الإبهاج في شرح المنهاج

ج / 1 ص -135-       الباب الثاني فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه
الفصل الأول في الحاكم
قال الباب الثاني فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه وفيه ثلاثة فصول الأول في الحاكم وهو الشرع دون العقل لما بينا من فساد الحسن والقبح العقليين في كتاب المصباح.
هذا الباب معقود لأركان الحكم وهي ثلاثة الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم به الأول في الحاكم وهو الشرع فلا تحسين ولا تقبيح بغيره وذهبت المعتزلة إلى أن العقل له صلاحية الكشف عنهما وأنه لا يفتقر معرفة أحكام الله تعالى إلى ورود الشرائع وإنما الشرائع مؤكدة لما تقضي به العقول إما بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار أو بالنظر كحسن الكذب النافع أو باستعانة الشرع كحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح أول يوم من شوال.
واعلم أن الحسن والقبح قد يراد بهما كون الشيء ملائما للطبع ومنافرا أو كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص كقولنا العلم حسن والجهل قبيح وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين إنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا ولذلك قال القاضي في مختصر التقريب إنما المقصد تحقيق ما يحسن في قضية التكليف ويقبح وتفاصيل هذه المسألة وحجج الأصحاب فيها

 

ج / 1 ص -136-       مبسوطة في الكتب الكلامية والمصنف أحال القول في ذلك على كتابه مصباح الأرواح1.
فإن قلت قد علم مذهب أهل السنة رضي الله عنهم في أن الأحكام إنما تثبت من جهة الشرع ولا شيء منها عقلي فما معنى ما يأتي في عبارة أهل السنة من الفقهاء من قولهم هذا حرام بالعقل وهذا جائز بالعقل وما شابه ذلك قلت هذا سؤال لنا غرض صحيح في الجواب عنه لوقوف جماعة من الشاكين في الفقه على أمثال هذه العبارة ووقوع الريب في قلوبهم من قائلها والكلام عليه وإن كان كالدخيل في هذا الشرح إلا أن غيرنا لا يقوم به فلنفده طالبه فنقول المراد من ذلك إما القياس وإما أن القاعدة الكلية لما ثبتت من الشرع ورأينا الفرع الجزئي من جملة أقسامها أدرك العقل دخوله في القاعدة فقيل ثبت بالعقل وهذا معناه كما نقول الوتر يصلى على الراحلة وكل ما يصلى على الراحلة فهو سنة فالوتر سنة بالعقل بمعنى أن العقل أدرك النتيجة لا أنه جعل الوتر سنة ومن هذا القبيل أن الشافعي رضي الله عنه أطلق القول في المختصر بتعصية الناجش2 وهو الذي يزيد في ثمن السلعة المعروضة للبيع وهو غير راغب فيها ليخدع الناس ويرغبهم فيها وشرط في تعصية من باع على بيع أخيه أن يكون عالما بالحديث الوارد فيه قال الشارحون السبب فيه أن النجش خديعة وتحريم الخديعة واضح لكل أحد معلوم من الألفاظ العامة وإن لم يعلم هذا الخبر بخصوصه والبيع على بيع الأخ إنما عرف تحريمه من الخبر الوارد فيه فلا يعرفه من لا يعرف الخبر وذكر بعضهم أن تحريم الخداع يعرف بالعقل وإن لم يرد الشرع واعترض الرافعي على هذا بأنه ليس معتقدنا ولك أن تجمع بين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو كتاب في علم الكلام أوله: "الحمد لله الأول قبل كل موجود......" رتبه على مقدمة وثلاثة كتب وقد شرحه كثير من العلماء منهم القاضي عبيد الله بن محمد التبريزي المعروف بالعبري المتوفى سنة 743 هـ.
كشف الظنون ص 1705.
2 في هامش النسخة المطبوعة ص 86 ما نصه "هذا الذي أطلقه في المختصر من تعصية الناجش قد صرح في الأم بخلافه فنص في اختلاف العراقيين على أن النجش لا يحرم إلا على من علم النهي فيحمل إطلاق المختصر على تقييد الأم.

 

ج / 1 ص -137-       كلام الشارحين وهذا الكلام بأن الخديعة لما كانت محرمة من الألفاظ العامة أدرك العقل تحريم النجش لأن كل نجش خديعة وكل خديعة حرام ينتج النجش حرام ومراده بقوله وإن لم يرد شرع أي خبر خاص لا القول بأن العقل يحسن ويقبح كما فهمه الرافعي1 فإن قلت فالبيع على بيع الأخ إضرار وكما يعرف تحريم النجش من الألفاظ العامة في تحريم الخداع يعلم تحريم البيع على البيع من الألفاظ العامة في تحريم الإضرار قلت كذا اعترض به الرافعي رحمه الله لكن لقائل أن يقول لا يوجد البيع على بيع الأخ من الألفاظ العامة في الإضرار بخلاف النجش والفرق أن النجش لا يجلب للناجش مصلحة لأنه لا غرض له إلا الزيادة في ثمن السلعة ليجلب نفعا لصاحبها يلزم منه الإضرار بالمشتري وجلب منفعة لشخص بإضرار آخر حرام واضح من القواعد المقررة.
وأما البيع على البيع فهو يدعو أخاه إلى فسخ البيع ليبيعه خيرا منه بأرخص ففيه جلب منفعة له من حيث ترويج سلعته وللمشتري من جهة شراء الأجود بأرخص فهاتان مصلحتان لم يعارضهما إلا مفسدة وهي غير محققة لجواز أن البائع الأول يبيع سلعته إذا فسخ البيع فيها من مشتر آخر بذلك الثمن أو أزيد فلا يلزم من تحريم جلب منفعة واحد لازمها وقوع مفسدة في صورة النجش تحريم جلب منفعة اثنين بمجرد ظن ترتب مفسدة عليها فوضح أن العقل لم يكن قبل ورود الخبر الخاص في البيع على البيع ليدرك تحريمه لما ذكرناه بخلاف النجش.
واعلم أيضا أنه يأتي في عبارات بعض الأصحاب ما يؤخذ منه قاعدة التحسين والتقبيح أو يستلزم قاعدة التحسين والتقبيح أو يستلزم قاعدة التحسين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم أبو القاسم الرافعي القزويني كان فقيها من كبار الشافعية وكان له مجلس في قزوين للتفسير والحديث يتصلى نسبه برافع بن خديج الصحابي الجليل.
من مؤلفاته التدوين في ذكر أخبار قزوين والإيجاز في أخطاء الحجاز والمحرر في فقه الشافعية توفي سنة 623 هـ.
 فوات الوفيات 2/3 الأعلام للزركلي 4/179.

 

ج / 1 ص -138-       والتقبيح كقول أبي العباس بن سريح1 وأبي علي بن أبي هريرة2 والقاضي أبي حامد المروزي3 إن شكر المنعم واجب عقلا وقول القفال4 إن القياس يجب العمل به عقلا وقوله إن خبر الواحد يجب العمل به عقلا إلى غير ذلك من المسائل وسببه كما قال الأستاذ أبو إسحاق في كتابه في أصول الفقه في مسألة شكر المنعم هذه الطائفة من أصحابنا إنما ذهبت إلى هذه الآراء لأنهم كانوا يطالعون كتب المعتزلة لشغفهم بمسائل هذا العلم فربما عثروا على هذه العبارة وهي شكر المنعم على النعمة قبل ورود السمع فاسحسنوها فذهبوا إليها ولم يقفوا على القبائح والفضائح التي تحتها هذا كلام الأستاذ وكذلك ذكر القاضي أبو بكر في التخليص الذي اختصره إمام الحرمين من كتابه التقريب في مسألة حكم الأفعال قبل ورود الشرع فإنه قال مال بعض الفقهاء إلى الحظر وبعضهم إلى الإباحة وهذا لغفلتهم عن تشعب ذلك عن أصول المعتزلة مع علمنا بأنهم ما استحسنوا مسالكهم وما اتبعوا مقاصدهم انتهى وهذه فائدة عظيمة جليلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو العباس بن عمر بن سريج من فقهاء الشافعية ومتكلميهم كان شيخ الشافعية في عصره توفي ببغداد سنة 36 هـ البغداد 4/287.
2 هو الحسن بن الحسين المكنى بأبي علي المعروف بابن أبي هريرة تتلمذ على يد أبي العباس ابن سريج انتهت إليه رئاسة الشافعية ببغداد. توفي سنة 345 هـ.
البغداد 7/298 طبقات الشافعية لابن هداية الله ص 21.
3 هو أحمد بن محمد بن أحمد الاسفراييني أبو حامد أعلام الشافعية ولد في اسفرانني بالقرب من نيسابور ورحل إلى بغداد فتفقه فيها وعظمت مكانته من مؤلفاته الرونق في الفقه والأصول.
 توفي ببغداد سنة 401 هـ الأعلام 1/203.
4 هو محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشاشي أحد أئمة الدهر كان عالما بالتفسير والحديث والكلام والأصول وسائر العلوم العربية. توفي سنة 365 هـ.
 طبقات الشافعية لابن السبكي 3/200 شذرات الذهب لابن العماد 3/51.

 

ج / 1 ص -139-       فرعان على الحسن والقبح
قال فرعان على التنزل
الأول شكر المنعم ليس بواجب عقلا
إذ لا تعذيب قبل الشرع لقوله تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولأنه لو وجب لوجب إما لفائدة المشكور وهو منزه أو للشاكر في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ أو في الآخرة ولا استقلال للعقل لها.
هذان فرعان على قاعدة الحسن والقبح جرت عوائد الأصحاب بذكرهما بعد إبطال مذهب المعتزلة فيها لشدة سخافة مذهب المعتزلة بالنسبة إليهما ولهذا يقال إنهما على التنزل أي الافتراض والتكليف في النزول عن المذهب الحق الذي هو الذروة إلى مذهبهم الباطل الذي هو في الحضيض الأول شكر المنعم غير واجب عقلا خلافا للمتزلة وبعض الحنفية وأما وجوبه شرعا فمتفق عليه والمراد بوجوب الشكر عقلا أنه يجب على المكلف تجنب المستقبحات العقلية وفعل المستحسنات العقلية كذا نقله بعض أصحابنا عنهم قال صفي الدين الهندي1 ولا يبعد أن يراد به ما نريد به نحن في الشرع وهو أن الشكر يكون باعتقاد أن ما به من نعمة فمن الله وأنه المتفضل بذلك عليه فإن نعمة الخلق والحياة والصحة غير مستحق عليه وفاقا ويكون بالفعل وهو بامتثال أوامره واجتناب مناهيه وبالقول وهو أن يتحدث بنعمة ربه واحتج في الكتاب على ما ذهب إليه بوجهين.
الأول: قوله تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}2.
ووجه الدلاله فيه ظاهر وتقريره أنا مفرعون على القول بالحسن والقبح والشرع على القول بأن العقل يحكم كاشف وقد أخبر أن التعذيب منتف قبل البعثة فدل على أن العقل اقتضى ذلك ولو وجب شكر المنعم لحصل التعذيب بتركه ولم يتوقف على بعثه الرسل فاضبط هذا التقرير ولا تعدل به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو حمد بن عبد الرحيم بن محمد الشيخ صفي الدين الهندي الأموي كان أعلم الناس بمذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وأدراهم بأسراره.
من مؤلفاته الزبدة في علم الكلام والنهاية في أصول الفقه.
توفي بدمشق سنة 715 هـ حسن المحضرة 1/544 طبقات الشافعية لابن السبكي 9/162, 163.
2 سورة الاسراء: الآية15.

 

ج / 1 ص -140-       والثاني: أنه لو وجب لوجب لفائدة أن التفريع على القول بقاعدة الحسن والقبح والإيجاب على القول بها يستدعي فائدة وإن شئت قلت لو وجب لوجب إما بلا فائدة وهو عبث مستقبح عقلا ولكن يلزم على هذا أن يكون المصنف أخل بأحد الأقسام وأما لفائدة عائدة إلى المشكور وهوسبحانه وتعالى وهو محال لتنزهه عن الفوائد والأغراض أو عائدة إلى العبد الشاكر في الدنيا وهو أيضا باطل لأنه مشقة وكلفة على النفس من غير حظ ونفع أو عائدة إليه في الآخرة وهو أيضا باطل إذ لا استقلال للعقل بمعرفة الفوائد الأخروية على وجه التفصيل وهذا مسلم لكن ليس من شرط الوجوب العلم بالفوائد التفصيلية وإن أريد الإجمالية فلا نسلم أن العقل لا يستقل بمعرفتها وذلك لأن القول في هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح وهي تقطع باتصال الثواب بفعل الواجبات العقلية والعقاب بتركها ولقائل أن يقول العقل لا يستقل بإدراك الآخرة وكيف يستقل بالحكم بوجود دار أخرى مخلوقة للجزاء والإحسان وإذ لم يستقل بإدراكها لم يحكم بما يترتب عليها.
قال قيل يدفع ظن ضرر الآجل قلنا قد يتضمنه لأنه تصرف في ملك الغير وكاستهزاء لحقارة الدنيا بالنسبة إلى كبريائه ولأنه ربما لا يقع لائقا قيل ينتقض بالوجوب الشرعي قلنا إيجاب الشرع لا يستدعي فائدة.
اعترض على الوجه الآخر بوجهين.
أحدهما: أنا نقول بعود الفائدة إلى العبد الشاكر في الدنيا.
قوله مشقة وكلفة بلا حظ قلنا لا نسلم أنه لا حظ لها في الشكر وذلك لأن فائدة الشكر اندفاع ظن العقاب في الآخرة على تركه لأن العقاب على ترك الشكر احتمال راجح يوجب للنفس القلق وعدم الطمأنينة بل مجرد توهم العقاب قد يحصل فيه ذلك وأجاب المصنف بأن ترك الشكر كما أنه يستدعي ما ذكرتم كذلك الإقدام عليه وذلك لأن من أقدم على الشكر فقد استعمل الأعضاء والقوى المملوكة لربه سبحانه وتعالى وتصرف فيها بغير إذنه والتصرف في ملك الغير بغير إذنه يوجب ما ذكرتم وأيضا فالشكر لأنعمه تعالى منزل منزلة المستهزئ بالمنعم لأن نعم الدنيا وإن جل خطبها فهي بالنسبة إلى كبريائه تعالى أقل من لقمة بالنسبة إلى ملك عظيم لأن نسبة ما يتناهى إلى

