي
وأورد على هذا أنه لا يوصف بالشيء إلا ما أمكن وصفه بضده
كالأجزاء والصحة لا يوصف بهما إلا ما أمكن وقوعه غير مجزئ
وغير صحيح فكيف توصف الجمعة بالأداء إذ لا تقع غير مؤداة
والجواب من وجهين:
أحدهما: منع تلك القاعدة على الإطلاق فقد
يوصف بالشيء ما لا يوصف بضده وإنما خصوص الأجزاء والصحة
اقتضى ذلك.
ج / 1 ص -79-
والثاني: أن الجمعة تقضي ظهرا وبين الجمعة والظهر اشتراك في الحقيقة فقبلت
الوصف بذلك في الجملة وأيضا لو أنها وقعت بعد الوقت جمعة
بجهل من فاعلها فنسميها قضاء فاسدا فصح وصف الجمعة بالأداء
كما صح وصف الصلاة بالفساد وبقي من الاقسام الممكنة أن تقع
العبادة المؤقتة قبل وقتها تعجيلا كإخراج صدقة الفطر في
رمضان فلا يوصف بأداء ولا قضاء مع صحتها ووقوع الظهر قبل
وقتها لا يوصف بأداء ولا قضاء مع فسادها وقول المصنف وأمكن
أي الفعل ومثل المسافر والمريض ليتيبن أنه لا فرق بين كون
مانع الوجوب من جهة العبد كالسفر أو من جهة الله تعالى
كالمرض وسيأتي إن شاء الله تعالى في المسألة السابعة من
الفصل الثالث من هذا الباب الكلام في منع الفقهاء القائلين
بأنه يجب الصوم على الحائض والمريض والمسافر.
وقوله: "أو امتنع أي الفعل" فإن النائم يمتنع منه عقلا أن
يصلي والفقهاء يطلقون أن الصلاة واجبة عليه ولا يجب لذلك
إلا ثبوتها في ذمته كما تقول الدين واجب على المعسر وقد
ذكر القاضي أبو بكر أن الفقهاء يطلقون التكليف على ثلاثة
معان:
أحدها: المطالبة بالفعل أو الترك.
والثاني: بمعنى أن عليه فيما سهى عنه أو
نام فرضا وإنما يخاطب بذلك قبل زوال عقله وبعده فيقال له
إذا نسيت أو نمت في وقت لو كنت فيه ذاكرا أو يقظان لزمتك
فقد وجب عليك قضاؤها.
والثالث: على الفعل الذي ينوب مناب الواجب
كصلاة الصبي وصوم المريض وجمعة العبد إذا حضرها وفعلها وحج
غير المستطيع ويطلقون التكليف في ذلك وهذا الذي نقله
القاضي من اصطلاحهم فائدة توجب رفع الخلاف بين الفريقين في
المعنى وامتناع الصوم شرعا على الحائض بالإجماع فيحرم
عليها ولا يصح وإمكانه من المسافر وصحته والاعتداد به لم
يخالف فيه إلا
ج / 1 ص -80-
الظاهرية فقالوا إنه لا يجزئه لقوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}1
وهو محجوبون بالأخبار التي تدل على الصوم في السفر في
رمضان ومعنى الآية فأفطر فعدة من أيام أخر.
"ولو ظن المكلف أنه لا يعيش إلى آخر الوقت تضيق عليه فإن
عاش وفعل في آخره فقضاء عند القاضي أداء عند الحجة إذ لا
عبرة بالظن البين خطؤه".
قوله: تضيق عليه معناه يقضي بالتأخير عنه والحجة هو
الغزالي والحق معه في هذه المسألة وبدليله يعرف أن التضيق
ليس في نفس الأمر والقاضي هو ابن الباقلاني ورأيته في
كلامه في التقريب وهو إنما يعتبر الظاهر فيحكم بالتضييق
فيكون الوقت قد خرج وهو ضعيف لأنا نعرف من نفس الشرع الفرق
بين اسم الزاني والواطئ لامرأته يظنها أجنبية فالثاني إنما
يأثم بجرأته بحسب ظنه والأول يأثم بجرأته وبحصول المفسدة
التي نهى الشرع عنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتمام الآيات:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ
لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ. شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
سورة البقرة 183/185.
ج / 1 ص -81-
التقسيم السادس للحكم إلى العزيمة والرخصة
"السادس
الحكم إن يثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة كحل الميتة
للمضطر والقصر والفطر للمسافر واجبا ومندوبا ومباحا وإلا
فعزيمة".
الرخصة بإسكان الخاء وضمها مع ضم الراء التسهيل فرخصة الله
تسهيله على عباده هكذا يقتضيه كلام أهل اللغة وهو يقتضي أن
الرخصة من أقسام الحكم كما اقتضاه كلام المصنف لا من أقسام
متعلقاته كما اقتضاه قول غيره الرخصة ما جاز الإقدام عليه
مع قيام المانع ولم أر لهذا الثاني مستندا من اللغة إلا
قولهم هذا رخصتي من الماء أي شربي منه ويناسبه قول بعض
الأصوليين إنها اليسر والسهولة وأما بفتح الخاء فلم أرها
في اللغة ولا حفظ هذا الوزن إلا في الثلاثي المجرد كلقطة
وهزأة ولمزة وهمزة وحطمة وخدعة وهو يكون للفاعل وللمفعول
فإن ثبت هنا فقياسه أن يكون للشخص الكبير الترخيص على غيره
أو المرخص فيه وذكر الإمام أن الرخصة ما جاز فعله مع قيام
المقتضي للمنع فأورد عليه الحدود والتقادير الجائزة مع
تكريم الآدمي المقتضى للمنع منها فقيده بعضهم باشتهار
المانع وبعضهم بكونه لضرورة أو حاجة وبعضهم بكونه لغرض
التوسع وربما زيد فيه في حالة جريه احتراز من القصاص
والعفو فإنه تخفيف من الله ورحمة ولا يسمى رخصة لأنه فاعله
بدله وقولنا مع قيام المانع احتراز من أن يكون منسوخا
كالآصار التي كانت على من قبلنا ونسخت في شريعتنا تيسيرا
وتسهيلا ولا يسمى ناسخها رخصة.
وقول المصنف على خلاف الدليل هو معنى قولنا مع قيام المانع
وقوله لعذر يريد به التسهيل في بعض الأحوال فيخرج به
التخصيص ونحوه ويستقيم به حد
ج / 1 ص -82-
الرخصة
وقوله كحل لو قال كإحلال كان أحسن لأن نوع الحكم الإحلال
لا الحل وقد عهد له مثل هذا التسمح من تفسير الرخصة
بالتيسير فيكون الحل مطابقا بغير تسمح وقوله والقصر والفطر
لك أن تعطفهما على حل أي وكالقصر وعلى الميتة أي وكحل
القصر وقوله واجبا ومندوبا ومباحا أحوال إما من قوله فرخصة
وإما من حل إن لم يعطف عليه وتكون قد استعملته في القدر
المشترك بين الثلاثة وإما أن يتعدد صاحب الحال لتعددها
فتقدر كحل الميتة للمضطر واجبا والقصر مندوبا والفطر
مباحا.
واعلم أن الإيجاب والندب واستواء الطرفين أو رجحان أحدهما
أمر زائد على معنى الرخصة لأن معناها التيسير وذلك بحصول
الجواز للفعلى أو الترك يرخص في الحرام بالإذن في فعله وفي
الواجب بالإذن في تركه وأدلة الوجوب والندب وغيرها تؤخذ من
أدلة أخرى ولهذا اقتصر الكتاب العزيز على الجواب في قوله
تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}1 وقوله:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}2
فاقتصر كما نراه على نفي الإثم والجناح ولم يصرح بالإذن
فعلنا الجواز برفع الاثم والجناح وإنما يكون القصر مندوبا
إذا بلغ سفره ثلاثة أيام وإباحة الفطر قد يكون مع رجحانه
إذا كان المسافر يجهده الصوم وقد يكون مع مرجوحيته إذا كان
يطيقه ويسهل عليه وقوله وإلا فعزيمة أي وإن ثبت لا على
خلاف الدليل أو على خلاف الدليل لكن ليس لعذر على وجه
التيسير فعزيمة سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا أم
مكروها أم حراما من جهة أنه يجزم أمره أي قطع وحتم سهل على
المكلف أم شق مأخوذ من العزم وهو القصد المصمم والعزيمة
مصدر عزم فهي أيضا قسم من أقسام الحكم لا من أقسام الفعل
الذي هو متعلقه.
وقول غيره العزيمة ما جاز الإقدام عليه لا مع قيام المانع
فيه من التسمح قدمناه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 173.
2 سورة النساء آية 101.
ج / 1 ص -83-
الفصل الثالث في أحكام الحكم وفيه عدة مسائل
الأولى الواجب المعين والمخير
"الفصل الثالث في أحكامه وفيه مسائل الأولى الوجوب قد
يتعلق بمعين وقد يتعلق بمبهم من أمور معينة كخصال الكفارة
ونصب أحد المستعدين للإمامة وقالت المعتزلة الكل واجب على
معنى أنه لا يجوز الإخلال بالجميع ولا يجب الإتيان به خلاف
في المعنى وقيل الواجب معين عند الله تعالى دون الناس ورد
بأن التعين يحيل ترك ذلك الواحد والتخيير يجوزه وثبت
اتفاقا في الكفارة فانتفى الأول قيل يحتمل أن المكلف يختار
المعين أو يعين ما يختاره أو سقط بفعل غيره وأجيب عن الأول
بأنه يوجب تفاوت المكلفين فيه وهو خلاف النص والإجماع وعن
الثاني بأن الوجوب محقق قبل اختياره وعن الثالث بأن الآتي
بأيهما آت بالواجب إجماعا قيل إن أتى بالكل معا فالامتثال
أما بالكل فالكل واجب أو بكل واحد فيجتمع مؤثرات على أثر
واحد أو بواحد غير معين ولم يوجد أو بواحد معين وهو
المطلوب وأيضا الوجوب معين فيستدعي محلا معينا وليس الكل
ولا كل واحد وكذا الثواب على الفعل والعقاب على الترك فإذا
الواجب واحد معين وأجيب عن الأول بأن الامتثال بكل واحد
وتلك معرفات وعن الثاني بأنه يستدعي أحدها لا بعينه
كالمعلول المعين المستدعي علة من غير تعيين وعن الآخرين
بأنه يستحق ثواب وعقاب أمور لا يجوز ترك كلها ولا يجب
فعلها".
قوله في أحكامه يعني في أحكام الحكم وذكر في هذا الفصل سبع
مسائل
ج / 1 ص -84-
والإمام ذكرها بعينها في باب الأوامر في القسم الثاني منه
في المسائل المعنوية وجعل المسائل الثلاث الأولى في أقسام
الوجوب لأنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين ومخير وبحسب
وقت المأمور ينقسم إلى مضيق وموسع وبحسب المأمور ينقسم إلى
واجب على التعيين وواجب على الكفاية وجعل المسائل الأربع
الأخيرة في أحكام الوجوب ولو فعل المصنف كذلك كان أحسن
وكأن عذره في ذلك المخير والموسع وفرض الكفايةف مما وقع
الكلام فيه وفي تحقيق عروض ذلك الواجب فحسن البحث في أن
الوجوب هل له ذلك أو لا وهو حكم وبعد ثبوت هذا الحكم تصير
الثلاثة المذكورة أقساما للوجوب الذي هو قسم من أقسام
الحكم فصح كل من الاعتبارين وقوله بمعين يعني معين النوع
وإلا فالتعيين بالشخص لا يتعلق الوجوب به لأن الشخص دخل في
الوجود وما دخل في الوجود لا يصح التكليف به لمراده المعين
المعلوم المتميز وقوله وقد يتعلق بمبهم إشارة إلى أن
المختار أو الواجب لا بعينه ونقل القاضي إجماع سلف الأمة
وأئمة الفقهاء عليه خلافا لكثير من المعتزلة وقوم من نوابذ
الفقهاء المعينين لهم على بدعتهم في قوله أن الكل واجب
وحرر بعض المتأخرين معنى الإبهام في ذلك فقال إن متعلق
الوجوب هو القدر المشترك بين الخصال ولا تخيير فيه ومتعلق
التخيير خصوصيات الخصال ولا وجوب فيها وعندي زيادة تحرير
أخرى وهو أن القدر المشترك يقال على المتواطئ كالرجل فلا
إبهام فيه فإن حقيقته معلومة متميزة عن غيرها من الحقائق
ويقال على المبهم بين شيئين أو أشياء كأحد الرجلين والفرق
بينهما أن الأول لم يقصد فيه إلا الحقيقة التي هي مسمى
الرجولية.
والثاني: قصد فيه أخص من ذلك وهو أحد
الشخصين بعينه وإن لم يعين و ولذلك سمي مبهما لأنه أبهم
علينا أمره والأول لم يقل أحد بأن الوجوب يتعلق بخصوصياته
كالأمر بالإعتاق فإن مسمى الإعتاق ومسمى الرقبة متواطئ
كالرجل فلا يتعلق للأمر بالخصوصيات لا على التعيين ولا على
التخيير ولا يقال فيه واجب مخير ولا يأتي فيه الخلاف وأكثر
أوامر الشريعة من ذلك.
ج / 1 ص -85-
والثالث: متعلق بالخصوصيات فلذلك وقع الخلاف فيه وأجمعت الأمة على إطلاق
الواجب المخير عليه ولا منافاة بين ما قلناه وما حكيناه عن
بعض المتأخرين من تعلق الوجوب بالقدر المشترك لكن ما قلناه
زيادة وهي تبيين أن ذلك القدر المشترك أخص منظور فيه إلى
الخصوصيات وقول المصنف من أمور معينة إنما قيد بقوله معينة
لأنها إذا كانت غير معينة فإما أن يقع التكليف بالقدر
المشترك بينها من غير نظر إلى الخصوصيات فذلك لا يسمى
إيهاما بل هو كالإعتاق على ما سبق وليس كلامنا فيه وإما أن
ينظر إلى الخصوصيات كما ذكرناه في غير الإبهام فيستحيل
لعدم العلم بها ونحن مرادنا هنا بالمعينة المعلومة
المتميزة فلذلك قيد بقوله المعينة ليبين صورة المسألة
وخصال الكفارة يعني كفارة اليمين وهي الإعتاق والإطعام
والكسوة فإنها يخير فيها وكذا ما هو على التخيير من كفارات
الحج وقوله ونصب أحد المستعدين للامامة يعني إن خلا الوقت
عن إمام وهناك جماعة يجب نصب واحد وكذا قال غيره وهو صحيح
إلا أنه من القسم الأول الذي قلنا إن الوجوب فيه متعلق
بالقدر المشترك من غير نظر إلى الخصوصيات كاعتاق رقبة
فينبغي ألا يمثل به وجماعة من أصحابنا ومن المعتزلة ذكروا
أمثلة من الواجب المخير بين القسمين جميعا والصواب ما
قدمته نعم في أهل الشورى الذي جعل عمر رضي الله عنه الأمر
فيهم ونحوه يتعلق الأمر بأعيانهم فيحسن أن يكون مثالا
للواجب المخير وقول المعتزلة إن الكل واجب على المعنى
المذكور مأخذهم فيه أن الحكم يتبع الحسن والقبح فإيجاب شيء
يتبع لحسنه الخاص به فلو كان واحد من الثلاثة واجبا
والاثنان غير واجبين لخلا اثنان عن المقتضى للوجوب فلا بد
أن يكون كل واحد لخصوصه مشتملا على صفة تقتضي وجوبه وكل
منهما يقوم مقام الآخر فيوصف كل منهما بالوجوب والتخيير
معا.
