الاجتهاد (من كتاب التلخيص لإمام الحرمين)

= كتاب التَّقْلِيد =
القَوْل فِي حَقِيقَة التَّقْلِيد

احتلف ارباب الاصول فِي حَقِيقَة التَّقْلِيد فَذهب قوم مِنْهُم الى ان التَّقْلِيد هُوَ قبُول قَول الْقَائِل وَلَا يدْرِي من ايْنَ يَقُول مَا يَقُول وَهَذَا القَوْل غير مرضِي عندنَا فان التَّقْلِيد ينبىء عَن الِاتِّبَاع المتعري عَن اصل الْحجَّة فَإِذا لم يكن فِي تَحْدِيد التَّقْلِيد مَا ينبىء عَن ذَلِك لم يكن الْحَد مرضيا اصلا وَهَذَا الْقَائِل يَقُول اذا جَوَّزنَا للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِاجْتِهَاد فقبول قَوْله تَقْلِيد لَهُ من حَيْثُ ان الْقَائِل لَا يدْرِي من ايْنَ قَالَه الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَذهب بَعضهم الى ان التَّقْلِيد قبُول قَول الْقَائِل بِلَا حجَّة وَمن

(1/95)


سلك هَذِه الطَّرِيقَة منع ان يكون قبُول قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقليدا فان حجَّة فِي نَفسه وَهَذَا اخْتِلَاف فِي عبارَة يهون موقعها عِنْد ذَوي التَّحْقِيق غير ان الاولى فِي حد التَّقْلِيد عندنَا ان نقُول التَّقْلِيد هُوَ اتِّبَاع من لم يقم باتباعه حجَّة وَلم يسْتَند الى علم فيندرج تَحت هَذَا الْحَد الافعال والاقوال وَقد خصص مُعظم الْمُحَقِّقين كَلَامهم بالْقَوْل وَلَا معنى للاختصاص بِهِ فان الِاتِّبَاع فِي الافعال المبنية كالاتباع فِي الاقوال
ويندرج تَحت هَذَا الْحَد اصل فِي التَّقْلِيد ذهل عَنهُ مُعظم الاصوليين وَذَلِكَ ان معظمهم مَعَ الِاخْتِلَاف فِي حد التَّقْلِيد مجمعون على القَوْل بِأَن الْعَاميّ مقلد للمفتي بِمَا يَأْخُذ مِنْهُ فأدرجوه تَحت الحدين السَّابِقين وَقَالُوا ان قُلْنَا ان التَّقْلِيد قبُول قَول الْغَيْر بِلَا حجَّة فقد تحقق تحقق ذَلِك فِي الْمُفْتِي فَإِن قَوْله فِي نَفسه لَيْسَ بِحجَّة وان حددنا التَّقْلِيد

(1/96)


بِأَنَّهُ قبُول قَول الْقَائِل مَعَ الْجَهْل بمأخذه فَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي قَول الْمُفْتِي ايضا
قَالَ القَاضِي وَالَّذِي نختاره ان ذَلِك لَيْسَ بتقليد اصلا فَإِن قَول الْعَالم حجَّة فِي حق المستفتي اذا الرب تَعَالَى وَجل نصب قَول الْعَالم علما فِي حق الْعَاميّ واوجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ كَمَا اوجب على الْعَالم الْعَمَل بِمُوجب اجْتِهَاده واجتهاده علم على علمه وَقَوله علم على المستفتي وَيخرج لَك من هَذَا الاصل انه لَا يتَصَوَّر على مَا نرتضيه تَقْلِيد مُبَاح فِي الشَّرِيعَة لَا فِي اصول الدّين وَلَا فِي فروعه اذ التَّقْلِيد هُوَ الِاتِّبَاع الَّذِي لم يقم بِهِ حجَّة

(1/97)


