الإبهاج في شرح المنهاج ج / 2 ص -369-
الباب الثاني في أنواع الإجماع
قال الباب الثاني في أنواع الإجماع وفيه مسائل
الأولى إذا
اختلفوا على قولين فهل لمن بعدهم احداث الثالث
والحق أن الثالث ان لم يرفع مجمعا عليه جاز وإلا فلا مثاله
قيل في الجد مع الأخ الميراث للجد وقيل لهما فلا سبيل إلى
حرمانه.
لك هنا مناقشتان.
إحداهما: كان من جنس الوضع تأخير هذا
الباب عن الذي بعده وهو الثالث في شرائط الإجماع.
والثانية: أن الإجماع شيء واحد ليس تحته
أنواع لكنه أراد الأنواع ما لا يكون إجماعا عند طائفة دون
الآخرين وهو إجماع بالإتفاق ثم عرض الفصل أنه اختلف أهل
العصر في المسألة على قولين هل يجوز لمن بعدهم احداث قول
ثالث وفيه ثلاثة مذاهب.
الأول: المنع مطلقا وعليه الجمهور.
والثاني: الجواز مطلقا وعليه طائفة من
الحنفية والشيعة وأهل الظاهر.
والثالث: وهو الحق عند المتأخرين وعليه
الإمام وأتباعه الآمدي أن الثالث ان لزم رفع ما أجمعوا
عليه لم يجز أحداثه والإجاز مثال الأمل إذا مات رجل وخلف
جدا وأخوة ذهب بعض العلماء إلى الاشتراك وذهب الباقون إلى
سقوط الأخوة بالجد فلو قال باسقاط الجد بالأخوة لم يجز
لأنه رافع لأمر مجمع عليه مستفاد من القولين المتقدمين وهو
أن الجد إما منفردا أو مشاركا للأخوة فإذا أسقطنا
ج / 2 ص -370-
الجد
فقد رفعنا أمرا مجمعا عليه وهذا المثال سبق المصنف بذكره
الإمام والآمدي وغيرهما وهو صحيح.
وإن صح ما نقله ابن حزم الظاهري من ذهاب بعضهم إلى انفراد
الأخ بالمال لأن الإجماع وقع بعد ذلك على خلافة ومن أمثلته
أيضا الجارية الثيب إذا وطئها المشتري ثم وجد عيبا قديما.
قال بعضهم تمنع الرد وقال آخرون بالرد مع العقد فالقول
بالرد مجانا ثالث كذا صوره الآمدي في الثيب وابن الحاجب في
البكر فإن قلت كيف.
قال الشافعي رضي الله عنه ومالك والليث بالرد مجانا قلت لم
يثبت تكلم جميع الصحابة في المسألة بل كان القولان ممن
يتكلم فيها فقط ولو فرض كلام جميعهم فلا نسلم استقرار
رأيهم على قولين
وهذا الفرض على تقرير صحة اختلاف الصحابة بل قد روي عن زيد
بن ثابت مثل قولنا ثم أن المنقول عن علي وعمر لم يصح.
قال والدي رحمه الله أيده الله وقد وقعت على أسانيد وردت
في ذلك عنهما فرأيتها كلها ضعيفة وأمثلها الرواية عن علي
وهي منقطعة لأنها من رواية علي بن الحسين وهو لم يدرك جده.
ومثال الثاني: وهو ما لم يرفع مجمعا عليه ولم يمثل له في
الكتاب قيل يجوز فسخ النكاح بأحد العيوب الخمسة وقيل لا
يجوز بشيء منها فالقول بالفسخ بالبعض دون بعض ليس رافعا
لما أجمعوا عليه بل هو موافق لكل من القولين في بعض مقالته
ومثاله أيضا قيل يحل أكل متروك التسمية سهوا وعمدا وقيل لا
يحل لا سهوا ولا عمدا فالقول بالحل في السهو دون العمد
جائز.
قال قيل: اتفقوا على عدم الثالث قلنا كان مشروطا بعدمه
فزال بزواله قيل وارد على الوحداني قلنا لم يعتبر فيه
إجماعا.
احتج الجمهور وهم المانعون مطلقا بوجهين.
