الاجتهاد (من كتاب التلخيص لإمام الحرمين) فصل فِي وُقُوع التَّعَبُّد سمعا
فان قَالَ قَائِل قد بينتم جَوَاز تعبد الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ عقلا فَهَل ثَبت ذَلِك سمعا
قُلْنَا قد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك
فَذهب ذاهبون الى انه ورد السّمع بذلك
وَذهب اخرون الى انه لم يرد بِهِ سمع
وَنحن نذْكر مَا تمسك بِهِ كل فريق ونتكلم عَلَيْهِ إِن شَاءَ
الله تَعَالَى
فاما الَّذين نفوا وُرُود السّمع بِهِ فقد استدلوا بِأَن
قَالُوا
لَو كَانَ شرع للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِاجْتِهَاد
لَكَانَ لَا يتَوَقَّف فِي كثير من الاحكام ينْتَظر فِيهَا
الْوَحْي وَكَانَ يتشرع الى الِاجْتِهَاد حسب مَا يجوز لَهُ
وَهَذَا بَاطِل فان للاخرين ان يَقُولُوا انما كَانَ يتَوَقَّف
فِيمَا لم يكن للِاجْتِهَاد فِيهِ مساغ وَلم يكن لَهُ اصل يرد
اليه اعْتِبَارا وَقِيَاسًا اذ لم يكن قد اسْتَقر الشَّرْع
وتأسست قَوَاعِده على انه لَا يبعد انه عَلَيْهِ السَّلَام خير
(1/81)
بَين الِاجْتِهَاد وَبَين انْتِظَار
الْوَحْي فَكَانَ يجْتَهد مرّة وينتظر الْوَحْي اخرى
وَمِمَّا استدلوا بِهِ ايضا ان قَالُوا لَو كَانَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يتَمَسَّك بِالِاجْتِهَادِ لنقل ذَلِك
نفلا مستفيضا قَاطعا للريب كَمَا نقل تمسكه بِالْوَحْي
وَهَذَا مَا لَا معتصم فِيهِ أَيْضا اذ لَيْسَ من شَرط كل مَا
يُؤثر عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجب ان يستفيض بل
مِنْهُ مَا ينْقل آحادا وَمِنْه مَا ينْقل استفاضة على انه
كَانَ لَا يجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان
يُخْبِرهُمْ بمصادر احكامه وقضاياه
وَتمسك هَؤُلَاءِ بالطرق الَّتِي قدمناها فِي اسْتِحَالَة
تعبده بِالِاجْتِهَادِ عقلا وَقد قدمنَا الاجوبة عَنْهَا
وَهَذَا كَلَام هَؤُلَاءِ
فَأَما الَّذين قَالُوا ان الشَّرْع ورد بتعبده صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ فقد استدلوا بِمَا جرى من أَمر
أُسَارَى بدر فان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاداهم
بِاجْتِهَادِهِ ورأيه وَلم يقدم على ذَلِك عَن قَضِيَّة وَحي
وَلِهَذَا عاتبه الرب تَعَالَى فِي قَوْله {مَا كَانَ لنَبِيّ
أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} اللآية وَكَانَ
عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَشَارَ على النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ان يقتلهُمْ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عِنْد
(1/82)
نزُول الاية لقد كَانَ الْعَذَاب اقْربْ
الينا من هَذِه الشَّجَرَة وَلَو أنزل لما نجا مِنْهُ الا عمر
// أخرج الحَدِيث مُسلم وَقَالُوا فَهَذِهِ الاية مَعَ سَبَب
نُزُولهَا دلَالَة وَاضِحَة على فاعترف على نَفسه بالْخَطَأ
حكمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ قَالَ القَاضِي
رَضِي الله عَنهُ من زعم ان هَذِه الاية تدل على حكمه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ فقد افترى على الله تَعَالَى
بأعظم الْفِرْيَة فان فِيهِ تعرضا لتجويز الْخَطَأ على
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ تَقْدِيره عَلَيْهِ
النَّاس على ضَرْبَيْنِ فِي تَجْوِيز الْخَطَأ على الرُّسُل
عَلَيْهِم السَّلَام فَمن جوزه مِنْهُم لم يجوز تَقْدِيره
عَلَيْهِ
فان قيل بِمَ تنكرون على من يزْعم انه لم يقر على مَا عوتب
عَلَيْهِ
(1/83)
قُلْنَا فَعدم التَّقْرِير هُوَ ان لَا
ينفذ مَا أَخطَأ فِيهِ وَكَانَ يَنْبَغِي ان يقتل الاسرى وينقض
عهود المفاداة فوضح بذلك بطلَان الِاسْتِدْلَال واستوى
الْفَرِيقَانِ فِي التَّأْوِيل
فان قيل فَمَا تَأْوِيل الاية بعد سُقُوط الِاحْتِجَاج
قيل اما الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد كَانَ خير بَين
الْقَتْل والمن والمفاداة والاسترقاق كَمَا أنبأ قَوْله
تَعَالَى {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب
أَوزَارهَا} عَن بعض هَذِه الْخلال وَلَكِن خَاضَ اصحاب رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَخْيِير بعض هَذِه الْخلال
حَتَّى كَأَنَّهُ بلغ مِنْهُم اَوْ من بَعضهم مبلغ قطع
الرَّأْي والتحكم فنقم الله تَعَالَى ذَلِك عَلَيْهِم بيد ان
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ادخل نَفسه مَعَهم فِي مُوجب
العتاب تكرما والاية تنبىء عَن تنزهه وانه تَعَالَى قَالَ {مَا
كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض}
فَلَمَّا انجز حَدِيثه خَاطب الصَّحَابَة فَقَالَ {تُرِيدُونَ
عرض الدُّنْيَا} وَنحن نعلم ان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَا يُخَاطب بذلك وَقد عرضت عَلَيْهِ خَزَائِن الارض
فأباها
وَمِمَّا استدلوا بِهِ فِي وُرُود التَّعَبُّد بِالِاجْتِهَادِ
انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حكم الْحرم
(1/84)
لَا يعضد شَجَرهَا وَلَا يختلي خَلاهَا
فَقَالَ الْعَبَّاس الا الاذخر فانه لِقُبُورِنَا وَبُيُوتنَا
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْفَوْر الا الاذخر //
أخرجه البُخَارِيّ وَنحن نعلم انه مَا قَالَه إِلَّا
اجْتِهَادًا
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ تحكم ايضا فَلَا يبعد انه قَالَه
وَحيا وَكَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَقْت جِبْرِيل عَلَيْهِمَا
السَّلَام أَو ملك آخر يسدده فَبَطل معتصم الْفَرِيقَيْنِ
والمحتار انه لم يرد فِي الشَّرْع دلَالَة يقطع بهَا فِي نفي
الِاجْتِهَاد وَلَا فِي اثباته فَيتَوَقَّف فِيهِ على مورد
الشَّرِيعَة
القَوْل فِي تَخْرِيج الشَّافِعِي رَحمَه الله الْمَسْأَلَة
على قَوْلَيْنِ وَذكر مُرَاده فِيهِ
