الإحكام في أصول الأحكام ط العاصمة الاحكام - ابن حزم ج 3
الاحكام
ابن حزم ج 3
(3/)
الاحكام في أصول الاحكام للحافظ ابى محمد
على بن حزم الاندلسي الظاهرى هذا الكتاب النفيس، الذى لم
ترالعين مثيله في علم الأصول أحمد شاكر قوبلت على نسخة أشرف
على طبعها الأستاذ العلامة أحمد شاكر رحمه الله الناشر زكريا
على يوسف مطبعة العاصمة بالقاهرة - ت 23680 الجزء الثالث بسم
الله الرحمن الرحيم لالباب الثاني عشر في الاوامر والنواهي
الواردة في القرآن وكلام النبي (ص) والاخذ بظاهرها وحملها على
الوجوب والفور وبطلان قول من صرف شيئا من ذلك إلى التأويل أو
التراخي أو الندب أو الوقف بلا برهان ولا دليل.
قال أبو محمد: الذي يفهم من الامر، أن الآمر أراد أن يكون ما
أمر، وألزم المأمور ذلك الامر، وقال بعض الحنفيين، وبعض
المالكيين، وبعض الشافعيين: إن أوامر القرآن والسنن ونواهيهما
على الوقف حتى يقوم دليل على حملها، إما على وجوب في العمل أو
في التحريم، وإما على ندب، وإما على إباحة، وإما على كراهة،
وذهب قوم من الطوائف التي ذكرنا، وجميع أصحاب
الظاهر إلى القول: بأن كل ذلك على الوجوب في التحريم أو الفعل
حتى يقوم دليل على صرف شئ من ذلك إلى ندب، أو كراهة، أو إباحة
فتصير إليه.
قال علي: وهذا هو الذي لا يجوز غيره، ونحن إن شاء الله تعالى
ذاكرون ما اعترض به المخالفون، وبطلان شغبهم بالبراهين
الصحيحة، ثم نذكر الادلة على صحة ما ذهبنا إليه، وبالله تعالى
التوفيق.
قال علي: فعمدة ما موهوا به أن قالوا: لو كان لفظ الامر موضوعا
للايجاب لم يوجد أبدا إلا كذلك، لكن لما وجدنا بلا خلاف منكم
لنا أوامر معناها الندب أو الاباحة، ووجدنا نواهي بلا خلاف
منكم لنا معناها الكراهة، وجب ألا نصرف الالفاظ إلى بعض ما
تحتمله من المعاني دون بعض، إلا بدليل، قالوا: وألفاظ الاوامر
عندنا من الالفاظ المشتركة التي لا تختص بمعنى واحد، لكنها
بمنزلة عير ورجل ولون وعين، فإن قولك: رجل ليس هو بأن يوقع على
العضو، أولى منه بأن يوقع على جماعة الجراد، وقولك: عير ليس
بأن يوقع
(3/259)
على الحمار أولى من أن يوقع على العظم الذي
في القدم، وقولك: عين ليس بأن يوقع على يمين عين النظر، أولى
من أن يوقع على عين الماء، وقولك: لون ليس بأن يوقع على
الحمرة، أولى من أن يوقع على البياض، فكذلك قول القائل افعل
لما وجد يراد به الندب، ووجد يراد به إيجاب، لم يكن إيقاعه على
الايجاب أولى من إيقاعه على الندب إلا بدليل.
قال علي: هذا شغب فاسد، وذلك أنا نقول وبالله تعالى التوفيق:
إن لكل مسمى من عرض أو جسم اسما يختص به، يتبين به مما سواه من
الاشياء ليقع بها التفاهم، وليعلم السامع المخاطب به مراد
المتكلم المخاطب له، ولو لم يكن ذلك لما كان تفاهم أبدا، ولبطل
خطاب الله تعالى لنا، وقد قال الله تعالى وما أرسلنا من
رسول إلا بلسان قرمه ليبين لهم ولو لم يكن لكل معنى اسم منفرد
به لما صح البيان أبدا، لان تخليط المعاني هو الاشكال نفسه،
فإذن الاصل ما ذكرناه بضرورة العقل، وبنص القرآن، ثم وجدنا في
اللغة أشياء مما ذكروا من أسماء تقع على معان شتى، ووجدناها
أيضا أسماء يختص كل اسم منها بمسماه فقط، وعلمنا أن المراد
باللغة إنما هو الافهام لا الاشكال، لزمنا أن نلزم الاصل الذي
هو اختصاص كل معنى باسمه دون أن يشاركه فيه غيره، حتى يصح
عندنا أن هذا الاسم مرتب بخلاف هذ الرتبة، وأنه مما لا يقع به
بيان فيطلب بيانه حينئذ من غيره.