أحدهما: أن اختلافهم على قولين إجماعا على
أنه يجب الأخذ بأحدهما ولا يجوز العدول عنهما وتجويز القول
الثالث مبطل فكان مبطلا للإجماع وذلك باطل.
ج / 2 ص -371-
والجواب الأخذ بأحد القولين وعدم جواز غيرهما مشروط بعدم
حدوث ثالث فإذا حدث ثالث انتفى شرط الإتفاق على وجوب هذا
الأخذ بأحد القولين وامتناع الثالث.
وأعترض الخصم على هذا الجواب بأنه وارد على الوحداني إذا
الشبهة قائمة بعينها فيقال إنما اوجبوا التمسك بالإجماع
على القول الواحد بشرط أن لا يظهر الثاني فإذا ظهر فقد زال
شرطه فيجوز القول بخلافه.
واجيب عنه بأن الإحتمال وإن كان قائما في الإجماع على
القول الواحد لكنهم منعوا فيه من إحداث ما يخالفه وجزموا
بوجوب الأخذ به دائما بخلاف ما إذا إختلفوا على قولين فلم
يعطلوا بنفي الإحتمال المذكور فليس لنا أن نحكم عليه
بالتسوية وهنا كلامان.
أحدهما: أن في صحة وقوع اشتراط عدم إحداث
الثالث في الإجماع على أحد القولين نظرا ومن نقل ذلك.
والثاني: أنه مبني على أنه لا يجوز حدوث إجماع بعد اجماع
سبق على خلافه وقد ذهب أبو عبد الله إلى أنه يجوز لكن لا
يقع وقال الإمام أنه الاولى كما سيأتي.
قال قيل اظهاره يستلزم تخطئة الأولين وأجيب بأن المحظور هو
التخطئة في واحد وفيه نظر.
والوجه الثاني: أن الذهاب إلى الثالث إنما يجوز لو أمكن
كونه حقا ولم يكن ذلك إلا أن يكون القولان باطلين ضرورة أن
الحق واحد.
وحينئذ يلزم إجماع الأمة على الخطأ.
وأجيب بأن المحظور وهو تخطئة الأمة في حكم واحد أجمعوا
عليه كثبوت حظ الجد مثلا في الميراث.
أما تخطئة كل فريق في حكم فلا محذور فيه.
قال صاحب الكتاب وفيه نظر ووجهه أنه إذا أخطأت كل الأمة في
ج / 2 ص -372-
شيئين
كل شطر في شيء دخل تحت عموم قوله لا تجتمع امتي على خطأ
ومن خطأ كل فريق في قوله فقد خطأ كل الأمة وهذا النظر له
أصل مختلف فيه وهو أنه هل يجوز إنقسام الأمة إلى شطرين كل
شطر مخطيء في مسألة.
والأكثر على أنه يجوز.
واختار الآمدي خلافه وأعلم أن الجواب من أصله لم يذكره
الإمام بل قال هذا الإشكال غير الوارد على القول بأن كل
مجتهد مصيب فإنه لا يلزم من حقية أحد الأقسام فساد الباقي
سلمنا لكن لا يلزم الذهاب إلى القول الثالث كونه حقا لأن
المجتهد يعمل بما أداه إليه اجتهاده وإن كان خطأ في نفس
الأمر ولك أن تقول على هذا إذا كان الذهاب إلى الثالث
يستلزم الخطيئة وإنها ممتنعة فقد علم أن الذهاب إلى الثالث
خطأ فلا يذهب إليه.
قال الثانية: إذ لم يفصلوا بين مسألتين فهل لمن
بعدهم التفصيل
والحق والحق أن نصوا بعدم الفرق أو اتحاد الجامع كتوريث
العمة والخالة لم يجز لأنه رفع مجمع عليه وإلا جاز ولا يجب
على من ساعد مجتهدا في حكم مساعدته في جميع الأحكام.
لعلك تقول ما الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها مع أن
القول بالتفصيل إحداث لقول ثالث ويعتضد بأن الآمدي لم يفرد
هذه المسألة بالذكر بل ذكرها في ضمن تلك.
