الاجتهاد (من كتاب التلخيص لإمام الحرمين) حكم الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع من حَيْثُ
التصويب والتخطئة
فاما مسَائِل الْفُرُوع فَنَذْكُر حَدهَا اولا
واصح مَا يُقَال فِيهَا ان نقُول كل حكم فِي افعال
الْمُكَلّفين لم يقم عَلَيْهِ دلَالَة عقل وَلَا ورد فِي حكمه
الْمُخْتَلف فِيهِ دلَالَة سمعية قَاطِعَة فَهُوَ من الْفُرُوع
(1/27)
واذا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء فِي مباينة
اجتهادهم فَمَا حكمهم فِي التصويب والتخطئة
فاما نفاة الْقيَاس فقد قطعُوا بَان الْمُصِيب وَاحِد وعينوه
وَزَعَمُوا ان من اخطأ الْحق الْمعِين فَهُوَ مأثوم مأزور وَلم
يقل بِهَذَا الْمَذْهَب من القائسين الا الاصم وَبشر المريسي
فانهما زعما ان الْمُصِيب وَاحِد وَالْمَطْلُوب وَاحِد وَمن
تعداه مأثوم
(1/28)
وَصَارَ كَافَّة الْعلمَاء الى نفي الاثم
والحرج فِي مسَائِل الْفُرُوع وَاخْتلفُوا بعد ذَلِك فِي
التصويب
فاما الشَّافِعِي رَحمَه الله فَلَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَة
نَص على التَّخْصِيص لَا نفيا وَلَا اثباتا وَلَكِن اخْتلف
النقلَة عَنهُ المستنبطون من قضايا كَلَامه
فَذهب الاكثرون الى انه يَقُول الْمُصِيب وَاحِد ثمَّ اخْتلف
هَؤُلَاءِ فَذهب بَعضهم الى انه كَانَ يَقُول الْمُجْتَهد كلف
الِاجْتِهَاد والعثور على الْحق وَنصب الدَّلِيل المفضي الى
الْعلم بِمَا كلف فان اصابه فَلهُ اجران وان اخطاه فالوزر
محطوط عَنهُ لغموض الدَّلِيل والى هَذَا الْمَذْهَب صَار مُعظم
الْقَائِلين بَان الْمُصِيب وَاحِد
وَذهب اخرون الى ان الْحق لَا دَلِيل عَلَيْهِ يُفْضِي الى
الْعلم بِهِ وَلكنه كالشيء الْمكنون يتَّفق العثور عَلَيْهِ
ويتفق تعريه وَلَيْسَ على الْعلم بِهِ دَلِيل
ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فَذهب بَعضهم الى ان العثور عَلَيْهِ
مِمَّا يجب على الْمُكَلف وان لم يكن عَلَيْهِ دَلِيل يُفْضِي
الى الْعلم
وَذهب اخرون الى ان العثور عَلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِب وانما
الْوَاجِب الِاجْتِهَاد وَهَذَا حَقِيقَة مَذْهَب من يَقُول ان
كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده
واما ابو حنيفَة فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ وَالَّذِي يَصح
عَنهُ انه كَانَ
(1/29)
يَقُول كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده
واحدهم عاثر على الْحق وَالْبَاقُونَ مخطئون فِيهِ وَكلهمْ على
الصَّوَاب بِالِاجْتِهَادِ
قَالَ القَاضِي وَالَّذِي توضح عندنَا من فحوى كَلَام
الشَّافِعِي رَحمَه الله القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين وَقد
نقل ذَلِك بعض اصحاب الشَّافِعِي عَنهُ صَرِيحًا وعد نصوصا
منبئة عَمَّا قَالَه
وَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي ان الْمُصِيب وَاحِد
وَذهب طَائِفَة من الْعلمَاء الى ان الْمُجْتَهد مَأْمُور
بِطَلَب الاشبه وَصَارَ مُحَمَّد بن الْحسن وابو يُوسُف
(1/30)
وَابْن سُرَيج فِي احدى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنهُ الى مثل ذَلِك وَلَا يتَبَيَّن الاشبه الا بتفصيل وسنقرر
فِيهِ بَابا
فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب الَّتِي عدا القَوْل بتصويب
الْمُجْتَهدين اجْتِهَادًا وَحكما
وَمَا صَار اليه الْمُعْتَزلَة قاطبة ان كل مُجْتَهد مُصِيب
اجْتِهَادًا وَحكما وَمَال شَيخنَا ابو الْحسن الى ذَلِك
وَهُوَ اخْتِيَار القَاضِي وكل من انْتَمَى الى الاصول الا
الاستاذ ابا اسحق فانه صَار الى ان الْمُصِيب
(1/31)
وَاحِد وَحكى الطَّبَرِيّ ذَلِك عَن ابْن
فورك وَالَّذِي عندنَا انه كَانَ يَقُول بتصويب الْمُجْتَهدين
وَنحن الان نرد على الْعَنْبَري اولا ثمَّ نذْكر شبه
الْقَائِلين بَان الْمُصِيب وَاحِد ونتقصى عَن جَمِيعهَا ثمَّ
نذْكر ادلتنا ثمَّ نقرر بعد ذَلِك ثَلَاثَة ابواب احدها فِي
الرَّد على من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده
وَالثَّانِي فِي الْقَائِلين بالاشبه وَالثَّالِث فِي القَوْل
بالتخيير مَعَ تصويب الْمُجْتَهدين
مَسْأَلَة فِي الرَّد على الْعَنْبَري
حَيْثُ قَالَ بتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل الاصول
فَنَقُول لَا يَخْلُو من اُحْدُ امرين فِي الْمُخْتَلِفين فِي
نفي الصِّفَات واثباتها وَالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن وَقدمه
وَغَيرهمَا من مسَائِل الاصول
اما ان يَقُول كل وَاحِد من المذهبين حق وَهُوَ علم ثَابت
مُتَعَلق بالمعلوم على مَا هُوَ بِهِ فان قَالَ ذَلِك فَهُوَ
خُرُوج مِنْهُ الى
(1/32)
السفسطة وَترك الضروريات وَجحد الْبِدَايَة
فانا نعلم بضرورة الْعقل اسْتِحَالَة كَون الشَّيْء قَدِيما
حَادِثا ثَابتا منفيا جَائِزا مستحيلا فَبَطل الْمصير الى
هَذَا الْقسم وَتبين ان اُحْدُ الْمُجْتَهدين هُوَ الْعَالم
بِحَقِيقَة مَا فِيهِ الْكَلَام وَالثَّانِي جَاهِل
فان زعم ان كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الاصول بِمَعْنى انه لم
يُكَلف الا الِاجْتِهَاد فاما العثور على الْحق فَلم يتَعَلَّق