وَلَو سَاغَ تَسْمِيَة الْعَاميّ مُقَلدًا مَعَ ان قَول الْعَالم فِي حَقه وَاجِب الِاتِّبَاع جَازَ ان يُسمى المتمسك بالنصوص والاجماع وادله الْعُقُول مُقَلدًا وَهَذَا وَاضح فِي مَقْصُوده
ثمَّ ان نذْكر بعد ذَلِك منع التَّقْلِيد فِي الاصول ثمَّ فِي الْفُرُوع
القَوْل فِي منع التَّقْلِيد فِي الاصول

اعْلَم ان هَذَا الْبَاب يرسم الْكَلَام فِيهِ فِي فن الْكَلَام بيد ان نذْكر مَا يَقع الِاسْتِقْلَال بِهِ
فَلَا يسوغ لأحد ان يعول فِي معرفَة الله تَعَالَى وَفِي معرفَة مَا يجب لَهُ من الاوصاف وَيجوز عَلَيْهِ ويتقدس عَنهُ على التَّقْلِيد وَكَذَلِكَ القَوْل فِي جملَة قَوَاعِد العقائد بل

(1/98)


يجب على كل معترف ان يسْتَدلّ فِي هَذِه

(1/99)


الاصول وَلنْ يَقع لَهُ الْعُلُوم فِيهَا الا بتعقب للنَّظَر الصَّحِيح
وَذَهَبت الحشوية الى القَوْل بالتقليد فِي اصول الدّين لما

(1/100)


اقعدهم عيهم عَن مبالغ ذَوي النّظر وَلم يُغْنِهِم تقاعصهم حَتَّى ازروا على ذَوي الْحجَّاج السالكين اسد المناهج
وطرق الرَّد عَلَيْهِم كثيرا وَالْوَاحد مِنْهَا يجزىء من تَأمل فَنَقُول

(1/101)


لَهُم معاشر المقلدين هَل علمْتُم ان التَّقْلِيد يفضى الى الْعلم أم لم تعلمُوا ذَلِك
فان قُلْتُمْ أَنا لم نعلمهُ وَهِي كلمة الْحق فَفِي ضلال تعمهون وَبِه على انفسكم تعترفون
وان زعمتم انا نعلم افضاؤه الى الْحق فَلَا يخلون اما ان تعلمُوا ذَلِك ضَرُورَة وبديهة اَوْ لَا تعلمُونَ ذَلِك ضَرُورَة وبديهة فان ادعيتم الْعلم الضَّرُورِيّ سَقَطت مكالمتكم ووضحت مباهتتكم وَلم تسلموا عَن معارضتكم بِدَعْوَى الضَّرُورَة فِي صد مَقَالَتَكُمْ

(1/102)


وان هم زَعَمُوا إِنَّا نعلم افضاء التَّقْلِيد الى طرق التسديد بِالدّلَالَةِ سئلوا عَن اقامتها وهيهات وان خَاضُوا فِي ابتغائها وانتحائها فقد خَاضُوا فِي النّظر من حَيْثُ لم يشعروا
وان زَعَمُوا أَنا علمنَا افضاء التَّقْلِيد الى الْعلم بالتقليد سئلوا عَن اقامة الدَّلِيل على التَّقْلِيد الَّذِي جَعَلُوهُ اصلا للتقليد فيتسلسل عَلَيْهِم القَوْل وَلَا يَجدونَ عَنهُ مخرجا
فان قَالُوا انما علمنَا افضاء التَّقْلِيد الى الْعلم بِمَا فِي الْكتاب وَالسّنة من الامر بالاتباع قيل لَهُم انى لكم التَّمَسُّك بِكِتَاب الله وَلَا يثبت كتاب الله تَعَالَى الا بِحجَّة فَبِمَ علمْتُم ان الَّذِي اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كتاب الله تَعَالَى فَهَذِهِ ورطة لَا مخلص لَهُم مِنْهَا
ثمَّ نقُول لَهُم اذا قلدتم فِي اصول الدّين وَاحِدًا مِنْكُم فَلَا شكّ انكم