وحاصل ما ذكره القرافي في الفرق أن هذه المسألة مخصوصة بما
إذا كان محل الحكم متعددا والأولى مخصوصة بما إذا كان
محمله متحدا ان أهل العصر لم يفصلوا بين مسألتين بأن ذهب
بعضهم إلى الحل فيهما والآخرون إلى التحريم فيهما وأراد من
بعدهم الفصل فهذا يقع على أوجه.
أحدهما: أن ينصوا على عدم الفرق بأن يقولوا لا فصل بين
هاتين المسألتين في كل الأحكام أو في الحكم الفلاني فإنه
يجوز الفصل بينهما وكلام الكتاب يوهم أن الخلاف جار فيه
وصرح فيه الجار بردي وهو صحيح وإن أنكره طوائف من شارحي
الكتاب.
ج / 2 ص -373-
فقد
حكاه القاضي أبو بكر في مختصر التقريب والإرشاد.
قال واحتج قائله بإن الاجماع على منع التفرقة ليس باجماع
على حكم من الأحكام فلا معول عليه لكنه كما قال القاضي غلط
ومراغمة لما قاله الأمة صريحا.
وقوله ليس من الأحكام باطل لأنهم إذا أجمعوا على منع الفصل
فقد أجمعوا على منع التحريم في إحداهما مع التحليل في
الأخرى أو بالعكس.
وهذا تعرض لحكم نفيا وإثباتا.
والثاني: أن لا ينصوا على ما ذكرنا بل يعلم اتحاد الجامع
بين المسألتين لذلك جار مجرى النص على عدم الفرق مثاله من
ورث العمة ورث الخالة ومن منع إحداهما منع الأخرى.
وإنما جمعوا بينهما من حيث أنه انتظمهما حكم ذي الارحام
قال الإمام فهذا ومما لا يسوغ خلافهم فيه بتفريق ما جمعوا
بينهما إلا أن هذا الإجماع متأخر عن سائر الإجماعات في
القوة وذهب بعض الناس إلى خلاف فيه.
والثالث: وإليه الإشارة بقوله وإلا جاز ان
لا يكون كذلك فقيل لا يجوز الفرق والحق جوازه وقوله وألا
يجب إشارة إلى الدليل عليه أي لو لم يجز لكان الدليل هو
أنه وافقه في مسألة ويلزم على ذلك أن من وافق مجتهدا في
مسألة لدليل أن يوافقه في كل المسائل وهو باطل ويلزم منه
سد باب الإجتهاد.
فائدة: ظاهر كلام الإمام والمصنف أن نحو قول بعضهم لا يقتل
المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب وقول بعضهم يقتل ويصح
جريان خلاف في أنه هل يجوز الفصل فيقال يقتل المسلم بالذمي
ولا يصح بيع الغائب أو العكس وبه يشعر إيراد القاضي في
مختصر التقريب.
وصرح الآمدي بنفي الخلاف في ذلك وما اقتضاه كلام الإمام
غير بعيد لأن التفصيل فيه يؤدي إلى تخطئة كل الأمة إذ يلزم
خطأ شطرهم في جواز قتل المسلم بالذمي وخطأ الشطر الآخر في
منع الغائب.
ج / 2 ص -374-
وقد
تقدم أن الأكثرين منعوا إنقسام الأمة إلى فرقتين كل فرقة
خاطئة في مسألة وقد يقال لا يلزم من الذهاب إلى التفصيل
كونه حقا في نفس الأمر بل يكفي أن يكون في ظن المجتهد كذلك
وقد سبق هذا.
قال: قيل أجمعوا على الاتحاد قلنا عين الدعوى قيل قال
الثوري الجماع ناسيا يفطر الصائم والأكل لا قلنا ليس
بدليل.
احتج من منع الفصل مطلقا بأن الأمة إذا قال نصفها بالحرمة
في المسألتين وقال النصف الآخر بالحل فيهما فقد اتفقوا على
اتحاد الحكم في المسألتين وأنه لا فصل بينهما فيكون الفصل
ردا للإجماع.
