الإبهاج في شرح المنهاج

ج / 1 ص -271-       الفصل السادس في الحقيقة والمجاز
قال الفصل السادس في الحقيقة والمجاز:
الحقيقة فعلية من الحق بمعنى الثابت أو المثبت نقل إلى العقد المطابق ثم إلى القول المطابق ثم إلى اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية.
قدم على الكلام في مسائل الفصل مقدمة في الكلام على لفظي الحقيقة والمجاز ومعناهما لغة واصطلاحا.
والمقصد الأعظم أن إطلاق لفظ الحقيقة والمجاز على المعنى المصطلح بين الأصوليين إنما هو على سبيل المجاز فأما الحقيقة فوزنها فعلية اشتقت من الحق إما بمعنى الفاعل من حق الشيء يحق بالضم والكسر إذا أوجب وثبت فمعناه الثابت وإما بمعنى المعقول من حققت الشيء أحقه إذا أثبته فمعناه المثبت ثم إن الحقيقة نقلت من معنى الثابت أو المثبت إلى الاعتقاد المطابق للواقع والعلاقة ثبوته وتقرره ثم نقلت من الاعتقاد المطابق إلى اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب.
قال الإمام لأن في استعماله فيما وضع له تحقيقا لذلك الوضع قال فظهر أن إطلاق لفظ الحقيقة على هذا المعنى المعروف ليس حقيقة لغوية بل مجازا واقعا في الرتبة الثالثة نعم هو حقيقة عرفية ولقائل أن يقول الحق في اللغة موضوع للقدر المشترك بين الجميع وهو الثبوت قال الله تعالى:
{وَلَكِنْ حَقَّتْ

 

ج / 1 ص -272-       كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}1 أي ثبتت وهو من أسمائه تعالى بهذا الاعتبار لأن الثابت أزلا وأبدا لذاته بخلاف غيره من الموجودات ويقال الحق لما يقابل الباطل لأنه جدير بالثبوت كما أن الباطل جدير بالزهوق وإذا كان موضوعا للقدر المشترك فهو موجود في الجميع سلمنا أنه ليس موضوعا للقدر المشترك لكنا لا نسلم أن كل مجاز مأخوذ مما قبله حتى يكون مجازا واقعا في الرتبة الثالثة بل كان مأخوذا من الحقيقة بعلاقة معتبرة وقد علمت تعريف الحقيقة فقوله اللفظ جنس.
وقد قلنا غير مرة إنه جنس بعيد وأن الأحسن أن يأتي بالقول.
وقوله المستعمل يخرج به اللفظ الموضوع قبل الاستعمال فإنه ليس بحقيقة ولا مجاز كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
ويخرج أيضا المهمل وقوله فيما وضع له يخرج به المجاز فإنه مستعمل في غير ما وضع له ولك أن تقول المجاز موضوع فلا يخرج بهذا الفصل وإنما يخرج لو قال وضعا أولا وهو لا يمكنه أن يزيد هذا القيد مخافة أن يورد عليه الحقيقة الشرعية والعرفية لأنهما من غير وضع أول.
وقوله في اصطلاح التخاطب يدخل الحقيقتين الشرعية والعرفية ولقائل أن يقول إن الفصول لا تكون للإدخال وأن الحد غير مانع لصدقه على العلم مع أنه ليس بحقيقة ولا مجاز لدخول المجاز فيه كما عرفت.
قوله والتاء إلى آخره هذا جواب عن سؤال مقدر وتقديره أن يقال إذا كانت الحقيقة بمعنى المثبت فينبغي أن تكون مجردة عن تاء التأنيث لأن فعيلا إذا كان بمعنى مفعول فقياسه أن يسوى فيه بين المذكر والمؤنث تقول رجل جريح وامرأة جريح ورجل قتيل وامرأة قتيل وجوابه أن الحقيقة وإن كانت صفة في الأصل إلا أن الاسمية غلبت عليها وتركت وصفيتها ألا ترى أنك تقول كلمة حقيقة ولفظة حقيقة فإنما جئ بالتاء لذلك وفعيل إنما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 71.

 

ج / 1 ص -273-       يسوي فيه بين المذكر والمؤنث إذا كان باقيا على وصفيته مستعملا مع موصوفه استغناء بتأنيث الموصوف على تأنيثه وأما إذا غلبت عليها الاسمية وقطعت عن الموصوف فقياسه أن يدخل التاء فيه إذا قصد به المؤنث كما يقال أكيلة ونطيحة ويجوز أن يقال دخول التاء فيه علامة لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية وهو أقرب إلى لفظ الكتاب إلا أنه مدخول فإنه لا دلالة للتاء على النقل.
قال والمجاز مفعل من الجواز بمعنى العبور وهو المصدر أو المكان نقل إلى الفاعل ثم إلى اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح.
إطلاق لفظ المجاز على المعنى المصطلح عليه بين إلا أنه مجاز لغوي حقيقة عرفية وذلك لأن المجاز مشتق من الجواز والجواز معناه التعدي والعبور تقول جزت الدار أي عبرتها ووزن المجاز مفعل لأن أصله مجوز فقلبت واوه ألفا بعد نقل حركتها إلى الجيم والمفعل يستعمل حقيقة في الزمان والمكان والمصدر تقول قعدت مقعد زيد وتريد قعوده أو زمان قعوده أو مكان قعوده فيكون لفظة المجاز في الأصل حقيقة إما في المصدر الذي هو الجواز وإما في مكان التجوز أو زمانه ونقل لفظ المجاز من ذلك إلى الفاعل وهو الجائز أعني المنتقل لما بينهما من العلاقة والعلاقة إن نقل من المصدر هي الجزئية لأن المشتق منه جزء من المشتق كقولك هذا رجل عدل أي عادل وإن نقل من المجاز المستعمل في المكان فهي إطلاق اسم المحل وإرادة الحال مثل سال الوادي.
وأما المجاز المستعمل في الزمان فقد ترك المصنف ذكره كأنه للجزم بأن الجازم غير مأخوذ منه إذ لا علاقة بينهما ثم الجائز حقيقة إنما يطلق على الأجسام إذ الجواز الانتقال من حين إلى حين وأما اللفظ فعرض يمتنع عليه الانتقال فنقل لفظ المجاز من معنى الجائز إلى المعنى المصطلح.
قال صاحب الكتاب وهو اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح وإطلاقه على هذا المعنى على سبيل التشبيه فإن تعدية اللفظ من معنى

 

ج / 1 ص -274-       إلى معنى كالجائز يتعدى من مكان إلى مكان فيكون إطلاق لفظ المجاز على المعنى للمصطلح مجازا في المرتبة الثانية حقيقة عرفية.
وقوله اللفظ المستعمل قد عرفت شرحهما فيما سبق.
وقوله في معنى غير موضوع له يخرج الحقيقة ويقتضي أن المجاز غير موضوع وكان الأحسن أن يزيد بوضع أول.
وقوله يناسب المصطلح أشار به إلى فوائد.
إحداها: أن يشمل الحد كل مجاز من شرعي وعرفي عام وخاص ولغوي فإن الاصطلاح أعم من أن يكون بالشرع أو العرف أو اللغة.
والثانية: أن ينبه على اشتراط العلاقة في المجاز.
والثالثة: أن يحترز عن العلم المنقول مثل بكر وكلب فإنه ليس بمجاز لأنه لم ينقل لعلاقة والله أعلم.
قال وفيه مسائل:

الأولى: الحقيقة اللغوية موجودة وكذا العرفية العامة كالدابة ونحوها والخاصة كالقلب والنقض والفرق والجمع.
الحقيقة متعددة بلا خلاف وإلى ما تتعدد فيه اختلاف فقال قائلون إلى ثلاثة اللغوية والعرفية بنوعيها والشرعية.
واقل آخرون الأوليين فقط وقد علمت من هذا الاتفاق على إمكان اللغوية والعرفية وأما الوجود فلا نزاع في وجود اللغوية وكيف ولا شك في وجود ألفاظ مستعملة في معان وذلك إن كان بالوضع فقد حصل الغرض وإلا فيلزم أن يكون مجازا فيها وهو باطل لأن شرط المجاز حصول المناسبة الخاصة بين الموضوع الأصلي والمعنى المجازي وذلك لا يمكن إلا بعد ثبوت الموضوع الأصلي.
وأما العرفية فاعلم أولا أن اللفظة العرفية هي التي نقلت عن موضوعها

 

ج / 1 ص -275-       الأصلي إلى غيره بعرف الاستعمال وهي منقسمة إلى خاصة وعامة بحسب الناقلين فإن كان الناقل طائفة مخصوصة سميت خاصة وإن كانت عامة الناس سميت عامة وقد ذهب الأكثرون إلى وقوع العرفية العامة وهي على قسمين.
أحدهما: أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام لم يخصص بالعرف العام ببعض أنواعه كلفظ الدابة فإنه موضوع لكل ما يدب على وجه الأرض وخصصها العرف العام بذات الحوافر.
وثانيهما: أن يكون الاسم في أصل اللغة قد وضع لمعنى ثم كثر استعماله فيما له نوع مناسبة وملابسة بحيث لا يفهم المعنى الأول كالغائط فإنه موضوع في الأصل للمكان المطمئن من الأرض التي تقضى فيها الحاجة غالبا وأطلقه العرف على الخارج المستقذر من الإنسان كناية عنه باسم محله لنفرة الطباع عن التصريح به وأما الخاصة فلا نزاع في وقوعها إذ هو معلوم بالضرورة بعد استقراء كلام الطوائف من ذوي العلوم والصناعات التي لا يعرفها أهل اللغة كالقلب والنقض والجمع والفرق في اصطلاح النظار وستعرف معاني هذه الأمور في كتاب القياس إن شاء الله تعالى.
قال واختلف في الشرعية فمنع القاضي وأثبت المعتزلة مطلقا والحق أنها مجازات لغوية اشتهرت لا موضوعات مبتدأة وإلا لم تكن عربية فلا يكون القرآن عربيا وهو باطل لقوله تعالى: {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا} ونحوه.
الحقيقة الشرعية هي اللفظة التي استفيد وضعها للمعنى من جهة الشرع وأقسامها الممكنة أربعة:
الأول: أن يكون اللفظ والمعنى معلومين لأهل اللغة لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى.
والثاني: أن يكونا غير معلومين لهم.
الثالث: أن يكون اللفظ معلوما لهم والمعنى غير معلوم.

 

ج / 1 ص -276-       الرابع: عكسه والمنقولة الشرعية من هذه الأقسام إنما هي الأول والثالث فالمنقولة الشرعية أخص من الحقيقة الشرعية ثم من المنقولة ما نقل إلى الدين وأصوله كالإيمان والإسلام والكفر والفسق ويخص بالدينية فهي إذن أخص من المنقولة الشرعية.
فإن قلت فهذه الأقسام الممكنة هل هي واقعة كلها تفريعا على القول بالحقيقة الشرعية؟
قلت قال صفي الدين الهندي الأشبه وقوعها أما الأول فهو كلفظ الرحمن لله فإن هذا اللفظ كان معلوما لهم وكذا صانع العالم كان معلوما لهم بدليل قوله تعالى:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}1 لكن لم يضعوه لله تعالى ولذلك قالوا ما نعرف الرحمن إلى رحمان اليمامة حين نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}2.
وأما الثاني: فهو كأوائل السور عند من يجعلها اسما لهذا أو للقرآن فإنها ما كانت معلومة على هذا الترتيب ولا القرآن ولا السور.
وأما الثالث فكلفظ الصلاة والصوم وأمثالها فإن هذه الألفاظ كانت معلومة لهم ومستعملة عندهم في معانيها المعلومة ومعانيها الشرعية ما كانت معلومة لهم.
وأما الرابع: فهو كلفظ الأب فإنه قيل إن هذه الكلمة لم تعرفها العرب ولذلك قال عمر رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى:
{وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}3 هذه الفاكهة فما الأب ومعناه كان معلوما لهم بدليل أن له اسما آخر عندهم نحو العشب هذا كلام صفي الدين الهندي إذا عرفت الحقيقة الشرعية فنقول أما إمكانها فقد نقل جماعة الاتفاق عليه وأبو الحسين البصري لما حكى في المعتمد عن قوم من المرجئة أنهم نفوا الحقائق الشرعية قال ونقض عللهم يدل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية: 87.
2 سورة الاسراء آية: 110.
3 سورة عبس آية: 31.

