الإبهاج في شرح المنهاج ج / 2 ص -383-
الباب الثالث في شرائطه
قال: الباب
الثالث في شرائطه وفيه مسائل:
الأولى: أن يكون
فيه قول كل عالمي ذلك الفن فإن
قول غيرهم بلا دليل فيكون خطأ فلو خالف واحد لم يكن سبيل
الكل.
قال الخياط وابن جرير وأبو بكر الرازي المؤمنون يصدق على
الأكثر قلنا مجاز قالوا عليكم بالسواد الأعظم.
قلنا: يجب عدم الالتفات إلى مخالفة الثالث.
يشترط في الإجماع في كل فن من الفنون أن يكون فيه قول كل
العارفين بذلك الفن في ذلك العصر فإن قول غيرهم فيه يكون
بلا دليل لجهلهم به فيكون خطأ فيشترط في الإجماع على
المسألة الفقهية قول جميع الفقهاء والأصولية قول الأصوليين
وهكذا ولا عبرة بقول العوام وفاقا ولا خلافا عند الأكثرين.
وقال الأقلون يعتبر قولهم لأن قول الأمة إنما كان حجة
لعصمتها عن الخطأ ولا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة
الاجتماعية من الخاصة والعامة وحينئذ لا يلزم من ثبوت
العصمة للكل ثبوتها للبعض الآخر.
وهذا ما اختاره الآمدي وهو مشهور عن القاضي نقله الإمام
وغيره وينبغي أن يتمهل في هذه المسألة فإن الذي قاله
القاضي في مختصر التقريب ما نصه الاعتبار في الاجماع
بعلماء الأمة حتى لو خالف واحد من العوام ما عليه العلماء
لم يكترث بخلافه وهذا ثابت اتفاقا وأطباقا إذ لو قلنا أن
خلاف العوام يقدح
ج / 2 ص -384-
في
الإجماع مع أن قولهم ليس إلا عن جهل أفضى هذا إلى اعتبار
خلاف من يعلم أنه قال عن غير أصل على أن الأمة اجتمعت
علماؤها وعوامها أن خلاف العوام لا يعتبر به وقد مر على
هذا الإجماع عصر فثبت بما قلناه أن لا يعتبر بخلاف العوام.
فقد صرح القاضي بقيام الإجماع على عدم الاعتبار بخلاف
العوام وقال في هذا الكتاب في الكلام على الخبر المرسل لا
عبرة بقول العوام وفاقا ولا خلافا انتهى.
فإن قلت فما هذا الخلاف المحكى من أن قول العام هل يعتبر
في الإجماع.
قلت: هو اختلاف في أن المجتهدين إذا أجمعوا هل يصدق اجمعت
الأمة ويحكم بدخول العوام معهم تبعا وهو خلاف لفظي في
الحقيقة وليس خلافا في أن مخالفتهم تقدح في قيام الإجماع
وكلام القاضي في مختصر التقريب ناطق بذلك فإنه حكى هذا
الخلاف بعد كلامه المتقدم فقال ما نصه فإن قال قائل فإذا
أجمع علماء الأمة على حكم من الأحكام فهل يطلقون القول بأن
الأمة مجمعة عليه.
قلنا: من الأحكام ما يحصل فيه اتفاق الخاص والعام نحو وجوب
الصلاة والزكاة والحج والصوم وغيرها من أصول الشريعة فما
هذا سبيله فيطلق القول بأن الأمة أجمعت عليه.
وأما ما أجمع عليه العلماء من أحكام الفروع التي تشذ عن
العوام فقد اختلف أصحابنا في ذلك فقال بعضهم العوام يدخلون
في حكم الإجماع وذلك أنهم وإن لم يعرفوا تفصيل الأحكام فقد
عرفوا على الجملة أن ما أجمع عليه علماء الأمة في تفاصيل
الأحكام فهو حق مقطوع فهذا مساهمة منهم في الإجماع وإن لم
يعلموا مواقعه على التفصيل ومن أصحابنا من زعم أنهم لا
يكونون مساهمين في الإجماع فإنه إنما يتحقق الإجماع في
التفاصيل بعد العلم بها فإذا لم يكونوا عالمين بها فلا
يستحق كونهم أهل الإجماع.