وجوابه أنه إن عنى بقوله اتفقوا على أنه لا فصل بينهما
أنهم نصوا على استوائهما في الحكم وهما مستويان في علة
الحكم فليس كذلك لأن النزاع ليس في هذا وان أراد أن ذلك
لازمه فليس كذلك لأنه لا يلزم من عدم التعرض لتحريم
التفصيل الحكم بتحريمه واتحاد الحكم وهذا عين الدعوى وأول
المسألة واحتج من أجاز الفصل مطلقا بأنه وقع الا ترى إلى
ذهاب بعض العلماء إلى أن الجماع ناسيا يفطر والأكل ناسيا
لا يفطر.
وقال بعضهم لا يفطر واحد منهما ثم فرق سفيان الثوري رضي
الله عنه فقال الجماع ناسيا يفطر والأكل لا لبعد النسيان
في الجماع دون الأكل وأضرب الإمام عن الجواب عن هذا لوضوحه
وأجاب المصنف بأن قول الثوري ليس حجة علينا وقد يجاب أيضا
بانهم ينصون في هذه الصورة على عدم الفرق أو اتحاد الجامع
وبأن فتيا الثوري بتلك لعلها قبل إستقرار المجمعين على
القولين المطلقين.
قال: الثالثة يجوز الاتفاق بعد الاختلاف خلافا للصيرفي لنا الإجماع على الخلافة بعد الاختلاف وله ما سبق.
للمسألة تشعب في النظر وشفا الغليل فيها أن يقال هل يجوز
أن يجمع على شيء سبق خلافه وذلك على حالتين.
الأولى: ولا تعرض لها في الكتاب أنه هل يجوز انعقاد
الإجماع بعد إجماع على خلافه ذهب الأكثرون إلى المنع وذهب
أبو عبد الله البصري إلى الجواز قال الإمام
ج / 2 ص -375-
وهو
الأولى لأنه لا إمتناع في إجماع الأمة على قول بشر أن لا
يطرأ عليه إجماع آخر ولكن إتفق أهل الإجماع على أن كل
أجمعوا عليه فإنه يجب العمل به في كل الأعصار أمنا من وقوع
هذا الجائز.
الثانية: ان يختلف أهل العصر على قولين في
مسألة ثم يقع الإجماع على أحدهما فللخلاف حالتان.
إحداهما: أن يستقروا ولم يتعرض لها الآمدي
في الأحكام فالجمهور على جواز وقوع الإجماع بعده وخالف أبو
بكر الصيرفي كما اقتضاه إطلاق الإمام وشيعته.
والثانية: ان يستقر ويمضي أصحاب الخلاف
عليه مدة وفيه مسألتان.
إحداهما: إذا اختلف أهل العصر على قولين
فهل يجوز لأهل ذلك العصر بعينهم بعد استقرار الخلاف
الإتفاق على أحد القولين والمنع من المصير إلى القول الآخر
فيه خلاف ينبني على اشتراط إنقراض العصر في الإجماع فإن
إشترطنا جاز بلا نظر وإلا ففيه مذاهب.
أحدهما: وهو إختيار الإمام أنه لا يجوز مطلقا.
والثاني: وهو اختيار الآمدي عكسه.
والثالث: يجوز إن كان مستند اتفاقهم على الخلاف القياس
والإجتهاد لا دليل قاطع.
المسألة الثانية: إذا اختلفوا على قولين
ومضوا على ذلك فهل يتصور انعقاد إجماع العصر الثاني بعدم
على أحدهما حتى يمتنع المصير إلى القول الآخر ذهب الشيخ
أبو الحسن الأشعري وأحمد بن حنبل والصيرفي وإمام الحرمين
والغزالي إلى امتناعه واختاره الآمدي.
وذهب الجمهور إلى الجواز وتبعهم ابن الحاجب إذا عرفت
فاستدلال المصنف على جواز وقوع الإجماع بعد الاختلاف
باتفاق الصحابة على إمامة أبي بكر بعد اختلافهم فيها وهو
دليل على المسألة الأولى ومثله الاستدلال بأجمعهم
ج / 2 ص -376-
على
دفنه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعد خلافهم ولك أن
تمنع أن كلا منهما كان جازما بمقالته ونقول إنما كان
إختلافهم على سبيل المشورة ولم يستقر لأحد منهم الجزم
بشيء.