قال علي: والذي شبهوا به الاوامر من الاسماء المشتركة التي
ذكروا، مثل لون وعير ورجل تشبيه فاسد ضرورة، وذلك أن المخاطب
إذا خاطبنا بخبر ما عن رجل أو عن لون أو أمرنا بأمر ما في ذلك
فممكن أن نحمل خبره وأمره على كل ما يقتضيه ما ذكر مثل أن
يقول: لا تأكلوا عيرا فيجتنب كل ما يقع عليه اسم عير، وإن
اختلفت أنواعه، وكذلك قوله تعالى: انظروا إلى ثمرة إذا أثمر
كان ذلك واقعا على كل ثمر، وإن اختلفت أنواعه، وكذلك قول
القائل: الهواء لا لون له.
فقد انتفى بذلك عنه البياض والحمرة والسواد والخضرة والصفرة،
فالفائدة بالخطاب بهذه الاسماء قائمة، والتفاهم ممكن، وحملها
على ما يقتضيه جائز حسن إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعض ما
تحتها فيصار إليه.
(3/260)
وهذا غير ممكن في الاوامر التي أرادوا أن
يشبهوها بالاسماء التي ذكرنا، لانه إذا قيل لنا: افعلوا، وكان
هذا اللفظ ممكنا أن يراد به الايجاب وممكنا به الندب أو
الاباحة، فلا سبيل في بنية الطبيعة إلى حمله على كل الوجوه
التي ذكرنا، إذ ممتنع بالضرورة أن يكون الشئ ملزما ولا بد،
ومباحا تركه في وقت واحد لانسان واحد، هذا محال لا يمكن ولا
يقدر عليه، فيبطل تشبيههم، وصح أن الامر
لو كان كما ذكروا لكان غير مقدر على الائتمار له أبدا، ولو كان
ذلك لبطل الامر كله ضرورة، وإذ قد صح ورود الامر من الله عز
وجل، وصح التخاطب بالاوامر في اللغة بين الناس، علمنا أنه لا
يجوز أن يخاطبنا تعالى بما لا سبيل إلى الائتمار له وبالمحالات
التي لا نقدر عليها، وصح أن الامر مراد به معنى مختص بلفظه
وبنيته وليس ذلك إلا كون ما خوطب به المأمور، وبالله تعالى
التوفيق.
قال علي: وإنما الذي ذكروا من أنهم قد وجدوا أوامر معناها
الندب فصدقوا، والوجه في ذلك أننا قد وجدنا في اللغة ألفاظا
نقلت على معهودها وعن موضوعها في اللسان، وعلقت على أشياء أخر،
فعل ذلك خالق اللغة وأهلها الذي رتبها كيف شاء عز وجل، أو فعل
في ذلك بعض أهل اللغة من العرب، أو فعل ذلك مصطلحان فيما
بينها، كما نقل تعالى اسم الصلاة عن موضوعها في اللغة، عن
الدعاء إلى استقبال الكعبة، ووقوف وركوع وسجود وجلوس، بصفات
محدودة لا تتعدى، وكما نقل تعالى اسم الصيام عن الوقوف إلى
امتناع الاكل والشرب والوطئ في أيام معلومة، وكما نقل اسم
الكفر عن التغطية إلى أقوال محدودة ونيات معلومة، فإذا قد
وجدنا ذلك لزمنا، إذ قام دليل، على أن لفظا ما قد نقل عن
موضوعه من اللغة، ورتب في مكان آخر أن يعتقد ذلك، وإما ما لم
يقم دليل على نقله فلا سبيل إلى إحالته عن مكانه البتة، وقد
قال بعض المفسدين للحقائق، المتكلمين بما لا يعقل، ليس هذا
نقلا، إنما النقل ما لم يجز أن يبقى على ما نقل عنه.
قال علي: وهذا تحكم لا يعرفه أهل اللغة، بل كل حال أحيلت، فقد
تنقل حكمها عما كان عليه، والاسم إذا وقع على معنى ما فأوقعه
الله تعالى أيضا على معنى آخر، فقد نقله على حكم الوقوع على
معنى واحد إلى حكم الوقوع على معنيين، وأيضا
(3/261)
فلسنا نحاكرهم في لفظ النقل، وإنما نريد أن
اللفظة كانت تقع في اللغة على معنى
ما، فأوقعت أيضا على غير ذلك.
قال علي: ثم نقول لهم ما يلزمكم إن صححتم دليلكم الذي ذكرتم،
أنكم قد وجدتم آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة منسوخات لا يحل العمل
بها، أن تتوقفوا في كل آية، وفي كل حديث، لاحتمال كل شئ منها
في نفسه أن يكون منسوخا، كاحتمال كل أمر في نفسه أن يكون ندبا
فإن التزمتم ذلك كفرتم، وخرجتم عن الاسلام، وإن أبيت التزامه
أصبتم وكنتم قد أبطلتم دليلكم في أنه لما قد وجدت أوامر معناها
الندب وجب التوقف عن جميع الاوامر حتى يصح أنها إما إيجاب أو
ندب.
