الإبهاج في شرح المنهاج

قال رحمه الله الكتاب السابع في الاجتهاد والإفتاء
وفيه بابان الأول في الاجتهاد وهو استفراغ الوسع في درك الأحكام الشرعية ش الاجتهاد لغة هو استفراغ الوسع في تحصيل الشيء وقد علمت من ضرورة كونه استفراغ الوسع أنه لا يكون إلا فيما فيه مشقة وكلفة وفي الاصطلاح ما ذكره في الكتاب بقوله استفراغ الوسع جنس وقوله في درك الأحكام فصل خرج به استفراغ الوسع أنه لا يكون إلا فيما فيه مشقة وكلفة وفي الاصطلاح ما ذكره في الكتاب بقوله استفراغ الوسع جنس وقوله في درك الأحكام فصل خرج به استفراغ الوسع في فعل من الأفعال العلاجية مثلا وقوله الشرعية فصل ثان تخرج اللغوية والعقلية والحسية والأحكام الشرعية تتناول الأصول والفروع ودركها أعم من كونه على سبيل القطع أو الظن هذا مدلول لفظه ويجوز أن يريد بالأحكام الشرعية خطاب الله تعالى المتعلق فيخرج الاجتهاد في الأصولية وهذا التعريف الذي ذكره المصنف سبقه إليه صاحب الحاصل وهو من أجود التعاريف فلا نطول بذكر غيره إذ ليس في تعداد التعاريف كبير فائدة

 

ج / 3 ص -237-       الحجة أن الخبر المعارض لوجوب الحد أقل درجاته أنه يكون شبهة والشبهة تدرأ الحد للحديث "فائدة" الخلاف في أنه هل يرجح النافي للحد جر في أنه هل يرجح النافي للحد جر في أنه هل يرجح العلة المثبتة للعتق على النافية له لتشوق الشارع إلى العتق ذكره ابن السمعاني

قال "السابع بعمل أكثر السلف"
"ش" الترجيح بالأمر الخارجي على وجوه اقتصر منها في الكتاب على عمل أكثر السلف فالمختار ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف به لأن الأكثر يوفق له الأقل وهذا ما جزم به المصنف ومنع قوم من حصول للترجيح به لأنه لا حجة في قول الأكثر ومن فروع المسألة التقديم بعمل الشيخين ولذلك قدمنا رواية من روى في تكبيرات العيدين سبعا وخمسا على رواية من روى أربعا كأربع الجنائز لأن الأول قد عمل به أبو بكر وعمر وقد بقيت مرجحات أخر في كل قسم من الأقسام السبعة أهملهما المصنف فتابعناه في ذلك لأن الخطب فيها يسير وهل المدار إلا على زيادة ظن بطريق من الطرق وقد انتحت أبوابها بما ذكرناه فلا يحتاج الفطن من بعده إلى مزيد تطويل ففيما ذكرناه إرشاد عظيم لما نذكره

قال "الباب الرابع في تراجيح الأقيسة
وهي بوجوه الأول بحسب العلة

فترجح المظنة ثم الحكمة ثم الوصف الإضافي ثم العدمي ثم الحكم الشرعي والبسيط والوجودي للوجودي والعدمي للعدمي"
"ش" قال إمام الحرمين رحمه الله هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسيين وفيه اتساع الاجتهاد واعلم أن ترجيح الأقيسة بوجوه
الأول :بحسب العلة وهو مفرع على جواز التعليل بكل واحد من الأوصاف التي نذكرها وذلك خمسة أمور أولها يرجح القياس المعلل بالوصف

 

ج / 3 ص -238-       الحقيقي الذي هو مظنة الحكمة على القياس المعلل بنفس الحكمة للإجماع بين القياسين على صحة التعليل بالمظنة ومن أمثلته ترجيح التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بنفس المشقة
وثانيها: يرجح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي لأن العدم لا يكون علة إلا إذا علم اشتماله على الحكمة فإذا كانت العلة الحكمة لا ذلك العدم كان التعليل بها أولى فإن قلت قضية هذا أن يرجح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف الحقيقي قلت نعم ولكن التعليل الحقيقي راجح من جهة كونه منضبطا ولذلك الاتفاق عليه قوله ثم الوصف الإضافي اعلم أن هذا ساقط في بعض النسخ ولإسقاطه وجه وجيه لدخوله تحت العدمي إذ الإضافات من الأمور العدمية وقد قررنا أن التعليل بها مرجوح ولإثباته وجه من جهة أنه مختلف في كونه وجوديا ومثال تعارض التعليل بالحكمة والوصف الإضافي أن يقول القائل في النكاح بلا ولي ناقضة بالأنوثة فلا ينفذ منها عقد النكاح كالصغيرة فيكون أولى منه أن يقول قلة العقل والدين مع فرط الشهوة حكمة تقتضي أن تسلب الولاية فإن هذا التعليل بالحكمة وذاك بالنقصان وهو أمر إضافي
وثالثها: وإن شئت قلت رابعها على صحة إحدى النسختين يرجع القياس المعلل حكما بالوصف العدمي على المعلل حكمه بالحكم الشرعي لأن التعليل بالعدمي يستدعي كونه مناسبا للحكم والحكم الشرعي لا يكون علة إلا بمعنى الأمارة والتعليل بالمناسب أولى من التعليل بالأمارة وهذا ما اختاره المصنف وصاحب التحصيل وصفي الدين الهندي والإمام ذكر في المسألة احتمالين ولم يرجح شيئا أحدهما هذا والثاني عكسه قال لأن الحكم الشرعي أشبه بالموجود فإن قلت لا نسلم ذلك وهذا لأن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية بدليل أنه يجوز لها ولغيرها بحسب الأشخاص والأزمان والأمان والأمور الاعتبارية أمور عدمية قلت لما كان الحكم هو الخطاب المتعلق ولا شك أن الكلام أمر وجودي سقط هذا
ورابعها: يرجح المعلل بالحكم الشرعي على المعلل حكمه بغيره ما عدا

 

ج / 3 ص -239-       الأقسام المذكورة كالوصف التقديري مثلا لكون التقديري على خلاف الأصل
وخامسها: المعلل بالبسيطة مرجح على المعلل بالمركبة وهذا هو الذي جزم به المصنف وهو رأي المتأخرين وعليه الجدليون وعلل بأمر أحدهما أن البسيطة تكثر فروعها فوائدها والآخر أن الاجتهاد يقل فيها وإذا قل الاجتهاد قل الحظر له وقال بعضهم بترجيح المركبة وقيل هما سواء قال القاضي في التلخيص لإمام الحرمين ولعله الصحيح وقد اعترض إمام الحرمين على ما اعتل به الأولون بأنه لا ترجيح بكثرة الفروع ثم إنه رب علة ذات وصف لا يلزم فروعها وربما كانت قاصرة وأما ترجيح البسيطة بقلة الاجتهاد فقول ركيك إذ النظر في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الحظر قال والذي يحقق هذا أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إذا لم يناظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين أو المقتصرين على طرف من الاجتهاد وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بهما فقد كثر اجتهاده وتعرض للغرور ولكن أدى اجتهاده إلى النفي وإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها وكل ذلك بعد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد وتبين أن اقتحام النظر حتم على من يجتهد ومن أمن أمثلة الفصل قول الشافعي في الجديد العلة الطعم في الأشياء الأربعة مع ضمه في القديم التقدير إلى الطعم
وسادسها: يرجح القياس الذي يكون فيه الوصف وجوديا والحكم وجوديا على ما إذا كان أحدهما عديما أو كانا عدميين ويرجح تعليل العدمي بالعدمي على ما إذا كان أحدهما وجوديا هذا حاصل ما في الكتاب فقوله والوجودي للوجودي أي ويرجح الوصف الوجودي لتعليل الحكم الوجودي على الأقسام الثلاثة وقوله ثم العدمي للعدمي أي يرجح على القسمين الباقيين ومما ينبه عليه المعتني بلفظ الكتاب أن المصنف إنما أتى بالواو في قوله والبسيط لكونه شروعا في ترجيح الأقيسة باعتبار آخر ونختم الفصل بقوله ما اقتضاه كلام المصنف من ترجيح التعليل بالعدمي للعدمي على التعليل بالوجودي للعدمي وعكسه هو ما صرح به الإمام معتلا بالمشابهة بين التعليل بالعدمي للعدمي

 

ج / 3 ص -240-       وعندنا في هذه وقفة فإن مخالفة الأصل فيه أكثر من القسمين الباقيين فكان يجب أن يقضي عليه بالمرجوحية بالنسبة إليهما وإنما قلنا إن مخالفة الأصل فيه أكثر لأن العلية والمعلولية وصفان وجوديان ولا يمكن حملهما على المعدوم إلا إذا قدر موجودا وهو خلاف الأصل وزيادة المناسبة والمشابهة لا تصلح مقاومة لمخالفة الأصل بل لقائل أن يقول إذا كانت العلية والمعلولية صفتين وجوديتين كما صرح به الإمام هنا فيستحيل قيامهما بالمعدومين فإن لم يقتض ذلك منع هذا القسم فلا أقل من اقتضائه المرجوحية
ومما يلتحق بأذيال ما قررناه الترجيح بين العدمي بالوجودي وعكسه وقد سكت عنه المصنف لتوقف الإمام فيه ونحن نقول هو أولى من عكسه لأن المحذور في عكسه أشد لحصوله في أشرف الجهتين وهو العلية
مثال الوجوديين مع العدميين قولنا الخلع طلاق لأنه فرقة ينحصر ملكها في الزوج فيكون طلاقا كما لو قال أنت طالق على ألف مع قول القديم هو فسخ لأنه لا رجعة فيه فلا يكون طلاقا كالرضاع ومثال العدميين مع الوصف في العدمي والحكم الوجودي قولنا المرأة لا تلي القضاء فلا تلي النكاح قياسا على المجنون مع قولهم لا تمنع من التصرف في المال فتتصرف في النكاح قياسا على العاقل ومثال العدميين مع الوصف الوجودي والحكم العدمي أن يقال في عتق الراهن تصرف صادف الملك فلا يلغى كما لو كان غير راهن فيقال لم يتصرف فيه وهو مطلق التصرف فيه فلا يعتبر كما لو أعتقه غير المالك ومثال الوصف العدمي والحكم الوجودي مع عكسه أن يقال في عتق الراهن ليس تصرفا من غير مالك فيكون معتبرا فيقال تصرف يبطل حق الغير وهو المرتهن فلا يعتبر

قال "الثاني بحسب دليل العلية
فيرجح الثابت بالنص القاطع ثم الظاهر اللام ثم إن والباء ثم بالمناسبة الضرورية الدينية ثم الدنيوية ثم التي في حيز الحاجة الأقرب اعتبارا فالأقرب ثم الدوران في محل ثم في محلين ثم السير ثم الشبه ثم الإيماء ثم الطرد"
"ش" الترجيح بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم على أقسام

 