 

ج / 1 ص -277-       على أنهم أحالوا ذلك وأما وقوعها فذهبت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء إليه مطلقا وقالوا نقل الشارع هذه الألفاظ من الصلاة والصيام وغيرهما من مسمياتها اللغوية وابتدأ وضعها لهذه المعاني فليست حقائق لغوية ولا مجازات عنها وأنكره القاضي أبو بكر مطلقا وزعم أن لفظ الصلاة والصوم وغيرهما في الشرع مستعمل في المعنى اللغوي وهو الدعاء والإمساك لكن الشارع شرط في الاعتداد بهما أمورا أخر نحو الركوع والسجود والكف عن الجماع والنية فهو منصرف بوضع الشرط لا بتغير الوضع وشدد النكير على مخالفيه وقال قد تبعهم شرذمة من الفقهاء الحائدين عن التحقيق وما راموا مرامهم بيد أنهم زلوا عن سواء الطريق وذهب إمام الحرمين والغزالي والإمام وأتباعه منهم صاحب الكتاب إلى التفصيل فاثبتوا من المنقولات الشرعية ما كان مجازا لغويا كما في الحقائق العرفية دون ما ليس كذلك بل كان منقولا عنها بالكلية وهذا معنى قول المصنف مجازات لغوية اشتهرت لا موضوعات مبتدأة أي لم تستعمل في المعنى اللغوي ولم يقطع النظر عنه حالة الاستعمال بل استعملت في هذه المعاني لما بينها وبين المعاني اللغوية من العلاقة فالصلاة مثلا لما كانت في اللغة عبارة عن الدعاء بخير قال الشاعر:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا                                 يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاعتمضي                          نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

كانت بالمعنى اللغوي جزءا منها بالمعنى الشرعي لاشتمال ذات الأركان على الدعاء فكان إطلاقها على المعنى الشرعي من باب التسمية للشيء باسم بعضه وهو مجاز لغوي اشتهر وصار بالاشتهار حقيقة شرعية وكذلك الصوم فإنه في اللغة الإمساك قال الشاعر:

خيل صيام وخيل غير صائمة                     تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

وفي الشرع اسم للإمساك عن الطعام والشراب مع انضمام أمور أخر إليه وكذا الحج فإنه في اللغة القصد قال الشاعر:

واشهد من عرف حلولا كثيرة                       يحجون سب الزبرقان المزعفرا

 

ج / 1 ص -278-       فإن ابن السكيت1 يقول يكثرون الاختلاف إليه وهو في الشرع اسم للمناسك المعروفة من جملتها القصد وكذلك سائر الأسماء الشرعية وذهب الآمدي إلى التوقف في المسألة.
فائدة قال الشيخ أبو إسحاق هذه أول مسألة نشأت في الإعتزال وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين أي جعلوا الفسق منزلة متوسطة بين الكفران والإيمان لما علموا أن الإيمان في اللغة التصديق والفاسق موحد مصدق.
فقالوا هذه حقيقة الإيمان في اللغة ونقل في الشرع إلى من لم يرتكب شيئا من المعاصي فمن ارتكب شيئا منها خرج عن الإيمان ولم يبلغ الكفر ثم اختار الشيخ أبو إسحاق أن الإيمان يبقى على موضوعه في اللغة وأن الألفاظ التي ذكرناه من الصلاة والصيام والحج وغير ذلك منقولة قال وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ وإنما يكن على حسب ما يقوم عليه الدليل ورأيت في كتاب تعظيم قدر الصلاة للإمام الجليل محمد بن نصر عن أبي عبيد أنه استدل على أن الشارع نقل الإيمان عن معناه اللغوي إلى الشرعي بأنه نقل الصلاة والحج ونحوهما إلى معان أخر.
قال فما بال الإيمان وهذا يدل على تخصيص محل الخلاف بالإيمان وهو الذي وقع فيه النزاع في مبتدأ ظهور الاعتزال قوله: وإلا لم تكن عربية استدل على ما اختاره بأنه لو كانت تلك الألفاظ موضوعات مبتدأة لم تكن عربية والملازمة ظاهرة وإذا كانت غير عربية يلزم أن يكون القرآن غير عربي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو يعقوب بن إسحاق أبو يوسف ابن السكيت إمام في اللغة والأدب أصله من خوزستان بين البصرة وفارس.
من كتبه إصلاح المنطق الألفاظ والأضداد القلب والإبدال شرح المعلقات وغير ذلك كثير.
وفيات الأعيان 2/309 الأعلام 9/255.

 

ج / 1 ص -279-       لوقوعها فيه وذلك باطل لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}1 ونحوه كقوله تعالى: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}2 فدل على أنها عربية أعني الصلاة والصيام والحج ونظائرها وهذا فيه نظر لأنه لا يبطل إلا مذهب المعتزلة فقط وقد رد إمام الحرمين على القاضي بأن حملة الشريعة مجمعون على أن الركوع والسجود من الصلاة ومساق ما ذكره أن المسمى بالصلاة الدعاء فحسب وليس الأمر كذلك.
قال قيل المراد بعضه فإن الحالف على ألا يقرأ القرآن يحنث بقراءة البعض قلنا معارض بما يقال أنه بعضه قيل تلك كلمات قلائل فلا تخرجه عن كونه عربيا كقصيدة فارسية فيها ألفاظ عربية قلنا يخرجه وإلا لما صح الاستثناء قيل يكفي في عربيتها استعمالها في لغتهم قلنا تخصيص ألفاظ باللغات بحسب الدلالة قيل منقوض بالمشكاة والقسطاس والإستبراق والسجيل قلنا وضع العرب فيها وافق لغة أخرى.
اعترضت المعتزلة على الدليل الذي أورده في الكتاب بأربعة وجه:
الأول: أن الآية لا تدل على أن القرآن كله عربي بل على أن بعضه عربي لأن القرآن يطلق على مجموعه وعلى كل جزء من أجزائه ويصدق صدق المواطئ على جزئياته ويدل على هذا أن الحالف على ألا يقرأ القرآن يحنث بقراءة بعضه وأجاب بأن ما استدللتم به من صورة الحلف وإن دل على أن المراد بالقرآن البعض فهو معارض بقولنا إلا آية والسورة بعض القرآن فإنه لو أطلق القرآن على ذلك حقيقة لم يكن لإدخال البعض معنى وأيضا فبعض الشيء غير الشيء وإذا تعارضا تساقطا وسلم ما ذكرناه من الدليل.
وأعلم أن ما ذكره المصنف من الحنث في هذه الصورة تبع فيه الإمام وليس كما ذكر فالذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأم ونقله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف عليه السلام آية: 2.
2 سورة فصلت آية: 44.

 

ج / 1 ص -280-       الرافعي عنه خلاف ذلك وقد رأيت نصه في الأم في الجزء السابع من باب جامع الترتيب.
قال رضي الله عنه ما نصه ولو قال رجل لعبد له متى مت وأنت بمكة فأنت حر ومتى مت وقد قرأت القرآن فأنت حر فمات السيد والعبد بمكة وقد قرأ القرآن كله كان حرا وإن مات وليس العبد بمكة أو مات ولم يقرأ القرآن كله لم يعتق هذا لفظه.
وقال الشيخ أبو حامد في التعليقة إذا قال لعبده إذا قرأت القرآن فأنت حر لم يعتق إلا بقراءة الجميع وكذا قال المحاملي في التجريد هذا هو المذهب في المسألة ولا يعرف ما يخالفه.
الوجه الثاني: إنا لا نسلم أنه يلزم من كون تلك الألفاظ غير عربية ألا يكون القرآن عربيا فإن تلك كلمات قلائل فلا يخرج القرآن عن كونه عربيا كما أن الألفاظ العربية القليلة إذا وقعت في قصيد فارسية لا تخرجها عن كونها فارسية وأجاب بأنها تخرجه عن كونه عربيا والكلمات القلائل تخرج القصيدة عن أن تكون فارسية والدليل على ذلك صحة الاستثناء ذلك أن تقول القصيدة فارسية إلا موضع كذا منها.
الوجه الثالث: أنه يكفي في كون هذه الألفاظ عربية استعمال العرب لها من حيث الجملة وحينئذ فاستعمال الشارع لها في غير المعنى اللغوي لا يخرجها عن ذلك وأجاب بأن المقدار غير كاف في كونها عربية لأن تخصيص الألفاظ باللغات بحسب دلالتها على معانيها فإن كانت دلالتها من جهة لغة العرب كانت عربية وإلا فلا وشك أن تلك الألفاظ لا تدل على معانيها من تلك الحيثية.
واعلم أن المصنف لم يرتب هذه الاعتراضات الثلاث على الوجه اللائق فإن مقتضى النظم الطبيعي تقدم هذا الثالث ثم الإتيان بالثاني ثم بالأول فيقال لا نسلم أنها غير عربية بل يكفي استعمالها عندهم سلمنا لكن لا

 

ج / 1 ص -281-       تخرج القرآن عن كونه عربيا لقلتها سلمنا ولكن ذلك غير ممتنع لأن المراد من قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} هو البعض.
الوجه الرابع: أنه لو صح ما ذكرتم لزم ألا يشتمل القرآن على لفظ غير عربي وليس كذلك فإن المشكاة فيه وهي عجمية وكذا القسطاس والإستبرق والسجيل والمشكاة الكوة التي لا تنفذ والقسطاس بالرومية الميزان والإستبرق بالفارسية الديباج الغليظ والسجيل الحجر من الطين وأجاب بأنا لا نسلم أن هذه الألفاظ غير عربية بل غايته أن وضع العرب فيها وافق لغة أخرى كالصابون والتنور وأن اللغات فيها متفقة.
تنبيه: عرفت من هذا أن المصنف يختار أن المعرب لم يقع في القرآن وقد تبع الإمام في ذلك وهو الذي نصره القاضي في كتاب التقريب ونص عليه الشافعي في الرسالة في باب البيان الخامس فقال ما نصه وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب إلى السلامة فقال منهم قائل إن في القرآن عربيا وأعجميا والقرآن يدل على أنه ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ووجدنا قائل هذا القول ومن قبل ذلك منه تقليدا له وتركا للمسألة له عن حجته ومسألة غيره ممن خالفه وبالتقليد أغفل من أغفل منهم والله يغفر لنا ولهم هذا نصه ونقل عن ابن عباس وعكرمة وقوعه وهو الذي اختاره ابن الحاجب واستدل عليه بإجماع النحاة على أن إبراهيم لا ينصرف للعلمية والعجمية وذلك لا يجديه شيئا إذا كان محل الخلاف مقصورا على أسماء الأجناس غير شامل للأعلام.
قال صفي الدين الهندي وهو الذي يجب أن يكون.
قال وعورض بأن الشارع اخترع معاني فلا بد لها من ألفاظ قلنا كفى التجوز.
قد عرفت ما طعنت به المعتزلة في مقدمات الدليل الذي احتج به المصنف وما أجيبوا به وقد انتقلوا الآن إلى المعارضة بوجهين:
أحدهما: وهو إجمالي أن الشارع اخترع معاني لم تكن متعلقة قبل الشرع

 

ج / 1 ص -282-       بل حدث تعلقها بعده فوجب أن يوضع لها اسم لأنها من جملة المعاني التي تمس الحاجة إلى التعبير عنها وهي الأسامي التي تطلق عليها كالصلاة والحج لا مدخل للعرب في إطلاقها عليها إذ وضع الألفاظ مسبوق بتعلق المعاني وهم لم يتعلقوها قبل الشرع ولا خطرت لهم ببال.
وأجاب بأنه إن عنيتم بقولكم ما يعقلوها ولا خطرت لهم لا من حيث المجموع ولا من حيث الجزء فممنوع فإنهم تعقلوها من حيث الجزء كما في الصلاة وإن عنيتم أنه لم يخطر لهم من حيث المجموع فمسلم ولكن لا نسلم أنه لا مدخل للعرب حينئذ فيها فإنه يكون من باب إطلاق الجزء على الكل وهو أحد أنواع المجاز والتجوز كاف هنا لحصول المقصود الذي هو الإفهام به.
قال وبأن الإيمان لغة هو التصديق وفي الشرع فعل الواجب لأنه الإسلام وإلا لم يقل من مبتغيه لقوله تعالى:
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ولم يجز استثناء المسلم من المؤمن وقد قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}1 والإسلام هو الدين لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}2 والدين فعل الواجبات لقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}3.
قلنا في الشرع تصديق خاص وهو غير الإسلام والدين فإنهما الانقياد والعمل الظاهر ولهذا قال تعالى:
{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}4 وإنما جاز الاستثناء لصدق المؤمن على المسلم بسبب أن التصديق شرط صحة الإسلام.
الوجه الثاني: من وجهي المعارضة وهو تفصيلي وتقريره أن الإيمان في اللغة هو التصديق وفي الشرع فعل الواجبات فتكون الحقيقة الشرعية بمعنى أنها حقائق مبتدأة واقعة وهو المدعى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الذريات آية: 35 36.
2 سورة آل عمران آية: 19.
3 سورة البينة آية: 5.
4 سورة الحجرات آية: 14.

 

ج / 1 ص -283-       أما المقدمة الأولى: فبالنقل عن أئمة اللغة ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق لنا
وأما الثانية فلأن الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الدين والدين هو فعل الواجبات فالإيمان فعل الواجبات إنما قلنا إن الإيمان هو الإسلام لوجهين
أحدهما: أنه لو لم يكن كذلك لم يكن مقبولا من مبتغيه لقوله تعالى:
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.
والثاني: أنه تعالى استثنى بعض المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى:
{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ولولا الاتحاد لما صح الاستثناء لأن الاستثناء إخراج بعض الأول.
فإن قلت أين الإستثناء وليس هنا إلا لفظة غير وهي ظاهر في الوصفية قلت هي هنا بمعنى إلا لأنه لو كانت على ظاهرها لكان التقدير فما وجدنا فيها المغاير لبيت المؤمنين أنه فيكون المنفي إذ ذاك بيوت الكفار وهو باطل لأنه وجد فيها بيوتهم فتقرر أنه استثناء مفرغ فيحتاج إلى تقدير شيء عام منفي يكون هو المسنثنى منه ولا بد من تقيد ذلك العام بكونه من المؤمنين وإلا يلزم انتفاء ثبوت الكفار وقد عرفت بطلانه فيكون تقدير الآية والله أعلم فما وجدنا فيها أحدا من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين أي منهم ويكون قد أوقع الظاهر موقع المضمر وإنما قلنا الدين إن الإسلام هو الدين لقوله تعالى:
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} وإنما قلنا الدين فعل الواجبات لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي دين الملة المستقيمة وقوله ذلك عائد إلى جميع ما تقدم ذكره فوجب أن يكون الكل مسمى بالدين.
قوله قلنا في الشرع إلى آخره هذا هو الجواب عن هذا الوجه الثاني وتقريره أن يقال لا نسلم أن الإيمان في الشرع هو الإسلام وإنما الإيمان في الشرع عبارة عن تصديق خاص وهو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما علم مجيئه بالضرورة وهو بهذا الاعتبار غير الإسلام وغير الدين فإنهما في اللغة الانقياد

 