بِهِ تَكْلِيف لصعوبة مدركه وَاخْتِلَاف الاراء وغموض طرق
الادلة فان سلك هَذَا المسلك فِي القَوْل بالتصويب وَقَالَ
مَعَ ذَلِك بطرد مذْهبه فِي الْكفْر فقد انْسَلَّ من الدّين
حِين عذر الْكفَّار فِي الاصرار على الْكفْر
فان قَالَ ذَلِك فِي الَّذين تجمعهم الْملَّة كَانَ الْكَلَام
عَلَيْهِ من وَجْهَيْن
احدهما ان نقُول مَا الَّذِي حجزك عَن القَوْل بَان الْمُصِيب
وَاحِد فان تمسك بغموض الادلة قيل لَهُ فَالْكَلَام فِي
النبوات والاحاطة بِصِفَات المعجزات وتمييزها عَن المخاريق
والكرامات اغمض عِنْد العارفين باصول
(1/33)
الديانَات من الْكَلَام فِي الْقدر وَغَيره
مِمَّا اخْتلف فِيهِ اهل الْملَّة فَهَلا عذرت الْكَفَرَة
بِمَا ذكرت وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُ عَنهُ
وَالْوَجْه الاخر من الْكَلَام ان نقُول مِمَّا خَاضَ فِيهِ
اهل الْملَّة القَوْل بالتشبيه تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا
كَبِيرا وَالْقَوْل بِخلق الْقرَان الى غير ذَلِك مِمَّا يعظم
خطره وَقد اجْمَعْ الْمُسلمُونَ قبل الْعَنْبَري على انه يجب
على الْمُسلم ادراك بطلَان القَوْل بالتشبيه وَلَا يسوغ
الاضراب عَن معرفَة هَذَا وامثاله من اصول الْحَقَائِق وَمَا
قَالَ اُحْدُ مِمَّن مضى وَبَقِي انه لَا تجب معرفَة العقائد
على الْحَقِيقَة بل قَالُوا قاطبة ان معرفَة العقائد وَاجِبَة
على كل مُكَلّف وَهَذَا مَا لَا سَبِيل الى رده فَبَطل مَا
قَالَه من كل وَجه وَقد ذكرنَا فِي خلال الْكَلَام مَا
عَلَيْهِ معول الرجل
مَسْأَلَة فِي تصويب الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع
وَقد قدمنَا ذكر الْمذَاهب وَهَا نَحن الان نذْكر شبه
الْقَائِلين بَان الْمُصِيب وَاحِد فمما سبق الى التَّمَسُّك
بِهِ الْفُقَهَاء الَّذين لَا يحصلون حقائق
(1/34)
الاصول ان قَالُوا اذا اخْتلفت الْعلمَاء
فِي تَحْلِيل وَتَحْرِيم فَلَو قُلْنَا ان كل وَاحِد مِنْهُمَا
مُصِيب كَانَ ذَلِك محالا من القَوْل وجمعا بَين متنافيين فان
الشَّيْء الْوَاحِد يَسْتَحِيل كَونه حَلَالا حَرَامًا واطنبوا
فِيهِ وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ يُؤَدِّي الى مقصودهم
وَالَّذِي يُقَال لَهُم اول مَا فتحتم بِهِ كلامكم غلط فان
الْعين الْوَاحِدَة لَا تحل وَلَا تحرم اذ التَّحْلِيل
وَالتَّحْرِيم لَا يتعلقان بالاعيان وانما يتعلقان بافعال
الْمُكَلّفين فالمحرم فعل الْمُكَلف فِي الْعين والمحلل فعله
فِيهِ فهما اذا شَيْئَانِ حرم احدهما وَحل الثَّانِي فَهَذَا
وَجه مفاتحتهم بالْكلَام على انا نقُول لَو تتبعناكم وانما
المتنافي ان يحرم الشَّيْء وَيحل على الشَّخْص الْوَاحِد فِي
الْحَالة الْوَاحِدَة وَلَيْسَ هَذَا سَبِيل الْمُجْتَهدين فان
كل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ وتنزلت الْعين الدائرة فِي
النَّفْي والاثبات بَينهمَا مَعَ اخْتِلَاف اجتهاديهما منزلَة
الْعين الْمَمْلُوكَة بَين مَالِكهَا وَغير مَالِكهَا وَهِي
محللة عَلَيْهِ مُحرمَة على غَيره وَكَذَلِكَ الْميتَة بَين
الْمُضْطَر وَالْمُخْتَار فَهَذَا اكثر من ان يُحْصى فَبَطل
ادِّعَاء التَّنَاقُض
(1/35)
وَرُبمَا يفْرض من قَالَ ان الْمُصِيب
وَاحِد صورا فِي غير دَعْوَى التَّنَاقُض وَنحن نذْكر مَا يَقع
بِهِ الِاسْتِقْلَال حَتَّى يسْتَدلّ بطرق الْجَواب فِيهَا على
امثالها
وَمِمَّا تمسكوا بِهِ أَن قالو اذا قَالَ للْمَرْأَة زَوجهَا
فِي حَال الْغَضَب وسالته الطَّلَاق انت بَائِن وَالزَّوْج
شَافِعِيّ يعْتَقد ان الطَّلَاق لَا يَقع بذلك وَالْمَرْأَة
حنفية تعتقد وُقُوع الطَّلَاق قَالُوا فاذا زعمتم ان كل وَاحِد
مِنْهُمَا مُصِيب وَلَعَلَّهُمَا كَانَا مجتهدين فالجمع بَين
القَوْل بتصويبها وتصويبه يَقْتَضِي الْجمع بَين التسليط على
الِاسْتِمْتَاع وَالْمَنْع مِنْهُ فان الرجل مسلط على قَضِيَّة
اعْتِقَاده على الِاسْتِمْتَاع وَمن مُوجب اعْتِقَاده انه لَا
يجوز لَهَا ان تَمنعهُ استمتاعا مُبَاحا مِنْهَا لَهُ وَمن
مُوجب اعتقادها التَّحْرِيم وَوُجُوب الِامْتِنَاع وَهَذَا
متناقض جدا
فاول مَا نفاتحهم بِهِ ان نقُول فانتم معاشر الْقَائِلين بَان
الْمُصِيب وَاحِد لَا سَبِيل لكم الى ان تنزلوا الْمَرْأَة على
قَوْله أَو تنزلوا الرجل على قَوْلهَا فانكم لَا تعرفُون فِي
الظَّاهِر الْمُصِيب مِنْهُمَا فَمَا وَجه جوابكم
(1/36)
اذا عنت هَذِه الْحَادِثَة فَكل مَا
قدرتموه جَوَابا ظَاهرا فِي حَقّهمَا فَهُوَ حكم الله تَعَالَى
عندنَا ظَاهرا وَبَاطنا وان زَعَمُوا ان الامر بَينهمَا يُوقف
الى ان يرفعا الى حَاكم فَيَقْضِي عَلَيْهِمَا بِمُوجب
اعْتِقَاده قُلْنَا فالوقت قبل الرّفْع حكم الله تَعَالَى
عَلَيْهِمَا قطعا واذا رفعا اليه فَمَا حكم بِهِ القَاضِي
فَهُوَ حكم الله تَعَالَى قطعا
وان زَعَمُوا ان الْمَرْأَة مأمورة بالامتناع جهدها وَالرجل
مُبَاح لَهُ طلب الِاسْتِمْتَاع وان ادى ذَلِك الى قهرها وَلم
يعدوا ذَلِك متناقضا فِي ظَاهر الْجَواب فَهُوَ الحكم عِنْد
الله تَعَالَى وَعِنْدنَا ظَاهرا وَبَاطنا
وَالْجُمْلَة الكافية فِي ذَلِك جدالا وتحقيقا مَا قدمْنَاهُ
