الاجتهاد (من كتاب التلخيص لإمام الحرمين) فصل فِي القَوْل بالاشبه وَذكر اخْتِلَاف
النَّاس فِيهِ
ذهب طَائِفَة من الْعلمَاء الى ان كل مُجْتَهد مُصِيب وَلَا
يُكَلف الا الْعَمَل بِمَا ادى الى اجْتِهَاده وَيكون هُوَ
مَأْمُورا عِنْد وضع الِاجْتِهَاد بِطَلَب الاشبه عِنْد الله
تَعَالَى وَلَكِن يعْمل بقضية اجْتِهَاده وَلم يقل بالاشبه الا
المصوبون واليه مَال عِيسَى بن ابان والكرخي فِي بعض رواياته
وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن ثمَّ اذا روجعوا
فِي الاشبه اخْتلفت اجوبتهم فِي بَيَانه
فَذهب بَعضهم الى الْكَفّ عَن بَيَانه وَهَذَا نِهَايَة الغي
فان مَا ذَكرُوهُ ان كَانَ مَجْهُولا عِنْدهم يَسْتَحِيل
اعْتِقَاده وان كَانَ مَعْلُوما فَبِأَي بَيِّنَة
وَذهب بَعضهم الى ان الاشبه عِنْد الله تَعَالَى اولى طرق
الشّبَه فِي المقاييس والعبر ومثلوا ذَلِك بَان قَالُوا اذا
الْحق القائس الارز بِالْبرِّ بِوَصْف الطّعْم أَو بِوَصْف
الْقُوت اَوْ الْكَيْل فأحد هَذِه الاوصاف اشبه عِنْد الله
تَعَالَى
(1/65)
واقرب فِي التَّمْثِيل والمجتهد يُكَلف
نَفسه بِالِاجْتِهَادِ العثور عَلَيْهِ ثمَّ لَا عَلَيْهِ ان
أخطأه
وَذهب آخَرُونَ فِي تَفْسِير الاشبه الى ان قَالُوا الاشبه
عِنْد الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي لَو ورد النَّص تَقْديرا لما
ورد الا بِهِ
فَنَقُول لَهُم اذا صوبنا الْمُجْتَهدين واوجبنا على كل وَاحِد
يتبع مُوجب اجْتِهَاده وَجَعَلنَا كل وَاحِد على حق عِنْد الله
تَعَالَى فَلَا معنى لتقدير الاشبه مَعَ ذَلِك
على انا نقُول لَهُم هَل يُكَلف الْمُجْتَهد العثور على الاشبه
ام لَا يُكَلف ذَلِك فان لم يُكَلف العثور عَلَيْهِ فَكيف يجب
طلبه مَعَ ان الْمُجْتَهد يعْتَقد انه لَا يُكَلف العثور
عَلَيْهِ
وان قُلْتُمْ انه يجب العثور عَلَيْهِ فاذا لم يعثر عَلَيْهِ
الا وَاحِد من الْمُجْتَهدين وَجب تخطئة البَاقِينَ وَهَذَا
خوض فِي الْمَذْهَب الاول الَّذِي ابطلناه
اذا لَا فصل بَين تَقْدِير الاشبه وَلَا دَلِيل يُوصل اليه على
ان مَا عولوا عَلَيْهِ يهدم الْمصير الى الاشبه فانه
يَسْتَحِيل الْجمع بَين قَول الْقَائِل يجب على كل مُكَلّف ان
يعْمل بِمُوجب اجْتِهَاده ويعصي بِتَرْكِهِ وَيجوز ان يكون
الامثل لَهُ غَيره والاشبه عِنْد الله تَعَالَى ترك مَا يعصيه
بِتَرْكِهِ ثمَّ نقُول مَا ذكرتموه فِي الاشبه لَا معنى لَهُ
فانكم ان عنيتم انه مشابهة الْفَرْع
(1/66)
الاصل فِي اوصاف الذوات فَهَذَا مُسْتَحِيل
فِي طرق اجْتِهَاد الشرعيات فان الشَّيْء يُقَاس على خِلَافه
كَمَا يُقَاس على مثله فَلَا يعول فِي العبر الشَّرْعِيَّة على
تماثل الاوصاف الذاتية عقلا عَن اقْتِضَاء الحكم وَكَونه اولى
بِهِ فَهَذَا محَال وَقد قدمنَا فِي ابطاله مَا فِيهِ كِفَايَة
قُلْنَا ان شَيْئا من هَذِه الاوصاف لَا يدل عقلا على الاحكام
وان عنوا بالاشبه ان الرب تَعَالَى نصب وَصفا من الاوصاف علما
دون غَيره فَكيف تَقولُونَ مَعَ ذَلِك بتصويب الْمُجْتَهدين
وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُ مِنْهُ
ثمَّ نقُول لم يُؤثر عَن الْقَائِلين بالاشبه الا المقالات
الثَّلَاث الَّتِي حكيناها
احدها الْكَفّ عَن التَّفْسِير وَهُوَ يورط فِي الْجَهَالَة
وَالثَّانِي التَّفْسِير باولى وُجُوه الْقيَاس وَهُوَ بَاطِل
فان الاولى لَا يَخْلُو اما ان يكون اولى عقلا وَهُوَ بَاطِل
واما ان يكون اولى بِمَعْنى انه علم على الحكم دون غَيره
فَهُوَ الْحق دون غَيره اذا وَمَا سواهُ خطأ وَلَا معنى للاشبه
سوى مَا قُلْنَاهُ
فان فسروا الاشبه بانه الَّذِي لَو ورد النَّص لم يرد الا بِهِ
فَنَقُول فَقولُوا ان من أخطأه مَعَ انه وَجب عَلَيْهِ طلبه
فَهُوَ مخطىء
(1/67)
فان قَالُوا لَا نجعله مخطئا لانه لم يرد
بِهِ النَّص
قُلْنَا فَلَا تجعلوه الاشبه لانه لم يرد بِهِ النَّص فانه لَا
معنى لكَونه اشبه يرجع الى ذَاته انما يكون اشبه بِنصب صَاحب
الشَّرِيعَة اياه علما على الحكم فاذا لم ينصبه لم يكن لكَونه
اشبه معنى
فاذا اسْتدلَّ الْقَائِلُونَ بالاشبه بنكتة وَاحِدَة على
المصوبين فَقَالُوا لَا بُد للمجتهد من مَطْلُوب وَلَا
يتَصَوَّر طلب من غير مَطْلُوب وَقد منعتم ان يمون الْمَطْلُوب
علما وانكرتم ان يكون الله تَعَالَى حكم معِين فِي الْحَادِثَة
اَوْ امارة مَنْصُوبَة على الحكم يتَعَيَّن العثور عَلَيْهَا
فاذا ابطلتم مَعَ ذَلِك الاشبه فَمَا الَّذِي تطلبونه وَهَذَا
اعظم سُؤال على المصوبين وَرُبمَا يوضحون ذَلِك
بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقبْلَة فَيَقُولُونَ من خفيت عَلَيْهِ
دلَالَة الْقبْلَة فَهُوَ مامور بطلبها ثمَّ انما نكلفه ان
يُصَلِّي الى الْجِهَة الَّتِي ادى اجْتِهَاده اليها وَلَكِن
يتأسس اجْتِهَاده على طلب الْقبْلَة ثمَّ يعْمل بقضيتها
وَلَكِن يُكَلف سوى قَضِيَّة اجْتِهَاده وَكَذَلِكَ قَوْلنَا
فِي الاشبه
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك ان نقُول هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا
يَصح مِنْكُم اولا فان معولكم فِيمَا ذكرتموه على ان الطّلب من
غير مَطْلُوب لَا يتَحَقَّق وَهَذَا ينعكس عَلَيْكُم مَعَ
قَوْلكُم بَان العثور على الْمَطْلُوب لَا يجب فاذا لم توجبوا
العثور على الْمَطْلُوب وَعلم كل مُجْتَهد ذَلِك من نفسسه
فَأَي معنى لوُجُوب الطّلب
(1/68)
ثمَّ نقُول بِمَ تنكرون على من يزْعم ان
الْمَطْلُوب بِالِاجْتِهَادِ غَلَبَة الظَّن فمهما غلب بطرِيق
الِاجْتِهَاد على ظن الْمُجْتَهد ضرب من الحكم فغلبة ظَنّه انه
حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ
فان قَالُوا مُجَرّد غَلَبَة الظَّن لَا ينْتَصب آيَة وفَاقا
حَتَّى تقع غَلَبَة الظَّن عَن اجْتِهَاده وَالِاجْتِهَاد
يَنْبَغِي ان يَنْبَنِي على قصد مَطْلُوب ويستحيل ان يكون
مَطْلُوب الْمُجْتَهد غَلَبَة الظَّن بل يطْلب شَيْئا ويغلب
على ظَنّه انه اصابه فَيكون ذَلِك غَلَبَة ظن صادرة عَن
اجْتِهَاده الْمُتَعَلّق بمطلوبه وانتم اذا لم تثبتوا
مَطْلُوبا اصلا فَلَا يَتَقَرَّر اجْتِهَاد