وتحقيق هذا الكلام إنما ينتج أن المشتمل على الحسن المقتضي
للوجوب هو أحدها لا خصوص كل منها فلذلك كان معنى كلامهم
إيجاب أحدها على الإبهام وإنما قصدوا الفرار من لفظ يوهم
أن بعضها واجب وبعضها ليس بواجب وأنه لا يخير بين الواجب
وبين غيره وأصحابنا لا يراعوان الحسن والقبح ويجوزون
التخيير
ج / 1 ص -86-
بين ما
يظن أن فيه مصلحة وبين ما لا مصلحة فيه ومع ذلك لم يقولوا
بوجوب واحد معين وإنما قالوا بوجوب أحدها من غير تعيين
لأنه مدلول لفظ الأمر ومدارهم في إثبات الأحكام فإذا نظرنا
إلى مجرد ذلك لم يكن فرق في المعنى بين مذهب أصحابنا ومذهب
المعتزلة وبذلك صرح طوائف منا ومنهم وتبعهم المصنف وإذا
دققنا البحث وقررنا ما قدمناه من الفرق بين أن يراد مع
القدر المشترك الخصوصيات أولا أمكن أن يقال في خصال
الكفارة احتمالان:
أحدهما: أن يكون الواجب القدر المشترك بين
الخصال.
والثاني: أن يكون كل خصلة واجبة على تقدير
ألا نفضل عنها وكل من الاحتمالين يمكن أن يقرر على مذهبنا
ومذهبهم والأقرب إلى الكلام الفقهاء الثاني وبه يفترق
الحال بينه وبين إعتاق رقبة فإن الثابت فيه الأول لا غير
وقول المصنف فلا خلاف في المعنى قد علمت أنه يمكن تمشيته
ويمكن التوقف فيه لظهور معنيين يمكن أن يذهب إلى كل منهما
ذاهب والأوفق بقواعد المعتزلة الأول وهو تعلق الوجوب
بالقدر المشترك لا غير حتى يكون هو الموصوف بالحسن
وبقواعدنا يصح ذلك وغيره وهو الأقرب إلى كلام الفقهاء وهو
المختار وإن يكن بين المعنيين تباعد لكن يظهر أثره في أمور
منها أنه إذا فعل خصلة يقال على ما اخترناه إنها الواجب
وأما على المعنى الآخر فينبغي أن يقال إن الواجب تأدى بها
لا أنها هي الواجب.
وقوله: قيل الواجب معين عند الله دون الناس هو قول ترويه
المعتزلة عن أصحابنا ويرويه أصحابنا عن المعتزلة واتفق
الفريقان على فساده وعندي أنه لم يقل به قائل وإنما
المعتزلة تضمن ردهم علينا ومبالغتهم في تقرير تعلق الوجوب
بالجميع ذلك فصار معنى يرد عليه وأما رواية أصحابنا عن
المعتزلة فلا وجه له لمنافاته قواعدهم.
وقوله: رد بأن التعيين يحيل ترك الواحد أي لأن الواجب لا
يجوز تركه والتخيير يجوزه أي يجوز الترك ضرورة فلازم
التعيين ولازم التخيير لا يجتمعان فالملزومان وهما التعيين
والتخيير لا يجتمعان لأنهما لو اجتمعا لاجتمع لازمهما لأنه
ج / 1 ص -87-
يلزم
من وجود الملزوم وجود اللازم والتخيير ثابت بالإتفاق في
الكفارة فانتفى التعيين.
وقوله: قيل يحتمل أن المكلف يختار المعين أو يعين ما
يختاره أو يسقط بفعل غيره يعني وعلى كل من الاحتمالات
الثلاثة لا يتنافى التعيين والتخيير أما في الأول فلأن
التعيين في نفس الأمر والتخيير في الظاهر وأما الثاني فلأن
التخيير قبل الاختيار والتعيين بعده وأما الثالث فلأنا
نمنع أن الواجب لا يجوز تركه مطلقا بل هو الذي لا يجوز
تركه بغير بدل.
وقوله: وأجيب عن الأول بأنه يوجب تفاوت المكلفين فيه أي
إذا اختار بعضهم الإطعام وبعضهم الكسوة وبعضهم الإعتاق
يكون الواجب على كل منهم ما اختاره معينا عند الله وهو
خلاف الإجماع لإجماع العلماء على أن حكم الله في كفارة
اليمين واحد بالنسبة إلى الجميع وعن الثاني بأن الوجوب
تحقق قبل اختياره وإلا لما أثم بتركه فإما أن يكون معينا
أو مخيرا إن كان معينا عاد الكلام وإلا بطل قولهم وعلى
الثالث أن الآتي بأيها آت بالواجب لأنه في ضمنه وعلى كل
التقديرين لا يكون الواجب خارجا عنه فلا يسقط بفعل غيره
وليس كالسنة المجزئة عن الفرض ولا كالبدل المجزئ عن
المبدل.
وقوله: قيل إن أتى بالكل معا يعني دفعة واحدة إما بنفسه إن
أمكن ذلك أو بوكلاء فالامتثال إما بالكل أي المجموع
فالمجموع واجب ومن ضرورته وجوب كل واحد وإن كان الامتثال
بكل واحد فيجتمع مؤثرات على أثر واحد وهو محال لأن المؤثر
التام يستغني به الأثر عن غيره مع احتياجه إليه فلو اجتمع
مؤثران على أثر واحد لاحتاج إليهما واستغنى عنهما ويلزم أن
يقع بهما وإن لا يقع بهما فيجتمع النقيضان وإن كان
الامتثال بواحد غير معين فغير المعين لا وجود له لأن كل
موجود معين كما أن ما ليس بمعين ليس بموجود لأنه عكس نقيضه
ولما بطلت هذه الأقسام الثلاثة تعين الرابع وهو أن
الامتثال بواحد معين وهو المطلوب لأن ما وقع به هو المأمور
به وأيضا الوجوب صفة الواجب وهو صفة معينة فلا بد أن يكون
موصوفها معينا وليس المجموع ولا
ج / 1 ص -88-
كل
واحد ولا واحدا غير معين لما سبق فثبت أنه معين وأيضا إذا
أتى بالجميع فإن أثيب ثواب الواجب على المجموع أو على كل
فرد أو على غير معين لزم ما سبق فلا يثاب إلا على واحد
معين وأيضا إذا تركت الجميع إن عوقب على المجموع أو على كل
واحد أو على واحد معين لزم ما سبق فلا يعاقب إلا على ترك
واحد معين فهذه أربعة أدلة استدل بها القول المردود.
وقوله: وأجيب عن الأول بأن الامتثال بكل واحد وتلك الخصال
معرفات لا مؤثرات فلا يلزم اجتماع مؤثرات على أثر واحد
وأما المعرفات فيجوز اجتماعها على الشيء كافراد العالم
للصانع وهذا الجواب يحتمل أمرين أن يكون المقصود منه الرد
على الاستدلال فقط من غير بيان ما يعتقده من أن الامتثال
بماذا وكأنه يقول دليلك لا ينتج أن الواجب واحد معين
لاحتمال أن يكون الواجب كل واحد ويكون الامتثال بكل واحد
ولا يلزم اجتماع مؤثرات على أثر واحد وهذا إذا فسرنا
الامتثال بفعل الواجب يلزم عليه أن ما يقع به الامتثال
واجب ويكون الجواب على هذا جدليا والجواب التحقيقي أن
الامتثال بواحد لا بعينه وهو موجود في ضمن كل واحد.
الثاني: أن يكون جوابا تحقيقيا فإن
الامتثال معناه إما فعل يتضمن مثل المأمور به إذا جعلناه
افتعالا من المثل الذي هو الشبه وإما الانتصاب والقيام
لأداء المأمور به إذا جعلناه من مثل على وزن ضرب أي انتصب
وعلى كلا التقديرين لا يستلزم أن يكون الممتثل به هو
الواجب بل أن يكون الواجب يحصل به ولا شك أن الواجب حاصل
في هذه الصورة بكل واحد لتضمنه له وقصده فيكون الامتثال
بكل واحد وبالمجموع أيضا لتضمنه الواجب وهذا واحد لا بعينه
أو يكون الإمتثال بكل واحد وكل واحد واجبا على معنى ما
قدمناه عن الفقهاء فيصير جوابا تحقيقيا على المذهبين وفي
الوجه الأول هو جواب جدلي على المذهبين.
وقوله: بواحد غير معين ولم يوجد جوابه أن غير المعين له
معنيان:
أحدهما: المقيد بقيد عدم التعيين وهذا هو
الذي لم يوجد.
ج / 1 ص -89-
والثاني: أخذه لا بقيد عدم التعيين وهذا موجود في ضمن المعين وهو المقصود
هنا فقولك ولم يوجد ممنوع وهذا جواب تحقيقي على المعنى
المتفق عليه في المذهبين وقوله بواحد معين وهو المطلوب
وعللناه بأن ما وقع الامتثال به هو الواجب يتوجه عليه منع
لما قدمناه في تفسير الامتثال وقوله عن الثاني يعني الوجوب
وصفه معين فيستدعي محلا معينا فإنه يستدعي أحدها لا بعينه
كالحرارة وهي معلول معين يستدعي إما الشمس وإما النار فهي
علة غير معينة.
واعلم أن المعين يطلق على الشخص وليس هو المراد هنا في
الطرفين ويطلق على المعلوم التمييز فإنه له تعين بوجه ما
ويطلق على أحدها أيضا أنه يتعين بهذا الاعتبار ويطلق على
ما ليس بينه وبين غيره إبهام فأحدها بهذا التفسير غير معين
والوجوب معين فلذلك جرى البحث ولا يلزم أن يكون المحل
مساويا للحال في ذلك وقوله عن الآخرين يعنى الثواب والعقاب
بأنه مستحق ثواب أمور ولا يجوز ترك كلها ولا يجب فعلها
يعني ثواب واجبات مخيرة وهو أزيد من ثواب بعضها سواء اقتصر
عليه أو ضم إليه نفلا آخر أو نقص من ثواب الواجبات المعينة
ولكل منها رتبة من الثواب عند الله تعالى وكذا العقاب إذا
تركها يستحق فالعقاب على ترك مجموع أمور كان المكلف مخيرا
بين ترك أي واحد شاء منها بشرط فعل الآخر.
وقال بعضهم: في الثواب والعقاب إنه يستحق ثواب الواجب على
فعل أكثرها ثوابا ويستحق على الترك عقاب أدونها عقابا فأما
ما قاله في العقاب فيظهر اتجاهه وما قاله في الثواب مراده
به الثواب على الواجب وما عداه تطوع يثاب عليه ثواب التطوع
وبهذا يعلم أن الخلاف في الثواب خلاف في أنه إذا فعل
الجميع ما الذي يقع واجبا وحكي القاضي قولا ثالثا أن الذي
يقع واجبا هو العتق لأنه أعظم ثوبا لأنه أنفع وأشق على
النفس وأرد عليه بأنه قد لا يكون كذلك ويحتمل عندي قول
رابع وهو أنه لا يثاب ويعاقب إلا على أحدها لأنه الواجب
على قولهم وهذا الخلاف شبيه بالخلاف فيما إذا طول
الطمأنينة في الصلاة أو مسح جميع الرأس في الوضوء هل يقع
الجميع واجبا أولا ويعلم أن
ج / 1 ص -90-
محل
الأقوال الأربعة إذا فعل الجميع أما قيد الفعل فليس إلا ما
قدمناه من أحدها والجميع.
"فرع": إذا باع قفيزا من صبرة فالمعقود عليه قفيز لا بعينه
يعني القدر المشترك بين أقفزة الصبرة وقالوا إن معناه كل
واحد منها على البدل كما قالوا في خصال الكفارة وعندي أنه
كعتق الرقبة وقد تقدم تحريره وإذا اختار المشتري واحدا
منها لا يقول إنه كان معينا بل يعين فيه إبهامه وكذا إذا
دعت المرأة إلى تزويجها من كفؤين زوجت من أحدهما
كالمستعدين للإمامة وإذا طلق إحدى امرأتيه أو أعتق إحدى
عبديه فهو كخصال الكفارة سواء والاختصاص للطلاق والعتق
بواحد معين فإذا اختار تعين ما يختاره.
ج / 1 ص -91-
تذنيب
"الحكم قد يتعين على الترتيب فيحرم الجمع كأكل المذكى
والميتة أو يباح كالوضوء والتيمم أو يسن ككفارة الصوم"
التذنيب: من قولهم الرجل عمامته إذا أفضل منها شيئا فأرخاه
كالمذنب وذنبت البسرة بدأ فيها الإرطاب من قبل ذنبها
فالتذنيب هنا معناه تتمة للمسألة وليس فرعا منها لأنها في
المخير وهو في المرتب ولكن التخيير والترتيب اشتركا في أن
كلا منهما حكم يتعلق بأمور فإباحة الميتة مرتبة على إباحة
المضطر ويحرم الجمع بينهما الاضطرار المبيح الميتة ووجوب
التميم وإباحته مرتب على الوضوء لاختصاصه بحالة العجز وقال
المصنف إنه يباح الجمع بينهما وكذا في المحصول وغيره وكنت
أصور هذا للطلبة بما إذا خاف من استعمال الماء لمرض ولم
ينته خوفه إلى أن يظن المانع من جواز استعمال الماء فإنه
يباح له التيمم لأجل الخوف ولا يمتنع الوضوء لعدم تحقق
الضرر فإذا تيمم صح تيممه فإذا أراد أن يتوضأ بعد ذلك جاز
كما قيل في قوله تعالى:
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وإذا جعلناه خطابا لمن يمكنه الصوم ولا يطيقه كالشيخ الكبير فيجوز
له الفطر والفدية ولو حمل على نفسه وصام كان خيرا له ولا
يقال فكان على قياس هذا أن يسن الجمع لأن الوضوء أفضل لأنا
نقول صحيح إن الوضوء أفضل لكن كلامه في الجمع وهو يحصل
بإضافة التيمم إليه وليس بأفضل بل هو مباح وهذا التصوير
على حسنه يخدش فيه شيء واحد وهو أنه إذا توضأ بطل التيمم
فإنها طهارة ضرورة ولا ضرورة هنا فلم يجمع الوضوء والتيمم
وإذا لم يكن اجتماعهما لا يوصف بالإباحة ولا بغيرها.
قوله: ككفارة الصوم يعني ككفارة الوقاع في صوم رمضان يجب
به الإعتاق
ج / 1 ص -92-
فإن لم
يجد فالصيام فإن لم يجد فالإطعام وكذا كفارة الظهار ولو
مثل بها المصنف كان أحسن للنص عليها في القرآن وكفارة
والوقاع قال بالتخيير فيها يمكن حمل كلام المصنف على الصوم
في كفارة اليمين فإنه مرتب على الخصال الثلاث المخير فيها
وأيا ما كان فالحكم بأن الجمع سنة يحتاج إلى دليل ولا
أعلمه ولم أر أحدا من الفقهاء صرح باستحباب الجمع وإنما
الأصوليون ذكروه ويحتاجون إلى دليل عليه ولعال مرادهم
الورع والإحتياط بتكثير أسباب براءة الذمة كما أعتقت عائشة
رضي الله عنها عن نذرها في كلام ابن الزبير رقابا كثيرة
وكانت تبكي حتى تبل دموعها خمارها.
وهذه الأقسام الثلاثة التي ذكرها المصنف في المرتب ولعلهم
أيضا لم يريدوا أن الجمع قبل فعله مطلوب بل إذا وقع كان
بعضه فرضا وبعضه ندبا وعبارة القاضي تقتضي هذا ويكون هذا
من باب النوافل المطلقة ومثل القاضي بالمسح والغسل أيضا
فإن أراد مسح الخف فالقول بأنه إذا فعله بعد غسل الرجل
يكون مندوبا في غاية البعد وإذا كفرنا بالعتق صار بنية
الكفارة ينبغي أن يأتي فيه الخلاف المشهور في أنه إذا بطل
الخصوص هل يبطل العموم وهذه الأقسام الثلاثة التي ذكرها
المصنف في المرتب ذكر في المحصول مثلها في المخير أيضا
ومثل المحرم بتزويج المرأة من كفؤين والمباح بستر العورة
بثوب بعد ثوب المندوب بالجمع بين خصال كفارة الحنث وحكمه
بندب الجمع في خصال كفارة اليمين يحتاج إلى دليل كما
قدمناه وتمثيله المخير بالتزويج من كفؤين والستر بثوبين
مبني على ما سبق منه ومن غيره.