من ان كل مَا يقدره الْقَائِلُونَ بَان الْمُصِيب وَاحِد فِي
امثال هَذِه الْمسَائِل ويزعمون انه كَلَام مِنْهُم فِي
الظَّاهِر فَهُوَ الحكم عندنَا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن
وَمِمَّا يتمسكون بِهِ من الصُّور ان الْمَرْأَة اذا نكحت
بِغَيْر ولي اولا ثمَّ زَوجهَا وَليهَا ثَانِيًا وَالَّذِي زوج
بهَا ثَانِيًا شَافِعِيّ الْمَذْهَب يعْتَقد بطلَان نِكَاح
الاول وَالَّذِي تزوج بهَا اولا حَنَفِيّ يعْتَقد صِحَة
النِّكَاح الاول وَبطلَان
(1/37)
الثَّانِي وَالْمَرْأَة مترددة بَين
دعوتيهما وهما مجتهدان مثلا فَمَا وَجه تصويبهما وَفِيه
الافضاء الى تحليلها لَهما وتحريمها عَلَيْهِمَا اَوْ جمع
الْحل وَالتَّحْرِيم فِي حق كل وَاحِد مِنْهُمَا
قُلْنَا فَلَو حدثت هَذِه الْمَسْأَلَة وسئلتم عَنْهَا فبمذا
كُنْتُم تفضلون الحكم فِيهَا ظَاهرا وكل مَا اجبتم بِهِ فِي
ظَاهر الامر وَلم تعتدوه تناقضا فَهُوَ حكم الله تَعَالَى
عندنَا وان اجتزيت بِهَذَا الْقدر كَفاك وان اردت التَّفْصِيل
فِي الْجَواب قلت
من الْقَائِلين بَان الْمُصِيب وَاحِد من صَار فِي هَذِه
الصُّورَة الى الْوَقْف حَتَّى يرفع الامر الى القَاضِي كَمَا
قدمْنَاهُ فِي الصُّورَة الْمَعْلُومَة الاولى فعلى هَذَا
القَوْل حكم الله تَعَالَى فيهمَا الْوَقْف ظَاهرا وَبَاطنا
حَتَّى يرفع امرهما الى القَاضِي فينزلهما على اعْتِقَاد نَفسه
فَحكم الله تَعَالَى حِينَئِذٍ عَلَيْهِمَا ذَلِك
وَمِنْهُم من قَالَ تسلم الْمَرْأَة الى الزَّوْج الاول فانه
نَكَحَهَا نِكَاحا يعْتَقد صِحَّته وَهُوَ السَّابِق بِهِ
فَلَا يبعد ان يَقُول ان هَذَا هُوَ الحكم
(1/38)
وَاعْلَم ان هَذِه الْمَسْأَلَة وامثالها
من المجتهدات وفيهَا تقَابل الِاحْتِمَالَات فيجتهد
الْمُجْتَهد فِيهَا عندنَا فَمَا ادى اليه اجْتِهَاده فَهُوَ
حق من وقف اَوْ تَقْدِيم اَوْ تَأْخِير أَو غَيرهمَا من وُجُوه
الْجَواب وَقد اكثروا فِي ايراد الصُّور وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ
المغنى ان شَاءَ الله تَعَالَى
وَالَّذِي عول عَلَيْهِ الاستاذ ابو اسحق فِي الْمَسْأَلَة لما
رأى أَن ادِّعَاء التَّنَاقُض فِي الاحكام لَا وَجه لَهُ
الْتزم التَّنَاقُض فِي الادلة فَقَالَ لَا تثبت الاحكام فِي
آحَاد الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة الا بالادلة كَمَا لَا يثبت
اصل الشَّرِيعَة المتلقاة من تَبْلِيغ الرَّسُول عَلَيْهِ
السَّلَام الا بالمعجزة الدَّالَّة على صدقه وَقد اتّفق
الْعلمَاء قاطبة على ان الاحكام فِي جَوَاز الِاجْتِهَاد تستند
الى ادلة وامارات فاذا ثَبت هَذَا الاصل فَالَّذِي اداه
اجْتِهَاده الى الْحل متمسك بامارة اَوْ دلَالَة تعم فِي
قضيتها وَلَا تخص هَذَا الْمُجْتَهد بِعَيْنِه وَكَذَلِكَ من
قَالَ بِالتَّحْرِيمِ معتصم بطريقة عَامَّة فِي قضيتها اذ
لَيْسَ فِي قَضِيَّة دلَالَة من ادلة الشَّرِيعَة اخْتِصَاص
لبَعض الْمُجْتَهدين فَالْقَوْل بتصويبهما فِي الْحل
وَالتَّحْرِيم مَعَ مَا مهدناه من انهما لَا يثبتان الا
بدلالتين اَوْ امارتين ذهَاب
(1/39)
الى تَحْقِيق الامارتين العامتين وتصحيحهما
وهما متناقضتان وان لم يتناقض الْحل وَالتَّحْرِيم فِي حق
رجلَيْنِ
وَقد انْفَصل بعض من لَا يتَحَقَّق مَقْصُود هَذِه
الْمَسْأَلَة عَن هَذِه الدّلَالَة بِأَن قَالَ انما
يَسْتَقِيم هَذَا اذ لَو قُلْنَا ان مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي
صور الاجتهادات ادلة فاما وَقد قدمنَا بانهما لَيست بادلة لَا
يلْزم فِيهَا التَّنَاقُض
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء فان التَّنَاقُض فِي الامارات المنصوبة
على الاحكام كالتناقض فِي الدَّلَائِل الدَّالَّة على
مدلولاتها بانفسها من غير بعد نصب فِيهَا وَهَذَا بَين لَا
خَفَاء بِهِ
وَطَرِيق الْجَواب عَن ذَلِك مَا ذكره القَاضِي فِي علل
الاحكام وَذَلِكَ انه قَالَ اذا اخْتلف المجتهدان فِي تَعْلِيل
الْبر فِي حكم الرِّبَا وَألْحق احدهما بِهِ فرعا ونفاه
الثَّانِي ومرجعهما فِي الِاجْتِهَاد الى وصف الْبر فَلَيْسَ
فِي وصف الْبر دلالتان بأنفسهما على النَّفْي والاثبات ولسنا
نقُول ايضا ان صَاحب الشَّرِيعَة نصب فِي الْبر عَلامَة
مَعْلُومَة عِنْده وكلفنا العثور عَلَيْهَا اَوْ نصب فِيهِ
امارتين حَتَّى نقدر الامارتين المنصوبتين متناقضتين اَوْ
(1/40)
متماثلتين اذ لَو قُلْنَا بذلك كُنَّا
قائلين بِطَلَب شَيْء والعثور عَلَيْهِ سوى الْعَمَل وَهَذَا
قَول ثَان الْحق هُوَ طلب علم اَوْ هُوَ طلب الاشبه وَنحن نبطل
الطريقتين جَمِيعًا فَيخرج من ذَلِك انا لَا نقدر دلالتين
وَلَا امارتين منصوبتين على الْوَجْه الَّذِي فَرْضه
الْمُسْتَدلّ علينا وَلَكنَّا نقُول امارة الحكم فِي حق كل
وَاحِد مِنْهُمَا غَلَبَة ظَنّه وَكَأن الرب تَعَالَى جعل
غَلَبَة ظن كل مُجْتَهد علما على الحكم بِمُوجب ظَنّه وَهَذَا
مَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ تنَاقض فَتبين ذَلِك واعلمه فَأَنَّهُ
سر الْمَسْأَلَة وَلَا يُحِيط بِهِ الا من تَأَكد غوصه فِيهَا
وَلَا يَنْتَفِي بعْدهَا علينا مؤونة الا بِشَيْء وَاحِد
