الإبهاج في شرح المنهاج قال الكتاب الخامس في دلائل اختلف فيها وفيه
بابان
الأول في
المقبولة منها وهي ستة
الأول الأصل في
المنافع الإباحة
لقوله تعالى:
{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}
{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}
وفي المضار التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"
ش هذا الكتاب معقود للمدارك التي وقع الاختلاف بين
المجتهدين المعتبرين في أنها هل هي مدارك للأحكام أم لا
أولها الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع خلافا
لبعضهم وهذا بعد ورود الشرع وأما قبله فقد تقدم تقريره في
مسألة حكم الأشياء قبل ورود الشرع واستدل المصنف على أن
الأصل في المنافع الإباحة بآيات الأولى الشرع قوله تعالى:
{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً1} واللازم يقتضي التخصيص بجهة الانتفاع فيكون الانتفاع بجميع ما في
الأرض جائزا إلا الخارج بدليل والثانية قوله تعالى:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ2} أنكر على من حرم زينته فوجب أن يثبت حرمتها ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 29
2 سورة الأعراف آية 3332
ج / 3 ص -166-
حرمة
شيء منها وإذا انتفت الحرمة ثبتت الإباحة والثالثة قوله
تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ1} واللام في لكم للاختصاص على جهة الانتفاع كما عرفت وليس المراد
بالطيبات الحلال وإلا يلزم التكرار بل المراد ما تستطيعه
النفوس واستدل على أن الأصل في المضار التحريم بما روى
الدارقطني من قوله صلى الله عليه وسلم
: "لا ضرر ولا ضرار2" قال النووي في الأذكار حديث حسن وجه الاحتجاج أن الحديث دال على
نفي الضرر وليس المراد نفي وقوعه ولا إمكانه فدل على أنه
لنفي الجواز ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في لفظ آخر
للحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه
: "من ضار أضر الله به" وإن انتفى الجواز ثبت التحريم وهو المدعى
"تنبيه" الضرر ألم القلب كذا قاله
الأصوليون واستدلوا عليه بأن الضرب يسمى ضرارا وكذا تفويت
المنفعة والشتم والاستخفاف فجعل اللفظ اسما للمشترك بين
هذه الأمور وهو ألم القلب دفعا للاشتراك والذي قاله أهل
اللغة أن الضرر خلاف النفع وهو أعم من هذه المقالة
قال "قيل على الأول اللام تجيء لغير النفع كقوله تعالى:
{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}وقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}
قلنا مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه
الاختصاص النافع بدليل قولهم الجل للفرس قيل المراد
الاستدلال قلنا هو حاصل من نفسه فيحتمل على غيره" ش اعترض
على دليل إباحة المنافع بوجهين أحدهما أنا لا نسلم أن
اللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع ويدل عليه قوله تعالى:
{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا3} وقوله:
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ4} إذ يمتنع في هاتين الآيتين أن تكون لاختصاص المنافع أما الأولى
فلاستحالة حصول النفع في الإساءة وأما الثانية فلتنزهه
تعالى عودة النفع إليه وأجاب بأن استعمال اللام فيما ذكرتم
من الآيتين مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أن اللام موضوعة
لملك ومعنى الملك
الاختصاص النافع لأنه يصح إطلاقها عليه كما تقول الجل
للفرس فيكون حقيقة في الاختصاص النافع ويحمل في غيره على
المجاز دفعا للاشتراك واعترض القرافي على هذا الجواب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدةآية 3
2 تقدم تخريجه قريبا
3 سورة الإسراء آية 7
ج / 3 ص -167-
بأن
جعلها حقيقة في مطلق الاختصاص أولى من الاختصاص النافع
حذرا من الاشتراك والمجاز وموافقة لقول النحاة اللام
للاختصاص بالمنافع خلاف الأصل وهو منقدح ولهم الجل للفرس
لا دلالة فيه إلا على صحة استعمالها في الاختصاص النافع
ولا يدل على نفي استعمالها في الاختصاص الذي لا ينفع ثم
ادعى أن اللام للملك وفسره بالاختصاص النافع والملك أخص من
الاختصاص النافع ألا ترى أن من لا يملك كالعبد يقدر
الاختصاصات من الاصطياد والاحتطاب وغيرها وأيضا فهذه
الدعوى تخالف قوله في القياس اللام للتعليل الثاني سلمنا
أن اللام للاختصاص النافع ولكن لا يلزم منه إباحة جميع
الانتفاعات بل المراد مطلق الانتفاع ويحمل على الاستدلال
بالمخلوقات على وجود الخالق وأجاب بأن الاستدلال على
الخالق يحصل لكل عاقل من نفسه إذ يصح أن يستدل بنفسه على
خالقه فليحمل على الانتفاع في الآيات على غيره ولا يحمل
عليه لامتناع تحصيل الحاصل فإن قلت لا نسلم أنه يلزم تحصيل
الحاصل وهذا لأن الانتفاع بالاستدلال الثاني غير الانتفاع
بالاستدلال بنفسه ضرورة أنه يحصل تأكيد العلم الأول قلت
الدليل على كونه تحصيلا للحاصل أن الحاصل بالاستدلال الأول
هو العلم بوجود الصانع وما هو من لوازمه والحاصل بالثاني
هو هذا وقولك يحصل تأكيد العلم ممنوع بناء على أن العلم لا
يقبل التأكيد سلمناه لكن الحمل على غير هذه الفائدة فائدة
تأسيسية وهي أولى من التأكيدية سلمنا أن المراد مطلق
الانتفاع ولكنه كما ذكرتم يصدق بصورة وإذا كان الانتفاع
بفرد من أفراد الانتفاعات مأذون فيه لزم الإذن في الكل
لأنه لا قائل بالفصل هذا شرح ما في الكتاب
واعتراض القرافي بعد تسليم أن الأخبار عن اختصاص الخلق
بالمنافع بأن الانتفاع لا يدل على أنه لا حجر فيها لأنه
صادق بأن الانتفاع لا يصدر إلا منا سواء كان مباحا أو
محرما فجاز أن يصدق الاختصاص بالانتفاع مع الثواب على تركه
أو ترك بعضه أو فعل بعضه كما تقول وطء النساء حلال لبني
آدم لم يجعل لغيرهم في الوجود وإن عوقب على البعض
ولقائل أن يقول لا يصدق اختصاصهم بها مع صدق المعاقبة ولا
تحصل المنة
ج / 3 ص -168-
مع ذلك
أيضا واعترض صفي الدين الهندي على الاستدلال بقوله أحل لكم
الطيبات بأنه لا يفيد العموم لأنه يجوز أن يكون للعهد وهو
ما أحل في الشرع مما يستطاب طبعا وحينئذ لا يحمل على
العموم لتقدم العهد عليه ولك أن تقول يلزم مما قررت أن
يكون قوله أحل خبر إلا إنشاء والحمل على الإنشاء أولى
لكونه أكثر فائدة على أنا لا نسلم أن ما أحل في الشرع يجوز