ج / 1 ص -284-       وفي الشرع العمل الظاهر وهذا هو التحقيق في انفصال الإسلام عن الإيمان وإن كان كل منهما شرطه الشارع في الاعتبار بالآخر فإن الإسلام عبارة عن التلفظ ولا يعتبر به ما لم يساعده القلب بالاعتقاد والإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ولا يكفي ما لم يتلفظ بالشهادتين إذا أمكنه ذلك ويدل على انفصال الإسلام عن الإيمان صريح قوله تعالى في حق المنافقين: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}1 أي والله أعلم إن الذي وقع منكم ليس بإيمان حتى تقولوا نحن مؤمنون وإنما هو إسلام لأنه فعل ظاهر من غير تصديق بالقلب فلا تقولوا آمنا بل قولوا أسلمنا لأنه هو الذي وقع منكم
فإن قلت وقع من المنافقين إسلام
قلت وقع منهم الإسلام باللسان الذي هو غير معتبر شرعا ويجوز أن يقال لم يقع منهم إسلام ويجعل تصديق القلب ركنا في الإسلام شرعا لا شرطا ولكن يعضد الأول قوله تعالى:
{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قوله: وإنما جاز الاستثناء جواب عن قولهم لو غاير الإيمان الإسلام لم يجز الاستثناء المسلم من المؤمنين وتوجيهه أن يقال استثناؤه منه لا يدل على أنه هو وإنما بدل على أنه يصدق عليه كقول القائل ملكت الحيوان إلا الفرس فالحيوان غير الفرس لأنه أعم والأعم من حيث هو مغاير للأخص ومع ذلك فقد استثنى منه لصدق الحيوان إذا عرفت هذا فالصدق حاصل في المؤمن مع المسلم لأن شرط صحة الإسلام الذي هو التصديق وهذا مسوغ لاستثناء المسلم من المؤمن لأنه كلما صدق المسلم صدق المؤمن لكونه شرطه ولا ينعكس بدليل من كان مؤمنا تاركا للأفعال الظاهرة فصحة الاستثناء ثابتة لصدق المؤمن على المسلم ولا يلزم كون المسلم مؤمنا أن يكون الإسلام هو الإيمان فإن الكاتب ضاحك والكتابة غير الضحك والنزاع إنما هو الإسلام مع الإيمان لا في المسلم مع المؤمن ولقائل أن يقول الإيمان على هذا شرط صحة الإسلام والاعتداد به لا شرط وجود الإسلام فلا يلزم أن ينتفي الإسلام بانتفاء الإيمان إلا أن يجعلوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجرات آية: 14.

 

ج / 1 ص -285-       الإيمان شرطا في صدق الإسلام لا في صحته أو ركنا في الإسلام وما دللتم على شيء منهما وقد نجز القول في المسألة ولم يذكر المصنف متمسك القاضي أبي بكر ومن متمسكاته أن القرآن مشتمل على هذه الألفاظ فلو كانت حقائق شرعية لكانت غير عربية لفقدان وضع العرب إياها لهذه المعاني فيلزم خروج القرآن عن كونه عربيا بكليته وقد قررتم بطلانه وجواب هذا يعلم مما سبق ومنها لو كانت حقائق شرعية لفهمناها الشارع قبل تكليفنا بها وإلا يلزم أن يكون كلفنا بما لا نفهمه ولا آحاد تدل على وقوع ذلك فضلا عن التواتر.
وأجيب عن هذا بأنه لا يلزم من تفهيم الشارع أن ينقل بتواتر ولا آحاد لجواز حصول التفهم بالقرائن والله أعلم.
وقد علمت بما سبق أن الإيمان في الاصطلاح عبارة عن تصديق الرسول بكل ما جاء به وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن رضوان الله عليه وقال أكثر السلف وعليه بعض المعتزلة والخوارج إنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان وفيه مذاهب أخر كثيرة ليس هذا محلها ورام السهيلي التفرقة بين الإيمان والتصديق من وجهين قررهما:
أحدهما: أن التصديق لا بد وأن يكون في مقابله خبر صادق وقد يكون عن نظر وفكر فإذا نظرت في الصنعة وعرفت بها الصانع آمنت به لم تكن به مصدقا بخبر إذ لا خبر هناك فإذا جاء الخبر كنت به مصدقا ونحن نقول في جواب هذا إن الصنعة لما عرفتنا الصانع كانت مخبرة بلسان الحال فلم يكن التصديق إلا في مقابلة خبر واقع بلسان الحال فإن قال التصديق لا يكون إلا في مقابلة خبر بلسان المقال قلنا من أين لك هذا التقييد.
الثاني: أن التصديق قد يكون بالقلب وأنت ساكت تقول سمعت الحديث فصدقته والإيمان لا بد من اجتماع اللفظ مع العقد لغة وشرعا لتعديه بالباء ونحو ذلك ونحن نجيب عن هذا بأن اللفظ شرط في صحة الإيمان لا ركن منه كما علمت فيما تقدم ويدل عليه مع قوله تعالى:
{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قولوا أسلمنا إجماع الأمة على أن من عرف الله بقلبه وعجز عن التلفظ بالشهادتين كان مؤمنا فائزا وبالله التوفيق.

 

ج / 1 ص -286-       قال فروع الأول النقل خلاف الأصل إذ الأصل بقاء الأول ولأنه يتوقف على الأول ونسخه ووضع ثان فيكون مرجوحا.
هذه مسائل مفرعة على جواز النقل.
الأول: أنه على خلاف الأصل بمعنى أنه إذا دار اللفظ بين احتمال النقل واحتمال عدمه كان احتمال عدمه أرجح لوجهين:
أحدهما: أن الأصل في الوضع الأول المنقول عنه البقاء إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان.
والثاني: أن النقل يتوقف على ثلاثة أشياء الوضع الأصلي ثم نسخه ثم وضع ثان وعدم النقل لا يتوقف إلا على واحد وما كان متوقفا على أمور كان مرجوحا بالنسبة إلى المتوقف على أمر واحد.
قال الثاني: الأسماء الشرعية الموجودة المتواطئة كالحج والمشترك كالصلاة الصادقة على ذات الأركان وصلاة المصلوب والجنازة والمعتزلة سموا أسماء الذوات دينية كالمؤمن والفاسق.
هذا الفرع في أن الشارع هل نقل الأسماء والأفعال والحروف أم نقل البعض دون البعض.
فنقول أما الأسماء فقد وجد النقل فيها وقد قدمنا انقسامها إلى متباينة ومترادفة ومتواطئة ومشتركة ومشككة فلينظر في واحد واحد أما المتباينة ة فقد وجدت كالصوم والصلاة وأهمل في الكتاب ذكر هذا القسم لوضوحه.
وأما المترادفة فقد أهمل ذكرها أيضا فقال الإمام الأظهر أنها لم توجد لأنها ثبتت على خلاف الأصل فتتقدر بقدر الحاجة وتابعه صاحب التحصيل.
وقال صفي الدين الهندي الأظهر أنها وجدت وهذا هو الصحيح لوجد أن الواجب والفرض وهما مترادفان عند الشافعي رضي الله عنه والإمام يوافق على ذلك والإنكاح والتزويج عند الشافعي أيضا وأما المتواطئة فموجودة أيضا ومثل لها المصنف بالحج فإنه يطلق على الإفراد والتمتع والقرآن وهذه الثلاثة

 

ج / 1 ص -287-       مشتركة في الماهية وهي الإحرام والطواف والوقوف والسعي وأما المشترك فاختلفوا في وقوعها وجزم المصنف بوقوعها.
قال الإمام وهو الحق لأن لفظ الصلاة مستعمل في معاني شرعية لا يجمعها جامع لأن لفظها يتناول ما لا قراءة فيها كصلاة الأخرس وما لا سجود فيه ولا ركوع كصلاة الجنازة وما لا قيام فيه كصلاة القاعد والصلاة بالإيماء على مذهب الشافعي رضي الله عنه وهي التي عبر عنها في الكتاب بصلاة المصلوب فإنه لا شيء من ذلك فيها وليس بين هذه الأشياء قدر مشترك هذا كلام الإمام.
قال الهندي وهو ضعيف لأن كون الفعل واقعا بالتحرم والتحلل منه مشترك بين تلك الصلوات فلم لا يجوز أن يكون مدلولها قال والأقرب أنها متواطئة بالنسبة إلى الكل إذ التواطؤ خير من الاشتراك ثم ذكر الهندي أن الأشبه وقوع المشتركة ومثل لها بإطلاق الطهور على الماء والتراب وعلى ما يدبغ به كان ذلك ليس باشتراك معنوي إذ ليس بينها معنى مشترك يصلح أن يكون مدلول اللفظ ولقائل أن يقول لم اكتفيت بالتحلل والتحرم في الصلاة قدرا مشتركا ولم تكتف باشتراك الماء والتراب وآلة الدباغ في إزالة المانع قدرا مشتركا.
وأما المشككة فالظاهر وقوعها أيضا وقد أهملها المصنف في الكتاب وهي كالفاسق بالنسبة إلى من فعل الكبيرة الواحدة ومن فعل الكبائر العديدة فإن تناوله للثاني بطريق أولى.
قوله والمعتزلة أي أن المعتزلة لما أثبتوا الحقائق الشرعية قسموها إلى أسماء الأفعال وأسماء الذوات المشتقة من تلك الأفعال فالأول كالصوم والصلاة والثاني كاسم الفاعل مثل زيد مؤمن واسم المفعول مثل زيد مقروء عليه وأفعل التفضيل نحو أفضل من عمرو وسموا هذا القسم بالدينية تفرقة بينه وبين الأول وأن اشتراك الكل عندهم في كونه شرعيا هكذا نقل الإمام وتبعه صاحب الكتاب وفيه نظر فإن المنقول عن المعتزلة أن الدينية هي الأسماء المنقولة شرعا إلى أصل الدين كالإيمان والكفر.

 

ج / 1 ص -288-       وأما الشرعية فكالصلاة والصوم كذا عزاه إليهم طائفة منهم القاضي وإمام الحرمين والغزالي فقال إمام الحرمين:
قالت المعتزلة الألفاظ تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها الألفاظ الدينية وهي الإيمان والكفر والفسق فهي عندهم منقولة إلى قضايا في الدين فالإيمان في اللسان التصديق والكفر من الكفر وهو الستر والفسق الخروج وهذا الذي ذكروه في قواعدهم في أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا دينا وليس كافرا أيضا وإنما هو فاسق.
والقسم الثاني: الألفاظ اللغوية وهي القارة على قوانين اللسان.
والقسم الثالث: الألفاظ الشرعية وهي الصلاة والصوم وأخواتها فهي مستعملة في فروع الشرع هذا لفظه في البرهان وهو الذي ذكره في كتاب التلخيص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي وكذلك أورده الغزالي وهذا هو التحقيق في نقل مذهب القوم.
قال والحروف لم توجد والفعل يوجد بالتبع تقدم الكلام في الاسم وأما الحرف فلم يوجد واستدل عليه الإمام بالاستقراء.
وأما الفعل فلم يوجد بطريق الأصالة للاستقراء ووجد بطريق التبعية لأن الفعل صغة تدل على صدور المصدر من الفاعل فالمصدر إن كان شرعيا كالصلاة كان الفعل أيضا كذلك كصلى وإن كان لغويا كان مثله فيكون الفعل شرعيا أمر حصل بالعرض لا بالأصالة وكلام المصنف مصرح بأن الحرف لم يوجد لا بطريق الأصالة ولا بطريق التبعية والحق مساواته للفعل فإن نقل متعلق معاني الحروف من المعاني اللغوية إلى المعاني الشرعية مستلزم لنقلها أيضا فلا فرق في ذلك بين الفعل والحرف كما في أنواع المجاز.
فائدة قد تقرر أن الألفاظ هي المستعملة من الشارع أما الأسماء وهي على قسمين منها ما وضعه بإزاء الماهيات الجعلية وذلك معروف كالصلاة وأمثالها ومنها الأسماء المتصلة بالأفعال وسنذكرها إن شاء الله مع الفعل.

 

ج / 1 ص -289-       وأما الفعل والحرف فقد علمت أن التحقيق فيهما أنهما مستويان والفعل ينقسم إلى ماض وأمر ومضارع والأسماء المتصلة بالأفعال ثمانية المصدر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعل التفضيل واسم الزمان واسم المكان واسم الآلة أما الفعل المضارع فلم يستعمل في الشرعية في شيء أصلا إلا لفظ أشهد في الشهادة فإنها تعينت ولم يقم غيرها مقامها وكذا في اللعان سواء قلنا إنه يمين أو شهادة أو فيه شائبتان ويجوز في اليمين في أقسم بالله وأشهد ولا يتعين ولا مدخل له في الإنشاءات.
وأما الفعل الماضي فيعمل في الإنشاءات خلا الشهادة واللعان فمن الإنشاءات التي يعمل به فيها العقود كلها والطلاق وأما فعل الأمر فهو مسألة الإيجاب والاستحباب في العقود والطلاق وفي الوكالة لو أتى بصيغة أمر نحو بع واشتر.
قال بعض الأصحاب هنا لا يشترط القبول بخلاف ما إذا أتى بصيغة عند نحو وكلتك والصحيح لا فرق وفعل الأمر يعمل به في كل موضع يعمل بالماضي على الصحيح.
وأما اسم الفاعل ففي الطلاق في قوله: أنت طالق ويعمل به في الضمان.
وأما اسم المفعول فيستعمل الطلاق والعتق والوكالة ويقرب من هذا أنت حرام وأنت حر وأنت علي كظهر أمي.
وأما المصدر فقد استعمل في الطلاق في قوله: أنت الطلاق وهل هو صريح أو كناية فيه خلاف ولا يبعد جريان مثل ذلك في العتق والنظر في هذا الفصل طويل ولعلنا نستوعبه في كتابنا الأشباه والنظائر فإن الشيخ صدر الدين ابن المرحل رحمه الله تعالى ذكر هذا في كتابه الأشباه والنظائر وكتابنا كالتهذيب لكتابه أتمه الله تعالى.
قال الثالثة صيغ العقود كبعث إنشاء إذ لو كان إخبار وكان ماضيا أو حالا لم يقبل وإلا لم يقع وأيضا إن كذبت لم تعتبر وإن صدقت

 