قال علي: وليس بين ما ألزمناهم من التوقف عن كل آية، وحديث من
أجل وجودهم آيات منسوخة وأحاديث منسوخات، وبين ما التزموا من
التوقف عن كل أمر من أجل وجودهم أوامر معناها الندب - فرق
البتة، بل هو ذلك بعينه لسنا نقول: إن مثله بل نقول إن المعنى
في ذلك واحد، وبيان ذلك: أن المنسوخ هو الذي لا يلزم أن
يستعمل، أو يجوز أن يستعمل، والمندوب إليه هو الذي لا يلزم
فرضا أن يستعمل أيضا، فقد اجتمعنا في سقوط وجوب الاستعمال
اجتماعا مستويا، وإنما افترقا أن المندوب إليه مباح استعماله،
والمنسوخ ليس مباحا استعماله في بعض الاحوال فقط، فبطل تمويههم
- وبالله تعالى التوفيق - بإقرارهم أنه ليس من أجل وجودنا
ألفاظا مصروفة عن مواضعها في اللغة، يجوز أن يتوقف في سائر
الالفاظ خوف أن تكون مصروفة عن مواضعها، فقد بطل الاستدلال
الذي أرادوا تحقيقه، وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن لفظة أو
ولفظة إن شئت مفهوم منهما التخيير بلا خلاف منا ومنهم، ومن
جميع أهل اللغة، وقد سمعناه تعالى يقول فمن شاه قليومن ومن شاء
فليكفر وسمعناه تعالى يقول: * (قل كونوا حجارة أو حديدا) *
وجدنا الدليل البرهاني قد قام على خروج هاتين الآيتين عن
التخيير إلى معنى آخر، فيلزم على
دليلهم الفاسد ألا يحملوا لفظة أو ولا لفظة إن شئت أبدا على
التخيير، لانه يقال لهم كما قالوا: لو كانت لفظتا أو وإن شئت
على التخيير لكانت متى وجدت لما تكن إلا للتخيير، فلما وجدت
لغير التخيير في عدة مواضع بطل أن تكون للتخيير.
(3/262)
قال علي: وفي هذا إبطال الكلام كله وإبطال
التفاهم وفساد الحق والشرائع كلها والعلوم كلها، لانه لا قول
إلا وقد يوجد موضوعا في غير بنيته في اللغة، إما على المجاز أو
الاتفاق بين المتخاطبين، فلو وجب من أجل ذلك أن يبطل حمل
الاسماء على معانيها التي رتبت لها في اللغة لبطل كل ما ذكرنا،
وكفى فسادا بكل قول أدى إلى إبطال الحقائق، وبالله تعالى
التوفيق قال علي: فإن قالوا: إنا لم نوافقكم على أن لفظ الامر
موضوعه في اللغة الوجوب، فيلزمنا ما ألزمتمونا، وإنما قلنا:
إنه ليس موضوعه في اللغة الوجوب دون الندب، ولا الندب دون
الوجوب.
قال علي: فنقول وبالله تعالى التوفيق: قد أبطلنا في كلامنا هذا
جواز وقوع لفظ الامر على الوجوب وعلى الندب معا، وفرقنا بين
ذلك وبين وقوع الالفاظ المشتركة مثل لون وعير على معان شتى،
وبينا أن ذلك جائز ممكن موجود، وأن وقوع لفظ الامر على الوجوب
وعلى الندب معا محال ممتنع لا سبيل إليه، ولا يتشكل في العقل
البتة فصح ضرورة أن لفظ الامر موضوع في أصل اللغة، إما للوجوب
فقط - ثم نقل بدليل كما ذكرنا في بعض المواضع إلى الندب، أو
إلى غير الوجوب من سائر المعاني التي سنبينها إن شاء الله
تعالى، وإما أنه موضوع في أصل اللغة للندب خاصة، أو لمعنى ما
من سائر المعاني التي قدوردت بلفظ الامر، ثم نقل إلى الوجوب
بدليل، فهذا هو الذي يتشكل في العقل، وأما احتمال وقوع لفظ
الامر على الندب والوجوب معا في وقت واحد، فهذا باطل لانه يوجب
أن ورود
الامر لا حقيقة له أصلا، ولا له معنى البتة، وهذا أحمق من قول
السوفسطائية فهذا الذي أردنا أن نبين إحالته، وقد صح والحمد
لله.
ولا بد لكم من المصير إلى أحد الخبرين ضرورة، إما أن تقولوا:
لفظ الامر موضوع للوجوب في اللغة، حتى يصح دليل بنقله إلى غير
الوجوب، وهذا قولنا، وإما أن تقولوا: لفظ الامر موضوع لغير
الوجوب في اللغة، حتى يصح دليل ينقله إلى الوجوب، فإن قلتم
ذلك، سهل أمركم بقول وجيز بحول الله وقوته، وحسبنا أن قد
قلعناكم بلطف الله عن مكان الشغب على الجهال، وذلك أن قول
القائل: الاوامر كلها على غير الوجوب حتى يصح دليل نقلها إلى
الوجوب، دخول
(3/263)
في عظيمتين: إحداهما خرق الاجماع، فما قال
بهذا أحد قط، وإنما شغب من شغب بالموقف، وبما قدمنا إبطاله من
احتمال الامرين، والثانية: إبطال فائدة العقل، لانه يصير حينئذ
قائلا: إن الموضوع في اللغة من لفظة افعل: لا تفعل إن شئت،
وهذا خلاف فهم جميع أهل اللغات، لان الثابت في فطرة العقل أن
النهي عن الشئ غير الامر به، وكفى، مع أن الاجماع على ترك هذا
القول كاف عن تكلف دليل.