أن يكون معهودا هنا لأنه لم يتقدم له ذكر في الكلام ولا
تعلق بحال الخطاب والمعهود ليس إلا ما كان كذلك وأما
الاستدلال بقوله قل من حرم زينة الله فهو مبني على أن
المفرد المضاف يفيد العموم فإن قلت لا نسلمه ولو سلمناه
فالدليل خاص بالزينة والدعوة عامة
قلت أما الأول فمبين في موضعه وأما الثاني فإذا دل على
الزينة دل على ما لا زينة فيه من المنافع ضرورة أنه لا
قائل بالفصل كما علمت نعم لقائل أن يقول الآية دالة على
عدم الحرمة ولا يلزم من ذلك الإباحه إلا أن يستدل مع ذلك
باللام في قوله أخرج لعباده من حيث أنها للإختصاص النافع
على ما سلف
"فائدة" قد علمت قول الجماهير أن الأصل في
المنافع الإباحة ولك أن تقول الأموال من جملة المنافع
والظاهر أن الأصل فيها التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن دماؤكم وأموالكم"
الحديث وهو أخص من الدلائل المتقدمة التي استدلوا بها على الإباحة
فيكون فاضيا عليها إلا أنه أصل طارئ على أصل سابق فإن
المال من حيث كونه من المنافع الأصل فيه الإباحة بالدلائل
السابقة ومن خصوصية الأصل فيه التحريم بهذا الحديث
قال "الثاني الاستصحاب حجة خلافا للحنفية
والمتكلمين"
"ش" الاستصحاب يطلق على أوجه أحدهما استصحاب العدم الأصلي
وهو الذي عرف العقل نفيه بالبقاء على العدم الأصلي كنفي
وجوب الصلاة سادسة وصوم شوال فالعقل يدل على انتفاء وجوب
ذلك لا لتصريح الشارع لكن لأنه لا مثبت للوجوب فبقي على
النفي الأصلي لعدم ورود السمع به والجمهور على العمل بهذا
وادعى بعضهم فيه الاتفاق فإن قلت قصارى دلالة الاستصحاب
الظن وعدم وجوب
ج / 3 ص -169-
الصلاة
السادسة وصوم شوال قطعي فكيف يستفاد من الاستصحاب قلت عدم
السمعي الناقل قد يكون معلوما كما في هذين المثالين ويدل
الاستصحاب فيه على القطع وقد يكون مظنونا كعدم وجوب الوتر
والأضحية وزكاة الخيل والحلي
والثاني استصحاب العموم إلى أن يرد مخصص وهو دليل عند
القائلين به واستصحاب النص إلى أن يرد ناسخ وهو دليل على
دوام الحكم ما لم يرد النسخ كما دل العقل على البراءة
الأصلية بشرط أن لا يرد سمع متغير
الثالث استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند
جريان فعل الملك وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو إلزام فإن
هذا وإن لم يكن حكما أصليا فهو شرعي دل الشرع على ثبوته
ودوامه جميعا ولولا دلالات الشرع على دوامه إلى حصول براءة
الذمة لما جاز استصحابه فالاستصحاب ليس بحجة إلا مما دل
الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم المغير كما دل على
البراءة العقلية وعلى الشغل السمعي وعلى الملك الشرعي
ومن هذا القبيل الحكم بتكرر الأحكام عند تكرار أسبابها
كشهور رمضان ونفقات الأقارب عند مسيس الحاجات وأوقات
الصلوات لأنه لما عرف حملة الشريعة قصد الشارع صلوات الله
عليه إلى نصبها أسبابا وجب استصحابها ما لم يمنع منه مانع
فإذن الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس
راجعا إلى عدم العلم بالدليل بل إلى دليل مع العلم بانتفاء
المغير أو مع ظن انتفاء المغير عند بذل الجهد في الطلب
والرابع استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف مثاله من قال
إن المتيمم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة
لأن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها وطريان وجود
الماء كطريان هبوب الريح وطلوع الفجر وسائر الحوادث فنحن
نستصحب دوام الصلاة حتى يدل الدليل على أن رؤية الماء
قاطعة فهذا ليس بحجة عند كافة المحققين وذهب الصيرفي
والمزني وأبو ثور إلى صحته وهو مذهب داود قال الشيخ أبو
إسحاق وكان القاضي يعني أبا الطيب
ج / 3 ص -170-
يقول
داود لا يقول بالقياس الصحيح وهنا يقول بقياس فاسد لأنه
يحمل حالة الخلاف على حالة الإجماع من غير علة جامعة
وللخصم في هذا أن يقول أجمعنا على أن رؤية الماء قبل
الدخول في الصلاة مبطلة فكذا بعد الدخول استصحابا لحال
وكذا إذا كان الكلام في زوال ملك المرتد بالردة ويؤدي ذلك
إلى تكافؤ الأدلة وهذه الأقسام الأربعة وردها الغزالي كما
ذكرناها
والخامس الاستصحاب المقلوب وهو استصحاب الحال في الماضي
كما إذا وقع البحث في أن هذا المكيال مثلا هل كان على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول القائل نعم إذ الأصل
موافقة الماضي للحال وكما رأيت زيدا جالسا في مكان وشككت
هل كان جالسا فيه أمس فيقضي بأنه كان جالسا فيه أمس
استصحابا مقلوبا وأعلم أن الطريق في إثبات الحكم به يعود
إلى الاستصحاب المعروف وذلك لأنه لا طريق له إلا قولك لو
لم يكن جالسا أمس لكان الاستصحاب يفضي بأنه غير جالس الآن
فدل على أنه كان جالسا أمس
وقد قال به الأصحاب في صورة واحدة وهي ما إذا اشترى شيئا
وادعاه مدع وأخذه منه بحجة مطلقة فإن أطبق عليه الأصحاب
ثبوت الرجوع له على البائع بل لو باع المشتري أو وهب
وانتزع المال من المتهب أو المشتري منه كان للمشتري الأول
الرجوع أيضا وهذا استصحاب للحال في الماضي فإن قيل السنة
لا توجب الملك ولكنها تظهره فيجب أن يكون الملك سابقا على
إقامتها ويقدر له لحظة لطيفة ومن المحتمل انتقال الملك من
المشتري إلى المدعي ولكنهم استصحبوا مقلوبا وهو عدم
الانتقال منه فيما مضى استصحابا للحال وقال الأصحاب فيما
إذا وجدنا ركازا مدفونا في الأرض ولم يعرف هل هو من دفين
الجاهلية أو الإسلام فالمنقول عن نصه أنه ليس بركاز وفيه
وجه أنه ركاز لأن الموضع يشهد له وعلى هذا الوجه استصبحنا
مقلوبا لأنه استدللنا بوجه أنه في الإسلام على أنه كان
موجودا قبل ذلك
وإذا عرفت هذه الأقسام فنقول اختلف الناس في استصحاب الحال
المشار إليه في القسم الثاني والثالث وكذا الأول إن لم
نجعله محل وفاق على مذاهب بعد اتفاقهم على أنه لا بد من
استفراغ الجهد في طلب الدليل وعدم وجدانه
ج / 3 ص -171-
أحدها
أنه حجة وبه قال الأكثرون وهو مختار الإمام وأتباعه منهم
المصنف
والثاني أن ليس بحجة وبه قال الحنفية كما نقله في الكتاب
تعبا لغيره وكثير من المتكلمين والثالث ما اختاره القاضي
أبو بكر في كتابه التقريب والإرشاد أنه حجة على المجتهد
فيما بينه وبين الله تعالى فإن لم يكلف إلا أقصى الطلب