وعندي أن الواجب القدر المشترك كما سبق لكن التمثيل صحيح
فيه أيضا.
ج / 1 ص -93-
المسألة الثانية في الواجب الموسع والمضيق
"الثانية: الوجوب إن تعلق بوقت فإما إن يساوي الفعل كصوم
رمضان وهو المضيق أو ينقص عنه فيمنعه من يمنع التكليف
بالمحال إلا لغرض القضاء كوجوب الظهر على الزائل عذره وقد
بقي قدر تكبيرة أو يزيد عليه فيقتضي إيقاع الفعل في جزء من
أجزائه لعدم أولوية البعض وقال المتكلمون يجوز تركه في
الأول بشرط العزم وإلا لجاز ترك الواجب بلا بدل ورد بأن
العزم لو صح بدلا لتأدى الواجب به وبأنه لو وجب العزم في
الجزء الثاني لتعدد البدل والمبدل واحد ومنا من قال يختص
بالأول وفي الآخر قضاء وقالت الحنفية يختص بالآخر وفي
الأول تعجيل وقال الكرخي1 الآتي في الأول إن بقي على صفة
الوجوب يكون ما فعله واجبا احتجوا بأنه لو وجب في أول
الوقت لم يجز تركه قلنا المكلف مخير بين أدائه في أي جزء
من أجزائه".
كما أن الواجب ينقسم إلى معين ومخير كذلك ينقسم إلى مضيق
وموسع والمضيق والموسع بالحقيقة هو الوقت ويوصف به الواجب
والوجوب مجازا ومقصوده بالواجب الفعل الواجب إن زاد وقته
على قدره فهو الموسع وإلا فهو المضيق وعلى هذا قسمان:
أحدهما: أن يساويه فيجوز التكليف به وقد
وقع كصوم نهار رمضان لا يزيد الزمان على الواجب ولا الواجب
على الزمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أو الحسن، عبيد الله بن الحسين الكرخي، انتهت إليه
رئاسة الحنفية بعد أبي حازم، وأبي سعيد البردعي. من
مصنفاته: المختصر. والجامع الكبير والصغير.
توفي سنة 340هـ تاج التراجم ص114.
ج / 1 ص -94-
والثاني: أن ينقص الوقت عن الفعل فإن كان الغرض من ذلك وقوع الفعل جميعه في
الزمان الذي لا يسعه فلم يقع هذا في الشريعة وهو تكليف ما
لا يطاق يجوزه من جوزه ويمنعه من منعه وإن كان الغرض أن
يبتدئ في ذلك الوقت ويتمه بعد ذلك أو يثبت في ذمته ويفعله
كله بعد ذلك فهذا جائز وواقع بينهما فيما لو أسلم الكافر
أو أفاق المجنون أو بلغ الصبي أو طهرت الحائض وقد بقي من
الوقت مقدار ركعة ووسع ما بعده بقيتها فإن تلك الصلاة تجب
وكذا إذا بقي مقدار تكبيرة على أصح القولين كالركعة وهذا
يطرد في الصلوات الخمس وإذا كان كذلك في آخر وقت صلاة يجمع
ما قبلها معها كالعصر والعشاء فتجب الأولى أيضا فيها الظهر
والمغرب وكذلك مثل المصنف بالظهر وأطلق القضاء حتى يشتمل
وقت الضرورة وهو وقت العصر بالنسبة إليها.
والضمير في قول المصنف يساوي وينقص ويزيد للوقت وفي قوله
وهو تصح إعادته للوقت والوجوب وللواجب وهو مقصوده على ما
سبق.
وقوله: لغرض كأنه بنى على قول من يقول إن الصلاة إذا وقع
بعضها خارج الوقت يكون قضاء أما كلها وإما الخارج عنها
والصحيح من مذهب الشافعي أنه متى وقع ركعة منها في الوقت
فالكل أداء ولم يقل بأن وقت الصبح مثلا يخرج بطلوع الشمس
مطلقا بل قال إن طلعت الشمس ولم يصل منها ركعة فقد خرج
وقتها واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:
"من أدرك ركعة
قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح"1
وقليل من الفقهاء اليوم من يحرر هذا بل يعتقد أن الحكم
بالأداء يجعل ما بعد الوقت تابعا للركعة الواقعة في الوقت
مع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري بمعناه. وروى الجماعة من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من
أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة".
وهذا يشمل جميع الصلوات.
وللبخاري: "إذا أدرك
أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته،
وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم
صلاته".
والمراد بالسجدة الركعة، لأن السجود هو تمام الركعة.
ج / 1 ص -95-
خروج
الوقت ولو حمل كلام المصنف على القضاء اللغوي انتفى عنه
هذا الاعتراض.
وقوله: للظهر قد بينا أنه لا اختصاص لهذا الحكم بها وقوله
الزائل عذره مستنده تسمية الفقهاء الأشياء المذكورة أعذارا
وإن كان الفكر ليس بعذر وقوله تكبيرة بناء على الأصح.
وقوله: فيقتضي من هنا إلى آخر الكلام في حكم الواجب
الموسع.
واعلم أن الناس اختلفوا فمنهم من اعترف به ومنهم من أنكره
أما المعترفون به فجمهور الفقهاء وجمهور المتكلمين من
الأشعرية ومن المعتزلة وهؤلاء المعترفون اختلفوا في جواز
تركه أول الوقت بلا بدل مع اتفاقهم على أنه يقتضي إيقاع
الفعل في أي جزء كان فجمهور الفقهاء قالوا بجواز تركه في
أوله بلا بدل ولا يعصى حتى يخلو الوقت كله عنده وهذا الذي
قدمه المصنف وجمهور المتكلمين قالوا لا يجوز تركه إلا ببدل
واتفقوا على أن ذلك البدل هو العزم فإذا تضيق الوقت تعين
الفعل ونصر القاضي هذا القول ورده الإمام وغيره بأن العزم
لو صلح بدلا لتأدى الواجب به وفي هذا الرد نظر لأن لهم أن
يقولوا هو بدل عن فعله في أول الوقت لا عن فعله مطلقا إلا
أن ذلك يعكر عليهم لأن فعله في أول الوقت لخصومه ليس بواجب
فلا يحتاج تركه فيه إلى بدل فالجواب المحرر أن يقال إما أن
يكون الفعل في الأول واجبا أولا إن لم يكن فلا حاجة إلى
البدل وإن كان فإما أن يكون كل الواجب أولا إن كان فيتأدى
ببدله وإلا فيلزم أن يكون واجبان ولا دليل عليه.
وقوله: لو وجب العزم في الجزء الثاني لتعدد البدل والمبدل
واحد ممنوع أن المبدل واحد لأن العزم في الجزء الأول بدل
عن الفعل في الجزء الأول والعزم في الجزء الثاني بدل عن
الفعل في الجزء الثاني فالبدل متعدد والمبدل متعدد وإنما
الوجوب ما ذكرناه وهنا فرغ الكلام على الفرق المعترفين
بالواجب الموسع وأما المنكرون له فقد تضمنهم قوله: ومنا
إلى آخره وجميعهم ثلاث طوائف وزاد غيره رابعة وفرقة خامسة
قالوا يختص بالأول فإن فعله فيه كان أداء وإن أخره وفعله
في آخر الوقت كان قضاء وهذا القول نسب إلى
ج / 1 ص -96-
بعض
أصحابنا وقد كثر سؤال الناس من الشافعية عنه فلم يعرفوه
ولا يوجد في شيء من كتب المذهب ولى حين من الدهر أظن أن
الوهم سرى إلى ناقله من قول أصحابنا إن الصلاة تجب بأول
الوقت وجوبا موسعا.
وقول بعضهم تجب في أول الوقت وينصبون الخلاف في ذلك مع
الحنفية وقولهم إنما يجب بآخره وقصد أصحابنا بقولهم تجب
الصلاة في أول الوقت كون الوجوب في أول الوقت لا كون
الصلاة في أول الوقت واجبة فحصل الالتباس في العبارة
ومتعلق الجار والمجرور ثم وقفت في الأم في كتاب الحج في
ذلك الجزء الخامس. قال الشافعي: ذهب بعض أهل الكلام أن فرض
الحج على المستطيع إذا لزمه في وقت يمكنه فتركه في أول ما
يمكنه كان آثما1 كمن ترك الصلاة حتى ذهب الوقت ويجزئه حجة
بعد أول سنة من مقدرته قضاء كالصلاة بعد ذهاب الوقت ثم
أفادنا بعضهم ذلك في الصلاة إذا دخل وقتها الأول فتركها
وإن صلاها في الوقت وفيما نذر من صوم أو وجب عليه بكفارة
أو قضاء فقال فيه كله متى أمكنه فأخره فهو عاص بتأخيره ثم
قال في المرأة يجبر أبوها وزوجها على تركها لهذا المعنى
وقاله معه غيره ممن يفتي انتهى.
فقد ثبت بنقل الشافعي هذا المذهب عن غيره فلعل بعض الناس
نقل ذلك عن نقل الشافعي فالتبس ذلك على بعده وظن أنه من
مذهب الشافعي وعلى كل تقدير لايخرج نقله عن أصحابنا عن
الوهم ثم ظاهر كلام الشافعي كما ترى أن القائل به يقول
بالإثم والعصيان بالتأخير عن أول الوقت والقاضي أبو بكر
نقل إجماع الأمة على أن المكلف لا يأثم بتأخيره عن أول
الوقت ولذلك قال بعضهم إنه في آخر الوقت يسد مسد الأداء
وما نقله الشافعي أثبت وأولى وينبغي إسقاط هذه اللفظة
والإقتصار على قوله قضاء كما فعل المصنف وعدم نسبة ذلك إلى
بعض أصحابنا بل ينقله قولا مطلقا كما نقله القاضي قولا
مطلقا.
ولم يرد المصنف على هذا القول ووجه الرد عليه عدم دلالة
الأمر المطلق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هامش الطبعة الأولى "ونقل المصنف عن شارح المنهاج
للنووي عن القاضي أبي الطيب الطبري الإجماع على أن الحج
يقع أداء، ونقل الشافعي رحمه الله تعالى – ينازع فيه" راجع
الجزء الأول ص63 من الطبعة الأولى.
ج / 1 ص -97-
على
الفور مع ظهور الأدلة من الكتاب وسير السلف على جواز
التأخير إلى أثناء وقت الصلاة.
الفرقة الثانية الحنفية:
قالوا يختص بالآخر وفي الأول تعجيل يسقط الفرض به أو
نفل يمنع من الوجوب على اختلاف عنهم في المنقول.
الثالثة: مقالة الكرخي:
المقالة الرابعة: حكيت عن الكرخي أن
الواجب يعين بالفعل في أي وقت كان.
المقالة الخامسة: أن الوجوب يختص بالجزء
الذي يتصل الأداء به وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا
يفضل عنه وهذا هو المشهور عند الحنفية لأن سبب الوجوب
عندهم كل جزء من الوقت على البدل إن اتصل به الأداء وإلا
فآخره وإنما عدت هذه الفرقة من المنكرين للواجب الموسع مع
قولهم إن الصلاة مهما أديت في الوقت كانت واجبة لأنهم لم
يجوزوا أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل وقول المصنف احتجوا
أي الحنفية ومن قال قريبا من قولهم كالكرخي وبقية المقالات
التي حكيناها.
وقولهم: وجب في أول الوقت فيه ما نبهنا عليه من الإلباس
لأن فيه معنيين:
أحدهما: لو وجب في أول الوقت فعله في أول
الوقت وهذا هو الذي قصدوه وقولهم مع ذلك لم يجز تركه يمكن
منعه على مذهب المتكلمين لأن الواجب لا يجوز تركه وترك
بدله أما تركه وحده مع الإتيان ببدله فجائز ويمكن تسليمه
ولا يضرنا.
والمعنى الثاني: لو وجد في أول الوقت فعله
في أي جزء كان وهذا مقصودنا ومع هذا لا يصح قولهم لم يجز
تركه في أول الوقت لأن الذي لا
ج / 1 ص -98-
يجوز
تركه هو الواجب وفعله أول الوقت ليس بواجب والواجب هو
الفعل في أي جزء كان وهذا يجوز تركه وهذا معنى قول المصنف
قلنا المكلف بخير.
فائدة: قول المصنف إن تعلق بوقت يحتمل أن
يريد به أن تعلق الوقت على سبيل القصد كما فسرنا العبارة
المؤقتة به فيما سبق ويحترز به عما لا يكون لذلك فلا يقال
فيه ينقسم إلى مضيق وموسع وإن كان يلزمه الوقت لأن الفعل
لا بد له من وقت وعلى هذا الواجب على الفور الذي لم ينص
على وقته لا يقال فيه موسع ويحتمل أن يريد أنه متى تعين
وقته سواء كان تعيينه بالنص عليه أم بدلالة الأمر عند من
يراه فينقسم إلى مضيق وموسع ويكون كل واجب مضيقا أو موسعا
فما كان للتراخي فهو موسع بلا إشكال وما كان للفور ليس
بموسع والحج من قال بفوريته إن أطلق يلزمه ذلك وإن أراد
إيقاعه في السنة الأولى من سني الإمكان يصير أشهر الحج من
تلك السنة بالسنة إلى ابتدائه كالوقت الموسع لكن ينبغي أن
يعذر في التأخير إلى آخرها لأنه مغيا بيوم عرفة وأما
التوسعة فيما بعد السنة الأولى فلا وجه لها مع القول
بالفور.
فرع: الموسع قد يسعه العمر كالحج وقضاء الفائت فله التأخير
ما لم يتوقع فواته إن أخر لكبر أو مرض إذا أثبتنا الواجب
الموسع فقد يكون وقته محدودا بغاية تعلق به كالصلاة وقد
يكون مدة العمر كالحج وقضاء الفائت حيث قلنا بأنه على
التراخي وهو إذا فات يعذر على الصحيح دون الفائت بغير عذر
فإنه على الفور على الصحيح عندهم وهذكا فصلوا في الكفارات
بين ما سببها معصية وغيرها وحيث جوزنا التأخير في ذلك وفي
النذور مدة العمر فإن حكمنا بأنه لا يعصى إذا مات لم يتحقق
معنى الوجوب وإن قلنا يضيق عليه عند الانتهاء إلى غاية
معينة من غير دليل لزم تكليف ما لا يطاق كذا في المحصول
قال فلم يبق إلا أن نقول يجوز له التأخير بشرط أن يغلب على
ظنه أنه يبقى سواء بقي أم لا وإذا ظنه أنه لايبقى عصى
بالتأخير سواء مات أم لا وهذا الذي قاله قول والصحيح أنه
إذا مات عصى سواء غلب على ظنه قبل ذلك البقاء أم لا ولا
يلزم التكليف بما لا يطاق لأنه كان يمكنه المبادرة فالتمكن
موجود وجواز التأخير بشرط سلامة العاقبة وتبين خلافه فتبين
عدم الجواز
ج / 1 ص -99-
والوجوب تحقق مع التمكن فيقضى والفرق بينه وبين ما إذا مات
في أثناء وقت الصلاة فإنه لا يعصى على الصحيح بأن الموت
خرج وقت الحج وبالموت في أثناء وقت الصلاة لم يخرج وقتها
ونظير الحج أن يفوت آخر وقت الصلاة فإنه يعصى بخروج الوقت
وقول المصنف فله التأخير على رأي الإمام ظاهرا وباطنا وعلى
رأينا ظاهرا فقط والباطن مجهول الحال ولا يلزم تكليف ما لا
يطاق لما قلناه.
