الإبهاج في شرح المنهاج قال "الباب الثاني في المردودة في الاستحسان
قال به أبو حنيفة وفسر بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد
وتقصر عنه عبارته ورد بأنه لا بد من ظهوره ليتميز صحيحه من
فاسدة وفسره الكرخي بأنه قطع المسألة عن نظائرها لما هو
أقوى كتخصيص أبي حنيفة قول القائل مالي صدقة بالزكاة لقوله
تعالى خذ من أموالهم صدقة وعلى هذا فالاستحسان تخصيص وأبو
الحسين بأنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول
الألفاظ لأقوى يكون كالطارئ فخرج التخصيص ويكون حاصله
تخصيص العلة"
"ش" ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى القول بالاستحسان وأنكر
الباقون حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع ورد الشيء قبل
فهمه محال فلا بد أولا من فهم الاستحسان وقد ذكر المصنف
ثلاث مقالات لهم
الأولى أنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس
المجتهد وتقصر عنه عبارته فلا يقدر أن يفوه به وردها صاحب
الكتاب بأنه لا بد من ظهور ليتبين ليتبين صحيحه من فاسدة
فإن ما ينقدح في نفس المجتهد قد يكون وهما لا عبره به وهذا
الرد يتضح به أنه لا يجدي شيئا في مجلس المناظرة وأما أن
المجتهد لا يعمل به فللقوم منع ذلك وأن يقولوا إذا انقدح
له دليل على حادثة وهو جازم بها أفتى بها المقلد ولكن سبيل
الرد عليهم أن يقولوا هذا الدليل المنقدح في نفس المجتهد
إنما يمتاز عن غيره من الأدلة لكونه لا يمكن التعبير عنه
وذلك أمر لا يؤل إلى القدح في كونه دليلا فجاز التمسك به
وفاقا فأين الاستحسان المختلف فيه
ج / 3 ص -189-
المقالة الثانية قال الكرخي الاستحسان قطع المسألة عن
نظائرها أي أن المجتهد يعدل عن الحكم في مسألة بما حكم به
في نظائرها إلى الحكم بخلافه لوجه أقوى من الأول يقتضي
العدول عنه ومثاله تخصيص أبي حنيفة رضي الله عنه قول
القائل مالي صدقة بمال الزكاة فإن هذا القول منه عام في
التصدق بجميع أمواله وقال أبو حنيفة يختص بمال الزكاة
لقوله تعالى:
{خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً1}
والمراد من الأموال المضافة إليهم أموال الزكاة فعدل عن أن
يحكم في مسألة المال الذي ليس هو بزكوى بما حكم به في
نظائرها من الأموال الزكوية إلى خلاف ذلك الحكم لدليل أقوى
اقتضى العدول وهو الآية ورد المصنف هذا بأنه يلزم من أن
يكون التخصيص استحسانا لأنه عدول بالخاص عن بقية أفراد
العام بدليل ونحن موافقون على التخصيص فأين الاستحسان
المختلف فيه ويلزم منه أيضا أن يكون الناسخ استحسانا لكونه
كذلك إذا كان نسخا في بعض الصور
والثالثة قال أبو الحسين هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير
شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو حكم الطارئ على الأول
واحترز بقوله وهو في حكم الطارئ على الأول عن ترك أضعف
القياسين للأقوى فإن أقوى القياسين ليس في حكم الطارئ على
الأضعف فإن فرض أنه طارئ فذاك الاستحسان
ومثال ذلك العنب حيث يحرم بيعه بالزبيب سواء كان على رؤوس
الشجر أم لا قياسا على الرطب ثم إن الشارع أرخص في بيع
الرطب على رؤوس النخل بالتمر فقيس عليه العنب وترك القياس
الأول لكن الثاني أقوى فلما اجتمع في الثاني القوة
والطريان كان استحسانا ورده صاحب الكتاب بأن حاصله راجع