واعلم أن هذا اختلاف يهون أمره ويؤول إلى عبارة مخصوصة
والجملة فيه انا إذا أدرجنا للعوام في حكم الإجماع فيطلق
القول بإجماع الأمة وإن لم
ج / 2 ص -385-
ندرجهم
بإجماع الأمة أو بدر من بعض طوائف العوام خلاف فلا يطلق
القول بإجماع الأمة فإن العوام معظم الأمة وكثيرها بل اجمع
علماء الأمة انتهى كلام القاضي.
وكلام الغزالي في المستصغى لا ينافيه فليتأمل وليضبط ذلك
فهو مكان حسن ولا ينبغي أن يعتقد أن مخالفة العوام تقادح
وموافقهم تفتقر الحجة إليها وكيف ذلك وهم يقولون لا عن
دليل فيكون قولهم خطأ.
والخطأ لا يفتقر قيام الحجة إليه وان سبب مسبب بما سلف من
أن العصمة إنما تثبت لجموع الأمة قلت فماذا تقول في البله
والأطفال أليس هم من الأمة وهذا إلزام لا محيص له عنه هذا
في العوام وقد قلنا إن الخلاف فيهم لفظي ويمكن أن يقال
ينبني عليه إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد.
فإن قلنا: إن العوام داخلون تبعا فهم داخلون معه فيكون
إجماعا وإلا فلا يكون قوله اجماعا لما قدمناه في أول كتاب
الإجماع من أن الإجماع لا يصدق إلا من اثنين فصاعدا.
وأما الأصولي الماهر المتصرف في الفقه فذهب القاضي إلى أن
خلافه معتبر.
قال الإمام وهو الحق وذهب معظم الأصوليين إلى خلافه لأنه
ليس من المفتين ولو وقعت له واقعة للزمه أن يستفتي المفتي
فيها واحتج القاضي بأنه من أهل التصرف في الشريعة يستضاء
برأيه ويستهدي بنصحه ويحضر مجلس الأشوار وإذا كان كذلك
فخلافه يشير إلى وجه من الرأي معتبر وإذا ظهر اعتبار في
الخلاف انبنى عليه اعتباره في الوفاق واستبعد امام الحرمين
مذهب القاضي وقال إذا أجمع المفتون وسكت المتصرفون فبعد أن
يتوقف انعقاد الإجماع على مراجعتهم فإن الذين لا يستقلون
بأنفسهم في جواب مسألة ويتعين عليهم تقليد غيرهم من المحال
وجوب مراجعتهم وان فرض أنهم أبدوا وجها في التصرف فإن كان
سالما فهو محمول على إرشادهم وتهديتهم إلى سواء السبيل.
وإن أبدوا قولهم أبدى من يراع الإجماع فالإنكار يشتد
عليهم.
قال والقول المغني في ذلك إنه لا قول لمن لم يبلغ مبلغ
المجتهدين وليس بين من يقلد ومن يقلد مرتبة ثالثة.
ج / 2 ص -386-
ثم قال
والنظر السديد يتخطى كلام القاضي وعصره ويترقى المتقدم
ويفضي إلى مدرك الحق قبل ظهور هذا الخلاف ولتحقيق خالف
القاضي إذا وافق أن المجتهدين إذا أطبقوا لم لخلاف يعد
المتصرفين مذهبا محتفلا به فإن المذهب لأهل الفتوى فإن ثبت
بأن المتصرف الذي ذكره من أهل الفتوى فالقول فيه يشرح في
كتاب الفتوى.