قُلْنَا سَبِيل التَّوَصُّل الى غَلَبَة الظَّن مَا نذكرهُ
الان وَهُوَ أَن المرأ الْمُجْتَهد يعلم ان الصَّحَابَة رضوَان
الله عَلَيْهِم تمسكوا بِاعْتِبَار الْعِلَل وَغَلَبَة الاشباه
وحكموا بِمَا يخْطر لَهُم من قضاياها فيسلك الْمُجْتَهد مسلكهم
مَعَ انه يعْتَقد عدم تعْيين حكم مُحَقّق اَوْ مُقَدّر فمهما
قدر نَفسه سالكا مسلكهم فِي الْحَادِثَة الْوَاقِعَة فيغلب على
ظَنّه عِنْد ذَلِك مُوجب اجْتِهَاده فقد وضح
(1/69)
وَجه التَّوَصُّل الى غَلَبَة الظَّن من
غير تَقْدِير الاشبه كَمَا صرتم اليه وَمن غير تَقْدِير الْحق
الْكَائِن كَمَا صَار اليه الاولون
فصل فِي تقَابل وَجْهَيْن من الِاجْتِهَاد فِي ظن الْمُجْتَهد
فان قَالَ الْقَائِل اذا اجْتهد الْمُجْتَهد فتقابل فِي ظَنّه
وَجْهَان من الِاجْتِهَاد وَلم يتَرَجَّح احدهما على الاخر
وهما متعلقان بحكمين متنافيين فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه
الصُّورَة
قُلْنَا اما من زعم ان الْمُصِيب وَاحِد فقد اخْتلفت اقوالهم
فِي هَذِه الصُّورَة فَذهب بَعضهم الى انه يُقَلّد عَالما
غَيره قطع بِأحد وَجْهي اجْتِهَاده
وَذهب احزون الى انه لَا يُقَلّد عَالما وَلَا ياخذ
بِاجْتِهَاد نَفسه وَلَكِن يتَوَقَّف ويصمم على طرق
التَّرْجِيح
وان تضيق الامر فقد اخْتلف مانعوا التَّقْلِيد عِنْد ذَلِك
فَذهب ذاهبون الى جَوَاز التَّقْلِيد عِنْد ذَلِك فِي هَذِه
الْحَالة وان منعوها فِي غَيرهَا من الاحوال وَذهب اخرون الى
انه لَا يُقَلّد وَلَكِن يعْمل باحدهما وسنستقصي القَوْل فِي
ذَلِك فِي كتاب التَّقْلِيد ان شَاءَ الله عز وَجل
واما المصوبون فقد خير بَعضهم وَمنع بَعضهم القَوْل بالتخيير
وَصَارَ
(1/70)
إِلَى التَّوَقُّف اَوْ التَّقْلِيد وَزعم
انه حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ قطعا
قَالَ القَاضِي وَالصَّحِيح فِي ذَلِك عندنَا مَا صَار اليه
شَيخنَا وَهُوَ ان الْمُجْتَهد يتَخَيَّر فِي الاخذ بِأَيّ
الاجتهادين شَاءَ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ بطلَان التَّقْلِيد على
مَا نوضحه فاذا بَطل التَّقْلِيد وَقد اوضحنا بِمَا قدمْنَاهُ
ان كل مُجْتَهد مُصِيب وَقد اسْتَوَى فِي حَقه الاجتهادان
فَلَا سَبِيل الى الاخذ بِمَا شَاءَ الا بِضيق الْوَقْت فَنزل
الحكمان فِي حَقه منزلَة الْكَفَّارَة فِي حق الْحَالِف
فان قَالَ قَائِل فَفِي الْمصير الى التَّخْيِير خرق الاجماع
وَذَلِكَ انه اذا نقل عَن الصَّحَابَة قَولَانِ فِي
الْمَسْأَلَة فاجتهد فيهمَا الْمُجْتَهد وتقاوم الاجتهادان فِي
حَقه فَلَو صَار الى التَّخْيِير كَانَ قولا ثَالِثا
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ان من صَار الى ايجاب رَقَبَة فِي
حَادِثَة مَعَ من صَار الى ايجاب الْكسْوَة لَا يوافقان من خير
بَينهمَا فان الْمُخَير يسْلك مسلكا سوى مسلكهما فَمن هَذَا
الْوَجْه لزم اختراع قَول ثَالِث وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك ان
التَّخْيِير من الاحكام المعدودة فِي مَرَاتِب احكام