وَهُوَ انهم ان قَالُوا اذا زعمتم ان الَّذِي يتَمَسَّك بِهِ
الْمُجْتَهد لَا يقدر امارة مَنْصُوبَة شرعا فَمَاذَا يطْلب
الْمُجْتَهد وَلَيْسَ عِنْده فِيمَا يطْلب عِلّة مَنْصُوبَة
عِنْد الله تَعَالَى قبل طلبه وَلَا يتَحَقَّق طلب من غير
مَطْلُوب وَهَذَا اصعب سُؤال لَهُم وَلَو قَامَت للقائل بَان
الْمُصِيب وَاحِد حجَّة لكَانَتْ هَذِه وَلَا تحسبن ذَلِك
تشككا فَنحْن من القاطعين بَان كل مُجْتَهد مُصِيب وسنتقصى عَن
هَذَا السُّؤَال عِنْد ذكرنَا الاشبه ان شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِمَّا استدلوا بِهِ فِي الْمَسْأَلَة ان قَالُوا اذا
قُلْتُمْ ان كل مُجْتَهد مُصِيب
(1/41)
فَبِمَ تنكرون على من يزْعم ان الْقَائِل
بِأَن الْمُصِيب وَاحِد مُصِيب ايضا وَهَذَا مَا لَا طائل
وَرَاءه فانا انما نقُول بتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل
الِاجْتِهَاد وَهَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي نَحن فِيهَا من
مسَائِل الْقطع وَهِي ملتحقة بالقطعيات الَّتِي الْمُصِيب
فِيهَا وَاحِد مُتَعَيّن
وَمِمَّا تمسكوا بِهِ ايضا ان قَالُوا اذا كَانَ كل مُجْتَهد
مصيبا فَمَا فَائِدَة التناظر وَالْحجاج وَمَا زَالَ الْعلمَاء
من عصر الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام الى عصرنا يتحاجون
وَيطْلب كل وَاحِد مِنْهُم من المتناظرين دُعَاء خَصمه الى مَا
ينصره من الْمَذْهَب فَلَو كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا مَأْمُورا
بملازمة اجْتِهَاده وَهُوَ الْحق عِنْد الله تَعَالَى لما
كَانَ فِي طرق الْحجَّاج وَالنَّظَر فَائِدَة وَفِي اجماع
الْعلمَاء على التناظر دَلِيل على فَسَاد هَذَا الاصل واوضحوا
ذَلِك بَان قَالُوا كَمَا وجدناهم يتحاجون فِي اصول الديانَات
فَكَذَلِك سبيلهم فِي الشرعيات ثمَّ كَانَ نظرهم فِي العقليات
لطلب الْعلم بالمنظور فِيهِ فَكَذَلِك النّظر فِي الشرعيات
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل من أوجه مِنْهَا
(1/42)
أَن نقُول انتم وان زعمتم ان الْمُصِيب
وَاحِد قيل لكم اذا اجْتهد الْمُجْتَهد فاداه اجتهداه الى
التَّحْرِيم فَهَل لَهُ فِي ظَاهر الحكم الاخذ بالتحليل
فَيَقُولُونَ فِي جَوَاب ذَلِك انه لَيْسَ لَهُ مُخَالفَة
اجْتِهَاده فِي ظَاهر الامر والتناظر على زعمكم يتَضَمَّن خلاف
ذَلِك فقد لزمكم مَا ألزمتمونا
وَالْوَجْه الاخر فِي الْجَواب ان نقُول مَا تلزمونه من
التناظر ثَابت اجماعا وَمَا ادعيتموه من عرض المتناظرين
فَأنْتم منازعون فِيهِ ولسنا نسلم ان الْعلمَاء انما يناظرون
ليَدع كل وَاحِد مِنْهُم خَصمه الى مذْهبه فَتَبَيَّنُوا ذَلِك
فَفِيهِ اشْتَدَّ النزاع وَلَا سَبِيل لَهُم الى اثباته
فان تمسكوا بعادات بعض اهل الْعَصْر قوبلوا بعادات الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ فانهم مَا تنَاظرُوا ليَدع كل وَاحِد صَاحبه
الى مذْهبه وانما
(1/43)
تنَاظرُوا لوجوه مِنْهَا التَّوَصُّل الى
التذاكر فِي طرق الِاجْتِهَاد فان التذاكر والتناظر من اقوى
الامور المرشدة الى ذَلِك وَمن فَوَائِد النّظر ايضا العثور
على مَا يقطع بِهِ والبحث عَن النُّصُوص وَعَن مَا يحل محلهَا
وابداء فَوَائِد النّظر تبرع منا وَلَيْسَ علينا الا ممانعتهم
عَمَّا ادعوهُ من الْعرض
وَلِلْقَوْمِ طرق فِي الِاسْتِدْلَال تتَعَلَّق بالسمعيات
مِنْهَا
انهم تمسكوا بقوله تَعَالَى فِي قصَّة دَاوُد وَسليمَان
عَلَيْهِمَا السَّلَام {ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا
حكما وعلما} قَالُوا فَدلَّ الظَّاهِر على انهما اجتهدا صلوَات
الله عَلَيْهِمَا ووفق سُلَيْمَان للعثور على الْحق وَهُوَ
الْمَعْنى بقوله تَعَالَى {ففهمناها سُلَيْمَان} وأكدوا
الِاسْتِدْلَال بِأَن قَالُوا كَانَت الْوَاقِعَة من مسَائِل
الْفُرُوع فانها كَانَت فِي زرع نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم
فافسدته
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من اوجه
احدها ان نقُول من انكر اجْتِهَاد الانبياء لم يساعدكم على ان
الْمَسْأَلَة كَانَت اجتهادية وَكَذَلِكَ من نفي الزلل عَن
الْأَنْبِيَاء فينكر ذَلِك أَشد الانكار ثمَّ لَيْسَ فِي
الظَّاهِر من الاية دَلِيل على خطأ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام
بل فِي ظَاهرهَا مَا يدل على اصابته فانه تَعَالَى قَالَ {وكلا
آتَيْنَا حكما وعلما}
(1/44)
فَسقط استدلالهم جملَة واكثر مَا تنبىء
عَنهُ الاية كَونهمَا مصيبين وَكَون مَا حكم بِهِ سُلَيْمَان
اولى واحسن
فان طالبونا بعد ذَلِك بِتَأْوِيل الاية لم تلزمنا اجابتهم
بَعْدَمَا بَينا انه لَا اعتصام لَهُم فِي الاية ثمَّ ان
تبرعنا بالتأويل فَالْوَجْه فِيهِ انهما صلوَات الله
عَلَيْهِمَا اجتهدا وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا على حكم وَعلم
وَثَبت الحكمان بِمُوجب اجتهادهما عَلَيْهِمَا السَّلَام ثمَّ
نسخ حكم دَاوُد بعد ثُبُوته وَنزل النَّص بتقرير حكم
سُلَيْمَان فَهَذَا وَجه التَّأْوِيل
وَمِمَّا استدلوا بِهِ ايضا وحسبوه من عمدتهم مَا رُوِيَ عَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام انه قَالَ اذا اجْتهد الْحَاكِم