 

ج / 1 ص -141-       مثله أقل من نسبته إلى ما لا نهاية له ولا ريب في أن القائم في المحافل يشكر الملك بسبب ما أسداه إليه من لقمة خبز معدود من المستهزئين مستوجب للتأديب وأيضا فالشكر للملك العظيم إنما يكون على وجه لائق بجنابه وقد لا تهتدي العقول إلى ذلك الوجه اللائق بجلاله سبحانه وتعالى فيستحق العقاب بسببه.
فإن قلت لما فسر الشكر باجتناب القبيح وإتيان الحسن عقلا اندفع ما ذكرتم للعلم بالشكر اللائق حينئذ كما هو معلوم بعد ورود الشرع قلت هب أن الأمر كما ذكرت لكن الإتيان بما ذكرت من الشكر يتوقف على استقباح العقل وتحسينه فربما يستقبح الحسن ويستحسن القبيح لأن العقول غير معصومة عن الخطأ لا يقال قد تعارضت الاحتمالات والمواظبة على الخدمة أنجى من الإعراض والإهمال لأنا نقول ذلك في مشكور يسره الشكر ويسوؤه الكفران والله تعالى مبرأ عن ذلك.
الوجه الثاني: أن ما ذكرتم منقوض بوجوب الشكر شرعا فلو كان ما ذكرتموه صحيحا لم يجب بعين ما قررتم بأن يقال لو وجب شكر المنعم شرعا لوجب لفائدة إلى آخر ما أوردتم وأجاب بأن الدليل المذكور لا يطرد في الوجوب الشرعي لأنه لا تعلل أحكام الله تعالى ولا أفعاله فإيجاب الشرع ليس لاستدعاء فائدة بل له بحكم المالكية أن يفعل ما يشاء وهذا جواب صحيح ماش على اللائق بأصول المتكلمين فإنهم لا يجوزون تعليل أفعال الله تعالى وهو الحق لأن من فعل فعلا لغرض كان حصوله بالنسبة إليه أولى سواء كان ذلك لغرض عائدا إليه أم إلى الغير وإذا كان كذلك يكون ناقصا في نفسه مستكملا في غيره تعالى الله عن ذلك.
وأما قول المصنف في القياس تبعا للإمام دل الاستقراء على أن الله شرع الأحكام لمصالح العباد تفضلا وإحسانا فهو من كلام الفقهاء وإطلاقتهم والصواب ما ذكره هنا.
فائدة قال الإمام أبو الحسن الطبري المعروف بالكيال في تعليقه في

 

ج / 1 ص -142-       الأصول وفي خط ابن الصلاح1 نقلت ذلك مسألة شكر النعم غير مسألة التحسين والتقبيح بيانه إنا نقول ليس الشكر اللفظ فما معناه قالوا المعرفة قلنا المعرفة تراد للشكر فكيف تكون نفس الشكر فلا بد أن تتقدم على الشكر فإنما شكر من عرف وإن قالوا نعني بالشكر ما تعنون أنتم قلنا الشكر عندنا امتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه وإن قالوا فنحن نقول الشكر هو الإقدام على المستحسنات واجتناب المستقبحات قلنا فهذه هي مسألة التحسين والتقبيح بعينها قال لكنا أفردناها بالكلام على عادة المتقدمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الشهرزوري الكردي الشرخاني تقي الدين المعروف بان الصلاح أحد فضلاء المقدمين في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال.
 من مؤلفاته أدب المفتي والمستفتي وشرح الوسيط في فقه الشافعية توفي سنة 643 هـ.
وفيات الأعيان 1/312 الأعلام 4/369.

الفرع الثاني
قال الفرع الثاني: الأفعال الإختيارية قبل البعثة مباحة عند البصرية وبعض الفقهاء محرمة عند البغدادية وبعض الإمامية وابن أبي هريرة وتوقف الشيخ والصيرفي وفسره الإمام بعدم الحكم والأولى أن يفسر بعدم العلم لأن الحكم قديم عنده ولا يتوقف تعلقه عن البعثة لتجويزه التكليف بالمحال.
هذا الفرع في حكم الأشياء قبل ورود الشرع وقد ذهب أهل السنة والجماعة إلى أنه لا حكم فيها لأن الحكم عندهم عبارة عن الخطاب على ما تقدم تفسيره فحيث لا خطاب لا حكم وأما المعتزلة فقسموا الأفعال إلى اضطرارية واختيارية.
الأولى: الاضطرارية وهي التي تقع بغير اختيار المكلف ولا قدرة له على تركها كالتنفس في الهواء قال الإمام وذلك مما لا بد من القطع بأنه غير ممنوع إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق.
الثانية: الاختيارية وهي الواقعة بإرادة المكلف مع قدرته على تركها

 

ج / 1 ص -143-       ومثل لها بأكل الفاكهة وبهذا يعرف أن القدر الذي لا يعيش المكلف بدونه من الأكل والشرب وغيرهما من قسم الاضطراري ومنهم من جعل ما يحصل به الاغتذاء من قسم الاختياري المتنازع فيه وتبعهم المصنف كما سنراه في كلامه إن شاء الله ولعل مرادهم الاغتذاء ما يقع فوق الضرورة إذا عرفت ذلك فقد قسموا الاختيارية إلى ما يقضي فيها العقل بحسن أو قبح واتبعوا فيها حكم العقل وتقسيمه إياها إلى الأحكام الخمسة وإلى ما لا يقضي العقل فيها بواحد منهما وهذه صورة مسألة الكتاب فقوله الاختيارية احتراز عن الاضطرارية وفاته أن يقول التي لا يقضي العقل فيها بحسن ولا قبح فنقول ذهبت معتزلة البصرة وبعض الفقهاء من الشافعية والحنفية إلى أنها على الإباحة قبل ورود الشرع وذهب معتزلة بغداد وبعض الإمامية والشيخ أبو علي ابن أبي هريرة من الشافعية إلى أنها محرمة وقد سلف اعتذار القاضي والأستاذ عمن قضى في هذه المسألة بإباحة أو حظر من الفقهاء وتوقف الشيخ أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الصيرفي1 في ذلك والخلاف في هذه المسألة جار في خطاب التكليف وخطاب الوضع على حد سواء وفسر الإمام توقف الشيخ بعدم الحكم أي بانتفاء الأحكام وهذا ما قاله النووي في أوائل باب الربا في شرح المهذب أنه الصحيح عند أصحابنا أعني انتفاء الأحكام قال صاحب الكتاب والأولى أن نفسر التوقف بعدم العلم أي بأن لها حكما قبل ورود الشرع ولكنا لا نعلم ما هو وعلل ذلك بأن الحكم قديم عند الشيخ فتفسير التوقف بعدم الحكم يلزم عنه أن يكون الحكم حادثا وهو خلاف مذهبه ثم استشعر المصنف سؤالا فأجاب عنه وتقريره أن الحكم وإن كان قديما عند الشيخ لكن تعلقه حادث لأنه متوقف على بعثة الرسل والمراد بأنه لا حكم قبل ورود الشرع أنه لا تعلق فلا يكون تفسير التوقف بعدم الحكم مخالفا لمذهب الشيخ وتقرير جوابه أن التعلق عند الشيخ لا يتوقف على البعثة لتجويزه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الله البغدادي المكنى بأبي بكر الملقب بالصيرفي الأصولي الفقيه من مؤلفاته شرح الرسالة للإمام الشافعي – رضي الله عنه – توفي بمصر سنة 330 هـ.
تاريخ بغداد 5/449 شذرات الذهب 2/325.

 

ج / 1 ص -144-       التكليف بالمحال فيجوز أن يتعلق الحكم بأفعال المكلفين قبل ورود الشرع مع عدم شعورهم بذلك.
ولقائل أن يقول هذا حينئذ تكليف الغافل لا تكليف بالمحال والشيخ إنما يجوز الثاني ثم إن الشيخ لا يقول بوقوع التكليف بالمحال بل الحل تفسير التوقف بعدم الحكم وبه صرح القاضي في مختصر التقريب فقال صار أهل الحق إلى أنه لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع وعبروا عن نفي الأحكام بالتوقف ولم يريدوا بذلك الوقف الذي يكون حكما في بعض مسائل الشرع وإنما عنوا به انتفاء الأحكام انتهى وهو مصرح ببطلان ما ذهب إليه المصنف من التفسير وكذا قال إمام الحرمين في البرهان لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع وليس مراده إلا الوقف لعدم الحكم وقال الغزالي إن أراد أصحاب الوقف أن الحكم موقوف على ورود السمع ولا حكم في الحال فصحيح وإن أرادوا عدم العلم فهو خطأ فإن قلت الوقف هو الإمساك عن الحكم بشيء فلا يناسب تفسيره بالجزم بأن لا حكم قلت معنى الوقف يرجع إلى أن فعل المكلف قبل البعث لا يوصف بإباحة ولا حرمة لعدم التعلق به فالتوقف إنما هو في وصف الفعل لا في وجود الحكم وعدمه لكن لما كان السبب في هذا الوقف بعدم الحكم بمعنى عدم التعلق فسرنا التوقف بعدم الحكم تجوزا فإن قلت هذا لا يجامع اختياركم إن التعلق قديم قلت المراد بالتعلق هنا هو التعلق الذي يظهر أثره في المحكوم عليه وهو منتف قبل البعثة فلذلك اخترنا انتفاء الحكم قبل البعثة وفسرنا توقف الشيخ به فإن قلت هل الحكم بنفي الحكم قبل البعثة عقلي أو شرعي قلت هو عقلي لا شرعي بقي مما ننبه عليه هنا أن ما نقله المصنف عن الإمام ليس بجيد فإنه حكى في المحصول قول الوقف ثم قال هذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم الحكم وتارة بأنا لا ندري هل هنا حكم أم لا وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر انتهى فليس فيه اختيار ما نقله المصنف عنه.
فإن قلت ما عذر المصنف في ذلك؟

 

ج / 1 ص -145-       قلت الظاهر أنه تبع صاحب الحاصل1 حيث قال فيه التوقف مرة يفسر بأنا لا ندري الحكم ومرة بعدم الحكم وهو الحق وظن أن صاحب الحاصل اتبع الإمام على عادته فنسب اختيار هذا القول إلى الإمام ويحتمل أن المصنف وقف للإمام على اختيار ذلك في كلام له في غير هذا الموضع أو أنه أراد بالإمام إمام الحرمين فإنه اختار ذلك في البرهان حيث قال لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع وهما احتمالان بعيدان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صاحب الحاصل هو تاج الدين محمد بن حسين الأرموي المتوفى سنة 656 هـ اختصر كتاب المحصول للإمام الرازي في كتاب سماه الحاصل.

 

ج / 1 ص -146-       أدلة القائلين بالإباحة
قال احتج الأولون بأنه انتفاع خال عن إمام المفسدة ومضرة المالك فيباح كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره وأيضا المآكل اللذيذة خلقت لغرضنا لامتناع العبث واستغنائه تعالى وليس للإضرار اتفاقا فهو للنفع وهو إما التلذذ أو الاغتذاء أو الاجتناب مع الميل أو الاستدلال ولا يحصل إلا بالتناول وأجيب عن الأول بمنع الأصل وعليه الأوصاف والدوران ضعيف وعن الثاني أن أفعاله لا تعلل بالغرض وإن سلم فالحصر ممنوع.
احتج الأول وهم القائلون بالإباحة بوجهين:
أحدهما: أنها انتفاع خال عن إمارة المفسدة فإن الكلام مفروض في فعل لا يظهر له مفسدة وخال عن مضرة المالك لأن المالك هو الله المنزه عن المضار المبرأ عن المنافع فتكون مباحه قياسا على الاستظلال بجدار الغير والاستضاءة بناره بغير إذنه فإنه أبيح لخلوه عن أمارات المفسدة ومضرة المالك فلما وجدنا الإباحة دائرة مع هذه الأوصاف وجودا وعدما والدوران يدل على علية المدار للدائر دل على عليتها لإباحة الأفعال وهي صورة النزاع فيلزم الإباحة فيها وتمثيل المصنف بالاقتباس فيه نظر لأن الاقتباس أخذ جزء من النار وهو لا يجوز بغير الإذن فالأولى التمثيل بالاستضاءة كما ذكرنا.
وقد ذكر الرافعي جواز الاستظلال بجدار الغير والاستضاءة بناره والاستناد وإسناد المتاع في أثناء كلام في القسم الثاني في الجدار المشترك من كتاب الصلح وذكر القفال المسألة في الفتاوى في واقعة جرت له مع السلطان محمود وأنه يجوز السعي في أرض الغير إن لم يخش أن تتخذ بذلك طريقا وإلا

 

ج / 1 ص -147-       لزم منه الضرر قال وكذلك النظر في مرآة الغير والإيقاد من ناره والاستظلال بجداره والالتقاط من حبوب الزرع المتناثر ذكر القفال في الفتاوى أيضا أنه يجوز إسناد خشبة إلى جدار الغير.
الوجه الثاني: أن المواكيل اللذيذة إن خلقت لا لغرض كان عبثا محالا وإن خلقت لغرض فلا جائز أن يعود إلى الباري لتنزهه عن الأغراض فتعين أن يكون لغرضنا وليس هو الإضرار باتفاق العقلاء فهو حينئذ النفع وذلك النفع إما أن يكون دنيويا كالتلذذ والاغتذاء أو أخرويا يتعلق بالعمل كالاجتناب لكون تناولها مفسدة مع الميل فيستحق الثواب باجتنابها أو أخرويا يتعلق بالعلم كالاستدلال بها على وجود الصانع كمال قدرته وكل ذلك لا يحصل إلا بالتناول فواضح.
وأما توقف الاجتناب عليه فلأن المكلف إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا دعت نفسه إليها وإنما يكون ذلك بعد التناول كذا قيل والحق أن تارك المعاصي امتثالا لأمر الله تعالى مع عدم ميلانه إليها يثاب على تركها بل هو عند قوم أعلى درجة من الذي فعلها ثم انزجر عنها وأما توقف الاستدلال فلأنه إنما يكون مع معرفتها هذا تقرير الوجهين.
قال في الكتاب وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم ثبوت الحكم في المقيس عليه فإن الاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره من جملة الأفعال الاختيارية الداخلة تحت صور النزاع ولئن سلمنا ثبوت الحكم في الأصل فلا نسلم أنه معلل بهذه الأوصاف واستدلالكم على ذلك بالدوران لا يفيدكم لأن الدوران وإن كان حجة فالظن الحاصل منه ضعيف لا يستدل بمثله على هذه المسألة.
واعلم أن هذا لا يخالف قوله في القياس بحجة الدوران لأن القائل بحجته معترف بأنه جار في مجاري الظنون الضعيفة التي يستدل بها على الفروع الفقهية الجزئية دون المسائل الأصولية وأما من قال بأنه مفيد للقطع فلا مبالاة بمعتقده الفاسد وأجيب عن الثاني بأن الدليل المذكور مبني على تعليل أفعال الله تعالى

 

ج / 1 ص -148-       بالأغراض وقد بينا فيما سلف أنه لا يجوز تعليلها ولقائل أن يقول إذا كان الكلام في هذا الفرع مفرعا على القول بقاعدة التحسين والتقبيح وجب المشي فيه على قاعدة القوم وهم يعللون أفعال الله تعالى ويزعمون أنها تابعة للمصالح ثم قال المصنف ولئن سلمنا جواز تعليلها فلا نسلم انحصار الغرض فيما ذكرتم وجاز أن يكون الغرض في خلقها هو التنزه بمشاهدتها أو غير ذلك.