إلى أن الاستحسان هو تخصيص العلة ونحن موافقون على ذلك ولك
أن تقول هو بهذا التفسير أعم من تخصيص العلة فإنه رجوع عن
حكم دليل خاص إلى مقابلة بدليل طارئ عليه أقوى منه وذلك
أعم ورده الإمام بأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية 103
ج / 3 ص -190-
يقتضي
أن تكون الشريعة كأنها استحسان لأن البراءة الأصلية مقتضى
العقل وإنما يترك ذلك لدليل أقوى منه وهذا الأقوى في حكم
الطارئ على الأول ثم قال ينبغي أن يزاد في حكم الحد قيد
آخر فيقال ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية
واللفظية بوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأولى
قال صفي الدين الهندي وفي قوله ترك وجه من وجوه الاجتهاد
ما ينبئ عن أن ذلك الوجه مغاير للبراءة الأصلية فإنها ليست
وجها من وجوه الاجتهاد إذ هي معلومة أو مظنونة من غير
اجتهاد فلا حاجة إلى ما ذكره الإمام من القيد ومن وجود
الرد على هذا التفسير أنه يقتضي أن يكون العدول من حكم
القياس إلى النص الطارئ عليه استحسانا والخصم لا يقول به
ذكره الهندي قال ثم إنه لا نزاع في هذا أيضا فإن حاصله
يرجع إلى تغيير الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى
مقابلة بدليل أقوى منه وهو طارئ عليه من نص أو إجماع أو
غيرهما
وقد ذكر للاستحسان تفاسير أخر مزيفة لا نرى التطويل بذكرها
وحاصلها يرجع إلى أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه ثم إنا
نقول لهم بعد ذلك إن عنيتم ما يستحسنه المجتهد يعقله ورأى
نفسه من غير دليل وذلك هو ظاهر لفظة الاستحسان والذي حكاه
بشر المريسي والشافعي عن أبي حنيفة رحمه الله وقال الشيخ
أبو إسحاق الشيرازي هو الصحيح عنه فهذا لعمر الله اقتحام
عظيم وقول في الشريعة بمجرد التشهي وتفويض الأحكام إلى
عقول ذوي الآراء ومخالفة لقوله تعالى:
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ1} ولكن أصحابه ينكرون هذا التفسير وإن عنيتم جواز استعمال لفظ
الاستحسان فأنى ينكر ذلك والله تعالى يقول
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ2} والكتاب والسنة مشحونان بذلك والقوم لا يعنون بالاستحسان ذلك فلا
نسهب في الإمعان فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشوري آية 10
2 سورة الزمر آية 18
ج / 3 ص -191-
فإن
قلت قد وقع في كلام الشافعي رضي الله عنه استحسن في المتعة
أن تكون ثلاثين درهما واستحسن أن تثبت الشفعة للشفيع إلى
ثلاثة أيام واستحسن أن يترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة
واستحسن أن يضع أصبعيه في صفاحي أذنيه إذا أذن
وقال الغزالي استحسن الشافعي رضي الله عنه التحليف على
المصحف وقال في السارق إن أخرج يده اليسرى بدل اليمين
القياس أن تقطع يمناه والاستحسان أن لا يقطع وقال الأوزاعي
في أخلاق الأصحاب في مسألة الجارية المعنية وهي التي
اشتريت بألفين ولولا الغنى لساوت الفآكل هذا استحسان
والقياس الصحة وقال الرافعي في التغليظ على المعطل في
اللعان استحسن أن يحلف ويقال قال بالله الذي خلقك ورزقك
فقد قيل أن المعطل وإن غلا في إنكاره فإذا رجع إلى نفسه
وجدها مذعنه لخالق وقال القاضي الروياني فيما إذا امتنع
المدعي من اليمين المردودة وقال أمهلوني لأسأل الفقهاء
استحسن قضاء بلدنا إمهاله يوما قال أبو الفرج السرخسي في