الداخل في مقدوره على العادة فإذا فعل ذلك ولم يجد دليلا
أخذ بنفي الوجوب ولا يسمع منه إذا انتصب مسؤولا في مجالس
المناظرة فإن المجتهدين إذا تناظرا وتذاكرا طرق الاجتهاد
فما يفي المجيب قوله لم أجد دليلا على الوجوب وهل هو في
ذلك إلا مدع فلا يسقط عنه عهدة الطلبة بالدلالة وهذا
التفصيل عندنا حق متقبل والرابع وهو المعمول به عند
الحنفية كما صرح به أصحابهم في كتبهم أنه لا يصلح حجة على
الغير ولكن يصلح لإبداء العذر والدفع ولذلك قالوا حياة
المفقود باستصحاب الحال تصلح حجة لإبقاء ملكه لا في إثبات
الملك له في مال مورثه والخامس أنه يصلح للترجيح فقط
قال "لنا أن ما ثبت ولم يظهر زواله ظن بقاؤه ولولا ذلك لما
تقررت المعجزة لتوقفها على استمرار العادة ولم تثبت
الأحكام الثابتة في عهده عليه السلام لجواز النسخ ولكان
الشك في الطلاق كالشك في النكاح ولأن الباقي يستقي عن سبب
أو شرط جديد بل يكفيه دوامها دون الحادث ويقل عدمه لصدق
عدم الحادث على ما لا نهاية له فيكون دوامها راجحا" ش
استدل على حجية الاستصحاب بأوجه
أحدها أن ما علم حصوله في الزمان الأول ولم يظهر زواله ظن
بقاؤه في الزمن الثاني ضرورة وحينئذ فيجب العمل به على علم
من وجوب العمل بالظن
الثاني أنه لو لم يكن حجة لما تقررت المعجزة لأنها فعل
خارق للعوائد ولا يحصل هذا الفعل إلا عند تقرير العادة ولا
معنى للعادة إلا العلم بوقعه على وجه مخصوص في الحال يقتضي
اعتقاد أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه وهذا عين
الاستصحاب
ج / 3 ص -172-
الثالث
أنه لو لم يكن حجة لم تكن الأحكام الثابتة في عهد النبي
ثابتة في زماننا وتلازم باطل فكذا الملزوم وجه الملزمة أن
دليل ثبوت الأحكام في زماننا هو اعتقاد استمرارها على ما
كانت عليه وهذا هو الاستصحاب فإذا لم تكن حجة لم يمكن
الحكم بثبوتها لجواز تطرق النسخ
الرابع لو لم تكن حجة لتساوي الشك في الطلاق والشاك في
النكاح لاشتراكهما في عدم حصول الظن بما مضى وهو باطل
اتفاقا إذ يباح للشاك في الطلاق دون الشاك في النكاح ولك
أن تجعل هذه الأوجه الأربعة وجها واحدا في الدليل فنقول ما
ثبت ولم يظهر زواله ظن بقاؤه لما تقررت المعجزة ولم تثبت
الأحكام الثابتة في عهده عليه السلام ولتساوي الشك في
الطلاق والنكاح وعلى ذلك جرى العبري في شرحه وكلام المصنف
محتمل للأمرين فارن قوله ولولا ذلك يحتمل أن يريد ولولا
حجة الاستصحاب وأن يريد ولولا ظن البقاء
الخامس أن الباقي لا يفتقر إلى سبب جديد وشرط جديد بل
يكفيه دوام السبت والشرط أي لا يحتاج إلى مؤثر والحادث
مفتقر إلى هذين فيكون الباقي راجحا في الوجود على الحادث
والعمل بالراجح واجب فيجب العمل بالاستصحاب لا استلزامه
العمل بالباقي وإنما قلنا إن الباقي مستغن عن المؤثر لأنه
لو افتقر إليه فإما أن يصدر منه والحالة هذه أثر أو لا
وهذا الثاني محال لأن فرض مؤثر مفتقر إليه مع أنه لم يصدر
منه أثر البتة جمع بين النقضين الأول إن كان أثره عين ما
كان حاصلا قبله فيلزم تحصيل الحاصل وإن كان غيره فيقتضي أن
يكون الأثر الصادر عنه حادثا لا باقيا والفرض خلافه ولما
كان افتقار الباقي إلى المؤثر يفضي إلى هذه الأقسام
الباطلة كان باطلا وأما كون الحادث مفتقرا إليه فمتفق عليه
بين العقلاء هذا تقرير الدليل المذكور وعليه من الاعتراضات
والأجوبة عنها ما لا يحتمل هذا الشرح ذكره قوله ويقل عدمه
هذا يصلح أن يكون دليلا سادسا وأن يكون دليلا على أن
الباقي راجح في الوجود على الحادث وتقريره أن عدم الباقي
أقل من عدم الحادث
ج / 3 ص -173-
لأن
عدم الحادث صادق على ما ليس له نهاية بخلاف عدم الباقي
فإنه مشروط بوجود الباقي وهو متناه فلا يصدق على ما لا
نهاية له وإذا وضح أن عدم الباقي أقل من عدم الحادث كان
وجوده أكثر من وجوده والكثرة مرجحة والله أعلم
"خاتمة" قد علمت أن الاستصحاب هو ثبوت أمر في الثاني
لثبوته في الأول لعدم وجدان ما يصلح أن يكون مغيرا بعد
البحث التام وينشأ من هذا البحث في أن مجرد الظهور هل يصلح
أن يكون معارضا له وهذه هي قاعدة الأصل والظاهر المشهور في
الفقه وللشافعي فيما إذا تعارض أصل وظاهر غالبا قولان وقد
أتينا في كتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله تعالى في هذه
القاعدة بعد تحقيقها من سرد فروعها ما تقر الأعين فعليك به
وعلمت أيضا أن الأصل لا يدفع بمجرد الشك والاحتمال أخذا
بالاستصحاب وهذا معنى القاعدة المشهورة في الفقه أن اليقين
لا يرفع بالشك فإنه مع وجدان الشك لا يقين ولكن استصحاب
لما تيقن في الماضي وهو الأصل وأطلق عليه اليقين مجازا وقد
قال أبو العباس بن القاص لا يستثنى من هذه القاعدة إلا
إحدى عشرة مسألة فيها بمجرد الشك وقد سردناها في الأشباه
والنظائر وزدنا ما أمكن مع التحري في كل ذلك فلا نطل بذكره
هنا
قال "الثالث الاستقراء"
مثاله الوتر يؤدي على الراحلة فلا يكون واجبا لاستقراء
الواجبات وهو يفيد الظن والعمل به لازم لقوله صلى الله
عليه وسلم
"نحن نحكم بالظاهر"
"ش" الاستقراء ينقسم إلى
تام وناقص فأما التام فهو إثبات الحكم في جزئي لثبوته في
الكلي وهو هو القياس المنطقي وهو يفيد القطع مثاله كل جسم
متحيز فإنا استقرينا جميع جزئيات الجسم فوجدناها منحصرة في
الجماد والنبات والحيوان وكل منها متحيز فقد أفاد هذا
الاستقراء الحكم يقينا في كلي وهو قولنا كل جسم متحيز
بوجود التحيز في جميع جزئياته وأما الناقص وفيه كلام
المصنف فهو إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته
وهذا هو المشهور بإلحاق الفرد بالأعم والأغلب ويختلف فيه
الظن باختلاف الجزئيات فكلما كانت أكثر كان الظن أغلب وقد
اختلف في هذا النوع واختار المصنف أنه
ج / 3 ص -174-
حجة
تبعا لتاج الدين صاحب الحاصل وهو ما اختاره صفي الدين
الهندي وبه نقول وقال الإمام الأظهر أنه لا يفيد الظن إلا
بدليل منفصل ثم بتقرير الحصول يكون حجة وهذا يعرفك أن
الخلاف الواقع في أنه هل يفيد الظن لا في أن الظن المستفاد
منه هل يكون حجة
ولقائل أن يقول الدليل المنفصل لا يصير ما لا يفيد الظن
مقيدا للظن فإن أراد بالدليل المنفصل ما يعضد الاستقراء
فالمفيد للظن حينئذ هو مجموع المنفصل والاستقراء لا
الاستقراء بالدليل المنفصل فالمنفصل وإن أراد بالدليل
المنفصل ما يدل على أنه مفيد للظن أو أنه حجة فسوف يأتي به