 

ج / 1 ص -149-       أدلة القائلين بحرمتها
قال وقال الآخرون تصرف بغير إذن المالك فيحرم كما في الشاهد ورد بأن الشاهد يتضرر به دون الغائب.
احتج القائلون بأنها محرمة بأن الأفعال الاختيارية تصرف في ملك الغير بغير إذن فيحرم قياسا على التصرف في ملك الشاهد الذي هو الإنسان بغير إذنه والجامع بين ورد هذا بالفرق وهو أن حرمة التصرف في ملك الشاهد بغير إذنه إنما كانت لتضرره بذلك وهذا بخلاف الغائب وهو الله لتنزهه عن الإضرار وقد علم الواقف على هذا برد المصنف على الفريقين أنه يختار الوقف.
واعلم أنه لا خلاف في الحقيقة بين الواقفية والقائلين بالإباحة كما قال إمام الحرمين قال فإنهم لم يعنوا بالإباحة ورود خبر عنها وإنما أرادوا استواء الأمر في الفعل والترك والأمر على ما ذكروه نعم لو قالوا حق على المالك أن يبيح فهذا ينعكس الآن عليهم بالتحكم في تفاصيل النفع والضرر على من لاينتفع ولا يستضر.
قال تنبيه عدم الحرمة لا يوجب الإباحة لأن عدم المنع أعم من الإذن.
هذا إشارة إلى جواب عن سؤال مقدر ذكره الفريقان على الواقفية بمعنى لا حكم ولك أن تقول المصنف غني عن ذكر هذا إذ هو لا يفسر التوقف بمعنى عدم الحكم بل بمعنى عدم العلم وتقرير السؤال أن الأفعال إن كانت ممنوعا منها فهي محرمة وإلا فهي مباحة.
والجواب أنا لا نسلم أنها إذا لم تكن ممنوعا منها تكون مباحة لأن المباح

 

ج / 1 ص -150-       هو ما أعلم فاعله أو دل على أنه لا حرج في فعله ولا تركه ولا يلزم من عدم المنع الإذن لأن عدم المنع أعم من الإذن والعام لا يستلزم الخاص.

 

ج / 1 ص -151-       الفصل الثاني في المحكوم عليه وفيه عدة مسائل
الأولى: في الحكم على المعدوم

قال الفصل الثاني في المحكوم عليه وفيه مسائل:
الأولى: يجوز الحكم على المعدوم كما أنا مأمورون بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال أصحابنا المعدوم يجوز أن يحكم عليه لا بمعنى أن حال كونه معدوما يكون مأمورا فإنه معلوم الفساد بالضرورة بل بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الحال ثم إن الشخص الذي يوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك وأما سائر الفرق فقد أنكروه وعظموا النكير على شيخنا أبي الحسن1 حتى انتهى الأمر إلى انكفاف طائفة من الأصحاب عن هذا المذهب منهم أبو العباس القلانسي من قدماء الأصحاب وقال كلام الله في الأزل لا يتصف بكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وإنما ثبتت هذه الصفات فيما لا يزال عند وجود المخاطبين كما يتصف الباري بكونه خالقا رازقا فيما لا يزال وجعل ذلك من صفات الأفعال وهذا ضعيف لأنه إثبات لكلام خارج عن كونه أمرا ونهيا ووعدا وعيدا إلى استتمام أقسام الكلام وذلك مستحيل قطعا فلئن جاز ذلك فما المانع من المصير إلى أن الصفة الأزلية ليست كلاما أزليا ثم يستجد كونها كلاما فيما لا يزال وذهب بعض الفقهاء كما حكاه القاضي في مختصر التقريب إلى أن الأمر قبل وجود المأمور أمر إنذار وإعلام وليس بأمر إيجاب وهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد بذلك الشيخ أبا الحسن الأشعري شيخ طريقة أهل السنة والجماعة وتقدمت ترجمته.

 

ج / 1 ص -152-       ضعيف لأن ما فروا منه في الإيجاب يلزمهم في الإعلام فإنه كما يستبعد إلزام المعدوم يستبعد إعلامه واحتج أصحابنا بأن الواحد منا يصير مأمورا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك الأمر ما كان موجودا إلا حال عدمنا.
قال قيل الرسول أخبر بأن من سيولد فالله سيأمره قلنا أمر الله في الأزل معناه أن فلانا إذا وجد فهو مأمور بكذا قيل الأمر في الأزل ولا سامع ولا مأمورا عبث بخلاف أمر الرسول عليه السلام قلنا مبني على القبح العقلي ومع هذا فلاسفة في أن يكون في النفس طلب التعلم من أين سيولد.
اعترض الخصوم على الدليل المتقدم بأنه لا يصح قياس أمر الله على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم مبلغ لأمر الله تعالى فيكون مخبرا عن الله بأن فلانا إذا وجد وانخرط في سلك من يفهم الخطاب فالله يأمره بكذا وإذا كان كذلك لم يكن أمرا للمعدوم بشيء وأجاب المصنف بأنا أيضا نقول أمر الله في الأزل معناه أنه أخبر بأن من سيوجد ويستعد لتعلق الأمر به يصير مأمورا بأمري كما قلتم في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فإن قلت إذا كان أمر الله بمعنى الإخبار فلا يكون أمرا حقيقيا قلت كذلك ذهب إليه بعض الأشاعرة وضعفه الإمام بوجهين.
أحدهما: أنه إن كان مخبرا لنفسه فهو سفه أو لغيره فمحال إذ ليس ثم غيره ولهذا ذهب من صار إلى أن كلام الله في الأزل لم يكن أمرا ولا نهيا ثم صار فيما لا يزال كذلك واعترض عليه القرافي بأنا نقول إنه مخبر لنفسه والقائل يشتغل في فكره طول ليله ونهاره ولا معنى لذلك إلا الإخبارات وأجمع العقلاء مع ذلك على حسنه فلا يكون في حق الله تعالى قبيحا بل الله تعالى عالم بجميع معلوماته ويخبر عن كل معلوم بخصائص صفاته وأحواله ولا استحالة في ذلك ولم يزل الله تعالى في الأزل وأبدا ولا يسمع ذلك إلا الله تعالى بسمعه القديم وإلى هذا الإخبار أشار عليه السلام بقوله
"لا أحصى ثناء عليك أنت

 

ج / 1 ص -153-       كما أثنيت على نفسك1 فالله تعالى يثني على نفسه دائما أزلا وأبدا ولا معنى للثناء إلا الإخبار قال وهذا واجب حق لا ينكره إلا من لم يربض بالعلوم العقلية الكلامية.
والثاني: من اعتراض الإمام أنه لو كان بمعنى الإخبار لقبل الصدق والكذب ولكن يلزم ألا يجوز العفو لأن الخلف في خبر الله محال وهو ضعيف لأنا نقول الأمر عبارة عن الإخبار بنزول العقاب إذا لم يحصل عفو ذكره الأصفهاني2 في شرح المحصول ثم اعترض الخصم على الجواب بأن الأمر بالمعنى الذي ذكرتموه أيضا محال في حق الله تعالى دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى إذا أخبر في الأزل يكون قد أخبر ولا سامع ولا مأمور ومنهى وصار كمن خلا بنفسه يحدثها وذلك عبث بخلاف أمر الرسول فإن بين يديه من يسمع ويمتثل ويبلغ وأجاب بأن تقبيح هذا مبني على مسأله التحسين والتقبيح وهي منهدمة الأركان ولقائل أن يقول إن ثبت قبح هذا فهو صفة نقص ولا خلاف كما سلف في أن التحسين والتقبيح على معنى صفات الكمال والنقص عقلي وما تقدم من كلام القرافي يصلح جوابا هنا.
ثم أجاب المصنف ثانيا بأن أمر الله تعالى هو المطلب القائم بذاته على رأي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا بعض حديث من دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رواه مسلم في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت تفقدت النبي – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة فتحسست فإذا هو راكع أو ساجد يقول:
"سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت" وفي رواية في مسلم – أيضا – فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" الفتوحات الربانية 2/269 – 270.
2 هو شمس الدين محمد بن محمود بن عباد كان من العلماء الأجلاء المبرزين في سائر العلوم النقلية والعقلية تلقى العلم عن والده بأصفهان ثم رحل إلى بغداد وبلاد الروم وأخذ عن فلمائها كما رحل إلى القاهرة ونال من حكامها كل تقدير وإجلاء من مؤلفاته شرح المحصول للإمام الرازي وكتاب القواعد الأربعة علم أصول الفقه وأصول الدين والخلاف والمنطق.
توفي بالقاهرة سنة 688 هـ كشف الظنون ص 1359.

 

ج / 1 ص -154-       أهل الحق ولا سفه في قيام طلب الفعل بذاته ممن سيوجد كما أنه لا سفه في أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد ولو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار مطالبا بذلك الطلب ومأمورا فكذلك المعنى القائم بذات الله الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد قديم تعلق بعباد على تقدير وجودهم فإذا صاروا مأمورين بذلك الاقتضاء وهذا الجواب الصحيح إلا أن قياس الغائب على الشاهد لا يصح فإنا نسلم أنه يقوم بذات الأب طلب للتعلم من ابن سيولد وإن كان الغزالي في طائفة قالوا إن ذلك ثبت للذاهبين إلى كلام النفس بل يقول إنما يقوم بذاته أنه لو وجد لطلب منه فإن قلت إنما كان ذلك لأن الشاهد غالبا لا يستيقن وجود ولد له إذ لا علم له بالغيب بخلاف من يعلم أن فلانا يوجد في الوقت الفلاني لا محالة بتقديري وإرادتي ونحن نفرض شخصا أخبره صادق بأنه يولد لك علم ولا بدع أن يقوم في نفسه والحالة هذه ما ذكرناه.
قلت ولو فرضت ذلك لم نسلم صحة قيام ذلك في نفسه وكيف يطلب ولا مطلوبا منه.
فإن قلت فما الفارق والحالة هذه بين الغائب والشاهد حيث أجزتم صحة قيام ذلك بذات الله بخلاف الشاهد؟
قلت الله تعالى ليس كلامه إلا النفسي ولا يمكن أن يكون قيامه بذاته حادثا وإلا يلزم أن يكون محلا للحوادث تعالى الله عن ذلك فلذلك لزم من هاتين المقدمتين أعني امتناع كون كلامه غير نفسي وامتناع كونه محلا للحوادث أن يكون الأمر قائما بالذات في القدم وتعلقه بالمأمور حادث على حسب استعداده وأما الشاهد الذي لا يستحيل على ذاته قيام الحوادث بها وأمره يصدق طورا باللسان وطورا بالجنان فلا ضرورة بنا إلى تقدير قيام الطلب بذاته من معدوم ومالنا لا نؤخره إلى حين يوجد ذلك المعدوم فوضح السر في كون أمر الله تعالى من الأزل وثبوت الفارق بين الغائب والشاهد وأنه لا يصح قياس أحدهما على الآخر وما ذكره الخصوم من الحسن والقبح والهذيان

 

ج / 1 ص -155-       والسفه والانتظام والاتساق في أمر ولا مأمور وغيرها كلها من نعوت المحثات والقديم يتقدس عنه ويحقق هذا أن من أحب أن يحيط علما بقطر البحار وأوراق الأشجار عد سفيها واستقبح منه ما أتى به بخلاف الرب سبحانه وتعالى فالمعدوم الذي وجد أنه متوقف على أمره وقد قدر وجوده في وقت معلوم لا يتخلف عنه على صفة معلومة لا انفكاك لها دون أمره نازل عنده منزلة الموجود فهو يأمره وينهاه ولا قبح هذا في جانب الباري سبحانه وتعالى وهذا واضح لمن تدبره ومن أراد الزيادة فالكتب الكلامية التي وضعها أصحابنا بين أظهرنا.
وإمام الحرمين قال إن هذا الموضع مما يستخير الله فيه ووعد بإملاء مجموع عليه وقال قول القائل إنه مأمور على تقدير الوجود تلبس فإنه إذا وجد لم يبق معدوما ولا شك أن الوجود شرط في كون المأمور مأمورا وإذ لاح ذلك بقي النظر في أمر بلا مأمور وهذا معضل إذن فإن الأمر من الصفات المتعلقة وفرض متعلق ولا متعلق له محال انتهى وفيما أوردناه كفاية.
فائدة قال إمام الحرمين في التخليص المختصر من التقريب والإرشاد ذهب بعض من لا تحقيق له إلى أن الأمر إنما يتعلق بالمعدوم بشرط أن يتعلق بموجود واحد فصاعد ثم يتبعه المعدومون على شرط الوجود وسقوط هذا واضح.
تنبيه: قد يسأل عن الفرق بين هذه المسألة وبين قولنا لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع فإن الأزل قبل ورود الرسل بالضرورة وقد نفينا الأحكام قبل ورودهم ثم وأثبتناها هنا في الأزل والجواب ما تقدم في خلال الكلام من أن معنى قولنا لاحكم قبل ورود الشرع أن الخطاب إنما يتعلق بما بعد البعثة لا بما قبلها فالمنفي هناك تعلق الأحكام لا ذواتها فلا تناقض بين الكلامين.