(1/103)


لَا توجبون لمن اتبعتموه الْعِصْمَة وتجوزون عَلَيْهِ الزلل فَمَا الَّذِي حملكم على اتِّبَاعه وَهَذِه حَالَة فان رجعتم الى مُجَرّد القَوْل فقد وسعتم مَذَاهِب الدّين واقل مَا يلزمكم عَلَيْهِ كف النكير عَن معتقدي الْبدع اذ قلدوا اسلافهم فان وَاحِدًا مِنْكُم لم يعول على حجاج
فان قَالُوا مَعنا السوَاد الاعظم وَقد وصّى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاتِّبَاع السوَاد الاعظم
قُلْنَا فَلَا جهل يزِيد على مَا اظهرتموه فانكم تنازعون فِي اثبات الرُّسُل وتطالبون بِمَا فِيهِ عصمتهم وتستدلون فِيهِ بقول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ لَا معول على السوَاد الاعظم فِي اصل الدّين فان سَواد الْكَفَرَة اعظم من سوادنا وَلَقَد كَانَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صدر الاسلام فِي شرذمة قَليلَة الْعدَد وَلَيْسَ الْمَعْنى بِاتِّبَاع السوَاد الاعظم الِاتِّبَاع فِي اصول الدّين فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه ووضحت فِي اصول الدّين غوايتهم وانشرحت فِي اصول العقائد عورتهم

(1/104)


ثمَّ نقُول لَهُم خبرونا هَل فِي السَّمَوَات والارضين حجَّة على ثُبُوت الصَّانِع فان انكروا ذَلِك انتسبوا الى رد الْكتاب وَهُوَ مفزعهم وان اثبتوا فِيهَا حجَّة سئلوا عَن وَجههَا فيضطرون الى الْخَوْض فِي الْحجَّاج وَالْكَلَام عَلَيْهِم طَوِيل وَهَذَا قَلِيل من كثير
واعتصم اصحابنا بِكُل ظَاهر فِي الْكتاب وَالسّنة يتَضَمَّن الامر بِالِاعْتِبَارِ والاحتجاج وَلَهُم جمل من الظَّوَاهِر يهون الْكَلَام عَلَيْهَا فَرَأَيْنَا الاضراب عَن تمسكهم بهَا

(1/105)


القَوْل فِي منع التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع

اعْلَم ان الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي جَوَاز التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع وَالْكَلَام فِي ذَلِك يَنْقَسِم الى اصلين
احدهما تَقْلِيد الصَّحَابَة وَالثَّانِي تَقْلِيد من عداهم من الْعلمَاء فاما تَقْلِيد الصَّحَابَة فسنفرده بالْكلَام بعد ذَلِك ان شَاءَ الله تَعَالَى
فاما تَقْلِيد من سواهُم فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ

(1/106)


فَذهب بَعضهم الى انه يجوز للْعَالم اذا عنت لَهُ حَادِثَة ان يُقَلّد عَالما غَيره مَعَ اقتداره ان يحمل الاسنة ثمَّ الَّذين سوغوا التَّقْلِيد على هَذَا الْوَجْه اخْتلفُوا فِي انه هَل يجوز ان يُقَلّد ليفتي بِمَا قلد فِيهِ فَمنهمْ من جوز ذَلِك وَمِنْهُم من اباه
وَذهب بعض الْعلمَاء الى انه لَا يجوز للْعَالم ان يُقَلّد عَالما فِي مثل دَرَجَته وَيجوز لَهُ ان يُقَلّد من هُوَ اعْلَم مِنْهُ مَعَ استوائهما فِي كَون

(1/107)