إن شاء الله تعالى
وقد مثل المصنف له بقولنا الوتر يصلي على الراحلة بالإجماع
منا ومن الخصم أو بالدليل الذي عليه ولا شيء من الواجبات
يؤدي على الراحلة لأنا استقرأنا القضاء والأداء من الظهر
والعصر وغيرهما من الواجبات فلم نر شيئا منها يؤدي على
الراحلة والدليل على أنه يفيد الظن أنا إذا وجدنا صورا
كثيرة داخلة تحت نوع واحد وقد اشتركت في حكم ولم نر شيئا
مما نعلم أنه منها خرج عند ذلك الحكم إفادتنا هذه الكثرة
بلا ريب ظن أن ذلك الحكم وهو عدم الأداء على الراحلة في
مثالنا هذا من صفات ذلك النوع وهو الصلاة الواجبة ومنهم من
استدل عليه بأن القياس التمثيلي حجة عند القائلين بالقياس
في الحكم الشرعي وهو أقل مرتبة من الاستقراء لأنه حكم على
جزئي لثبوته في جزئي آخر والاستقراء حكم على جزئي كلي
لثبوته في أكثر الجزئيات فيكون أولى من القياس التمثيلي
وهذا مدخولا لأنه يشترط في إلحاق الجزئي بالجزئي الآخر أن
يكون بالجامع الذي هو عليه الحكم وليس الأمر في الاستقراء
بل حكم على الكل بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته ولا يمنع
عقلا أن يكون بعض الأنواع مخالفا للنوع الآخر في الحكم وإن
اندرجا تحت جنس واحد وإذا كان مفيدا للظن كان العمل به
لازما واستدل المصنف على ذلك مما روى من قوله صلى الله
عليه وسلم :
"نحن نحكم بالظاهر والله متولي السرائر1" وهو حديث لا أعرفه وقد سألت عنه شيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي
فلم يعرفه ولو استدل بأن العمل بالظن واجب لما تقدم من
الأدلة لكفاه ذلك والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحافظ العراقي : لا أصل له ، وسئل عنه المزي
فأنكره والذي في البخاري – كتاب ترك الحيل، ومسلم – كتاب :
الأحكام عن أم سلمة عن النبي صلي الله عليه وسلم – قال :
"إنما أنا بشر
وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحق بحجته من بعض
فأقضي له علي نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق اخيه شيئا فلا
يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"
ج / 3 ص -175-
قال الرابع أخذ الشافعي بأقل ما قيل إذا لم يجد دليلا
كما قيل دية الكتابي الثلث وقد قيل النصف وقيل الكل بناء
على الإجماع والبراءة الأصلية قيل يجب الأكثر ليتقن الخلاص
قلنا حيث يتيقن الشغل والزائد لم يتيقن
"ش" ذهب إمامنا الشافعي رضوان الله تعالى عليه إلى أنه
يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل
ووافقه القاضي أبو بكر والجمهور وخالفه قوم مثاله اختلاف
العلماء في دية اليهود قال بعضهم كدية المسلم وقال آخرون
نصف ديته وقال آخرون بل الثلث فقط وأخذ به الشافعي رضي
الله عنه ونحوه أيضا زكاة الفطر قال بعضهم خمسة أرطال وثلث
وقال آخرون ثمانية أرطال فأخذ بالأول ونحوه أيضا النفاس
واعلم أن هذه كما أشار المصنف بقوله بناء إلى آخره مبنية
على قاعدتين أحدهما الإجماع والثانية البراءة الأصلية فإن
الأمة لما أجمعت على ذلك الأول كالثلث في المثال الأول فإن
من أوجب الكل أو النصف فقد أوجب الثلث ضرورة كونه بعضه
فلكل مطبقون على وجوب الثلث وأما البراءة الأصلية فإنها
تدل على عدم الوجوب في الكل ترك العمل بها في الثلث لحصول
الإجماع عليه فيبقى الباقي على أصله ويصار إليه وإنما يتم
هذا إذا لم يكن في الأمة من يقول بعدم وجوب شيء منها أو
بوجوب أقل من الثلث فإن بتقدير ذلك لا يكون القول بوجوب
الثلث قول كل الأمة وأن لا يكون هناك دليل دال على الأكثر
فإن بتقدير ذلك لا يصح أن يتمسك بالبراءة الأصلية فإنها
ليست بحجة مع الناقل السمعي فإن قلت هل الأخذ بأقل ما قيل
تمسك بالإجماع قلت قال بعض الفقهاء ذلك وعزاه إلى الشافعي
وهو خطأ عليه رضي الله عنه قال القاضي أبو
ج / 3 ص -176-
بكر
ولعل الناقل عنه زل في كلامه وقال الغزالي هو سوء ظن به
فإن الجمع عليه وجوب هذا القدر ولا مخالفة فيه والمختلف
فيه سقوط الزيادة والإجماع فيه وقد علمت مما قررناه أنه
ليس تمسكا بالإجماع وحده فإن قلت حاصل ما قررته أنه مركب
من الإجماع وهو دليل بلا ريب ومن البراءة الأصلية وهي كذلك
فما وجه جعله دليلا مستقلا برأسه وكيف يتجه ممن يوافق على
الدليل المذكورين مخالفة الشافعي رحمه الله فيه فما هو إلا
تمسك بمجموع هذين الدليلين الدال
أحدهما على إثبات الأقل والآخر على نفي الزيادة قلت هذا
السؤال لم نزل نورده ولم يتحصل لها عنه جواب فإن قلت ما
بال الشافعي اشترط أربعين في الجمعة وقد اكتفى بعض العلماء
بثلاث واشترط سبعا في عدد الغسل من ولوغ الملك وقد اكتفى
فيه بثلاث مرات قلت هذا سؤال لم يحط بالحقائق فالشافعي لم
يخالف أصله لأن أصله الأخذ بالمتيقن وطرح المشكوك واتفق
العلماء في صورة الجمعة والغسل من ولوغ الكلب بالخروج عن
العهد بالأربعين وبالسبع واختلفوا في الخروج عنها بما دون
ذلك فالأربعون السبع بمنزلة الأقل إذا أخذ الشافعي فيهما
بالمتيقن فلا يتوهمن متوهم أنه أخذ بالأكثر فيما ذكر وإنما
أخذ بالمتيقن ولا يقال قد اشترط بعض العلماء الخمسين في
الجمعة وكان قياس هذا الأصل القول بالخمسين لأنا نقول وصح
له دليل ينفي اشتراط الخمسين هذا ما انقدح لنا في وجوب هذا
السؤال وهو ما اقتضاه إيراد الإمام أبي المظفر بن السمعان
في القواطع حيث قال الأخذ بأقل ما قيل على ضربين
أحدهما أن يكون فيما أصله براءة الذمة فيختلف في قدره بعد
الاتفاق على وجوبه كدية اليهودي وحكى وجهين للأصحاب فيه
والثاني أن يكون فيما هو ثابت في الذمة كالجمعة الثابت
فرفضها فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها ولا
تبرأ الذمة بالشك وهل يكون الأخذ بالأكثر دليلا فيه وجهان
انتهى فجعل الأكثر هنا بمنزلة الأقل ثم ومن الناس من أجاب
عنه بأن الشافعي لم يخالف أصله لأن شرطه عدم ورود دليل
سمعي على الأكثر كما عرفت ولم يوجد هذا الشرط عنده فيما
ذكرتم بل دل
ج / 3 ص -177-
الدليل
على الأكثر فلم يمكن التمسك فيه بالبراءة الأصلية ويوضح
ذلك أن بعض العلماء اشترط في الجمعة خمسين فلو أن الشافعي
أخذ بالأكثر لاشتراط الخمسين فإن قلت فهل يقضون فيما إذا
أحدث مجتهد أداه اجتهاده إلى إيجاب قدر أقل من الثلث بأن
ذلك يصير مذهبا للشافعي رحمه الله لأنه أقل ما قيل حينئذ