 

ج / 1 ص -156-       المسألة الثانية في تكليف الغافل
قال الثانية لا يجوز تكليف الغافل من أحال تكليف المحال فإن الإتيان بالفعل امتثالا يعتمد العلم ولا يكفي مجرد الفعل لقوله عليه السلام
"إنما الأعمال بالنيات" ونوقض بوجوب المعرفة وأجيب بأنه مستثنى
اتفق الكل حتى القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق على أنه يشترط في المأمور أن بكون عاقلا بفهم الخطاب أو يتمكن من فهمه لأن الأمر بالشيء يتضمن إعلام المأمور بأن الآمر طالب للمأمور به منه سواء أمكن حصوله منه أو لم يمكن كما في التكليف بما لا يطاق وإعلام من لا عقل له ولا فهم متناقض إذ يصير التقدير يا من لا فهم له افهم ويا من لا عقل له اعقل المأمور به فعلى هذا لا يجوز أمر الجماد والبهيمة لعدم العقل والفهم وعدم استعدادهما ولا أمر المجنون والصبي الذي لا يميز لعدم العقل والفهم التامين وإن كانا مستعدين لهما وقد نسب المصنف امتناع تكليف الغافل إلى من يحيل تكليف المحال وهو يفهم أن الذي لا يحيله لا يمنعه وليس الأمر كذلك بل المختار منعه وإن فرعنا على صحة التكليف بالمحال.
وعلى المصنف في قوله تكليف المحال معترض آخر وهو أن تكليف المحال هو ما رجع إلى المأمور وهو تكليف الغافل فكان الأولى أن يقول التكليف بالمحال1

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فعلى هذا يفهم أن التكليف المحال: هو ما رجع إلى المكلف نفسه أما التكليف بالمحال بزيادة الباء فهو ما كان راجعا إلى المأمور به وهو الفعل ا هـ محققه.

 

ج / 1 ص -157-       واستدل المصنف على المختار بأن مقتضى التكليف الإتيان بالمأمور به على وجه الامتثال للآمر وذلك لا يتصور إلا إذا علم المكلف أن المكلف أمره به والغافل لا يعلم ذلك فلا يمكنه الإتيان بالمأمور به على جهة الامتثال.
قوله ولا يكفي مجرد الفعل هذا جواب على سؤال مقدر تقديره أنا لا نسلم توقف الإتيان بالمأمور به على العلم لجواز أن يصدر عنه ما كلف من غير علم وتوجيه الجواب أن مجرد الإتيان بالمأمور به لا يكفي في حصول الامتثال بل لابد معه من النية لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما الإعمال بالنيات"1 وقد نقض الخصم هذا الدليل بوجود معرفة الله تعالى فإنها واجبة ولا يمكن أن يكون وجوبه بعد حصولها للزوم تحصيل الحاصل وإذا كان قبل حصولها استحال معرفة هذا الأمر لأن معرفة أوامر الله بدون معرفة الله محال فقد كلف بما هو غافل عنه وأجاب المصنف بأنه مستثنى من القاعدة لقيام دليل عليه يخصه وقد ضعف هذا الجواب بأن النقض ولو بصورة قادح في الدليل وقيل الحق في الجواب أن يقال نختار أن التكليف بها يرد حال حصول العلم ولا يلزم تحصيل الحاصل لجواز أن يكون المأمور به معلوما بوجه ما ويكون التكليف واردا بتحصيل المعرفة من غير ذلك الوجه وقد نجز شرح ما في الكتاب.
والذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه أن السكران مخاطب مكلف ولكن الأصوليين على طبقاتهم منهم القاضي في مختصر التقريب صرحوا بخروج السكران الخارج عن حد التمييز عن قضية التكليف والتسوية بينه وبين سائر من لا يفهم قال الغزالي بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكن تنبيهه فإما أن يكون ما قاله الشافعي قولا ثالثا مفصلا بين السكران وغيره للتغليظ عليه أو يحمل كلامه على السكران الذي لا ينسل عن رتبة التمييز دون الطافح المغشي عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اخرجه البخاري من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقد رواه البخاري في صحيحه سبع مرات إحداها في كيف كان بدء الوحي 1 – 2.

 

ج / 1 ص -158-       ولا ينبغي أن يظن ظان من ذلك أن الشافعي يجوز تكليف الغافل مطلقا فقدره رضى الله عنه يجل عن ذلك وأظهر الرأيين عندنا أن الشافعي فصل بين السكران وغيره ثم إنا نقول لعل ذلك هو الحق دالين عليه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}1 فإن قلت لعل المراد بالسكران في الآية النشوان الذي لا ينسل عن رتبة التمييز قلت هذا التأويل ينافي سياق الآية فإن الرب تعالى قال: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وليس عندي على من قال إن السكران مكلف إلا إشكال دقيق لولاه لجزمت القول بأنه مكلف وهو أنه يلزم من قال إنه مكلف أن يأمره بالوضوء ويطالبه بالصلاة ويرد عليه إذن قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فإن تحريم الصلاة عليه لا يجامع مطالبته بها فالآية تصلح معتصما للفريقين فمن يكلفه يقول الله خاطبه ومن يمنع يقول قد أمره بألا يقرب الصلاة فإن قلت كيف لا تكلفون النائم وهو يضمن ما يتلفه في نومه ويقضي الصلوات التي تمر عليه مواقيتها إلى غير ذلك من الأحكام؟
قلت الذي قلناه إنه لا يخاطب في حال نومه ولكن يتوجه عليه الخطاب بعد ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من ترك صلاة أو نسيها فليصلها إذ ذكرها".
فإن قلت إنما يخاطب في اليقظة بسبب ما تقدم في النوم.
قلت مقصدنا نفي الخطاب في حال النوم فأما ثبوت أسباب يستند إليها تثبت الأحكام في اليقظة فمما لا ننكره ويوضح هذا أن الصبي الذي لا يميز لو أتلف شيئا لطالبناه ببدله فوجوب الزكوات والغرم والنفقات ليس من التكليف بل الإتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمة الصبيان بمعنى مخاطبة الولي في الحال بالأداء ومخاطبة الصبي بعد البلوغ وذلك غير محال وليس كقولك لمن لا يفهم افهم فإن أهلية ثبوت الأحكام في الذمة تستفاد من الإنسانية التي لها يستعد بقبول قوة العقل الذي به قوة فهم التكليف في ثاني الحال حتى أن البهيمة لما لم يكن لها قوة فهم الخطاب بالفعل ولا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء: 43.

 

ج / 1 ص -159-       بالقوة لم تتهيأ لإضافة الحكم إلى ذمتها بخلاف النطفة التي في الرحم إذا ثبت لها الملك بالإرث والوصية والحياة غير موجودة بالفعل ولكن بالقوة وكذا الصبي مصيره إلى العقل فصح إضافة الحكم إلى ذمته ومطالبته في ثاني الحال ولم يصلح للتكليف في الحال فإن قلت لو انتفخ ميت وتكسر بسبب انتفاخه قارورة فينبغي إيجاب ضمانها كالطفل يسقط على قارورة قلت يحتمل أن يقال بذلك وأن يطالب به الورثة كما يجب الضمان على العاقلة والفعل لم يصدر منهم ولكن قال الأصحاب لا يجب وفرقوا بينه وبين الطفل بأن للطفل فعلا بخلاف الميت وإيجاب الضمان على من لا فعل له غير معقول وهو متجه فإن قلت فالصبي المميز يفهم الخطاب فلم منعت تكليفه؟
قلت العقل لا يمنع ولكن الشرع رفع ذلك عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع القلم عن ثلاث" الحديث1.
وقد قال البيهقي إن الأحكام إنما نيطت بخمس عشرة سنة من عام الخندق وأنها كانت قبل ذلك تتعلق بالتمييز وبهذا يجاب عن سؤال من يقول الرفع يقتضي تقدم وضع ولم يتقدم على الصبي وضع فإن قلت ما الحكمة في تقدير الرفع بالبلوغ وهو إذا قارب البلوغ عقل قلت قال القاضي أبو بكر إن عدم بلوغه دليل على قلة عقله وهو تصريح منه بأن العقل يزيد ويكمل بلحظة وليس يتجه ذلك كما قاله الغزالي لأن انفصال النطفة لا يزيد عقلا لكن حط الخطاب عنه تخفيفا وزيادة العقل ونقصانه إلى حد يناط به التكليف أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه بغتة لكونه يزيد على التدريج وقد علم من عوائد الشرع أنه يعلق الحكم على مظانها المنضبطة لا على أنفسها والبلوغ مظنة كمال العقل فعقل الشارع الأمر عليه وإن جاز وجود الحكمة قبله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولفظه عن علي – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:
"رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشيب وعن المعتوه حتى يعقل".
وأخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم كما أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والطبراني بروايات مختلفة.
صحيح الجامع الصغير للألباني 3 – 179.

 

ج / 1 ص -160-       بلحظة أو بعده بلحظة وفي الشريعة صور كثيرة تضاهي ذلك بل ربما شذت الصورة عن الحكمة بحيث بقي الوصف فيها كضرب من التعبد وفي ذلك فروع:
منها لو كمل وضوءه إلا إحدى الرجلين ثم غسلها وأدخلها الخف فإنه ينزع الأولى ثم يلبسها ليكون قد أدخلهما على طهارة كاملة.
ومنها لو اصطاد صيدا وهو محرم ولا امتناع لذلك الصيد فإنه يرسله ويأخذه إذا شاء.
ومنها إذا تيقن عدم الماء حواليه فإنه على وجه يلزمه الطلب وقد عددنا في الأشباه والنظائر كمله الله من ذلك كثيرا.
فإن قلت كيف أمرت الصبي بالصلاة وهو ابن سبع سنين وضربته عليها وهو ابن عشر.
قلت قد علمت أن العقل بعد بلوغه سن التمييز لا يمنع من ذلك ومن محاسن الشريعة النظر في مصلحته وتمرينه على مايخاطب به حتما فيما يؤل وليس المقصود من هذا الخطاب غير ذلك ولذلك لا نقول إنها واجبة عليه بل على الولي أن يأمره بها ولا تبعة على الصبي في آخرته بتركها والله أعلم.
فإن قلت كيف منعتم تكليف الغافل الداخل في قالب الموجودات وجوزتم تكليف المعدوم؟
قلت تكليف المعدوم بمعنى تعلق الخطاب به في الأزل على تقدير وجوده والمنع من تكليف الغافل إنما هو في زمن غفلته.
فإن قلت الدهري مكلف بالإيمان وهو لا يعرف المكلف فكيف يفهم التكليف.
قلت المعتبر التمكن من الفهم وهو متمكن بواسطة النظر1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وخلاصة ذلك: أن العلماء اتفقوا على شرط التكليف أن يكون المكلف عاقلا فاهما لأن التكليف خطاب وخطاب من لا يعقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة كذلك من شرط التكليف فهم أصل الخطاب جملة لا تفصيلا وأن يكون مقتضيا للثواب والعقاب ومن كون..................................=

 

ج / 1 ص -161-       ..............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الآمر هو الله تعالى وكون المأمور به على صفة معينة.
فالصبي وإن كان يفهم ما لا يفهم غير المميز إلا أنه غير فاهم فهما كاملا لوجود الله تعالى وكونه متكلما مخاطبا مكلفا بالعبادة ومن وجود الرسول الصادق المبلغ عن ربه عز وجل – وغير ذلك مما يتوقف عليه مقصود التكليف.
ولما كان الفعل والفهم فيه خفيا لا يظهران جعل له الشارع ضابطا يعرف به وهو البلوغ وحط عنه التكليف قبله تخفيفا عليه كما في الحديث المتقدم.
ويستفاد من ذلك:
"أ" أن العقل عماد التكليف فمن لا يعقل لا يمكن توجه الخطاب إليه.
"ب" أن العقل ينمو ويتدرج وأنه لا يصل إلى حد التكليف إلا إذا تكامل نوه=
= "ج" أن نمو العقل شيء خفي فلا بد له من ضابط ظاهر وهو البلوغ "د" أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو في الحكم التكليفي أما الحكم الوضعي فلا خلاف بين العلماء في أنه ليس من شرطه العقل فإن المجنون والصبي غير المميز تتعلق بهما الأحكام الوضعية فإذا أتلف أحدهما شيئا وجب ضمانه على وليهما.
"ه" ما نسب إلى الإمام الشافعي من أنه يجوز تكليف الغافل – أخذا من كلامه في وقوع طلاق السكران.
فإنا نجل الإمام الشافعي من أن يقول إن من لا يفهم الخطاب يكون مكلفا فلعل الإمام الشافعي يقصد التغليظ على السكران المتعدي بسكره عقوبة له وزجرا عن العودة إلى مثل ذلك لأن رفع التكليف رخصة والرخصة لا تناط بالمعاصي.
ويدل على ما قلناه ما قاله الإمام الشافعي نفسه في كتاب الأم:
"إن قال قائل: فهذا مغلوب على عقله والمريض والمجنون مغلوب على عقله".
قيل: المريض مأجور ومكفر عنه بالمرض.
مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله وهذا آثم أي السكران مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم فكيف يقاس عن عليه العقاب بمن له الثواب" الأم 5/253 ط بيروت.
فعلى هذا يجب أن يفهم كلام الشافعي في هذا المسألة وبالله التوفيق ا هـ محققه.