ج / 1 ص -290-       فصدقها أما بها فيدور أو بغيرها وهو باطل إجماعا وأيضا لو قال للرجعية طلقتك لم يقع كما لو نوى الإخبار.
صيغ العقود والفسوخ مثل بعت واشتريت وتزوجت وطلقت وفسخت ونحو ذلك لامرأته في أنها إخبارات عن أمور واقعة في الزمن الماضي وقد تستعمل في الشرع أيضا للإخبار كما لو صدر البيع من إنسان ثم قال بعت مريدا إخبار عما صدر منه في الزمان الماضي أما إذا استعملت هذه الألفاظ لإحداث أحكام لم تكن قبلها فهل هي إخبارات باقية على وضعها اللغوي أم إنشاءات نقلها الشارع إلى إنشاءات المخصوصة ذهب الأكثرون إلى الثاني وهو ما قطع به المصنف.
وقالت الحنفية إنها إخبارت عن ثبوت الأحكام فمعنى قولك بعت الإخبار عمار في قلبك فإن أصل البيع هو التراضي ووضعت لفظة بعت للدلالة على الرضا فكأنه أخبر بها عما في ضميره فيقدر وجودها قبيل اللفظ للضرورة وغاية ذلك أن يكون مجازا وهو أولى من النقل هذا تحرير مذهبهم فافهمه واستدل الأصحاب على كونه إنشاء بدلائل:
أحدها: أن اللفظ لو كان إخبارا لكان إما عن ماض أو حال أو مستقبل والأولان باطلان وإلا يلزم ألا يقبل الطلاق التعليق لأن التعليق توقف وجود الشيء على شيء آخر والماضي والحال قد وجدا فلا يقبله لكن اللازم منتف لقبوله التعليق إجمالا وإن كان عن مستقبل لم يقع لأن قوله: طلقتك إذن بمنزلة قوله: ستصيرين طالقا والطلاق لا يقع بذلك.
وثانيها: لو كانت هذه الصيغ إخبارات لكانت إما كاذبة أو صادقة فإن كانت كاذبة فلا اعتبار بها وإن كانت صادقة فصدقها إما أن يحصل بنفسها أي يتوقف حصوله على حصول الصيغة أو يحصل بغيرها إن كان الأول لزم الدور لأن كون الخبر صدقا وهو بعتك مثلا موقوف على الخبر عنه وهو وقوع البيع فلو توقف المخبر عنه وهو الوقوع وجود على المخبر وهو بعتك لزم الدور وإن كان الثاني وهو أن يحصل الصدق بغيرها فهو باطل بالإجماع منا ومنهم على عدم الوقوع عند عدم هذه الصيغة

 

ج / 1 ص -291-       وثالثهما: ان الزوج لو قال لرجعيته في عدتها طلقتك ونوى الإخبار عما مضى لم يقع قطعا وإن لم ينو شيئا أو نوى الأشياء وقع بالاتفاق فلو كان إخبارا لم يقع كما نوى به الإخبار.
فائدتان إحداهما: قال القرافي في الفروق الإنشاء ينقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه فالجمع عليه أربعة أقسام:
الأول: نحو قولنا أقسم بالله لقد قدم زيد ونحوه فإن مقتضى هذه الصيغة أنه أخبر بالفعل المضارع سيكون منه قسم في المستقبل فكان ينبغي ألا يلزمه كفارة بهذا القول لأنه وعد بالقسم لا قسم كقول القائل سأعطيك درهما لكن لما وقع الاتفاق على أنه بهذا اللفظ أقسم وأن موجب القسم يلزمه دل ذلك على أنه أنشأ به القسم لا أنه أخبر عن وقوعه في المستقبل وهذا أمر اتفق عليه في الجاهلية والإسلام ولذلك لا يحتمل التصديق والتكذيب ولا يدخله شيء من لوازم الخبر.
قال ولذلك نقول فيه من أحاط به من فضلاء النحاة الخبر القسم جملة إنشائية يؤيد بها جملة خبرية.
الثاني: الأوامر والنواهي.
الثالث: الترجي والتمني والعرض مثل ألا تنزل عندنا فتصيب خيرا.
والتحضيض وصيغته أربع هلا وألا ولوما ولولا.
الرابع: النداء نحو يا زيد اختلف النحاة فيه هل فيه فعل مضمر تقديره أنادي زيدا أو الحرف وحده مفيدا للنداء؟
قلت وقد خطأ الإمام في التفسير الكبير في أوائل البقرة من فسر قولنا يا زيد أنادي زيدا من وجوه:
منها أن أنادي زيدا خبر يحتمل التصديق والتكذيب ويا زيد لا يحتملها.

 

ج / 1 ص -292-       ومنها أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطبا منادى في الحال بخلاف أنادي زيدا.
ومنها أن يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطبا بهذا الخطاب بخلاف أنادي زيدا فإنه لا يمتنع أن يخبر إنسانا آخر بأني أنادي زيدا.
ومنها أن أنادي زيدا إخبار عن النداء والإخبار عن النداء غير النداء والنداء هو قولنا يا زيد فإذا هو غيره.
ولقائل أن يقول حاصل هذه الأوجه ترجع إلى يا زيد إنشاء وقولنا أنادي زيدا خبر ونحن نمنع أن قولنا أنادي زيدا الذي هو بمعنى يا زيد خبر وإنما هو إنشاء.
نعم الخبر أنادي زيدا الذي ليس هو بهذا المعنى.
قال القرافي وأما المختلف فيه هل هو إنشاء أو خبر فهو صيغ العقود كما تقدم.
الثانية ذكر القرافي في التفرقة بين الإنشاء والإخبار وجوها:
أحدها: أن الخبر يقبل التصديق والتكذيب ولا كذلك الإنشاء.
والثاني: أن الخبر تابع لثبوت مخبره في زمانه كيف ما كان ماضيا أو حالا أو مستقبلا والإنشاء متبوع لمتعلقه فيترتب بعده.
والثالث: أن الإنشاء سبب لثبوت متعلقه الذي هو مسببه عقيب آخر حرف أو مع آخر حرف إلا أن يمنع مانع وليس الخبر سببا متعلقا بمخبره وإنما هو مظهر فقط.
خاتمة قال القرافي في الفروق مما يتوهم أنه إنشاء وليس كذلك الظهار في قول القائل لامرأته أنت علي كظهر أمي يعتق الفقهاء أنه إنشاء للظهار كقوله أنت طالق وأن البابين سواء في الإنشاء.
قال وليس كذلك ثم أطال في الدلالة على أنه خبر واستند إلى قوله تعالى:
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا

 

ج / 1 ص -293-       اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}1
فكذبهم الله تعالى في ثلاثة مواطن بقوله ما هن أمهاتهم وأن قولهم منكر وأنه زور والإنشاء لا يدخله التصديق والتكذيب واعتضد أيضا بالإجماع على تحريم الظهار.
قال ولا سبب لتحريمه إلا انه كذب وإنما يكون الكذب في الإخبار وأورد على نفسه الطلاق الثلاث حيث كان إنشاء مع كونه محرما وأجاب بأن المحرم إنما هو الجمع بين الطلقات الثلاث لا لفظ الطلاق وأمعن الكلام فيما حاوله والذي نقوله في ذلك إن القول القائل أنت علي كظهر أمي يحتمل أن يريد به الخبر المحض ويحتمل أن يريد به أن يجعلها كذلك والظاهر أن المراد الثاني وهو الإنشاء ولكن الشرع ألغي حكمه ولما ألغاه وكان مقصود الناطق به تحقيق معناه الخبري سماه الشرع زورا ويناظر هذا من بعض الوجوه.
قوله أنت علي حرام قصد به إنشاء التحريم والشرع لم يرتب مقتضاه من الحرمة فهذان الإنشاءان لم يرتب الشرع عليهما مقتضاهما الذي قصده المتكلم بل جعل المرتب على الأول أنه إن عاد وجبت الكفارة وحرم الوطء حتى يكفر والمرتب على الثاني حكم اليمين من التكفير وغير هذين الإنشاءين من الطلاق والبيع والنكاح ونحو ذلك إذا أنشأه المكلف رتب الشرع عليه المقتضى الذي اقتضاه كلام المكلف فصارت الإنشاءات على قسمين:
أحدهما: ما اعتبره الشرع وأذن فيه فيفيد كما أراده المنشيء ويترتب عليه حكمه.
والثاني: ما لم يأذن فيه الشرع ولم يعتبره ولكن رتب عليه حكما آخر وهو الظهار والتحريم.
قال والذي أيده الله تعالى وينبغي أن يسمى هذا الإنشاء الثاني باطلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية: 2.

 

ج / 1 ص -294-       وأما الإنشاء الأول فإن وقع شروطه الشرعية فصحيح وإلا فهو باطل أو فاسد والباطل لا يترتب عليه أثر أصلا بخلاف الباطل في القسم الثاني وهو الظهار والتحريم حيث ترتب عليهما حكم شرعي لأن البطلان فيهما لإلغاء الشارع إياهما لا لفوات شروط ووجود مفسد والبطلان في البيع والنكاح وغيرهما إما لفوات شرط أو لوجود مفسد.

قال الثانية المجاز إما في المفرد مثل الأسد للشجاع أو في المركب مثل:

أشاب الصغير وأفنى الكبير                           كر الغداة ومر العشى.

أو فيما نحو أحياني اكتحالي بطلعتك.
لما تناهى القول في الحقيقة شرع في المجاز.
والشرح أن المجاز إما أن يقع في مفردات الألفاظ فقط أو في تركيبها أو فيهما جميعا والأول كإطلاق الأسد على الشجاع والثاني كقوله تعالى:
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}1 {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}2 {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}3
ويسمى هذا النوع بالمجاز المركب والإسنادي والعقلي ومثل له في الكتاب بقول الشاعر:

أشاب الصغير وأفنى الكبير                          كر الغداة ومر العشى4

فإن مفردات هذا النوع من المجاز كلها مستعملة في موضوعاتها وإنما التجوز في إسناد بعضها إلى بعض وذلك حكم عقلي ألا ترى أن أشاب والصغير مستعملان في موضوعيهما وكذلك أفنى والكبير لكن إسناد أشاب وأفنى إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 2.
2 سورة إبراهيم عليه السلام آية: 36.
3 سورة الزلزلة آية: 2.
4 البيت لكعب بن زهير بن أبي سلمى المزني شرح لامية كعب بن زهير ص 11.

 

ج / 1 ص -295-       كر الغداة ومر العشي هو الذي وقع فيه التجوز لكونهما مسندين إلى الله تعالى في نفس الأمر ومثله أنبئت الربيع البقل.
والضابط فيه أنك متى نسبت إلى ما ليس بمنسوب إليه لذاته بضرب من الملاحظة بين الإسنادين كان ذلك مجازا في التركيب وخرج بهذا القيد الأخير قول الدهري أنبت الربيع البقل إذ ذلك ليس عنده لضرب من الكلابسة بل هو أصلي عنده منتسب إلى من ينتسب إليه حقيقة ولهذا اخترنا التمثيل لهذا النوع بآي الكتاب العزيز فإن الإثبات الذي يذكر والأمثلة التي تورد جاز أن يكون قائلهما دهريا على أن البيت المذكور في الكتاب للصلتان العبدي وهو مسلم في قصدته التي هذا البيت منها ما يدل على ذلك وبهذا القيد ينفصل عنه الكذب أيضا لأن الكاذب لم يسند الأثر إلى ما أسنده لمشابهة ذلك الإسناد إسنادا آخر الذي هو أصلي بل إما لأنه أصلي عنده أو وإن لم يكن كذلك إلا أنه لم يلاحظ الملاحظة والملاحظة قد تكون بأن يختص الشيء بأثر يوجد الأثر عند وجوده وينعدم عند عدمه وهو غير صادر عنه لكن الله تعالى أجرى العادة بأن يوجد الأثر عند وجوده ويعدمه عند عدمه كنبات البقل مع الربيع أو بأن يوجد وإن لم ينعدم عند عدمه كالهلاك مع أكل السم في قولهم أهلكه السم أو بأن يكون الشيء سبب التسبب كقولهم كسا الخليفة الكعبة وما أشبه ذلك.
وذهب ابن الحاجب إلى إنكار المجاز في التركيب وهو شاذ.
والثالث: وهو أن يقع المجاز فيها جميعا كقول القائل لمن سرته رؤيته أحياني اكتحالي بطلعتك فإنه استعمل الإحيا في السرور والاكتحال في الرؤية وذلك مجاز ثم أسند الإحيا إلى الاكتحال مع أن المحيي هو الله تعالى.
هذا شرح ما في الكتاب ولك هنا مناقشات:
أحدها على التمثيل بالبيت الذي ذكره من جهة أنه إنما يصلح مثالا للقسم الثالث: لأن المراد بالصغير من تقدم له الصغير.

 

ج / 1 ص -296-       وثانيهما: أن هذا التقسيم إنما يصح عند من يقول إن المركبات موضوعة وقد اضطرب رأى المصنف في ذلك في هذا الكتاب.
وثالثهما: في تعبيره بالمركب فإن الصواب التعبير بالتركيب وذلك لأنك إذا قلت هلك الأسد تريد أن الشجاع مرض مرضا شديدا فهذا المجاز واقع في المركب لا في النسبة وليس هذا هو المراد بل كل مجاز في غير النسبة فهو مركب فإن الأسد مع قولك رأيت في قولك رأيت الأسد مركب لانضمام غيره إليه وهذا الإيراد إذا انقدح على التعبير بالمركب لدخوله فيه ورد على التعبير بالمفرد لخروجه منه.
قال ومنعه ابن داود في القرآن والحديث لنا قوله تعالى:
{جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}1.
قال فيه إلباس قلنا لا إلباس مع القرينة.
قال لا يقال لله تعالى إنه متجوز.
قلنا لعدم الإذن أو لإيهامه الاتساع فيما لا ينبغي.
اختلف أهل العلم في وقوع المجاز في اللغة العربية على مذاهب:
أحدها وهو المنسوب إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني المنع مطلقا.
قال إمام الحرمين في التخليص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي والظن بالأستاذ أنه لا يصح عنه وفيما علقه من خط ابن الصلاح أن أبا القاسم ابن كج حكى عن أبي علي الفارسي إنكار المجاز كما هو المحكي عن الأستاذ.
والثاني: أنه غير واقع في القرآن وواقع في غيره وإليه ذهب بعض الحنابلة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية: 77.