وبرهان ضروري: وهو أنه إن كانت لفظة افعل موضوعة لغير الايجاب
إلا بدليل يخرجها إلى الايجاب، وكانت أيضا لفظة لا تفعل موضوعة
لغير التحريم إلا بدليل يخرجها إلى التحريم، وكان كلتا
اللفظتين تعطي: افعل إن شئت أو لا تفعل إن شئت، فقد صار ولا بد
من المفهوم من لا تفعل هو المفهوم من افعل، وهذا لا يقوله ذو
مسكة عقل.
قال علي: قالوا: وبأي شئ يدل على أنه على الوجوب أبنفسه أم
بدليله ؟ فإن قلتم: بنفسه ففي ذلك اختلفنا، وإن كان بدليله،
فإذا لم يدل هو فدليله أحرى أن لا يدل.
قال علي: وهذا شغب فاسد ضعيف جدا.
تعلقوا إليه من قبل مبطلي الحقائق، فإنهم قد سألونا بهذا
السؤال نفسه فقالوا: بماذا ثبت عندكم أن الاشياء حق ؟ أبأنفسها
ففيها اختلفنا، أم بغيرها فلا شئ في العالم يوجد من غير
الاشياء الموجودة، وليس غير الاشياء إلا لا شئ ؟ فإذا لم يدل
الشئ على حقيقة نفسه فلا شئ أحرى ألا يدل، وتعلق أيضا بهذا
السؤال مبطلو دلائل العقل فقالوا: بأي شئ علمتم صحة ما يدل
عليه العقل ؟ أبالعقل أم بغير العقل ؟ ونحو هذا من الهذيان
كثير، وهؤلاء القوم في شعبة من طريق مبطلي الحقائق ومبطلي
مدركات العقل.
ونعكس عليهم سؤالهم هذا السخيف الذي صححوه - فهو لازم لهم لا
لنا - إذ لم نصححه ونقول لهم: بأي شئ يدل الامر على أنه على
الوقف، أبنفسه أم بدليله ؟ فإن قلتم بنفسه ففي ذلك اختلفنا،
وإن كان بدليله، فإذا لم يدل هو فدليله أحرى ألا يدل، فمن أحمق
استدلالا ممن دليله عائد عليه، وهادم لقوله ؟ وإنما هم قوم لا
يحققون شيئا، إنما هم في سبيل التشغيب على الضعفاء، وما يخدعون
إلا أنفسهم.
(3/264)
والجواب عن هذا السؤال السخيف وبالله تعالى
التوفيق: أنا قد أخبرنا - فيما خلا وفي سائر كتبنا - بأننا
مضطرون إلى معرفة أن الاشياء حقائق، وأنها موجودة على حسب ما
هي عليه، وبأنه لا يدري أحد كيف وقع له ذلك وبينا أن هذه
المعرفة - التي اضطرنا إليها، وخلقها الباري تعالى في أنفسنا
في أول أوقات فهمنا بعد تركيبها في الجسد، هي أصل لتمييز
الحقائق من البواطن، وهي عنصر لكل معرفة، وإننا عرفنا إيجاب
الاوامر ببديهة العقل وبالتمييز الموضوعين فينا، لنعرف بها
الاشياء على ما هي عليه، فعلمنا أن الحجر صليب، وأن الماء سيال
في طبعه، وإن انتقل إلى الجمود في بعض أحواله، وأن قول القائل:
فلان أحمق، ذم، وأن قوله: فلان عاقل مدح، وأن الامر عنصر من
عناصر الكلام
التي هي خير ودعاء واستفهام وأمر، فلما استقر في النفس أن
إرادة الامر أن يفعل المأمور ما يأمره به، معنى قائم في النفوس
لم يكن له بد من عبارة يقع بها التفاهم، وعلمنا ذلك أيضا بنصوص
سنذكرها في تمام إبطال ما شغبتم به إن شاء الله تعالى، وبالله
نتأيد وإياه نستعين.
هذا كل ما احتج به القائلون بالوقف ولا مزيد، فقد أبطلناه
بالبرهان الضروري بتوفيق الله تعالى وتعليمه لا إله إلا هو،
إلا أن ابن المنتاب المالكي أتى بعظيمة فلزمنا التنبيه عليها
إن شاء الله تعالى وذلك أنه قال: إن من الدليل على أن الاوامر
على الوقف قول الله تعالى مخبرا عن أهل اللغة الذين هم العرب:
(ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا
العلم ماذا قال آنفا فال فلو كانت الاوامر على الوجوب،
والالفاظ على العموم، لما كان لسؤالهم عما قاله عليه السلام
معنى إذ لو فهم الوجوب والعموم من نفس اللفظ لكان سؤالهم
فاسدا.