 

ج / 1 ص -162-       المسألة الثالثة الإكراه الملجئ يمنع التكليف
قال الثالثة الإكراه الملجئ يمنع التكليف لزوال القدرة.
الإكراه إن انتهى إلى حد الإلجاء بحيث صارت نسبة فاعله إلى الفعل المكره عليه كنسبة المرتعش إلى حركته منع التكليف في المكره عليه أو ضده والقول في جوازه مبني على التكليف بما لا يطاق واستدل المصنف على امتناعه بزوال القدرة فإن الفعل يصير واجب الوقوع ويصير عدمه ممتنعا والتكليف بالواجب والممتنع تكليف بما لا يطاق وقال القاضي في مختصر التقريب إن هذا القسم لا يسمى عند المحققين إكراها لأن الإكراه لا يتحقق إلا مع تصور اقتدار فلا يوصف ذو الرعشة الضرويرية بالإكراه وانما المكره من يخوف ويضطر إلى أن يحرك يده على اقتدار واختيار وقد ذهب أصحابنا إلى أن ذلك لا يمنع التكليف صرح به طوائف منهم القاضي وإمام الحرمين وأبو إسحق الشيرازي والغزالي وجماعة ومال إليه الإمام وذهبت المعتزلة إلى أنه يمنع التكليف وهذا ما أفهمه كلام المصنف كذا نقله جماعة وحكاية إمام الحرمين عنهم أن المكره على العبادة لا يجوز أن يكون مكلفا بها قال وبنوا ذلك على أصولهم في وجوب إثابة المكلف والمحمول على الشيء لا يثاب عليه قال وقد ألزمهم القاضي المكره على القتل فإنه منهي عنه وآثم به لو أقدم عليه وهذه هفوة عظيمة فإنهم لا يمنعون النهي عن الشيء مع الحمل عليه فإن ذلك أشد في المحنة واقتضاء الثواب وإنما الذي منعوه الإضرار إلى فعل مع الأمر به انتهى وقد تابع القاضي جماعة من الأصحاب على إلزام المعتزلة بذلك وهو صحيح وما ذكره إمام الحرمين حق من هذا الوجه ولكن الملزمون لم يوردوه

 

ج / 1 ص -163-       على هذا المأخذ بل هو من جهة أنهم منعوا أن المكره قادر على عين الفعل المكره عليه فبين الملزمون أنه قادر لأن المعتزلة كلفوه بالضد وعندهم أن الله تعالى لا يكلف العبد إلا بعد خلق القدرة على الفعل والقدرة عندهم على الشيء قدرة على ضده فإذا قدر على ترك القتل قدر على القتل.
قال الغزالي وهذا ظاهر ولكن فيه غور وهو أن الامتثال إنما يكون طاعة إذا كان الانبعاث له بباعث الأمر والتكليف دون باعث الإكراه فالآتي بالفعل مع الإكراه إن أتى به لداعي الإكراه فلا يكون مجيبا داعي الشرع فصحيح قال بعض المتأخرين وهذا الذي ذكره إنما هو في العبادات المشروط فيها النية كرد المغصوب والودائع وتسليم المبيع وحبس المعتدة فالمقصود فيه واقع قصد أو لم يقصد فيخرج من عهده التكليف به مع الإكراه هذا كلام الأصوليين وأما الفقهاء فقالوا لا يباح بالإكراه الزنا والقتل ويباح شرب الخمر والإفطار إتلاف مال الغير والخروج من الصلاة والتلفظ بكلمة الردة وقد يجب بعض ذلك فإن قلت قد قال الفقهاء إن الإكراه يسقط أثر التصرف قلت لا يلزم من كونه مسقطا أثر التصرف ألا يجامع التكليف والضابط في خطاب المكره وتصرفاته والجمع بين كلام الأصوليين والفقهاء فيه يستدعي مزيد بسط لعلنا نستقصي القول فيه في كتابنا الأشباه والنظائر على أن الفقهاء قد استثنوا مسائل من هذه القاعدة منها الإكراه على القتل على أصح القولين ومنها الإكراه على الكلام في الصلاة على الأصح ومنها الرضاع.
ومنها على الحدث وقد حكى الرافعي عن الحناطي1 وجهين في انتقاض الوضوء بمس الذكر ناسيا فلا يبعد أن يقال بجريانهما في حالة الإكراه.
ومنها الإكراه على الزنا إن قلنا يتصور الإكراه عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحسين بن محمد بن عبد الله الشيخ الإمام أبو عبد الله الحناطي الطبري كان إماما جليلا حافظا لكتب الإمام الشافعي – رضي الله عنه -.
توفي بعد الأربعمائة هجرية.
تاريخ بغداد 8/103 طبقات الشافعية لابن السبكي 4/267 – 371.

 

ج / 1 ص -164-       ومنها: قال في الاستقصاء نقلا عن الإيضاح إذا تبايعا في عقد الصرف وتفارقا قبل القبض يبطل سواء كان في حالة الاختيار أم الإكراه وقد يعترض على هذا بأن الإكراه لا يبطل خيار المجلس في البيع على الصحيح ويجاب بضيق باب الربا والمسألة في شرح المنهاج لوالدي بطلت مبسوطة.
ومنها: إذا أكره ففعل أفعالا كبيرة في الصلاة بطلت بلا خلاف.
ومنها: لو أكره على التحول عن القبلة أو على ترك القيام في الفريضة مع القدرة فصلى قاعدا لزمه الإعادة لأنه عذر وهذه كالتي قبلها.
ومنها: إذا أكره حتى أكل بنفسه وهو صائم أو أكرهت المرأة حتى مكنت من نفسها ففي الفطر قولان.
ومنها: إذا حلف بالله مكرها انعقدت يمينه على وجه حكاه ابن الرفعة.

 

ج / 1 ص -165-       المسألة الرابعة في وقت توجه الخطاب إلى المكلف
قال الرابعة التكليف يتوجه حال المباشرة وقالت المعتزلة بل قبلها.
المسألة من مشكلات المواضع وفيها اضطراب في المنقول وغور في المعقول ونحن نذكر مقالات الناس والتنبيه على جهة الاختلاف ثم نعمد إلى الرأي الأسد فنناضل عنه فنقول قال القاضي في مختصر التقريب باختصار إمام الحرمين الفعل مأمور به في حال حدوثه ثم قال المحققون من أصحابنا الأمر قبل حدوث الفعل المأمور به أمر إيجاب وإلزام ولكنه يتضمن الاقتضاء والترغيب والدلالة على امتثال المأمور به وإذا تحقق الامتثال فالأمر يتعلق به ولكن لايقتضي ترغيبا مع تحقيق المقصود ولا يقتضي دلالة بل يقتضي كونه طاعة الأمر المتعلق وذهب بعض من ينتمي إلى أهل الحق إلى أن الأمر إنما يقتض الإيجاب على التحقيق إذا قارن حدوث الفعل وإذا تقدم عليه فهو أمر إنذار وإعلام بحقيقة الوجوب عند الوقوع وهذا باطل والذي نختاره تحقق الوجوب قبل الحدوث وفي حال الحدوث وإنما يفترق الحالتان فيما قدمناه من الترغيب والاقتضاء والدلالة فإن ذلك يتحقق قبل الفعل ولا يتحقق معه وزعمت القدرية بأسرها أن الفعل في حال حدوثه يستحيل أن يكون مأمورا به ولا يتعلق به الأمر إلا قبل وجوده ثم طردوا مذهبهم في جملة الأحكام الشرعية فلم يصفوا كائنا بحظر ولا وجوب ولا ندب وإنما أثبتوا هذه الأحكام قبل تحقق الحدوث ثم افترقوا فيما بين أظهرهم فقال بعضهم:
لا يصح تقدم الأمر على المأمور به بأكثر من وقت واحد وصار الأكثرون منهم إلى جواز تقدمه عليه بأوقات ثم الذين صاروا إلى هذا المذهب اختلفوا في

 

ج / 1 ص -166-       أنه هل يشترط بقاء المكلف في الأوقات المتقدمة على حدوث المأمور به على أوصاف التكليف فمنهم من شرط كونه مستجمعا لشرائط التكليف في كل الأوقات المتقدمة.
وزعم بعضهم أنا لا نشترط ذلك وإنما نشترط اجتماع الأوصاف عند حدوث الفعل ويشترط في الأوقات المتقدمة عليه كون المخاطب ممن يفهم الخطاب ثم افترقوا بعد ذلك في أصل آخر وذلك أنهم قالوا هل يجوز أن يتقدم الأمر على المأمور به بأوقات من غير أن يكون فيه لطف ومصلحة زائدة على التبليغ من المبلغ والقبول من المخاطب؟
فمنهم من شرط أن يكون في ذلك لطف يعلمه الله ومنهم من لم يشترط ذلك انتهى وهو أثبت منقول في المسألة وصريح نقل إمام الحرمين في البرهان أن مذهب أصحاب الشيخ أن الفعل في حال حدوثه مأمور به ثم ذكر في تعليله ما يدل على أنه ليس بمأمور به قبل حدوثه وهذا هو الذي يقتضيه أصلهم وهو أن الاستطاعة عندهم مع الفعل لا قبله.
فإن قلت أصلهم الآخر وهو تحويز التكليف بما لا يطاق يقتضي جواز الأمر بالفعل حقيقة قبل الاستطاعة فعلى هذا يكون المأمور مأمورا قبل التلبس بالفعل.
قلت لعلهم فرعوا هذا على استحالته أو أنهم وإن جوزوه فلم يقولوا بوقوعه ويكون كلامهم هنا بناء على عدم الوقوع ثم اختار إمام الحرمين مذهب المعتزلة من الأمر بالحادث قبل الحدوث وعدم الأمر به مع الحدوث وقال إما أن يتجه القول في تعلق الأمر به طلبا واقتضاء مع حصوله مذهب لا يرتضيه لنفسه عاقل وأما الغزالي فإنه قال بوجود الأمر قبل الفعل وسلم مقارنة القدرة للفعل ومن هنا خالف قول إمامه فإن إمامه رأى أن القدرة هي التمكن وحالة الوجود تنافي التمكن من الفعل والترك فيتعين الوقوع كذا قال القرافي وهذه عبارة الغزالي لا أمر إلا بمعدوم يمكن حدوثه وهل يكون الحادث في أول حال حدوثه مأمورا كما كان قبل الحدوث أو يخرج عن كونه مأمورا كما في

 

ج / 1 ص -167-       الحالة الثانية في الوجود اختلفوا فيه وفي بحث كلامي لا يليق بمقاصد أصول الفقه ذكره.
وأما الإمام فقال ذهب بعض أصحابنا إلى أن المأمور إنما يصير مأمورا حالة زمان الفعل وأما قبل ذلك فلا يكون أمرا بل هو إعلام له بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورا.
وقالت المعتزلة إنما يكون مأمورا بالفعل قبل وقوعه ثم استدل على أنه على أنه لا يمتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل وإذا تؤمل دليله أرشد إلى أنه اختار ما حكاه عن بعض الأصحاب من أن التكليف يتوجه حال المباشرة ولا يتوجه قبلها وهذا هو المذهب الذي حكاه القاضي عن بعض ما ينتمي إلى أهل الحق وقال إمام الحرمين لا يرتضيه لنفسه عاقل ولم يتعرض الإمام إلى حكاية القول الذاهب إلى أنه مأمور قبل الحدوث ومع الحدوث وهو الذي ذهب إليه المحققون من أصحابنا كما قاله القاضي بل حاصل ما فعل أنه اختار أحد مذهبي الأصحاب واقتصر مع حكايته على حكاية مذهب المعتزلة.
وقال الآمدي اتفق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه سوى شذوذ من أصحابنا انتهى وهذا الذي ادعى الاتفاق على خلافه إلا عن شذوذ هو أحد شقي ما اختاره الإمام ونصبه محل النزاع مع المعتزلة قال وعلى امتناعه بعد حدوث الفعل واختلفوا في جواز تعلقه في أول زمان حدوثه فأثبته أصحابنا ونفاه المعتزلة انتهى.
وهو ما أشعر به كلام الغزالي المتقدم وهو نقل متقن محرر واتبعه عليه ابن الحاجب إلا أنه نسب القول بانقطاع التكليف حال حدوث الفعل إلى الشيخ وليس بجيد فليس للشيخ في المسألة صريح الكلام وإن كان ذلك يتلقى من قضايا مذهبه.
وقال ابن برهان في أصوله الحادث في حال حدوثه مأمور به خلافا للمعتزلة انتهى ولم يتعرض له قبل الحدوث وأما صاحب الكتاب فمن شعار الإمام نبغ وقد أوردنا من النقول في المسألة ما فيه كفاية للمتبصر.

 

ج / 1 ص -168-       أدلة القائلين بتوجه الخطاب عند المباشرة
قال لنا أن القدرة حينئذ قبل التكليف في الحال بالإيقاع في ثاني الحال قلنا الإيقاع إن كان نفس الفعل فمحال في الحال وإن كان غيره فيعود الكلام إليه ويتسلسل قالوا عند المباشرة واجب الصدور قلنا حال القدرة والداعية كذلك.
قد علمت اتباعه للإمام في اختيار أن التكليف إنما يتوجه حال المباشرة ولا يتوجه قبلها واستدل عليه بأن التكليف مشروط بحصول قدرة المكلف وحينئذ فيكون التكليف متوجها حال المباشرة ولا يكون متوجها قبلها أما تحقق القدرة حال المباشرة فلأن المراد من القدرة التمكن من الفعل والتمكن حاصل حينئذ وأما انتفاؤها قبل المباشرة فلأن الفعل قبل المباشرة ممتنع الوقوع إذ لو كان ممكن الوقوع لأمكن أن يفرض وقوعه ويكون ما فرضته أنه قبل المباشرة هو حال المباشرة وهذا خلف فوضح أن الفعل قبل المباشرة ممتنع الوقوع والممتنع لا قدرة عليه.
قوله قبل التكليف أجاب الخصم عن القول بأنه إذا كان ممتنعا قبل المباشرة فلا يكلف به بأن التكليف الذي ادعينا أنه ثابت قبل المباشرة ليس هو التكليف بنفس الفعل حتى يلزم ما ذكرتم بل التكليف في الحال يعني قبل المباشرة تكليف بالإيقاع في ثاني الحال يعني حال المباشرة.
واعترض المصنف على هذا الجواب بأن الإيقاع المكلف به إذا كان نفس الفعل فالتكليف به في الحال أي حال قبل الفعل محال وذلك لأنه يلزم من

 