ج / 3 ص -241-       الأول: يرجح القياس الذي يثبت عليه الوصف لحكم أصله بالنص القاطع على ما لم يثبت بالقاطع لأنه لا يحتمل فيه عدم العلية بخلاف ما ليس بقاطع
الثاني: يرجح ما ثبتت علية الوصف فيه بالظاهر على ما لم يثبت بالظاهر من سائر الأدلة سوى النص القاطع والألفاظ الظاهرة في إفادة العلية ثلاثة اللام وإن والباء وأقواها اللام لأنها أظهر في العلية من أن والباء وقد اقتضت عبارة الكتاب مساواة أن للباء والإمام تردد في أيهما يقدم واختار صفي الدين الهندي تقديم الباء لكونها أظهر في التعليل بالاستقراء
الثالث: يرجح ما ثبت علية الوصف فيه بالمناسبة على ما عداها من الدوران وأشباهه لقوة دلالة المناسبة واستقلالها في إفادة العلية ويرجح من المناسبة من هو واقع في محل الضرورة على ما وقع في محل الحاجة وهو المصلحي أو التتمة وهو التحسيني كما تقدم شرح ذلك في كتاب القياس وترجح الضرورية الدينية على الضرورة الدنيوية لأن ثمرتها السعادة الأخروية التي هي انجح المطالب وأروح المكاسب فإن قلت بل ينبغي العكس لأن حق الآدمي مبنى على الشح والمضايقة وحق الله تعالى مبنى على المسامحة والمساهلة
ولهذا كان حق الآدمي مقدما على حق الله تعالى لما ازدحم الحقان في محل واحد وتعذر استيفاؤهما منه كما يقدم القصاص على القتل في الردة والقطع في السرقة كذا الدين على زكاتي المال والفطر في أحد الأقوال قلت الذي نختاره تقديم حق الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الخثعمية :
"فدين الله أحق بالقضاء1" وفي المسائل التي ازدحم فيها الحقان كثرة والرأي الأصح تقديم الحج والعمرة والزكاة فسقط السؤال بالنسبة إلى الصور الثلاث وأما القتل والقطع فإن المقصود من الشرع إزالة مفسدة الردة ولا غرض له في القتل بل لما كان وسيلة إلى إزالة تلك المفسدة شرع فلما اجتمع مع حقي الآدمي ولم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  رواه البخاري أنظر سبل السلام 2/182

 

ج / 3 ص -242-       يتعارض القصدان إذ ليس غرض الآمدي سوى التشفي بالاقتصاص سلمناه إلى ولي الدم ليستوفي منه فيحصل القصدان في ضمن ذلك فلم يتقدم حق الآدمي وكذلك القول في القطع فتأمل هذا
ومن المسائل اجتماع الكفارات مع حق الآدمي وقد أجرى الأصحاب فيها أقوال الزكاة والأصح تقديم حق الله تعالى قوله الأقرب اعتبارا فالأقرب أي يرجح من ذلك ما هو أقرب اعتبارا في الشرع من صاحبه فيرجح ما ثبت اعتبار نوع وصفه في نوع الحكم على المعتبر نوع وصفه في جنس الحكم أو المعتبر جنس وصفه في نوع الحكم وهما مرجحان على المعتبر جنس وصفه في جنس الحكم وما المرجح منهما قال الإمام هما كالمتعارضين وقال صفي الدين الهندي الأظهر تقديم المعتبر نوع وصفه في جنس الحكم على عكسه وهو كما ذكر لحصول الخصوصية وقلة الإيهام في أشرف الجهتين وهي العلية
الرابع: يرجح القياس الذي تثبت علية وصفه بالدوران على الثابت بالسير وما بعده لاجتماع الإطراد والانعكاس في العلية المستفادة من الدوران دون غيره بل قد قدمه بعضهم على المناسبة محتجا بأن المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية وهذا ضعيف فإن سبيل العلل الشرعية سبيل الإمارات والعقلية عند القائل بها موجبة فلا يمكن اعتبار تلك بهذه قال القاضي أبو بكر في التلخيص وباختصار إمام الحرمين في الكلام على البسيطة والمركبة مضاهاة العلل العقلية لا أصل له فإن السمعية لا تضاهي العقلية أبدا فتدبر ذلك ثم القياس الثابت عليته بالدوران الحاصل في محل واحد مرجح على الثابت عليته بالدوران الحاصل في محلين لقلة احتمال الخطأ في الأول لأنه يفيد القطع بعدم علية ما عدا الدوران بخلاف الدوران في محلين فإنه لا يفيد ذلك فإنا لما رأينا أن العصير لما لم يكن مسكرا لم يكن محرما ثم صار محرما بالإسكار وانعدم بعدمه حصلنا على قطع بأن ما عدا المسكرية من الصفات الثابتة في الأحوال الثلاثة ليس بعلة للحرمة وإلا لزم وجود العلة بدون الحكم أما الدوران في محلين فليس كذلك ألا ترى أن الحنفي إذا قال في مسألة الحلى كونه ذهبا موجب للزكاة لأن التبر لما كان ذهبا وجب فيه الزكاة

 

ج / 3 ص -243-       وثياب البذلة لما لم يكن ذهبا لم يجب فيها الزكاة لم يكن القطع بأن ما عدا كونه ذهبا ليس علة لوجوب الزكاة لاحتمال أن يكون المجموع المركب من كونه ذهبا وكونه غير معد للاستعمال هو العلة هكذا قرروه ولك أن تقول لا نسلم أن الدوران الحاصل في محل واحد يقبل القطع بعدم علية ما عد الدوران كما تقرر في موضعه وإنما قصراه على الرأي المختار إفادة الظن نعم الظن الحاصل فيه أقوى من الحاصل في محلين وقوة الظن كافية في الترجيح
الخامس: يرجح القياس الذي يثبت علية وصفه بالسير على الثابت بالشبه وما بعده واستدلوا عليه بأنه أقوى في إفادة الظن ومنهم من قدمه على المناسبة لإعادة ظن العلية ونفي المعارض بخلاف المناسبة فإنها لا تدل على نفي المعارض واختاره الامدي وابن الحاجب ويلزم منه تقديمه على الدوران أيضا عند من يقدم الدوران على المناسبة ثم محل الخلاف في غير المقطوع به متعين وليس من قبيل الترجيح لما علم أن تقديم المقطوع على المظنون ليس من الترجيح في شيء وإنما النزاع في السير المظنون في كل مقدماته
وأما ما اشتملت مقدماته على القطعي والظني فذلك مختلف باختلاف القطع والظن فإن كان الظن الحاصل من السير الذي بعض مقدماته قطعي أكثر من الظن الحاصل بالمناسبة فهو أولى وإلا فهما متساويان والمناسبة أولى ومن أمثلة السبر مع الشبه قول الحنفي في الدليل على أنه إذا أفلس المحال عليه فللمحتال الرجوع على المحيل عجز عن الرجوع مع بقاء عينه فليرجع لمشابهة البائع من المفلس فنقول الحوالة وصف فإما أن لا تقتضي شيئا أو تقتضي شيئا وبطلان الأول ظاهر فيثبت الثاني وحينئذ فذلك الشيء إما أن يكون هو تحول الحق عن المحيل أولا والثاني باطل وإلا لزم أن يدوم له المطالبة كما في الضمان فثبت الأول ووجب أن تبرأ ذمته ولا يعود إليه كما لو أبرأه
السادس: يرجح القياس الثابت علية وصفه بالإيماء والطرد كذا ذكره المصنف فإما تقديمه على الطرد فظاهر أن لا يمتري الطاردون في ضعف الظن الحاصل منه وأما على الثابت بالإيماء فهو بحث ذكره الإمام بعد أن حكى اتفاق الجمهور على أن ما ظهرت عليته بالإيماء راجع على ما ظهرت عليته

 

ج / 3 ص -244-       بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر ووجهه بأن الإيماء لما لم يوجد فيه لفظ يدل على العقلية فلا بد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ ولما بحثنا لم نجد شيئا يدل على عليته إلا أحد أمور ثلاثة المناسبة والدوران والسبر على ما تقدم في الإيماء وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق كانت هي الأصل والأصل أقوى من الفرع فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى من الإيماءات
وهذه لا يقتضي ترجيح دلالة الشبه على الإيماء إلا إذا ساوى الشبه الأمور الثلاثة أو كان أقوى منها وهو خلاف ما رتبه في الكتاب ثم أنه مدخول من وجهين أحدهما أن ما ذكره هو من الدليل وهو استقباح أكرم الجاهل وأهن العالم على أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية دليل غير هذه الثلاثة فلم يلزم افتقار دلالة الإيماء إلى أحد الطرق الثلاثة فلا يلزم كون الطرق العقلية أصلا لها فلا يلزم رجحان الطرق العقلية عليها وثانيهما أنه اختار عدم اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه ولم يشترط فيه الدوران والسير وفاقا فجاز وجدان عليته بدون هذه الأمور الثلاثة ومما نذنبه على هذا الموضع أن القاضي أبا بكر مع قوله ببطلان قياس الأشباه قال هنا الأظهر أنه يجوز الترجيح به وإن لم يجز التمسك به ابتداء وقد حكينا هذا في الكلام على قياس الشبه
السابع: يرجح القياس الثابت علية وصفه بالإيماء على الثابت بالطرد لأن الطرد لا يناسب الحكم أصلا والإيماء قد يناسب ولقصور الطرد عند الطاردين عن مراتب إخوانه من الأدلة وأما نحن فلا نقيم للطرد وزنا هذا شرح ما في الكتاب وقد يؤخذ منه أن تنقيح المناط متأخر الرتبة عن الطرد لأنه رتب الأدلة ترتيبا ختم به الطرد ومقتضاه تقديم الطرد على ما لم يذكره وهذا لا ينقسم بل الصواب تقديم تنقيح المناط ولا احتفال بما اقتضاه سياق الكتاب فإنه على هذا الترتيب يقتضي أيضا تأخر رتبة ما ثبت عليته بالإجماع حيث لم يذكره ولأمريه في أنه ليس كذلك

قال "الثالث بحسب دليل الحكم
فيرجح النص ثم الإجماع لأنه فرعه" ش يرجح من القياسيين المتعارضين ما يكون دليل حكم أصله أقوى من دليل

 

ج / 3 ص -245-       حكم أصل الآخر ومن فروع المسألة أنه يرجح القياس الثابت حكم أصله بالنص سواء كان كتابا أم سنة على القياس الثابت حكم أصله بالإجماع وذلك لأن الإجماع على النص لتوقف ثبوته على الأدلة اللفظية والأصل يقدم على الفرع وهذا الذي ذكره اختاره صاحب الحاصل فتبعه فيه والإمام إنما ذكره بحثا بعد أن نقل أنهم قالوا بتقديم الإجماع معتلين بأن الذي ثبت الحكم في أصله بالدلائل اللفظية يقبل التخصيص والتأويل والإجماع لا يقبلهما وهذا هو المختار وما ذكره الإمام مدخول وقوله الأصل يقدم على الفرع قلنا على فرعه أما على فرع آخر فلم لا يقدم وكيف لا يقدم الإجماع مع أنه إن كان صادرا عن نص فالمتعارض إذ ذاك ليس الإنصاف يرجح جانب أحدهما بالإجماع وإن كان عن قياس فدليلان عارضهما دليل واحد وأيضا فالإجماع متفق عليه والنص والحالة هذه غير متفق عليه والمجمع عليه مقدم على المختلف فيه وإن فرضت أن النص غير مختلف فيه فذلك حينئذ إجماع عن نص عارض مثله وليس صورة المسألة

قال "الرابع بحسب كيفية الحكم
وقد سبق لأن الترجيح بحسب كيفية الحكم قد ذكرنا فيه قولا بليغا في باب ترجيح الأخبار فاعتبر مثله هنا

قال الخامس موافقة الأصول في العلة أو الحكم والاطراد في الفروع"
"ش" هذا الوجه في الترجيح بحسب الأمور الخارجية وهو على ثلاثة أضرب
أولها: أن يكون أحد القياسين موافقا للأصول في العلة بأن يكون علة أصله على وفق الأصول الممهدة في الشريعة دون الآخر فيرجح الأول لشهادة كل واحد من تلك الأصول لاعتبار تلك العلة وكلما كان العدول عن القياس فيه أكثر كان أضعف
وثانيها: ترجح الموفق للأصول في الحكم بأن يكون حكم أصله على وفق الأصول المقررة على ما ليس كذلك للاتفاق على الأول
الثالث: يرجح الذي يكون مطرد الفروع بأن يلزم الحكم عليته في جميع الصور على ما لا يكون كذلك وبنجاز هذا تم كتاب التعادل والترجيح واعلم أن طرق الترجيح لا تنحصر فإنها تلويحات تجول فيها الاجتهادات ويتوسع فيها

 

ج / 3 ص -246-       من توسع في فن الفقه فلذلك اقتصرنا على شرح ما في الكتاب وأما الأمثلة في بابي تراجيح الأخبار والأقيسة فإذا ضرب الضارب بعضها في بعض وأراد الإتيان لكل قسم بمثال كان طالبا لتطويل عظيم فإن ذلك يحتمل مع الاستيعاب وقد يعبر فلذلك أضربنا عن هذا الغرض وجئنا بالنزر اليسير في البابين والله الموفق والمعين بمنه وكرمه