وقوله ما لم يتوقع يعني فواته يعني فلا يجوز التأخير كما
قدمناه عن الإمام وعبارة الإمام إذا غلب ظنه وهو صحيح وأما
التوقع فلا يلزم منه الظن بل قد يحصل خوف فقط من غير غلبة
ظن كما قدمناه في الكلام على الواجب المخير والمرتب فكان
الصواب أن يقول المصنف ما لم يظن فواته وإن أخر وهي الحالة
التي قدمها في الصلاة أنه إذا غلب على ظنه أنه لا يعيش إلى
آخر الوقت تضيق عليه فصار الموسع بالعمر يعصى فيه شيئين:
أحدهما: الموت على الصحيح.
والثاني: التأخير عن وقت يظن فوته بعده
والموسع بما دون العمر يعصى فيه لشيئين:
أحدهما: خروج وقته.
والثاني: تأخيره عن وقت يظن فوته بعده
كالموسع بالعمر ومن القضاء ما لا يجوز تأخيره مدة العمر
كقضاء رمضان لا يجوز تأخيره حتى يجيء رمضان آخر فهو
بالنسبة إلى المعصية بالتأخير كالصلاة وبالنسبة إلى عدم
فواته كالحج.
ج / 1 ص -100-
المسألة الثالثة في الواجب العيني والواجب الكفائي
"الثالثة:
الوجوب إن تناول كل واحد كالصلوات الخمس أو أحدا معينا
كالتهجد فيسمى فرض عين أو غير معين كالجهاد يسمى فرضا على
الكفاية فإن ظن كل طائفة أن غيره فعل سقط عن الكل وإن ظن
أنه لم يفعل وجب" قيل إن الوجوب على الكفاية مخالف
بالحقيقة للوجوب على الأعيان وأن اسم الوجوب صادق عليهما
بالاشتراك المعنوي وزعم بعضهم أن المخاطب بفرض الكفاية
طائفة لا بعينها وهو ظاهر قوله تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ}
والصحيح أن المخاطب به الجميع لتعذر خطاب المجهول بخلاف خطاب المعين
بالشيء المجهول فإنه يمكن كالكفارة وإنما يفترق فرض
الكفاية وفرض العين في أن فرض الكفاية المقصود منه تحصيل
مصلحته من غير نظر إلى فاعله وفي تحقيقه ثلاثة معان:
أحدها: أن كل مكلف يخاطب بالجهاد مثلا فإن
قام به طائفة سقط عن الباقين رخصة وتخفيفا ولحصول المقصود.
والثاني: أن كل مكلف مخاطب به إن لم يقم
غيره به وعلى هذا إذا قام غيره به تبين أنه لم يكن مخاطبا
ليس أنه خوطب ثم سقط.
والثالث: أن كل مكلف غير مخاطب به
ومجموعهم مخاطبون بأن يكون من بينهم طائفة تقوم بهذا الفعل
ولا يقال يلزم أن يكون الشخص مكلفا بفعل غيره لأنا نقول
كلفوا بما هو أعم من فعلهم وفعل غيرهم وذلك مقدور تحصيله
منهم ولأنهم قادرون أن يخرجوا طائفة منهم لذلك وفرض العين
المقصود منه
ج / 1 ص -101-
امتحان
كل واحد بما خوطب به لحصول ذلك الفعل منه بنفسه لا يقوم
غيره مقامه وقد يكون من فرائض الأعيان على جماعة ما يشترط
في فعل غيره كالجمعة لا تصح إلا من جماعة وصارت الواجبات
ثلاثة:
أحدها: ما يجب على الشخص ويسقط بفعل غيره
وهو فرض الكفاية.
والثاني: ما لا يعتبر معه غيره أصلا.
والثالث: ما يعتبر في الأداء وكلاهما فرض
العين ولا يسقط بفعل الغير.
إذا عرفت هذا فنقول إن قوله: إن تناول كل واحد فيسمى فرض
عين لك أن تعترض عليه فيه لما علمت أن فرض الكفاية كذلك
على الصحيح وتعتذر عنه بأنه استغنى بالمثال بالصلوات
الخمس.
وقوله: أو واحدا معينا كالتهجد قاله جماعة غيره وهو تفريغ
على أن التهجد كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم
وحده وأن ذلك من خصائصه وهذا وإن كان مشهورا عند أكثر
المتأخرين من الشافعية فالصحيح الذي نص عليه الشافعي خلافه
وأن وجوب التهجد منسوخ عنه صلى الله عليه وسلم وعن غيره
وحين كان واجبا كان عليه وعلى غيره وقد اختص النبي صلى
الله عليه وسلم بوجوب أشياء لا خلاف فيها منها التخيير
لنسائه وغيره وقوله أو غير معين إنما يتم عند من يرى أن
فرض الكفاية ليس على الجميع وقد بينا أن الصحيح خلافه.
ثم إن كل ما يتناول المعين يتناول غير المعين لدخوله في
المعين فالعبارة المحررة أن تقول ويراد بالقصد ما قدمناه
من مقصود فرض الكفاية أما إذا أريد معنى خوطب فلا يصح أيضا
لما بينا أن الخطاب فيهما للجميع وقوله فإن ظن إلى آخره
قاله الإمام مستدلا بأن تحصيل العلم بأن الغير هل فعل أولا
غير ممكن إنما الممكن تحصيل الظن ولك أن تقول الوجوب على
الكل معلوم فلا يسقط إلا بالعلم وليس فيه تكلف بما لا يمكن
لأن الفعل يمكن فيه حصول العلم ثم قولهم إنه يسقط بفعل
البعض يوهم أن فعل غيرهم بعد ذلك يقع نفلا وليس كذلك فإن
كل من جاهد أو طلب يقع فعله
ج / 1 ص -102-
فرضا
وإن كان فيمن سبقه كفاية وكذا إذا صلى على الجنازة ظائفة
ثم طائفة وقع فعل الثانية فرضا كالأولى هذا تحقيق أن
الخطاب للجميع وإنما يسقط الإثم بفعل من فيه كفاية رخصة
وتخفيفا.
وقول المصنف: فإن ظن كل طائفة أن غيره إما أن يكون ذكر على
لفظ كل أو على معنى طائفة وأنها تطلق على الواحد فإن كان
الأول فالذي أجمع عليه النحاة أن لفظ كل إذا أضيف إلى نكرة
وجب مراعاة المضاف إليه وإن كان الثاني فالحق أن معنى
طائفة لا يكون للواحد لأنها مأخوذة من معنى الطواف
والإحاطة وذلك لا يكون بالواحد ولو سلم صدقها على الواحد
فلا اختصاص فيه بل يصدق على الجمع كما يصدق على الواحد فلا
وجه للتذكير إلا إذا أريد الواحد وليس هو المراد هنا فكان
التأنيث في هذا المكان أولى.
ج / 1 ص -103-
المسألة الرابعة في مقدمة الواجب
"الرابعة
وجوب الشيء مطلقا يوجب وجوب ما لا يتم إلا به وكان مقدورا"
قوله مطلقا احتراز من الوجوب المقيد بشرط كالزكاة وجوبها
متوقف على النصاب ولا يجب تحصيله وجوبها متوقف على الجماعة
والإقامة ولا يجب تحصيلهما وهذا متفق عليه وقوله وكان
مقدورا احتراز من قدرة العبد على الفعل وداعيته المخلوقتين
لله تعالى لا تتم الواجبات المطلقة عليه وغيرها إلا بهما
ولا يجب تحصيلهما ولا يتوقف الوجوب عليهما وجملة ما يتوقف
عليه الفعل إما أن يكون من فعل الله أو فعل العبد وكل
منهما إما أن يتوقف عليه الوجوب أو لا فالذي من فعل الله
يتوقف عليه الوجوب كالعقل وسلامة الأعضاء التي بها الفعل
والذي لا يتوقف عليه الوجوب كخلق قدرة العبد وداعيته والذي
من فعل العبد ويتوقف عليه الوجوب كما سبق والذي لا يتوقف
عليه الوجوب إما أن يكون مقدورا أو لا فغير المقدور لا
يتحقق معه وجوب الفعل إلا على القول بتكليف ما لا يطاق
وحينئذ يصح وجوب غير المقدور مما يتوقف عليه الواجب فلا
يصح اشتراط كونه مقدورا لذلك لم أر مثالا يصح اجتماع
الوجوب معه إلا القدرة الداعية ورأيت جماعة خبطوا في ذلك
وقولنا ما لا يتم الشيء إلا به يشمل بالوضع ثلاثة أشياء
الجزء والسبب والشرط لكن الجزء ليس مرادا هنا لأن الأمر
بالكل أمر به تضمنا ولا تردد في ذلك وإنما المراد السبب
والشرط وأن الأمر بالشيء هل يستلزم الأمر بسببه أو شرطه أو
لا ولذلك عبر بعضهم بالمقدمة والمقدمة خارجة عن الشيء
مقدمة عليه بخلاف الجزء فإنه داخل فيه والمختار وجوب السبب
والشرط كما ذكر المصنف.
والجزء إذا لم يكن مقدورا سقط وجوبه إذا لم نقل بتكليف ما
لا يطاق من
ج / 1 ص -104-
ضرورة
ذلك عدم وجوب الكل حينئذ لكن بقي وجوب ما سواه من الأجزاء
لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
وهذا آخر ما كتبه الشيخ الإمام العلامة المجتهد شيخ
الإسلام والمسلمين تقي الدين بقية المجتهدين أبو الحسن علي
بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الشافعي رحمه الله
ورحم أموات المسلمين وتممه ولده قاضي القضاة تاج الدين عبد
الوهاب فسح الله في مدته ونفع به آمين.
ج / 1 ص -105-
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين رب يسر قال سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العلامة
الأوحد البارع الحافظ شيخ الإسلام مفتي الأنام قدوة الأئمة
حبر الأمة ناصر السنة قامع البدعة علامة العلماء وارث
الأنبياء فريد دهره ووحيد عصره قاضي القضاة تاج الدين ابت
سيدنا ومولانا قاضي القضاة أوحد العلماء العاملين آخر
المجتهدين تقي الدين أبي الحسن السبكي الشافعي متع الله
بحياته المسلمين وأيده وأمده بعونه وأدام النفع به آمين.
الحمد لله رب العالمين الحمد لله الذي جعل لنا من هذا
الدين القيم شرعة ومنهاجا و وأطلع لنا في سماء العلم
الشريف من الكتاب والسنة سراجا وهاجا وقدر للفقيه أن يكون
على الإجماع محتالا وإلى القياس محتاجا نحمده على نعمه
التي خصنا بعمومها ورجحنا على من سوانا بأدلة مفهومها
واستوعب لنا ما وجد منها عند سبرها وتقسيمها ونشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ظاهرة غير مؤولة دائمة
نستصحب أحكاما غير مبدلة نامية الثواب يوم المعاد فلا
يحتاج إلى بيان أحكامها المجملة ونشهد أن سيدنا محمدا عبده
ورسوله الذي نسخ شرع من قبله بشرعه المؤيد وأمر ونهى فأوجب
وندب وحرم وأباح وأطلق وقيد واجتهد في إبلاغ ما أمر به فذب
العقل عن فعل ما قرره وشيد صلى الله عليه وسلم وعلى آله
وأصحابه الذين فهموا خطاب وضعه وقاموا بشرائط دينه وعلموا
أدلة شرعه واتبعوه فما منهم إلا من قال بموجب أصله وفرعه
صلاة تصل أخبارها إليهم بكرة وعشيا وتفد أجناسها المتنوعة
بفصولها المتميزة عليهم فتسلك صراطا سويا وتخلص فتخلص
قائلها من الأهوال يوم يموت ويوم يبعث حيا دائمة ما افتقر
فرع إلى الرجوع إلى أصله واحتاج المجادل إلى تجويد نصه كما
يحتاج المجالد إلى تجريد نصله باقية لا ينعكس طردها ولا
يشتبه محكمها
ج / 1 ص -106-
بترهات
الملحد وزخرف قوله: ورضي الله عن التابعين لهم بإحسان
المقتفين آثارهم الحسان وخص بمزيد الرضوان العلماء الحامين
حمى الشريعة أن يضام أو يضاع الوارثين بالدرجة الرفيعة هدى
النبوة الذي لا يرام ولا يراع الوافدين على حياطته بالهمة
الشريفة حتى لا ينفك أو يشان ويشاع لا سيما الإمام المطلبي
مستخرج علم أصول الفقه محمد بن إدريس الشافعي الذي ساد
المجتهدين بما أصل وأنشأ وسار نبأ مجده والبرق وراءه يتحرق
عجله وهو أمامه على مهل يتمشى وساق إلى سواء السبيل بعلومه
التي غشاها من تقوى الله ما غشى وقدس أرواح أصحابه الذين
زينوا أسماء العلوم من أنفسهم بزينة الكواكب وهاموا باتباع
مذهبه المذهب وللناس فيما يعشقون مذاهب.
وذادوا عن بيان ما أجمله وإيضاح ما أشكله والعلوم عطايا من
الله ومواهب رضا يتكفل بنجاة كل منهم ونجاحه ويمر بروض
الإيمان فيتعطر بأنفاسه رياحه ويفخر عقد الجوزاء إذا كان
درة في وشاحه.
أما بعد فإن العلوم وإن كانت تتعالى شرفا وتطلع في افق
الفخار من كواكبها شرفا فلا مرية في أن الفقه نتيجة
مقدماتها وغاية نهاياتها وواسطة عقدها ورابطة حلها وعقدها
به يعرف الحرام من الحلال وتستبين مصابيح الهدى من ظلام
الضلال وهيهات أن يتوصل طالب وإن جد المسير إليه أو يتحصل
بعد الإعيا والنصب عليه إلا بعد العلم بأصول الفقه
والمعرفة والنهاية فيه فإنه صفته وكيف يفارق الموصوف الصفة
وقد نظرنا فلم نر مختصرا أعذب لفظا وأسهل حفظا وأجدر
بالاعتناء وأجمع لمجامع الثناء من كتاب منهاج الوصول إلى
علم الأصول للشيخ الإمام العالم العلامة قاضي القضاة ناصر
الدين البيضاوي بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه
وروض تربته بغمام الغفران حتى يأتي يوم القيامة وما ثلم
جانبه ولا فض فوه فإنه موضوع على أحسن منهاج محمول على
الأعين وليس له منها من هاج بعبارة أعذب من ماء السحاب
وألعب من ابنة الكرم بعقول أولي الألباب آل فضل البلاغة
إليه وآلى فضل الخطاب ألا يتمثل إلا بين يديه وقد رأيت
شراحه على كثرتهم مالوا إلى الإيجاز وقالوا وكأنما ضاق بهم
الفضاء الواسع فعد مقالهم
ج / 1 ص -107-
في
الألغاز قنع كل منهم بحاجة في نفسه من اسم التصنيف قضاها
وجمع نفسه على ما شف به سجل الكتاب من تقارير إذ أنصف من
نفسه لا يرضاها فشروحهم تحتاج إلى من يشرحها وكلماتهم تريد
بسطة في العلم والجسم توضحها.