ج / 1 ص -169-       امتناع التكليف بالفعل قبل مباشرته امتناع التكليف بالإيقاع إذ الفرض أن الإيقاع هو نفس الفعل وإن كان الإيقاع غير الفعل فيعود الكلام إليه أي إلى هذا الإيقاع الذي كلف به ويقال هذا الإيقاع الذي وقع التكليف به إن وقع التكليف به حال وقوع الإيقاع لزم المدعي وهو توجه التكليف حال المباشرة وإن وقع التكليف به قبله لزم أن يكون مكلفا بما لا قدرة له عليه لأنا قررنا أن القدرة مع الفعل.
فإن قلت التكليف قبل الإيقاع بإيقاع الإيقاع في ثاني الحال.
قلت يعود الكلام إليه أيضا ويقال إيقاع الإيقاع الذي كلف به إما أن يكون نفس الفعل أو غيره ويتسلسل فتعين أن يكون توجه التكليف حال المباشرة لا قبلها.
قوله إشارة إلى حجة ذكرها المعتزلة وهي أن الفعل حال المباشرة واجب الصدور عن المكلف لامتناع الترك منه حينئذ وكل ما كان واجب الوقوع فليس بمقدور وما ليس بمقدور لا يتوجه التكليف نحوه فلا يتوجه التكليف نحو الفعل حال المباشرة وأجاب بأنه لما كانت القدرة هي التمكن من الفعل والداعية هي ميل الإنسان إلى الفعل أو الترك إذا علم أو ظن أن له في الفعل مصلحة أو مفسدة وإذا اجتمعت القدرة والداعية سميت علة تامة وإذا وجدت فقيل يجب وقوع الفعل وقيل لا يجب بل يكون الفعل أولى وإذا عرفت هذا فنقول الفعل يترتب وجوده على وجود القدرة مع الداعية فيكون مأمورا حال القدرة والداعية عند الخصم لكونه من جملة الأزمان التي قبل الفعل مع أن الفعل واجب الصدور في تلك الحالة فانتفى ما ذكرتموه ويمكن أن يقرر على وجه آخر فيقال القدرة مع الداعي مؤثرة في وجود الفعل ولا امتناع في كون المؤثر مقارنا للأثر فتكون القدرة مقارنة للفعل مع كونه واجب الوقوع فبطل دعواكم أن ما كان واجب الصدور لا يكون مقدورا والتقرير الأول أقرب إلى كلام المصنف وهو يتمشى على تقدير التزام الخصم أن العلة مع المعلول والثاني يتمشى على تقدير قوله: العلة قبل المعلول وتوجيه كلام المصنف على

 

ج / 1 ص -170-       التقرير الثاني أن يقال فإما يكون التكليف حال القدرة والداعية معه ويلزم من مجموعهما وجوب الوقوع وقد اعترض العبري بأنه إذا كان الفعل قبل المباشرة غير مقدور عليه وعند المباشرة واجب الوقوع فيلزم التكليف بالممتنع أو الواجب وهو محال هذا شيء ما في الكتاب على الاختصار والمسألة دخيلة في هذا العلم والكلام فيها مما لا يكثر جدواه والذي نقوله هو أن الحق في أحد جهتين مرجعهما.
أحداهما: القول بأن التكليف متوجه قبل المباشرة وحال المباشرة أيضا وهو المنقول عن المحققين.
والثانية: أن التكليف لا يتوجه إلا حال المباشرة وهو مختار الإمام وصاحب الكتاب وهو عندنا منقدح لا يمنعنا عن الجزم به إلا ما سنذكره بعد سؤال وجواب نوردهما إن شاء الله تعالى.
فإن قلت هذا يؤدي إلى أن المكلف لا يعصى بترك مأمور به لأنه إن أتى به كان ممتثلا وإن لم يأت كان مغدورا لعدم التكليف.
قلت هذا من الأسئلة التي قامت بها الشناعة على القائل بهذه المقالة وجوابه عندنا دقيق فنقول إذا كان التكليف متوجها حال المباشرة فهو في حال ترك المأمور به مباشر للترك والترك فعل وهو حرام فقد باشر الترك فتوجه عليه التكليف بالحرمة حال مباشرة الترك والعقاب ليس إلا على الترك وهذا في غاية الحسن وقد أشار إليه إمام الحرمين في مسألة تكليف ما لا يطاق وهو أجل ما يستفاد من شرحنا في هذه المسألة وليس عندي فيه إلا أنه يلزم منه أن يقال تارك الصلاة مثلا غير مكلف بالصلاة بترك ترك الصلاة الذي يلزم منه الصلاة وقد ادعى إمام الحرمين اتفاق أهل الإسلام على أن القاعد في حال قعوده مأمور بالقيام فإن صح الإجماع هكذا فهل يصد عن القول بأن التكليف لا يتوجه إلا حال المباشرة.
وإن أمكن رده إلى ترك الترك كما قررنا فهذا المذهب منقدح.

 

ج / 1 ص -171-       الفصل الثالث في المحكوم به وفيه عدة مسائل
الأولى: في جواز التلكيف بالمحال
قال الفصل الثالث في المحكوم به وفيه مسائل:
الأولى: التكليف بالمحال جائز لأن حكمه لا يستدعي غرضا قيل لا يتصور وجوده فلا يطلب قلنا إن لم يتصور امتنع الحكم باستحالته.
ما لا يقدر العبد عليه قد يكون معجوزا عنه متعذرا عادة لا عقلا كالطيران في الهواء وقد يكون متعذرا عقلا ممكنا عادة كمن علم الله تعالى أنه لا يؤمن فإن إيمانه مستحيل والحالة هذه عقلا لتعلق علم الله به وإذا سئل ذوو العوائد عنه حكموا بأن الإيمان في إمكانه وهكذا كل طاعة قدر في الأزل عدمها وقد يكون متعذرا عادة وعقلا كالجمع بين السواد والبياض.
إذا عرفت هذا فمحمل النزاع في التكليف بالمستحيل إنما هو المتعذر عادة سواء كان معه التعذر العقلي أم لا أما المتعذر عقلا فقط لتعلق علم الله به فأطبق العقلاء عليه وقد كلف الله الثقلين أجمعين بالإيمان مع قوله:
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}1 فنقول ذهب جماهير الأصحاب إلى أنه يجوز التكليف بالمحال وذهبت المعتزلة إلى امتناع التكليف بالمحال مطلقا وإليه ذهب بعض أصحابنا كالشيخ أبي حامد وإمام الحرمين والغزالي واختاره الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد2 كما صرح به في شرح العنوان وذهب قوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف عليه السلام آية 103.
2 هو محمد بن علي بن وهب بن مطيع المنفلوطي المصري نشأ في قوص بصعيد مصر ولد في...........=

 

ج / 1 ص -172-       إلى أنه إن كان ممتنعا لذاته لم يجز وإلا جاز واختاره الآمدي وادعى أن الغزالي مال إليه وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه لا يجوز أن يرد التكليف بالمحال فإن ورد لا نسميه تكليفا بل يكون علامة نصبها الله على عذاب من كلف بذلك واستدل في الكتاب على الجواز مطلقا بأن امتناع التكليف عند القائل به إنما هو لكونه عبثا وذلك مبني على تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض وهو باطل وهذا يصلح ردا على من بنى الامتناع على ذلك وهم المعتزلة وأما من وافقهم مع أصحابنا فلهم مأخذ آخر.
واحتج المعتزلة ومن وافقهم بأن المحال لا يتصور لأن كل ما يتصور بالعقل فهو معلوم إذ التصور من جملة أقسام العلم وكل معلوم متميز وكل متميز ثابت لأن التميز صفة وجودية ولا بد لها من موصوف موجود ضرورة عدم قيام الموجود بالمعدوم فلو كان متصورا لكان ثابتا ولكنه غير ثابت فلا يكون متصورا وإذا كان غير متصور فلا يكلف به لأنه والحالة هذه مجهول.
قال الغزالي والمطلوب ينبغي أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق وأجاب المصنف بأنه إن كان غير متصور كما ذكرتم فيمتنع منكم الحكم عليه لأن الحكم على الشيء فرع تصوره فلم حكمتم عليه بالاستحالة؟
ولقائل أن يقول الحكم بالاستحالة إنما يتوقف على تصوره في الذهن لا على تصور وجوده في الخارج ولا يمتنع تصوره في الذهن وليس المراد من قوله لا يتصور وجوده الوجود الذهني بل الخارجي وهذا حق وجوابه أن لا نسلم أن كل ما لا يتصور وجوده في الخارج لا يطلب وهل النزاع إلا فيه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شعبان سنة 625 هـ بينبع من أرض الحجاز وكان والده في رحلة الحج فطاف به حول الكعبة داعيا له فاستجاب الله دعاه فكان ولده من العلماء العالمين وذاع صيته واشتهر بالصلاح والتقى حتى لقب بـ تقي الدين.
من مؤلفاته شرح كتاب عمدة الأحكام الإمام والإلمام في أحاديث الأحكام مقدمة المطرزي في أصول الفقه.
توفي رحمه الله تعالى في صفر سنة 702 بالقاهرة ودفن بالقرافة الصغرى شذرات الذهب 5/6 الدرة الكامنة 4/94 درة الحجال 2/15.

 

ج / 1 ص -173-       قال غير واقع بالممتنع لذاته كإعدام القديم وقلب الحقائق.
اختلف القائلون بجواز التكليف بالمحال في وقوعه فذهب الجمهور إلى عدم وقوعه والمختار عند المصنف التفصيل الذي ذكره وهو عدم الوقوع بالممتنع لذاته كقلب الحقائق مع بقاء الحقيقة الأولى وإعدام القديم هذا ما ذكره وهو يفهم وقوع الممتنع لغيره والحق فيه التفصيل أيضا فإن كان مما قضت العادة بامتناعه كحمل الصخرة العظيمة للرجل النحيف فحكمه حكم الممتنع لذاته في الجواز وعدم الوقوع وأما ما امتنع لتعلق العلم به فذاك ليس محل النزاع بل هو واقع بالإجماع كما سلف.
فائدة قد عرفت ما عليه جمهور الأصحاب من تجويز للتكليف بالمحال واختلافهم في الوقوع على الوجه الذي رأيت فأما التجويز فهو المنقول عن أبي الحسن وهو لازم على قضايا مذهبه وأما الوقوع فقد نقلوا اختلافا عنه فيه.
قال إمام الحرمين وهذا لسوء معرفة مذهب الرجل فإن مقتضى مذهبه أن التكاليف كلها واقعة عنده على خلاف الاستطاعة.
قال ويتقرر هذا من وجهين:
أحدهما: أن الاستطاعة عنده لا تتقدم على الفعل والأمر بالفعل يتوجه على المكلف قبل وقوعه وهو إذ ذاك غير مستطع قال ولا يدفع ذلك قول القائل إن الأمر بالفعل نهي عن أضداده والمأمور بالفعل قبل الفعل إن لم يكن قادرا على الفعل فهو قادر على ضد من أضداده ملابس له فإنا سنوضح أن الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن اضداده قال وأيضا فإن القدرة إذا قارنت الضد لم تقارن الأمر بالفعل والفعل مقصود مأمور به وقد تحقق طلبه قبل القدرة عليه.
والثاني: أن القدرة الحادثة غير مؤثرة في مقدورها بل مقدورها مخلوق الله تعالى والعبد مطالب بما هو من فعل ربه قال ولا معنى للتمويه بالكسب فإنا سنوضح سر ما نعتقده في خلق الأفعال انتهى.

 

ج / 1 ص -174-       ولقائل أن يقول على الأول قولكم ليس الأمر بالشيء نهيا عن ضده قلنا الكلام على رأي الشيخ وهو يرى ذلك لا على رأيكم قال صفي الدين الهندي بل الجواب عنه أن ما هو متلبس به عند ورود الخطاب ليس ضدا له وهو الآن ضده الوجودي المنهي عنه وهو الذي يستلزم للتلبس به تركه في الزمان الذي أمر بإيقاع الفعل فيه وهو في زمان ورود الخطاب لم يتلبس به لأن زمان الفعل هو الزمان الثاني إن كان الأمر للفور سلمنا أن ذلك ضده المنهي عنه لكنه حاصل عند ورود الخطاب والأمر بترك الحاصل محال اللهم إلا أن يقال إنه مأمور بترك ما هو متلبس به في المستقبل وذلك إنما يكون بإقدامه على المأمور به وحينئذ يعود المحذور المذكور.
واعلم أن الوجه الأول لا يلزم على الشيخ إلا إذا قال بتوجه الأمر قبل الفعل وفيه ما تقدم من النزاع في المسألة المتقدمة وأما الوجه الثاني فلا يلزم تجويز التكليف بالممتنع لذاته أو الممتنع عادة.

أدلة القائلين بعدم الوقوع
قال للإستقراء ولقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}.
استدل على أنه غير واقع بالممتنع لذاته بوجهين:
أحدهما: الاستقراء فإنا استقرينا فلم نجد في التكاليف الشرعية ما هو متعلق بالممتنع لذاته.
والثاني: قوله تعالى:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}1 والممتنع لذاته غير وسع المكلف أي غير مقدور له فلا يكلف به ولك أن تقول هذه الآية تدل على عدم التكليف بالممتنع لذاته والممتنع لغيره لا الممتنع لذاته فقط فيلزم من استدل بها منع الوقوع فيهما ما لم يأت بدليل يخرج الممتنع لغيره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 286.

 

ج / 1 ص -175-       دليل القائلين بالوقوع
قيل أمر أبا لهب بالإيمان بما أنزل ومنه أنه لا يؤمن فهو جمع بين النقيضين قلنا لا نسلم أنه أمر به بعد ما أنزل أنه لا يؤمن.
هذا دليل القائلين بوقوع التكليف بالمحال لذاته ويصلح أن يكون اعتراضا على الدليل الأول وهو الاستقراء وتقريره أن أبا لهب مأمور بالجمع بين التقيضين لأنه مأمور بالإيمان والإيمان عبارة عن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولا يتم تصديقه في ذلك إلا بعدم الإيمان فوجب أن يؤمن وأن لا يؤمن وهو جمع بين النقيضين.
وأجاب بأن أمر أبي لهب بالإيمان لم يكن في حال الإخبار بعدم الإيمان بحسب الزمان فلم يقع التكليف بالجمع بين النقيضين وهو جواب باطل فإن أبا لهب مأمور بالإيمان قبل الإخبار وبعده الإجماع وإنما الجواب أن هذا ليس من باب الممتنع لذاته بل من الممتنع لغيره وذلك أنه تعالى أخبر أنه لا يؤمن فاستحال إيمانه ضررورة صدق خبر الله تعالى وعدم وقوع الخلف في خبره فإذا أمره بالإيمان والحالة هذه فقد أمره بما هو ممكن في نفسه وإن كان مستحيلا لغيره كما قلناه فيمن علم أنه لا يؤمن وها هنا تنبيهان:
أحدهما: وذكره القرافي أن الجمع بين النقيضين على ما قرروه إنما يتم أن لو كان مكلفا بأن يؤمن وبأن لا يؤمن وهو ليس بجيد بل الصواب حذف الواو فيقال كلف بأن يؤمن بأن لا يؤمن وهو مدلول الأمر بالإيمان وإذا كان مكلفا بأن يصدق الخبر بأنه لا يؤمن لا يلزم أن يكون مكلفا بجعل الخبر صادقا ألا ترى أن الصادق إذا أخبرك أن زيدا سيكفر بالله غذا فإنه يجب عليك تصديقه فيما أخبر به ولا يجب عليك أن تجعل زيدا كافرا بل يحرم عليك وأبو لهب والحالة هذه إنما كلف بأن يصدق بأنه لا يؤمن إلا بأن يجعل الخبر صادقا ويسعى في عدم إيمان نفسه.