الشَّرِيعَة ويتميز بِهِ بعض الْكَفَّارَات عَن بعض
قُلْنَا هَذَا الَّذِي ذكرتموه يَنْقَلِب عَلَيْكُم على وَجه
لَا تَجِدُونَ عَنهُ محيصا فانا نقُول اذا تقَابل الاجتهادان
وتضيق الحكم وَلم يجد الْمُجْتَهد من يقلده فَمَا قَوْلكُم فِي
هَذِه الصُّورَة فيضطرون الى القَوْل بانه
(1/71)
يَأْخُذ باحدهما ويلزمهم فِي هَذِه
الصُّورَة مَا الزمونا
فان قَالُوا يتَوَقَّف فَكيف يُمكنهُم ذَلِك وَقد صور
عَلَيْهِم التَّضْيِيق وَمنع التَّخْيِير باجماع على ان للخصم
ان يَقُول التَّوَقُّف حكم ثَالِث
ثمَّ نقُول لسنا نقُول ان التَّخْيِير يثبت حكما فِي حق
الْمُجْتَهد حَتَّى يعْتَقد انه حكم ثَالِث وَلَكِن ياخذ
باحدهما فيوافق من شَاءَ من الْمُخْتَلِفين فِي الْعَصْر
الْمَاضِي وَهُوَ كالمستفتي يتَصَدَّى لَهُ مفتيان متساويان
فِي كل الاوصاف وفتواهما لَهُ مُخْتَلِفَتَانِ فياخذ بفتوى
احدهما وَلَا يكون ذَلِك تخييرا فوضح الِانْفِصَال عَمَّا
الزمونا
فان قَالُوا الْيَسْ معولكم على غَلَبَة الظَّن فِي كل مَا
قدمتموه فاذا تقَابل الاجتهادان فقد خلت الْمَسْأَلَة عَن
غَلَبَة الظَّن
قُلْنَا اذا تقَابل الاجتهادان فتقابلهما امارة فِي اثار
غَلَبَة ظن التَّخْيِير وَهَذَا وَاضح فافهمه وَقد انْقَضى
الْكَلَام فِي تصويب الْمُجْتَهدين
(1/72)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بَاب فِي جَوَاز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي حَضْرَة
الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -
اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب ذاهبون الى منع التَّعَبُّد
بِالْقِيَاسِ بِحَضْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَذهب اخرون الى جَوَاز ذَلِك عقلا وَهُوَ الَّذِي نرتضيه لَان
الْجَائِز يتَمَيَّز عَن المستحيل بِانْتِفَاء وُجُوه
الاستحالة وَجُمْلَة وُجُوه الاستحالة منتفية فِي جَوَاز
وُرُود التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ بِحَضْرَة الرَّسُول عَلَيْهِ
السَّلَام وَلَو قدر مُصَرحًا بِهِ لم يسْتَحل بَان يَقُول
صَاحب الشَّرِيعَة اذا عنت لكم حَادِثَة فانتم بِالْخِيَارِ
فِيهَا فان شِئْتُم راجعتموني لاخبركم بِحكم الله تَعَالَى
وجوبا اَوْ اجْتِهَادًا وان شِئْتُم فاجتهدوا فغلبة ظنكم امارة
حكم الله تَعَالَى
(1/73)
عَلَيْكُم فَهَذَا لَا يَسْتَحِيل عقلا فِي صفة المتعبد
تَعَالَى وَجل وَلَا فِي صفة التَّعَبُّد وَلَا فِي صُورَة
التَّعَبُّد
فان قَالُوا من كَانَ بِحَضْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَهُوَ قَادر على التَّوَصُّل الى النَّص وَلَا يسوغ
الِاجْتِهَاد مَعَ الْقُدْرَة على الْوُصُول الى النَّص
قُلْنَا هَذَا ايضا دَعْوَة مِنْكُم على انا نقُول لَيْسَ
كلامنا فِيمَا اسْتَقر فِيهِ نَص وانما كلامنا فِي حَادِثَة لم
يُؤثر فِيهَا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَاب
فَهِيَ قبل مُرَاجعَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
خَالِيَة عَن النَّص |