وقد كان الشيخ الإمام والدي رحمه الله شرع في وضع شرح عليه
أبهى وأبهج من الوشي المرقوم وأسرى وأسرع إلى الهداية من
طوالع النجوم عديد شهب لائحه ورسل سحب سائحه وسماه علم
يهتدى بكوكبه وعلاء قدر أخذ بلمة الفخر ولم يزاحمه بمنكبه
لا تنقشع عارضته ولا نتوقع معارضته خضعت رقاب المعاني
لكلامه وخشعت الأصوات وقد رأته جاوز الجوزاء وما رضيها دار
مقامه لكنه أحسن الله إليه ما غاص في بحره إلى القرار ولا
أوصل هلاله إلى ليلة البدار بل أضرب عنه صفحا بعد لأي قريب
وتركه طرحا وهو الدر اليتيم بين إخوانه كالغريب وقد حدثتني
النفس بالتذييل على هذه القطعة وأحاديث النفس كثيرة
وأمرتني الأمارة بالتكميل عليها ولكني استصغرتها عن هذه
الكبيرة وقلت للقلم أين تذهب وللفكر أين تجول أطنب لسانك
أم أسهب ووقفت وقفة العاجز والنفس تأبى إلا المبادرة بما
به أشارت وجرت على تيارها منادية أئت بما أمرتك بما استطعت
وتوارى اللسان وما توارت فلما تعارض المانع والمقتضى وعلمت
أن الحال إذا حاولت مجهودها قام لها العذر الواضح فيما
استقبلته ومضى أي مضى أعلمت الفكرة في الدجنة والوجه
والليل كلاهما كالح وشرعت فيه وقلت لعل الغرض يتم ببركته
وبقصده الصالح وجردت همة ما ورد رائدها إلا وقد سئم من
النشاط ولا أغمد مهندها إلا وقد ترك ألف طريح على البساط
ولا عاد نصلها إلا وقد قضى المأمول ولا فترت عزائمها إلا
وقد حصلت على نهاية السول وأعلمنا هذه الهمة في مدلهم
الديجور وصرفنا قلمها بشهادة النجوم وفلكها يدور فلم تنشب
ليالي أسبلت جلبابها وأرخت نقابها معدودة ساعاتها ممدودة
بالألطاف الخفية أوقاتها إلى أن انهزمت تلك الليالي ودارت
الدائرة عليها وجاء من النسيم العليل بشير الصبح متقدما
بين يديها فوافى الصباح بكل معنى مبتكر وجلا عرائس بدائعه
فشنف السمع وشرف البصر وجاء كتابا ساطعا نور شمسه وشمس
السماء في غروب طالعا
ج / 1 ص -108-
في أفق
الفخار على أحسن أسلوب جائزا لما يراد منه في كل طريقه
جائزا حقا على مقالات المتقدمين والمتأخرين وحسبك بمن
مجازه حقيقة فأسأل الله تعالى أن يعم النفع به وأن يجعله
خالصا لوجهه الكريم موجبا للفوز لديه وقد وصل والدي الشيخ
الإمام جزاه الله الخير إلى مسألة مقدمة الواجب ونحن نتلوه
والله الموفق المعين بخفي ألطافه والمحقق لرجاء العبد
بإسعاده وإسعافه.
ج / 1 ص -109-
قال المصنف رحمه الله
"الرابعة وجوب الشيء مطلقا يوجب وجوب ما لا يتم إلا به
وكان مقدورا".
قال والدي تغمده الله برحمته قوله مطلقا احتراز من
الوجوب المقيد كشرط الزكاة وجوبها متوقف على النصاب ولا
يجب تحصيله والجمعة وجوبها متوقف على الجماعة والاقامة في
بلد ولا يجب تحصيلهما وهذا متفق عليه وقوله: "وكان مقدورا"
احتراز من قدرة العبد على الفعل وداعيته المخلوقتين لله
تعالى لا تتم الواجبات المطلقة عليه كالصلاة وغيرها إلا
بهما ولا يجب تحصيلهما ولا يتوقف الوجوب عليهما وجملة ما
يتوقف عليه الفعل اما أن يكون من فعل الله تعالى أو فعل
العبد وكل منهما إما أن يتوقف عليه الوجوب اولا فالذي من
فعل الله تعالى ويتوقف عليه الوجوب كالعقل وسلامة الأعضاء
التي بها الفعل والذي لا يتوقف عليه الوجوب خلق قدرة العبد
وداعيته والذي من فعل العبد ويتوقف عليه الوجوب أما أن
يكون مقدورا أولا فغير المقدور لا يتحقق معه وجوب الفعل
إلا على القول بتكليف ما لا يطاق وحينئذ يصح وجوب غير
المقدور مما يتوقف عليه الواجب فلا يصح اشتراط كونه مقدورا
فلذلك لم أر مثالا يصح اجتماع الوجوب معه إلا القدرة
والداعية ورأيت جماعة خطبوا في ذلك.
وقولنا: ما لا يتم الشيء إلا به يشمل بالوضع ثلاثة أشياء
الجزء والسبب والشرط لكن الجزء ليس مرادا هنا لأن الأمر
بالكل أمر به تضمنا ولا تردد في ذلك وإنما المراد السبب
والشرط وأن الأمر بالشيء هل يستلزم الأمر بسببه أو شرطه أو
لا ولذلك عبر بعضهم عنه بالمقدمة والمقدمة خارجة عن الشيء
ج / 1 ص -110-
متقدمة
عليه بخلاف الجزء فانه داخل فيه والمختار وجوب السبب
والشرط كما ذكره المصنف والجزء إذا لم يكن مقدورا سقط
وجوبه إذا لم نقل بتكليف ما لا يطاق ومن ضرورة ذلك عدم
وجوب الكل حينئذ لكن يبقى وجوب ما سواه من الأجزاء لقوله
صلى الله عليه وسلم:
"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"1.
قلت: هذا ما وقف عنده والدي الشيخ الإمام تغمده الله
برحمته و رضوانه ومن هنا أبتدئ وبالله التوفيق فأقول لا
مزيد على حسن ما ذكره وأما قوله: إذا لم يجب الكل لعدم
القدرة على الجزء يبقى وجوب ما سواه من الأجزاء فصحيح
ومستنده الحديث الذي أورده وهو القاعدة التي يذكرها
الفقهاء: "الميسور لا يسقط بالمعسور" وسنلتفت إن شاء الله
في ذيل المسألة إليها
قال: "قيل يوجب السبب دون الشرط وقيل لا فيهما".
عرفت المذهب المختار وقال قوم يوجب السبب ولا يوجب الشرط
سواء كان شرطا شرعيا كالوضوء للصلاة أو عقليا كترك ضد
الواجب أو عاديا كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه وقيل لا
يوجبه مطلقا هذه المذاهب التي حكاها المصنف وفي المسألة
مذهب رابع ارتضاه إمام الحرمين واختار ابن الحاجب2 أن وجوب
الشيء مطلقا يوجب الشرط الشرعي دون العقلي أو العادي.
قال: "لنا أن التكليف بالمشروط دون محال قيل يختص بوقت
وجود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم
واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه،
وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
كما أخرجه ابن حبا، كما ذكره الحافظ ابن حجر الفتوحات الربانية
للنووي 1/80.
2 هو: عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، جمال الدين بن
الحاجب، فقيه مالكي، من كبار العلماء بالعربية، كردي
الأصل، ولد في إسنا بصعيد مصر، ونشأ في القاهرة ثم رحل إلى
دمشق، وكان أبوه حاجباً فعرف به.
من مؤلفاته: "القافية، والشافية، مختصر الفقه، منتهى السول
والأمل في علمي الأصول والجدل، ومختصر المنتهى" توفي
بالإسكندرية سنة:646هـ وفيات الأعيان 1/314، الأعلام
4/374.
ج / 1 ص -111-
الشرط
قلنا خلاف الظاهر قيل إيجاب المقدمة أيضا كذلك قلنا لا فان
اللفظ لم يدفعه".
لما اشترك المذهبان اللذان حكاهما آنفا في عدم إيجاب الشرط
رد عليهما بالدليل المذكور وقوله التكليف بالمشروط دون
الشرط هذه العبارة تحتمل ثلاثة معان:
أحدهما: التكليف بالمشروط دون التكليف
بالشرط ونقرر استحالته بأنه إذا لم يجب الشرط جاز تركه
فنقدر هذا الجائز واقعا فيصير واقعا كالمعنى الثاني وسنقرر
إن شاء الله استحالته ولكن هذا المعنى ليس مراده لأنه محل
النزاع فلو أراده لكان مصادرا على المطلوب ولأنه يحوج إلى
إضمار ولأن قوله بعد ذلك قيل يختص بوجود الشرط يرشد إلى
خلافه ولأن الإمام صرح بالمقصود فقال حال عدم المقدمة.
المعنى الثاني: أن يكون التكليف حال عدم
الشرط وهذا هو المقصود وهو على قسمين أيضا:
أحدهما: وهو الثاني من المعاني يكلف وقت
عدم الشرط بايقاع المشروط حينئذ ولا شك أن هذا تكليف بما
لا يطاق والاستحالة جاءت من تضاد متعلق التكليف ووقته لا
من خصوصه ولا من خصوص وقته وقريب من هذه العبارة أن يختص
التكليف بوقت عدم الشرط.
والثاني: من القسمين
وهو الثالث من المعاني أن يكلف وقت عدم
الشرط بايقاع المشروط مطلقا ومقتضى ذلك ألا يختص التكليف
بوقت بل يوجد حال وجود الشرط وعدمه والمكلف به في القسمين
المشروط من حيث هو لا بقيد الشرط ولا بقيد عدمه والتقييد
يقيد عدمه مستحيل في نفسه ويقيد وجوده يلزم منه طلب الشرط
كما هو المدعى أعني إذا كان المطلوب المشروط ووقت طلبه غير
مقيد.
إذا عرفت ذلك فنقول لو لم يوجب إيجاب الشيء مطلقا ما يتوقف
عليه ذلك الشيء لكنا قد كلفنا بالمشروط من غير التكليف
بالشرط وهو تكليف
ج / 1 ص -112-
بمحال
لأنه إذا كان المشروط مكلفا به دون الشرط لم يحبب الإتيان
بالشرط وإذا جاز ترك الشرط لزم منه جواز ترك المشروط لأن
انتفاء الشرط مستلزم لانتفاء المشروط فيلزم كون المشروط
جائز الترك واجب الفعل وهو تكليف بما يلزم من المحال فتعين
أن يكون التكليف بالمشروط موجبا للتكليف بالشرط وإن أثبت
ذلك في الشرط ففي السبب بطريق أولى فإن من قال بوجوب الشرط
قال بوجوب السبب من غير عكس.
هذا تقرير الدليل وقول المصنف التكليف بالمشروط دون الشرط
محال فيه نظر لأنا نفرق بين التكليف بالمحال والتكليف
المحال فالأول هو تكليف العاقل الذي يفهم الخطاب بما لا
يطيقه وهو محل الخلاف في تكليف ما لا يطاق لأن المخاطب به
يعلم أنه مكلف بذلك.
والثاني: مثل تكليف الميت والجماد ومن لا
يعقل من الأحياء فهذا تكليف المحال واتفق أهل الحق قاطبة
على أنه لا يصح نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر رحمه الله
فكان الأحسن للمصنف أن يقول تكليف محال كما قررناه وعذره
في ذلك أنه فرع على تكليف ما لا يطاق فإن الأصحاب وإن
أقروا بتكليف ما لا يطاق في موضعه لا يفرعون عليه ويحيلون
ما لزم عنه لكونه غير واقع في الشريعة فحينئذ التكليف به
محال عند المانعين منه فيصح كلامه.
قوله: قيل يختص بوقت وجود الشرط اعترض الخصم على الدليل
المذكور بأنه لم لا يجوز أن يختص التكليف بالمشروط بحال
وجود الشرط ولا امتناع في ذلك فإن غايته أن يقيد الأمر
ببعض الأحوال لمقتض قام وهو الفرار من تكليف المحال وأجاب
المصنف بأن اللفظ مطلق لا اختصاص له بوقت وجود الشرط خلاف
الظاهر واعترض الخصم أيضا بأن إيجابكم المقدمة أيضا خلاف
الظاهر لأن ظاهر الأمر لا يدل عليه فإذا جاز مخالفة الظاهر
من هذا الوجه فلم لا يجوز من الوجه الذي ذكرناه وأجاب
المصنف بأن مخالفة الظاهر عبارة عن إثبات ما ينفيه اللفظ
أو نفي ما يثبته اللفظ ظاهرا وأما إثبات ما لم يتعرض اللفظ
له بنفي ولا إثبات فليس مخالفة للظاهر وحينئذ لا يكون
إيجاب المقدمة مخالفة للظاهر إذ لم يدل اللفظ عليه بنفي
ولا إثبات بخلاف تخصيص
ج / 1 ص -113-
الأمر
بوقت وجود الشرط فإن اللفظ يقتضي الوجوب مطلقا فتقييده
بوقت وجود الشرط دون ما سواه مخالفة للظاهر فإن قلت كيف
يكون حمل المطلق الصادق بصورة على أحد صوره خلاف الظاهر
وليس فيه إثبات ما ينفيه اللفظ ولا نفي ما يثبته قلت لما
اقتضى الإطلاق من كل صوره صار تقييده ه بصورة منافر لكونه
مطلقا قال:
تنبيه
"مقدمة الواجب إما أن يتوقف عليها وجوده شرعا كالوضوء
للصلاة أو عقلا كالمشي للحج أو العلم به كالإتيان بالخمس
إذا ترك واحدة ونسي وستر شيء من الركبة لستر الفخذ".
عبر الإمام عن هذا بالفرع ووجهه أنه مندرج تحت أصل كلي
ووجه التعبير عنه بالتنبيه أن الكلام السابق نبه عليه على
سبيل الإجمال حاصله أن مقدمة الواجب تنقسم إلى أمرين:
أحدهما: أن يتوقف عليه وجوب الواجب وهو
نوعان:
أحدهما: أن يتوقف عليه شرعا كالوضوء مع
الصلاة.
الثاني: أن يتوقف عليه عقلا كالسير إلى
الحج وعبارة المصنف المشي وقد يناقش فيها والأمر سهل.
القسم الثاني: أن يتوقف عليها العلم بوجود
الواجب لا نفس وجود الواجب فلذلك إما لالتباس الواجب بغيره
كالإتيان بالصلوات الخمس إذا ترك واحدة ونسي عينها فإن
العلم بأنه أتى بالصلاة المنسية لا يحصل إلا بالإتيان
بالخمس وإما أن يكون لتقارب ما بين الواجب وغيره بحيث لا
يظهر حد مفرق بينهما وذلك كستر شيء من الركبة لستر الفخذ
فإن الفخذ والركبة متقاربان فالعلم بستر جميع الفخذ الذي
هو واجب إنما يحصل بستر شيء من الركبة للتقارب المذكور هذا
ما ذكره وهو مبني على أن الفخذ نفسه عورة وذلك في المرأة
بلا خلاف وفي الرجل على الصحيح وعلى أن الركبة نفسها ليست
بعورة وهو الصحيح أيضا فإن قلت القول بإيجاب الخمس على من
نسي
ج / 1 ص -114-
أحدها
وجهل عينها عند من يوجب المقدمة واضح وأما من لا يوجبها
فماذا يفعل وما فائدة الخلاف قلت قد لا ينظر الفقيه إلى
الخلاف الأصولي في كثير من الفروع ولا يجعل لها به تعلقا
البتة وقد يقال بظهور فائدة الخلاف في أنه هل يصلي الخمس
بتيمم واحد أو بخمس تيممات لكن الصحيح إيجاب تيمم واحد
وقضية القول بوجوب المقدمة إيجاب خمس تيممات فإن قلت ما
وجه القصور في الإيجاب على تيمم واحد والخمس فرائض ولا
يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة واحدة قلت الأربعة من حيث
إنها لم ترد لنفسها منحطة عن مراتب الفرائض ولذلك قيل صلاة
ركعتين تطوعا أفضل من إحدى الصلوات الأربع التي هي غير
واجبة في نفس الأمر وعد ذلك موضعا يفضل الندب فيه الواجب
ونحن لنا في هذا نظر ليس هذا موضعه.
فروع فقهية
قال:"
فروع الأول لو اشتبهت المنكوحة بالأجنبية
حرمتا على معنى أنه يجب عليه الكف عنهما".