واستدل للمسألة الثانية باتفاق التابعين على المنع من بيع
أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة.
قوله وله ما سبق أي وللصيرفي ما سبق في منع أحداث قول ثالث
وتقريره أن إختلافهم إجماع على جواز الأخذ بأي قول كان.
فلو انعقد الإجماع لامتنع الأخذ بما أجمعوا على جواز الأخذ
به فلزم رفع الإجماع بالإجماع.
وجوابه ما سبق أنهم إنما جوزوا بشرط أن لا يحصل إجماع
والله أعلم.
وأنت إذا إنتهى بك التفهم فيما أوردناه إلى هنا علمت أن
المسألة في كلام صاحب الكتاب غير مختصة بما إذا أجمع أهل
ذلك العصر الذي اجمعوا بعينهم بل هي أعم من المسألتين ولم
تغتر بتخصيص بعض الشارحين لها بالمسألة الأولى مغترا
باقتصار المصنف من الدليل على مثال وقع الإجماع في صورته
بعد الاختلاف ممن حصل منهم الاختلاف.
قال: الرابعة الاتفاق على أحد قولي الأولين كالاتفاق على حرمة بيع أم الولد والمتعة إجماع خلافا لبعض
المتكلمين والفقهاء لنا سبيل المؤمنين قيل فإن تنازعتم
أوجب الرد إلى الله قلنا زال الشرط قيل أصحابي كالنجوم
قلنا الخطاب مع العوام الذين عصرهم قيل اختلافهم إجماع على
التخبير قلنا زال لزوال شرطه.
مضى
الكلام في تصور وقوع الإجماع بعد الإختلاف والنظر الآن في
أنه إذا هل يكون حجة ولوقوعه حالتان:
إحداهما: أن يقع من أهل العصر الثاني الإجماع على إحدى
مقالتي أهل العصر الأول كوقوع الإجماع عل منع بيع أم الولد
من البائعين بعد اختلاف
ج / 2 ص -377-
الصحابة فيها وعلى أن نكاح المتعة باطل مع أن ابن عباس رضي
الله عنه كان يفتي بالجواز قال بعض الشارحين وفي المثالين
نظرا أما الأول فلمخالفة بعض الشيعة وكونه قولا للشافعي
ولك أن تقول أما مخالفة بعض الشيعة فلا اعتداد بها وأما
كونه قولا للشافعي فليس كذلك إذ لم ينص على ذلك لا في
القديم ولا في الجديد وإنما قيل إن في كلامه ميلا إليه.
وذهب معظم الأصحاب إلى أن هذا إختلاق قول قال وأما الثاني
فلبقاء المخالفة فيه من ذفر ولك أن تقول إن صح عنه فلا
اعتداد بخلافه بعد قيام الإجماع قبله وبعد أن قاس على
خلافه وفي شرح الجاربردي أن مراد المصنف بالمتعة التمتع
شرحه بأن عثمان كان ينهى عنه ثم صار إجماعا أنه جائز إذا
عرفت ذلك فهذه الحالة هي مسألة الكتاب والذي عليه المصنف
تبعا للإمام والجمهور أنه إجماع تقوم به الحجة وتحرم
مخالفته.
وذهب كثير من الشافعية ومن المتكلمين والحنفية إلى خلافه
لنا إذ ما أجمع عليه أهل العصر الثاني سبيل المؤمنين فيجب
أتباعه لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين احتجوا بثلاثة
أوجه.
أحدها: قوله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ}1أوجب الرد إلى كتاب الله والرسول عند التنازع فيجب أن يرد إليهما
دون الإجماع وأجيب بوجهين.
أحدهما: وهو المذكور في الكتاب أن وجوب
الرد مشروط بالتنازع والتنازع قد زال بخصوص الإجماع فزال
وجوب الرد لزوال شرطه وهو النزاع ولك أن تقول لاخفاء في
وجود النزاع قبل حصول الإجماع فكان يجب رده ولا يجوز
الإجماع.
الثاني: وهو حسن الرد أن الإجماع رد إلى
الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
وثانيها: ما روي من قوله صلى الله عليه
وسلم:
"أصحابي كالنجوم بأيهم إقتديتم إهتديتم"
جوز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 59.