قال "وفيه فصلان الأول في المجتهد وفيه مسائل الأولى يجوز له عليه السلام أن يجتهد
لعموم فاعتبروا ووجوب العمل بالراجح ولأنه أشق وأدل على الفطانة فلا يتركه ومنع أبو علي وابنه لقوله تعالى وما ينطق عن الهوى قلنا مأمورية فليس بهوى ولأنه ينتظر الوحي قلنا ليحصل اليأس عن النص أو لأنه لم يجد أصلا يقيس عليه"
"ش" اختلفوا في أن الرسول صلى الله عليه وسلم هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه فذهب الشافعي وأكثر الأصحاب وأحمد والقاضيان أبو يوسف وعبد الجبار وأبو الحسين إلى جوازه ثم منهم من قال بوقوعه وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب ومنهم من أنكر وقوعه وتوقف فيه جمهور المحققين وذهب أبو علي وابنه أبو هاشم إلى أنه لم يكن متعبدا به وشذ قوم فقالوا بامتناعه عقلا بما

 

ج / 3 ص -247-       حكاه القاضي في التلخيص لإمام الحرمين ومنهم من جوزه في أمور الحرب دون الأحكام الشرعية وقد احتج في الكتاب على الجواز بأوجه أربعة وهي دالة على الوقوع أيضا
أحدها :عموم قوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار1ِ} وكان عليه هو أفضل الصلاة والسلام أعلى الناس بصيرة وأكثرهم إطلاعا على شرائط القياس وذلك إن لم يرجح دخوله في هذا الأمر فلا أقل من المساواة فيكون مندرجا في الأمر ومتى كان مأمورا به كان فاعلا له ضرورة امتثاله أوامر ربه ووقوفه عندها صلى الله عليه وسلم
وثانيها :إذا غلب على ظنه عليه السلام كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم ظن أو ظن حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلا بد وأن نظن أن الحكم في الفرع مثله في الأصل وترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات بداية العقول ولقائل أن يقول إذا وجب ترجيح الراجح فليمتنع عن العمل بهذا الراجح لقدرته على أرجح منه وهو النص
وثالثها :أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص فيكون أكثر ثوابا فلا تختص الأمة بفضيلة لا توجد فيه
ورابعها :أن العمل بالاجتهاد أدل على الفطانة والزكاة من النص لتوقفه على النظر الدقيق والقريحة المستجادة فلا يتركه صلى الله عليه وسلم لكونه نوعا من الفضيلة واحتج الجبائيان بوجهين أحدهما قوله تعالى:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى2} فإنه دليل على انحصار الأحكام الصادرة منه صلى الله عليه وسلم عن الوحي وأجاب عنه الإمام بأنه متى قال له متى ظننت كذا فاعلم أنه حكمي فالعمل حينئذ بالظن عمل بالوحي لا بالهوى وهذا قد ذكره الغزالي ولقائل أن يقول ليس هذا أمر بالاجتهاد فإنه تعالى لو قال كلما ملكت النصاب وحال عليه الحول أوجبت عليك الزكاة لا يكون هذا أمر بملكية النصاب ثم إن ملكه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آية 2
2  سورة النجم آية 3-4

 

ج / 3 ص -248-       كذلك وجبت عليه الزكاة بالنص لا بالاجتهاد وإنما الكلام في الحكم الثابت بالاجتهاد وهو لا يوجد فيه مثل هذا القول فلا يكون النطق بذلك نطقا بالوحي وأجاب عنه المصنف بأن الاجتهاد إذا كان مأمورا به لم يكن النطق به هوى وهو مدخول لإشعاره بأن الخصم احتج بصدر الآية وليس كذلك إذ هو لا يقول بأن القول بالاجتهاد قول بالهوى والثاني لأنه لو جاز له عليه السلام الاجتهاد لامتنع عليه انتظار الوحي لفصل الحكومات وغيرها لأن الفصل يجب على الفور وقد تمكن منه الاجتهاد ولكنه قد أخره وانتظر الوحي كثيرا
وأجاب بوجهين أحدهما أن العمل بالقياس لما كان مشروطا بعدم وجدان النص فكان انتظاره للوحي لكي يحصل اليأس عن النص فإن قلت إنما شرط فقدان النص إذا احتمل أن يكون ثم نص فأنه يؤمر المجتهد إذ ذاك بالفحص الشديد أما إذا تحقق عدمه فلا يتجه انتظار تشريعه ولو كان كذلك لا يقدح للمعترض أن يقول لينتظر المجتهد إجماع الأمة ولطوينا بساط الاجتهاد قلت كان احتمال نزول النص في حقه صلى الله عليه وسلم بمنزلة احتمال كونه موجودا في حق سائر المجتهدين لقرب وجدانه في الجهتين والثاني أنه يحتمل أن يكون انتظاره الوحي إنما كان فيما لا مساغ للاجتهاد فيه ولا أصل يقيس عليه
فائدتان أحدهما :قال الغزالي يجوز القياس على الفرع الذي قاسه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل فرع اجتمعت الأمة على إلحاقه بأصل قال لأنه صار أصلا بالإجماع والنص فلا ينظر إلى مأخذهم
الثانية :النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف في الفتاوى وأن الأقضية يجوز فيها من غير نزاع وستعرف الفرق بينهما بسؤال نذكره من كلام القرافي ومما يدل على جوازه في الأقضية مما روى أبو داود من حديث أبي سلمة رضي الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست فقال:
"إني إنما أقضي بينكم برأي فيما لم ينزل علي فيه" فإن قلت ما الفرق بين هذه الأمور وبين الرسالة والنبوة قلت تصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتيا هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تعالى كما نقول في سائر المفتيين وتصرفه بالتبليغ هو مقتضى الرسالة وهي أمر الله تعالى في ذلك التبليغ فهو عليه السلام ينقل عن الحق

 

ج / 3 ص -249-       للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى فهو في هذا المقام مبلغ وناقل عن رب العالمين كما ينقل الرواة لنا أحاديثه فالمحدثون ورثوا عنه هذا المقام كما ورث عنه المفتي الفتيا وإذا اتضح بهذا الفرق بين الراوي والمفتي لاح الفرق بين تبليغه عليه السلام عن ربه وبين فتياه في الدين بهذا الفرق بعينه
وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالحكم فهو مغاير للرسالة والفتيا لأن الرسالة تبليغ محض واتباع صرف وحكم إنشاء وإلزام من قبله عليه السلام بحسب ما ينسخ من الأسباب والحاجة ولذلك قال عليه السلام :
"إنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له فشيء من حق أخيه فلا يأخذه إنما اقتطع له من النار1" دل على أن القضاء يتبع الحاجة وقوة اللحن به فهو عليه السلام في هذا المقام منشئ وفي الفتيا والرسالة مبلغ متبع وهو في الحكم أيضا متبع لأمر الله تعالى له بأن ينشئ الأحكام على وفق الحاجة والأسباب لأنه متبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالى لأن ما فوض إليه من أمر الله تعالى لا يكون منقولا عن الله تعالى وقد يفرق بين الحكم والفتيا بوجه آخر وهو أن الفتيا تقبل النسخ دون الحكم فإنه لا يقبل إلا النقض عند ظهور ما يترتب عليه الحكم وهذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأما بعده فالفتيا لا تقبل النسخ لتقرر الشريعة
وأما الرسالة من حيث هي فلا تقبل النسخ ولا النقض وأما النبوة فهي الإيحاء لبعض الخلق بحكم الشيء له يختص به كما أوحى الله لمحمد صلى الله عليه وسلم
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ2} فهذا تكليف يختص به قال العلماء فهذه نبوة وليست برسالة فلما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ3} كان هذا رسالة لأنه تكليف يتعلق بغير الموحى إليه فوضح لك بهذا أن كل رسول ونبي من غير عكس وأما تصرفه عليه السلامة بالإمامة فهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  رواه البخاري كتاب ترك الجيل 9/32 والأحكام 9/860 ومسلم كتاب الأحكام 3/133 من حديث أم سلمة – رضي الله عنها
2  سورة العلق آية1-2
3  سورة المدثر آية 1-2

 

ج / 3 ص -250-       وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء معاقد المصالح ودرء مواقع المفاسد إلى غير ذلك
وهذا ليس داخلا في مفهوم شيء مما تقدم لتحقيق الفتيا بمجرد الإخبار عن الله تعالى والحكم بالتصدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة لا سيما الحاكم الضعيف الذي لا قدرة له على التنفيذ إذا أنشأ الحكم على الملوك الجبابرة فهو إنما ينشئ الإلزام على ذلك الملك ولا يخطر بباله السعي في تنفيذه لتعذر ذلك عليه فظهر أن الحاكم من حيث هو حاكم ليس له إلا الإنشاء وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما فصارت السلطة العامة التي هي حقيقة الإمامة مباينة للحكم من حيث كونه حكما وأما الرسالة فليس يدخل فيها إلا التبليغ عن الله تعالى ولا يستلزم هذا تفويض السياسة العامة إليه فكم بعث الله من رسول لم يطلب منه غير التبليغ لإقامة الحجة من غير أن يأمره بالنظر في المصالح العامة وبوضوح الفرق بين الرسالة والإمامة يظهر بينهما وبين النبوة إذ النبوة خاصة بالموحى إليه لا تعلق لها بالغير
فإن قلت فهل لهذه الحقائق المفترقة آثار في الشريعة قلت نعم فإن كل ما فعله عليه السلام بطريق الإمامة من إقامة الحدود وترتيب الجيوش وغير ذلك لم يجز لأحد أن يفعله إلا بإذن إمام الوقت الحاضر لأنه عليه السلام إنما فعله بطريق الإمامة ولا استبيح إلا بإذنه وكلما فعله بطريق الحكم كفسوخ الأنكحة والعقود وغير ذلك لم يقدم عليه أحد إلا بالحكم الحاكم في الوقت الحاضر إقتداء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقرن تلك الأمور إلا وأما تصرفه عليه السلام بالرسالة والتبليغ أو الفتيا فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين من غير اعتبار حكم ولا إذن أمام وإنما هو عليه السلام بلغ الخليقة ارتباط ذلك الحكم بذلك السبب وخلى بينهم وبين ربهم كأنواع العبادات وغيرها فإذا تصرف صلى الله عليه وسلم تصرفا فقد يتضح كونه تصرفا بالإمامة أو بالقضاء أو بالفتيا
وقد علمت حكم كل قسم وقد يتردد بين هذه الأقسام ويتشاجر العلماء على أيها نحمل وفي المسائل الداخلة في هذا كثرة ولكنا نورد منها ما شهد به

 

ج / 3 ص -251-       النظر فمنها قوله صلى الله عليه وسلم :"من أحيا أرضا ميتة فهي له1" قال أبو حنيفة هذا تصرف منه عليه السلام بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحي بدون إذن الإمام وقال الشافعي رضي الله عنه بل بالفتيا لأنه الغالب من تصرفاته عليه السلام فلا يتوقف الإحياء على إذن الإمام ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة لما شكت إليه الشيخ أبا سفيان :"خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف2" فذهب الشافعي إلى أن هذا تصرف بالفتيا فعلى هذا من ظفر بجنس حقه أو بغير جنسه إذ لم يظفر بالجنس مع تعذر أخذ الحق ممن هو عليه جاز له أخذه حتى يستوي حقه وحكى في التهذيب وجها أنه يجوز أخذ غير الجنس مع الظفر بالجنس وقد يوجه بعدم التنفيذ في الحديث وذهب مالك رحمه الله إلى خلاف ذلك وقال إنه عليه السلام تصرف في قضية هند بالقضاء وجعل بعضهم هذه القضية أصلا في القضايا على الغائب وهو ضعيف لأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ظاهرا لا يمتنع عن الحضور إذا طلبه النبي صلى الله عليه وسلم والقضاء لا يتأتى على من هو بهذه المثابة على الصحيح من المذهب واستنبط القاضي الحسين من كونه تصرفا بالقضاء أنه يجوز أن يسمع إلى أحد الخصمين دون الآخر واستنبط الرافعي من كونه تصرفا بالفتيا أنه يجوز للمرأة أن تخرج لتستفتي وفيه نظر فإن هند أخرجت عام الفتح متقدمة على سائر النساء لما نزل قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ3} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أبايعنكن على أن لا تشركن بالله شيئا" فقالت هند لو أشركنا بالله شيئا ما دخلنا في دين الإسلام فقال :"أبايعكن على أن لا تقتلن أولادكن" فقالت هند فهل تركتم لنا من ولد ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا فقال :"أبايعكن على أن لا تزنين" فقالت هند أو تزني الحرة فقال :"أبايعكن على أن لا تسرقن" فقالت هند إن أبا سفيان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي من حديث سعيد بن زيد ولفظه :
"من أحبا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق"  
   الجامع الصغير 2/161
2  أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عائشة رضي الله عنها الجامع الصغير 2/4
3  سورة الممتحنة آية 10