اشْتهر عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله ذكر الْقَوْلَيْنِ
فَصَاعِدا فِي الْحَادِثَة
(1/85)
الْوَاحِدَة مَعَ الْعلم باستحالة
اجْتِمَاعهمَا فِي الصِّحَّة فِي حق الْمُجْتَهد الْوَاحِد
وَقد اعْترض عَلَيْهِ فِي ذَلِك جعل وَغَيره من متأخري
الْمُعْتَزلَة
وَنحن نذْكر مَا عولوا عَلَيْهِ من وُجُوه الِاعْتِرَاض ونتفصى
عَنْهَا بِذكر وَجه تَخْرِيج الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ
فمما اعْترضُوا بِهِ ان قَالُوا اذا جمع الْجَامِع بَين
قَوْلَيْنِ احدهما التَّحْرِيم وَالْآخر التَّحْلِيل وذكرهما
جَمِيعًا وَلم يرجح احدهما على الثَّانِي وأضافهما الى نَفسه
فِي مثل الصّفة الَّتِي يضيف بهَا جملَة الْمَذْهَب الى نَفسه
فَلَا يَخْلُو حَاله فِي ذَلِك اما ان يُرِيد صِحَة
الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا فِي حق الْمُجْتَهد الْوَاحِد
(1/86)
فَيكون ذَلِك تناقضا وتنافيا ومباهتة
للضروريات والبديهة وان كَانَ لَا يعْتَقد ذَلِك فاطلاقه
الْكَلَام على وَجه ينبىء عَمَّا قُلْنَاهُ ضَرُورَة اذ لَيْسَ
لَاحَدَّ من الْعلمَاء ان يُطلق من القَوْل مَا ظَاهره
الْغَلَط وَهُوَ يُرِيد بِهِ خلاف ظَاهره وانما صَحَّ من صَاحب
الشَّرِيعَة اطلاق أَلْفَاظ مَحْمُولَة على خلاف ظواهرها
للْعلم بِوُجُوب حكمته وَثُبُوت عصمته وتنزهه عَن الزلل
وَهَذِه السَّابِقَة من محمل النازلين على التَّأْوِيل فاما
آحَاد الْعلمَاء فَكل وَاحِد مِنْهُم بصدد الْخَطَأ فاذا بدرت
مِنْهُم لَفْظَة ظَاهرهَا الْخَطَأ وَلم تجب لَهُ الْعِصْمَة
حملت على الظَّاهِر
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ سَاقِط من الْكَلَام من أوجه
أَحدهَا إِنَّه لَو سَاغَ مَا قَالُوهُ لوَجَبَ سد بَاب
التَّجَوُّز والتوسع فِي الْكَلَام على غير صَاحب الشَّرِيعَة
حَتَّى لَا يجوز لَاحَدَّ ان ينظر لمجازات اللُّغَة
وَيتَعَيَّن على الكافة النُّطْق بِحَقِيقَة اللُّغَة حَتَّى
ينتسب النَّاطِق بالمجاز الى السَّفه والعته فَلَمَّا لم يكن
ذَلِك بَطل مَا قَالُوهُ
(1/87)
ثمَّ نقُول أَلَيْسَ ورد على صَاحب
الشَّرِيعَة أَلْفَاظ متأولة والمجوز لذَلِك على زعمكم مَا سبق
من الْعلم بعصمته
فان قَالُوا اجل قيل لَهُم فَكيف يظنّ بالشافعي فِي مثل رتبته
ان يحل الشَّيْء ويحرمه مَعًا ويعتقد ذَلِك اعتقادا وَمن
كَمَال الْعقل ان يعرف الْمَرْء تنَافِي المتنافيات وتناقضها
فنعلم من الشَّافِعِي رَحمَه الله انه لم يسْلك هَذَا المسلك
وَإِنَّمَا سلك مسلكا غَيره فينتصب ذَلِك قرينه مقارنه
للظَّاهِر نازلة منزلَة الِاسْتِثْنَاء الْمُقَارن للْعُمُوم
وَهَذَا بَين لَا خَفَاء فِيهِ
فان قَالُوا فَلَو قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله ظلمت وتعديت
أفتحمل ذَلِك على غير ظَاهره
قُلْنَا لَا يضطرنا الى حمله على خلاف ظَاهره شَيْء اذ يسوغ من
الشَّافِعِي رَحمَه الله وَمِمَّنْ هُوَ أجل مِنْهُ ان يظلم