تقدير نفقة الخادم على الزوج المتوسط استحسن الأصحاب أن
يكون عليه مد وسدس لتفاوت المراتب في حق الخادمة فإن
الموسر عليه مد وثلث والمعسر مد فليكن المتوسط كذلك كما
تفاوتت المراتب في حق المخدومة
وقال الأصحاب ليس لولي المجنونة والصبية المراهقة إذا آلى
عنهما الزوج وضربن المدة وانقضت أن لا يطالب بالغيبة لأن
ذلك لا يدخل تحت الولاية واستحسن أن يقول الحاكم للزوج على
سبيل النصيحة اتق الله يفئ إليها أو طلقها
وقال أبو العباس بن القاص في التخليص لم يقل الشافعي
بالاستحسان إلا في ثلاثة مواضع وذكر ثلاثا من هذه الصور
المعدودة ونحن أيضا نقول ما الاستحسان الذي قال به الشافعي
قلت قد عرفت أنه لا نزاع في ورود هذه اللفظة على الألسنة
استعمالا وقول ابن القاص لم يقل به إلا في ثلاثة مسائل يجب
أن يكون المراد منه لم يزد على لفظة فيما اطلعت عليه لما
هو المعروف المشهور من قاعدته في الرد على الاستحسان ثم
نقول في هذه الصورة الدليل
ج / 3 ص -192-
على
أنه ليس فيها إلا استعمال اللفظ أن أحدا من الأصحاب لم
يقدر المتعة بثلاثين درهما بل منهم من استحسن هذا القدر
لأجل ذهاب ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما إليه وقال في
التنمية المستحب أن يمتعها بخادم فإن لم يكن فثلثين أو
مقنعة ولم يقل الشافعي ولا أحد من الأصحاب أن دليل ذلك
الاستحسان ولم يوجب أحد منهم على السيد أن يترك للمكاتب
شيئا من نجوم الكتابة بل أوجبوا الإيتاء ماحطا من نجوم
الكتابة وإيتاء من غيرها واستحبوا أن يكون خطا من النجوم
وكل مستحب مستحسن قال الشافعي استحسن أن يترك شيء للمكاتب
من نجوم الكتابة ولم يقل أن مستنده الاستحسان وأما مسألة
السارق فلم يقل أيضا لا تقطع يمناه للاستحسان أن لا يقطع
فيلزم من يقول به أن لا يقطعها وكذلك القول في سائر الصور
المذكورة فإن قلت ولم جرى الخلاف المذهبي في مسألتي الشفعة
والسارق قلت لا أجل الاستحسان معاذ الله لا نجد في عبارة
أحد من الأصحاب ذلك بل لمعان أخر نجدها مسطورة في الفقهيات
قال "الثاني قيل قول الصحابي حجة وقيل إن خالف
القياس
وقال الشافعي في القديم إن انتشر ولم يخالف لنا قول
فاعتبروا بمنع التقليد وإجماع الصحابة على جواز مخالفة
بعضهم بعضا وقياس الفرع على الأصول قيل أصحابي كالنجوم
بأيهم اقتديتم اهتديتم قلنا المراد عوام الصحابة قيل إذا
خالف القياس اتبع الخير قلنا ربما خالف لما ظنه دليلا ولم
يكن"
"ش" اتفق أهل العلم على أن قول الصحابي ليس حجة على صحابي
آخر مجتهد كما صرح به القاضي أبو بكر في التقريب والإرشاد
باختصار إمام الحرمين والمتأخرون منهم الآمدي وغيره
واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن عداهم من المجتهدين
فذهب الشافعي رضي الله عنه في الجديد والأشاعرة والمعتزلة
وأحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين والكرخي إلى أنه ليس
بحجة مطلقا وهو باختيار الإمام والآمدي وعليه جرى صاحب
الكتاب وقال آخرون هو حجة مطلقا وعليه الشافعي رحمه الله
في القديم كما نقل المصنف أنه حجة بشرط أن ينتشر
ج / 3 ص -193-
ولا
يخالف كذا حكى المصنف هذا المذهب وهو وهم وإنما هذا قول من
مسألة أخرى وهي أنه هل يجوز للعالم تقليده وفيها مذاهب
أحدها هذا وقد ذكر الإمام هذه المسألة فرعا بعد ذكر