كل وَاحِد مِنْهُمَا مُجْتَهدا والى ذَلِك مَال مُحَمَّد بن الْحسن وابو حنيفَة كَانَ يجوز التَّقْلِيد مُطلقًا
وَذهب الشَّافِعِي ومعظم الْعلمَاء الى انه لَا يجوز للْعَالم تَقْلِيد الْعَالم من غير الصَّحَابَة ثمَّ هَؤُلَاءِ اخْتلفُوا فِي صُورَة وَاحِدَة وَهِي ان الْعَالم اذا انسدت عَلَيْهِ طرق الِاجْتِهَاد وتضيق عَلَيْهِ حكم الْحَادِثَة نَحْو الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة مَعَ تضيق وَقت الصَّلَاة فَهَل يسوغ لَهُ وَالْحَالة هَذِه ان يُقَلّد عَالما
فَمَا ذهب اليه الشَّافِعِي منع التَّقْلِيد فِي هَذِه الصُّورَة ايضا واجاز الْمُزنِيّ التَّقْلِيد فِي هَذِه الصُّورَة
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله وَالَّذِي نختاره منع التَّقْلِيد واذا قيل لنا فَهَل فِي الشَّرْع تَقْلِيد مُبَاح ابيناه وان الزمونا الْعَاميّ المستفتي لم نجعله مُقَلدًا على مَا اوضحنا القَوْل فِيهِ فِي الْبَاب السَّابِق
وَنحن نقدم على الْخَوْض فِي الْحجَّاج فصلا ذهل عَنهُ مُعظم الْمُتَكَلِّمين فِي هَذَا الْبَاب فَنَقُول لَو رددنا الى جائزات الْعُقُول لَكَانَ اخذ الْعَالم بقول عَالم اخر من الجائزات لَو قَامَت بِهِ حجَّة شَرْعِيَّة وَلَيْسَ من

(1/108)


المستحيلات فَكَانَ يجوز ان يَقُول الرب تَعَالَى لكل عَالم ان يَأْخُذ بقول عَالم مثله وَيتْرك الِاجْتِهَاد وَلَو ثَبت ذَلِك لم يكن ذَلِك تقليدا بل يصير قَول الْعَالم الْمُفْتِي علما وامارة فِي حق الْعَالم المستفتي وَيكون متمسكا بِمَا نَصبه الله تَعَالَى حجَّة لَهُ
ومعظم من خَاضَ فِي هَذَا الْبَاب بنى الادلة بِنَاء يدل على منع التَّقْلِيد عقلا وَنحن نذْكر مَا ذكره مانعوا التَّقْلِيد ونبين فَسَاده ثمَّ نذْكر مَا علينا الْمعول ان شَاءَ الله تَعَالَى
فمما عولوا عَلَيْهِ ان قَالُوا كل عَالم بصدد الزلل فَإِذا لم تجب لَهُ الْعِصْمَة لم تقم بقوله الْحجَّة واذا كَانَ الْمُجْتَهد قَادِرًا على التَّمَسُّك بالحجاج وَالِاجْتِهَاد فَذَلِك احرى لَهُ
وَهَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة فَيُقَال لَهُم ان زعمتم ان من لَا يجب لَهُ الْعِصْمَة لَا يجوز الرُّجُوع الى قَوْله وَهل تنازعون الا فِي هَذَا فَلَو قَالَ الرب تَعَالَى مهما صدر قَول من عَالم فقبلوه وان جوزتم خطأه فحكمي

(1/109)