قال علي: لا يشبه هذا القول احتجاج مسلم، لان الله تعالى حكى
هذا الاعتراض عن قوم منافقين كفار، لم يرض فعلهم ولا سؤالهم،
وإنما حكى الله عز وجل ذلك عنهم منكرا عليهم، وقد قال تعالى أو
يكفهم أنا أنزلنا عليك
(3/265)
الكتاب يتلى عليهم فأخبر تعالى أن ظاهر
القرآن وتلاوته تكفي أن ذلك يجب قبوله على ظاهره حين وروده هذا
نص الآية المذكورة، ووصية الله تعالى التي لا تحتمل غير ما
ذكرنا، ولا أعجب من احتجاج من يدعي أنه مسلم في إسقاطه إيجاب
طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله (ص) بكلام قوم كفار منافقين
مستهزئين بآيات الله عز وجل.
وما نعرف لهذا الاحتجاج مثلا في الشنعة والفظاعة، إلا قول
إسماعيل بن
إسحاق في كتابه الخمس وهو كتاب مشهور معلوم، ولنا عليه فيه رد
هتكنا عواره فيه، وفضحناه بحول الله وقوته، فإن قال في الكتاب
المذكور لو كان ما أعطى النبي (ص) صناديد قريش - من غنائم
هوازن، إثر يوم حنين - من نصيبه من خمس الخمس، كما قال
الشافعي، ما قالت الانصار في ذلك ولا قال ذو الخويصرة ما قال.
قال علي: فمن أضل ممن يحتج بكلام ذي الخويصرة ويتخذ ذا
الخويصرة وليجة من دون الله تعالى ورسوله (ص): ويجعل إنكار
كافر مشرك شر خلق الله هجور لرسول الله (ص)، حجة على المؤمنين
القائلين: إن رسول الله (ص) إنما أعطى من أعطى نصيبه الذي فوض
الله تعالى أمره إليه، لا مما جعله الله عز وجل لاقوام مسلمين
معروفين، اللهم إنا نبرأ إليك من هذا الكلام، ومن نصر مذهب قاد
إلى الاحتجاج بإنكار ذي الخويصرة على رسول الله (ص)، وبقول
المنافقين: ماذا قال آنفا.
(3/266)
ونحن نقول قول إنصاف - إذ قد اقتدى ابن
المنتاب بالقائلين إذ خرجوا من عند رسول الله (ص)، وقد استمعوا
إليه ثم قالوا لاهل العلم: ماذا قال آنفا وتبر أنا نحن منهم
ومن مثل سوالهم واقتدينا نحن بالدين قالوا سمعنا وأطفنا فلله
ما اختار، وله إن شاء الله تعالى ما أعطى الله للذين اقتدى
بهم، إذ قال عز وجل يعقب حكاية قولهم ما ذا قال آنفا أو لئلك
الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواء هم نحن راجون أن
يعطنا الله بمنه وطوله ما أعطى من اقتدينا بهم في قولهم سمعنا
وأطعنا طذا يقول تعالى إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى
الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقوله سمعنا وأطعنا وأولئك هم
المفلحون) * ونعم فليعلم الجاهل - المعترض بأقوال المنافقين
المشركين على كلام الله تعالى، وكلام رسوله (ص) - أن قول الذين
قالوا
للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا، لا معنى لسؤالهم هذا، ولا
يعقل سؤالهم لانه سؤال مجنون فاسد الدين ملعون وشغب بعهم بقول
تعالى وإذا حللتم فاصطا دوا وإذا اقضيت الصلاة فانتشروا في
الأرض قالوا: وهذا إباحة بلا شك، فقلنا: يجب عليكم إذا احتججتم
بهذا أن تقولوا إن جميع الاوامر على الندب، حتى يقوم دليل على
الوجوب وهذا ليس قولهم، وأما هاتان الآيتان فإنما خرجتا عن
الوجوب إلى الاباحة ببرهان، أما التصيد، فإن النبي (ص) حل
بالطواف بالبيت وانحدر إلى منى ولم يصطد، فصح أنه ليس فرضا
بهذا النص الآخر، وأما: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فان
علبدالله بن ربيع قال: حدثنا عمر بن عبد الملك، حدثنا ابن
الاعرابي، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا القعنبي، ثنا مالك، عن
أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال:
الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، ما لم
يحدث: اللهم اغفر له اللهم ارحمه.
قال أبو محمد: فندبنا إلى القعود في مصلانا بعد الصلاة، فصح
بذلك أن الانتشار بعد الصلاة إباحة، فمن جاءنا في شئ من
الاوامر ببرهان ينقله عن الفرض إلى الندب، وعن التحريم إلى
الكراهية، صرنا إليه، وأما بالدعوة الكاذبة المحيلة للقرآن
والسنن على موضوعها، فمعاذ الله من ذلك.