 

ج / 1 ص -176-       والثاني تعبير المصنف بالنقيضين غير مستقيم فإنه نظر إلى وقوع التكليف بالإيمان وعدمه وهما نقيضان ولكن العدم غير مقدور عليه فلا يكلف به بل المكلف به على التقدير الذي أشار إليه كف النفس عن الإيمان والكف فعل وجودي فالصواب التعبير بالضدين كما فعل الإمام.
فائدة ناقش القرافي في التمثيل بأبي لهب وقال إنما يتوهم أن الله أخبر بعدم إيمانه من قوله تعالى:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}1 ولا دليل فيه لأن التب هو الخسران وقد يخسر الإنسان ويدخل النار وهو مؤمن لمعاصيه وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}2 فمخصوصة ولقائل أن يقول لا مشاحة في المثال ولا شك أنه تعالى أخبر عن أقوام أنهم لا يؤمنون من الآية التي ذكرها وإن كانت مخصوصة وذلك كاف في المثال فإن أولئك الذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون مأمورون بالإيمان إجماعا بل لمن يشاحح القرافي أن يقول إخباره تعالى عن أبي لهب أنه سيصلى نارا أقل أحواله أن يكون صليه إياها بمعاص صدرت منه كما ذكرتم والآية نزلت وهو كافر فيكون العقاب على معاص تصدر منه في حال الكفر فنقول حينئذ إن قلنا إن الكافر غير مكلف بالفروع فهذا منتصف ولا بد أن تكون النار التي استوجبها بعدم الإيمان وإن قلنا أنه مكلف فلو قدر إسلامه بعد ذلك كما فرضتم لكان غير معاقب على تلك المعاصي التي صدرت منه في حال الكفر لأن الإسلام يجب ما قبله فتعين أن يكون العقاب على ترك الإيمان وهو المطلوب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المسد آية 1.
2 سورة البقرة آية 6.

 

ج / 1 ص -177-       المسألة الثانية في تكليف الكفار
قال الثانية الكافر مكلف بالفروع خلافا للحنفية وفرق قوم بين الأمر والنهي.
أطبق المسلمون على أن الكفار بأصول الشرائع مخاطبون وباعتبارها مطالبون ولا اعتداد بخلاف مبتدع يشبب بأن العلم بالعقائد يقع اضطرارا فلا يكلف به وأجمعت الأمة كما نقله القاضي أبو بكر على تكليفهم بتصديق الرسل وبترك تكذيبهم وقتلهم وقتالهم ولم يقل أحد إن التكليف بذلك متوقف على معرفة الله تعالى.
وأما فروع الدين فقال الشافعي ومالك وأحمد إنهم مخاطبون بها وخالفت الحنفية وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفرايني من أصحابنا وذهب قوم إلى أن النواهي متعلقة بهم دون الأوامر وربما ادعى بعضهم أنه لا خلاف في تعلق النواهي وإنما الخلاف في الأوامر قال والدي رحمه الله وهي طريقة جيدة وفي المسألة مذهب رابع أن المرتد مكلف دون غيره لالتزام المرتد أحكام الإسلام ولا معنى لذلك لأن مأخذ المنع فيهما سواء وهو جهله بالله تعالى وزعم القرافي أنه مر به في بعض الكتب حكاية قوم وأنهم مكلفون بما عدا الجهاد دون الجهاد لامتناع قتالهم أنفسهم.
واعلم أن هذه المسألة إنما ذكرت على صفة المثال لأصل وهو أنه هل حصول الشرط الشرعي شرط في صحة التكليف أم لا وهي مسألة مشهورة وهنا مباحثتان:

 

ج / 1 ص -178-       احدهما: أن تكليف الكافر بالصلاة والصوم والحج ونحوها لا إشكال فيه لتمكنه من إزالة المانع والفعل بعده كالمحدث وحصول الشرط الشرعي غير مشروط في صحة التكليف على الرأي الصحيح أما الزكاة فقد يقال في تكليفهم بها إشكال لأن شرطها بعد ملك النصاب مضي الحول وإنما يجب بتمامه فإذا تم الحول وهو كافر كيف يكلف بزكاته وهو لا يمكنه فعلها في حال الكفر ولا بعده لأنه لا أسلم اشترط مضي حول من وقت إسلامه وهذا بخلاف الصلاة حيث يمكن فعلها في الوقت وجواب هذا الإشكال بأنه إذا تم الحول كلف بإخراجها بأن يسلم ويخرجها بعده فالتكليف بإخراجها بعد الإسلام الآن متحقق ولكنه إذا أسلم تسقط ويكون بمثابة نسخ الشيء قبل إمكان فعله وذلك جائز فما كلفناه بمستحيل بل بممكن فإن استمر على كفره كان التكليف مستمرا وإن أسلم سقط ويظهر بهذا معنى قول الأصوليين كما ستعرفه إن شاء الله.
الفائدة تضعيف العذاب في الآخرة ومضي الحول ليس من شرطه الإسلام والذي يستأنف حوله بعد الإسلام زكاة الحول الثاني.
أما الأول فقد استقر وجوبه وهو متمكن من الإخراج.
وفي الزكاة ثلاثة أشياء:
الخطاب بأدائها وهو حاصل لما بيناه.
والثاني: ثبوتها في الذمة وهو حاصل أيضا لا يفترق الحال بين المسلم والكفار فيه.
الثالث: تعلقها بالمال وهذا يظهر أنه في المسلم خاصة دون الكافر لما سنعرفه على الأثر إن شاء الله فنقول:
والمباحثة الثانية: أن إطلاق الخلاف بخطاب الكفار بالفروع ربما يتوهم منه أن من يقول بتكليفهم بالفروع يقول كل حكم ثبت في حق المسلمين ثبت في حقهم ومن لا يقول بذلك يقول لا يثبت في حقهم شيء من فروع الأحكام

 

ج / 1 ص -179-       وليس الأمر على هذا التوهم وكشف الغطاء في ذلك أن الخطاب على قسمين:
خطاب تكليف وخطاب وضع فخطاب التكليف بالأمر والنهي هو محل الخلاف وليس كل تكليف أيضا بل ما لم نعلم اختصاصه بالمؤمنين أو ببعض المؤمنين وإنما المراد العامة التي شملهم لفظا هل يكون الكفر مانعا من تعلقها بهم.
أولا: وأما خطاب الوضع فمنه ما يكون سببا لأمر أو نهي مثل كون الطلاق سببا لتحريم الزوجة قال والدي رحمه الله فهذا من محل الخلاف أيضا والفريقان مختلفان في أنه هل هو سبب في حقهم أيضا وربما يقول المانع من التكليف هو سبب ولكن قارنه مانع والعبارتان إن وقع فيهما تشاجر فهو لفظي.
ومن خطاب الوضع كون اختلافهم وجناياتهم سببا في الضمان وهذا ثابت في حقهم إجماعا بل ثبوته في حقهم أولى من ثبوته في حق الصبي وكون و قوع العقد على الأوضاع الشرعية سببا فيه في البيع والنكاح وغيرهما فهذا لا نزاع فيه وفي ترتب الأحكام الشرعية عليه في حقهم كما في حق المسلم وكذا كون الطلاق سببا للفرقة فإن الفرقة تثبت إذا قلنا بصحة أنكحتهم ومن هذا القبيل الإرث والملك به ولولا ذلك لما شاع بيعهم لمواريثهم وما يشترونه ولا معاملتهم وكذا صحة أنكحتهم إذا صدرت على الأوضاع الشرعية والخلاف في ذلك لا وجه له.
قال والدي بل ما أظن أحدا يتحقق عنه القول بأن النكاح الصادر منهم على الأوضاع الشرعية يكون فاسدا والصحة حكم شرعي وهي ثابتة في حقهم ومن يقول بأن الصحة حكم عقلي مراده مطابقة الأمر فهي حاصلة في حقهم لمطابقة عقدهم الوجه المشروع وأوضح دليل على ثبوت الصحة في حقهم من غير نزاع أن أبا حنيفة قال بها في الأنكحة وهو صدر القائلين بعدم تكليفهم بالفروع وأما صحة البيع ونحوه إذا جرى على الوضع الشرعي فلا تعلم من يقول بفساده في حقهم.

 

ج / 1 ص -180-       ومن خطاب الوضع ثبوت المال في ذمتهم في الديون وفي الكفارات عند حصول أسبابها ولا نزاع في ثبوت ذلك حقهم كما ثبتت في حق المسلمين و كذلك تعلق الحقوق التي يطالبون بأدائها فأموالهم مثل تعلق أروش الجنايات برقاب الجناة ونحوذلك وعكس هذا تعلق الزكاة بالمال تعلق رهن كما قاله بعض الفقهاء أو جناية كما قاله بعضهم أو شركة كما هو الأصح من مذهب الشافعي فظهر أنه لا يثبت في حقهم وإن قلنا إنهم مخاطبون بالزكاة لأمرين.
أحدهما: أن المقصود أنهم يأثمون بتركها وليس المقصود أنهم تؤخذ منهم في كفرهم والتعلق المذكور إنما يقصد به تأكيد الوجوب لأجل الأخذ ليصان الواجب عن الضياع فلا معنى لإثباته في حق الكافر لأنه إن دام على الكفر لم يوجد منه وإن أسلم سقطت وما كان كذلك لا معنى للتعلق الذي هو توثقة فيه والموجود في حق الكفار إنما هو الأمر بأدائها وهذا مشترك بينهم وبين المسلمين وثبوتها في الذمة قدر زائد على ذلك قد يقال به في الكافر أيضا وإثبات تعلقها بالدين أمر ثالث يختص بالمسلم لا وجه للقول به في الكافر.
الثاني: أن المعتمد في ثبوت الشركة قوله:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}1 ولا مرية في أن الكافر لا يدخل في ذلك وكتاب أنس الذي كتبه له أبو بكر رضي الله عنه وفيه هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين وفيه كل خمس شاة ولا يلزم من إثبات هذا التعلق في حق المسلمين إثباته في حق الكافرين لظهور الفرق على ما قدمناه ولا شك أن الأدلة الواردة في أحكام الشريعة.
منها ما يتناول لفظه الكفار مثل:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ونحوه فيتعلق بهم حكمه على القول بتكليفهم بالفروع
ومنها ما لا يشملهم لفظه كما ذكرناه من الآية والحديث كالآيات التي فيها:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ونحوه فلا تتناولهم لفظا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة: آية 103.

 

ج / 1 ص -181-       قال والدي رحمه الله ولا يثبت حكمها لهم وإن قلنا إنهم مخاطبون بالفروع إلا بدليل منفصل أو تبين عدم الفرق بينهم وبين غيرهم والاكتفاء بعموم الشريعة لهم ولغيرهم وأما حيث يظهر الفرق أو يمكن معنى غير شامل لهم فلا يقال بثبوت ذلك الحكم لهم لأنه يكون إثبات حكم بغير دليل والتعلق قدر زائد على الوجوب فلا نثبته في حقهم بغير دليل ولا معنى.
ومن خطاب الوضع كون الزنا سببا لوجوب الحد وذلك ثابت في حقهم ولذلك رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين1 ولا يحسن القول ببناء ذلك على تكليفهم بالفروع فإنه كيف يقال بإسقاط الإثم عنهم فيما يعتقدون تحريمه لكفرهم وهذا في الكتابي الذي يعتقد شرعا أما من لا يعتقد شيئا فيجري الخلاف في تعلق التحريم به في جميع المحرمات وقد قال الأستاذ أبو إسحق في أصوله لا خلاف أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه عليهم كما هو في المسلمين ونص الشافعي على أن حد الزنا لا يسقط بالإسلام.
فانظر هذه المواضع وتأملها ونزل كلام العلماء عليها ولا يظنن الظان مخالفة ما ذكرناه لعبارات الأصوليين لأنهم إنما قالوا التكليف بالفروع فلا يرد خطاب الوضع عليهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
"ما تجدون في التوراة؟" قالوا نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم قالوا صدق فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
فتح القدير للشوكاني 2/43, 44.

 

ج / 1 ص -182-       أدلة القائلين بتكليف الكفار
قال لنا أن الآيات الآمرة بالعبادة تتناولهم والكفر غير مانع لإمكان إزالته وأيضا الآيات الموعدة بترك الفروع كثيرة مثل فويل للمشركين وأيضا فإنهم كلفوا بالنواهي لوجوب حد الزنا عليهم فيكونون مكلفين بالأمر قياسا.
استدل على المختار بأوجه.
الأول: أن المقتضى لتناول الكفار قائم مثل:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}1 وغيرها والكفر لا يمنع من التناول للتمكن من إزالته فأشبه الحدث مانع من الصلاة إذ كل منهما مانع ممكن الزوال وما قال أحد من المسلمين إن المحدث لا يكلف بالصلاة حتى نبغ أبو هاشم2 وقال منكرا من القول وزورا قلت والاستدلال بنحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مستقيم وأما ما حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كل ما جاء في القرآن يا أيها الناس فالمراد المؤمنين فلم يصح عنه3.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة: آية 21.
2 هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجباني وإليه تنسب طائفة الهاشمية من المعتزلة ويقال لهم الذمية لقولهم باستحقاق الذم لا على فعل.
توفي ببغداد سنة 321 هـ.
ابن خلكان 1/367 البغداد 11/55.
3 يؤيد ذلك ما رواه الحافظ ابن كثير عند تفسير قوله تعالى في سورة البقرة:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} قال: وقال مجمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين.
تفسير ابن كثير ج 1 ص 86 ط الشعب.