عَلَيْكُم مُوجب حكمه وَلَا عَلَيْكُم لَو اخطأ فِي نَفسه كَانَ ذَلِك غير مُسْتَحِيل
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك انا نرْجِع الى قَول الروَاة مَعَ جَوَاز زللهم وَنَرْجِع الى طرق الِاعْتِبَار فِي المجتهدات وان كُنَّا لَا نقطع بهَا وَنَرْجِع الى قَول الشُّهُود فِي الحكومات والخصومات مَعَ انا لَا نقطع بصدقهم فَبَطل التعويل على هَذِه الطَّرِيقَة
وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ ايضا ان قَالُوا اذا اسْتَوَى العالمان فِي التَّمَكُّن من الِاجْتِهَاد ينزلان فِي ذَلِك منزلَة الْعَاميّ والعالم فِي اصل الدّين فانهما لما اسْتَويَا فِي تصور الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَر من كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي اصل الدّين لم يجز للعامي تَقْلِيد الْعَالم فِيمَا يقدر على الِاجْتِهَاد فِيهِ وَكَذَلِكَ العالمان فِي الْفُرُوع
فَيُقَال لَهُم هَذَا غير مُسْتَقِيم فانا لَو قَدرنَا وُرُود الشَّرْع بتقليد الْعَالم الْعَالم فِي الْفُرُوع لم يسْتَحل كَمَا قدمْنَاهُ فِي صدر الْبَاب وَلَو قَدرنَا وُرُود الشَّرْع بالتقليد فِي معرفَة الله تَعَالَى لَكَانَ مستحيلا فَإِن من شُرُوط

(1/110)


وُرُود التَّكْلِيف معرفَة الْمُكَلف وَلنْ يعلم من طَرِيق التَّقْلِيد وَلَو قَالَ تَعَالَى لَا تستدلوا وَاعْلَمُوا لَكَانَ ذَلِك من قبيل تَكْلِيف الْمحَال وَهَذَا بَين لكل من تَأمله على ان الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع انما هُوَ تمسك بِمَا لَا يقطع بِهِ وَلَيْسَ كالاستدلال فِي الاصول وكل مَا يوردونه يبطل تقريبه من الطّرق الَّتِي ذَكرنَاهَا
وَمِمَّا يستدلون بِهِ ايضا ان قَالُوا لَو جَازَ للْعَالم تَقْلِيد الْعَالم لما افترق المتبع والمتبع وَالشّرط ان يُفَارق التَّابِع الْمَتْبُوع اما فِي علم واما فِي عصمَة وَقد عدما جَمِيعًا فِي الْمُتَنَازع فِيهِ
فَيُقَال لَهُم وَهَذِه دَعْوَى ايضا ثمَّ نقُول لم شرطتم اخْتِلَاف التَّابِع والمتبوع فِي الْعِصْمَة اَوْ الْعلم وَعَن هَذَا يسْأَلُون فيضعف كل مَا يعتصمون بِهِ

(1/111)


وَرُبمَا يستدلون بظواهر لَا تقوم بهَا حجَّة وَهِي كَثِيرَة وَالَّذِي يجب التعويل عَلَيْهِ ان نقُول لَو جَوَّزنَا للْعَالم ان يُقَلّد الْعَالم لَكَانَ قَوْله فِي حَقه علما مَنْصُوبًا على الحكم الْوَاجِب عَلَيْهِ وَينزل ذَلِك منزلَة سَائِر الادلة المنصوبة فِي الشرعيات على مَا اوضحناه فِيمَا سبق فَإِذا كَانَ كَذَلِك فيستحيل اثباته دَلِيلا عقلا فَإِن الادلة السمعية يدْرك جَوَاز كَونهَا ادلة بالعقول فاما ان يدْرك ثُبُوتهَا ادلة بالعقول فَلَا فانها لَا تدل على مدلولالتها لانفسها وانما تدل بِنصب صَاحب الشَّرِيعَة اياها ادلة
فاذا وضح ذَلِك قُلْنَا قد قَامَت الادلة القاطعة على انتصاب المقاييس والعبر وَغَيرهَا من طرق الِاجْتِهَاد ادلة وَبَقِي التَّقْلِيد على النزاع وموارد الشَّرْع الَّتِي تلتمس مِنْهَا دلالات الْقطع مضبوطة مِنْهَا نُصُوص الْكتاب وَالسّنَن المستفيضة واجماع الامة وَلَيْسَ مَعَ خصومنا نَص كتاب وَلَا نَص سنة مستفيضة وَلَا يَنْبَغِي الاجماع فِي مَوضِع الْخلاف ايضا فَهَذَا مصَادر الادلة الشَّرْعِيَّة القطعية فاذا انسدت بَطل كَون قَول الْعَالم حجَّة فِي حق