والكلام الكافي في ذلك أنه إن كان مقتبسا اعتبر خلافه وأما
المبتدع فإن كفرناه ببدعته فلا خلاف في أنه غير داخل في
الإجماع لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن
لم يعلم هو كفر نفسه وعلى هذا فلو خالف هو في مسألة وبقي
مصرا على المخالفة حتى تاب عن بدعته فلا اثر لمخالفته
لانعقاد إجماع جميع الأمة الإسلامية قبل إسلامه كما لو
أسلم ثم خالف الأعلى رأي من يشترط في الإجماع انقراض
المجمعين وإن لم نكفره فالمختار أنه لا ينعقد الإجماع دونه
لكونه من أهل الحل والعقد ومن الداخلين في مفهوم لفظ
الأمة.
وقيل ينعقد دونه وقيل لا ينعقد عليه بل على غيره فيجوز له
مخالفة إجماع من عداه ولا يجوز ذلك لغيره وفيه نظر فإنه
إذا تعذر إنعقاد الإجماع من وجه لم ينعقد من وجه وسيأتي إن
شاء الله كلام إمام الحرمين فيه وأما أهل الفسقة من أهل
القبلة البالغون في العلم مبلغ المجتهدين فذهب معظم
الأصوليين كما ذكر امام الحرمين إلى أنه لا يعتبر وفاقهم
ولا خلافهم والمختار خلاف ذلك لأن المعصية لا تزيل اسم
الإيمان فيكون قول من عداهم قول بعض المؤمنين لا كلهم فلا
يكون حجة.
وهذا ما مال إليه امام الحرمين فقال الفاسق المجتهد لا
يلزمه أن يقلد غيره بل يلزم أن يتتبع في وقائعه ما يؤدي
إليه اجتهاده وليس له أن يقلد غيره فكيف ينعقد الإجماع
عليه في حقه واجتهاده يخالف اجتهاد من سواه.
قال وإن بعد انعقاد الإجماع من وجه لم ينعقد من وجه قال
فإن قيل هو عالم في حق نفسه باجتهاده فيصدق عليه بينه وبين
ربه وهو يكذب في حق غيره فلا يمتنع لانقسام أمره على هذا
الوجه أن ينقسم حكم الإجماع قلنا هذا
ج / 2 ص -387-
محال
فإن الفاسق غير مقطوع بصدقه ولا بكذبه فهو كالعالم في
غيبته فإن تاب فهو كما لو أتى الغائب.
وأعلم أن الأولين اختلفوا في تعليل عدم اعتبار قول الفاسق
على وجهين:
أحدهما: وعليه يقوم هذا السؤال إن اخباره
عن نفسه لا يوثق به لفسقه فربما أخبر بالوفاق وهو مخالف أو
بالخلاف وهو موافق فلما تعذر الوصول إلى معرفة قوله سقط
أثره.
وشبه بعض المتأخرين ذلك بسقوط أثر قول الخضر عليه السلام
على القول بأنه حي لتعذر الوصول إليه.
والثاني: أن العدالة ركن في الاجتهاد
كالعلم فإذا فاتت العدالة فأتت أهلية الاجتهاد وهذا فيه
نظر إذ أهلية الاجتهاد الذي هو استنباط الأحكام وتصحيح
المقاييس وترتيب المقدمات إلى غير ذلك مما لا تعلق لها
بالديانة أصلا فإن قلت فهذا يرد عليكم في الكافر فإنه قد
يجري على علوم الشرع والاجتهاد لا تعلق له بالديانة قلت
الكافر لا يرد فإن الحجة في إجماع المسلمين والفاسق منهم
دون الكافر ويتفرع على هذين التعليلين أن الفاسق إذا اداه
اجتهاده في مسألة إلى حكم هل يأخذ بقوله من علم صدقه في
فتواه بقرائن.
وإذا ثبت اشتراط قول جميع المجتهدين في الاجماع قال صاحب
الكتاب فلو خالف واحد لم يكن قول غيره اجماعا لأن قوله
سبيل المؤمنين يتناول الكل وليسوا دون الواحد كل المؤمنين
هذا مذهب الجمهور.