 

ج / 1 ص -297-       وطائفة من الرفضة وحكى عن بعض المالكية وأما أبو بكر بن داود1 الأصفهاني الظاهري فالمشهور عنه أنه منع وقوعه في القرآن خاصة كما هو رأى هؤلاء وحكى عنه الإمام وشيعته منهم المصنف اختيار المنع في القرآن والحديث.
وعلى هذا في المسألة أقوال أربعة:
المنع مطلقا المنع في القرآن وحده المنع في القرآن والحديث دون ما عداهما والرابع أنه واقع مطلقا والحديث وغيرهما وعليه جماهير العلماء سلفا وخلفا.
والمصنف استدل على وقوعه في القرآن ليدل على ما عداه بطريق أولى وقد وقع المجاز في مواضع عديدة من الكتاب العزيز وصنف شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام في ذلك مصنفا حافلا اكتفى المصنف بذكر قوله تعالى:
{جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ووجه الحجة أن الإرادة هي الميل مع الشعور وهي ممتنعة في الجدار لكونه جمادا وقد أضافها إليه وأراد بذلك الإشراف على الوقوع وهو مجاز.
فإن قلت لا نسلم امتناع قيام الإرادة بالجدار لقدرة الله تعالى على خلق العلم والقدرة فيه.
قلت هذا من خرق العادات التي لا يكون إلا في زمن النبوة لقصد التحدي لا في عموم الأوقات وهذا لم يكن للتحدي.
قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع واستدل أبو العباس بن سريج على أبي بكر بن داود بقوله تعالى:
{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} فقال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن داود بن علي بن خلف الظاهري أبو بكر أديب مناظر قال عنه الصفدي: الإمام ابن الإمام من أذكياء العالم.
ولما توفي أبوه جلس مكانه في مجلسه وأخذ يدرس على مذهب والده.
من مؤلفاته كتاب الوصول إلى معرفة الأصول الإنذار الإنتصار وغير ذلك.
توفي في رمضان سنة 297 هـ.
النجوم الزاهرة 3/17 الأعلام 6/355.

 

ج / 1 ص -298-       الصلوات لا تهدم وإنما أراد به مواضع الصلوات وعبر بالصلوات عنها على سبيل المجاز فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
قال فلم يكن له عنه جواب ومن أنصف من نفسه ونفى العصبية عن كلامه أقر بأن القرآن مشحون بالمجاز وكيف لا وهو من توابع العصابة وبدائع كلمات العرب ولا يخلو القرآن من ذلك.
وقد قال القاضي في مختصر التقريب يلزم من إثبات المجاز في اللغة إثباته في القرآن.
واحتج ابن داود رحمه الله على مذهبه بوجهين:
أحدهما: أن المجاز لا يدل بمجرده لعدم وضعه له فلو ورد في القرآن لأدى إلى الإلباس وهو لا يقع من الله تعالى وأجاب في الكتاب بأن الإلباس ينتفي مع القرينة فإن قلت إذا كان مع القرينة ففيه تطويل قلت التطويل لا ينفي إلا كونه على خلاف الأصل ونحن مقرون بذلك نعم لقائل أن يقول هذا الجواب يقتضي أن المجاز لا يقع في القرآن إلا مع القرينة.
وثانيهما: أنه لو جاز وقوع المجاز في القرآن لجاز أن يطلق على الله أنه متجوز لأن المتجوز من يتكلم بالمجاز وأجاب بوجهين:
أحدهما: إن أسماء الله تعالى توقيفية عنه لا بد في إطلاقها من ورود الإذن وهذا لم يرد به إذن فلا نطلقه عليه.
والثاني: سلمنا أن أسماءه تعالى دائرة مع المعني لكن شرطه ألا يوهم نقصا وما نحن فيه يوهم النقص لأن التجوز يوهم تعاطي ما لا ينبغي لأنه مشتق من الجواز وهو التعدي وأما من أنكر المجاز في اللغة مطلقا فليس مراده أن العرب لم تنطق بمثل قولك للشجاع أنه أسد فإن ذلك مكابرة وعناد ولكن هو دائر بين أمرين.
أحدهما: أن يدعي أن جميع الألفاظ حقائق ويكتفي في كونها حقائق بالاستعمال في جميعها وهذا مسلم ويرجع البحث لفظيا فإنه حينئذ يطلق

 

ج / 1 ص -299-       الحقيقة على المستعمل وإن لم يكن بأصل الوضع ونحن لا نطلق ذلك وإن أراد بذلك استواء الكل في أصل الوضع.
قال القاضي في مختصر التقريب فهذه مزاحمة للحقائق فإنا نعلم أن العرب ما وضعت اسم الحمار للبليد ولو قيل البليد حمار على الحقيقة كالدابة المعهودة وإن تناول الاسم لهما متساو في الوضع فهذا دنو من جحد الضرورة.
قال وكذلك من زعم أن الجدار له إرادة حقيقية تمسكا بقوله تعالى جدارا يريد أن ينقض عد ذلك من مستشنع الكلام.

قال الثالثة شرط المجاز
العلاقة المعتبر نوعها السببية القابلية
مثل سال الوادي والصورية كتسمية اليد قدرة والفاعلية مثل نزل السحاب والغائية كتسمية العنب خمرا.
لا بد في التجوز من لفظ الحقيقة إلى المجاز من علاقة بينهما ولا يكتفي بمجرد الاشتراك في أمر ما من الأمور والجار إطلاق اسم كل شيء على ما عداه لأنه ما من شيء إلا ويشارك كل ما عداه في أمر من الأمور بل لا بد من المناسبة والمشاركة في أمر خاص ظاهر وهل يكفي وجود تلك العلاقة في التجوز أم لا بد من اعتبار العرب لها أي بأن تستعملها فيه واختلفوا فيه على مذهبين:
اختار الإمام والمصنف أنه لا بد من ذلك وهذا ما أشار إليه بقوله المعتبر نوعها وصحح ابن الحاجب أنه لا يشترط ذلك والخلاف إنما هو في الأنواع لا في جزئيات النوع الواحد وإن أوهمه كلام بعضهم فالقائل بالاشتراط يقول لابد وأن تتجوز العرب بالتسبب عن المسبب مثلا وخصمه يقول يكفي وجود العلاقة وهذا معنى قول المصنف نوعها ومما ننبه عليه قبل الخوض في مقدارها أنا إذا أوردنا مثالا لجهة من الجهات للتجوز فلسنا قاضين عليه بأنه لا يشتمل على جهة أخرى من جهات التجوز بل يجوز اجتماع جهتين وثلاثة فلا نفهم من قولنا مثال الجهة الفلانية كذا الاختصاص بتلك الجهة بل شرطه أن يشتمل على تلك الجهة مع قطع النظر عن غيرها من الجهات وإن كان مشتملا على جهة أخرى فإنما لم ننبه عليها لأنا نذكر لها مثالا آخر

 

ج / 1 ص -300-       الجهة الأولى السببية: وهي إطلاق اسم السبب على المسبب وإن شئت قلت العلة على المعلول وهي أربعة أقسام قابلية وقد يقال لهذا القسم مادة وعنصرا وصورية وفاعلية وغائية.
أعلم أن كل متكون في الوجود لا بد له من هذه الأسباب الأربعة نحو السرير مادته الخشب والحديد وفاعله النجار وصورته الانسطاح وغايته الاضطجاع عليه فسميت الثلاثة أسبابا لتأثيرها في الإضطجاع فلولا الخشب والحديد ما تماسك ولولا الفاعل ما ترتب ولولا الانسطاح لما تأتي عليه الاضطجاع وسمى الرابع سببا لأنه الباعث على هذه الثلاثة فلولا استشعار النفس راحة الاضطجاع لما وقع في الوجود هذه الثلاثة وهو معنى قولهم أول الفكر آخر العمل ومعنى قولهم العلة الغائية علة العلل الثلاثة في الأذهان ومعلولة العلل الثلاثة في الأعيان.
فإن قلت ما وجه انحصار الأسباب في هذه الأربعة؟
قلت لما كان السبب هنا ما يتوقف عليه وجود الشيء انحصرت في هذه الأقسام لأنه لا يخلو إما أن يكون داخلا في ذلك الشيء أو خارجا.
والأول: إما أن يكون الشيء معه بالقوة وهو القابل أو بالفعل وهو الصورة العارضة له بعد التركيب.
والثاني: إما أن يكون مؤثرا في وجود ذلك الشيء وهو الفاعل كالنجار أو لا يكون وهو الغاية الحاملة للمؤثر على التأثير أي الجلوس على السرير.
مثال الأول وهو تسميته الشيء باسم سببه القابلي قولهم سال الوادي أي ماء الوادي فعبروا عن الماء السائل بالوادي لأن الوادي سبب قابل له إطلاقا لاسم السبب على المسبب هكذا مثل به الإمام وأتباعه منهم المصنف وفيه نظر فإن الوادي ليس جزءا للماء فلا يكون سببا قابلا له والمادي في اصطلاحهم جنس ماهية الشيء كما عرفت في الخشب مع السرير.
مثال الثاني: وهو تسمية الشيء باسم سببه الصوري إطلاق اليد على

 

 

ج / 1 ص -301-       القدرة كما في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}1 أي قدرة الله فوق قدرتهم فإن اليد صورة خاصة يتأتى بها الاقتدار على الشيء فشكلها مع الاقتدار كشكل السرير مع الاضطجاع وهو سبب صوري فتكون اليد كذلك فإطلاقها على القدرة إطلاق لاسم السبب الصوري على المسبب.
وإذا تأملت هذا فاعلم أن المثال انعكس على الإمام وأتباعه إلا الشيخ صفي الدين الهندي فقالوا ومنهم المصنف كتسميته اليد قدرة والصواب كتسمية القدرة يدا وكذا وقع في الآية الكريمة.
مثال الثالث: وهو تسمية الشيء باسم سببه الفاعل قولهم نزل السحاب أي المطر فإن السحاب في العرف سبب فاعلي في المطر كما تقول النار تحرق الثوب.
مثال الرابع وهو تسمية الشيء باسم سببه الغائي تسميتهم العنب بالخمر كما في قوله تعالى حكاية:
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} فأطلق العنب على الخمر لأن الخمر غاية مقصودة من زراعة العنب وعصره عند بعض الناس.
قال والمسببية كتسمية المرض المهلك بالموت والأول أولى للالتزام على التعيين ومنها الغائية لأنها علة في الذهن ومعلولة في الخارج.
العلاقة الثانية المسببية وهي إطلاق اسم المسبب على السبب مثل تسميتهم المرض المهلك موتا لأن الله تعالى جعل المرض الشديد في العادة سببا للموت وهنا بحثان أشار إليهما في الكتاب:
أحدهما: أن التجوز بلفظ السبب عن المسبب أولى من العكس لأن السبب المعين يستدعي مسببا معينا والمسبب المعين لا يستدعي سببا معينا بل سببا ما ألا ترى أن اللمس يدل على انتقاض الوضوء وانتقاض الوضوء لا يدل على اللمس لجواز أن يكون بمس أو بول أو غيرهما فلما كان فهم المسبب من السبب أسرع كان التجوز به في حالة الإطلاق أولى ولقائل أن يقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفتح آية: 10.

 

ج / 1 ص -302-       هذا واضح على رأي من يجوز تعليل المعلولين المتماثلين بعلتين مختلفتين لأن العلم بالمعلول حينئذ لا يستلزم العلم بالعلة وأما العلم بالعلة المعينة فإنه يستلزم العلم بالمعلول المعين وأما من لم يجوز ذلك فقد يمنع هذا البحث.
الثاني: قد عرفت انقسام العلة الأولى إلى أربع علل وأولاها العلة الغائية وهذا معنى قول المصنف ومنها الغائية أي وأولى منها الغائية لأنها حال كونها ذهنية علة العلل وحال كونها خارجية معلول العلل فقد حصل لها علاتنا العلية والمعلولية وكل واحدة منهما على تحسن التجوز.
قال والمشابهة كالأسد للشجاع والمنقوش ويسمى الاستعارة.
العلاقة الثانية المشابهة وهي تسمية الشيء باسم شبيهه إما في صفة ظاهرة خاصة بمحل الحقيقة كإطلاق اسم الأسد على الشجاع والحمار على البليد وإما في الصورة كإطلاق إسم الأسد أو الفرس مثلا على المنقوش المصور في الحائط بصورته قوله: وتسمى الاستعارة هذا يحتمل أن يعود إلى المنقوش وحده أي ويخص المنقوش الذي الذي هو أحد قسمي المشابهة بتسميته بالاستعارة وهذا لم نر أحدا ذكره ويحتمل أن يعود إلى المشابهة أي أن مجاز المشابهة مسمى بالمستعار.
وأما الإمام فإنه قال إن المسمى بالإستعارة ليس إلا المشابه المعنوي كتسمية الشجاع أسدا وتبعه عليه صفي الدين الهندي وعلى كل حال فالاستعارة بهذا الاصطلاح أخص من المجاز لأنها مختصة ببعض أنواعه وقيل هما متساويان لأن اللفظ إذا وضع لمعنى يستحقه ذلك المعنى بسبب الوضع فيكون استعماله في غيره على وجه العارية.
قال والمضادة وهي تسمية الشيء باسم ضده مثل قوله تعالى:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} أطلق على الجزاء سيئة مع أنه ليس بسيئة ومثل قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
قال الإمام ويمكن جعل هذا من مجاز المشابهة لأن جزاء السيئة يشبهها في كونها سيئة بالنسبة إلى من وصل إليه ذلك الجزاء ومن أمثلته الفصل تسميتهم

 