أما الأجنبية فواضح وأما المنكوحة فلاشتباهها بالأجنبية
فالكف عنهما هو طريق حصول العلم بالكف عن الأجنبية وإنما
قال على معنى أنه يجب عليه الكف عنهما لأن الحرام عليه في
نفس الأمر هي الأجنبية فقط فمعنى تحريمهما عليه وجوب الكف
عنهما فنبه عليه واعلم أن هذا النوع في الحرمة لما لا يتم
الواجب إلا به شبيه في الوجوب للإتيان بالخمس إذا ترك
واحدة ونسي عينها.
قال: "الثاني
إذا قال إحداكما طالق حرمتنا تغليبا للحرمة والله تعالى
يعلم أن سيعين إحداهما لكن ما لم يعين لم تتعين".
إذا قال: إحداكما طالق ولم ينو إحداهما على التعيين حرمت
الزوجتان عليه إلى حين التعيين لأن كل واحدة منهما يحتمل
أن تكون هي المطلقة فتحرم أو غير المطلقة فلا تحرم وإذا
اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام والفرق بين هذا والذي
قبله أن إحدى المرأتين في الصورة الأولى ليست محرمة بطريق
الأصالة
ج / 1 ص -115-
بل
للاشتباه بخلاف الفرع الثاني فإنهما في ذلك سواء وأيضا
فالزوج غير قادر على إزالة التحريم في الأول دون الثاني
وهذا الذي جزم به المصنف حكاه الإمام مذهبا لبعضهم وقال
يحتمل أن يقال يحل وطؤها لأن الطلاق شيء معين فلا يحصل إلا
في محل معين فقبل التعيين لا يكون الطلاق نازلا في واحدة
منهن ويكون الموجود قبل التعيين ليس هو الطلاق بل أمر له
صلاحية التأثير في الطلاق عند اتصال البيان به لا إنه طلاق
وإذا لم يوجد الطلاق قبل التعيين وكان الحل موجودا أوجب
القول لبقائه فيحل وطؤها معا معا هذا كلامه ونقل ابن رفعة1
عن كتاب الوزير ابن هبيرة الذي حكى فيه ما اجتمع عليه
الأئمة الأربعة وما اختلفوا فيه أن ابن هبيرة2 من أصحابنا
قال إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها أو بعينها ثم أنسيها
طلاقا رجعيا أنه لا يحال بينه وبين وطئهن وله وطء أيتهن
شاء وإذا وطيء واحدة انصرف الطلاق إلى صاحبتها وهذا يعضد
ما حاوله الإمام وهو ضعيف لأنا نقول محل الطلاق القدر
المشترك بينهما وهو إحداهما لا بعينه وهو متعين بالنوع وإن
لم يكن متعينا بالشخص واستدعاء الطلاق من حيث كونه وصفا
متعينا محلا معينا يكفي فيه التعيين بالنوع.
سلمنا أنه يقتضي تعينا بالشخص ولكن نقول هو عند الله متعين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، أبو العباس، نجم
الدين، المعروف بابن الرفعة، فقيه شافعي، من فضلاء مصر،
كان محتسب القاهرة ونائباً في الحكم.
من مؤلفاته: "بدل النصائح الشرعية في ما على السلطان وولاة
الأمور وسائر الرعية" و"الكفاية في شرح التنبيه".
توفي سنة 710هـ.
الدار الكامنة 1/284، الأعلام 1/213.
2 هو: يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة الذهلي، الشيباني،
أبو المظفر، من كبار الوزراء في الدولة العباسية كان
عالماً بالفقه والأدب، استوزره المقتفي سنة 544هـ فقام
بشؤون الوزارة خير قيام، ولما توفي "المقتفي" وبويع
"المستنجد" أقره في الوزارة. وكان يحضر مجلسه الفضلاء على
اختلاف فنونهم. ألف العديد من الكتب، منها: الإيضاح
والتبيين في اختلاف الأئمة المجتهدين" و"الإشراف على مذاهب
الأشراف" في الفقه.
توفي سنة 560هـ وفيات الأعيان 2/246، شذرات الذهب 4/191،
الأعلام 9/222.
ج / 1 ص -116-
بالشخص
ونحن في الخارج لا نعلمه حتى يعينه العبد بالطلاق النازل
لوجوده من قادر على التصرف في محل قابل فينفذ ولا نفوذ له
إلا بوقوعه في الخارج منجزا لأنه كذلك أوقعه فلو لم يقع
كما أوقعه لما نفذ التصرف ولكن لا نحكم ببطلان الزوجية إلا
من حين علمنا بذلك الشخص الذي كان مبهما علينا ولا ينعطف
على ما مضى لجهلنا في الماضي بالحال.
قوله: والله تعالى يعلم أنه سيعين جواب عن سؤال مقدر ويمكن
أن يقرر على وجهين:
أحدهما: إن الله تعالى يعلم المرأة التي
سيعينها الزوج بعينها فتكون هي المطلقة في علم الله تعالى
وإنما هو مشتبه علينا وهذا سؤال أورده الإمام على نفسه في
قوله بالإباحة فإن الاشتباه يقتضي التحريم وهو خلاف ما مال
إليه وجوابه أن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه
فلا يعلم غير المعين معينا لأن ذلك جهل وهو محال في حق
الله تعالى بل علمه في الحال بأنه سيعين في المستقبل وهذا
التقرير ماش على ما في المحصول إلا أنه يلزم منه أن يكون
المصنف أورد سؤالا على دعوى لم يدعها ولم يذكرها البتة وهي
القول بالإباحة.
والثاني: أن يقال لا فارق هذا الفرع
والفرع الذي قبله إلا أن إحدى المرأتين في ذلك وهي
الأجنبية محرمة في نفس الأمر وكل واحدة منهما هنا على حد
سواء ونحن لا نسلم أن كل واحدة منهما محتملة الحل والحرمة
حتى يحصل ما ذكرت بل الله يعلم المحرمة فهي معينة في علمه
تعالى فلا فرق لتعيين المحرمة في نفس الأمر كونها يقع
عليها الطلاق لا كونها مطلقة الآن لما عرفته وهذا التقرير
لا معترض فيه على المصنف إلا أنه مع التعسف مخالف لما في
المحصول.
قال: "الثالث:
الزائد على ما ينطلق عليه الإسم من المسح غير واجب وإلا لم
يجز تركه وجه تفريغ هذا على مقدمة الواجب أنه لما كان
الواجب لا ينفك غالبا عن حصول زيادة فيه كانت هذه الزيادة
مقدمة للعلم بحصول الواجب وقد أورد على المصنف أنه إذا كان
الزائد عنده مقدمة الواجب فيلزم أن يحكم
ج / 1 ص -117-
عليه
بالوجوب كستر شيء من الركبة وأجيب عنه بأن مراده بالمقدمة
هناك غير القسم الذي يكون التوقيف فيه من حيث الإعادة إذا
عرفت هذا فنقول الواجب إما أن يتقدر بقدر كغسل الرجلين
واليدين ولا كلام فيه أولا كمسح الرأس وكإخراج البعير عن
الشاة الواجبة في الزكاة وكذبح المتمتع بدنه بدل الشاة
وحلقه جميع الرأس وتطويل أركان الصلاة زيادة على ما يجوز
الاختصار عليه والبدنة المضحى بها بدلا عن الشاة المنذورة
فنقول اختلفوا في القدر الزائد على الذي يعاقب على تركه
وهو في أمثلتنا ما يعد أقل ما ينطلق عليه الاسم من المسح
وقدر قيمة الشاة من البعير والبدنة وفوق الشعرات الثلاث في
الحلق وفوق قدر الوجوب في الطمأنينة هل يوصف بالوجوب فذهب
الإمام وأتباعه ومنهم المصنف إلى أنه لا يوصف بذلك لأن
الواجب لا يجوز تركه وهذه الزيادة جائزة الترك وقال آخرون
يوصف بالوجوب لأنه إذا زاد على القدر الذي يسقط به الفرض
لا يتميز جزء عن جزؤ لسقوط الفرض به لصلاحية كل جزء لذلك
فتخصيص بعض الأجزاء بوصف الواجب ترجيح من غير مرجح.
فإن قلت: ما محل الخلاف في مسح الرأس هل هو ما إذا وقع
الجميع دفعة واحدة حتى إذا وقع مرتبا يكون الزائد نفلا
جزما أم هو جار في الصورتين؟.
قلت: للأصحاب في ذلك وجهان فإن قلت ما فائدة الخلاف في هذه
الصورة.
قلت:
منها: الثواب فإن ثواب الفريضة أكثر من ثواب النافلة
بسبعين درجة كما حكى النووي1 عن إمام الحرمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحزامي الحوارني،
النووي، الشافعي، أبو زكريا، محي الدين، علامة بالفقه
والحديث، وولد وتوفي في "نوا" قرية من قرى "حوران بسوريا".
من كتبه "تهذيب الأسماء واللغات" و"منهاج الطالبين" في فقه
الشافعية. "تصحيح التنبيه" "المنهاج في شرح صحيح مسلم"
"رياض الصالحين" وغير ذلك مما لا يخفى على أحد. توفي سنة
676هـ.
مفتاح السعادة 1/398، النجوم الزاهرة 7/278، الأعلام
/184-185.
ج / 1 ص -118-
ومنها:
إذا عجل البعير عن شاة واقتضى الحال الرجوع فهل يرجع
بجميعه أم بسبعة وفيه وجهان في شرح المهذب.
ومنها: لو أخرج بعيرا عن عشر من الإبل أو خمسة عشر أو
عشرين هل يجزيه فيه وجهان مبنيان على هذا الخلاف إن قلنا
بوقوعه كله فرضا فيما إذا أخرجه عن الخمس فلا يكفي بعير
واحد بل لا بد في العشرة من بعيرين أو بعير وشاة وهكذا وإن
قلنا الفرض قدر خمسة فيجزئ ويكون متبرعا في العشرة بثلاثة
أخماس على أن إمام الحرمين وغيره أنكروا هذا البناء وليس
هذا محل القول فيه.
واعلم أنه يضاهي قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
صور في الفقه منها مؤونة الكيل الذي يفتقر إليه القبض على
البائع كمؤونة إحضار المبيع الغائب ومؤونة وزن الثمن على
المشتري وفي أجرة نقد الثمن وجهان.
ومنها: إذا خفي عليه موضع النجاسة من الثوب أو البدن غسله
كله.
ومنها: إذا اكترى دابة للركوب فأطلق الاكتراء أن على
المكري الإكاف والبرذعة والحزام وما ناسب ذلك لأنه لا
يتمكن من الركوب دونها وهي صور عديدة من أراد الإحاطة
فعليه بكتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله تعالى وقد كنا
في أول المسألة وعدنا بالالتفات إلى قاعدة أن الميسور لا
يسقط بالمعسور والصور تحتها كثيرة ونحن نحيل طالبها بعد
ذكر القليل منها على كتابنا المذكور1.
فمنها: لو عجز عن الركوع والسجود دون القيام لعلة بظهره
تمنعه الانحناء لزم القيام خلافا لأبي حنيفة.
ومنها: لو لم يقدر على الانتصاب بأن تقوس ظهره لكبر أو
زمانة فصار في حد الراكعين فقد قال الغزالي تبعا لإمامه أن
يقعد وقال غيرهما لا يجوز له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع في هذه القاعدة وما يتفرع عليها من فروع فقيهة في:
الأشباه والنظائر للسيوطي 8 ص159، 160 مطبعة الحلبي 1959م.
وكذلك في الأشباه والنظائر لابن نجيم. والقواعد لابن رجب
الحنبلي.
ج / 1 ص -119-
القعود
فإن الوقوف راكعا أقرب إلى القيام من القعود فلا ينزل عن
الدرجة القربى إلى البعدى.
ومنها: لو وجد الجنب من الماء ما لا يكفيه لغسله أو المحدث
ما لا يكفيه لوضوئه فأصح القولين أن يجب استعماله ثم يتيمم
لأن القدرة على البعض لا تسقط بالعجز عن الباقي.
ومنها: لو اطلع على عيب البيع ولم يتيسر له المبادرة بالرد
ولا الإشهاد ففي وجوب التلفظ بالفسخ وجهان جاريان هنا وفي
الشفعة.
ومنها: لو لم يفضل معه في الفطرة عما لا يجب عليه إلا بعض
صاع لزمه إخراجه على الأصح.
ومنها: إذا اشترى الشقص بثمن مؤجل فهل يأخذه الشفيع مؤجلا
كما أشتراه المشتري وأصح الأقوال أن الشفيع بالخيار بين أن
يعجل ويأخذ الشقص في الحال وبين الصبر إلى حيلولة الأجل
وعلى هذا فهل يجب تنبيه المشتري على الطلب وجهان.
ومنها: إذا كان يحسن آية فلا خلاف أنه يقرؤها وهل يضيف
إليها من الذكر ما يتم به قدر الفاتحة أو يكررها سبعا فيه
قولان.
فإن قلت: لم لا جرى قول أنه لا يقرأ تلك الآية بل يأتي
ببدل الفاتحة كلها كما إذا قدر على بعض وضوئه ونظائره؟
قلت: كل آية من الفاتحة يجب قراءتها بنفسها فلا يأتي
ببدلها مع القدرة عليها والله أعلم.
ج / 1 ص -120-
المسألة الخامسة وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه
قال: "الخامسة وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه لأنها جزؤه
فالدال عليه يدل عليها بالتضمن قالت المعتزلة وأكثر
أصحابنا الموجب قد يغفل عن نقيضه قلنا لا فإن الإيجاب بدون
المنع من نقيضه محال وإن سلم فمنقوض بوجوب المقدمة".
هذه هي المسألة المعروفة بأن الأمر بالشيء هل هو نهي عن
ضده؟
أعلم أنه لا نزاع في أن الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق
التضمن وإنما احتلفوا في انه هل هو نهي عن ضده الوجودي على
مذاهب:
أحدها: أن الأمر بالشيء نفس النهي عن ضده.
والثاني: أنه غيره ولكن يدل عليه
بالالتزام وهو رأي الجمهور منهم الإمام وصاحب الكتاب وعلى
هذا فالأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده لانتفاء حصول
المقصود إلا بانتفاء كل ضد والنهي عن الشيء أمر بأحد
أضداده لحصول المقصود بفعل ضد واحد فالأولى التعبير بهذه
العبارة وبها صرح إمام الحرمين.
والثالث: أنه لا يدل عليه أصلا ونقله في
الكتاب عن المعتزلة وأكثر أصحابنا واختاره ابن الحاجب
واستدل المصنف على اختياره بأن حرمة النقيض جزء من الوجوب
لأن الواجب هو الذي يجوز فعله ويمتنع تركه وإذا كان كذلك
فالدال على الوجوب يدل على حرمة النقيض بالتضمن لأن المراد
من دلالة التضمن أن اللفظ يدل على جزء ما وضع له والمراد
بدلالة
ج / 1 ص -121-
الالتزام هنا دلالة اللفظ على كل ما يفهم منه غير المسمى
سواء كان داخلا فيه أو خارجا عنه فيصدق قوله يدل بالتضمن
مع قوله بالالتزام.
واحتجت المعتزلة بأن الموجب للشيء قد يكون غافلا عن نقيضه
فلا يكون النقيض منهيا عنه لأن النهي عن الشيء مشروط
بتصوره وأجاب عنه بأنا لا نسلم أن الموجب للشيء قد يغفل عن
نقيضه لأن الموجب للشيء ما لم يتصور الوجوب لا يحكم به
ويلزم من تصور الوجوب تصور المنع من النقيض لأنه جزؤه
وتصور الكل مستلزم لتصور الجزء ولو سلمنا أنه يجوز أن يكون
الموجب للشيء قد يغفل عن نقيضه فذلك لا يمنع حرمة النقيض
بدليل وجوب المقدمة أعني ما لا يتم الواجب إلا به فإن
الموجب للشيء قد يكون غافلا عن مقدمته مع استلزام وجوبه
لوجوبها كما تقدم هذا شرح ما في الكتاب.