ج / 2 ص -378-
الأخذ
بقول كل منهم ولم يفصل بين ما يكون بعده إجماع أو لا فلو
وجب الأخذ بقول أهل الإجماع للزم التخصيص وأعلم أن هذا
الحديث رواه ابن منده أن أبا الإمام أبا عبد الله محمد بن
إسحاق بن منده أن أبا الحسين عمر بن الحسن بن علي حدثنا
عبد الله بن روح المدايني حدثنا سلام بن سليمان حدثنا
الحارث بن عصين عن الأعمش عن ابن أبي سفيان عن جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وروى نعيم بن حماد الخزاعي عن عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن
سعيد ابن المسيب عن عمر مرفوعا سألت ربي فيما اختلف فيه
أصحابي من بعدي فاوحى إلي يا محمد أن أصحابك عندي بمنزلة
النجوم بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه على
اختلافهم عندي على هدى.
وهذا حديث قال فيه أحمد لا يصح ثم أنه منقطع قال ابن
المسيب لم يسمع من عمر شيئا.
وأجاب بأن الخطأ ليس لجميع الصحابة ولا للمجتهدين منهم إذ
ليس إتباع واحد منهم للآخر أولى من العكس فتعين أن يكون
الخطاب مشافهة للعوام الذين في عصر الصحابة وإذا كان كذلك
وقد انفرضوا فعوام العصر الثاني وخواصهم غير مخاطبين بهذا
الحديث ولم يذكر الإمام هذا الجواب بل أجاب بتخصيص الحديث
بتوقف الصحابة في الحكم حال الاستغلال مع عدم جواز
الاقتداء في ذلك بعد انعقاد الاجماع فوجب تخصيص الإجماع
عنه والجامع بينهما تصحيح الاجماع المنعقد أخيرا ولك أن
تقول على جواب المصنف خطاب المشافهة يعم كل العوام وإلا
لزم أن يكونوا كذا يكون مخاطبين وليس كذلك على جواب الإمام
أنه إذا خص من العموم صورة لا يلزم تخصيص غيرها وهذا ذكره
القرافي.
وقد يقول من ينصر الإمام إذا خصت صورة لمعنى وجد في صورة
أخرى قيست على المخصوصة وأخرجت من العموم ويفرق من يعضد
القرافي لأن
ج / 2 ص -379-
الاقتداء بهم في التوقف مخل بمقصود التكليف فلذلك امتنع
بخلاف الاقتداء بهم في القول الآخر.
وثالثها: وإليه الإشارة بقوله إجماع على
التخيير أن في ضمن اختلاف أهل العصر الأول الاتفاق على
جواز الأخذ بايهما أريد فلو انعقد الإجماع الثاني لتدافع
الاجماعان وأجاب بأن إجماعهم على التخيير بين القولين
مشروط بأن لا يحدث إجماع فلما زال الشرط بحصول الإجماع زال
المشروط وهو التخيير.
الحالة الثانية: وليست في الكتاب أن يختلف
أهل العصر ثم يقع الرجوع منهم بأعيانهم فقيل ليس بحجة وقيل
حجة يحرم مخالفته وهو مختار الإمام ولقوله:
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وعليك باعتبار الأجوبة المتقدمة وأجوبتها هنا.
وقال الخامسة: إن اختلفت الأمة على قولين فماتت
إحدى الطائفتين
يصير قول الباقين حجة لأنهم محل الأمة.
إذا اختلفت الأمة على قولين ثم ماتت إحدى الطائفتين أو
كفرت قال الإمام وأتباعه يصير القول الآخر مجمعا عليه لأنه
عند الموت أو الكفر بتبين باندراج قول تلك الطائفة الأخرى
تحت أدلة الإجماع لصيرورتهم حينئذ كل الأمة وإنما قلت عند
الموت ولم أقل بالموت لسؤال يرد فيقال يلزم أن يكون قول
الباقين حجة لأجل موت أولئك وليس موتهم مناسبا لكون قول
الباقين حجة وجوابه أن قولهم صار حجة عند الموت لأنه إذ
ذاك قول كل المؤمنين لا بالموت.