فاصاب فَلهُ اجران وان اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ اجْرِ وَاحِد
// أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهم
(1/45)
قَالُوا فَثَبت ان رَسُول الله عَلَيْهِ
السَّلَام خطأ الْمُجْتَهد وَلَا يتَصَوَّر مَعَ القَوْل
بتصويب الْمُجْتَهدين ثُبُوت خطأ الْمُجْتَهد
قُلْنَا هَذَا من اخبار الاحاد وَالْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة ثمَّ
نقُول لَهُم الْخَبَر مَحْمُول على مَا اذا اجْتهد وَأَخْطَأ
النَّص بعد بذل كَبِير مجهوده
فان قَالُوا وَالَّذِي بذل مجهوده فِي طلب النَّص فَلم يعثر
عَلَيْهِ فَحكم الله عَلَيْهِ عنْدكُمْ مُوجب اجْتِهَاده فَمَا
معنى الْخَطَأ
قُلْنَا لَيْسَ الْمَعْنى بالْخَطَأ انه أَخطَأ مَا كلف
وَلَكِن الْمَعْنى بِهِ انه أَخطَأ النَّص فَلم يصبهُ ثمَّ
نقُول ظَاهر الْخَبَر يدل عَلَيْكُم فانه عَلَيْهِ السَّلَام
(1/46)
اثْبتْ الاجر فِي حق كل وَاحِد من
الْمُجْتَهدين فَالَّذِي أَخطَأ مَا كلف فحط الْوزر عَنهُ اجدر
مِنْهُ بالاجر فَترك التَّعَرُّض لحط الْوزر والافصاح باثبات
الاجر من أبين الادلة على انْتِفَاء الْخَطَأ الَّذِي فِيهِ
تنازعنا فَبَطل مَا قَالُوهُ
فَهَذِهِ جمل عمدهم وَهِي ترشدك الى امثالها
أَدِلَّة من قَالَ بتصويب الْمُجْتَهدين
وَأما أَدِلَّة الْقَائِل بتصويب الْمُجْتَهدين فقد ذكر
القَاضِي طرقا فِي الدَّلِيل وَقد تأملتها فَرَأَيْت بَعْضهَا
يفْتَقر فِي الثُّبُوت الى بعض وَكلهَا فِي التَّحْقِيق اركان
دلَالَة وَاحِدَة فَرَأَيْت ان اركب مِنْهَا دلَالَة واستقصي
فِيهَا وُجُوه الْكَلَام على السَّبِيل الَّتِي اشبعها
القَاضِي فَنَقُول لمخالفينا
الْحق الَّذِي ادعيتم اتحاده عِنْد الله تَعَالَى لَا يخلون
اما ان تزعموا انا
(1/47)
كلفنا العثور عَلَيْهِ واما ان تزعموا انه
لم يتَعَلَّق بِهِ حكم تَكْلِيف فان زعمتم انا لم نكلف العثور
عَلَيْهِ فوجوده وَعَدَمه فِي حق الْمُكَلف بِمَثَابَة
وَاحِدَة اذ لَيْسَ هُوَ حَقًا عَلَيْهِ وَهَذَا الْقسم مِمَّا
لَا يَقُول الْخصم بِهِ فَلَا فَائِدَة فِي طلب الاطناب فِيهِ
فان زَعَمُوا ان الَّذِي هُوَ حق عِنْد الله تَعَالَى قد كلفنا
العثور عَلَيْهِ وَالْعَمَل بِمُوجبِه وَهُوَ مَذْهَب الْقَوْم
فَهَذَا بَاطِل لاصلين نمهدهما
احدهما اجماع الْمُسلمين قاطبة على ان كل مُجْتَهد مَأْمُور
بِالْعَمَلِ على قَضِيَّة اجْتِهَاده فان غلب على ظن اُحْدُ
الْمُجْتَهدين فِي وَاقعَة الْحل وَغلب على ظن الاخر
التَّحْرِيم فَلَا يسوغ للْمحرمِ الاخذ بِغَيْر مُوجب
اجْتِهَاده وَلَو حاد عَنهُ عصى وانتسب الى الماثم فاذا تقرر
باطلاق الْأمة كَون كل مُجْتَهد مؤاخذ بِالْعَمَلِ بقضية
اجْتِهَاده فَلَا يخلون اما ان يكون مَا عمل بِهِ حَقًا عِنْد
الله تَعَالَى واما ان لَا يكون كَذَلِك فان كَانَ حَقًا عِنْد
الله تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي يلتمسه وَيجب على هَذَا الاصل
كَون كل مُجْتَهد من الْمُجْتَهدين مصيبا
(1/48)
وان زَعَمُوا انه يجب عَلَيْهِ الْعَمَل
ظَاهرا وَيجوز ان يكون مَنْهِيّا عَنهُ عِنْد الله تَعَالَى
فَهَذَا بَاب من الْجَهَالَة لَا يرضى الْمُحَقِّقُونَ سلوكه
فان الامة اجمعت على ان كل مُجْتَهد مَأْمُور بِالْعَمَلِ
بقضية اجْتِهَاده حَتَّى لَو مَال عَن ذَلِك انتسب الى المأثم
وان تغير اجْتِهَاده فِي الثَّانِي فَكيف تجمع الامة على وجوب
مَا يجوز كَونه مَنْهِيّا عَنهُ وَهل هُوَ الا التَّنَاقُض
الَّذِي ادعوهُ علينا فِي صدر شبههم فَهَذَا تمهيد اُحْدُ
الاصلين
وَأما الاصل الثَّانِي فَهُوَ ان نقُول اذا قدرتم وُرُود
الْعَمَل بِمُوجب الِاجْتِهَاد حكما هُوَ الْحق فَلَا يخلون
اما ان تزعموا انه مِمَّا يعلم والى الْعلم بِهِ سَبِيل وَهُوَ
نصب عَلَيْهِ دَلِيل واما ان تَقولُوا هُوَ مِمَّا امرنا
بِالْعلمِ بِهِ وَلَا دَلِيل يُؤَدِّي اليه واما ان تَقولُوا
مَا كلفنا الْعلم بِهِ اصلا
فان زعمتم انا كلفنا الْعلم بِهِ واليه صَار مُعظم
الْمُخَالفين وَزَعَمُوا ان عَلَيْهِ ادلة مَنْصُوبَة لَو تمسك
بهَا النَّاظر لافضت بِهِ اليه فَهَذَا بَاطِل من اوجه
اقربها ان الادلة فِي المجتهدات الْحكمِيَّة مضبوطة الاوصاف
وَلَيْسَت تَقْتَضِي علما لذواتها بِخِلَاف ادلة الْعُقُول
فانها لَو اقْتَضَت علما لذواتها
(1/49)
لاقتضته من غير نصب وَقد استقصينا القَوْل
فِي ذَلِك فِي احكام الْقيَاس فاذا بَطل تنزلها منزلَة الادلة
الْعَقْلِيَّة فِي اقتضائها الْعلم لذواتها دلّ على انها انما
نصبت امارات شرعا ثمَّ نعلم انها فِي قَضِيَّة الشَّرْع لَيست
مِمَّا يقطع بهَا اذ مِنْهَا خبر الْوَاحِد وَلَا يسوغ الْقطع
بنقله وَمِنْهَا طرق الاقيسة وَلَا يسوغ ايضا الْقطع باصابة
المستنبط لَهَا على مَنْهَج اصل مخالفينا فانا يَسْتَقِيم
كَونهَا مفضية الى الْعلم مَعَ التشكك والاسترابة فِي اصولها
وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ فَبَطل من هَذَا الْوَجْه مَا
ادعوهُ من انا كلفنا الْعلم بِالْحَقِّ وَنصب عَلَيْهِ
الدَّلِيل المفضي اليه