قلت هذا غير متصور لأن الاجتهاد مع قيام الإجماع خطأ ولو
صدر من واحد لسفهنا كلامه وقضينا عليه بما نقضي على خارق
الإجماع فإذا قلت هب أنه لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع
لكن لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول قلت إنما لا يلزم
من عدم الدليل عدم المدلول في الأمور الحقيقة لا في
الشرعية التكليفية فإن تجويز ذلك يستلزم تكليف ما لا يطاق
فإن قلت لا يلزم من عدم وجدانه عدم وجوده قلت هذا ساقط إن
قلنا كل مجتهد مصيب وإلا فيصير حكم الله في حقه إذ ذاك ذلك
الذي غلب على ظنه فيخرج عن العهدة وألا يلزم التكليف بما
لا يطاق
قوله قيل يجب الأكثر تقرير هذا الاعتراض أنه ينبغي أن يجب
الأكثر ليستيقن المكلف الخاص حينئذ وجوابه أن ذلك إنما يجب
حيث تيقنا شغل الذمة لا حيث الشك والزائد على الأقل لم
يتيقن فيه ذلك لعدم ثبوت الدليل عليه واعلم أن هذا
الاعتراض يناسب من يقول بقاعدة الاحتياط والاحتياط أن يجعل
المعدوم كالموجود والموهوم كالمحقق وما يبرئ على بعض
التقديرات يلزم به وما لا يبرئ على كل التقديرات لا يلزم
به ونأخذ بأقل القولين وأكثرهما ولعلنا نتعرض لهذه القاعدة
في الأشباه والنظائر كملها الله تعالى وقد عضدت القول بها
مرة بقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم
وهو استئناس حسن ذكرته لأبي أيده الله فأعجبه
قال الخامس المناسب المرسل إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية كتترس الكفار المقاتلين
بأسارى المسلمين اعتبر وإلا فلا وأما مالك فقد اعتبرها
مطلقا لأن اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبارها ولأن
الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمعرفة المصالح
"ش" تقدم في كتاب القياس أن المناسب إما يعلم أن الشارع
اعتبره أو الفاه
ج / 3 ص -178-
أو
يجهل حاله وانفصل القول البليغ في القسمين الأولين والنظر
هنا في الثالث وقد يعبر عنه بالمصالح المرسلة وبالاستصحاب
وفيه مذاهب
أحدها المنع منه مطلقا وهو الذي عليه الأكثرون والثاني أنه
معتبر مطلقا وهو المنقول عن مالك بن أنس رحمه الله والثالث
ما اختاره المصنف أنه إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية
كلية اعتبرت وإن فات أحد هذه القيود الثلاثة لم تعتبر
والضرورية ما تكون في الضروريات الخمس أعني الدين والعقل
والنفس والمال والنسب والقطعية التي تجزم بحصول المصلحة
فيها والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة تعم جميع المسلمين
ومثل ذلك بما إذا تترس الكفار حال التحام الحرب بأسارى
المسلمين وقطعنا بأنا لو امتنعنا عن التترس لعدمونا
واستولوا على ديارنا وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس
لقتلنا مسلما من دون جريمة صدرت منه فيجوز والحالة هذه
رمية وهذا التفصيل مأخوذ من الغزالي رحمه الله ونحن نشبع
القول فيه ثم نلتفت إلى الكلام مع مالك رضي الله عنه فنقول
ما ذكرناه من المثال لا عهد به في الشريعة قال الغزالي فلا
يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد فنقول هذا الأسير مقتول
بكل حال لأنا لو كففنا عن الترس لسلطنا الكفار على جميع
المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فحفظ المسلمين
أقرب إلى مقصود الشرع لأنا على قطع نعلم أن الشرع يقصد
تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر
على الحسم فقد قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى
مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة بالشرع لا بدليل واحد بل
أدلة خارجة عن الحصر ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق
وهو قتل من لم يذنب لم يشهد أصل معين فينقدح اعتبار هذه
المصلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية
كلية فليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم أنه
لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة فيعدل
عنها وليس في معناها إذا لم يقطع بظفرهم بنا فإنها ليست
قطعية بل ظنية كذا قال الغزالي وهو إشارة إلى اعتبار القطع
بحصول المصلحة وفي اشتراط القطع به وعدم الاكتفاء بالظن
الغالب نظر
وقد حكى الأصحاب في مسألة الترس وجهين من غير تصريح منهم
ج / 3 ص -179-
باشتراط القطع وعللوا وجه المنع بأن غاية الأمر أن نخاف
على أنفسنا ودم المسلم لا يباح بالخوف وهذا تصريح بجريان
الخلاف في صورة الخوف ولا قاطع فيه وقد يقال إن المسألة في
حالة القطع مجزوم باعتبارها والخلاف إنما هو في حالة الخوف
وقد صرح الغزالي بذلك في المستصفي وقال إنه إنما يجور ذلك
عند القطع أو ظن قريب من القطع وليس في معناها جماعة في
سفينة لو طرحوا واحدا لنجوا وإلا غرقوا بحملتهم لأنها ليست
كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور ولعل مصلحة الذين في بقاء
من طرح أعظم منها في بقاء من بقي ولأنه ليس يتعين واحد
للإغراق إلا أن يعين بالقرعة ولا أصل لها في الشرع وكذلك
جماعة في مخصمة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه
وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح فإنه ينقدح
الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحة وقد شهد الشرع بالإضرار
لشخص في قصد صلاحه كالقصد والحجامة وغيرهما وكذلك قطع
المضطر فلقة من فخذه إلى أن يجد الطعام هو كقطع اليد لكن
بما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك ويكون الخوف منه
كالخوف في ترك الأكل أو أشد فيمنع منه وليس كذلك ما إن كان
الخوف منه دون الخوف من ترك الأكل فإنه يجوز على الأصح
بشرط أن لا يجد شيئا غيره فإن قلت فهل يجوزون أن يقطع
لنفسه من معصوم غيره أو أن يقطع الغير للمضطر من نفسه قلت
لا نجوزه لأنه ليس رعاية مصلحة أحدهما بالقطع له أولى من
رعاية الآخر بترك القطع فإن قلت فالضرب بالتهتمة للاستنطاق
بالسرقة مصلحة فهل تقولون به قلت قد قال به مالك رحمه الله
ولكنا لا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن لما
علمت من معارضة هذه المصلحة لمصلحة أخرى وهي مصلحة المضروب
فربما يكون بريئا من الذهب فترك الضرب في مذنب أهون من ضرب
برئ وإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي
الضرب فتح أبواب إلى تعذيب البرآء فإن قلت فالزنديق إذا
تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله1" فماذا ترون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري – كتاب الإيمان – من حديث ابن عمر كما
أخرجه مسلم – كتاب الإيمان عن ابن عمر وأبي هريرة وجابر بن
عبدالله
ج / 3 ص -180-
"قلت" المسألة في محل الاجتهاد والذي نراه قبول توبته جريا
على تعميم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن غاية
ظننا فيه أنه أسر الكفار ولسنا على قطع بذلك وقد صادم هذا
الظهور بلفظه بكلمة الشهادة العاصمة عن القتل فلا يرجع
إليه وهذا الذي رأيناه هو الذي نص عليه الشافعي رضي الله
عنه في المختصر وقطع به العراقيون وصححه المتأخرون وخالف
فيه بعض الأصحاب واستعجل هذه المصلحة في تخصيص عموم الحديث
وزعم الروياني أن العمل على ذلك وفي المسألة أوجه أخر
ناظرة إلى ما يقوي الظن
فقال القفال الشاشي لا تقبل توبة المشاهير في الخبث كدعاة
الباطنية وتقبل من عوامهم وقال الأستاذ أبو إسحاق إن أخذ
ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائبا وظهرت إمارات الصدق قبلت
وهو حسن وقال أبو إسحاق المروزي لا يقبل إسلام من تكررت
ردته فإن قلت رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة
أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرجهم وسفك دمائهم بإثارة
الفتنة والمصلحة قتله لكف شره فما تقولون
قلت إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا سبيل إلى قتله
إذ في تجليد الحبس عليه كفاية شره فليست هذه المصلحة
ضرورية فإن قلت فلو كان زمان فترة لم يقدر على تخليد الحبس
فيه مع تبديل الولايات على قرب فليس في حبسه إلا إيغار
صدره وتحريك داعيته
قلت هذا رجم وحكم بالوهم فربما لا يفلت وتتبدل الولاية
والتنقل بتوهم المصلحة لا سبيل إليه فإن قلت إذا توقعنا من
الساعي في الأرض بالفساد بتعريض أموال المسلمين ودمائهم
للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته
المجربة طول عمره
قلت قال الغزالي لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إليه قال بل
هو أولى من التترس فإن هذا ظهرت جرائمه الموجبة للعقوبة
فكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبعه وسجيته
ونحن نقول فيما ذكره الغزالي نظر بل الفرق بين هذا ومسألة
التترس دعت الضرورة إلى المبادرة بحيث أنا لو لم نبادر
ج / 3 ص -181-
في
الوقت الحاضر لاستأصلونا وأما هذا فجاز أن يهلكه الله
تعالى قبل أن يصدر منه ما يتوقع في المستقبل ولا يتصور قطع
في ذلك فإن قلت كيف يجوز هذا في مسألة الترس وها هنا على
ما ذكر الغزالي وقد قدمتم في كتاب القياس أن المصلحة إذا
علم إلغاؤها بمخالفة النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على
الملك المجامع في نهار رمضان وهذا يخالف قوله تعالى:
{وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً1}
وقوله تعالى:
{وَلا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ2}
فإن زعمتم أن نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فليخص العتق بصورة
يحصل بها الانزجار على الجناية
قلت جعل الغزالي المسألة في محل الاجتهاد قال ولا يبعد
المنع من ذلك ويتأيد بمسألة السفينة فإنه يلزم منه قتل ثلث
الأمة في استصلاح ثلثيها ترجيحا بالكثرة إذ لا خلاف في أن
كافرا لو قصد قتل عدد مخصوص كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا
يجوز لهم قتل الترس في الدفع بل حكمهم حكم عشرة أكرهوا على
قتل أو اضطروا إلى أكل أحدهم
وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن الكلي الذي لا
يحصره حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد ولهذا لو
اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح ولا يحل له إذا
اشتبهت بعشرة أو عشرين ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم أو
ذراريهم قتلناهم وأن التحريم عاما لكن تخصيصه بغير هذه
الصورة بل أبلغ من هذه الصورة أنه لو لم تكن المصلحة
ضرورية
وإنما كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم لجاز
رميهم على أحد قولي الشافعي رحمه الله لئلا يتخذ ذلك ذريعة
للجهاد فإذا خصص العموم بما ذكرناه كذلك ها هنا التخصيص
ممكن وقول القائل هذا سفك دم معصوم يعارضه أن في الكف عنه
إهلاك دماء معصومة لا حصر لها ونحن نعلم أن الشرع يؤثر حفظ
الكلي على الجزئي وأن حفظ أصل الإسلام عن اصطدام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 93
2 سورة الإسراء آية 33
ج / 3 ص -182-
الكفار
أهم في مقصود الشرع من دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من جهة
الشرع والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل فإن قلت فتوظيف
الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا قلت لا سبيل إليه
مع كثرة الأموال في أيدي الجنود
أما إذا خلت الأيدي ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات
العسكر ولو تفرق العسكر أو اشتغلوا بالكسب لخيف دخول
الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة
في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار
كفاية الجند ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي
فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض ضرران دفع أشدهما وما
يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه
وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة بحفظ نظام الأمور
وبقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة
بأن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن
الأدوية وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه وهذا
أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة التترس لكن هذا تصرف في
الأموال والأموال بذلة محور ابتذالها في الأغراض التي هي
أهم منها
وإنما الخطر سفك دم المعصوم من غير ذنب فإن قلت أجرة
الجلاد في الحدود والقاطع في السرقة إذا قلنا حدا لوجهين
وهو أنها تجب من بيت المال لا على المجلود والسارق المقطوع
ولم يكن في بيت المال ما يمكن صرفه إليه فهل للإمام أخذها