وقال الآمدي: إنه لا يكون إجماعا ذكره في آخر المسألة
الثانية والعشرين.
قال السادسة: إذا قال البعض وسكت الباقون فليس
بإجماع ولا حجة
وقال أبو علي إجماع بعدهم وقال إنه هو حجة لنا ربما سكت
لتوقف او خوف أو تصويب كل مجتهد قيل يتمسك بالقول المنتشر
ما لم يعرف له مخالفا وجوابه المنع وأنه إثبات الشيء
بنفسه.
إذا قال بعض المجتهدين قولا في المسائل التكليفية
الاجتهادية وعرفه الباقون وسكتوا عن الإنكار فإن ظهرت
عليهم أمارات الرضا بما ذهبوا إليه فهو إجماع بلا خلاف.
ج / 2 ص -380-
قال
القاضي عبد الوهاب من المالكية والقاضي الروياني من
أصحابنا وقضية ذلك أنه إن ظهرت عليهم أمارات السخط لا يكون
إجماعا بلا نزاع وكلام الإمام كالصريح في أن الخلاف جار
وإن ظهرت أمارات السخط فإنه قال السكوت يحتمل وجوها سوى
الرضا وعد منها أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول قال
وقد يظهر عليه قرائن السخط وإلا شبه أن هذا ليس من محل
الخلاف وإن لم يظهر عليهم شيء سوى السكوت ففيه مذاهب.
أحدها: أنه ليس باجماع ولا حجة وبه قال
الغزالي والامام وأتباعه ونقله هو والآمدي عن الشافعي لكن
قال الرافعي المشهور عند الأصحاب أن الإجماع السكوتي حجة
لأنهم لو لم يساعدوه لاعترضوا عليه وهل هو إجماع أو لا فيه
وجهان وقال الشيخ أبو إسحاق في اللمع أنه إجماع على
المذهب.
والثاني: أنه إجماع بعد انقراض العصر وبه
قال أبو علي الجبائي والإمام أحمد وهو أحد الوجهين عندما
نقله الرافعي.
الثالث: أنه حجة وليس إجماعا وذهب إليه
أبو هاشم بن أبي علي وهو المشهور عند أصحابنا كما نقله
الرافعي وهل المراد بذلك أنه دليل آخر من أدلة الشرع غير
الإجماع أو أنه ليس إجماع قطعي بل ظني النظر مضطرب في ذلك
ويؤيد الأول قول الماوردي والقول والثاني أنه لا يكون
إجماعا قال الشافعي من نسب إلى ساكت قولا فقد كذب عليه
فاقتضى أن الساكت لا ينسب إليه قول لا ظنا ولا قطعا ويعضد
الثاني قول أبي عمرو بن الحاجب في المختصر الكبير هو حجة
وليس بإجماع قطعي.
والرابع: ذهب إليه أبو علي بن أبي هريرة
إن كان هذا القول من حاكم لم يكن إجماعا ولا حجة وإلا
فإجماع لأن الاعتراض على الحاكم ليس من الأدب فلعل السكوت
صلى الله عليه وسلم لذلك وأيضا فالحكم في المختلف فيه لا
ينكر ويصير مجمعا عليه بخلاف الفتيا.
والخامس: عكس ذلك لأن الحكم إنما يصدر بعد
بحث واتقان بعد الكلام مع العلماء وتصويبهم لذلك فإذا
سكتوا عن الحكم جعل ذلك إجماعا وأما الفتيا
ج / 2 ص -381-
فلا
يحتاط فيها كالحكم وذهب إلى هذا أبو إسحاق المروزي ثم
استدل صاحب الكتاب على ما ذهب إليه هو وإمامه من أنه ليس
بإجماع ولا حجة بأن السكوت يحتمل وجودها سوى الرضا وهي
كثيرة.
أحدها: أنه كان في مهلة النظر.
الثاني: أن يكون في باطنه مانع من إظهار
القول وهو الخوف.
والثالث: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا
يرى الإنكار فرضا وقد ذكر هذه الأوجه في الكتاب.