فَأَما ان يعْتَقد كَون الشَّيْء حَلَالا حَرَامًا فَلَا
يتَحَقَّق ذَلِك مِنْهُ اصلا
فان قَالُوا فقد ابدع الشَّافِعِي على الصَّحَابَة وخرق
الاجماع فِي ذكر الْقَوْلَيْنِ فان الصَّحَابَة لما اخْتلفُوا
لم يذكر اُحْدُ مِنْهُم فِي الصُّورَة الْوَاحِدَة قَوْلَيْنِ
قُلْنَا الْجَواب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن
(1/88)
احدهما انهم كَمَا لم يذكرُوا قَوْلَيْنِ
لم يمنعوا ذكر الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ فِي كفهم عَن ذكر
الشَّيْء مَا يدل على مَنعهم اياه فَسقط مَا قَالُوهُ
ثمَّ نقُول كم ذكرُوا من وُجُوه الِاحْتِمَال فِي الْحَادِثَة
الْوَاحِدَة وَلَكِن لم يصفوها بالاقوال كَمَا ذكرُوا وُجُوه
الِاحْتِمَال وَالِاجْتِهَاد وَلم يسموه ربطا وتحريرا وفرعا
واصلا وَلم يذكرُوا من عِبَارَات متناظري الزَّمَان إِلَّا
الْقَلِيل وَلَا يدل ذَلِك على خُرُوج اهل الزَّمَان عَن
اجماعهم
فان قَالُوا فَمَا وَجه تَخْرِيج الشَّافِعِي الْمَسْأَلَة على
قَوْلَيْنِ وَمَا مَعْنَاهُ
قُلْنَا اخْتلف فِي ذَلِك أجوبة أَصْحَابه وَنحن نذْكر مَا
ذَكرُوهُ ثمَّ نعول على الْأَصَح مِنْهُ ان شَاءَ الله
تَعَالَى
فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه قصد بِذكر الْقَوْلَيْنِ حِكَايَة
مذهبين من مَذَاهِب الْعلمَاء وَهَذَا غير سديد من وَجْهَيْن
احدهما انه قد يَجْعَل الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ فِي صُورَة
لَا يُؤثر فِيهَا عَن الْعلمَاء قَول على التَّنْصِيص
وَالْآخر انه يضيف الْقَوْلَيْنِ الى اجْتِهَاده وَلَا يجْرِي
ذَلِك مجْرى
(1/89)
حِكَايَة الْمذَاهب فَإِنَّهُ اذا حكى
الْمذَاهب فصيغة كَلَامه فِي الْحِكَايَة تتَمَيَّز عِنْد كل
منصف عَن صِيغَة ذكره الْقَوْلَيْنِ
وَقَالَ ابو اسحق الْمروزِي انما ذكر الْقَوْلَيْنِ ليبين ان
مَا عداهما فَاسد عِنْده وَحصر الْحق فِي قَوْلَيْنِ اَوْ
ثَلَاثَة على مَا يذكرهُ
وَهَذَا الَّذِي ذكره فِيهِ نظر ايضا فَإِن الشَّافِعِي لَا
يقطع فِي المجتهدات بتخطئة غَيره وَمن تدبر اصوله عرف ذَلِك
مِنْهَا
وَالصَّحِيح من ذَلِك أَن نقُول مَا يُؤثر فِيهِ عَن
الشَّافِعِي قَولَانِ فَهُوَ على اقسام
فَمِنْهُ القَوْل الْجَدِيد وَالْقَوْل الْقَدِيم فقد وضح من
مُقْتَضى كَلَامه انه بِذكرِهِ الْجَدِيد رَجَعَ عَن الْقَدِيم
فَلَا يجْتَمع لَهُ فِي امثال ذَلِك قَولَانِ
وَمِنْه ان ينص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد وَلكنه يمِيل الى
احدهما
(1/90)
ويختاره فَهُوَ مذْهبه والاخر لَيْسَ بقول
لَهُ وانما ذكره اولا تَوْطِئَة للْخلاف وتمهيدا لَهُ
وَلَو نَص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد ثمَّ ذكر احدهما بعد
ذَلِك وأضرب عَن ذكر الثَّانِي فَمَا صَار اليه الْمُزنِيّ
رَحمَه الله ان ذَلِك رُجُوع مِنْهُ عَن القَوْل الثَّانِي