من الأغنياء
قلت يأخذ من الأغنياء إذا لم تكن مندوحة عن ذلك وهنا
مندوحة فليستقرض على بيت المال إلى أن يجد سعة فإن لم يجد
من يفرضه فعل ذلك على أن القاضي الروياني جوز أن تستأجر
بأجرة مؤجلة أو من يستخير من يقوم به على ما يراه قال
الرافعي والاستئجار قريب والتخيير بعيد وبتقدير أن يجوز
ذلك فيجوز أن يأخذ الأجرة من يراه من الأغنياء ويستأجر به
فإن قلت فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالأشخاص
مثل المفقود زوجها وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين
وأحدهما سابق وأستبهم الأمر ووقع اليأس على البيان هل
ينفسخ النكاح بالمصلحة أم تبقى المرأة محبوسة طول العمر عن
ج / 3 ص -183-
الأزواج ومحرومة في الصورة الثانية عن زوجها المالك في علم
الله وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها ما شاء الله وتعوقت
عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد
بالأشهر أو يكفي بتربصها أربع سنين فكل ذلك مصلحة ودفع
ضررها ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا
قلت المسألتان الأوليان مختلف فيهما فهما في محل الاجتهاد
فقد قال في القديم تنكح زوجته المفقودة بعد أربع سنين ولكن
الجديد هو الصحيح فإنه يبعد الحكم بموته من غير بينه إذ لا
ندارس الأخبار أسباب سواء الموت لا سيما في حق الحامل
الذكر النازل القدر وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو
قياس والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من إعسار وجب وعنة
وإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطء وذلك في
الحضر لا يؤثر فكذا في الغيبة لإيقاع سبب الفسخ رفع الضرار
عنها ورعاية جانبها لأنه معارض برعاية جانبه وفي تسليم
زوجته إلى غيره بفتنة ولعله محبوس أو غير ذلك إضرار به فقد
تقابل الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن
وأما مسألة الأولين فإن علم سبق أحدهما ولم يعلم عينه
فباطلان على المذهب المنصوص وأن سبق معين ثم خفي فالمذهب
الوقف حتى يتبين وقيل فيه قولان فلو قبل بالفسخ من حيث
تعذر إمضاء العقد لم يكن حكما بمجرد مصلحة بل معتضدا بأصل
معين وأما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي
وقد أوجب الله تعالى التربص بالإقراء إلا على اللائي يئسن
وليس هذه منهن وما من لحظة إلا ويتوقع هجوم الحيض فهذا عذر
نادر لا يسلطنا على تخصيص النص قال الغزالي وكان لا يبعد
عندي لو اكتفى بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين لكن لما وجبت
العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب العبد قلت وقد
قال في القديم فيما إذا انقطع دمها لا لعلة تعرف أنها
تترابص بسبعة أشهر وفي قول أربع سنين وفي قول مخرج ستة
أشهر ثم تنتقل إلى الأشهر فإن قلت فقد ملتم في أكثر هذه
المسألة إلى القول بالمصالح فلم لم
ج / 3 ص -184-
تلحقوا
هذا الأصل بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وتجعلوه أصلا
خامسا قلت من ظن أنه أصل خامس خطأ لانا رددنا المصلحة إلى
حفظ مقاصد الشرع وهي معروفة بالكتاب والسنة والإجماع فكل
مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بهذه
الأدلة فليس هذا خارجا عن هذه الأصول لكنه لا يسمى قياسا
بل مصلحة مرسلة إذ القياس له أصل معين وكون هذه المعاني
مقصودة عرفت بلا دليل واحد بل بأدلة كثيرة من الكتاب
والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الإمارات فسمى لذلك مصلحة
مرسلة
قال الغزالي وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع
فلا وجه للخلاف فيها بل نقطع بكونها حجة وحيث جاء خلاف فهو
عند تعارض مصلحتين ومقصودين وعند ذلك يرجح الأقوى
ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا لكلمة الكفر والشرب لأن
الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور ولا يباح به الزنا
لأنه في مثل محذور الإكراه فإذن منشأ الخلاف في مسألة
الترس الترجيح إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة
السفينة ولا رجح الجزئي على الكلي في قطع اليد المتآكلة
وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس فيه خلاف فإن
قلت لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام ولكن لا نسلم أن
هذه مخالفة قلت قهر الكفار واستعلاء الإسلام مقصود وفي هذا
استئصال الإسلام واستعلاء الكفر فإن قلت فالكف عن المسلم
الذي لم يذنب مقصود قلت اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين
ولا بد من الترجيح والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فإن
قلت لا نسلم أن الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فإن ذلك
لا يعرف إلا بنص أو قياس قلت عرف ذلك لا بنص واحد بل
بتفاريق أحكام واقتران دلالات لم يبق معها الشك في أن حفظ
خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص
معين في ساعة أو نهار وسيعود إليه الكفار بالقتل
وهذا كما أبحنا أكل مال الغير بالإكراه لعلمنا بحقارة
المال في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدماء وكما قلنا في
مسألة السفينة أنه لو كان فيها مال
ج / 3 ص -185-
لوجب
الفاه لأن المفسدة في فواته أخف من المفسدة في فوات أرواح
الناس فإن قلت لو علمنا أنهم لا يقتلون الترس بعد استئصال
الإسلام فما ترون
قلت الذي لاح من كلام الغزالي أولا وآخرا أن الجواز إنما
هو حالة العلم باستئصال الأسارى أيضا ولكن كلام الأصحاب في
حكاية الخلاف مطلق والذي يظهر لي إطلاق الجواز فإن حفظ
الجمع العظيم الخارج عن حد الحصر مع خطة الدين وإعلاء كلمة
الإسلام أهم في مقاصد الشرع من حفظ عشرة أنفس مثلا يصيرون
مستأسرين تحت ذل الكفر فإن قلت فهلا فهمتم أن حفظ الكثير
أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة والإكراه والمخصمة
قلت إن الإجماع قام وهو لا يصادم على أنه لو أكره شخصان
على قتل شخص لا يحل لهما قتله وأنه لا يحل لمسلم أكل مسلم
في المخصمة فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة بمجردها أما
ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع أو بظن قريب منه لم يقم