ج / 1 ص -303-       البرية المهلكة بالمفازة تفاؤلا واستعمالهم صيغة الدعاء على الإنسان بمعنى الدعاء له مثل فولهم قاتله الله ما أحسن ما قال ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "عليك بذات الدين تربت يداك" عند من يقول المقصود بها الدعاء له وبعضهم يقول إن لم تظفر بذات الدين سلبت البركة فافتقرت بذلك كذا حكاه الروياني في أوائل كتاب النكاح من البحر.
وحكى عن ابن شهاب الزهري قولا ثالثا وهو جعل اللفظ على حقيقته وأنه إنما قال ذلك لأنه رأى الفقر خيرا له من الغنى.
قال والكلية كالقرآن لبعضه.
العلاقة الخامسة الكلية وهي إطلاق اسم الكل على الجزء ومثل له الإمام باطلاق لفظ العام وإرادة الخاص وفيه نظر لأن دلالة العموم من باب الكلية لا من باب الكل والفرد منه من باب الجزئية لا من باب الجزء وتحقيق هذا يتلقى من فاتحة كتاب العموم والخصوص من هذا الشرح وسننتهي إليه إن شاء الله تعالى والمصنف مثل له بإطلاق لفظ القرآن على بعضه وليس بجيد أيضا لأن القرآن من الألفاظ المتواطئة يطلق بالحقيقة على كله وعلى بعضه عند التجرد من الألف واللام وعند الاقتران بها إذا أريد بها مطلق الماهية ويطلق على ما يراد منه إذا اقترن بالألف واللام وأريد بها معهود إما كله وإما بعضه فإن اقترن بالألف واللام ولم يكن معهودا ولا أريد مطلق الماهية كانت الألف واللام للعموم فيحمل على جميع القرآن لأنه جميع ما يصلح له اللفظ لأن لفظ القرآن لم يطلق على غير الكتاب العزيز بالحقيقة.
فإن قلت لو كان لفظ القرآن من الألفاظ المتواطئة لحنث الحالف على ألا يقرأ القرآن بقراءة بعضه كالحالف على ألا يشرب الماء والعسل يحنث بقليله وكثيره وقد ذكرتم في الحقيقة الشرعية المنصوص يقتضي خلاف ذلك.
قلت ليس هذا كالحالف على ألا يشرب الماء والعسل وغير ذلك من

 

ج / 1 ص -304-       الألفاظ المتواطئة حيث يحنث فيها بالبعض لأن تلك الحقائق أفرادها كثيرة لا تتناهى فلا يمكن الحمل فيها على العموم بخلاف لفظ القرآن فإن أفراده سور القرآن وآياته والحمل على العموم فيها ممكن فوجب المصير إليه عند عدم العهد لما قدمنا من أنه لم يطلق على غير الكتاب العزيز وإذا تقرر هذا فنقول كان الأحسن أن يمثل لهذا النوع من المجاز بقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} أي أناملهم.
قال والجزئية كالأسود للزنجي والأول أقوى للاستلزام.
العلاقة السادسة الجزئية وهي إطلاق الجزء وإرادة الكل كقولهم للزنجي أسود ليس كله أسود ألا ترى إلى بياض عينيه وأسنانه فيكون إطلاق الأسود على المجموع المركب من أعضائه ومن الجلد وغيره من باب إطلاق اسم الجزء على الكل هكذا مثل به في الكتاب تبعا للإمام ولقائل أن يقول إطلاق الأسود على الزنجي إنما يكون مجازا أن لو كان المراد به وصف جميع أعضائه بالسواد وليس كذلك بل مفهوم الأسود من قام السواد بظاهر جلده فقط لا جميع أعضائه حتى العينين والأسنان لأن ما ثبت له المشتق شيء له المشتق منه وذلك أعم من كونه ثابتا لكله أو بعضه كما يقول لمكسور إحدى الرجلين أعرج والأولى أن يمثل لهذا النوع بقولهم فلأن يملك كذا رأسا من الغنم أو ذبح كذا رأسا من البقر.
قوله والأولى أي إذا تعارض القسم الخامس والسادس فالأول الذي هو الخامس أولى من السادس لأن الكل مستلزم للخبر والجزء لا يستلزم الكل فكانت دلالة الأول أقوى لذلك.
قال والاستعداد كالمسكر للخمر في الدن.
العلاقة السابعة الاستعداد وهي تسمية الشيء المستعد لأمر باسم ذلك الأمر مثل تسميته الخمر حال كونه في الدن بالمسكر ولقائل أن يقول إذا كان الخمسة اسما لما خامر العقل فلا يصدق حقيقة إلا حال مخامرته المعقل وهي حالة الإسكار فيكون إطلاق الخمر على عصير العنب المودع في الدن مجاز

 

ج / 1 ص -305-       استعداد ويكون التمثيل بإطلاق الخمر على هذا العصير لا بإطلاق المسكر على الخمر وقد يمثل أيضا بإطلاق الكاتب على العارف بالكتابة عند مباشرته لها وكذا استعمال كل مشتق باعتبار الاستقبال.
قال والمجاورة كالرواية للقربة.
العلاقة الثامنة المجاوره وهي تسمية الشيء باسم ما يجاوره كإطلاق لفظ الرواية على القربة التي هي طرفا للماء فإن الرواية في اللغة اسم للجمل والبغل والحمار الذي يستقى عليه كما قاله الجوهري وأنشد لأبي النجم:

تمشي من الردة مشي الحفل                          مشي الروايا بالمزاد الأثقل

ثم إنه أطلق على القربة لمجاورتها له.
قال وتسمية الشيء باسم ما كان عليه كالعبد.
هذه العلاقة وهي التاسعة ساقطة في كثير من النسخ لتقدمها في كلام المصنف في فصل الاشتقاق وحاصلها أن من المجازات تسمية الشيء باعتبار ما كان عليه كتسمية العبد الذي عتق بالعبد وتسمية من ضرب بعد انقضاء الضرب بالضارب على ما تقدم البحث فيه.
قال والزيادة والنقصان مثل ليس كمثله شيء وأسأل القرية.
العلاقة العاشرة الزيادة وهو أن يكون الكلام ينتظم بإسقاط شيء منه فيحكم بزيادة ذلك الشيء ومثاله قوله تعالى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}1.
فإن الكاف زائدة والتقدير ليس كمثله شيء والدليل على أنها زائدة أنه لو لم تكن كذلك لكنا التقدير ليس مثل مثله أن الكاف بمعنى مثل فيكون له تعالى مثل وهو محال والغرض بالكلام نفيه وقد اعترض الناس على هذا التمثيل بأن الكاف في قوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} غير زائدة وأجابوا عما ذكره بأجوبة عدة استحسن الأذكياء منها جواب من قال لا نسلم أن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية: 11.

 

ج / 1 ص -306-       المراد منه نفي المثل بل هو محمول على حقيقته وهو نفي مثل مثله ويلزم من نفي مثل المثل نفي المثل ضرورة أن مثل المثل مثل إذ المماثلة لا تتحقق إلا من الجانبين فمتى كان زيد مثلا لعمرو كان عمرو مثلا له وقد نفى المثل وأورد على هذا الجواب وجهان:
أحدهما: أن يلزم ألا يكون النص مقيدا لنفي المثل ما لم يضم إليه هذه المقدمة والأمة قد عقلت منه نفي المثل بدونها.
وأجاب عنه صفي الدين الهندي بمنع أن الأمة بأسرها عقلت منه ذلك من غير اعتبار تلك المقدمة.
قال وكيف يقال ذلك وفي الأمة من ينكر أن يكون في كلام الله مجاز ومنهم من ينكر أن يكون فيه زيادة لا معنى لها ولا يمكن حمل الآية على نفي المثل إلا بعد الاعتراف بهذين الأصلين جاز أن يفهموا نفي المثل على سبيل الاستقلال وجاز أن يفهموا ذلك منه بواسطة ما ذكرنا من المقدمة.
والثاني: أنه إن كان قد نفى مثل المثل والذات من جملة مثل المثل لزم أن يكون الذات منفية وهو أقوى الإيرادين.
وأجاب بعضهم عن هذا بأن الذات لما كانت ثابتة قطعا بالبرهان القاطع الخارجي نفي ما عداهما منفيا وذكر القرافي في الجواب أنه إنما يلزم نفي الذات من جهة أنه مثل فإنها بقيد المثلية أخص منها من حيث هي ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فهذا النفي حق ولا يلزم نفي واجب الوجود ثم إن القرافي اعترض على هذا الجواب بما لانطيل بذكره والتحقيق أن الجوابين خارجان عن صواب التحقيق وإنما الجواب الدقيق الذي ليس بعده شيء ما قرره لنا غير مرة والدي أطال الله بقاه فقال تقدير الكلام ليس شيء كمثله فشيء اسم ليس وهو المبتدأ وكمثله الخبر فالشيء الذي هو موضوع نفى عنه المثل الذي هو محمول فهو منفي عنه لا منفى فيكون ثابتا فلا يلزم أن تكون الذات المقدسة منفية وإنما المنفي مثل مثلها ولازمه نفي مثلها وكلاهما منفي عنها والله أعلم.

 

ج / 1 ص -307-       العلاقة الحادية عشر النقصان أي المجاز بالنقصان في اللفظ مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} تقديره واسأل أهل القرية إذ القرية عبارة عن الأبنية وهي لا تسأل ولقائل أن يقول يحتمل أن الله خلق في القرية قدرة الكلام ويكون ذلك معجزة لذلك النبي ويبقى اللفظ على حقيقته لا يقال الأصل عدم هذا الاحتمال لأنا نقول هذا معارض بأن الأصل عدم المجاز على أن هذا كله مفرع على أن القرية اسم للأبنية المجتمعة.
أما إن قلنا إنها مشتركة بينها وبين الناس المجتمعين إما باشتراك لفظي أو معنوي فلاستدلال ساقط بالكلية ثم الذي يدل على أن القرية حقيقة في الناس المجتمعين أيضا قوله تعالى:
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}1 {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ}2 {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}3 ولأن القرية مشتقة من القرء وهو الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته ومنه القراء وهو الضيافة لاجتماع الناس لها وهذا كله حركة البحث والنظر.
والأول: هو المرتضى أعني أن المراد سؤال أهل القرية كيف والشافعي رضي الله عنه قد نص عليه في الرسالة ونقله عن أهل العلم باللسان وسمى هذه الآية وأمثالها بالصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره فقال ما نصه باب الصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره.
قال الشافعي قال الله جل ثناؤه وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم:
{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ*وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}4 فهذه الآية في معنى الآيات قبلها لا يختلف أهل العلم باللسان أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير لأن القرية والعير لا ينبئان عن صدقهم انتهى وهنا مباحثتان.
أحداهما: أن العادين لهذين النوعين العاشر والحادي عشر ذكروه في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 11.
2 سورة الحج آية: 48.
3 سورة القصص آية: 58.
4 سورة يوسف عليه السلام آية: 81 82.

 

ج / 1 ص -308-       المجاز الإفرادي وكيف يكون ذلك في مجاز النقصان والمجاز في المفرد هو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأول والمحذوف لم يستعمل البتة والمجاز بالزيادة كذلك لأن الزائد لم يستعمل البتة في شيء وهذا السؤال قد شاع وذاع وأجاب عنه والدي رحمه الله بأن هذا لفظ مستعمل في غير ما وضع له فصدق عليه تعريف المجاز الإفرادي.
قال وذلك لأن قوله:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} موضوع لسؤالها مستعمل في سؤال أهلها فكان مجازا وليس هو مجاز في التركيب فإن مجاز التركيب مثل قولك أنبت الربيع البقل لفظ مستعمل في مقتضاه إسناد الإنبات إلى البقل ولكنا علمنا بالعقل أنه ليس كذلك وإنما هو من الله تعالى فقلنا إنه مجاز عقلي ولم ترد بقولنا المجاز بالزيادة والنقصان أن اللفظة الزائدة وحدها أو الناقصة وحدها مجاز ومن تأمل قول الإسلام في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وفي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهم ذلك ولا يقال إنه حينئذ يصير مجازا في التركيب لأنا لا نعني بمجاز التركيب إلا إسناد الفعل إلى الفاعل وهو الذي يكون الإسناد فيه من جهة الموضوع اللغوي صحيحا وإنما جاء المجاز من جهة العقل حتى لو فرض هذا الكلام من كافر يعتقد حقيقته لم يكن مجازا وهذا جواب نفيس.
الثانية: أن الأمام عد المجاز بالزيادة والمجاز بالنقصان مع تغايرهما وتقابلهما نوعا واحدا وبه أشعرت عبارة الكتاب وعليه جرى سائر أتباع الإمام إلا الشيخ صفي الدين الهندي فإنه عدهما نوعين كسائر المحققين وقد يعتذر عن الإمام بأنه لما كان مدار الأمر في هذين المجازين على شيء واحد وهو أن تستفيد الكلمة حركة لأجل إثبات مزيد مستغنى عنه أوحذف شيء لا بد منه جعلا نوعا واحدا لأن الكلمة نقلت عن حكم كان لها إلى حكم آخر لم يكن لها في الأصل وذلك كان في وضعها بالمجاز كما أنها توصف بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي إلى معنى آخر وبيان انتقالها عما كان لها من الحكم إلى غيره أن المثل في قوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الجر بزيادة الكاف وكان حكمه في الأصل النصب فالجر فيه مجاز والقرية في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} اكتسبت النصب

 

ج / 1 ص -309-       لأجل حذف المضاف وإقامتها مقامه وكان واجبها في الأصل الجر فالنصب فيه مجاز وقد يلوح من هذا التقرير وجه عد هذين النوعين من مجاز الأفراد ويقال المجاز إنما وقع في الجر والنصب بسبب الزيادة والنقصان ولكن هذا بعيد ومع الجواب المتقدم لا يحتاج إلى التشنيع بمثل هذه التخيلات.
قال والتعلق كالخلق للمخلوق.
العلاقة الثانية عشر: التعلق الحاصل بين المصدر واسم المفعول أو اسم الفاعل ويدخل منه أقسام.
أحدها: إطلاق اسم المصدر على المفعول كقوله تعالى:
{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أي مخلوق آخر: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي مخلوق الله: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} أي مكتوب وعلى ذكر هذا القسم اقتصر في الكتاب.
وثانيها: عكسه ومنه قوله تعالى:
{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}1 أي الفتنة وهذا على رأي من يقدر المصدر وأما من يقول الباء زائدة والتقدير أيكم المفتون فلا يصح له التمثيل له.
وثالثها: إطلاق إسم الفاعل على المفعول نحو:
{مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق وعيشة راضية أي مرضية.
ورابعها: عكسه مثل قوله تعالى:
{حِجَاباً مَسْتُوراً} أي ساترا وقوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} أي آتيا.
وخامسها: إطلاق المصدر على اسم الفاعل نحو قولهم رجل عدل أي عادل وصوم أي صائم ومنهم من يقول التقدير ذو عدل وذو صوم فعلى هذا يكون من مجاز الحذف لا مما نحن فيه.
وسادسها: عكسه مثل قم قائما أي قياما واسكت ساكتا أي سكوتا وقد نجز شرح ما أورده المصنف من العلاقات وهي وإن كانت اثنتي عشر علاقة فهي أيضا في الحقيقة اثنان وعشرون قسما لأن العلاقة السببية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القلم آية: 6.