المسألة التي نحن فيها فنقل المصنف هذا القول منها إلى هنا
وليس بجيد وفي المسألة التي نحن فيها قول أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما حجة دون غيرهما وهذا القول ليس هو الذي تقدم في
الإجماع وإن توهم ذلك بعض الشارحين فإن ذلك في أن قول
مجموعها إجماع لا كل واحد منهما على حدته وهذا في إن قول
كل واحد منهما وحده حجة ولا يشترط اتفاقهما
وذهب قوم إلى أن قول الخلفاء الأربعة حجة إذا اتفقوا وهذا
هو القول الذي تقدم في الإجماع فإن قلت ما دلك على أن
القائل بأن قول الشيخين حجة لا يشترط اتفاقهما هنا بخلاف
القائل ثم وأن القائل بأن قول الأربعة حجة هنا يشترط
اتفاقهم كما فعل ثم وعبارة الإمام وغيره لا تعطي ذلك قلت
أما الثاني فصرح به الغزالي في المستصفى والإمام وغيرهما
وأما الأول فهو مقتضى عدم تقييد من حكاه ولا سيما الغزالي
والإمام حيث قيد أحد القولين دون الآخر والآمدي لم يحك هنا
القول باتفاق الأربعة وكأنه اكتفى بحكايته في كتاب الإجماع
وحكى القول بحجية قول الشيخين مع حكايته في كتاب الإجماع
القول بأن اجتماعهما حجة وذلك دليل على ما قلناه وإلا فكان
حكاية قول الشيخين تكريرا وهو قد فر منه في قول الأربعة ثم
إن الخلاف هنا في أن قول الشيخين حجة لا في أنه إجماع
والخلاف هناك في كونه إجماعا وقد يكون الشيء حجة ولا يكون
إجماعا كما قيل في الإجماع السكوتي وغيره إذا عرفت ذلك فقد
احتج المصنف على أن قول الصحابي ليس بحجة مطلقا بثلاثة
أوجه
أولها قوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا1} أمر بالاعتبار وذلك ينافي التقليد كذا قرره الإمام واعترض عليه صفي
الدين الهندي بأن الأخذ بقول الصحابي عند
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آية 2
ج / 3 ص -194-
القائلين به ليس على سبيل التقليد بل هو أخذ بمدرك من
المدارك الشرعية فلا ينافي وجوب النظر والقياس كالأخذ
بالنص وغيره ولك أن تقول في تقريره قوله فاعتبروا أمر
بالاعتبار وذلك ينافي جواز التقليد كذا قرره الإمام واعترض
عليه صفي الدين الهندي بأن الأخذ بقول الصحابي عند
القائلين به ليس على سبيل التقليد بل هو أخذ بمدرك من
المدارك الشرعية فلا ينافي وجوب النظر والقياس كالأخذ
بالنص وغيره ولك أن تقول في تقريره قوله فاعتبروا يقتضي
وجوب الاجتهاد خالفناه فيما إذا وجد نص أو إجماع فبقي ما
عداهما على الأصل
والثاني أن الصحابة أجمعوا على مخالفة كل
واحد من آحاد الصحابة فإن قلت هذا دليل على غير محل النزاع
قلت لا لأنه إذا كان حجة ومن مذهبهم جواز مخالفة بعضهم
بعضا جاز لغيرهم ذلك أيضا أعين مخالفة كل منهم لأن مذهبهم
جواز المخالفة والفرض أن مذهبهم حجة كذا أجاب به العبري
وفيه نظر لأن الإقتداء بهم عند القائل به إنما هو فيما لم
يختصوا به وهم مخصوصون بعدم حجية قول بعضهم على بعض ولك أن
تضايق في تصوير وقوع إجماعهم على مخالفة بعضهم بعضا لأن
الإجماع لا بد وأن يكون من الكل والمجمع على مخالفته غير
داخل في المجمعين على فلا يتصور الإجماع دونه وإذا فهمت
هذا فنقول يمكن أن يقرر الإجماع على وجه آخر يغاير لفظ
الكتاب وهو أنهم سكتوا على مخالفة التابعين لبعضهم وذلك
باتفاق منهم على تجويزه
والثالث قياس الفروع التي هي محل الخلاف
على الأصول لامتناع كون قولهم حجة فيها على غيرهم من
المجتهدين اتفاقا والجامع كون المجتهد متمكنا من إدراك
الحكم بطريقة وقد اعترض على هذا بالفرق بين الفروع والأصول
إذ الظن الذي هو مطلوب في الفروع يحصل بقول صحابي دون
القطع الذي هو مقصود في الأصول وبأن الخصم لا يسلم أن قول
الصحابي في الأصول ليس هو حجة بل هو دليل من الأدلة يعم
الأصول والفروع واحتج من قال بأن قول
ج / 3 ص -195-
الصحابي حجة مطلقا بما روى من قوله صلى الله عليه وسلم
:"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم1"
فدل على أن الإقتداء بهم هدى وطلب الهدى واجب
وقد سلف في الإجماع الكلام على هذا الحديث وأجاب المصنف
بأن الخطاب خطاب مشافهة لا يدخل فيه غيرهم ولا يجوز أن
يكون مجتهديهم لأنه ليس محل الخلاف فتعين أن يكون لعوامهم
ونحن نسلم أن العامي منهم يهتدي بالإقتداء بأي مجتهد كان
منهم فإن قلت على هذا لا يختص هذا الحكم بهم قلت نعم من
هذا الوجه ولكن فيه فائدة تميزهم عن غيرهم بتقليد أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شاركوهم في الصحبة
التي هي من أعظم مناقبهم وهذا الوصف لم يحصل لغيرهم فإنه
لولا الدليل الدال على أن عامي الصحابة يقلد العالم منهم
كهذا الحديث وغيره لكان ينقدح للباحث أن يقول لا يقلد
الصحابي صحابيا آخر وإن قلد العامي مجتهدا والفرق أن
المجتهد يتميز عن العامي برتبة العلم ولا وصف في العامي
يقاومه به وأما عامي الصحابة فقد قاوم مجتهدهم بمشاركته في
وصفه الأعظم
وأجاب الآمدي عن الحديث بأنه وإن عم في الأشخاص فلا دلالة
على عموم الاهتداء في كل ما يقتدي فيه فيحمل على الإقتداء
بهم فما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واعتراض
الهندي على هذا بأن ترتيب الحكم على الوصف وهو كونهم صحابة
يشعر بالعلية ومن وجوه الاعتراض عليه أيضا أنا نقول العام
في الأشخاص عام في الأحوال وقد سبق في أول كتاب العموم من
البحث في هذا ما تقربه عين المسترشد واحتج من قال قول
الصحابي حجه إذا خالف القياس بأنه ثقة فلا يحمل مخالفته
للقياس إلا على إطلاعه على خبر مخافة القدح في عدالته لو
لم يكن ذلك فيعتمد حينئذ على قوله وأجاب بأنه ربما خالف
لشيء ظنه دليلا وليس في الأمر كذلك ثم إنا لو سلمنا أنه
نفس الأمر كذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الدار قطني في لافضائل وابن عبدالبر في العلم –
جامع بيان فضل العلم 2/104 وقال هذا إسناد لا تقوم به حجة
لأن الحارث بن عقبة مجهول ورواه البيهقي في المدخل من حديث
ابن عمر ومن حديث ابن عباس بنحوه من وجه آخر مرسلا ةقال
متنه مشهور وسانيده ضعيفة ولم يثبت في إسناد
ج / 3 ص -196-
فالحجة
حينئذ ليست في قول الصحابي بل في الخبر ولم يتعرض المصنف
للقول المفصل بين أن ينتشر أم لا لكونه سبق في كتاب
الإجماع
قال "مسألة منعت المعتزلة تفويض الحكم إلى رأي النبي صلى
الله عليه وسلم أو العالم لأن الحكم يتبع المصلحة وما ليست
بمصلحة لا يصير مصلحة قلنا الأصل ممنوع وإن سلم فلم لا
يجوز أن يكون اختياره أمارة المصلحة وجزم بوقوعه موسى بن
عمران لقوله بعد ما أنشدت ابنة النضر ابن الحارث لو سمعت
لما قلت وسؤال الأقرع في الحج أكل عام فقال لو قلت ذلك
لوجبت ونحوه قلنا لعلها ثبتت بنصوص محتملة للاستثناء وتوقف
الشافعي"
"ش" أول ما نقدمه تحرير محل الخلاف في المسألة فنقول الحكم
المستفاد من العباد على أمور
أحدها ما جاء على طريق التبليغ عن الله
تعالى وهذا مختص بالرسل علهم السلام وهم فيه مبلغون فقط
والثاني المستفاد من اجتهادهم وبذلهم
الوسع في المسألة وهذا من وظائف المجتهدين من علماء الأمة
وفي جوازه للنبي صلى الله عليه وسلم خلاف يأتي إن شاء الله
تعالى في كتاب الاجتهاد
والثالث ما يستفاد بطريق تفويض الله إلى
نبي أو عالم بمعنى أن يجعل له أن يحكم بما شاء في مثله
ويكون ما يجيء به هو حكم الله الأزلي في نفس الأمر لا
بمعنى أن يجعل له أن ينشئ الحكم فهذا ليس صورة المسألة
وليس هو لأحد غير رب العالمين قال الله
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ1} أي لا ينشئ الحكم غيره إذا عرفت هذا فقد اختلف العلماء في أن هل
يجوز أن يفوض الله تعالى حكم حادثة إلى رأي نبي من
الأنبياء أو عالم من العلماء فيقول له احكم بما شئت فما
صدر عنك فيها من الحكم فهو حكمي في عبادي ويكون إذ ذاك
قوله من جملة المدارك الشرعية فذهب جماهير المعتزلة إلى
امتناعه وجوزه الباقون منهم ومن غيرهم وهو الحق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية 40
ج / 3 ص -197-
وقال
أبو علي الجبائي في أحد قوليه يجوز ذلك للنبي دون العالم
وهذا هو الذي اختاره ابن السمعاني وذكر الشافعي في كتاب
الرسالة ما يدل عليه وجزم بوقوعه موسى بن عمران من
المعتزلة وتوقف الشافعي رضي الله عنه كما نقله المصنف وهذا
التوقف يحتمل أن يكون في الجواز وأن يكون في الوقوع مع
الجزم بالجواز وبالأول صرح الإمام وكذلك الآمدي فقال ونقل
عن الشافعي في كتابة الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز
والمنع ولكن الثاني أثبت نقلا وعليه جرى الأصوليون من
أصحابنا الشافعية واحتجت المعتزلة على المنع بأن الأحكام
تابعة لمصالح العباد فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد لم يكن
الحكم تابعا للمصلحة بل إلى اختياره الذي جاز أن يكون
مصلحة فإن ما ليس بمصلحة في نفس الأمر لا يصير مصلحة
بتفويض إلى المجتهد وأجاب بمنع الأصل وهو كون الحكم يتبع
المصلحة وبأنا لو سلمناه لا يلزم ما ذكرتم لأنه لما قال له
إنك لا تحكم إلا بالصواب أمنا من اختياره المفسدة وكان
الله تعالى جعل اختياره أمارة على المصلحة وقدر له أن لا
يختار سواها واحتج موسى بن عمران على الجزم بوقوعه بأمرين
أحدهما قضية النضر بن الحارث التي رواها أهل المغازي
والسير فرويناها بإسنادنا إلى عبد الملك بن هشام
قال ثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق
المطلبي قال بعد أن ذكر غزوة بدر الكبرى وعدد القتلى بها
وكان من شياطين قريش قتله علي بن أبي طالب في خمسة نفر من
بني عبد الدار بن قصى النضر بن الحارث بن كلدة ابن علقمة
بن عبد مناف بن عبد الدار قتله علي بن أبي طالب صبرا عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء فيما يذكرون قال
ابن هشام بالأثيل قال ابن هشام ويقال النضر بن الحارث ابن
كلدة بن عبد مناف ثم ذكر ابن هشام بعد ذلك أبياتا قالتها
قتيلة بنت الحارث أخت النضر تبكيه أولها
يا راكبا
إن الأثيل مظنة
من صبح حامسة وأنت موفق
ومنها تخاطب النبي صلى
الله عليه وسلم
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