 

ج / 3 ص -252-       رجل شيخ1 الحديث فهند لم تخرج لأجل الاستفتاء فلا يحسن الاستدلال بها عليه ومنها قوله صلى الله عليه وسلم :"من قتل قتيلا فله سلبه2" قال بعض العلماء هذا تصرف منه عليه السلام بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يختص بسلب إلا بإذن الإمام وقال الشافعي هو تصرف بالفتيا فلا يتوقف على إذن الإمام
قال فرع لا يخطىء اجتهاده وإلا لما وجب اتباعه
ش عبر عن هذا بالفرع بكونه مبنيا على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم والذي جزم به من كونه لا يخطىء اجتهاده هو الحق وأنا أظهر كتابي أن أحكي فيه قولا سوى هذا القول بل نحفل ولا نعبأ واستدل في الكتاب بأنه لو جاز الخطأ عليه لوجب علينا اتباعه في الخطأ وذلك ينافي كونه خطأ ونحن نقول لمن زخرف قوله وقال يجوز بشرط أن لا يقر عليه أليس يصدق صدور الخطأ المضاد لمنصب النبوة ولقد يلزمك على هذا محال من الهذيان وهو أن يكون بعض المجتهدين في حالة إصابته أكمل من المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة معاذ الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك وأنا قد اقتصرت على ما ذكرت تطهيرا لكتابي من البحث مع هذا القائل ووفاء بحق الشرح وإلا يعجز علينا أن نفوه فيه أو نثني نحوه عطفا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  أخرجه الطبري من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – تفسير الطبري 8/512
2  حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أنس كذالك أخرجه أحمد وابن ماجة من حديث سمرة ولفظه
"من قتل كافرا فله سلبه" الجامع الصغير 2/177

قال الثانية يجوز للغائبين عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفاقا وللحاضرين أيضا إن لا يمتنع أمرهم به
قيل عرضة للخطأ قلنا لا نسلم بعد الإذن
"ش" اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإما في عصره صلى الله عليه وسلم فقد اختلفوا فيه فمنهم من جوزه مطلقا وهو المختار عند الأكثرين منهم الإمام وصاحب الكتاب ومنهم من منع منه مطلقا وقالت طائفة يجوز للغائبين عن الرسول صلى الله عليه وسلم من القضاة والولاة دون الحاضرين وجوزه آخرون للغائبين مطلقا دون الحاضرين ومنهم من قال يجوز إن لم يوجد مع ذلك منع قال صفي الدين الهندي وهذا ليس بمرضى لأن ما بعده أيضا كذلك فلم يكن
 

 

ج / 3 ص -253-       خصوصية بزمانه صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال إن ورد الإذن بذلك جاز وإلا فلا ثم من هؤلاء من نزل السكوت عن المنع منه مع العلم بوقوعه منزلته الإذن ومنهم من اشترط صريح الإذن هذه جملة المذاهب في المسألة وبه يعلم أن دعوى المصنف الاتفاق على جوازه للغائبين ليس يجيد واحتج المصنف على الجواز بأنه لا يمتنع أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لقد أوحى إلي أنك مأمور بأن تجتهد أو بأن تعمل على وفق ظنك واحتج المانعون بأن الاجتهاد في معرض الخطأ والنص آمن منه وسلوك السبيل المخوف مع القدرة عل سلوك السبيل الآمن قبيح عقلا وأجاب عنه تبعا للإمام بأن الشرع لما قال له أنت مأمور بأن تجتهد وتعمل على وفق ظنك كان آمنا من الغلط لأنه بعد الاجتهاد يكون آتيا بما أمر به وهو ضعيف فإن الإذن في الاجتهاد ولا يمنع وقوع الخطأ فيه وقد يقال في تقرير الجواب أنه بالأمر صار آمنا من الخطأ بفعل الاجتهاد أي يكون مفعله الاجتهاد صوابا لا أنه يأمن من تأدية الاجتهاد الخطأ وإذا كان الإقدام على الاجتهاد صوابا فلا عليه أن يخطئ بعد إتيانه بما أمر به وأجيب عنه أيضا بأنا لا نسلم أنه قادر على التوصل إلى النص وذلك لأن ورود النص ليس باختياره ومسألته بل جاز أن يسأل عن القضية ولا يرد فيها نص بل يؤمر بالعمل فيها بالظن ولا يمكنكم نفي هذا الاحتمال إلا إذا أبيتم نفي جواز الاجتهاد فبيان نفي جواز الاجتهاد بناء على نفي هذا الاحتمال دور واعلم أن الأمام قال الخوض في هذه المسألة قليل الفائدة لأنه لا ثمرة له في الفقه وهذا فيه نظر إذ ينبني على الأصل مسائل منها إذا شك في نجاسة أحد الإناءين ومعه ماء طهر بيقين أو ماء يغسل به أحدهما ففي جواز الاجتهاد له بين الإناءين والثوبين وجهان أصحهما أنه يجتهد وكذلك إذا غاب عن القبلة فإنه لا يعتمد على خبر من أخبره من علم ولا على الاجتهاد إلا إذا لم يقدر على معرفة القبلة يقينا وكذلك حكى الأصحاب وجهين في المصلي إذا استقبل حجر الكعبة وحده وقالوا الأصح المنع لأن كونه من البيت غير مقطوع به وإنما هو مجتهد فيه فلا يجوز العدول عن اليقين إليه
قال "ولم يثبت وقوعه" ش هذا عائد إلى الاجتهاد الحاضر الذي جعله

 

ج / 3 ص -254-       المصنف محل الخلاف وقد ذهب الأكثرون إلى ما قاله المصنف من التوقف ومنهم من قال بوقوعه ومنهم من نفاه وهذا في خف الحاضرين وأما الغائبون فمنهم من ذهب إلى وقوع التعبد به في حقهم ومنهم من منعه وتوقفت فرقة ثالثة واحتج من قال بالوقوع في الحاضر والغائب بقول الصديق رضي الله عنه لأبي قتادة حيث قتلا رجلا من المشركين فأخذ غير سلبه لا ما الله إذن لا تعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"صدق" فإن الصديق رضي الله عنه قال ذلك اجتهادا وإلا لأسنده إلى النص لكونه ادعى إلى الانقياد وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فإذا جاز في حق الحاضر جاز بطريق أولى في حق الغائب ويخص الغائب حديث معاذ المذكور في كتاب القياس وأجيب عنهما بأنهما أخبار أحاد والمسألة علمية وقول الغزالي هذا حديث معاذ مشهور قبلته الأمة أخذه من إمام الحرمين وإمام الحرمين تلقاه من القاضي فإنه القاضي فإنه قال في التقرب إن الأمة تلقته بالقبول وليس يجيد لما عرفت في كتاب القياس واحتج من أنكر الوقوع مطلقا بأنهم لو اجتهدوا في عصره صلى الله عليه وسلم لنقل واشتهر كاجتهداهم بعده والمختار عندنا التوقف في حق الحاضرين وأما الغائبون فالظاهر وقوع يعبدهم به ولا قطع

قال "الثالثة لا بد له أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام والإجماع وشرائط القياس وكيفية النظر وعلم العربية والناسخ والمنسوخ وحال الرواة ولا حاجة إلى الكلام والفقه ولأنه نتيجته"
شرط المجتهد أن يكون محيطا بمدارك الأحكام ومتمكنا من استشارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يتعين وإنما يكون كذلك بأمور
أحدهما :كتاب الله فإنه الأصل ولا بد من معرفته ولكن لا يشترط معرفة جميع الكتاب بل ما يتعلق منه بالأحكام قال الغزالي وهو مقدار خمسمائة آية ولا يشترط حفظهما عن ظهر قلب بل أن يكون عالما بمواقعها حين تطلب الآية إذا احتيج إليها
وثانيها :سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشترط فيها أيضا الحفظ ولا معرفة ما لا يتعلق بالأحكام كما في معرفة الكتاب قال الغزالي ويكفيه أن يكون عنده

 

ج / 3 ص -255-       أصل مصحح لجميع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن لأحمد والبيهقي أو أصل وقعه العناية فيه لجميع أحاديث الأحكام ويكفي منه معرفة مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة قال الشيخ محي الدين النووي قدس الله روحه والتمثيل بسنن أبي داود لا يصح فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا ما معظمه وكم في صحيحي البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود
وثالثها :الإجماع فليعرف مواقعه حتى لا يفتى بخلافه ولكنه لا يلزمه حفظ جميع مواقعه بل كل مسألة يفتى فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع إما بموافقة مذهب عالم أو تكون الواقعة متولدة في العصر ليست لأهل الإجماع فيها خوض
ورابعها :القياس فلتعرفه وتعرف شرائطه فإنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة
وخامسها :كيفية النظر فلتعرف شرائط البراهين والحدود وكيف تركب المقدمات وتستنتج المطلوب لتكون على بصيرة من نظرة
وسادسها :علم العربية لغة ونحوا وتصريفا فلتعرف القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال إلى حد يميز به من صريح الكلام وظاهره ومجمله ومبينه وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه إلى غير ذلك وليس عليه أن يبلغ مبلغ الخليل بن أحمد
وسابعها :معرفة الناسخ من المنسوخ مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ المتروك ولا يشترط حفظ ذلك جميعه كما تقدم ومنها حال الرواة في القوة والضعف وتمييز الصحيح عن الفاسد والمقبول عن المردود قال الغزالي وليكتف بتعديل الإمام العدل بعد أن يعرف صحة مذهبه في التعديل
وكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي يقول على قول أئمة المحدثين كأحمد والبخاري ومسلم والدارقطني وأبي داود لأنهم أهل المعرفة بذلك فجاز الأخذ بقولهم كما يؤخذ بقول المقومين في القيم قال الغزالي فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب الاجتهاد وعظم ذلك يشتمل على ثلاثة فنون الحديث
 

 

ج / 3 ص -256-       واللغة وأصول الفقه وقال الإمام أهم العلوم للمجتهد أصول الفقه وشرط الإمام أن يكون عارفا بالدليل العقلي وعارفا بأننا مكلفون به وقد اتبع في ذلك فإنه ذلك ولم يذكر القياس وكأنهما تركاه لكونه متفرعا عن الكتاب والسنة ولكن لقائل أن يقول الإجماع والعقل أيضا كذلك فلم ذكرا قوله ولا حاجة أي لا يحتاج المجتهد إلى علم الكلام لأنا لو فرضنا إنسانا جازما بالإسلام تقليدا لأمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام ولكن الأصحاب عدوا معرفة أصول الاعتقاد من الشروط ولا حاجة أيضا إلى تفاريع الفقه وكيف يحتاج إليها والمجتهد هو الذي يولدها ويحكم فيها
فإذا كان الاجتهاد نتيجته فلو شرط فيه لزم الدور ونقل اشتراط الفقه عن الأستاذ أبي إسحاق
ولعله أراد ممارسة الفقه وهذا قد ذكره الغزالي فقال إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسة فهو طريق يحصل الدرية في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمن الصحابة رضي الله عنهم ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا قال ابن الصلاح واشتراط ذلك في صفة المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في صفة المجتهد المستقل على تجرده لأن حال المفتي يقتضي اشتراط كونه على صفة يسهل عليه معها إدراك أحكام الوقائع على القرب من غير تعب كثير ولا يحصل ذلك لأحد الخلق إلا بحفظ أبواب الفقه ومسائله ولا يشترط حفظ الجميع بل قدر يتمكن به من إدراك الباقي على القرب واعلم أن ما ذكرناه من اشتراط هذه العلوم إنما هو في حق المجتهد المطلق أما المجتهد في بعض الأحكام دون بعض فمن عرف طرق النظر القياسي له أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يعرف غيره وقس على هذا وزعم بعض الناس أن الاجتهاد لا يتجزأ وهو ضعيف وأما المجتهد المقيد الذي لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع قال ابن الصلاح والذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأنه لا يتأدى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد قال والذي يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى

 

ج / 3 ص -257-       "خاتمة" شرط الغزالي في المجتهد العدالة ثم قال وهذا يشترط لجواز الاعتماد على قوله إما هو في نفسه وإن كان عالما فله أن يجتهد لنفسه ويأخذ باجتهاد نفسه فالعدالة شرط لقبول الفتوى لا لصحة الاجتهاد هكذا ذكره واقتضى كلام غيره أن العدالة ركن في الاجتهاد ويتفرع على هذا أن الفاسق إذا أداه اجتهاده في مسألة إلى حكم هل يأخذ بقوله من علم صدقه في فتواه بقرائن بل قد يقال إن كانت العدالة ركنا في الاجتهاد فلا يجوز له أن يأخذ في حق نفسه باجتهاده بل يقلد لكونه والحالة هذه غير مجتهد وهذا بعيد

قال "الفصل الثاني في حكم الاجتهاد
اختلف في تصويب المجتهدين في مسائل الفروع بناء على الخلاف في أن لكل صورة حكما معينا وعليه قطعي أو ظني والمختار ما صح عن الشافعي رضي الله عنه أن في الحادثة حكما معينا وعليه أمارة من وجدها أصاب ومن فقدها أخطأ ولم يأثم"
"ش" المسألة عظيمة الخطب قد اختصر المصنف القول فيها فلنتوسط فيما نورده ثم تلتفت إلى ما ذكره فنقول في المسألة أبحاث أولها ذهب طوائف المسلمين على طبقاتهم إلى أنه ليس كل مجتهد في الأصول مصيبا وأن الإثم غير مخطوط عنه إذا لم يصادف ما هو الواقع وإن بالغ في الاجتهاد والنظر سواء كان مدركه عقليا كحدث العالم وخلق الأعمال أو شرعيا لا يعلم إلا بالشرع كعذاب القبر والحشر ولا يعلم خلاف بين المسلمين في ذلك إلا ما نقل عن الجاحظ وعبيد الله بن الحسين العنبري أنهما قالا ابن السمعاني وكان العنبري يقول في مثبتي القدر هؤلاء عظموا الله وفي نافي القدر هؤلاء نزهوا الله ومنهم من لم ينقل عن الجاحظ التصويب بل نفي الإثم والحرج فقط
والقاضي في مختصر التقريب اقتصر على النقل عن العنبري ثم قال واختلفت الرواية عنه فقال في أشهر الروايتين إنما أصوب كل مجتهد في الدين لجمعهم الملة فأما الكفرة فلا يصوبون وغلا بعض الولاة عنه فصوب للكافة من المجتهدين دون الراكنين إلا الدعة ونحن نتكلم معهما على سبيل الاختصار فنقول أنتما محجوجان بالإجماع قبلكما وبعدكما وثانيا إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد فقد خرجتما عن حيز العقلاء وانخرطتما في سلك الأنعام وإن

 

ج / 3 ص -258-       أريد الخروج عن عهدة التكليف ونفي الخروج كما نقل عن الجاحظ فالبراهين النقلية من الكتاب والسنة والإجماع خارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة
وأما تخصيص التصويف بالمجتمعين على الملة الإسلامية فنقول مما خاض فيه المسلمون القول بالتشبيه تعالى الله عنه علوا كبيرا والقول بخلق القرآن وغير ذلك مما يعظم خطره وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المر ء إدراك بطلان القول بالتشبيه قال القاضي ونقول له أيضا ما الذي حجزك عن القول بأن المصيب واحد فإن احتج بغموض الأدلة قلنا له فالكلام في النبوات والإحاطة بصفات المعجزات وتمييزها من المخاريق والكرمات أغمض عند العارفين بأصول الديانات من الكلام في القدر وغيره مما يختلف فيه أهل الملة فهلا غدرت الكفرة بما ذكرت قال وهذا لا محيص له عنه
البحث الثاني :في تصويب المجتهدين في المسائل الفروعية وقد ضبط صفي الدين الهندي المذاهب فيه جيدا فقال الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أولا فإن كان الأول فأما إن وجده المجتهد أو لا والثاني على قسمين لأنه إما قصر في طلبه أو لم يقصر فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقا وإن لم يكن مع العلم به ولكنه قصر في البحث عنه فكذلك وإن لم يقصر بل بالغ في الاستكشاف والبحث ولم يعصر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه حكم ما إذا لم يجده مع الطلب الشديد وسيأتي إن شاء الله تعالى وإن لم يجده فإن كان لتقصيره في الطلب فهو أيضا مخطئ وآثم وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده بأن خفي عليه الراوي الذي عنده النص أو عرفه لكنه مات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا وهل هو مخطئ أو مصيب على الخلاف الذي يأتي إن شاء الله تعالى فيما لا نص فيه وأولى بأن يكون مخطئا وأما التي لا نص عليها فإما أن يقال لله تعالى فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أولا بل حكمه فيها تابع لاجتهاد المجتهد فهذا الثاني قول من قال كل مجتهد مصيب وهو مذهب جمهور المتكلمين منا كالشيخ أبي الحسن والقاضي أبي بكر والغزالي

 

ج / 3 ص -259-       ومن المعتزلة كأبي الهزيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد والمشهور عنهم خلافه وهؤلاء اختلفوا في أنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم معين فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم لما حكم إلا به ولم يوجد ذلك
والأول :هو القول بالأشبه وهو قول كثير من المصوبين وإليه صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن سريج في إحدى الروايتين عنه قال القاضي في مختصر التقريب وذهب بعضهم في الأشبه إلى أنه ليس هذا بل هو أولى طرق الشبه في المقاس والعبر ومثلوا ذلك بإلحاق الأرز بالبر بوصف الطعم أو القوت أو الكيل فأحد هذه الأوصاف أشبه عند الله تعالى وأقرب في التمثيل وأما الثاني فقول الخلص من المصوبة
وأما الأول وهو أن الله تعالى في الواقعة حكما معينا فإما أن يقال عليه دلالة وأمارة فقط أو ليس عليه دلالة ولا أمارة فأما القول الأول وهو أن على الحكم دليلا يفيد العلم والقطع فهو قول بشر المريسي والأصم وابن علية وهؤلاء اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه وأنه إذا وجده فهو مصيب وإذا أخطأه فهو مخطئ ولكنهم اختلفوا في المخطئ هل يأثم ويستحق العقاب فذهب بشر إلى التأثم وأنكره الباقون لخفاء الدليل وغموضه واختلفوا أيضا في أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه فذهب الأصم إلى أنه ينقض وخالفه الباقون
وأما القول الثاني :وهو أن على الحكم أمارة فقط فهو قول أكثر الفقهاء كالأئمة الأربعة وكثير من المتكلمين وهؤلاء اختلفوا فمن قائل أن المجتهد غير مكلف بإصابته لخفائه وغموضه وإنما هو مكلف بما غلب على ظنه فهو وإن أخطأ على تقدير عدم إصابته لكنه معذور مأجور وهو منسوب إلى الشافعي رضي الله عنه وعلى هذا فعلام يؤجر المخطئ فيه وجهان لأصحابنا أحدهما وهو اختيار المزني وظاهر النص أنه يؤجر على القصد إلى الصواب ولا يؤجر على الاجتهاد لأنه أفضى به إلى الخطأ فكأنه لم يسلك الطريق المأمور به وشبهه القفال في الفتاوى برجلين رميا إلى كافر فأخطأ أحدهما يؤجر على قصد الإصابة

 

ج / 3 ص -260-       بخلاف صاحبه والساعي إلى الجمعة إذا فاتته يؤجر على القصد وإن لم ينل ثواب العمل
والثاني :أنه يؤجر على القصد وعلى الاجتهاد جميعا لكونه بذل ما في وسعه ومن قائل إنه مأمور بطلبه ومكلف بإصابته أولا فإن أخطأه وغلب على ظنه شيء آخر فهناك تغير التكليف ويصير مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه ولا يأثم وأما القول الثالث وهو أنه لا دلالة عليه ولا أمارة فذهب إليه جمع من المتكلمين
وقد زعم هؤلاء أن ذلك الحكم كدفين يتفق عثور الطالب عليه ويتفق تعديه قال القاضي في مختصر التقريب واختلف هؤلاء فذهب بعضهم إلى أن العثور عليه ليس بواجب وإنما الواجب الاجتهاد وذهب بعضهم إلى أن العثور عليه مما يجب على المكلف وإن لم يكن عليه دليل هذا شرح المذاهب في المسألة فلنعد إلى لفظ الكتاب
قوله اختلف في تصويب المجتهدين في مسائل الفروع إشارة إلى أن خلاف العنبري في الأصول لا احتفال به وقد أصاب فإنه لا ينبغي أن يعد ما ذهب إليه هذه الرجل قولا في الشريعة المحمدية مع أنه مصادم بالإجماع قبله والذي نراه شاكين فيه أن المجمعين لو عاصروا العنبري لم يلتفتوا إلى ما قاله ولعدوا الإجماع قائما دونه قوله بناء على الخلاف إلى آخره مقتضاه أن كل من قال بأن لكل صورة حكما معينا وعليه دليل قطعي أو ظني قال بأن المصيب واحد ومن لم يقل بذلك صوب الكل
قوله والمختار إلى آخره مباح باختيار المذهب الذي حكيناه من اشتمال الحادثة على حكم معين وعليه دليل قطعي أو ظني لا يكلف المجتهد به وإنما يكلف بما غلب على ظنه
قال "لأن الاجتهاد مسبوق بالدلالة لأنه طلبها والدلالة متأخرة عن الحكم فلو تحقق الاجتهادان لاجتمع النقيضان ولأنه قال عليه السلام
"من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجران ومن أخطأ فله أجر"
"ش" هذان وجهان استدل بهما على اختياره أحدهما أن الاجتهاد مسبوق

 

ج / 3 ص -261-       بدلالة الدليل على الحكم لأنه عبارة عن طلب دلالة الدليل على الحكم والطلب مسبوق على المطلوب فيكون الاجتهاد متأخرا عن الدلالة والدلالة متأخرة عن الحكم بها لأنها نسبة بين الدليل الذي هو المطلوب والمدلول الذي هو الحكم والنسبة متأخرة عن كل واحد من الأمرين لتوقف تحققها على تحققهما فيلزم منه أن يكون الاجتهاد متأخرا عن الحكم بمرتبتين لتأخره عن الدلالة المتأخرة عن الحكم فلو تحقق الاجتهاد أي كان كل مجتهد مصيبا لاجتمع النقيضان لاستلزامه ثبوت حكمين متناقضين في نفس الأمر بالنسبة إلى مسألة واحدة وهذا الدليل فيه نظر فإنا وإن سلمنا أن الاجتهاد طلب الدلالة فلا نسلم أن طلب الشيء يتوقف على ثبوته في الخارج بل على تصوره فقط ثم إنه لا يثبت به إلا أحد شطري ما ادعاه فإنه لا يدل على سقوط الإثم عن المخطئ وحصول الأجر له
الوجه الثاني :الحديث الذي ذكره في الكتاب واللفظ في الصحيحين
:"إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فله أجر1" دل الحديث على أن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب وهو المدعي
فإن قلت لا ينافي ذلك كون كل مجتهد مصيبا إذ يتصور الخطأ عند القائلين بهذه المقالة وذلك فيمن لم يستفرغ الوسع في الطلب مع كونه غير عالم بالتقصير فإنه مخطئ غير آثم للجهل بالتقصير فلعل هذه الصورة هي المرادة من الحديث قلت هذا تخصيص بصورة نادرة من غير دليل وأيضا أن تحقق الاجتهاد المعتبر فيما ذكرته فقد ثبت المدعي وهو خطأ بعض المجتهدين في الجملة وإلا فلا يجوز حمل الحديث عليه من غير صادف عن حمله على الاجتهاد المعتبر لأن الشرعي مقدم على العرفي واللغوي واعلم أن الاستدلال بالحديث قوي كانت المسألة ظنية ولكن المسألة قطعية كما صرح بها الأصوليون على اختلاف طبقاتهم
وبذلك تحل شبهة من قال ليس كل مجتهد مصيبا لقول من قال من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  البخاري : باب أجر الحاكم إذا اجتهد ومسلم : كتاب الأقضية كما رواه الإمام أحمد من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة

 

ج / 3 ص -262-       المجتهدين ليس كل مجتهد مصيبا لأنه إن أصاب فما قاله حق وإن أخطأ فقد أخطأ بعض المجتهدين فلم يكن كل مجتهد مصيبا فنقول الخلاف في أن المصيب واحد إنما هو في مسائل الفروع الظنية كما عرفت أما مسائل الأصول القطعية فالمصيب فيها واحد بلا خلاف ولك في حل هذه النكتة طريقة أخرى فنقول فتلزم أنه مصيب في قوله ليس كل مجتهد مصيبا ولكن لم قلت أنه يلزم من ذلك أن يكون الواقع في نفس الأمر ليس إلا أنه ليس كل مجتهد مصيبا وقولك لأنه مصيب قلنا وكذا خصمه أيضا مصيب بناء على القول بالتصويب فحكم الله في حق هذا أنه ليس كل مجتهد مصيبا أنه في حق خصمه أن كل مجتهد مصيب فهاتان طريقتان في حل هذه الشبهة الأولى على تقدير كونها من مسائل الأصول والثانية على التزام كونها من مسائل الفروع ومن جيد ما استدل به القائلون بأن المصيب واحد اجتماع الصحابة فمن بعدهم للمناظرة وطلب كل واحد من المتناظرين خصمه إلى ما ينصره فلو أن كل مجتهد مصيب لم يكن إلى الحجاج والنظر فائدة وأجاب عنه القاضي بأن التناظر ثابت وأما ما ادعيتموه من غرض المتناظرين فأنتم منازعون فيه ولسنا نسلم أن العلماء إنما تنازعوا ليدعي كل واحد منهما خصمه بل المندوب في طرق الاجتهاد والاحتمال وضوح نص يقطع البحث وغير ذلك قال قيل لو تعين فالمخالف له لم يحكم بما أنزل الله فيفسق ويكفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قلنا لما أمر بالحكم بما ظنه وإن أخطأ حكم بما أنزل الله قيل لو لم يصوب الجميع لما جاز نصب المخالف وقد نصب أبو بكر زيدا رضي الله عنهما قلنا لم يجز تولية المبطل والمخطئ ليس بمبطل
"ش" احتج المصوبون بوجهين أحدهما أنه لو لم يكن كل مجتهد مصيبا لتعين الحكم في الواقعة قبل الاجتهاد وحينئذ فيكون المجتهد المخالف باجتهاده لذلك الحكم حاكما بخلاف ما أنزل الله فيفسق لقوله تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ1}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة المائدة آية 47

 

ج / 3 ص -263-       ويكفر في آية أخرى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ1} وأجاب بأنا لا نسلم أنه والحالة هذه يكون حاكما بخلاف ما أنزل الله فإنه لما كان مأمورا الحكم بموجب ظنه بعد الاجتهاد فحكمه به حكم بما أنزل الله وإن أخطأ في اجتهاده بعدم إصابة ذلك الحكم المتعين ولقائل أن يقول إذا كان الحق واحد متعينا فهو الذي أنزله الله والحكم بخلاف ما أنزل الله نعم هو حكم بشيء أنزل الله أن الحاكم به يؤجر ولا يأثم لبذله الوسع في اجتهاده فكان ينبغي تقريره هكذا إنما يفسق أن يكفر الحاكم بخلاف ما أنزل الله من كل وجه لأنه الذي عليه أخلاق قول القائل حكم بخلاف ما أنزل الله أما الحاكم بما أنزل الله أن له أن يحكم به وإن لم يحكم به وإن لم ينزل المحكوم به ولم يجعله الحق عنده فليس حاكما بخلاف المنزل أو نقول هو حاكم بخلافه ولكن هو معذور لما ذكرناه والفسق والكفر يختصان بغير المعذور والثاني أنه لو لم يكن كل مجتهد مصيبا لما جاز للمجتهد أن ينصب حاكما مخالفا له في الاجتهاد لأنه في ظنه قد مكنه من الحكم بغير الحق وليس كذلك لأنه جائز بدليل أن أبا بكر رضي الله عنه نصب زيدا رضي الله عنه مع أنه كان يخالفه في الجد وفي غيره وشاع ذلك بين الصحابة من غيره وشاع ذلك بين الصحابة من غير نكير وأجاب بأن الممتنع إنما هو تولية المبطل أي الذي يقتضي بالباطل ومن كان مجتهدا مخطئا فهو غير مبطل لإتيانه بالمأمورية وهذا أيضا فيه عندنا نظر فإن المجتهد في مسألة القاتل بأن المصيب واحد يظن خطأ صاحبه ولا معنى لذلك إلا أنه مبطل فيما أتى به وإنما بذل الوسع أقام عذره نعم قد يجاب بأنه ليس يعلم حال التولية أنه يحكم بخلاف ما يعتقده وذلك لأن على الحاكم أن يجتهد في الحكم عند كل حادثة وربما تغير اجتهاده وأيضا فلعل أبا بكر رضي الله عنه زايد عن الحكم فيما يخالفه فيه وقصر توليته على الحوادث التي يوافقه فيها وقد صرح بجواز مثل هذا الماوردي كما نقله الرافعي فقال ولو ولى الإمام وجلا وقال لا نحكم في قتل المسلم الكافر والحر العبد جاز وقد قصر عمله على باقي الحوادث ووافقه زيد واقعة عين لا يمكن فيها نفي هذا الاحتمال وأيضا فلعل أبا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة المائدة آية 44

 

ج / 3 ص -264-       بكر رضي الله عنه كان يرى أن كل مجتهد مصيب فالمسألة مشهورة باضطراب الآراء فيها قديما وحديثا
قال فرعان الأول لو رأى الزوج لفظ كناية ورأته المرأة صريحا فله الطالب ولها الامتناع فيراجعان غيرهما
"ش" هذا فرعان من فروع حكمة الاجتهاد الأول لو كان الزوجان مجتهدين فخاطبها الزوج بلفظه يرى أنها كناية في الطلاق ولا نية وترى المرأة أنها صريحة فيه فللزوج طلب الاستمتاع منها ولها الامتناع عملا مع كل منهما بمقتضى اجتهاده وطريق قطع المنازعة بينهما أن يراجعا مجتهدا آخر غيرهما حاكما أو حكما من جهتهما ليحكم بينهما بما أرى إليه اجتهاده وهذا الطريق متعين لدفع المشاجرة في نحو الصورة المفروضة سواء قلنا المجتهد واحد أم كل مصيب وهذا إذا لم تكن المنازعة فيما يجري فيه الصلح فإن جرى فيه الصلح كالحقوق المالية فينقطع بطريق الصلح أيضا هذا ما في الكتاب وقد ذكر القاضي في مختصر التقريب هذا الفرع وجعله من أدر خصومه القائلين بأن المصيب واحد وأنهم قالوا هذا يقتضي الجمع بين التسليط على الاستمتاع والامتناع منه ثم أجاب عنه بأنا نسألكم عن هذه الحادثة إذا عنت وكلما قدرتموه جوابا ظاهرا في حقهما فهو حكم الله قطعا قال فإن زعموا أن المرأة مأمورة بالامتناع جهدها والرجل مباح له الطلب للاستمتاع وإن أدى إلى قهرها ولم يعدوا ذلك تناقضا في ظاهر الجواب فهو حكم الله تعالى عندنا ظاهرا وباطنا قال ومما تمسكوا به أن المنكوحة بغير ولي إذا زوجها وليها ثانيا من شافعي والذي تزوج بها أولا حنفي والمرأة مترددة بين دعوتهما وهما مجتهدان في أوجه القول في جمع الحل والتحريم وأجاب بجوابه الأول وأن كل ما أجبتم به في ظاهر الأمر ولم يعدوه تناقضا فهو حكم الله عندنا ثم قال وإن اجتزيت بهذا القدر كفاك وإن أردت التفصيل في الجواب قلنا من القائلين بأن المصيب واحد من صار في هذه الصورة إلى الوقت حتى يرفع الأمر إلى القاضي كما قدمناه في الصورة المعلومة

 

ج / 3 ص -265-       الأولى فعلى هذا نقول حكم الله فيهما الوقف ظاهرا وباطنا حتى نرفع الأمر إلى القاضي كما قدمناه في الصورة المغلومة الأولى فعلى هذا نقول حكم الله فيهما الوقف ظاهرا وباطنا حتى نرفع أمرها إلى القاضي فينزلهما على اعتقاد نفسه وهذا حكم الله حينئذ ومنهم من قال نسلم المراد إلى الزوج الأول فإن نكحها نكاحا يعتقد صحته وهو السابق فلا يبعد أن يكون هذا هو الحكم قال وهذه الصورة وأمثالها من المجتهدات وفيها تقابل الاحتمالات فيجتهد فيها عندنا وما أرى إليه اجتهاده فهو حق من وقف أو تقدم أو غيرهما من وجوه الجواب
قال "الثاني إذا تغير الاجتهاد كما لو ظن أن الخلع فسخ ثم ظن أنه طلاق فلا ينتقض الأول بعد اقتران الحكم وينتقض قبله"
"ش" إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة كان قد خالعها ثلاثا بمقتضى هذا الاعتقاد ثم تغير اجتهاده وأداه إلى أنه طلاق فإما أن يتغير بعد قضاء القاضي بمقتضى الاجتهاد الأول المقتضي لصحة النكاح فلا ينقض بالاجتهاد الثاني بل يقي على النكاح وإما أن يتغير قبل القضاء بالصحة فيجب عليه مفارقتها لأن الظن المصاحب له الآن قاض بأن اجتهاده الأول خطأ فليعمل به وهذا ما أراده المصنف بقوله وينتقض قبله ومراده بالنقض ترك العمل بالاجتهاد الأول وإلا فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وهذا فيما تغير اجتهاده في حق نفسه فلو تغير في حق غيره كما إذا أفتى مقلده بصحة نكاح المختلعة ثلاثا ونكحها المقلد عملا بفتواه ثم تغير اجتهاده ولم يكن الحكم قد حكم بصحة النكاح قبل تغير اجتهاده فالمختار أنه يجب عليه تسريحها كما في حق نفس المجتهد ولو قال مجتهد للمقلد والصورة هذه أخطأ بك من قلدته فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني أو استويا فلا أثر له لقوله وإن كان الثاني أعلم قال الرافعي فالقياس إما أن أوجبنا تقلدا لأعلم فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده وإلا فلا أثر له قال النووي وهذا ليس بشيء بل بوجه الجزم بأنه لا يلزمه بشيء ولا أثر لقول الثاني
خاتمة :القاضي إذا حكم في هذه الواقعة ثم تغير اجتهاده لم يكن له النقض

 