وَمِمَّا يبطل ادِّعَاء الْعلم مَا ذكره القَاضِي من ان
الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من التَّابِعين مَا زَالُوا
يَتَكَلَّمُونَ فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد وكل مِنْهُم يزْعم ان
كل مُجْتَهد مُتبع لاجتهاده وَلَا يسوغ لَهُ الاضراب عَنهُ
وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُم لَا يقطع بِأَن الَّذِي تمسك بِهِ
هُوَ الْحق وَالْكل مدعوون اليه فان لم يصل اليه فقد أَخطَأ
الْحق وَأكْثر مَا كَانَ يَدعِيهِ الْمُجْتَهد مِنْهُم غَلَبَة
الظَّن وترجيح الامارات واما الْقطع فَلم يصر اليه اُحْدُ
مِنْهُم وَكَذَلِكَ كل علم
(1/50)
مَقْطُوع بِهِ فَثَبت بذلك ثبوتا وَاضحا
انْتِفَاء الْعلم فِي المجتهدات اذ لَو كُنَّا كلفنا اصابته
لما ذهب عَنهُ من فرطنا وَلَو ذَهَبُوا عَنهُ كَانُوا متفقين
على خلاف الْحق وَلَا تَجْتَمِع الامة على ضلاله وَالَّذِي
يُحَقّق لَك مَا ذكرنَا ان احدا مَا كَانَ يؤثم اصحابه بالعدول
عَن الْحق فَلَو كَانَ كَانَ الْوُصُول الى الْحق متصورا
وَهُوَ وَاجِب ولكان من مَال عَنهُ وحاد عَن نَصبه تَارِكًا
لواجب يقدر على الْوُصُول اليه فَلَمَّا لم يؤثم بعض
الصَّحَابَة بَعْضًا فِي المجتهدات وَكَذَلِكَ عُلَمَاء عصرنا
لَا يؤثم بَعضهم بَعْضًا فِي المجتهدات على انهم قَالُوا من
حكم الْوَاجِب ان يَعْصِي الْمُكَلف بِتَرْكِهِ وَالَّذِي
يُحَقّق ذَلِك ان النَّاس لما افْتَرَقُوا فِيمَا يَلِيق
بالديانات دعوا للحق طَوْعًا اَوْ كرها اَوْ قهرا وَذَلِكَ
نَحْو مُخَالفَة الْخَوَارِج
(1/51)
وخروجهم على الامام الْحق الى غير ذَلِك
فَهَذَا عقد الدّلَالَة على الَّذين قَالُوا انا كلفنا فِي
المجتهدات الْعلم وَنصب لنا عَلَيْهِ الدَّلِيل
فان قَالُوا انا كلفنا الْعلم وَلم ينصب عَلَيْهِ دَلِيل يُوصل
اليه المتمسك بِهِ فَهَذَا خرق لاجماع الامة وَذَلِكَ انهم
اجْمَعُوا على ان الْمُكَلف انما يُكَلف الْعلم فِيمَا
يتَصَوَّر فِيهِ الِاسْتِدْلَال المفضي الى الْعلم على ان
ارباب التَّحْقِيق قَالُوا فِي احكام النّظر ان الْعلم
يَنْقَسِم الى الضَّرُورِيّ والكسبي فاما الضَّرُورِيّ فَلَا
يفْتَقر فِي حُصُوله الى دَلِيل وَلكنه يحصل من فعل الله
تَعَالَى بدءا غير مَقْدُور للْعَبد وَمَا هَذَا سَبيله لَا
يجوز ان يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ اذ التَّكْلِيف انما
يتَعَلَّق بِمَا يدْخل تَحت الْمَقْدُور فاما الكسبي من
الْعُلُوم فَلَا يسوغ حُصُوله مَقْدُورًا الا ان يكون مدلولا
اذ لَو لم نقل ذَلِك ادى الى بطلَان ارتباط النّظر بِالْعلمِ
وَهَذَا مِمَّا يستقصي فِي غير هَذَا الْفَنّ على انه مجمع
عَلَيْهِ من الْقَوْم فَبَطل بِمَا ذَكرْنَاهُ اجْمَعْ
تَقْدِير علم فِي الْوَاقِعَة سوى الَّذِي يعلم فِي ظَاهر
الامر وَتبين ان الْحق مَا يُؤَدِّي اليه اجْتِهَاد كل
مُجْتَهد
وَقد وَجه المخالفون على اصل وَاحِد مِمَّا ذكرنَا اسئلة
وَالدّلَالَة
(1/52)
تستقل دون ذَلِك الاصل وَذَلِكَ انهم
سألونا اسئلة فِي تمسكنا فِي ان الصَّحَابَة لم يؤثم بَعضهم
بَعْضًا وَنحن نذكرها ونتفصى عَنْهَا ان شَاءَ الله تَعَالَى
على انا لَا نحتاج الى هَذَا الاصل فِي عقد الدّلَالَة
وَفِيمَا عداهُ غنية وَلَكِن لَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ شَيْء من
اسئلة الْخصم
فمما سَأَلُوهُ ان قَالُوا بِمَ تنكرون على من يزْعم ان بَعضهم
كَانَ يؤثم بَعْضًا فَلم ادعيتم الاجماع فِي ذَلِك وَمَا
دليلكم عَلَيْهِ
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن
احدهما ان نعلم قطعا ان ائمة الصَّحَابَة كَانُوا
يَخْتَلِفُونَ فِي الْمسَائِل ثمَّ يعظم بَعضهم بَعْضًا وَلَا
يستجيز اطلاق اللِّسَان فِي اصحابه بل تَنْزِيه عَن كل شين على
انهم كَانُوا لَا يعصون على مَا لَا يجوز الاعصاء عَلَيْهِ
كَيفَ وَقد كَانُوا يوجبون على كل مُجْتَهد ان يُؤْخَذ بِمُوجب
اجْتِهَاده وَهَذَا ثَابت قطعا فِي مذاهبهم ومذاهب اهل عصرنا
فانى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك الحكم بالتأثيم
ثمَّ نقُول ان بعد عَلَيْكُم امْر الصَّحَابَة فاجماع اهل
الْعَصْر يغنيكم فان احدا مِنْهُم لَا يؤثم الْعلمَاء فِي
المجتهدات بل يسوغ لكل مُجْتَهد ان يتبع اجْتِهَاده بعد ان لَا
يألوا جهدا
(1/53)
فان قَالُوا قد اشْتهر عَن اصحاب الرَّسُول
عَلَيْهِ السَّلَام التناكر والتغليظ فِي القَوْل فِي
المجتهدات واشتهر ايضا عَنْهُم الانتساب الى الْخَطَأ ونسبته
فمما رُوِيَ فِي ذَلِك مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله
عَنهُ انه قَالَ فِي تَوْرِيث الْجد مَعَ الاخ الا يَتَّقِي
الله زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل اب
الاب ابا وَقَالَ فِي الْعَوْل من شَاءَ باهلته وَالَّذِي احصى
رمل عالج عددا لم يَجْعَل فِي المَال نصفا وثلثين // أخرجه
الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك
(1/54)
والمباهلة هِيَ الْمُلَاعنَة من قَوْله
نبتهل أَي نلتعن وَرُوِيَ عَن عَليّ بن ابي طَالب رَضِي الله
عَنهُ انه قَالَ فِي قصَّة الْمَرْأَة الَّتِي ارسل اليها عمر
بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ رَسُولا يَنْهَاهَا عَن الْفُجُور
وَكَانَت ترتقي سلما فاجهضت جَنِينهَا لما بلغتهَا الرسَالَة
فاشار بعض الصَّحَابَة على عمر رَضِي الله عَنهُ بأنك مؤدب
فَلَا غرم عَلَيْك فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ عِنْد ذَلِك
ان اجتهدوا فقد اخطأوا وان لم يجتهدوا فقد غشوك ارى عَلَيْك
الدِّيَة وَهَذَا تَصْرِيح من عَليّ رَضِي الله عَنهُ بتخطئتهم
(1/55)
وَبَاعَ زيد بن ارقم عبدا لَهُ بيع
الْعينَة فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الا اخبروا زيد
بن أَرقم انه ابطل جهاده مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ان لم يتب
وَنهى عمر بن الْخطاب عَن المغالاة فِي الْمهْر وَهُوَ يخْطب
فَقَامَتْ اليه امْرَأَة فَقَالَت مَالك تحجر علينا فِي خيرة
الله فَقَالَ عمر صدقت وكل النَّاس افقه من عمر // أخرجه ابْن
عبد الْبر فِي جَامع بَيَان الْعلم وفضله فاعترف على نَفسه
بالْخَطَأ
واشتهر عَن الصَّحَابَة فِي المجتهدات تَسْمِيَة الْخَطَأ على
انفسهم
(1/56)
فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فِي
كثير مِنْهَا ان اصبت فَمن الله وان أَخْطَأت فَمن نَفسِي //
أخرجه البهقي وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي قصَّة بروع بنت واشق
إِن اصبت فَمن الل وان اخطأت فَمن الشَّيْطَان // أخرجه أَبُو
دَاوُد وَهَذَا الْقَبِيل قد اشْتهر عَنْهُم اشتهارابين وَلَا
معنى للخطأ فِي المجتهدات مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين
فَهَذَا مَا تمسكوا بِهِ من الاثار
واول مَا نفاتحهم بِهِ ان نقُول كَيفَ يَسْتَقِيم مِنْكُم حمل
عادات الصَّحَابَة وشيمهم على حلاف مَا اجْمَعْ عَلَيْهِ اهل
الْعَصْر وَقد اجْمَعْ اهل الْعَصْر قاطبة على ان مسَائِل
الِاجْتِهَاد لَا يجْرِي فِيهَا التأثيم وانما
(1/57)
يجْرِي التأثيم فِي ان يُخَالف الرجل مُوجب
اجْتِهَاده وَكَيف يسوغ مَعَ هَذَا الاجماع ان يَقع التاثيم
فِي الصَّحَابَة مَعَ تنزههم عَمَّا يشينهم ويحطهم عَمَّا
فَضلهمْ الله بِهِ فَتعين بعد ذَلِك عَلَيْهِم وعلينا تتبع مَا
ذَكرُوهُ من الاثار بالتأويل وَالَّذِي يُوضح ذَلِك ان مَا
نقلوا فِيهِ تَغْلِيظ القَوْل مُخْتَلف فِيهِ وَقد اتّفق اهل
الْعَصْر على انه لَا يجْرِي فِيهِ التَّغْلِيظ مَعَ كَونه
مُخْتَلفا فِيهِ
وَمِمَّا ذكر فِيهِ التَّغْلِيظ بيع الْعينَة وَقد اتّفق
الْمُسلمُونَ على انه من بَاعَ على الْوَجْه الْمُخْتَلف فِيهِ
لَا يحبط جهاده مَعَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمِمَّا يُؤثر فِيهِ التَّغْلِيظ مسَائِل الْجد اذ رُوِيَ عَن
عَليّ رَضِي الله عَنهُ انه قَالَ من اراد ان يقتحم جراثيم
جَهَنَّم فَلْيَتَكَلَّمْ فِي الْجد بِرَأْيهِ وَهَذَا
مَتْرُوك الظَّاهِر من وَجْهَيْن
احدهما ان التَّكَلُّم فِي الْجد لابد مِنْهُ
(1/58)
وَالثَّانِي ان الْخلاف فِيهِ لَا يحل مَحل
تقحم الجراثيم فقد انْدفع عَنَّا مَا ادعوهُ من التأثيم
احتجاجا اذ قد بَينا افتقار الْخصم الى التَّأْوِيل وازالة
الظَّاهِر ثمَّ الْكَلَام على مَا ذَكرُوهُ من الاثار من اوجه
احدها ان نقُول انها احاد وَلَا تكَاد ان تبلغ مبلغ الْقطع
وَالَّذِي تمسكنا بِهِ من اجماع اهل الْعَصْر فِي ترك التأثيم
واجماع الصَّحَابَة قَطْعِيّ لَا ريب فِيهِ
وَالْوَجْه الثَّانِي من الْكَلَام ان نقُول ان صَحَّ التأثيم
وتغليظ القَوْل فِي بعض هَذِه الصُّور فَذَلِك لَان المغلظ
المؤثم اعْتقد ان الَّذِي جرى الْكَلَام فِيهِ لَيْسَ من
المجتهدات وحسبه من القطعيات وَلذَلِك غلظ القَوْل والامر على
خلاف مَا قدروه فاما الَّذين يتفقون على كَونه مُجْتَهدا
فَيجْمَعُونَ على ترك التأثيم فِيهِ
فان قَالُوا فَكيف حسب ابْن عَبَّاس مَسْأَلَة الْعَوْل
قَطْعِيَّة
قُلْنَا فلسنا نضمن عصمَة ابْن عَبَّاس وَلَا عصمَة من هُوَ
اجل مِنْهُ من اصحابه وغرضنا من مساق هَذَا الْكَلَام ان نصرف
التَّغْلِيظ عَن المجتهدات فتدبره
(1/59)
فاما مَا تمسكوا بِهِ من الاثار المنطوية
على الانتساب الى الْخَطَأ وَالنِّسْبَة اليه فَلَيْسَ يَلِيق
بِمَا اصلناه من كفهم عَن التأثيم وَلَكِن تمسكوا بِهِ بدءا
فَنَقُول لَا معتصم فِيهَا فانها آحَاد وَهِي مَعَ ذَلِك عرضة
للتأويل
واما مَا تعلقوا بِهِ من النَّقْل من قَول بَعضهم إِن أَخْطَأت
فَمن نَفسِي فَمَعْنَاه ان أَخْطَأت نصا لم يبلغنِي وَلَيْسَ
الْمَعْنى بِهِ الْخَطَأ فِيمَا كلف
وَمَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ من الِاعْتِرَاف
بالْخَطَأ فِي المغالات فِي الْمهْر فَهُوَ على وَجهه فان
ظَاهر نَهْيه رَضِي الله عَنهُ فِي خلال الْخطْبَة على مَلأ من
الصَّحَابَة ينبىء عَن الزّجر والردع وَفِيه الافضاءالى
تَحْرِيم الْمُبَاح مَعَ مهابة عمر رَضِي الله عَنهُ فِي
الْقُلُوب فَلَمَّا صدر مِنْهُ النَّهْي الْمُطلق رأى استدراكه
وَالِاعْتِرَاف على نَفسه
وَمَا رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَهُوَ بصدد
التَّأْوِيل ايضا فانه قَالَ ان اجتهدوا فقد اخطأوا مَعْنَاهُ
فقد أخطأوا وَجه الرَّأْي الَّذِي أبديته ورأيته وَلَيْسَ