واعلم أنه قد تردد كلام الأصوليين في المراد من الأمر
المذكور في هذه المسألة هل هو النفساني فيكون الأمر
النفساني نهيا عن الضد نهيا نفسانيا أو اللساني فيكون نهيا
عن الأضداد بطريق الالتزام وهذا هو الذي ذكره الإمام حيث
صرح بلفظ الصيغة.
وإذا عرفت هذا فنقول: إن كان الكلام في النفساني تعين
التفصيل بين من يعلم بالأضداد ومن لا يعلم فالله تعالى بكل
شيء عليم وكلامه واحد وهو أمر ونهي وخبر فأمره عين نهيه
وعين خبره غير أن التعلقات تختلف فالأمر عين النهي باعتبار
الصفة المتعلقة نفسها التي هي الكلام وهو غيره باعتبار أن
الكلام إنما يصير أمرا بإضافة تعلق خاص وهو تعلق الكلام
بترجيح طلب الفعل وإنما يصير نهيا بتعلقه بطلب الترك
والكلام يقيد التعلق الخاص غيره بالتعلق الآخر فهذه
الأقسام والتفاصيل لا ينبغي الخلاف فيها لمن تصورها وأن
أمر الله تعالى بالشيء نهى عن ضده باعتبار أنه لا بد من
حصول التعلق بالضد المنافي وأما من لا شعور له بضد المأمور
فلا يتصور منه النهي عن جميع الأضداد بكلامه النفسي تفصيلا
لعدم الشعور بها ولكن يصدق أنه نهى عنها بطريق الإجمال
لأنه طالب للمأمور على التفصيل ولتحصيله بكل طريق مفض إلى
ذلك ومن جملتها اجتناب الأضداد وإن كان في اللساني فلا
يتجه
ج / 1 ص -122-
أن
يقال الأمر تحرك ليست صيغة قولنا في الشيء نهي عن ضده فإن
صيغته قولنا لا تسكن والمكابر في ذلك المنزل منزلة منكري
المحسوسات وإنما يتجه الخلاف في أن صيغة الأمر هل دلت
التزاما.
وهذا الذي قررناه هو الذي اقتضاه كلام إمام الحرمين فإنه
حكى اختلاف أصحابنا في أن الأمر بالشيء نهي عن أضداد
المأمور به ثم قال وأما المعتزلة فالأمر عندهم هو العبارة
وهو قول القائل أفعل أصوات منظومة معلومة وليس هي على نظم
الأصوات في قول القائل لا تفعل ولا يمكنهم أن يقولوا الأمر
هو النهي وهذا هو مقتضى كلامه في التخليص الذي اختصره من
التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر فحصلنا من هذا على أن
القائل بأن الأمر بالشيء هو نفس النهي عن ضده إنما كلامه
في النفسي وأن المتكلمين في النفسي يقع اختلافهم على
مذاهب:
أحدها: أن الأمر بالشيء نفس النهي عن ضده
واتصافه بكونه أمرا نهيا بمثابة اتصاف الكون الواحد بكونه
قريبا من شيء بعيدا من غيره.
والثاني: وهو الذي مال إليه اختيار القاضي
في آخر مصنفاته أنه ليس هو ولكن يتضمنه.
الثالث: أنه لا يدل عليه أصلا وإليه ذهب
إمام الحرمين والغزالي ويتعين أن تكون هذه المذاهب في
الكلام النفسي بالنسبة إلى المخلوق وأما الله تعالى فكلامه
واحد كما عرفت لا يتطرق الغيرية إليه ولا يمكن أن يأمر
بشيء إلا وهو مستحضر لجميع أضداده لعلمه بكل شيء بخلاف
المخلوق فإنه يجوز أن يذهل ويغفل عن الضد وبهذا الذي قلناه
صرح الغزالي وهو مقتضى كلام إمام الحرمين والجماهير.
وأما المتكلمون في اللساني فيقع اختلافهم على قولين:
أحدهما: أنه يدل عليه بطريق الالتزام وهو
رأي المعتزلة.
والثاني: أنه لا يدل عليه أصلا ولبعض
المعتزلة مذهب ثالث وهو أن أمر الإيجاب يكون نهيا عن
أضداده ومقبحا لها بكونها مانعة من فعل الواجب
ج / 1 ص -123-
بخلاف
المندوب فإن أضداده مباحة غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا
نهي تنزيه ولم يقل أحد هنا إن الأمر بالشيء نفس النهي عن
ضده لكون مكابرة وعنادا كما قررناه واختار الآمدي أن يقال
إن جوزنا تكليف ما لا يطاق فالأمر بالفعل ليس نهيا عن الضد
ولا مستلزما للنهي عنه بل يجوز أن يؤمر بالفعل وبضده في
الحالة الواحدة وإن منع فالأمر بالشيء مستلزم للنهي عن
ضده.
هذا خلاصة ما يجده الناظر في كتب الأصول من المنقول في هذه
المسألة وهو هنا على أحسن تهذيب وأوضحه ومنهم من أجرى
الخلاف في جانب النهي هل هو أمر بضد المنهي عنه وقال إمام
الحرمين من قال النهي عن الشيء أمر يأخذ أضداده فقد اقتحم
أمرا عظيما وباح بالتزام مذهب الكعبي1 في نفي الإباحة فإنه
إنما صار إلى ذلك من حيث قال لا شيء يقدر مباحا إلا وهو ضد
محظور فيقع من هذه الجهة واجبا ومن قال الأمر بالشيء نهي
عن الأضداد ومتضمن لذلك من حيث تفطن لقائله الكعبي فقد
ناقض كلامه فإنه كما يستحيل الإقدام على المأمور به دون
الإنكفاف عن أضداده فيستحيل الانكفاف عن المنهي دون
الإنصاف بأحد أضداده ونختم الكلام في المسألة بفوائد:
أحدها: قال القاضي عبد الوهاب2 في الملخص
بعد أن حكى عن الشيخ أبي الحسن3 أن الأمر بالشيء نهي عن
ضده إن كان ذا ضد واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عبد الله بن أحمد بن محمود، المكنى بأبي القاسم
الكعبي، من عيون المعتزلة، وإليه تنسب طائفة الكعبية، توفي
بـبلخ سنة 1319هـ.
شذرات الذهب 2/281، البغدادي 9/384.
2 هو: عبد الوهاب بن علي بن نضر الثعلبي البغدادي، قاض من
فقهاء المالكية، له نظم ومعرفة بالأدب. من مؤلفاته: كتاب
تلقين في فقه المالكية شرح المدونة للإمام مالك الإشراف
على مسائل الخلاف شرح فصول الأحكام توفي سنة 422هـ.
فوات الوفيات 1/21، الأعلام 4/335.
3 هو الشيخ الإمام: علي بن إسماعيل بن أبي بشر، شيخ طريقة
أهل السنة، والجماعة، وإمام المكلمين، أخذ عن الحبائي حتى
برع في علم الكلام والجدل على طريقة المعتزلة، ثم شرح الله
صدره فانخلع عما كان يعتقده، وانتصب للدفاع عن عقيدة أهل
السنة.
توفي ببغداد سنة 324هـ.
ابن خلكان 1/411، البغدادي 11/346.
ج / 1 ص -124-
واضداده إن كان ذا أضداد أن الشيخ شرط في ذلك أن يكون
واجبا لا ندبا قال القاضي عبد الوهاب: "وقد حكى عن الشيخ
أنه قال في بعض كتبه إن الندب حسن وليس مأمورا به وعلى هذا
القول لا يحتاج إلى اشتراط الوجوب في الأمر إذ هو حينئذ لا
يكون إلا واجبا" قال القاضي عبد الوهاب: ولا بد أن يشترط
الشيخ في ذلك أن يكون مع وجوبه مضيقا مستحق العين لأجل أن
الواجب الموسع ليس ينهى عن ضده قال ولا بد أيضا من اشتراط
كونه نهيا عن ضده وضد البدل الذي منه هو بدل لهما إذا كان
أمرا على غير وجه التخيير انتهى.
وما قاله من اشتراط كونه نهيا عن ضده وضد البدل منه لا
يحتاج إليه بعد معرفة صورة المسألة فإن صورتها في الأمر
الذي غير وجه التخيير كما صرح به القاضي في مختصر التقريب
والإرشاد لإمام الحرمين فإنه قيد الكلام بالأمر على
التنصيص لا على التخيير ثم قال وإنما قيدنا الكلام بانتفاء
التخيير لأن الأمر المنطوي على التخيير قد يتعلق بالشيء
وضده ويكون الواجب أحدهما لا بعينه فلا سبيل لك إلى أن
تقول فيما هذا وصفه إنه نهي عن ضده إذا خير المأمور بينه
وبين ضده ولقائل أن يقول محل التخيير لا وجوب فيه فأين
الأمر حتى يقال ليس نهيا عن ضده ومحل الوجوب لا تخيير فيه
وهو نهي عن ضده وما قاله القاضي عبد الوهاب من اشتراط
التضييق لم يتضح لي وجهه فإن الموسع إن لم يصدق عليه أنه
واجب فأين الأمر حتى يستثنى من قولهم الأمر بالشيء نهى عن
ضده وإن صدق عليه أنه واجب بمعنى أنه لا يجوز إخلاء الوقت
عنه فضده الذي يلزم من فعله تقويته منهي عنه وحاصل هذا أنه
إن صدق الأمر عليه انقدح كونه نهيا عن ضده وإلا فلا وجه
لاستثنائه كما قلنا في المخير.
الثانية: قال النقشواني لو كان الأمر
بالشيء نهيا عن ضده للزم أن يكون
ج / 1 ص -125-
الأمر
للتكرار وللفور لأن النهي كذلك وأجاب القرافي1 بأن القاعدة
أن أحكام الحقائق التي تثبت لها حالة الاستقلال لا يلزم أن
تثبت لها حالة التبعية.
الثالثة: سأل القرافي في مسألة مقدمة
الواجب عن الفرق بينها وبين هذه المسألة فإن عدم الضد مما
يتوقف عليه الواجب وأجيب بأن ما لا يتم الواجب إلا به
وسيلة للواجب لازم التقدم عليه فيجب التوصل به إلى الواجب
لئلا يعتقد أن حالة عدم المقدمة خال عن التكليف لزعمه بأن
الأصل ممتنع الوقوع وهو غير مكلف بالمقدمة فقلنا هذا غلط
بل أنت قادر على تحصيل الأصل بتقديم هذه المقدمة فعليك
فعلها فكان إيجاب المقدمة تحقيقا لإيجاب الأصل مع تقدير
عدم المقدمة وترك الضد أمور يتبع حصوله حصول المأمور به من
غير قصد وهذا أصلح وجهين أجاب بهما في شرح المحصول.
الرابعة: سأل القرافي عن الفرق بين هذه
المسألة وقولهم متعلق النهي فعل الضد لا نفس لا تفعل فإن
قولهم نهي عن ضد معناه أنه تعلق بالضد وقولهم متعلقة ضد
المنهي عنه هو الأول بعينه وسنستقصي الجواب عن هذا في كتاب
الأمر والنهي إن شاء الله تعالى فإن المصنف ذكر تلك
المسألة ثمة.
الخامسة: من فوائد الخلاف في هذه المسألة من الفروع ما إذا
قال لزوجته إن خالفت نهي فأنت طالق ثم قال قومي فقعدت ففي
وقع الطلاق خلاف مستند إلى هذا الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: شهاب الدين، أبو العباس، أحمد بن إدريس القرافي،
المتوفى سنة 684هـ من مؤلفاته في الأصول: "تنقيح الفصول في
اختصار المحصول" ووضع عليه شرحاً نفيسا سماه شرح تنقيح
الفصول طبع أخيراً بمكتبة للكليات الأزهرية بتحقيق طه سعد
عبد الرؤوف.
ج / 1 ص -126-
المسألة السادسة إذا نسخ الوجوب بقي الجواز
قال:
"السادسة: الوجوب إذا نسخ بقي الجواز خلافا للغزالي لأن
الدال على الوجوب يتضمن الجواز والناسخ لا ينافيه فإنه
يرتفع الوجوب بارتفاع المنع من الترك".
ذهب الأكثرون إلى أنه إذا نسخ وجوب الشيء بقي جوازه وخالف
الغزالي وقال إنه إذا نسخ رجع الأمر إلى ما كان قبل الوجوب
من تحريم أو إباحة وصار الوجوب بالنسخ كأن لم يكن وهذا
الذي ذهب إليه الغزالي نقله القاضي في التقريب عن بعض
الفقهاء وقال تشبث صاحبه بكلام ركيك تزدريه أعين ذوي
التحقيق واحتج المصنف على اختياره بأن الجواز جزء من ماهية
الوجوب إذ الوجوب مركب من جواز الفعل مع المنع من الترك
فاللفظ الذي دل على الوجوب يدل التضمن على الجواز والناسخ
وإنما ورد على الوجوب وهو لا ينافي الجواز لارتفاع الوجوب
بارتفاع المنع من الترك ضرورة أن المركب يرتفع بارتفاع أحد
جزئيه ونحن نقول إن أراد القوم بالجواز الذي يبقى التخيير
بين الفعل والترك كما صرح به بعضهم وهو مقتضى كلام الغزالي
في الرد عليهم حيث قال حقيقة الجواز التخيير بين الفعل
والترك والتساوي بينهما بتسوية الشرع فالحق مع الغزالي لأن
التخيير بين الفعل والترك قسم للوجوب ولم يكن ثابتا به فما
وجه قولهم يبقى بعده وهذا الدليل الذي ذكروه عليه لا يثبت
به مدعاهم لأن التخيير بين الفعل والترك ليس في ضمن الوجوب
وإنما الذي في ضمن الوجوب رفع الحرج وإن أرادوا رفع حرج
الفعل فلا ينبغي أن يخالفوا في ذلك فإن الوجوب أخص منه
ولما ثبت بالإيجاب الأول ثبت به الأعم
ج / 1 ص -127-
الذي
هو رفع الحرج ضرورة كونه ضمنه ثم ارتفاعه لا يوجب ارتفاع
الأعم والظاهر أنه لم يريدوا غير هذا القسم حيث جعلوا شبهة
الخصم فيه أن الجنس يتقوم بالفصل ولا يحسن ذكر هذه الشبهة
إلا إذا كان النزاع في رفع الحرج الذي هو جنس غير مقيد
بالتخيير وحينئذ قد يضعف قول الغزالي في الرد عليهم أن هذا
بمنزلة قول القائل كل واجب فهو ندب وزيادة فإذا نسخ الوجوب
بقي الندب ولا قائل به لأنا نقول المدعي بقاء الجواز الذي
هو قدر مشترك بين الندب والإباحة والكراهة في ضمن واحد من
الأنواع الثلاثة لا بقاء نوع منها على التعيين فإنه لا بد
له من دليل خاص فكيف يكون هذا بمنزلة قول القائل إذا نسخ
الوجوب بقي الندب فإن قلت تحرر من هذا أن القوم يقولون
ببقاء مطلق الجواز مكتسبا من دلالة الواجب عليه والغزالي
ينكر كونه مكتسبا من دلالة الواجب عليه ولا تنازع في بقاء
رفع الحرج فالخلاف حينئذ لفظي قلت الغزالي كما سلفت
الحكاية عنه يقول إن الحال يعود إلى ما كان عليه من تحريم
وإباحة فهو منازع في أصل بقاء الجواز ويظهر فائدة الخلاف
فيما إذا كان الحال قبل الوجوب تحريما فعند الغزالي الفعل
الآن يعود محرما كما كان وعند القوم أن مطلق الجواز الذي
كان داخلا في ضمن الوجوب باق يصادق ما دل على التحريم فوضع
أن الخلاف معنوي.