(3/267)
واحتج على بعضهم بالخبر الثابت من طريق
أنس: أن رجلا اتهم بأم ولد رسول الله (ص) فأمر النبي عليه
السلام علي بن أبي طالب أن يقتله فأتاه فوجده في ركي يتبرد،
فأمره بالخروج فلما خرج فإذا هو مجبوب لا ذكر له فتركه وعاد
إلى رسول الله (ص) فأخبره، وزاد بعض من لا يوثق به في هذا
الخبر أن عليا قال له: يا رسول الله أنفذ لامرك كالسكة
المحماة،
أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ فقال له: بل الشاهد يرى ما
لا يراه الغائب وقد ذكر هذا اللفظ أيضا في خبر بعثه عليه
السلام عليا إلى خيبر، وكلاهما لا يصح أصلا، بل هما زيادتا
كذب، لم يرو قط من طريق فيها خير، ويلزم من صححها أن يسقط من
الصلاة ثلاث صلوات، أو من كل صلاة ركعة إن رأى ذلك أصلح، أو
ينقل صوم رمضان إلى الربيع رفقا بالناس، إذ الشاهد يرى مالا
يرى الغائب، وأن يزيد في الحدود والزكاة، أو ينقص منها، وهذا
كفر صريح فبطل التعلق بهذا اللفظ الموضوع.
وكذلك ما روي أنه عليه السلام أمر أبا بكر وعمر بقتل ذي
الخويصرة فرجعا وقال أحدهما: يا رسول الله (ص) وجدته ساجدا،
وقال الآخر: وجدته راكعا، فهو خبر كاذب لم يأت قط من طريق خير،
وأما أمره عليه السلام بقتل ذلك الانسان فيخرج على أحد وجهين:
إما أنه شهد عند النبي عليه السلام بذلك قوم عدول في الظاهر،
منافقون في الباطن كاذبون بأنهم سمعوه يقر بذلك فوجب عليه
القتل لاذاه النبي (ص)، ففضح الله كذبهم، وأما أنه تعالى أوحى
إليه بالامر بقتله، وقد علم تعالى أنه سينسخ ذلك الامر بإظهار
براءته، وكذب الناقل، وكلا الامرين وجه صحيح، وبالله تعالى
التوفيق.
قال علي: فإذا قدذكرنا كل ما شغبوا به، فلنذكر إن شاء الله
تعالى البراهين المصححة أن الاوامر كلها على الوجوب، والنواهي
كلها على التحريم إلا ما خرج
(3/268)
منها بدليل، ونقول قبل ذلك: إنما لجأ إلى
القول بالوقف وتعلق بهذه العوارض، وسلك في هذه المضايق من بهر
شعاع الحق عقله، والتمع نور الله تعالى بصر قلبه، وارتبك في
غيه ناصرا لما قد ألفه من الاقوال الفاسدة، وطمعا في إطفاء ما
لا ينطفئ من ضياء الحق، وإنما التزموا ذلك في مسائل يسيرة، ثم
تناقضوا
فأوجبوا أحكاما كثيرة، فرضا بنفس الامر مما قد خالفهم فيها
غيرهم، وفعلت كل طائفة منهم مثل ما فعلت الاخرى.
قال أبو محمد: فأول ذلك أنه لا يعقل أحد من أهل كل لغة أي لغة
كانت من لفظة افعل أو اللفظة التي يعبر بها في كل لغة عن معنى:
افعل، ولا يفهم منها أحد لا تفعل، ولا يعقل أحد من لفظة لا
تفعل، أو مما يعبر به عن معنى: لا تفعل، ولا يفهم منها أحد
افعل، ومدعي هذا على اللغات وأهلها في أسوأ من حال الكهان وقد
قال تعالى: * (قتل الخراصون) *.
قال علي: ويقال لهم: بأي شئ تعرفون أن في الاوامر شيئا على
الوجوب مما تقرون فيه أنه واجب، فأجابوا عن ذلك بجوابين،
أحدهما: إن قال بعضهم: نعرف أن الامر على الوجوب إذا اقترن معه
وعيد.
وقال بعضهم: لسنا نجدد دلائل الوجوب، وهي أشياء تقترن بالاوامر
التي يراد بها الايجاب، ولسنا نقدر على العبارة عنها.
قال علي: أما هؤلاء فقد أقروا بالانقطاع وبالعجز عن بيان
مذهبهم، وإذا كان شئ لا يقدر على بيانه، فباليقين أن العجز عن
نصره أوجد وليس يعجز أحد له لسان، وليس له حياء ولا ورع، أن
يدعي ما شاء فإذا سئل عن دليل قوله وبيانه قال: إني لا أقدر
على بيانه، ولكنه شئ معلوم إذا عرف.
قال علي: ولسنا ممن يجوز عليه هذا الهذيان، ولكنا نقول لمن
هذا: صف لنا حال نفسك في معرفتك ما عرفت أنه واجب، فإن عجزت عن
ذلك بان كذبك وادعاؤك الباطل: لان كل واحد يدعي حالا يستدل بها
على حقيقة ليست من أوائل المعارف فهو مميز لتلك الحال والا فهو
مدع للباطل.