ج / 3 ص -266-       لكون المسألة اجتهادية ولنا فيما إذا حكم الحاكم بحكم ثم انقدح له ما لو كان مقارب لمنع الحكم قول بليغ فلنورده فنقول ذلك على أقسام
أحدها :أن يكون أمرا متجددا لم يكن حالة الحكم مثاله أن يباع مال يتيم بقيمته لحاجته ويحكم بصحة البيع ثم نقلوا الأسعار بعد ذلك فتصير قيمته أكثر فهذا لاعتبار به لأن الشرط البيع بالقيمة ذلك الوقت لا بعده
الثاني :أن يحكم باجتهاده لدليل أو إمارة ثم يظهر له دليل أو أمارة أرجح من الأول ولا ينتهي إلى ظهور النص بهذا أيضا لاعتبار به وإن كان لو قارن لوجب الحكم به لأن الحكم بالراجح وإن كان واجبا لكن الرجحان حاصل الآن في ظنه ولا يدري لو حصل ذلك الاحتمال عنده حالة الحكم هل يكون عنده راجحا أو مرجوحا والاعتبار إنما هو بالرجحان حال الحكم ولا يلزم من الرجحان في وقت الرجحان في وقت غيره لتفاوت الظنون بحسب الأوقات وما يكون فيها من أمور لا تنحصر يتغير بها الظن ولا يتمكن الظان من الحزم بأن الظن الذي عنده في وقت آخر لكان مستمرا ورجحان الاعتقاد إنما يحصل حالا فحالا وأما اعتقاد الرجحان فقد يكون يعتقد في وقت قطعا رجحان أمر عنده في الماضي وهو من الأمور الوجدانيات ليس مما نحن فيه سيأتي قسم منه هنا فاضبط هذا هنا لتنتفع به إذا قلناه
الثالث :أن يظهر دليل أو أمارة تساوي الأول فبطريق الأولى لا اعتبارية وإن كان لو قارن لمنع من الحكم وبهذا تعلم أن إطلاق من أطلق أنه إذا ظهر بعد الحكم ما لو قارن لمنع من الحكم بنقض الحكم ليس بجيد
الرابع :أن يظهر نص أو إجماع أو قياس جلي بخلافه فينتقض الحكم لأن ذلك أمر مقطوع به فلم ينقضه بظن وإنما ينقضه بالدليل القاطع على تقديم النص والإجماع والقياس الجلي على الاجتهاد فهو أمر لو قارن العلم به لوجب تقديمه قطعا فلذلك نقض به
الخامس :أن يظهر أمر لو قارن لمنع ظنا لا قطعا كبينة الداخل فإن في تقديمهما على بينة الخارج خلافا فهو أمر مظنون مجتهد فيه ولكن الحاكم الذي

 

ج / 3 ص -267-       يراه اجتهادا أو تقليدا قاطع بظنه ووجوب العمل به فلو قارن لوجب الحكم به وهو يعلم من نفسه أنه إنما يحكم به فإذا حكم الخارج معتقدا أنه لا بينة للداخل ثم جاءت البينة فقد ظهر أمر لو قارن لمنع ظنا والظن سابق معلوم الآن وهذا هو اعتقاد الرجحان الذي أشرنا إليه من قبل وقد اختلف الأصحاب ها هنا في النقض فمن ذهب إلى أنه لا ينقض فوجهه أنه أمر مجتهد فيه ومن قال بالنقض فوجهه أنه عالم بظنه وبأنه إنما حكم معتقدا عدم بينة الخارج فهو قاطع بما كان يمنعه من الحكم لو قارن فانظر هذا التفاوت بين المراتب وأن هذه المرتبة بين ظهور النص وبين الظهور الدليل الراجح والمساوي فلذلك نقض في النص قطعا ولم ينقض في الدليل أن الإمارة قطعا وحصل التردد في هذا على وجهين
السادس :أن يظهر معارض محض من غير مرجح كما إذا حكم للخارج ببينة ثم جاءت بينة لمخارج آخر فهذه البينة لو قارنت فلمنعت الحكم للتعاوض فإذا ظهرت بعد الحكم فلو أيده الله تعالى في المسألة احتمالان أحدهما أن يقال إنه كظهور الإمارة المساوية فلا ينقض به قطعا أو رجحهما عندي أنها ليست كالإمارة المساوية لأن مساواة الإمارة المساوية مظنونة وجاز أن يضعف في وقت آخر ويستمر رجحان الإمارة المحكوم بها لعدم الوثوق بالظنون وجاز أنها لاحت له في وقت الحكم لكانت مرجوحة غير مساوية وأما البينة إذا عارضت أخرى فمساواتها معلومة ما يؤس فيها من الترجيح فلا يبقى لاحتمال استمرار ذلك الحكم أو غيره فيرد الأمر إلى ما كان عليه قبل الحكم ويقف لقطعنا باستواء الجانبين بخلاف الإمارات التي لا يورث بحال الظنون فيها فإنه لو لم يمض الحكم فيها أدى إلى عدم استمرار الأحكام وأن لا يحكم بشيء
وقد مال والدي أيده الله إلى ترجيح الأول وقال لم أجد في كلام الأصحاب إلى الآن ما اعتضد به في الجزم بأحدهما غير أني أميل إلى عدم النقض وأن الحاكم لا يحكم ولا ينقض إلا بمستند ولك أن تقول ظهور ما يقع بمساواته مستند وقد تخلص من هذا أن العلم بمقارنة ما يقطع بتقديمه على مستند الحكم موجب لنقضه قطعا والعلم بمقارنة ما يظن تقديمه فيه وجهان كبينة

 

ج / 3 ص -268-       الداخل والعلم بمقارنة ما يمنع الحكم ويوجب التوقف فيه الاحتمالان المذكوران وهذا هو القسم السادس والذي قبله الخامس والذي قبله الرابع والثلاثة الأول لا نقض فيها قطعا أما الأول فللعلم بعدم المقارنة وأما الثاني والثالث فللشك فيها وعدم استقرار الإحكام

قال الباب الثاني في الإفتاء وفيه مسائل الأولى يجوز الإفتاء للمجتهد
ومقلد الحي واختلف في تقليد الميت لأن لا قول له لانعقاد الإجماع على خلافه والمختار جوازه عليه في زماننا
"ش" يشتمل هذا الباب على ثلاثة مسائل الأولى النظر فيما يتعلق بالمفتي أعلم أنه يجوز للمجتهد الإفتاء
وأما المقلد فقال أبو الحسين البصري وجماعة لا يجوز له الإفتاء مطلقا وذهب قوم إلى الجواز مطلقا إذا عرف المسألة بدليلهما وذهب الأكثرون إلى أنه إن تبحر في مذهب ذلك المجتهد واطلع على ما أخذه وكان أهلا للنظر والتفريع على قواعده جاز له الفتوى وإلا فلا وقال آخرون إن عدم المجتهد جاز وإلا فلا وقالت طائفة يجوز لمقلد الحي أن يفتى بما شافهه به أو نقله إليه موثوق بقوله أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه ولا يجوز لمقلد الميت هذا شرح ما في الكتاب وعبارته قد توهم اختصاص الخلاف بمقلد الميت وهو جاز مطلقا وقد توهم أن اختياره جواز إفتاء المقلد العامي والظن به إن لم يختر هذا المذهب وإن كان وجها في المذهب فقد قال القاضي في مختصر التقريب أجمعوا على أنه لا يحل لمن شذ أشياء من العلم أن يفتي وإنما قال المصنف في تقليد الميت ولم يقل في مقلد الميت مع أن الغرض حكم إفتاء مقلد الميت لا بيان حكم تقليده ليشير إلى أن جواز إفتائه مشروط بصحة تقليده فيلزم من الخلاف فيها الخلاف في إفتائه قوله لأنه لا قول له أي احتج من منع تقليد الميت بأن الميت لا قول له بدليل انعقاد الإجماع على خلافه ولو كان ذا قول لم ينعقد مع مخالفته كالحي وإذا لم يكن له لم يجز تقليده
واستدل المصنف على اختياره بالإجماع عليه في زماننا وهذا قد ذكره الإمام فقال انعقد الإجماع في زماننا على جواز العمل بهذا النوع لأنه ليس
 

 

ج / 3 ص -269-       في هذا الزمان مجتهد والإجماع حجة ولقائل أن يقول لا يجامع قولك ليس في هذا الزمان مجتهد قولك إجماع أهل الزمان حجة لأن الإجماع المعتبر هو إجماع المجتهدين

قال الثانية يجوز الإفتاء للعامي
لعدم تكليفهم في شيء من الإعصار بالاجتهاد وتفويت معائشهم واستضرارهم بالاشتغال بأسبابه دون المجتهد لأنه مأمور باعتبار قيل معارض بعموم فاسألوا
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقول عبد الرحمن لعثمان أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة الشيخين قلنا الأول مخصوص وإلا لوجب بعد الاجتهاد والثاني في الأقضية والمراد من السيرة لزوم العدل
"ش" هذه المسألة ناظرة فيما يتعلق كالمفتى باحثة عمن يجوز له الاستفتاء ومن لا يجوز فنقول للمكلف حالات الأولى أن يكون عاميا صرفا لم يحصل شيئا من العلوم التي يترقى بها إلى منازل المجتهدين فالجماهير على أنه يجوز له الاستفتاء ويجب عليه التقليد في فروع الشريعة جميعها ولا ينفعه ما عنده من علوم لا تؤدي إلى الاجتهاد وإن كانت عدد الحصى ومنع منه معتزلة بغداد مطلقا وقالوا يجب عليه الوقوف على طريق الحكم ولا يرجع إلى العالم إلا لينبهه على أصولها وطريقة النظر فيها قال القاضي عبد الوهاب وعلى هذا جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب منهم وفصل الجبائي فقال يجوز في المسائل الاجتهادية دون ما عداها كالعبادات الخمس الحالة الثانية العالم الذي تعالى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة ولم يحط بمنصب الاجتهاد فالمختار في أن حكمه حكم العامي الصرف لعجزه عن الاجتهاد
وقال قوم لا يجوز له ذلك ويجب عليه معرفة الحكم بطريقة لأن له صلاحية معرفة طرق الأحكام بخلاف العامي
واستدل المصنف على جواز الاستفتاء للعامي سواء كان عاميا وهو المذكور في الحالة الأولى أو عالما وهو المذكور في الثانية بوجهين
أحدهما إجماع السلف عليه إذ لم يكلفوا العوام في عصر من الأعصار

 

ج / 3 ص -270-       بالاجتهاد بل قنعوا منهم بمجرد أخذ الأحكام من أقوالهم من غير بيان ما أخذها فإن قلت دعوى قيام الإجماع على إفتاء المستفتين صحيحة ولكن من أين لكم أن المستفتين لم يسألوا عن بيان المأخذ قلت لم ينقل ذلك ولا لأم أحد العوام على تركهم السؤال عن وجه دلالة الدليل ويعلم قطعا أنهم كانوا لا يذكرون الدليل عند الإفتاء مع علمهم بجهل المستفتي به والثاني أن وجود ذلك عليهم يؤدي إلى تفويت معائشهم واستضرارهم بالاشتغال بأسبابه وذلك مؤذن باختلال نظام العالم وفساد الأحوال فإن قلت هذا يقتضي أن لا يجب النظر في أصول الدين وأن يجوز فيه التقليد لأنا نعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام بل ربما لاموا المشتغل به مع أنه يلوم منه تعطيل أمور المعايش لأن غرض أدلة الكلام أكثر قلت إن سلمنا عدم جواز التقليد فيه فالفرق أن مطالبة معدودة محصورة لا تتكرر وأكثر أدلتها قواطع تحمل الطبع السليم على الإذعان لها بخلاف الأحكام الفرعية فإنها غير متناهية وأكثر أدلتها ظنون تضطرب بحسب الأذهان فكان تحصيل رتبة الاستدلال فيها محتاجا إلى الانقطاع عن الاشتغال بغيرها فأرى إلى ما ذكرناه واحتج الجبائي بأن الحق في المسائل الاجتهادية متعدد بخلاف غيرها فإنه واحد فالتقليد فيه لا يؤمن من الوقوع في غير الحق والجواب بعد تسليم أن كل قول في المجتهدات حق أنه لا يؤمن فيها أيضا من الوقوع في الخطأ لاحتمال تقصير المجتهد في الاجتهاد أو أن لا يجتهد أو يفتي بخلاف الاجتهاد
"تنبيه" ذهب معظم الأصوليون إلى أن القول بأن العامي مقلد للمفتي فيما يأخذ منه لأن التقليد إن عرف بأن قبول قول القائل بلا حجة فقد تحقق ذلك إذ ليس قوله في نفسه بحجة وإن عرف بأنه قبول قول القائل مع الجهل بأخذه تحقق في قول المفتي أيضا
قال القاضي في مختصر التقريب والذي نختاره أن ذلك بتقليد أصلا فإن قول العالم حجة في قول المستفتى نصبه الرب تعالى علما في حق العامي وأوجب عليه العمل به كما أوجب على المجتهد العمل باجتهاده واجتهاده علم علمه وقوله علم على المستفتى ويخرج لك من هذا من لا يتصور تقليد مباح في الشرعية لا في