ج / 3 ص -198-
قال
ابن هشام فقال والله أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما بلغه هذا الشعر قال :
"لو بلغني هذا من قبل قتله لمننت عليه1" انتهى وقال الزبير بن بكار في النسب سمعت بعض أهل العلم يقولون
إنها مصنوعة انتهى فقوله صلى الله عليه وسلم لمننت عليه
يدل على أن الحكم كان مفوضا إلى رأيه فإنه لو كان قتله
بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة وقد قال المصنف
تبعا للإمام إن هذه المرأة ابنة النضر وهو مخالف لما ذكره
ابن هشام في رواية أخرى لا تقوم لها الحجة أنه ابنته كما
ذكر
وثانيهما ما روى مسلم من حديث أبي بردة قال خطبنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال
: "يا أيها
الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا"
قال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم2" وهذا الرجل هو الأقرع كما ذكر المصنف وهو ابن حابس والأقرع في
الصحابة أربعة هذا أشهرهم وهذا الحديث أيضا يدل على أن
الأمر كان مفوضا إلى اختياره قوله ونحوه أو نحو هذين
الأمرين كقوله صلى الله عليه وسلم :
"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة3" وكما قال صلى الله عليه وسلم
: "في مكة لا يختلى خلاها ولا يعضدها شجرها" فقال العباس إلا الأزخر فقال
: "إلا الازخر4"
وغير ذلك وأجاب المصنف عن الكل بأنه يجوز أن تكون هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السير ابن هشام 3/45
2 أخرجه أبو داود : الحج 2/190 والنسائي : مناسك الحج
5/110 وابن ماجة : المناسك 2/963 ولمسلم نحوه من حديث أبي
هريرة ولم يسم الأقرع
3 حديث صحيح أخلرجه الحاكم في مستدركه كما أخرجه سعيد بن
منصور في سننه بلفظ
"لولا أن أشق
علي أمتي لأمرتكم بالسواك والطيب عند كل صلاة"
الجامع الصغير 2122
4 حديث صحيح اخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال :
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم فتح مكة
: "إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولايختلي خلاه ولا ينفر
صيده ولا تلتقط لقتطه إلا لمعرف" فقال العباس : إلا الإذخر"فإنه لابد لهم للقيون والبيوت فقال إلا الإذخر"
ج / 3 ص -199-
الأحكام ثابتة بنصوص محتملة للاستثناء على وفق سؤال بعض
الناس أو حاجتهم فلا يدل على التفويض ولك أن تجيب عما وقع
في قضية النضر بأنه لم يصح وابن هشام لم يجزم القول به وقد
قال الزبير بن بكار ما قدمته وسمعت والذي أيده الله تعالى
يجيب عنه على تقدير صحته بأن النضر كان أسيرا والإمام مخير
في الأسارى بين الفعل والاسترقاق والمن والفداء وعندي في
هذا نظر فإن الإمام إن خير بين هذه الأشياء فلا خوف بين
الأصحاب أنه يجيب عليه رعاية للمصلحة والنبي صلى الله عليه
وسلم لا يخفى عليه وجه المصلحة وما قتل النضر وإلا قد كان
قتله مصلحة ولا تزول هذه المصلحة بإنشاد أخته أبياتها هذه
ولا يقال لعل الحال كان مستويا لأنا نقول لا سبيل إلى ذلك
إذ لو فرض استواء لكان الواجب عدم القتل فإنه متى لم يظهر
بوجه الصواب في الحال حبسهم الى حين يظهر نص عليه أصحابنا
وأجيب عن قوله لو قلت نعم لوجب بأنها قضية شرطية لا تقتضي
وقوع مشروطها وهو منقدح وعن قوله إلا الإدخر بأنه يحتمل
نزول الوحي سريعا عليه والله أعلم |