وقال الإمام الجليل محمد بن جرير وأبو الحسين بن أبي عمر
والخياط المعتزلي وأبو بكر الرازي وكذا أحمد بن حنبل في
إحدى الروايتين عنه ينعقد اجماع الأكثر مع مخالفة الأقل
كذا أطلق النقل عنهم الآمدي وهو قضية إيراد المصنف وخصص
الإمام النقل عنهم بالواحد والاثنين قال الآمدي وذهب قوم
إلى أن عدد الأقل إن بلغ عدد التواتر لم يعتد بالإجماع
دونه وإلا اعتد به قلت وهذا ما ذكر القاضي في مختصر
التقريب أنه الذي يصح عن ابن جرير.
وقال أبو عبد الله الجرجاني أن سوغت الجماعة الاجتهاد في
مذهب المخالف
ج / 2 ص -388-
كان
خلافه معتدا به وإلا فلا ومنهم من قال اتباع الأكثر أولى
ويجوز خلافه وهو مذهب لا تحرير فيه لانا نسلم أنه إذا
تعادل الرأيان وكان القائلون بأحدهما أكثر رجح جانب الكثرة
وانما الكلام في التحتم ومنهم من قال هو حجة وليس باجماع
ورجحه ابن الحاجب فإنه قال لو نذر المخالف مع كثرة
المجمعين لم يكن اجماعا قطعا قال والظاهر أنه حجة لبعد أن
يكون الراجح متمسك المخالف.
قال صفي الدين الهندي والظاهر أن من قال إنه إجماع فإنما
نجعله إجماعا ظنيا لا قطعيا وبه يشعر إيراد بعضهم لنا أن
الصحابة اجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة إلا أبو بكر رضي
الله عنه ولم يقل أحد أن خلافه غير معتد به بل رجعوا إليه
حين المناظر واحتج ابن جرير ورفقته بوجهين ذكرهما في
الكتاب.
أحدهما: أن لفظي المؤمنين والأمة يصدق على
الأكثر كما يقال على البقرة أنها سوداء وإن كان فيها شعرات
بيض وللزنجي أنه أسود مع بياض حدقته وأسنانه.
والجواب: أن صدق إطلاق ألفاظ العموم على الأكثر إنما هو
على سبيل المجاز وليس حقيقة لأنه يجوز أن يقال لمن عدا
الواحد من الأمة ليسوا كل الأمة ويصح استثناؤه منهم وهذا
واضح.
الثاني قوله صلى الله عليه وسلم:
"عليكم بالسواد الأعظم أو باتباع السواد الأعظم" ويعم الاكثرين فيكون قولهم حجة.
والجواب أن السواد الأعظم يعم كل الأمة لأن من عدا الكل
فالكل الأعظم منه ولو لم يقصد هذا بل ما صدق أنه أعظم من
غيره لدخل تحته النصف الزائد بفرد واحد على النصف الآخر
وإلى هذا أشار بقوله في الكتاب مخالفة الثلث وهو بضم الثاء
واللام أي حمله على ما صدق عليه أنه أعظم يوجب عدم
الالتفات إلى ثلث الأمة إذا خالفوا الثلثين وقد قرره الجار
بردي والاسفرايني على أن الثاء مفتوحة وأن المراد الثلاث
اسم العدد الخاص وان ابن جرير ورفقته يسلمون أن مخالفة
الثلاثة قادحة.
وهذا ماش على ما اقتضاه ايراد الإمام كما سبق وما ذكرناه
من التقرير أحسن وأسلم.
ج / 2 ص -389-
واعلم
أن السواد الأعظم وقع مفسرا في الحديث على خلاف ما استدل
به الخصم فروى ابن ماجة من حديث معاذ بن رفاعة عن أبي خلف
الأعمى عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول:
"إن أمتي لا
تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد
الأعظم للحق وأهله"1 هذا لفظه وأهل الحق هم جميع الأمة ولا أعلم لهذا الحديث طريقا غير
الذي ذكرت ومعاذ وأبو خلف ضعيفان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روي هذا الحديث من عدة طرق في كلها نظر كما قال الحافظ
العراقي, أحدهما: عن أنس بن مالك, رواه عنه ا بن ماجة
بإسناد ضعيف, كتاب الفتن, باب: السواد الأعظم.