(3/269)
قال: أبو محمدو يقال لمن قال يعرف أن الامر
على الوجوب إذا اقترن به
وعيد: اعلم أن الوعيد من الله عز وجل قد اقترن بجميع أوامر
نبيه (ص) في قوله تعالى: فيحذر الذين مخالفون عن أمره أن
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم فاقترن التحذير من الفتنة
والوعيد، بكل من خالف أمره عليه السلام.
قال علي: واعترض بعضهم في ذلك بأن قال: لما صح في أن أوامره
عليه السلام، ما لا يصيب مخالفه عذاب أليم، وهو أمر كان معناه
الندب، علمنا أن الوعيد المحذر منه إنما هو فيما كان من
الاوامر معناه الوجوب فقط، وأن هذه الآية لا توجب كون جميع
أوامره فرضا، وإن كان ذلك، فقد بطل أن يكون حجة في حمل الامر
على الوجوب.
قال علي: فيقال له وبالله تعالى التوفيق: إن ما خرج من الاوامر
عن استحقاق العذاب المنصوص في الآية على تركه، بخروجه إلى معنى
الندب، إنما هو مستثنى من جملة ما جاءت الآية به، بمنزلة
المنسوخ الخارج عن الوجوب، فلا يبطل ذلك بقاء سائر الشريعة على
الاستعمال، وكذلك خروج ما خرج بدليله إلى الندب ليس بمبطل بقاء
ما لا دليل على أنه ندب، على استحقاق العذاب على تركه، إلا أن
الوعيد قد حصل مقرونا بالاوامر كلها، إلا ما جاء نص أو إجماع
متيقن منقول إلى النبي (ص) بأنه لا وعيد عليه، لانه غير واجب
ولا يسقط من كلام الله تعالى إلا ما أسقطه وحي له تعالى آخر
فقط.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا أبو إسحاق البلخي،
عن الفربري، عن البخاري، ثنا محمد بن سنان، ثنا فليح ثنا هلال
بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
(ص): كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.
قالوا: يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن
عصاني فقد أبى.
قال علي: يسأل من قال: إن الاوامر لا تحمل على الوجوب إلا
بدليل،
ما معنى المعصية، فلا بد له من أن يقول: هي ترك المأمور أن
يفعل ما أمره به الآمر، فإذا لا بد من ذلك.
فمن استجاز ترك ما أمره به الله تعالى أو رسوله (ص)،
(3/270)
فقد عصى الله ورسوله، ومن عصاهما فقد ضل
ضلالا بعيدا، واستحق النار، وأن لا يدخل الجنة، بنص كلام الله
وكلام نبيه (ص) قال الله تعالى: ومن يعص الله ورسوله فإن له
نار حنهم خالدين فيها أبدا.
قال علي: ولا عصيان أعظم من أن يقول الله تعالى ورسوله (ص)
افعل - أمرا - كذا فيقول المأمور: لا أفعل إلا إن شئت أن أفعل،
ومباح لي أن أترك ما أمرتماني به.
أو يقول الله تعالى أو رسوله (ص) لا تفعل - أمرا - كذا فيقول
أنا أفعل إن شئت أن أفعله، ومباح لي أن أفعل ما نهيتماني عنه.
قال علي: ما يعرف أحد من العصيان غير هذا.
والحجة على هؤلاء القوم أبين في العقول بيانا وأقرب مأخذا منها
على المشركين، لان المشركين لا يقرون بوجوب طاعة الله تعالى
وطاعة رسوله (ص)، وإنما الكلام معهم في إثبات ذلك وهؤلاء يقرون
بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله (ص) ثم يقولون لنا: لا نطيع،
وليس الائتمار لهما بواجب إلا بدليل غير نفس أمرهما.
نعوذ بالله من الخذلان ومن التمادي على الباطل بعد وضوحه.
واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب، عن ابن مناس عن ابن مسرور عن
يونس بن عبد الاعلي عن ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان
الاعمش قال: قال رسول الله (ص): أعطيت القرآن على سبعة أحرف،
لكل حرف منها ظهر وبطن، وبه إلى ابن وهب أخبرني خالد بن حميد،
عن يحيى بن أبي أسيد أن رسول الله (ص) قال: إن القرآن ذلول ذو
وجوه، فاتقوا ذله وكثرة وجوهه، وبه إلى ابن وهب، أنبأ مسلمة بن
علي، عن هشام، عن الحسن أن رسول الله
(ص) قال - فذكر حديثا، وذكر فيه القرآن وفيه: وما منه آية إلا
ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع.
قال علي: هذه كلها مرسلات لا تقوم بها حجة أصلا، ولو صحت لما
كان لهم في شئ منها حجة بوجه من الوجوه، لانه لو كان كما ذكروا
لكل آية ظهر وبطن، لكنا لا سبيل لنا إلى علم البطن منها بظن،
ولا بقول قائل، لكن ببيان النبي (ص) الذي أمره الله تعالى بأن
يبين للناس ما نزل إليهم، فإن أوجدونا
(3/271)
بيانا عن النبي (ص)، بنقل الآية عن ظاهرها
إلى باطن ما صرنا إليه طائعين، وإن لم يوجدونا بيانا عن النبي
(ص)، فليس أحد أولى بالتأويل - في باطن ما تحتمله تلك الآية -
من آخر من تأول أيضا.