 

ج / 1 ص -310-       مشتملة على أربعة أقسام والمشابهة كما تقدم والاستعداد أيضا على قسمين لأن المستعد للشيء تارة يكون ذلك الشيء قريبا منه كالإسكار بالنسبة إلى العقار في الدن وتارة يكون بعيدا كتسمية الطفل بالكاتب والعالم ولا يخفى أن القريب أولى من البعيد عند التعارض والتعلق على ستة أقسام وأنت قريب العهد به ولتوصل الأقسام إلى ستة وثلاثين فنقول الثالث والعشرون اسم اللازم على الملزوم كالمس على الجماع الرابع والعشرين عكسه كقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ}1 أي يدل والدلالة لازم من لوازم الكلام الخامس والعشرون تسمية الحال باسم المحل كتسميته الخارج المستقذر بالغائط ومنه لا فض فوك أي أسنانك السادس والعشرين عكسه كقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}2 أي في الجنة لأنها محل رحمته السابع والعشرون تسمية البدل باسم المبدل مثل يأكلن كل ليلة إكافا أي ثمن إكاف الثامن والعشرين عكسه كتسمية الأداء بالقضاء في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} أي أديتم التاسع والعشرين إطلاق المنكر وإرادة المعين مثل: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} عند من يقول كانت معينة الثلاثون عكسه مثل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} عند من زعم أن المأمور به دخول أي باب كان الحادي والثلاثون إطلاق النكرة وإرادة الجنس مثل قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}3 الثاني والثلاثون إطلاق الموت باللام وإرادة الجنس مثل الرجل خير من المرأة والدينار خير من الدرهم الثالث والثلاثون إطلاق اسم المقيد على المطلق كقول شريح القاضي أصبحت ونصف الناس على غضبان فإنه أراد بالنصف البعض المطلق لا المقيد بالتعديل والتسوية ومنه قول الشاعر:

إذا مت كان الناس نصفين                       شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع4

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الروم آية: 35.
2 سورة آل عمران آية: 107.
3 سورة الانفطار آية: 5.
4 قائل هذا البيت هو العجير بن عبد الله السلولي شرح المقدمة النحوية لابن بابشاذ بتحقيق الدكتور محمد أبو الفتوح شريف ص 306...............................==

 

ج / 1 ص -311-       الرابع والثلاثون: عكسه كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} عند من يقول المراد بها رقبة مؤمنة وهذا غير إطلاق المنكر وإرادة المعرف لأن المطلق غير المنكر نعم قد يقال إن المطلق من حيث كونه جزءا للمقيد مذكور فيما تقدم من إطلاق الجزء على الكل
الخامس والثلاثون: إطلاق آلة الشيء على الشيء كإطلاق اللسان على الكلام أو الذكر كما في قوله تعالى:
{وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ}1 وقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}2 وكما يقال كتب العلم كيت وكيت وقد يقال برجوع ذلك إلى إطلاق اسم المحل على الحال والتحقيق أنه غيره لأن آلة الشيء قد تكون محلا له وقد لا تكون
السادس والثلاثون: تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه كتسمية المريض ميتا في قوله صلى الله عليه وسلم:
"اقرءوا على موتاكم يس"3 ومنه: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} وهذا غير القسم الذي تقدم في كلام المصنف أعني مجاز الاستعداد لأن المستمد للشيء قد لا يؤول إليه بل هو مستعد له ولغيره كما أن القصير قد لا يؤول إلى الحمزية وإن كان مستعدا لها ولغيرها وابن الحاجب عبر عن مجاز الاستعداد بتسمية الشيء باسم ما يؤول إليه بدليل أنه مثل ب بالخمر وذلك يوهم اتحاد القسمين وكذلك الإمام فإنه عبر بتسمية إمكان الشيء باسم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ويروى:

إذا مت كان الناس صنفان                     شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع.

1 سورة الروم آية: 22.
2 سورة الشعراء آية: 84.
3 حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث معقل بن يسار – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:
"اقرءوها على موتاكم" يعني يس كما رواه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك ولهذا قال بعض العلماء: من خصائص هذه السورة أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله تعالى وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة وليسهل عليه خروج الروح.
تفسير ابن كثير 3/563.

 

ج / 1 ص -312-       وجوده والحق افتراق القسمين والناظر إذا أمعن نظره في جزئيات هذه الأقسام ونظر إلى تفاوتها حصل على عدد كثير وفيما ذكرناه كفاية.

قال الرابعة المجاز بالذات لا يكون في الحرف لعدم الإفادة والفعل المشتق لأنهما يتبعان الأصول والعلم لأنه لم ينقل لعلاقة.
المجاز الواقع في الكلام قد يكون بالذات أي بالأصالة وقد يكون بالتبعية فالمجاز بالذات لا يدخل في أشياء.
أحدها: الحرف وذلك لأن مفهومه غير مستقل بنفسه بل ولا بد وأن يضم إلى شيء آخر ليحصل الفائدة.
قال الإمام فإن ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه كان حقيقة وإلا فهم مجاز في التركيب لا في المفرد وقد اعترض عليه النقشواني بأن الحرف له مسمى في الجملة إذ ما ليس له مسمى فهو مهمل والكلام في اللفظ الموضوع وإذا كان له مسمى واستعمل في موضوعه الأصلي كان حقيقة سواء كان الاستعمال عند ضمه إلى غيره أو عند عدم الضم فإن الاستعمال أعم منها وقد ذكر في حد الحقيقة هذا القدر فكان حقيقة وأما إذا استعمله في غير موضوعه لعلاقة كان مجازا من غير تفاوت.
قال وأقرب مثال لذلك قوله تعالى:
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ} فإن الصلب مستعمل في موضوعه الأصلي وكذلك جذوع النخل ولم يقع المجاز إلا في حرف في فإنها للظرفية في الأصل وقد استعملت هنا لغير الظرفية.
قال وأيضا لو لم يدخل المجاز في الحرف بالذات لما دخلت فيه الحقيقة بالذات ولو كان كذلك لما صح ما ذكره في باب تفسير الحروف بيان الملازمة أنه لو تعذر دخول المجاز لكون الحرف غير مستقل فهو كما لا يفيد المعنى المجازي بالاستقلال لا يفيد المعنى الحقيقي بالاستقلال فإذا أوجب ذلك عدم دخول المجاز في الحرف وحده أوجب عدم دخول الحقيقة.
قال ثم نقول ما الدليل على أنه إن ضم إلى ما لا ينبغي ضمه إليه يكون مجازا في التركيب لا في المفرد بل الحق أن هذا الضم قرينة على مجاز الأفراد

 

ج / 1 ص -313-       وهذا كما تقول في لفظة الأسد إذا ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه بأن تقول رأيت أسدا يثب فهذا حقيقة وإن ضم إلى ما لا ينبغي بأن تقول رأيت أسدا يرمي بالنشاب صار ذلك قرينة دالة على أنه أراد بلفظ الأسد معناه المجازي وهذا مجاز في المفرد دون التركيب هذا آخر كلام النقشواني وكله منقدح حسن.
الثاني: الأفعال والمشتقات لأنهما يتبعان أصولهما وأصل كل منهم المصدر فإن كان حقيقة كانا كذلك وإلا فلا.
هذا كلام المصنف تبعا للإمام وقد اعترض عليه النقشواني بأن قولكم هذا لا يدخل المجاز في الفعل إلا بواسطة دخوله في المصدر يناقض قولكم استعمال المشتق بعد زوال المشتق منه مجاز.
فإذا قال القائل إن زيدا ضرب عمرا بعد انقضاء الضرب كان هذا مجازا وليس المجاز في الأسامي إذ كل واحد منهما مستعمل في موضوعه ولا في المصدر لأن المصدر لم يستعمل ههنا أيضا وما لم يستعمل أصلا يمتنع أن يقال استعمل مجازا أو حقيقة وليس أيضا مجازا في التركيب فتعين المجاز ههنا في الفعل فقد دخل في الفعل من غير دخوله في المصدر.
قال وهكذا يرد هذا النقض على المشتقات هذا اعتراضه ولقائل أن يقول إنما صح أن زيدا ضرب عمرا مجاز والحالة هذه لأنه يصح أن يقال زيد ذو ضرب لعمرو مجازا فما يجوز في الفعل إلا وقد صح إطلاق المصدر مجازا.
وقوله إن المصدر لم يستعمل ولا يوصف بحقيقة ولا مجاز.
قلنا صحة استعماله كافية في دخول المجاز في الفعل وليس المدعي غير ذلك أعني أن المجاز لا يدخل في الفعل إلا بواسطة صحة دخوله في المصدر لا بواسطة وقوع دخوله.
الثالث: العلم لأن الأعلام لم تنقل لعلاقة وشرط المجاز العلاقة وهذا فيما إذا كان العلم مرتجلا أو منقولا لغير علاقة وإن نقل لعلاقة كمن سمى ولده بالمبارك لما ظنه فيه من البركة فكذلك بدليل أنه لو كان مجازا لصح كذا في

 

ج / 1 ص -314-       خط المصنف ولعله سبق قلم والصواب لما صح إطلاقه عند زوال العلاقة وبهذا التقرير يعلم أن قول المصنف لأنه لم ينقل لعلاقة غير كاف في الدليل على مطلوبه بل كان الأحسن أن يقول لأنه إن كان مرتجلا أو منقولا لغير علاقة فواضح وإلا فلصدقه عليه مع زوالها.
وقال الغزالي إن المجاز يدخل في الأعلام الموضوعة للصفة كالأسود والحرث دون الأعلام التي لم توضع إلا للفرق بين الذوات واعترض النقشواني على قولهم إن المجاز لا يدخل في الأعلام بأن القائل يقول جاني تميم أو قيس وهو يريد طائفة بني تميم وهذا مجاز لا حقيقة وتميم اسم علم فقد يطرق المجاز إلى العلم لما بين هؤلاء وبين المسمى بذلك العلم من التعلق وفي هذا الاعتراض نظر.

قال الخامسة المجاز خلاف الأصل لاحتياجه إلى الوضع الأول والمناسبة والنقل ولإخلاله بالفهم.
الأصل تارة يطلق ويراد به الغالي وتارة يراد به الدليل وقد ادعى المصنف أن المجاز خلاف الأصل إما بمعنى خلاف الغالب والخلاف في ذلك مع ابن جني1 حيث ادعى أن المجاز غالب على اللغات أو بالمعنى الثاني والغرض أن الأصل الحقيقة والمجاز على خلاف الأصل فإذا أراد اللفظ بين احتمال المجاز واحتمال الحقيقة فاحتمال الحقيقة أرجح لوجهين:
أحدهما: أن المجاز يحتاج إلى الوضع الأول وإلى العلاقة يعني المناسبة بين المعنيين وإلى النقل إلى المعنى الثاني والحقيقة محتاجة إلى الوضع الأول فقط وما يتوقف على أمر واحد كان راجحا بالنسبة إلى ما هو متوقف على أمور

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عثمان بن جني الموصلي من أئمة الأدب والنحو كان أبوه مملوكا روميا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي من مؤلفاته شرح ديوان المتنبي والمنهج في اشتقاق أسماء رجال الحماسة المحتسب في شواذ القراءات الخصائص في اللغة المقتضب من كلام العرب. توفي سنة 392 هـ.
وفيات الأعيان 1/313 الأعلام 4/364.