كمارواه الإمام في مسنده 4/278 واطبراني في الكبير.
وانظر: تخريج أحاديث المنهاج للحافظ العراقي ورقة 43 مخطوط
بمكتبة الأزهر 868 أصول الفقه.
قال الثانية لا بد له من سند لأن الفتوى بدونه خطأ قيل لو كان فهو الحجة قلنا قد يكونان دليلان
قيل صححوا بيع المراضاة بلا دليل قلنا لا بل ترك اكتفاء
بالاجماع.
رب متراشق في اللفظ يعبر عن المسألة بأن الإجماع لا بد فيه
من توقيف وقيل قد يقع عن توقيف واشتراط السند في الإجماع
هو الذي عليه الجماهير.
وقال قوم يجوز أن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير
توقف على مستند لكن سلموا إن ذلك غير واقع كما ذكر الآمدي
لنا أن الفتوى في الدين بغير دلالة أو إمارة خطأ فلو
اتفقوا عليه كانوا مجمعين على الخطأ.
وذلك يقدح في الإجماع واعترض الآمدي على هذا الدليل بأنه
إنما يكون خطأ إذا لم تتفق الأمة عليه.
أما إن اتفقت عليه فلا نسلم أنه خطأ وذلك لأن من يجوز ذلك
مع القول بعصمة الأمة عن الخطأ يمنع أن يكون ذلك خطأ عند
الاتفاق.
وحاول الشيخ صفي الدين الهندي رد هذا الاعتراض فقال القول
في الدين بغير دليل وأمارة باطل في الأصل وكذلك لو لم يحصل
الإجماع عليه كان ذلك باطلا وفاقا.
ج / 2 ص -390-
والإجماع لا يصير الباطل حقا بل غاية تأثيره أن يصير المظنون حقا
قلت وفيه نظر فقد يقال يتبين بحصول الإجماع بعد ذلك أن
القول في الأصل كان حقا هذا إذا وقع قولهم مترتبا لو إن
وقع دفعة واحدة فلم يقع إلا حقا.
ثم إن القائل بغير اجتهاد قبل حصول الإجماع على قوله لا
يقول إنه مخطئ فيما قاله ولا مصيب بل مخطيء في كونه قال
بدون اجتهاد وهذا الخطأ لا يزول بإجماعهم بعد ذلك على
قوله.
وأما المقول فيحتمل أنه خطأ فيه ويحتمل أنه أصاب وهذا
التردد يزول بالإجماع بعد ذلك على قوله ويعلم أنه كان
مصيبا.
فإن قلت: إذا كان كل فرد منهم أخطأ في كونه قال فيلزم خطأ
المجموع في كونهم قالوا وهو محظور قلت القائل الأخير منهم
الذي بقوله يحصل الاتفاق ويتكل الإجماع ليس مخطئا في كونه
قال وهذا إذا وقع مترتبا فإن وقع دفعة واحدة فلا نسلم
خطأهم في كونهم قالوا بل نقول إنما يخطئ من أقدم على القول
وحده بغير مستند.
أما إذا حصل اتفاق من الأمة على القول فلا واحتج من قال
يجوز أن يوفقوا الاختيار الصواب بأمرين:
أحدهما: أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن مستند لكان ذلك
المستند هو الحجة وحينئذ فلا يبقى في الإجماع فائدة وأجاب
المصنف بأن الإجماع وأصله يكونان دليلين واجتماع دليلين
على مدلول واحد جائز حسن.
والثاني: أنه وقع بدليل إجماعهم على بيع المراضاة بلا دليل
وأجاب بأن له دليلا لكن ترك ذكره لما وقع الإجماع عليه
اكتفاء بالإجماع.