الْمَعْنى أَنهم أخطأوا مَا كلفوا فَهَذَا وَجه مَا تمسكوا
بِهِ من الاثار وَقد تحررت الدّلَالَة الَّتِي عضدناها
(1/60)
والاولى عندنَا إِذا خضنا فِي
الِاسْتِدْلَال ان نقسم الْكَلَام على قسمَيْنِ فَنَقُول
تصويب الْمُجْتَهدين عنْدك مِمَّا يَسْتَحِيل الْمصير اليه
عقلا اَوْ هُوَ مِمَّا يمْتَنع شرعا فان قَالَ هُوَ مِمَّا
يَسْتَحِيل عقلا فقد ألحق جَائِزا بالمحالات فان الَّذِي صَار
اليه المصوبون لَو قدر وُرُود الشَّرْع بِهِ لم يسْتَحل فان
الرب تَعَالَى لَو قَالَ آيَات أحكامي على الْمُكَلّفين غلبات
ظنهم فَمن غلب على ظَنّه شَيْء فَالْعَمَل بِمُوجبِه حكمي
عَلَيْهِ فَهَذَا لَا يعد من المستحيلات
فان عَادوا وتمسكوا فِي تَحْقِيق الاستحالة بِمَا ادعوهُ من
طرق المناقضات فَالْجَوَاب عَنْهَا هَين على مَا سبق
وان زَعَمُوا ان ذَلِك لَا يَسْتَحِيل عقلا وانما يمْتَنع سمعا
فنقيم عَلَيْهِم الدّلَالَة الَّتِي سبقت حِينَئِذٍ وانما
رَأينَا هَذَا التَّقْسِيم لَان الْمُخَالفين يتسرعون الى
ادِّعَاء اسْتِحَالَة تصويب الْمُجْتَهدين عقلا حَتَّى اذا
سلكوا هَذَا الْمنْهَج هان الْكَلَام عَلَيْهِم وان ردوا الامر
الى الشَّرْع تمسكنا بِالدّلَالَةِ السَّابِقَة نَحْو
الْكَلَام على الْقَائِلين بِأَن الْمُجْتَهد مَأْمُور بالعثور
على الْحق وان الْمُصِيب من الْمُجْتَهدين وَاحِد
وَبَقِي الْكَلَام علينا فِي ثَلَاثَة فُصُول
(1/61)
احدها فِي الرَّد على من قَالَ كل مُجْتَهد
مُصِيب فِي اجْتِهَاده
وَالثَّانِي تَفْصِيل القَوْل فِي الاشبه
وَالثَّالِث القَوْل بالتخيير اذا قُلْنَا بتصويب
الْمُجْتَهدين عِنْد تقَابل الامارات
فصل فِيمَا ذهب بعض اصحاب ابي حنيفَة
الى ان كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده وَأَحَدهمَا مُصِيب
فِي الحكم وَالثَّانِي مخطىء فِيهِ ويؤثر ذَلِك عَن ابي حنيفَة
ويحكى عَن الْمُزنِيّ وَغَيره من اصحاب الشَّافِعِي مثله وَذكر
القَاضِي للشَّافِعِيّ نصوصا دَالَّة على الاخذ فِيهَا بِهَذَا
المأخذ
وَأول مَا نفاتح بِهِ الْقَوْم ان نقُول هَل يُكَلف
الْمُجْتَهد العثور على الْحق الْمَطْلُوب بِالِاجْتِهَادِ
فَلَا يخلون عِنْد ذَلِك اما ان يَقُولُوا لَا يتَعَيَّن على
الْمُجْتَهد الا الِاجْتِهَاد فَأَما العثور على الْحق فَلَا
يُكَلف
(1/62)
فان سلكوا هَذَا المسلك فقد افصحوا بمذهبنا
فانهم صوبوا كل مُجْتَهد فِيمَا كلف على ان عبارتهم بشعة جدا
فانهم اثبتوا حكما لَا يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف وَهَذَا
مَرْدُود بِاتِّفَاق فان الاحكام فِي المجتهدات وَغَيرهَا من
الشرعيات يتَعَلَّق التَّكْلِيف بهَا اجماعا اذ من المستحيل
ثُبُوت تَحْرِيم وَتَحْلِيل وايجاب وَندب من غير ان يتَعَلَّق
بِهِ تَكْلِيف مُكَلّف
فان قَالُوا ان الْمُجْتَهد مامور بِالِاجْتِهَادِ والعثور على
الْحق كَمَا قَالَ الاولون
فَيُقَال لَهُم فَهَل على الْحق دَلِيل
فان قَالُوا اجل قيل لَهُم وَكَيف يكون الْمُجْتَهد مصيبا فِي
إجتهاده وَهُوَ لم يتَمَسَّك بِمَا يُفْضِي بِهِ الى الْحق اما
بَان حاد عَن الدّلَالَة فَلم يتَعَلَّق بهَا اَوْ فرط فَلم
يكمل النّظر فِيهَا فَلَا يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا الاصل القَوْل
بَان الْمُجْتَهد ادى مَا كلف فِي اجْتِهَاده
وان قَالُوا ان بعض مَا اتى بِهِ من الِاجْتِهَاد فقد ادى مَا
كلف فِيهِ وَلَكِن لم يتممه
فَنَقُول فَمَا يُؤمنهُ انه لم يسْلك طَرِيق النّظر فِي
الدّلَالَة وَلم يضع نظره اولا الا فِي شُبْهَة فَمَعَ
تَجْوِيز ذَلِك كَيفَ يطلقون القَوْل بتصويبه فِي الِاجْتِهَاد
على ان الِاجْتِهَاد مِمَّا لَا يَتَبَعَّض فاذا لم يكمل لم
يَصح
(1/63)
شَيْء مِنْهُ فانه يطْلب لغيره ويتنزل
منزلَة الصلاه يُؤَدِّي بَعْضهَا ثمَّ يطْرَأ عَلَيْهَا مَا
يُبْطِلهَا على انا نقُول بعد مَا بَينا تناقضهم نتمسك
عَلَيْهِم بالادلة القاطعة الَّتِي لَا مخلص مِنْهَا
بَان نقُول الْيَسْ كل مُجْتَهد مَأْمُورا بَان يعْمل بِمُوجب
اجْتِهَاده مأثوما بالانكفاف عَنهُ عَاصِيا بِتَرْكِهِ وَهَذَا
حَقِيقَة الْوُجُوب وَلَا مُوجب الا الله فَكيف يتَحَقَّق مَعَ
ذَلِك ان يَأْمُرهُ بِشَيْء ويعصيه بِتَرْكِهِ وَيجوز ان يكون
مَنْهِيّا عَمَّا امْر بِهِ فَهَل هَذَا الا تنَاقض لَا يستريب
فِيهِ ذُو عقل
فان قَالُوا فَالَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بِمَا لَو
اجْتهد وَعمل بِمُوجب اجْتِهَاده ثمَّ تبين لَهُ انه أَخطَأ
نصا فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورا بِمُوجب اجْتِهَاده ثمَّ تبين
لَهُ انه كَانَ مخطئا وَهَذَا مَا يعدونه من اعظم القوادح
فِيمَا تمسكنا بِهِ
فَنَقُول اذا لم يفرط الْمُجْتَهد فِي الطّلب وَشدَّة الْبَحْث
عَن النُّصُوص وَلم يتَمَكَّن من العثور عَلَيْهِ فَحكم الله
تَعَالَى عَلَيْهِ مُوجب اجْتِهَاده قطعا ويتنزل منزلَة من لم
يبلغهُ النَّاسِخ للْحكم فَيكون مُخَاطبا على الاصح بِمُوجب
الْمَنْسُوخ الى ان يبلغهُ النَّاسِخ فاذا صددناهم عَن ذَلِك
ضَاقَ عَلَيْهِم كل مَسْلَك وَاسْتمرّ لنا مَا طردناه من
الدَّلِيل
(1/64)
|