الاجتهاد (من كتاب التلخيص لإمام الحرمين) القَوْل فِي صفة المستفتي وَمَا عَلَيْهِ
من الِاجْتِهَاد
اجْمَعْ الْعلمَاء على ان الْعَاميّ لَا يجب عَلَيْهِ سبر طرق
الادلة فِي
(1/127)
احاد الْمسَائِل فَإِنَّهُ لَا يبلغ الى
ذَلِك الا بِأَن يستجمع اوصاف الْمُجْتَهدين وَلَو كلفنا
النَّاس اجْمَعْ ان يبلغُوا انفسهم رُتْبَة الْمُفْتِينَ
لانقطعوا عَن اسباب المعايش وافضى ذَلِك الى امْتنَاع الطّلب
على الطّلبَة ايضا فاذا ثَبت انه لَا يجب عَلَيْهِم
الِاجْتِهَاد فِي احاد الْمسَائِل وانما فَرْضه الرُّجُوع الى
قَول الْمُفْتِي فَهَل عَلَيْهِ ان يجْتَهد فِي اعيان
الْمُفْتِينَ
ذهب بعض الْمُعْتَزلَة الى انه لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء من
الِاجْتِهَاد وَهَذَا اجتراء مِنْهُم على حرق الاجماع فان
الامة مجمعة على ان من عنت لَهُ حَادِثَة لم يسغْ لَهُ ان
يستفتي فِيهَا كل من يلقاه
(1/128)
فَلَو نَفينَا وجوب الِاجْتِهَاد جملَة
افضى ذَلِك الى تَجْوِيز الاستفتاء من غير فحص وتنقير عَن
احوال الْمُفْتِينَ وَهَذَا تورط فِي مراغمة الِاتِّفَاق فاذا
وضح بِمَا قدمْنَاهُ وجوب ضرب من الِاجْتِهَاد فمبلغه ان
يسْأَل عَن احوال العماء حَتَّى اذا تقرر لَدَيْهِ بقول
الاثبات والثقات ان الَّذِي يستفتي مِنْهُ بَالغ مبلغ
الِاجْتِهَاد فيستفتي حِينَئِذٍ
ثمَّ ردد القَاضِي جَوَابه فَقَالَ لَو قَالَ قَائِل اذا اخبره
بذلك عَدْلَانِ مهتديان الى مَا يخبران عَنهُ فَلهُ الاجتزاء
باخبارهما كَانَ ذَلِك مُحْتملا وَلَو قَالَ قَائِل انه لَا
يستفتي الا من استفاضة الاخبار عَن بُلُوغه مبلغ الِاجْتِهَاد
كَانَ ذَلِك مُحْتملا والى الْجَواب الاخير مَال القَاضِي
وَالْمَسْأَلَة على الِاحْتِمَال كَمَا ترَاهَا
(1/129)
فصل فِي جَوَاز تَقْلِيد الْعَالم مَعَ
وجود الأعلم
اذا لم يكن فِي الْبَلدة الَّتِي فِيهَا المستفتي الا عَالم
وَاحِد فيقلده وَلَا يُكَلف الِانْتِقَال عَنهُ
وان جمعت الْبَلدة الْعلمَاء وكل مِنْهُم بَالغ مبلغ
الِاجْتِهَاد فقد ذهب الْفُقَهَاء الى ان الْوَاجِب عَلَيْهِ
ان يُقَلّد الاعلم مِنْهُم وَلَا يسوغ لَهُ تَقْلِيد من عداهُ
وَهَذَا غير صَحِيح والسديد أَن لَهُ ان يُقَلّد من شَاءَ
مِنْهُم وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك ان الَّذِي ثَبت فِي شَرَائِط
الْمُفْتِي مَا قدمْنَاهُ فاذا اتّصف الْمَرْء بِهِ سَاغَ
تَقْلِيده وَلم يثبت فِي اصول الشَّرِيعَة رِعَايَة مَا يزِيد
على الشَّرَائِط الَّذِي قدمناها
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك ان الصَّحَابَة رضوَان الله
عَلَيْهِم انقسموا الى الْفَاضِل والمفضول وَكَانَ الصّديق
رَضِي الله عَنهُ افضلهم فِي مَذْهَب
(1/130)
اهل الْحق ثمَّ لم يكلفوا المستفتين ان لَا
يستفتوا غَيره بل لم يجمعوا السَّائِلين على اُحْدُ تعيينا
مِنْهُم وتخصيصا فوضح بذلك انه لَا يتَعَيَّن على المستفتي
التَّعَرُّض للاعلم
فَلَو قَالَ قَائِل فجوزوا على مَا ذكرتموه امامة الْمَفْضُول
قُلْنَا هَذَا خوض مِنْكُم فِي غير هَذَا الْفَنّ وَقد اقمنا
فِيمَا نَحن فِيهِ اوضح دلَالَة فَمَا وَجه تمسككم بالامامة
وَذهب بعض من لاحظ لَهُ فِي الاصول الى ان المستفتي يَأْخُذ
باثقل الاجوبة ويغلظ الامر على نَفسه اذا تَعَارَضَت اجوبة
الْعلمَاء اذ الْحق ثقيل وَهَذَا تحكم من هَذَا الْقَائِل لَان
الثّقل لَيْسَ عَلامَة للصِّحَّة فَرب ثقيل بَاطِل وَرب سمح
صَحِيح كَيفَ وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بعثت بالحنفية السمحاء
(1/131)
فَإِن قَالَ قَائِل فلوا تعَارض فتوتان فِي
تَحْرِيم وَتَحْلِيل فَبِمَ يَأْخُذ المستفتي قُلْنَا يَأْخُذ
بأسبقهما اليه فان بَدْرًا من عَالمين جَمِيعًا اخذ
بِأَيِّهِمَا شَاءَ
نجز الْكتاب بِحَمْد الله وعونه وَحسن توفيقه وَالصَّلَاة
وَالسَّلَام على سيد الامم ومصباح الظُّلم النُّور الباهر
والمصباح الزَّاهِر مُحَمَّد خَاتم الانبياء وعَلى اله
الطاهرين وَالسَّلَام
وَكتاب الْمُجْتَهدين وَذكر القَوْل فِي اصول الْفِقْه للامام
ابي الْمَعَالِي من كتاب التَّلْخِيص رَحمَه الله ونفع بِهِ
قارئه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين
(1/132)
|