الاجتهاد (من كتاب التلخيص لإمام الحرمين) فصل فِي وُرُود الشَّرْع فِي جَوَاز
التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي حَضرته
فان قَالَ قَائِل قد ذكرْتُمْ جَوَاز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ
عقلا فَهَل ورد الشَّرْع بِهِ
قَالَ القَاضِي اما الَّذين غَابُوا عَن مَجْلِسه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فقد صَحَّ تعبدهم بِالْقِيَاسِ فِي اخبار
تلقتها الامة بِالْقبُولِ مِنْهَا حَدِيث معَاذ بن جبل رَضِي
الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِمَ تحكم قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فان لم تَجِد قَالَ
فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فان لم تَجِد
قَالَ فاجتهد رَأْيِي وَلَا آلو فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام
الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله لما
(1/74)
يرضاه رَسُول الله // رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
ونعلم ايضا ان الَّذين بعدوا عَن مَجْلِسه من ولاته ومستخلفيه
على العساكر والبلاد كَانَ يعن لَهُم من الْحَوَادِث مَا لَا
نَص فِيهِ وَكَانُوا لَا يتوقفون فِي جَمِيعهَا وَالرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم ذَلِك مِنْهُم فَهَذَا فِي
الْغَيْبَة عَنهُ
(1/75)
اما الَّذين كَانُوا بِحَضْرَتِهِ فَلم تقم
حجَّة شَرْعِيَّة فِي تعبدهم بِالْقِيَاسِ وان وَردت لَفْظَة
شَاذَّة اَوْ مُحْتَملَة للتأويل
(1/76)
القَوْل فِي جَوَاز تعبد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ
اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَذهب الَّذين احالوا التَّعَبُّد
بِالْقِيَاسِ الى الجري على مُقْتَضى اصلهم فِي اسْتِحَالَة
التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ
فاما الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فقد اخْتلفُوا ايضا
فَذهب بَعضهم الى انه لَا يجوز تعبد الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالْقِيَاسِ والتحري وَالِاجْتِهَاد وَمنعُوا
ذَلِك عقلا
وَذهب اخرون الى جَوَاز تعبده بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد
والحقوا ذَلِك بجائزات الْعُقُول وَهَذَا الَّذِي نختاره
(1/77)
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ انه لَيْسَ فِيهِ
وَجه من وُجُوه الاستحالة فِي المتعبد تَعَالَى وَجل وَلَا فِي
التَّعَبُّد وَلَا فِي المتعبد وَلَا يبعد ان يَقُول الرب
تَعَالَى لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اذا وَقعت حَادِثَة
فاجتهد فِيهِ رَأْيك فَمَا مَال اليه رَأْيك فَهُوَ الْحق
وَهَذَا وَاضح لمن تَأمله
وَتمسك من احال تعبده بِالْقِيَاسِ بطرق مِنْهَا
ان الْعَمَل بِالْقِيَاسِ عمل بغالب الظَّن فَلَو تمسك بِهِ
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ يبلغ عَن ربه
شَرِيعَته بِمُوجب غَلَبَة الظَّن وَذَلِكَ مُسْتَحِيل فِي
اوصاف الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَنَقُول هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل وَذَلِكَ ان
الْمُجْتَهد عندنَا يغلب على ظَنّه اولا ثمَّ يقطع على الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمُوجب غَلَبَة الظَّن ونعلم
(1/78)
ان غَلَبَة الظَّن امارة نصبها الله
تَعَالَى فِي مُوجبهَا وَكَذَلِكَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يقطع بِمَا يحكم بِهِ وَينزل ذَلِك منزلَة مَا لَو قَالَ
الله تَعَالَى لرَسُوله مهما ظَنَنْت اقبال فلَان وقدومه فاقطع
بِهِ فانك لَا تظن الا حَقًا فَهَذَا سَائِغ لَا اسْتِحَالَة
فِيهِ
وَمِمَّا تمسكوا بِهِ ان قَالُوا لَو سَاغَ للرسول ان يجْتَهد
لساغ لغيره ان يجْتَهد ايضا ثمَّ يكون كل مُجْتَهد مؤاخذ
بِاجْتِهَادِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِك الى ان يُخَالف المجتهدون
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اذا اخْتلفت الاجتهادات
وَفِي ذَلِك ابطال الِاتِّبَاع والحط لمنزلة الرَّسُول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالْجَوَاب عَن هَذَا السُّؤَال ان نقُول لَو رددنا الى مُوجب
الْعقل لم يكن فِيمَا قلتموه اسْتِحَالَة وكل مُجْتَهد مؤاخذ
بِاجْتِهَادِهِ وَكَانَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا
يَدْعُو الْمُجْتَهدين الى اتِّبَاعه فَيُؤَدِّي ذَلِك الى
مُخَالفَة الِاتِّبَاع فَهَذَا فِي سَبِيل الْعقل وَلَكِن
قَامَت دلَالَة الاجماع على ان مَا يقدم عَلَيْهِ الرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَبْيِين الشَّرْع لَا على سَبِيل
الِاخْتِصَاص بِهِ فَيجب اتِّبَاعه فِيهِ وَلَا يجوز الاستبداد
بالحكم على خلاف مَا يُبينهُ فمنعنا بذلك ترك الِاتِّبَاع
واستقلال كل مُجْتَهد بِنَفسِهِ فَكَأَن الرب تَعَالَى يَقُول
كل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ الا مَا كَانَ للنَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ اجْتِهَاد فَهُوَ الْقدْوَة
(1/79)
وَمِمَّا تمسكوا بِهِ ايضا ان قَالُوا لَو
جَازَ ان يجْتَهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجَاز ان
يخطىء مرّة ويصيب اخرى وَفِي ذَلِك ابطال الثِّقَة بِمَا
يَقُوله
قُلْنَا هَذِه غَفلَة عَظِيمَة مِنْكُم فانا لم نصور من احاد
الْمُجْتَهدين الْخَطَأ على مَا اوضحنا من اصلنا فِي تصويب
الْمُجْتَهدين احادا فَكيف تظنون منا ذَلِك فِي اجْتِهَاد
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على انا لَو قَدرنَا جَوَاز
الْخَطَأ من سَائِر الْمُجْتَهدين فَلَا يجوز من الرَّسُول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فانه وَاجِب الْعِصْمَة فَينزل فِي
اجْتِهَاده منزلَة من لَو اجْتمع كَافَّة الامة على ضرب من
الِاجْتِهَاد اجماعا مِنْهُم فَلَا يسوغ خطأهم
وان قُلْنَا ان الْمُصِيب وَاحِد فِي المجتهدات فيتصور خطأ
آحَاد الْمُجْتَهدين فَبَطل مَا قَالُوا
وَمِمَّا استدلوا بِهِ ايضا ان قَالُوا لَو كَانَ للرسول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ان يجْتَهد لجَاز لجبريل عَلَيْهِ
السَّلَام ان يجْتَهد ويخبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن اجْتِهَاده وَهُوَ يضيف الْكل الى الْوَحْي فِيمَا يبلغهُ
جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فيختلط الْوَحْي بِغَيْرِهِ
وَفِيه لبس عَظِيم فِي الدَّلِيل
قُلْنَا هَذِه رَكِيك من القَوْل فَإِن جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَام اذا اجْتهد اخبر
(1/80)
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاجْتِهَادِهِ حَتَّى لَا
ينْقل الْكل وَحيا اذا علم ان الامر يلتبس فبطلت عصمتهم ووضح
جَوَاز تعبده بِالْقِيَاسِ |