(1/112)


عَالم مثله فان قَالُوا اما الاجماع فَلَا ندعيه واما نُصُوص الْكتاب فَلم زعمتم انتفاؤها وَهل هَذَا الا تمسك مِنْكُم بِالدَّعْوَى وَكَذَلِكَ الْمُطَالبَة بالسنن
قيل لَهُم هَذَا الان تعنت مِنْكُم وعناد فَإنَّا قُلْنَا لَيْسَ مَعكُمْ نَص كتاب لَا يقبل التَّأْوِيل فِي اثبات التَّقْلِيد وَلَا يمكننا ان نتلو الْقُرْآن عَلَيْكُم من اوله الى اخره وَلَكنَّا تأملنا مَا فِيهِ اعتصامكم من أَي الْكتاب فرأيناها لَا تبلغ مبالغ النُّصُوص ويعارضها مَا هُوَ اقوى مِنْهَا فِي الِاحْتِجَاج وَمَا قُلْنَاهُ فِي السّنَن يتَحَقَّق على هَذَا الْمنْهَج اذ لَيْسَ فِيهَا نَص وَلَو قدر كَانَ سَبيله الاحاد
وتتأكد هَذِه الدّلَالَة بِأَصْل نوضحه فَنَقُول لَا ينْتَصب النَّص دَلِيلا وعلما فِي الشرعيات الا بِدلَالَة قَاطِعَة فَإِنَّهُ لَو ثَبت بِمَا لَا يقطع بِهِ لاحتاج الى اثبات يُثبتهُ ثمَّ تسلسل القَوْل فِيهِ الا مَا لَا يتناهى فَهَذِهِ هِيَ الدل الة السديدة وَمَا عَلَيْهَا معترض

(1/113)


فان قَالُوا اكثر مَا ادعيتموه انْتِفَاء وُرُود الشَّرْع بِنصب قَول الْعَالم علما فِي حق الْعَالم وَعدم وُرُود الشَّرْع لَا يدل على تَحْرِيم التَّقْلِيد فَإِن التَّحْرِيم يفْتَقر الى دَلِيل كَمَا ان الاباحة تفْتَقر الى دَلِيل فانتفاء دَلِيل الاباحة لَا يدل على التَّحْرِيم
وَهَذَا لعمري سُؤال يجب الاعتناء بِالْجَوَابِ عَنهُ فَنَقُول اذا ثَبت ان قَول الْعَالم لم ينْتَصب علما شرعا وَلم يقم عَلَيْهِ الظَّن حجَّة وَمثل ذَلِك لَو قدر لَكَانَ سَبيله الشَّرْع فقد وضح وجوب الِاجْتِهَاد بالادلة القاطعة فَلَا سَبِيل الى ترك مَا ثَبت قطعا بِمَا لم يثبت
ويتضح هَذَا بِأَن نقُول اجْمَعْ الْمُسلمُونَ على ان من تصدى لَهُ طَرِيقَانِ شرعيان وَصَحَّ طَرِيق الشَّرْع فِي احدهما وجوبا وَلم يرد الشَّرْع فِي الثَّانِي لَا نفيا وَلَا اثباتا فَيجب التَّمَسُّك بِمَا وضح الشَّرْع فِيهِ وَهَذَا اجماع فاذا ثَبت لنا انْتِفَاء الادلة السمعية فَتثبت مُلَازمَة الِاجْتِهَاد بطرِيق الاجماع وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ
واوما القَاضِي رَحمَه الله الى الِاسْتِدْلَال بالظواهر المنصوبة على الامر بِالِاعْتِبَارِ نَحْو قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَقَوله تَعَالَى {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} الى غير ذَلِك من الظَّوَاهِر الدَّالَّة على وجوب الِاعْتِبَار وَهِي سهلة الْمدْرك اذا تتبعتها وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم}