واعلم أن الغزالي قد يقول إذا اقتضى الأمر مجموع الشيئين
أعني الأعم والأخص فالذي يزيل الواحد نازل منزلة المخصص
بالقياس إلى اللفظ العام ولذلك يجوز اقترانه بالأمر بأن
يراد صيغة افعل ويقترن بها ما يدل على أنه لا حرج في تركه
فإنا نحملها على الندب أو الإباحة ولو كان ناسخا لما جاز
اقترانه به لأن من شروط الناسخ التراخي فإن قلت نحن نسلم
أن هذا القيد إذا اقترن لم يكن نسخا ولكن لم قلت إنه إذا
تأخر وثبت لا يكون نسخا قلت بقي النزاع في هذا ولعل
الغزالي لا يسمي بالنسخ إلا ما رفع حكم الخطاب السابق
بالكلية ويعود النزاع لفظيا قال: "قيل: الجنس يتقوم بالفصل
فيرتفع بارتفاعه قلنا لا وإن سلم فيتقوم بفصل عدم الحرج".
ج / 1 ص -128-
احتج
من قال بأن الجواز لا يبقى فيما إذا قال نسخت الوجوب
أوحرمة الترك بأن كل فصل فهو علة لوجود الجنس لاستحالة
وجود جنس مجرد عن الفصول كالحيوانية المطلقة وإليه أشار
بقوله يتقوم بالفصل أي يوجد به وإذا علم هذا فالجواز جنس
للواجب والمكروه والمندوب والمباح وعلة وجوده في كل منها
فصله فالعلة في وجوده في الواجب فصل الحرج على الترك فإذا
زال ذلك الفصل زال الجواز ضرورة زوال المعلول بزوال علته
وأجاب أولا بأنا لانسلم أن الجنس يتقول بالفصل وتقرير ذلك
محال على الكتب الحكمية ولئن سلمنا أنه علة له فلا نسلم
أنه يلزم من ارتفاع هذا الفصل ارتفاع الجنس لجواز بقائه
بفصل آخر يخلف ذلك الفصل وهو عدم الحرج على الترك فإنه إذا
ارتفع قيد الوجوب بقي جنس الجواز ولا دليل على الحرج
فيتقوم بفصل عدم الحرج ولا يكون جنسا مجردا.
واعلم أن خلاف الأصوليين في هذه يناظر اختلاف الفقهاء في
أنه إذا بطل الخصوص هل يبقى العموم وذلك فيمن صلى الظهر
قبل الزوال فإنها لا تنعقد ظهرا وفي انعقادها نفلا هذا
الخلاف ويضاهيه مسائل:
منها: إذا أحال المشتري البائع بالثمن على رجل ثم وجد
بالمبيع عيبا فرده فالأصح أن الحوالة تبطل وهل للمحتال
قبضه للمالك بعموم الإذن الذي تضمنه خصوص الحوالة فيه هذا
الخلاف.
ومنها: إذا عجل الزكاة بلفظ هذه زكاتي المعجلة فقط فهل له
الرجوع إذا عرض مانع أصح الوجهين نعم.
والثاني: يقع نفلا وقربهما إمام الحرمين من القولين فيما
إذا نوى الظهر قبل الزوال هل ينعقد نفلا؟
ومنها: الصحيح أنه لا يصح تعليق الوكالة على شرط ولو علق
وتصرف الوكيل بعد حصول الشرط فأصح الوجهين الصحة لأن الإذن
حاصل وإن فسد العقد وخالف الشيخ أبو محمد وقال لا اعتبار
بما يتضمن العقد الفاسد من الإذن.
ج / 1 ص -129-
ومنها:
لو قالت وكلتك بتزويجي قال الرافعي فالذين لقيناهم من
الأئمة لا يعتدون به إذنا لأن توكيل المرأة في النكاح باطل
قال لكن الفرع غير مسطور ويجوز أن يعتد به إذنا لما ذكرناه
في الوكالة.
قلت: ويتجه بناء فروع على هذا الأصل لم أر من بناها.
منها قال الماوردي إذا فسدت الشركة بطل أصل الإذن في
التصرف ولم يجز لواحد منهما التصرف في جميع المال وينقدح
لك أن تحكم بجريان الخلاف في الوكالة.
ومنها: إذا باع بلفظ السلم فإنه ليس بسلم قطعا وفي انعقاده
بيعا قولان أظهرهما لا وبناهما الأصحاب على أن الإعتبار
باللفظ أو بالمعنى ويتجه بناؤهما على هذا الأصل أيضا.
ومنها إذا شرطا الخيار لثالث وأبطلناه فهل يكون الخيار
لهما لكونهما شرطا مطلق الخيار يتجه فيه هذا البناء.
ومنها: إذا أحال بالدراهم على الدنانير أو بالعكس لم يصح
سواء قلنا الحوالة استيفاء أم اعتياض.
قال صاحب التتمة: ونعني بقولنا إنها غير صحيحة أن الحق لا
يتحول بها من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس ولكنها إذا جرت
فهي حوالة على من لا دين عليه وفيها خلاف.
قلت وإنما تكون حوالة على من لا دين عليه ببطلان خصوص
الحوالة على الوجه الذي أورده إذا قلنا إن الخاص إذا ارتفع
يبقى العام.
ج / 1 ص -130-
المسألة السابعة الوجوب لا يجوز تركه
قال: "السابعة: الواجب لا يجوز تركه قال الكعبي فعل المباح
ترك الحرام وهو واجب قلنا لا بل به يحصل".
القصد بهذه المسألة أن ما يجوز تركه لايكون فعله واجبا
والخلاف في هذا الفصل مع فرقتين.
الأولى: الكعبية فنقول لاح من قول أبي
القاسم الكعبي وهو البلخي وشيعته إنكار المباح وقد خالفوا
في ذلك عصابة المسلمين حيث أجمعوا على انقسام الأحكام إلى
الخمسة ولا بد من تخليص محل النزاع ليقع الحجاج على محز
واحد.
واعلم أن إنكارهم المباح يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه ليس فعل من أفعال المكلفين
بمباح وقد صرح بحكاية هذا عن الكعبي جماعة منهم إمام
الحرمين في البرهان فإنه قال إن الكعبي أنكر المباح في
الشريعة وكذلك نقل أبو الفتح بن برهان1 في الوجيز والآمدي
وغيرهم وهذا ظاهر الفساد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أحمد بن علي بن برهان، فقيه، أصولي، كان يضرب به
المثل في حل الإشكال في علم الأصول.
من مؤلفاته: "البسيط، والوسيط، والوجيز" في الفقه والأصول.
ومن آرائه الأصولية: أن العامي لا يلزمه التقيد بمذهب
معين.
توفي ببغداد سنة 518هـ.
إرشاد الأريب 1:260، الأعلام 1/167.
ج / 1 ص -131-
والثاني: وهو الذي أشعر به دليله أن كل فعل يوصف بأنه مباح باعتبار ذاته فهو
واجب باعتبار أنه يترك به الحرام ولا يكون الكعبي حينئذ
مفاجئا بإنكار المباح وقد نقل القاضي في مختصر التقريب
والغزالي في المستصفى أن المباح مأمور به دون الأمر بالندب
والندب دون الأمر بالإيجاب وقد صرح في مختصر التقريب بأنه
لا يسمى المباح واجبا ولا الإباحة إيجابا إذا عرفت ذلك فقد
استدل الكعبي على هذا بأن فعل المباح ترك الحرام لأنه ما
من مباح إلا وهو ترك لمحظور وترك الحرام واجب فيلزم أن
يكون فعل المباح واجبا من جهة وقوعه تركا لمحظور.
وأجاب عنه المصنف بأنا لا نسلم أن فعل المباح هونفس ترك
الحرام يعني أنه يلزم من فعل المباح ترك الحرام ولا يلزم
من ترك الحرام فعل المباح لجواز تركه بواجب أو مندوب فلا
يكون المباح ترك الحرام بل شيئا يحصل به تركه لما عرفت من
أن تركه قد يحصل به وقد يحصل بغيره فلم ينحصر تركه في
المباح وقد ضعف الآمدي وغيره هذا الجواب وقالوا هو صادر
ممن لم يعلم غور كلامه فإنه إذا ثبت أن ترك الحرام واجب
وأنه لا يتم بدون التلبس بضد من أضداده وقد تقرر أن ما لا
يتم الواجب إلا به فهو واجب فالتلبس بضد من أضداده واجب
غايته أن الواجب من الأضداد غير معين قبل تعيين المكلف له
ولكن لا خلاف في وقوعه واجبا بعد التعيين وقال لا خلاص عنه
إلا بمنع وجوب المقدمة قال وغاية ما ألزم أنه لو كان الأمر
على ما ذكرت لكان المندوب بل المحرم إذا ترك به محرم آخر
كالزنا إذا حصل به ترك القتل أن يكون واجبا وكان يجب أن
تكون الصلاة حراما على هذه القاعدة عندما إذا ترك بها
واجبا آخر وله أن يجيب بأنه لا مانع من الحكم على الفعل
الواحد بالوجوب والتحريم بالنظر إلى جهتين مختلفتين كما في
الصلاة في الدار المغصوبة قال وبالجملة إن استعيد فهو في
غاية الغوص والإشكال وعسى أن يكون عند غيري حله.
قلت: وهو صحيح ولكنا نقول للكعبي نحن لا ننكر أن الإباحة
تقع ذرائع إلى الانكفاف عن المحظور كغيرها من الأفعال التي
يلزم منها الانكفاف
ج / 1 ص -132-
عن
غيرها ووقوعها كذلك لا يخرجها عن أن تكون في نفسها مباحة
فترك الحرام الذي لزم عن فعل المباح ليس هو نفس فعل المباح
بل أمر وراءه وإن زعم أنها ذات جهتين فلا تنازعه في ذلك
ولكن ننكر عليه تخصيصه المباح بذلك وقد بينا أنه لايختص به
ويعظم النكير عليه تخصيصه المباح بذلك وقد بينا أن لا يختص
به ويعظم النكير عليه في إنكاره أصل المباح في الشريعة إن
صح عنه وما ذكره من الدليل لا يقتضي ذلك.
قال: "وقالت الفقهاء: يجب الصوم على الحائض والمريض
والمسافر لأنهم شهدوا الشهر وهو موجب وأيضا عليهم للقضاء
بقدره قلنا العذر مانع والقضاء يتوقف على السبب لا الوجوب
وإلا لما وجب قضاء الظهر على من نام جميع الوقت".
الفرقة الثانية: كثير من الفقهاء فإنهم
خالفوا في ذلك وزعموا أن الصوم واجب على الحائض والمسافر
والمريض مع أنهم يجوز لهم تركه وقد احتجوا على مذهبهم بأن
هؤلاء شهدوا الشهر فيجب الصوم عليهم لقوله تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}1 القضاء يجب عليهم بقدر ما فاتهم وذلك دليل على أنه بدل عنه.
وأجاب بأن شهود الشهر إنما يكون موجبا للصوم عند انتفاء
الأعذار والعذر هنا قائم أما في الحائض فلأن الشرع منعها
من الصوم وأما في المسافر فلأنه جعل السفر مانعا من تحتم
الصوم فيه2 وأما في المريض فلعدم القدرة إن كان عاجزا أو
بمنع الشرع إن أفضى به إلى هلاك نفسه أو بمنع الشرع من
الإيجاب كالمسافر إن لم يفض إلى ذلك وعن الثاني بأن القضاء
إنما يتوقف على تحقيق سبب الوجوب في الوقت وسبب الوجوب وهو
شهود الشهر متحقق فيما نحن فيه الوقت ولا يتوقف على وجوب
الأداء وإلا لما وجب قضاء الظهر على من نام جميع الوقت
لعدم تحقق الوجوب عليه لإفضائه إلى تكليف الغافل وذهب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البقرة آية 185.
2 وذلك في قوله تعالى في آية الصوم من سورة البقرة:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وعلى ذلك فلابد من وجود السبب، وهو شهود الشهر، وانتفاء
الموانع، التي منها الحيض والنفاس، أو المرض، أو السفر
وسائر الأمور التي تبيح الفطر.
ج / 1 ص -133-
الإمام
إلى أنه يجب على الحائض والمريض البتة ويجب على المسافر
صوم أحد الشهرين إما الحاضر أو آخر غيره وأيهما أتى به فهو
الواجب كما في الكفارات وهذا هو مذهب القاضي نص عليه في
التقريب ونقل الشيخ أبو إسحاق1 في شرح اللمع هذا بعض
الأشعرية2 فإن قلت هذا مدخل لأن المريض يجوز له الصوم
كالمسافر فليسو الإمام بينهما قلت المريض إن أفضى به الصوم
إلى هلاك نفسه أو عضوه فإنه يحرم عليه الصوم ويساوي الحائض
والحالة هذه وإن لم يفض به إلى ذلك بل خاف منه مجرد زيادة
العلة أو طول البرء فالمسألة مختلف فيها وكذا لو خاف المرض
المخوف فلعل الإمام يرى في كل هذه الصور أنه لا يجوز له لا
إفطار فلا معترض عليه وقد قال الشيخ أبو إسحاق في شرح
اللمع إن الخلاف في هذه المسألة مما يعود إلى العبارة ولا
فائدة له لأن تأخير الصوم حالة العذر جائز بلا خلاف
والقضاء بعد زواله واجب بلا خلاف قلت وقد نقل ابن الرفعة
أن بعضهم قال بظهور فائدة الخلاف إذا قلنا أنه يجب التعرض
للأداء أو القضاء في النية3 وقد يقال بظهور فائدة الخلاف
أيضا فيما إذا طافت المرأة ثم حاضت قبل ركعتي الطواف هل
تقضيهما فقد حكى النووي في شرح المهذب عن ابن القاص4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزبادي الشيرازي،
العلامة المناظر كان مرجع الطلاب ومفتي الأمة في
عصره،واشتهر بقوة الحجة في الجدل والمناظرة. من مؤلفاته:
"التبصرة" واللمع" في أصول الفقه و"المهذب" في فقه
الشافعية.
توفي سنة 476هـز
وفياتا لأعيان 1/4، الأعلام 1/45،44.
2 راجع: المستصفى للغزالي 1/6 المنتهى لابن الحاجب ص 24،
تيسير التحرير 2/380.
3 وأقول: إن الصحيح في المذهب أنه لا يجب التعرض في النية
للأداء والقضاء، ولكن الفائدة تظهر في الأيمان والتعاليق،
بأن يقول لزوجته: متى وجب عليك صوم فأنت طالق.
راجع: الإقناع للخطيب الشربيني 1/219.
4 هو: أحمد بن أبي أحمد الطبري، أبو العباس بن القاص، إمام
عصره، وصاحب التصانيف المشهورة، منها: "التخيص" و"المفتاح"
و"أدب القاضي" وله مؤلفات كثيرة في الفقه والأصول.
توفي سنة: 335هـ بطرسوس.
النجوم الزاهرة 3/294، طبقات الشافعية لابن السبكي 3/59.
ج / 1 ص -134-
والجرجاني1 في المعاياة إن ركعتي الطواف تقضيهما الحائض
لأنهما لا يتكرران قال وأنكر الشيخ أبو علي السنجي2 هذا
وقال الوجوب لم يكن في زمان الحيض فكيف يسمى قضاء قال
النووي وما قاله الشيخ أبو علي هو الصواب لأن ركعتي الطواف
لا يدخل وقتهما إلا بالفراغ من الطواف قال فإن قدر أنها
طافت ثم حاضت عقب الفراغ من الطواف صح ما ذكرناه إن سلم
لهما ثبوت ركعتي الطواف في هذه الصورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن أحمد أبو العباس الجرجاني قاضي
البصرة وشيخ الشافعية بها في عصر من مؤلفاته التحرير
والبلغة والمعاياة كلها في الفقه توفي 482 هـ. طبقات
الشافعية لابن السبكي 3/31 الأعلام 1/207.
2 هو الحسين بن شعيب بن محمد السنجي أب علي فقيه شافعي
نسبته إلى سنج من قرى مرو
من مؤلفاته شرح الفروع لابن الحداد وشرح التلخيص لابن
القاص. توفي سنة 427 هـ.
وفيات الأعيان 1/145 – الأعلام 2/258. |