وَلما قَالَه وَجه وان كَانَ انكره مُعظم الْأَصْحَاب
(1/91)
وَأما اذا نَص على قَوْلَيْنِ جَمِيعًا
وَلم يرجح احدهما بعد ذَلِك على الاخر وَلم ينص على احدهما بعد
نَصه عَلَيْهِمَا وَنقل مثل ذَلِك حَتَّى قَالَ
الْمُحَقِّقُونَ ان هَذَا الْفَنّ لَا يكَاد يبلغ عشرا
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فَالْوَجْه عِنْدِي انه قَالَ
فِي مثل هَذَا الْموضع بالتخيير وَكَانَ يَقُول بتصويب
الْمُجْتَهدين وَهَذَا الَّذِي قَالَه غير سديد فَإِن
الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي ان الْمُصِيب وَاحِد على ان
فِيمَا ذكره القَاضِي دخلا عَظِيما ونبين ذَلِك بَان نمهد اصلا
فِي التَّخْيِير فَنَقُول
من قَالَ بالتخيير على مَا قدمنَا القَوْل فِيهِ انما يُمكنهُ
القَوْل بالتخيير فِي تَقْدِير واجبين مثل ان يُؤَدِّي اُحْدُ
الاجتهادين الى ايجاب شَيْء وَيُؤَدِّي الِاجْتِهَاد الثَّانِي
الى ايجاب غَيره وَلَا يُؤَدِّي تَقْدِير جَمعهمَا على سَبِيل
التَّخْيِير الى تنَاقض وَينزل منزلَة اركان كَفَّارَة
الْيَمين فاذا تصورت الْمَسْأَلَة بِهَذِهِ الصُّورَة سَاغَ
الْمصير الى التَّخْيِير
(1/92)
واما اذا كَانَ اُحْدُ الاجتهادين يُؤَدِّي
الى تَحْلِيل وَالثَّانِي يُؤَدِّي الى تَحْرِيم فَلَا
يتَصَوَّر التَّخْيِير فِي الْقَوْلَيْنِ اذ من المستحيل
التَّخْيِير بَين التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وَهَذَا بَين لكل
متأمل وَقد ذكره القَاضِي رَحمَه الله فِي خلال كَلَامه
وَكَذَلِكَ لَا يتَصَوَّر التَّخْيِير بَين محرمين فاذا وضح
ذَلِك فقد اخْتلف قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله كثيرا فِي
تَحْلِيل وَتَحْرِيم فَكيف يُمكن حمل إختلاف قَوْله على
القَوْل بالتخيير
فالسديد اذا ان نقُول فِي الْقسم الاخير الَّذِي اتممنا
الْكَلَام بِهِ وَهُوَ ان ينص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد
وَلَا يخْتَار احدهما لَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَول وَلَا
مَذْهَب وانما ذكر الْقَوْلَيْنِ ليتردد فيهمَا وَعدم
اخْتِيَاره لاحدهما لَا يكون ذَلِك خطأ مِنْهُ بل علو رتبه
الرجل وتوسعه فِي الْعلم وَعلمه بطرِيق الاشباه ان يتَّفق لَهُ
ذَلِك وَيبعد ان يبتدىء الرجل مسَائِل الشَّرْع ويختمها وَلَا
يعن لَهُ مَسْأَلَة الا ويغلب على ظَنّه فِي اول نظرة جَوَاب
وَاحِد
(1/93)
فَإِن قَالَ قَائِل فَلَا معنى لقولكم
للشَّافِعِيّ قَولَانِ اذ لَيْسَ لَهُ على مَا زعمتم فِي مثل
هَذِه الْمسَائِل قَول وَاحِد وَلَا قَولَانِ
قُلْنَا هَكَذَا نقُول وَلَا نتحاشى مِنْهُ وانما وَجه الإضافه
الى الشَّافِعِي ذكره لَهما واستقصاؤه وُجُوه الاشباه فيهمَا
فَهَذَا اسد الطّرق واوضحها وَقد شعب القَاضِي رَحمَه الله
كَلَامه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ لبَابَة
وَتعلم ذَلِك اذا طالعت كِتَابه
(1/94)
|