 

ج / 1 ص -183-       الثاني: أن الآيات الموعدة بترك الفروع مثل قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ*الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}1 ومثل قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}2 دلت على أنهم كلفوا ببعض الفروع فيكونون مكلفين بالباقي إذ لا قائل بالفرق أو بالقياس.
الثالث: وهو دليل على من فصل وقال تتناولهم المناهي دون الأوامرولك أن تجعله دليلا على الفريقين وبه يشعر إيراد المصنف حيث استدل بتناول النهي ولو جعله دليلا على من وافق في النهي لم يحتج إلى الإستدلال وتقريره أن الدليل على أن النهي يتناولهم وجوب حد الزنا عليهم فيلحق به الأمر بجامع مطلق الطلب.
فإن قلت لانسلم بأنه يتناول الكافر النهي ولا يرد وجوب حد الزنا لأنه التزم أحكامنا بعقد الجزية أو غيرها ولذلك لا نحد الحربي.
قلت الالتزام بمجرده لا يوجب الحد.
فإن قلت قال أبو عبد الله بن خويد و منداذ المالكلي إنهم إنما يقطعون السرقة ويقتلون في الحرابة من باب الدفع فهو تعزيز لا حد لأن الحدود كفارات لأهلها وليست هذه كفارات ومقتضى ذلك ألآ يجب حد الزنا لما ذكره.
قلت مقالته هذه فاسدة فإن الحدود إنما تكون كفارة لأهلها إذا كانوا مسلمين كما صرح به الشافعي والكافر ليس من أهل الأجر ولا الثواب ولا الطهرة وإنما هي في حقه كالديون اللازمة ولذلك نلزمه بكفارة الطهار ونحوها ولا يزول عنه بها إثم.
قال قيل الانتهاء أبدا ممكن دون الامتثال وأجيب بأن مجرد الفعل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت: آية 6, 7.
2 سورة المدثر آية 42, 43.

 

ج / 1 ص -184-       والترك لا يكفي فاستويا وفيه نظر قيل لا يصح مع الكفر ولا قضاء بعده.
قلنا الفائدة تضعيف العذاب.
لما قاس الأمر على النهي بالجامع الذي بينه اعترض الخصم وزعم ثبوت الفرق من جهة أن النهي من باب التروك فلا يحتاج إلى النية بخلاف الأمر وإذن يمكن للكافر الانتهاء عن المنهيات مع كفره ولا يمكنه الإتيان بالمأمورات وأجيب عن هذا الاعتراض بأنك إن عنيت بقولك يمكنه الانتهاء عن المنهيات أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية فكذلك المأمورات وإن عنيت أنه متمكن من الانتهاء عن المنهي لغرض امتثال قول الشرع فهذا حالة الكفر متعذر فاستوى المأمور والمنهي في أن الإتيان بهما من حيث الصورة غير متوقف على الإيمان والإتيان بهما لغرض الامتثال متوقف على الإيمان فبطل الفرق قال صاحب الكتاب وفي هذا الجواب نظر ووجهه أن المكلف إذا ترك المنهي عنه سقط عنه العقاب ولم ينو بخلاف المأمور به فإنه لا يحصل الأجر إذا لم ينو.
واحتج من قال بعدم تكليف الكفار بالفروع بأنها لو وجبت عليهم لكانت إما في حال الكفر أو بعده والأول باطل لامتناع الإتيان بها في تلك الحالة وكذلك الثاني لإجماعنا على أن الكافر إذا أسلم لا يؤمن بالقضاء لقوله عليه السلام:
"الإسلام يجب ما قبله"1 وأجاب المصنف بأن فائدة قولنا إنهم مكلفون بالفروع تضعيف العذاب عليهم يوم القيامة ولقائل أن يقول التعذيب في الآخرة متوقف على سبق التكليف لا محالة ويعود الكلام إلى أن التكليف بها إما في حالة الكفر أو بعده بل الجواب أنا نقول هو مكلف بإيقاع ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن العاص 4/199, 204, 205.
ويؤيده حديث ابن مسعود أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:
"من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ لما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" صحيح البخاري كتاب استتابة المرتدين 9/17, 18 ومسلم كتاب الإيمان باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية 1/77.
كما يؤيد ذلك كله قول الله تبارك وتعالى
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} لأنفال:38

 

ج / 1 ص -185-       بأن يسلم ويوقع وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" فحجة لنا لأن قوله يجب يقتضي سبق التكليف به ولكن يسقط ترغيبا في الإسلام ومن الدلائل الواضحة على أن الكافر مكلف بالفروع مطلقا ولم أر من ذكره قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}1 إذ لا يمترى الفهم في أن زيادة هذا العذاب إنما هو بالافساد الذي هو قدر زائد على الكفر إما الصد أو غيره وأما قول الأصوليين الفائدة تضعيف العذاب في الآخرة فصحيح ولم يريدوا أنه لا يظهر فائدة الخلاف إلا في الآخرة وإن أفهمته عبارة طوائف منهم فينبغي أن يخصص كلامهم ويعلم أنه جواب عما ألزم به الخصوم في فروع خاصة لا يظهر فيها فائدة للخلاف فيها كالزكاة ونحوها وقد فرع الأصحاب على الخلاف الأصولي مسائل عديدة.
واعلم أن الأقوال الثلاثة في خطاب الكفار بالفروع أوجه للأصحاب حكاها النووي في أوائل الصلاة من شرح المهذب وسبقه الشيخ أبو إسحق في شرح اللمع فوضح وجه اختلافهم في المسائل التي بنوها حسب اختلافهم في الأصول.
منها ذهب الأستاذ أبو إسحق إلى أنه يجب على الحربي ضمان النفس والمال تخريجا من أن الكفار مخاطبون بالفروع وعزى هذا إلى المزني2 في المنثور.
ومنها إذا اغتسلت الذمية لتحل لمن يحل له وطؤها من المسلمين فهل يجب عليها إعادة الغسل إذا أسلمت فيه وجهان وفرق إمام الحرمين بين هذه وبين ما لو وجب على الذمي كفارة فأخرجها ثم أسلم لا يجب عليه الإعادة قطعا بأن الكفارة إنما تكون بالمال ولا تخلو الكفارة عن قصد شرعي من إطعام محتاج أو كسوة عار أو تخليص رقبة عن قيد رق وهذه المصلحة لا تختلف باختلاف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية 88.
2 هو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني صاحب الإمام الشافعي من أهل مصر كان عالما مجتهدا قوي الحجة له الجامع الكبير والصغير.
توفي سنة 264 هـ الأعلام 1/115, 116 وفيات الأعيان 1/223.

 

ج / 1 ص -186-       أحوال فاعليها فإذا وجدت لا حاجة إلى إعادتها بخلاف ما تعبد به في حق الشخص نفسه كمسألتنا وكالصوم.
ومنها لو اغتسل الكافر عن جناية أو توضأ أو تيمم ثم أسلم فالمذهب الصحيح وجوب الإعادة.
والثالث: الفرق بين الوضوء والغسل.
ومنها هل يمكث الكافر الجنب في المسجد فيه وجهان.
ومنها هل يؤخذ في الجزية وفي ثمن الشقص المشفوع مما تيقنا أنه من ثمن الخمر المذهب أنا لا نأخذه وفيه وجه.
ومنها التصرف في الخمر حرام عليهم خلافا لأبي حنيفة وصرح في التتمة ببناء المسألة على الأصل المذكور فإن قلت لم لا جرى فيها خلاف مذهبي؟
قلت شفاء الغليل في ذلك من وظائف كتابنا الأشباه والنظائر فعليك به.
ومنها إذا دخل الكافر الحرم وقتل صيدا لزمه الضمان وقال في المهذب يحتمل ألا يلزمه.
خاتمة قول المصنف وغيره الفائدة تضعيف العذاب قد يفهم أن الخلاف في تكليفهم بالفروع يختص بما يترتب عليه حرج من مأمور ومنهي ويقتضي أن الإباحة لا تتعلق بهم لاسيما على قولنا إنها ليست من التكليف والظاهر تعلق الإباحة بهم فيما هو مباح قال والدي وقد يقال إن أقدامهم على المباح وهم غير مستندين فيه إلى الشرع الذي يجب عليهم اتباعه حرام لقيام الإجماع على أن المكلف لا يحل له الإقدام على فعل حتى يعلم حكم الله فيه فإن صح هذا فهم آثمون على جملة أفعالهم وهذا البحث عام في الكتابيين والمشركين قال والدي وهو مما لم أره لغيري وفيه عندي توقف ولا ينافي القول به الحكم بصحة أنكحتهم ومعاملاتهم لأن أثرها في الدنيا والمقصود عقابهم في الآخرة.

 

ج / 1 ص -187-       المسألة الثالثة امتثال الأمر يوجب الإجزاء
قال الثالثة امتثال الأمر يوجب الإجزاء لأنه إن بقي متعلقا به فيكون أمرا بتحصيل الحاصل أو بغيره فلم يمتثل بالكلية قال أبو هاشم لا يوجبه كما لا يوجب النهي الفساد والجواب طلب الجامع ثم الفرق.
إتيان المكلف بالمأمور بالمأمور به على الوجه المشروع موجب للإجزاء عند الجمهور وخالفهم أبو هاشم وعبد الجبار1 وحجة الجمهور أنه لو لم يكن الامتثال موجبا للإجزاء لكان الأمر بعد الامتثال مقتضيا إما لذلك المأتي به ويلزم تحصيل ا.لحاصل أو لغيره ويلزم ألا يكون الإتيان به بتمام المأمور به بل ببعضه والفرض خلافه
وأعلم أن الإجزاء له تفسيران:
أحدهما: سقوط التعبد به وهو الذي اختاره المصنف في أوائل الكتاب.
والثاني: سقوط القضاء وقد ضعفه ثم والخلاف في هذه المسألة إنما هو مبنى على تفسيره بسقوط القضاء أما إذا فسر بما اختاره المصنف فامتثال الأمر يكون محصلا للإجزاء من غير خلاف وإنما خالف أبو هاشم وأتباعه إذا بنى على ذلك التفسير فقالوا لايمتنع الأمر بالقضاء أيضا مع فعله فحاصل ما يقوله أبو هاشم أنه لا يدل على الإجزاء وإنما الإجزاء مستفاد من عدم دليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو الحسين عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني شيخ المعتزلة في زمانه.طج
من مؤلفاته تنزيه القرآن عن المطاعن العمد في أصول الفقه.
توفي بالري سنة 415 هـ الأعلام 2/476.

 

ج / 1 ص -188-       يدل على وجوب الإعادة ولا خلاف بين أبي هاشم وغيره في براءة الذمة عند الإتيان بالمأمرو به1 وقد شبه القرافي هذا الخلاف في مفهوم الشرط كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت حر فمن قال لا مفهوم للشرط قال عدم عقته ما لم يأت بالمشروط مستفاد من الملك السابق ومن قال له مفهوم قال هو مستفاد من ذلك ومن مفهوم الشرط أيضا وكذلك الخلاف الذي هنا وإذا عرفت ذلك أن أبا هاشم لا يقول ببقاء شغل الذمة بعد الفعل لأن الأمر بمجرده لا يدل عليه وحينئذ فدليل المصنف عليه دليل في محل الوفاق لا معترض به عليه وهذا هو التحرير في نقل مذهب أبي هاشم وكذلك نطق به جماعة منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد في شرح العنوان واحتج أبو هاشم على مذهبه بأن النهي لا يدل على الفساد بدليل البيع وقت النداء فكذلك الأمر لا يدل على الإجزاء وإليه الإشارة بقوله لا يوجبه أي لا يوجب الأمر الإجزاء كما لا يوجب النهي الفساد.
والجواب أولا طلب الجامع بين المقيس والمقيس عليه وهو الأمر والنهي فإن أتى به بأن قال الجامع أن كلا منهم طلب لا إشعار له بذلك أو أنهما متضادان والشيء محمول على ضده كما هو محمول على مثله أجبنا ثانيا بالفرق وهو أن مقتضى الأمر الإتيان بالمأمور به فلو لم يكن موجبا للإجزاء لم يكن للأمر فائدة لأنه حينئذ يكون كأنه قال افعل هذا وإن فعلت فكأنك لم تفعل بخلاف النهي فإن مقتضاه الانكفاف عن المنهي وقد يكون الانكفاف بحكم آخر كالنهي عن البيع وقت النداء مع مجامعته للصحة ولهذا يصح أن يقال لا تفعل هذا وإن فعلته يكون فعلك صحيحا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اتفق الجميع على أن الإتيان بالمأمور به على وجه الصحيح يدل على الإجزاء بمعنى امتثال الأمر واتفقوا على عدم الإجزاء بمعنى عدم سقوط القضاء إذا اختل شرط في المأمور به وإنما الخلاف في الإجزاء بمعنى القضاء فيما إذا أتى المكلف بالمأمور به على صفة الكمال فهل الإتيان به على الوجه المأمور به يستلزم سقوط القضاء؟ فالجمهور من الأصوليين والفقهاء على أنه يستلزمه وعليه أكثر المعتزلة وقال بعض المعتزلة ومنهم أبو هاشم لا يوجبه.
وانظر الإحكام للآمدي 2/162.

 

ج / 1 ص -189-       فإن قلت الحاج إذا فسد فهو مأمور بالمضي في فاسد الحج وإذا مضى فيه كما أمر لزمه في مستقبل الزمان حج صحيح ولم يقع إذن مضيه مجزئا وإن كان مأمورا به.
قلت قال إمام الحرمين هذا قول من يتلقى الحقائق في الأصول من خيالات في مضطرب الظنون المتعلقة بالفروع فنقول إن كان ما خاض أولا حجا مفروضا فالخطاب بإيقاع حج صحيح قائم والإفساد مناف لحق الامتثال وليس المضي في الفاسد مقتضى الأمر بالحج الصحيح وإنما هو متلقى من أمر جديد يختص بالحج فيثبت الجريان في الفاسد بأمر جديد وبقي على المفسد حق القيام بالأمر الأول وإن كان الحج تطوعا فيجب القضاء على المفسد بأمر جديد وليس ذلك من مقتضى الأمر بالمضي قال وهذا لا غموض فيه وقد يتعارض على الفقيه الفرق بين الفساد والفوات والتحلل بعد الإحصار وحظ الأصولي من هذه المسائل تقرير أمر جديد في كل ما لا يتلقى من الأمر الأول وهذا ليس بالعسر بل هو مقطوع به والله أعلم وبه التوفيق.