 

ج / 1 ص -315-       متعددة وقد أهمل صاحب الكتاب ذكر الاستعمال لأن الحقيقة والمجاز مشتركان في افتقارهما إليه.
والثاني: أن الحقيقة لا تخل بالفهم وذلك ظاهر والمجاز يخل بالفهم فيكون مرجوحا والدليل على أنه يخل بالفهم وجهان:
أحدهما: أن اللفظ إذا تجرد عن القرينة فلا جائز أن يحمل على المجاز لعدم القرينة ولا على الحقيقة وإلا لزم الترجيح بدون مرجح إذ الحقيقة والمجاز متساويان على هذا التقدير.
والثاني: أن الحمل على المجاز يتوقف على قرينة تدل على أنه المراد وقد تخفى هذه القرينة على السامع فيحمل اللفظ على المعنى الحقيقي مع إرادة المجاز أو يختبط عليه الحال فيحمل على الذي ليس بمراد.
قال فإن غلب كالاطلاق تساويا والأولى الحقيقة عند أبي حنيفة والمجاز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى.
ما تقدم من رجحان الحقيقة على المجاز إنما هو فيما إذا لم يعارض أصالة الحقيقة غلبة المجاز أما إذا غلب المجاز في الاستعمال فقال أبو حنيفة الحقيقة أولى لأن الحقيقة بحسب الأصل راجحة وكونها مرجوحة أمر عارض لا عبرة به.
وقال أبو يوسف المجاز أولى لكونه راجحا في الحال ومن الناس من قال يحصل التعارض لأن كل واحد على الآخر من وجه فيتعادلان ولا يحمل على أحدهما إلا بالنية وهذا ما اختاره المصنف.
قال الهندي وعزى ذلك إلى الشافعي وقد مثل المصنف لذلك بالطلاق فإنه حقيقة في إزالة القيد سواء كان عن نكاح أم ملك يد أم غيرها وخصه العرف بإزالة قيد النكاح ولذلك كان كناية في باب العتق محتاجا إلى النية بخلاف الطلاق هذا كلام المصنف وهو فيما اختاره في هذه المسألة وفيما مثل به متابع للإمام في كتاب المعالم فإنه كذلك فعل ثم أورد على ما ذكر في الطلاق بأنه يلزم ألا يصر إلى المجاز الراجح إلا بالنية وليس كذلك بدليل

 

ج / 1 ص -316-       أنه لو قال لزوجته أنت طالق طلقت من غير نية وأجاب بأن هذا غير لازم لأنه إذا قال لمنكوحته أنت طالق فإن عنى بهذا اللفظ الحقيقة المرجوحة وهو إزالة مطلق القيد وجب أن يزول مسمى القيد وإذا زال هذا المسمى فقد زال القيد المخصوص وإن عني به المجاز الراجح فقد زال قيد النكاح فلما كان يفيد الزوال على التقديرين استغنى عن النية هذا كلام الإمام في المعالم.
وقد اعترض عليه ابن التلمساني بأن السؤال لازم إذ الكلام مفروض فيما إذا ذكره ولم ينو شيئا ولا خلاف أنه يحمل على الطلاق فقوله إن نوى وإن نوى حيد عن السؤال ولك أن تعترض على الإمام أيضا بأنا لا نسلم أنه إن عنى بذلك الحقيقة المرجوحة يجب زوال القيد المخصوص وإنما يجب ذلك أن لو كان المطلق في سياق الإثبات للعموم الشمولي وإنما هو عموم بدلي فإذا عنى الحقيقة المرجوحة فإنما أراد حصول مطلق الحقيقة وهي أعم من القيد المخصوص فلا تحمل عليه إلا بدليل.
واعلم أن التمثيل بالطلاق من أصله فيه نظر متوقف على تحرير محل النزاع في المسألة وهو مهم وقد حرره المتأخرون من كتب الحنفية.
المجاز أقسام:
الأول: أن يكون مرجوحا.
والثاني: أن يساوي الحقيقة في الاستعمال فلا ريب في تقديم الحقيقة في هذين القسمين ولا خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف في ذلك وإن حصل وهم من بعض المصنفين في نقل الخلاف عنهما في القسم الثاني فلا يعبأ به.
والثالث: أن تهجر الحقيقة بالكلية بحيث لا تراد في العرف فقد اتفقا على تقديم المجاز مثل من حلف لا يأكل من هذه النخلة فإنه يحنث بثمرها لا بخشبها وإن كان هو الحقيقة لأن المجاز حينئذ إما حقيقة شرعية كالصلاة أو عرفية كالدابة وإذا عرفت هذا فتقول لا يستقيم التمثيل بالطلاق لأنه صار حقيقة عرفية أو شرعية عامة في حل قيد النكاح وهاتان الحقيقتان مقدمتان على الحقيقة اللغوية.

 

ج / 1 ص -317-       الرابع: أن يكون المجاز راجحا والحقيقة تتعاهد في بعض الأوقات نحو والله لأشربن من هذا النهر فإن شربه منه حقيقة في كرعه من النهر بفيه وإذا اغترف في الكوز وشرب فهو مجاز إذ شربه إنما هو من الكوز لا من النهر وإنما المجاز هنا راجح متبادر إلى الفهم وقد يراد الحقيقة فإن كثيرا من الناس يكرع بفيه فهذا هو محل النزاع.
خاتمة قد علمت أن الأصل في الإطلاق الحقيقة وقد يصرف اللفظ من حقيقته إلى مجازه لقرينة في مثل ما لو قال رهنت الخريطة ولم يتعرض لما فيها والخريطة لا يقصد رهنها في مثل هذا الدين فهل يجعل رهنا لما في الخريطة وإن كان مجازا للقرينة الحالية فيه وجهان.

قال السادسة يعدل إلى المجاز لثقل لفظ الحقيقة
كالخنفقيق أو حقارة معناه كقضاء الحاجة أو لبلاغة لفظ المجاز أو عظمه في معناه كالمجلس العالي أو زيارة بيان كالأسد.
هذه المسألة في السبب الداعي إلى التكلم بالمجاز وهو وجوه:
أحدها: ألا يكون للمعنى الذي عبر عنه بالمجاز لفظ حقيقي.
وثانيها: ألا يعرف المتكلم أو المخاطب لفظه الحقيقي.
وثالثها: أنه قد يكون معلوما لغير المتخاطبين كما هو معلوم لهما والمجاز قد لا يكون معلوما لغيرهما فيعبر عنه لئلا يطلع غيرهما على ذلك المعنى.
ورابعهما أن الإخفاء وإن كان غير مطلوب له لكن قد يثقل لفظه الحقيقة على اللسان سواء كان ذلك لمفردات حروفه أو لتنافر تركيب أو لثقل وزنه وقد ذكر في الكتاب من أمثلة هذا القسم الخنفقيق بفتح الخاء المعجمة وإسكان النون وفتح الفاء بعدها وكسر القاف بعدها ياء آخر الحروف ثم قاف وهو الداهية فلما كان هذا اللفظ أعني الخنفقيق ثقيلا على اللسان لاجتماع هذه الأمور الثلاثة فيه أعني ثقل الحروف والوزن وتنافر التركب حسن العدول عنه إلى المجاز بأن تقول وقع فلان في موت وما أشبهه.

 

ج / 1 ص -318-       فإن قلت إذا كان موضع الخنفقيق في اللغة الداهية فلا يحسن العدول عنه إلى المجاز مع وجود هذه اللفظة التي ليس فيها شيء من الأشياء الثلاثة.
قلت لعل المجاز هو العدول إلى الداهية.
فإن قلت هذا ينفيه قول الجوهري وهو ما ذكرتموه أن الخنفقيق هو الداهية والداهية ما يصيب الإنسان من نوب الدهر فإن مقتضى هذا أن يكون كل واحد من لفظي الخنفقيق والداهية دالا على النائبة.
قلت لمعنى الداهية لفظان:
أحدهما: يدل عليها بالحقيقة وهو الخنفقيق.
والثاني: بالمجاز وهو الداهية ولعل قول الجوهري الخنفقيق الداهية معناه أن الخنفقيق هو المعنى الذي يطلق عليه الداهية بطريق المجاز.
وخامسها: أن يستحقر لفظ الحقيقة عن أن يتلفظ به لحقارة معناه كما يعبر بالغائط عن الخراة.
وسادسها: أنه قد لا يصلح لفظ الحقيقة للسجع والتجنيس وسائر أصناف البديع أو لإقامة الوزن والقافية بخلاف لفظ المجاز وهذا مراد التصنيف بقوله لبلاغة لفظ المجاز.
وسابعها: أن التعبير بالمجاز قد يكون أدخل في التعظيم وأبلغ في المعنى كالمجلس العالي والجناب الشريف وما أشبه هذه الألفاظ فإنها أبلغ من قولك فلان.
وثامنها: أن يكون لزيادة بيان حال المذكور مثل رأيت أسدا فإنه أبلغ في الدلالة على الشجاعة لمن حكمت عليه بها من قولك رأيت إنسانا كالأسد شجاعة.
وتاسعها: أن المجاز قد يكون أدخل في التحقير.
وعاشرها: أن يكون المجاز أعرف من الحقيقة ولم يذكر في الكتاب من هذه الوجوه غير الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن.

 

ج / 1 ص -319-       قال السابعة اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازا
كما في الوضع الأول والأعلام قد لا يكون حقيقة ومجاز باصطلاحين كالدابة.
اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازا لغويا وقد يكون حقيقة ومجازا.
أما الأول: فمن اللفظ في أول الوضع قبل استعماله فيما وضع له أو في غيره ليس بحقيقة ولا مجاز لأن شرط تحقق كل واحد من الحقيقة والمجاز الاستعمال كما تقدم في تعريفهما فحيث انتفى الاستعمال انتفيا ومنه الأعلام المتجددة بالنسبة إلى مسمياتها فإنها أيضا ليست بحقيقة لأن مستعملها لم يستعملها فيما وضعت له أو لا بل إما أنه اخترعها من غير سبق وضع كما في الأعلام المرتجلة أو نقلها عما وضعت له كالمنقولة وليست بمجاز لأنها لم تنقل لعلاقة كما مر في المسألة الربعة وقد ظهر أن المراد بالأعلام هنا الأعلام المتجددة دون الموضوعة بوضع أهل اللغة فإنها حقائق لغوية لأسماء الأجناس وعلى هذا لا فرق في ذلك بين الأعلام المنقولة والمرتجلة على خلاف ما ظن الجاريردي شارح الكتاب حيث قال الذي يدور في خلدي أن المراد الأعلام المنقولة.
وأما الثاني: وهو أن اللفظ قد يكون حقيقة ومجازا فذلك بالنسبة إلى معنى واحد باعتبار اصطلاحين لأن اللفظ الموضوع للمعنى العام كالدابة الموضوعة لكل ما دب على الأرض إذا خصه العرف العام أو الشرع ببعض أنواعه كان ذلك اللفظ بالنسبة إلى ذلك المعنى حقيقة العام لغوية ومجازا عرفيا أو شرعيا وبالنسبة إلى ذلك النوع بالعكس ومن هذا يعرف أن الحقيقة قد تصير مجازا وبالعكس.
وأما بالنسبة إلى معنى واحد باعتبار واحد فذلك ممتنع لاستحالة النفي والإثبات.

قال الثامنة علامة الحقيقة سبق الفهم والعراء عن القرينة.
اعلم أن الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالتنصيص أو الاستدلال أما التنصيص فمن وجهين:

 

ج / 1 ص -320-       أحدهما: أن يقول الواضع هذه حقيقة وذاك مجاز وتقول ذلك أئمة اللغة قال الهندي لأن الظاهر أنهم لم يقولوا ذلك إلا عن فقه.
والثاني: أن يقول الواضع هذه حقيقة أو هذا مجاز فيثبت بهذا أحدهما وهو ما نص عليه وزاد الإمام ثالثا وهو أن يذكروا خواصهما وفيه نظر فإنه يندرج في قسم الاستدلال ولا يعد من التنصيص وأما الاستدلال فبالعلامات وهذا القسم هو الذي ذكره المصنف وذكر فيه لكل من الحقيقة والمجاز علامتين:
العلامة الأولى: من علامتي الحقيقة تبادر الذهن إلى فهم المعنى من غير قرينة.
فإن قلت ماذكرتم منقوض طردا وعكسا أما الطرد فلأن المجاز المنقول والمجاز الراجح مما يتبادر معنى كل منهما المجازي من غير قرينة دون حقيقتيهما وأما العكس فلأن المشترك حقيقة في مدلولاته مع عدم تبادر شيء منها إلى فهم.
قلت أما المنقول فغير وارد لأن المنقول إليه إنما يتبادر لأنه حقيقة فيه وكونه مجاز فيه أيضا لا ينافي كونه حقيقة فيه لما عرفت من أن اللفظ الواحد قد يكون حقيقة ومجازا وأما عدم تبادر الحقيقة الأصلية فلصيرورتها الآن مجازا عرفيا وأما المجاز الراجح فقال صفي الدين الهندي هو نادر والتبادر في الأغلب يختص بالحقيقة وتخلف المدلول على الدليل الظني لا يقدح فيه ألا ترى أن الغيم الرطب في الشتاء دليل وجود المطر وتخلفه في بعض الأوقات لا يقدح في كونه دليلا عليه لا سيما في المباحث اللغوية والأمارات الإعرابية وأما اللفظ المشترك فأحسن ما يجب به عنه أن التعريف بالعلامة لا يشترط فيه الانعكاس.
والعلامة الثانية: العراء عن القرينة يعني أنا إذا سمعنا أهل اللغة يعبرون عن معنى واحد بعبارتين ويستعملون إحداهما بقرينة دون الأخرى

 

ج / 1 ص -321-       فتعرف أن اللفظة في المستعمل حقيقة دول القرينة لأنه لولا استقرار أنفسهم على تعين ذلك اللفظ لذلك المعنى بالوضع لم يقتصروا عليه عادة قال وعلامة المجاز الإطلاق على المستحيل مثل وأسأل القرية والأعمال في المنسى كالدابة للحمار.
العلامة الأولى: من علامتي المجاز إطلاق اللفظ على ما يستحيل تعلقه به إذ الاستحالة تقتضي أنه غير موضوع له فيكون مجازا ومثل في الكتاب له بقوله تعالى
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي لأنه لما علم امتناع سؤال الأبنية المجتمعة المسماة بالقرية علم أنه مجاز والتقدير وأسأل أهل القرية وفي هذا المثال من النظر ما قدمته.
العلامة الثانية: أن يستعمل اللفظ في المعنى المنسي بأن يكون موضوعا لمعنى له أفراد فيترك أهل العرف استعماله في بعض تلك الأفراد بحيث يصير ذلك البعض منسيا ثم يستعمل اللفظ في ذلك المعنى المنسي فيكون مجازا عرفيا مثال ذلك لفظ الدابة فإنه موضوع لكل ما يدب على الأرض فيترك أهل بعض البلدان استعمالها في الحمار بحيث نسي إطلاقها عليه عندهم.
وأعلم أن إطلاقها على غير المنسي مجاز لغوي لا قصرها على الحمار ببلاد مصر وعلى الفرس بالعراق وضع غير الوضع الأول كذا ذكروه وقد يقال إن استعملها المتكلم ملاحظا للوضع الأول كان حقيقة وإلا مجازا فالوضع الثاني لا يخرج الأول عما وضع له