(1/114)


وَلذَلِك شَوَاهِد من سنة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلكنهَا احاد
وكل مَا ذَكرْنَاهُ دَلِيلا فِي هَذَا الْفَصْل فَهُوَ دَلِيل فِي جملَة فُصُول الْبَاب ونرد بِهِ على من جوز الْفَتْوَى بالتقليد وعَلى من جوز تَقْلِيد الاعلم فطريق الرَّد على جَمِيعهم وَاحِد غير مُخْتَلف
شبه الْمُخَالفين

فمما استدلوا بِهِ ان قَالُوا اذا جَازَ للعامي ان يُقَلّد الْعَالم لم يستبعد ذَلِك فِي الْعَالم فانه فِي حَال تَقْلِيده غير عَالم بِمَا قَلّدهُ فِيهِ كَمَا ان الْعَاميّ غير عَالم بِمَا يستفتي فِيهِ
وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام اذ ذكرنَا ان الْعَاميّ لَا يكون مُقَلدًا فِي استفتائه وَلَكِن ينزل قَول الْعَالم فِي حَقه منزلَة الادلة فِي حق الْمُجْتَهدين وَقد قَامَت دلَالَة الاجماع على انتصاب قَول الْعَالم علما عَلَيْهِ وَلَا دَلِيل على كَونه علما فِي حق الْعَالم وَلَيْسَت هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا يتَمَسَّك فِيهَا بالطرديات ونسلك فِي مفاتحة الْكَلَام عَلَيْهِم اذا تمسكوا بِهَذَا الطَّرْد ان نطالبهم باثبات عِلّة الاصل ليتَحَقَّق بعد ذَلِك الْجمع بَين الْفَرْع والاصل وَلَا سَبِيل لَهُم الى ذَلِك
وَقد استدلوا بجملة من الظَّوَاهِر اقربها قَوْله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ}

(1/115)


وَهَذَا الْمُجْتَهد غير عَالم بالحادثة الَّتِي وَقعت اذ لم يتَّفق اجْتِهَاده فِيهَا فَيَنْبَغِي ان يسْأَل من يعلمهَا
فَنَقُول هَذَا الَّذِي ذكرتموه يُخَالف الظَّاهِر واقوال الْمُفَسّرين وَذَلِكَ ان المعني بالاية توجه الامر بالسؤال على الَّذين لَا يتمكنون من الِاجْتِهَاد ومجرى الاية ينبىء عَن ذَلِك فَأَنَّهُ تَعَالَى قسم السَّائِل والمسؤول قسمَيْنِ فوصف المسؤول بِكَوْنِهِ من اهل الذّكر وَوصف السَّائِل بِأَنَّهُ لَا يعلم هَذَا الضَّرْب من التَّقْسِيم تَصْرِيح بِأَن السَّائِل من الَّذين لَا يعدون من الْعلمَاء فَلَا ينْدَرج تَحْتَهُ من وَقعت لَهُ حَادِثَة وَهُوَ قَادر على دَرك الحكم فِيهَا
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك ان من جوز تَقْلِيد الْعَالم لم يشْتَرط ان

(1/116)


يكون الْمُقَلّد قد سبق مِنْهُ النّظر وَالِاجْتِهَاد قبل اسْتِيفَائه ليَكُون عَالما عِنْد الاستفتاء بل جوز ان يبتدأ المسؤول الِاجْتِهَاد بعد السُّؤَال فَيكون المسؤول اذا على قَول المستدلين بِظَاهِر الاية مِمَّن لَا يعلم وَهَذَا وَاضح جدا فِي رد استدلالهم