والرابع: ربما رآه قولا شائعا لمن أداه
إليه اجتهاده وإن لم يكن موافقا عليه
الخامس: ربما أراد الإنكار ولكنه ينتهز
فرصة التمكن منه ولا يرى المبادرة اليه مصلحة.
والسادس: أنه لو أنكر لم يلتفت إليه.
والسابع: ربما سكت لظنه أن غيره قام مقامه
في ذلك وإن كان قد غلط فيه.
والثامن: ربما رأى ذلك الخطأ من الصغائر
فلم ينكر وإن احتمل السكوت هذه الجهات كما احتمل الرضا
علمنا أنه لا يدل على الرضا لا قطعا ولا ظنا هذا وهذا معنى
قول الشافعي لا ينسب إلى ساكت قول ولقائل أن يقول ما انها
لا تدل على الرضا قطعا فمسلم وأما ظاهر فممنوع أن هذه
الاحتمالات مرجوحة بالنسبة إلى احتمال الرضا وذلك ما هو
ظاهر الفساد كالثامن فإن الصغيرة يجب إنكارها كما يجب
انكار الكبيرة قال القرافي وقد اختلف الناس في المندوبات
والمكروهات هل يدخلها الأمر والإنكار أم لا وأما الواجبات
والمحرمات صغائر كانت أم كبائر فيدخلها الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر إجماعا واحتج أبو هاشم بما ذكره في
الكتاب من أن الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في
الصحابة إذا لم يعرف له مخالف وجوابه أن ذلك ممنوع ولو سلم
فالاستدلال به إنما يتم أن لو كان الإجماع السكوتي حجة إذ
هو عينه فلو شئتم الإجماع به لأثبتم الشيء بنفسه.
ج / 2 ص -382-
وفي
عبارة المصنف كما قال الجاربردي تساهل لأنه إثبات للشيء
بفرد من أفراده لا بنفسه ولم يذكر المصنف حجة أبي علي
والرد عليها لأنه إذا بطل كونه حجة بطل كونه إجماعا وهذا
من حسن الاختصار رحمه الله.
قال: فرع قول البعض فيما تعم به البلوني كقول البعض وسكوت
الباقين.
هذه المسألة فيما إذا قال بعض أهل العصر قولا ولم يعلم له
مخالف ولا أنه بلغ جميع أهل العصر وليست مختصة بعصر
الصحابة على خلاف ما صوره الإمام وتلك المسألة فيما إذا
نقل أنه بلغ جميعهم وسكتوا عليه.
وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنه ليس بإجماع ولا حجة لأن
الإجماع السكوتي إنما كان حجة إجماعا لأن بعضهم قال الحكم
وسكت الباقون مع العلم به فلو كان ذلك الحكم خطأ لحرم
عليهم السكوت عن الإبتكار فالسكوت دليل الرضا وهذا لا يمكن
حمل السكوت على الرضا لاحتمال أن يكون ذلك لعدم العلم به.
وثانيها: أنه كالسكوتي حتى يجري فيه
الخلاف المتقدم لأنه الظاهر مع الاشتهار وصوله إليهم.
وثالثها: وهو الحق عند الإمام وأتباعه وبه
جزم منهم المصنف أن هذا القول إن كان فيما يعم البلوى كنقض
الوضوء بمس الذكر كان كالسكوت إذ لا بد لمن انتشر فيهم من
قول لكنه لم يظهر وإلا لم يكن إجماعا ولا حجة لاحتمال ذهول
البعض عنه.
واعلم أن الآمدي صور المسألة بما إذا ذهب واحد من أهل
العصر إلى حكم ولم ينتشر بين أهل العصر لكنه لم يعرف له
مخالف وتبعه ابن الحاجب في شرطه عدم الانتشار وظاهر كلام
الإمام وصرح به صفي الدين الهندي وتصوبه المسألة بما إذا
انتشر.
واعلم أنه لا مخالفة بين الكلامين فإن الانتشار في كلام
الآمدي محمول على الشهرة وإن لم يعلم أنه بلغ الجميع
والانتشار المنفي في كلام الآمدي هو الانتشار بحيث يبلغ
الجميع وسكتوا عنه. |