دليل على خلافه فقد علمت بما أوردناه وغالبه من كلام
الغزالي أنه يجوز أتباع المصالح بالشروط التي سردناها وبأن
لك أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه بل من استصلح فقد
شرع كما أن من استحسن فقد شرع فلنلتفت إلى الكلام مع إمام
دار الهجرة مالك رضي الله عنه حيث اعتبر جنس المصالح مطلقا
وقد نقل ناقلون هذا عن الشافعي رحمه الله ولم يصح عنه
والذي نقله عنه إمام الحرمين أنه لا يستجيز التنائي
والإفراط في البعد وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها
شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى
أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة
واختار إمام الحرمين ذلك أو نحوا منه وإذا حقق التفصيل
الذي ذكرناه عن الغزالي لم يكن بعيدا من هذا إذا عرفت هذا
فنقول قال إمام الحرمين الذي ننكره من مذهب مالك ترك رعاية
ذلك وجريانه على استرساله في الاستصواب من غير اقتصاد ونحن
نعرض على مالك واقعة وقعت نادرة لا يعهد مثلها ونقول له لو
رأى ذو نظر فيها جذع أنف أو اصطلاح شفة وأبدى رأيا لا
تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش
وهذه العقوبة لائقة بهذه النازلة للزمك التزام هذا لأنك
تجوز لأصحاب الإيالات القتل
ج / 3 ص -186-
في
التهم العظيمة حتى نقل عنك الثقات أنك قلت أقتل ثلث الأمة
في استيفاء ثلثيها ثم إنا نقول ثانيا أيجوز التعلق بكل رأي
فإن أبى ذلك لم نجد مرجعا يفر عنه إلا ما ارتضاه الشافعي
من اعتبار المصالح المشبه بما علم اعتباره وإن لم يذكر
ضابطا وصرح بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى
الرأي واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن
الضبط كما ذكر القاضي أبو بكر حيث قال المعاني إذا حضرتها
الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشرع فإذا
لم يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط ويتسع الأمر ويرجع
إلى اتباع وجوه الرأي واقتفاء حكمة الحكماء ويصير ذوو
الأحلام بمثابة الأنبياء حاش الله ثم لا ينسب ما يرونه إلى
ربقة الشريعة وهذه ذريعة في الحقيقة إلى إبطال أبهة
الشريعة ومصير إلى أن كلا يفعل ما يرى ثم يختلف ذلك
باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق وهو في الحقيقة خروج
عما درج عليه الأولون والزم إمام الحرمين مالكا رضي الله
عنه إن قال بالتمسك بكل رأي من غير فرق ومداناة بأن العاقل
ذا الرأي العالم بوجوه الآيات إذا أرجع المفتتن في واقعة
فاعلموه أنها ليست بمنصوصة ولا أصل يصاهيها بأن يسوغ له
والحالة هذه أن يعمل بالصواب عنده والأليق بطرق الاستصلاح
قال وهذا مركب صعب مساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء
واحتكام الحكماء ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك ثم
وجوه الرأي تختلف بالبقاع والأصقاع والأوقات وعقول العقلاء
تتباين فيلزم اختلاف الأحكام باختلاف كل ذلك
وهذا لا يلزم فيما له أصل وتقريب قال ولو شاع هذا لا اتخذ
العقلاء أيام كسرى أنوشروان في العدل والإيالات معتبرهم
وهذا يخرجنا الاستقلال به
وهذه الجملة التي أوردناها مجموعة من كلام إمام الحرمين في
البرهان وهذا الإلزام الذي ذكره أخيرا لا يلزم مالكا لأنه
يشترط في اتباع المصلحة أن لا يناقض أمرا مفهوما من
الشريعة والعامي من أين يعلم هذا والمانع من مناقضة ما
يراه من الرأي لقواعد الشريعة وقد احتج مالك بوجيهن أشار
إليهما في الكتاب
أحدهما أن الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام
واعتبار جنس
ج / 3 ص -187-
المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها من جملة
أفرادها والعمل بالظن واجب
والثاني أن المتتبع لأحوال الصحابة رضي الله عنهم يقطع
بأنهم كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصالح في الواقع ولا
يبحثون عن وجود أمر آخر وراءها فكان ذلك منهم إجماعا على
وجوب اعتبار المصالح كيف كانت ولم يتعرض المصنف للجواب عن
هاتين الشبهتين ونحن نقول في الجواب عن الأولى ليس اعتبار
المصالح المرسلة بمجرد مشاركتها للمصالح التي اعتبرها
الشارع في كونها مصالح بأولى من إلغائها لمشاركتها للمصالح
التي ألقاها الشارع في ذلك فيلزم اعتبارها وإلقاؤها وعن
الثانية لا نسلم أن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمجرد
معرفة المصالح وسند المنع أنه لو كان كذلك لم ينعقد
الإجماع بعدهم على إلغاء بعض المصالح فدل على أنهم لم
يعتبروا من المصالح إلا ما اطلعوا على اعتبار الشرع نوعه
أو جنسه القريب فإن الشارع لم يعتبر المصالح مطلقا بل
بقيود وشرائط لا تهتدي العقول إليها إذ غاية العقل أن يحكم
بأن جلب المصلحة مطلوب لكن لا ينتقل بإدراك الطريق الخاص
لكيفيته فلا بد من الإطلاع على ذلك الطريق بدليل شرعي مرشد
إلى المقصد فقبله لا يمكن اعتبار المصالح فإن قيل فبأي
طريق أبلغ الصحابة رضي الله عنهم حد الشرب إلى ثمانين فإن
كان مقدرا فقد زادوا بالمصلحة وإن كان تعذيرا غير مقدر فلم
افتقر إلى التشبيه بحد القذف وكيف بلغ الحد
قلنا الصحيح أنه لم يكن مقدرا لكن ضرب الشارب في زمن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب مقدار ذلك
على سبيل التعديل والتقويم بأربعين فرأوا المصلحة في
الزيادة فزادوا و التقديرات مفوضة إلى رأي الأئمة فكأنه
يثبت بالإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل اعملوا بما
رأيتموه أصوب بعد صدور الجناية الموجبة للعقوبة ومع هذا
فلم يريدوا الزيادة على تقرير فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف
لأن من سكر هذا ومن هذا افترا ومظنة الشيء تقام مقام الشيء
كما يقام النوم مقام الحدث والوطء مقام شغل الرحم والبلوغ
مقام نفس العقل والله أعلم
ج / 3 ص -188-
قال السادس فقد الدليل بعد التفحيص البليغ يغلب عدم ظن
عدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل
"ش" الأستدلال على عدم الحكم بعدم الدليل حق مستقبل عند
المصنف وتقريره أن فقدان الدليل بعد بذل الوسع في التفحص
يغلب ظن عدم الدليل وظن عدمه يوجب ظن عدم الحكم لأن عدم
الحكم الدليل يستلزم عدم الحكم لأنه لو ثبت حكم شرعي ولا
دليل عليه للزم منه تكليف الغالب وهو ممتنع |