 

ج / 3 ص -271-       الأصول ولا في الفروع إذ التقليد على ما عرفه القاضي هو اتباع على من لم يقم باتباعه حجه ولم يستند إلى علم قال ولو شاع تسمية العام مقلدا مع أن قول العالم في حقه واجب الإتباع جاز أن يسمي التمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل مقلد قوله دون المجتهد هذا هو الحال الثاني وهو أن يبلغ المكلف رتبة الاجتهاد فإن كان قد اجتهد في المسألة ووضح في ظنه وجه الصواب لم يقلد غيره بلا ريب وإن لم يكن قد اجتهد فيها فهي مسألة الكتاب وقد اختلفوا فيها على مذاهب
الأول المنع من التقليد وإليه ذهب أكثر الفقهاء وجمع من الأصوليين منهم القاضي واختاره المصنف تبعا للإمام وهو المختار عند الآمدي وابن الحاجب والثاني التجويز مطلقا وعليه سفيان الثوري وأحمد وإسحاق والثالث يجوز تقليد الصحابة فقط والرابع يجوز تقليد الصحابة والتابعين دون غيرهم والخامس يجوز تقليد العالم لأعلم منه ولا يجوز لمساويه ودونه وإليه ذهب محمد بن الحسن والسادس يجوز التقليد فيما يخصه دون ما يفتى به والسابع أنه يجوز فيما يخصه إذا خشي فوات الوقت باشتغاله بالحادثة وهو رأي أبي العباس ابن سريج
والثامن أنه يجوز للقاضي دون غيره واستدل المصنف على أن المجتهد لا يجوز له التقليد مطلقا بأنه مأمور بالاعتبار في قوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا} فإذا تركه يكون تاركا للمأمور به فيعصى ولا يرد العامي لأنه خرج من عموم الأمر بدليل عجزه عن الاجتهاد هذا إن جعلناه مقلدا وإن لم نجعله مقلدا كما قال القاضي فلا سؤال وجعل الآمدي المعتمد في المسألة أن يقال جواز تقليد المجتهد للمجتهد حكم شرعي فلا بد عليه من دليل والأصل عدم ذلك الدليل فعلى مدعيه بيانه والقياس على العامي لا يصلح أن يكون دليلا لما عرفت من الفرق ولمعارض أن يقول القول بوجوب الاجتهاد على المجتهد فيما نزل به من الوقائع مطلقا وحرمة التقليد عليه حكم شرعي فلا بد عليه من دليل وعلى مدعيه بيانه
قوله قيل معارض أي عارض الخصم الاستدلال على منع التقليد للمجتهد بأوجه

 

ج / 3 ص -272-       الأول قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون1} والعالم قبل أن يجتهد لا يعلم فوجب تجويز الاجتهاد له
والثاني قوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ2} والعلماء هم أولوا الأمر لأن أمورهم تنفذ على الأمراء والولاة
والثالث :إجماع الصحابة روى أحمد عن سفيان بن وكيع بن الجراح قال حدثنا قبيصة قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن وائل قال قلت لعبد الرحمن بن عوف كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا فقال ما ذنبي قد بدأت هكذا لعلي فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أبي بكر وعمر فقال فيما استطعت ثم عرضت ذلك على عثمان فقال نعم فقد التزم عثمان ذلك بمحضر من عظام الصحابة من غير نكير عليه فكان إجماعا على جواز أخذ المجتهد بقول المجتهد الميت وإذا ثبت في الميت ثبت في الحي بطريق الأولى
وأجاب المصنف عن الأول بأنه عام مخصوص بالمقلدين وإلا لوجب الاجتهاد على المجتهد بعد اجتهاده لأنه بعد الاجتهاد أيضا ليس بعالم بل هو ظان وذلك باطل بالإجماع ولقائل أن يقول المراد بقوله:
{إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} إن كنتم غير ذوي علم وذوي العلم صادق على من يتوصل إلى الأحكام بمسالك الظنون وهذا واضح بل الجواب أن السؤال مشروط بعدم العلم ولم يوجد في المجتهد لأنه عالم وقولكم قبل الاجتهاد لا يعلم قلنا لا يخرج عن كونه عالما بغيبوبة المسألة عن ذهنه مع تمكنه من معرفتها من غير احتياج إلى غيره
وأجاب الإمام أيضا بأن ظاهر الآية يقتضي وجوب السؤال على المجتهد وهو غير واجب بالاتفاق قلت وفي دعوى الاتفاق نظر فإن القائل بتجويزه إذا ضاق الوقت لا بد وأن يوجبه عليه والحالة هذه ولعله مراده بالاتفاق اتفاق الخصمين المانع مطلقا ومقابلة لأن البحث في هذا الدليل بينهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 7
2  سورة النساء آية 59

 

ج / 3 ص -273-       وأجاب المصنف عن الثاني بأن الآية الأولى دلت على وجوب الطاعة في الأقضية والأحكام جمعا بين الأدلة وأيضا المتبادر إلى الفهم من إطلاق أولي الأمر والأمراء والحكام
وأجاب عن الثالث بأن المراد من سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لزوم العدل والإنصاف والسنن المرضي في جميع الحالات لأنه من المتبادر إلى الذهن من السيرة وأيضا في سند الحديث سفيان ابن وكيع وقد قال فيه أبو زرعة متهم بالكذب

قال "الثالثة إنما يجوز في الفروع وقد اختلف في الأصول ولنا فيه نظر وليكن آخر كلامنا وبالله التوفيق"
"ش" هذه المسألة فيما يجوز فيه الاستفتاء وما لا يجوز فنقول أما الاستفتاء في الفروع فهو جائز على ما سلف فيه من الكلام وهو عمل العامي بقول المجتهد تقليدا فيه ما أوردناه عن القاضي والأصوليين
وأما الاستفتاء في الأصول فذهب كثير من الفقهاء وبعض المتكلمين كعبيد الله بن الحسين العنبري والحشوية والتعليمية إلى جوازه وربما بالغ بعضهم فقال التقليد واجب والنظر في ذلك حرام وذهب الباقون إلى عدم جوازه وأنه يجب على كل أحد معرفة الله وما يجب له من الأوصاف ويجوز عليه ويتقدس عنه وكذلك جملة العقائد بالنظر والاستدلال ولما كان محل المسألة علم الكلام لم يطل المصنف فيها ولتقاوم الأدلة عنده لم يجزم بشيء بل قال إن له فيه نظرا ونحن نورد نزرا يسيرا من معتصمات الفريقين أما مجوزو التقليد فاحتجوا بوجوه منها أن النظر في أصول الدين منهي عنه لقوله تعالى:
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا1} {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ2} والنظر يفضي إلى فتح باب الجدال وروى أنه صلى الله عليه وسلم نهى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة غافر آية 4
2  سورة الزخرف آية النحل 58

 

ج / 3 ص -274-       الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر وإذا كان منهيا عنه فلا يكون واجبا فيكون التقليد جائزا
وأجيب عنه بمنع كون النظر منهيا عنه والآيات محمولة على النهي عن الجدال بالباطل جمعا بين الأدلة فإن قوله تعالى:
{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ 1} {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ 2} وأثنى الله تعالى على الناظرين بقول: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ 3} وأما الحديث فلعل النبي صلى الله عليه وسلم لما علم صحة اعتقادهم وحقيقة يقينهم بما تلقوه عنه وشاهدوا من المعجزات الخوارق علم أن الجدال بعد ذلك لا يفيد شيئا وربما ورث شكا فنهاهم لذلك أما الشارح الذي لم يثبت عنده شيء فكيف لا يجب عليه السعي في إثبات يقينه والذب عن تأكيد دينه
ومنها أن النظر فيه مظنة الوقوع في الشكوك والشبهات والخروج إلى البدع وأجيب بأن التقليد لا بد أنه ينتهي إلى النظر والاستدلال لامتناع التسلسل وحينئذ ما ذكرتم من المحذور لازم التقليد مع زيادة محذور احتمال كذب المقلد فيما أخبر به المقلد عن اعتقاده وأما المانعون فاعتصموا بوجوه منها أن تحصيل العلم في أصول الدين كان واجبا على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله:
"فأعلم أنه لا إله إلا الله" فيكون واجبا على أمته بقوله فاتبعوه ومنها أن التقليد مذموم شرعا في قوله تعالى حكاية عن قوم في معرض الذم لهم {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ 4} ووجوه الحجج في المسألة عديدة وقد ذكرنا أن محلها علم الكلام فمن أراد الإحاطة به فهو محال على كتبه وبنجاز هذه المسألة تم هذا الشرح المبارك أسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم موجبا للفوز لديه وأن يعم النفع به بمحمد وآله وصحبه
وقد راعينا فيه جانب التوسط لأن الكتاب مختصر فالأليق بشارحه أن يحذو حذوه ولا يتعدى ممشاه فوق خطوة وقد كنا نروح ونغدو على المسألة وربما لم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة النحل آية 125
2 سورة العنكبوت آية  46
3 سورة آل عمران آية  191
4 سورة الزخرف آية  23

 

ج / 3 ص -275-       نخرج عن حد الشرح قدر أنملة وفي النفس حزازات من مباحث نترك ذكرها خشية التطويل ونسلك في الإضراب عنها سبيل غيرنا
وإن كنا لا نرتضي تلك السبيل على أنا لم نأل جهدا فيما وضعناه ولم نرض إلا أن نحله محل النجم وفي الظن أنا ما أنصفناه فإنا لم نغادر صغيرة ولا كبيرة مما يطالب الشارح بها إلا وقد جمعناها فيه مع زيادات من نقول وفوائد يهيم الفهم إذا سمعها طربا وينطق شاكرها ملء فيه ومباحث ما للبدر الكوامل إلا ما تطلع ولا العرب الأفراب إلا ما تفوه به بنات فكرها وتسمع لكن الكتاب مع أن الروض المبدعة ازهاره والواضح الجلي الذي ينضال لديه النهار وأنواره لم يعن على نفسه لقلة ما أودع فيه من المسائل ولم يبن عن جمع كبير فلم نهتم له ولا به وكيف لا وقد كنا نكتب فيه بأطراف الأنامل ونجيء إليه وقد سلمنا الطيب وقد وقالت النفس حطة وتعد عليه فنقول من رأى القلم يكتب والمهمة تملى عليه أما القلم قد أبل وليس في تلك شطة وفي عزمي والله الميسر أن أضع شرحا على مختصر ابن الحاجب بسيطا لا عذر لي إذا لم آت فيه بالعجب العجاب محيط بهذا العلم على أتم وجه لا أميط عنه إلا القشر عن اللباب والله المسؤول أن يوفقنا لصالح الأعمال ويجمعنا على العلم ونشره في كل حال بمنه وكرمه إنه المرجو خيره المأمول بسره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
قال المصنف أيده الله فرغت منه صبيحة يوم الجمعة السادس عشر من صفر المبارك سنة اثنين وخمسين وسبعمائة أحسن الله تقضيها بالمدرسة العادلية منزل سيدي ووالدي أحسن الله إليه من دمشق المحروسة وكتب مؤلفه عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي السبكي الشافعي أصلحه الله تعالى وكان له والحمد لله وحده وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل.