الاجتهاد (من كتاب التلخيص لإمام الحرمين)

فصل تَقْلِيد الْعَالم للْعَالم فِي تَكْلِيف ضَاقَ وقته

اذا وَقعت حَادِثَة وفيهَا على الْمُجْتَهد تَكْلِيف وَلَو اجْتهد لفات مَا كلف اذ الْوَقْت مضيق وَلَو قلد عَالما قد فرغ من الِاجْتِهَاد لتمكن من اقامة الْفَرْض فَهَل لَهُ التَّقْلِيد فِي هَذِه الصُّورَة
اخْتلف اصحاب الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيهِ فَذهب الْمُزنِيّ الى جَوَاز التَّقْلِيد وَذهب غَيره الى منع التَّقْلِيد
وَمن منع التَّقْلِيد اسْتدلَّ بِأَنَّهُ من الْمُجْتَهدين وَقد ثَبت منع تَقْلِيد الْمُجْتَهدين وَلَا يعْتَبر ذَلِك بِضيق الْوَقْت وَلَا سعته وانما يعْتَبر الِاجْتِهَاد على القَوْل بِمَنْع التَّقْلِيد شرطا فِيمَا يُعلمهُ الْمُجْتَهد من الحكم وَمَا كَانَ من

(1/117)


الشَّرَائِط فَلَا يخْتَلف الحكم فِيهِ بخشية الْفَوات وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ستر الْعَوْرَة وَالطَّهَارَة وَمَا عَداهَا من شَرَائِط الصَّلَاة
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله وَالْكَلَام فِي هَذَا الضَّرْب لَا يكَاد يلْحق الْقطع فَإنَّا وان منعناه من التَّقْلِيد فَيتَعَيَّن عَلَيْهِ اقامة الْفَرْض من غير اجتهادعلى مَا يتَّفق وَلَا يَجْعَل الِاجْتِهَاد شرطا فِي اقامة فرض الْوَقْت فَإِذا كَانَ يُصَلِّي على الِاتِّفَاق عِنْد التباس امارات الْقبْلَة فَلَا يبعد ان يُصَلِّي مُقَلدًا وَالْمَسْأَلَة من الْفُرُوع فتدبرها
فَهَذَا اُحْدُ قسمي الْكَلَام فِي التَّقْلِيد فان ذكرنَا فِي صدر الْبَاب ان نتكلم فِي فصلين

(1/118)


احدهما تَقْلِيد الْعلمَاء بَعضهم بَعْضًا من غير الصَّحَابَة
وَالثَّانِي تَقْلِيد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَبَقِي علينا الْكَلَام فِي تَقْلِيد الصَّحَابَة
القَوْل فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ
وَهل ينْتَصب قَوْله حجَّة وَذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ
اخْتلف الْعلمَاء فِي قَول الصَّحَابِيّ الْمُجْتَهد فَذهب الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم الى انه حجَّة يجب على الْمُجْتَهدين من اهل سَائِر الاعصار التَّمَسُّك بِهِ ثمَّ قَالَ لَهُم انما يكون حجَّة اذا لم تخْتَلف الصَّحَابَة وَلَكِن نقل قَول وَاحِد عَن وَاحِد وَلم يظْهر خلاف فَيكون حِينَئِذٍ حجَّة وان لم ينتشر
وَقَالَ فِي بعض اقواله اذا اخْتلف الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فالتمسك بقول الْخُلَفَاء اولى وهذ كالدليل على انه لم يسْقط الِاحْتِجَاج باقوال الصَّحَابَة لاجل الِاخْتِلَاف
وَقَالَ فِي بعض اقواله الْقيَاس الْجَلِيّ يقدم على قَول الصَّحَابِيّ

(1/119)


وَقَالَ فِي مَوضِع اخر ان قَول الصَّحَابِيّ مقدم على الْقيَاس

(1/120)


واجمعوا ان قَول الصَّحَابِيّ لَا يكون حجَّة على الصَّحَابِيّ
وَالظَّاهِر من الْمذَاهب انهم اذا اخْتلفُوا يسْقط الِاحْتِجَاج باقوالهم فنبدأ بِمَا تمسك بِهِ الْقَائِلُونَ بَان قَول الصَّحَابِيّ حجَّة
فمما استدلوا بِهِ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي
فَنَقُول لَهُم انما عني بِالسنةِ الامر فِيهَا بِلُزُوم الطَّاعَة للخلفاء

(1/121)


والتحضيض على الانقياد وَالطَّاعَة باقصى الْجهد
فان زَعَمُوا ان الامر بالاقتداء عَام فَمَا ذَكرُوهُ سَاقِط من وَجْهَيْن
احدهما انا لَا نقُول بِالْعُمُومِ
وَالثَّانِي ان الحَدِيث غير منطو على صِيغَة عُمُوم فَإِن السّنة لَيْسَ فِيهَا قَضِيَّة عُمُوم بل هِيَ لَفْظَة مُحْتَملَة وَالدَّلِيل على ذَلِك انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ يُرِيد الِاحْتِجَاج بقول الصَّحَابِيّ على مَا يَعْتَقِدهُ المخالفون لما خصص الْخُلَفَاء بِالذكر فَلَمَّا اراد بِمَا قَالَه الطَّاعَة خصصه بالخلفاء
وَمِمَّا استدلوا بِهِ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ اصحابي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ
فَنَقُول لَهُم بِمَا تنكرون على من يزْعم انه اراد بذلك امْر الْعَوام فِي عصره بالاقتداء بالعلماء
فان قَالُوا ان اللَّفْظَة عَامَّة قيل لَهُم وَنحن لَا نقُول بِالْعُمُومِ على انكم خصصتم اللَّفْظ فِي حق الصَّحَابَة بَعضهم مَعَ بعض وَالَّذِي يُوضح بطلَان احتجاجهم ان اللَّفْظَة منبئة عَن تَخْيِير وَالدَّلِيل على ذَلِك انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بِأَيِّهِمْ اقديتم اهْتَدَيْتُمْ

(1/122)


وَهَذَا فِي الظَّاهِر ينبىء عَن اخْتلَافهمْ فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة ثمَّ يُخَيّر الْمُجْتَهد فِي الاخذ بقول ايهم شَاءَ وَلَو اخْتلفُوا لسقط الِاحْتِجَاج بقَوْلهمْ عِنْد مخالفينا فَسقط استدلالهم من كل وَجه
وَرُبمَا يتمسكون بجمل من الظَّوَاهِر يؤول مرجعها الى مَا ذَكرْنَاهُ
وَرُبمَا يتمسكون بطرق من الْمَعْنى فَيَقُولُونَ ان اصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم شاهدوا الْوَحْي والتنزيل ومواقع الْخطاب وشهدوا قَرَائِن الاحوال فَلَا يصدر القَوْل مِنْهُم مَعَ وُرُود الشَّرْع باحسان الظَّن بهم الا وَهُوَ الْحق
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ لَا طائل تَحْتَهُ فانهم مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ بصدد الزلل لم يقم حجَّة قَاطِعَة على الِاسْتِدْلَال بقَوْلهمْ وَلَا يدل الْعقل على ذَلِك ايضا فَلم يبْقى فِيمَا ذَكرُوهُ معتصم
وَدَلِيلنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة هُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَة الاولى فِي منع التَّقْلِيد فأطردها على وَجههَا
وَقد اعْتبر بعض المعتبرين بِمَا اذا اخْتلف الصَّحَابَة وَاعْتبر بَعضهم

(1/123)


ذَلِك بقول الصَّحَابَة بَعضهم على بعض والاولى التعويل على النُّكْتَة الَّتِي قدمناها فَإنَّك اذا قست على صُورَة الْخلاف لم يسلم قياسك اذ يَقُول الْمُخَالف لَا استبعاد فِي نصب قَول الصَّحَابِيّ علما وَحجَّة شرعا من غير اخْتِلَاف فَإِذا ظهر اخْتلَافهمْ لم ينْتَصب حجَّة وَالْجمع بَينهمَا ضرب من الطَّرْد والاحسن ان اردت التَّمَسُّك بِهَذَا الْفَصْل ان تورده مستفصلا مُسْتَغْرقا وَلَا يسْتَدلّ بِهِ بدءا فقلما تستقيم للخصم طَرِيق من الطّرق وَقد اطنب القَاضِي فِي كَلَام بعض مخالفينا على بعض وَمن احكم مَا قُلْنَاهُ هان عَلَيْهِ مَا سواهُ
القَوْل فِي صفة الْعَالم الَّذِي يسوغ لَهُ الْفَتْوَى فِي الاحكام

اجْمَعُوا على انه لَا يحل لمن شدا شَيْئا من الْعلم ان يُفْتِي وانما

(1/124)


يحل لَهُ الفتي وَيحل للْغَيْر قبُول قَوْله فِي الْفَتْوَى اذا استجمع اوصافا
مِنْهَا ان يكون عَالما بطرق الادلة ووجوهها الَّتِي مِنْهَا تدل وَالْفرق بَين عقليها وسمعيها وَيكون عَالما بقضايا الْخطاب مَا يحْتَمل مِنْهُ وَمَا لَا يحْتَمل ووجوه الِاحْتِمَال وَالْخُصُوص والعموم والمجمل والمفسر والصريح والفحوى وَالْجُمْلَة الجامعة كَمَا فَرْضه القَاضِي من هَذَا الْقَبِيل ان يكون عَالما باصول الْفِقْه وَقد حددنا اصول الْفِقْه بِمَا يتَمَيَّز بِهِ عَن سَائِر الْفُنُون
وَمِمَّا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد ان يكون عَالما بِالْآيَاتِ الْمُتَعَلّقَة بالاحكام من كتاب الله تَعَالَى وَلَا يشْتَرط حفظ مَا عَداهَا من الْآيَات
وَمِمَّا يشْتَرط ان يُحِيط من سنَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يتَعَلَّق بالاحكام حَتَّى لَا يشذ مِنْهَا الا الاقل وَلَا نكلفه الاحاطة بجميعها فان ذَلِك مِمَّا لَا يَنْضَبِط

(1/125)


وَمِمَّا يشْتَرط ان يكون ذَا دراية فِي اللُّغَة والعربية وَلَا يشْتَرط ان يُحِيط بمعظمها وفَاقا فان الاحاطة بمعظم اللُّغَة والعربية يستوعب الْعُمر وَهَذِه رُتْبَة لم يَدعهَا أَئِمَّة اللُّغَة والعربية وايضا فانما يشْتَرط من اللُّغَة والعربية قدر مَا يتَوَصَّل بِهِ الى معرفَة الْكتاب وَالسّنة وَلَا يجزىء ان ياخذ تَفْسِير الايات والاخبار تقليدا بل يشْتَرط ان يتدرب فِي اللُّغَة والعربية بِحَيْثُ يكون مِنْهَا على ثِقَة وخبرة
وَمِمَّا يشْتَرط ان يكون عَالما بمطاعن الاخبار الْمُتَعَلّقَة بالاحكام وَلَا يشْتَرط ان يجمع علم الحَدِيث بل يجزىء ان يُحِيط علما بِمَا قَالَه أَئِمَّة الحَدِيث فِي الاخبار الْمُتَعَلّقَة بالاحكام
وَمِمَّا يشْتَرط ان يُحِيط علما بمعظم مَذَاهِب السّلف فانه لَو لم يحط بهَا لم يَأْمَن من خرق الاجماع فِي الفتاوي

(1/126)


ثمَّ يشْتَرط بعد ذَلِك ان يكون ورعا فِي دينه
وَقد ذكر القَاضِي فِي خلال كَلَامه مَا يدل على ان التبحر فِي فن الْكَلَام شَرط فِي استجماع اوصاف الْمُجْتَهدين
قلت وَلست ارى ذَلِك شرطا اذا الْأَئِمَّة فِي الاعصار الخالية مَا زَالُوا يفتون فِي الْحَوَادِث وَكَانُوا لَا يشتغلون بطرق حجاج الْمُتَكَلِّمين وَقد اشار الاستاذ ابو اسحق الى قريب مِمَّا ذكره القَاضِي وَمَا صَار اليه الْفُقَهَاء قاطبة عدم اشْتِرَاط ذَلِك