قلت: وقد الآمدي في أثناء المسألة أن الخلاف ليس في وقوعه
وتقدم نقل هذا عنه فاحتجاج الخصم ضعيف لذلك أيضا وأيضا فإن
أريد ببيع المراضاة المعاطاة التي يذكرها الفقهاء فالمذهب
الصحيح أنها باطلة فأين الإجماع وإن كان كما ذكره الشراح
أنه إذا تحقق التراضي من الجانبين فالإجماع منعقد على صحة
هذا البيع لكن اختلفوا في الدليل على التراضي.
ج / 2 ص -391-
فقال
الشافعي ومن وافقه لا بد من صيغة تدل عليه وقال مالك وبعض
أصحاب الشافعي يكفي المعاطاة فهذا فيه نظر إذ سند الإجماع
أشهر من أن يذكر وأكثر من أن يحصر.
قال فرعان الأول يجوز الإجماع عن الإمارة لأنها مبدأ الحكم
قيل الإجماع على جواز مخالفتها قلنا قبل الإجماع قيل اختلف
فيها قلنا منقوض بالعموم وخبر الواحد.
علمت أن الإجماع لا بد له من مستند ويجوز أن يكون ذلك
المستند نصا بالاتفاق وكذلك دليلا ظاهرا وهل يجوز أن يكون
امارة أي قياسا فيه مذاهب.
أحدها: أنه جائز واقع وعليه الجمهور.
والثاني: جائز غير واقع.
والثالث: أنه غير ممكن وذهب إليه إبن جرير الطبري كذلك
داود الظاهري لكنه بناه على أصله في منع القياس.
والرابع: إن كانت الإمارة خلية جاز وإلا فلا ثم اختلف
القائلون بالوقوع في أنه هل يحرم مخالفته إذا وقع مع
أطباقهم على أنه حجة والحق أنه تحرم مخالفته.
واستدل المصنف على جوازه بأن الإمارة مبدأ الحكم أي تصلح
أن يكون طريقا للحكم فيجوز الإجماع عليها قياسا على الدليل
ولم يتكلم في الوقوع وقد إستدل عليه الإمام بأن الصحابة
أجمعت في زمان عمر رضي الله عنه على أن حد الشارب ثمانون
وهو بطريق الإجتهاد لما روى أن عمر رضي الله عنه شاور
الصحابة في ذلك فقال علي رضي الله عنه أراه إذا سكر هذى
وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون.
وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا حد وأقل الحد
ثمانون وهذا تصريح منهم بأنهم إنما أثبتوا الحكم بالإجتهاد
وضرب من القياس لأنه مع وجدان النص لا يتعلق بمثله.
ج / 2 ص -392-
ومن
هذا يعرف اندفاع ما يورد من أنه لعلهم أجمعوا عليه لنص
لكنه لم ينقل إستغناء الإجماع
وإستدل عليه قوم أيضا بإجماعهم على تحريم شحم الخنزير
قياسا على لحمه وعلى اراقة الشيرج والدبس السيال إذا وقعت
فيه فارة ماتت قياسا على السمن واستدل المانعون بوجهين.
أحدهما: أن الإجماع قائم على جواز مخالفة
الإمارة والحكم الصادر عن الإجتهاد فلو صدر إجماع عنها
لكان يجوز مخالفته وذلك ممتنع.
والجواب أن مخالفتها إنما يجوز إذا لم يجمع على الحكم
المثبت بها أما بعد الإجماع فلا يجوز مخالفتها.
والثاني:أن الإمارة مختلف فيها إذ من
الأمة من يعتقد بطلان الحكم بها والجواب وذلك يصرفه عن
الحكم بها والجواب أن ذلك منقوض بالعموم وخبر الواحد إذ
وقع الخلاف فيهما كما مر ويجوز صدور الإجماع عنها اتفاقا.
قال: الثاني: الموافق لحديث لا يجب أن يكون منه خلافا لأبي
حنيفة وأبي عبد الله لجواز اجتماع دليلين.
الإجماع الموافق لمقتضى دليل إذا لم يعلم له دليل آخر لا
يجب أن يكون مستندا إلى ذلك الدليل لاحتمال أن يكون له
دليل آخر وهو مستنده ولم ينقل إلينا استغناء بالإجماع.
وقال أبو عبد الله البصري أن يكون مستندا إليه والأصناف أن
أبا عبد الله إن أراد أنه كذلك على سبيل غلبات للظنون فهو
حق إذ الأصل عدم دليل غيره والاستصحاب حجة وينبغي أن يحمل
على ذلك ما نقله ابن برهان عن الشافعي من موافقة مذهبه
لرأي أبي عبد الله البصري.
وقد فصل أبو الحسين في المعتمد فقال إن كان الخبر نصا
متواترا لا يحتاج معه إلى استدلال طويل واجتهاد.
فيعلم أنهم أجمعوا لأجله وإن أحتاج في الإستدلال به إلى
استدلال طويل
ج / 2 ص -393-
وبحث
لم يجب أن يكون هو المستند وكذلك إن كان من أخبار الآحاد
ولم يرو لنا أنه ظهر فيهم أو روى أنه ظهر فيهم لكن يخبر
واحد أيضا وإن روي بالتواتر وجب أن يكون عنه.
قال الثالثة: لا يشترط انقراض المجمعين لأن الدليل قام بدونه قيل وافق الصحابة على منع بيع المستولدة ثم
رجع ورد بالمنع.
إختلفوا في إنقراض العصر هل هو شرط في اعتباره الإجماع على
مذاهب.
أحدها: وعليه أكثر الشافعية والحنفية انه
لا يشترط واختاره الإمام واتباعه وابن الحاجب.
والثاني: يشترط وهو رأي أحمد وإبن فورك.
والثالث: أنه يشترط في السكوتي دون القول
وهو مذهب الأستاذ واختاره الآمدي.
والرابع: نقل إبن الحاجب عن إمام الحرمين
إن كان عن قياس اشترط وإلا فلا والذي قاله في البرهان ما
ملخصه أن المرضى عنده ان الإجماع ينقسم إلى مقطوع به وإن
كان في مظنة الظن فلا يشترط فيه الانقراض ولا طول المكث
بعد قوله وإلى حكم مطلق يسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم
فلا بد فيه من أن يطول عليه الزمان فإذا طال ولم ينقدح على
طوله لواحد منهم خلاف فهذا يلتحق بقاعدة الإجماع فإن
امتداد الأيام تبين التحاقهم بالمجمعين وترفعهم عن رتبة
المترددين فالمعتبر ظهور الإصرار بتطاول الزمان.
حتى لو قالوا عن ظن ثم ماتوا على الفور قال فلست أرى ذلك
إجماعا من جهة أنهم أبدوا وجها من الظن ثم لم يتضح اصرارهم
عليه انتهى وعرفت من كلامه أن الانقراض في نفسه عنده غير
مشروط ولا معتبر في حالة من الأحوال وهو خلاف مقتضى نقل
ابن الحاجب عنه.
والخامس: أنه إذا لم يبق من المجتمعين إلا عدد ينقص عن أقل
عدد التواتر فلا تكترث ببقائهم وتحكم بانعقاد الإجماع حكاه
القاضي في مختصر التقريب.
ج / 2 ص -394-
وأشار
إليه ابن برهان في الوجيز واستدل المصنف على ما اختاره بأن
دليل الإجماع ليس مقيدا بالإنقراض فلا يكون شرطا فيه واحتج
الخصم بأن عليا رضي الله عنه سأل عن بيع أمهات الأولاد
فقال كان رأي ورأى عمر أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن
فقال له عبيدة السلماني رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك
وحدك فدل قول عبيدة على أن الإجماع كان حاصلا مع أن عليا
خالفه والجواب أن منع ثبوت الإجماع قبل الرجوع فإن قول
عبيدة رأيك في الجماعة يدل على منع بيعهن كان رأي الجماعة
ولا يدل على أنه كان رأي كل الأمة وأنما أراد أن ينضم قول
علي إلى قول عمر لأنه رجح قول الأكثر على الأقل.
هذا تقرير قوله ورد بليغ وقد يقال المراد الرد بمنع رجوع
علي والتقرير الأول هو الذي في المحصول. |