ومن الباطل المحال أن يكون للآية باطن لا يبينه النبي (ص) لانه
كان يكون حينئذ لم يبلغ كما أمر وهذا لا يقوله مسلم، فبطل ما
ظنوه.
وقد أتت الاحاديث الصحاح بحمل كل كلام على ظاهره كما حدثنا عبد
الله بن ربيع التميمي قال: ثنا محمد بن معاوية المرواني، عن
أحمد بن شعيب النسائي، ثنا محمد بن عبد الله بن المبارك، ثنا
أبو هشام - واسمه المغيرة بن سلمة المخزومي بصري ثقة - قال علي
وأنبأناه أيضا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن
عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم
بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب.
ثنا يزيد بن هارون، قال علي: واللفظ لفظ المغيرة، قال المغيرة
ويزيد: ثنا الربيع بن مسلم، ثنا محمد بن زياد، عن أبي هريرة
قال: خطب رسول الله (ص) الناس فقال: إن الله تعالى قد فرض
عليكم الحج فقام رجل فقال: أفي كل عام ؟ فسكت عنه، حتى أعاده
ثلاثا.
فقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما
تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على
أنبيائهم
فإذا أمرتكم بالشئ فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ
فاجتنبوه.
وقد روي أيضا من طرق صحاح إلى الزهري، عن أبي سنان، عن ابن
عباس عن النبي (ص).
وقد روي أمر النبي (ص) بأن نفعل ما أمر به ما نستطيع، وأن
نجتنب ما نهى عنه من طريق أبي هريرة مسندا إلى النبي (ص) - أبو
سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، وأبو صالح، والاعرج،
وهمام بن منبه ومحمد بن زياد، كلهم عن أبي هريرة عن النبي (ص)
رواه عن همام معمر، ورواه عن الاعرج أبو الزناد، ورواه عن أبي
صالح الاعمش، ورواه عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة الزهري،
ورواه عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة مسندا أيضا شعبة، والربيع
بن مسلم، ورواه عمن ذكرنا الثقات الاكابر.
قال علي: فبين عليه السلام في هذا الحديث بيانا لا إشكال فيه
أن كل ما أمر به فهو واجب، حتى لو لم يقدر عليه.
وهذا معنى قوله تعالى: ولو شاء الله
(3/272)
لأعنتكم ولكنه تعالى رفع عنا الحرج ورحمنا،
فأمر على لسان نبيه (ص) كما تسمع، أن ما أمر به عليه السلام
فواجب أن يعمل به حيث انتهت الاستطاعة، وأنه لا يسقط من ذلك
إلا ما عجزت عنه الاستطاعة فقط، وأن ما نهى عليه السلام عنه
فواجب اجتنابه.
ثنا عبد الله بن يوسف - بالسند المذكور إلى مسلم - قال: ثنا
عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا أبو علي الحنفي، ثنا مالك
بن أنس، عن أبي الزبير المكي، أن أبا الطفيل عامر بن وائله،
أخبره أن معاذ بن جبل أخبره، وقال: خرجنا مع رسول الله (ص) عام
غزوة تبوك، فقال رسول الله (ص): إنكم ستأتون غدا إن شاء الله
عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم
فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي قال: فجئناها وقد سبقنا إليها
رجلان، العين مثل الشراك تبض بشئ من ماء قال: فسألهما رسول
الله (ص)
هل مسستما من مائها شيئا.
قالا: نعم فسبهما النبي (ص) وقال لهما ما شاء الله أن يقول.
ثم ذكر باقي الحديث وفيه الآية في نبعان الماء ببركته (ص).
قال علي: فهذان استحقا السب من النبي (ص)، لخلافهما نهيه في مس
الماء، ولم يكن هناك وعيد متقدم، فثبت أن أمره على الوجوب كله
إلا ما خصه نص، ولولا أنهما تركا واجبا ما استحقا سب رسول الله
(ص).
وبه إلى مسلم، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، ثنا
عبيد الله - هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر قال: لما توفي
عبد الله بن أبي ابن سلول فقام رسول الله (ص) ليصلي عليه، فقام
عمر فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي
عليه، فقال رسول الله (ص): إنما أخبرني الله تعالى فقال: *
(استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن
يغفر الله لهم وسأزيد على السبعين قال: إنه منا فق، فصلى عليه
رسول الله (ص) فأنزل الله عز وجل: * (ولا تصل على أحد منهم مات
أبدا ولا تقم على قبره قال علي: ففي هذا الحديث بيان كاف في
حمل كل شئ على ظاهره، فحمل
(3/273)
رسول الله (ص) اللفظ الوارد بأو على
التخيير، فلما جاء النهي المجرد حمله على الوجوب، وصح بهذا أن
لفظ الامر والنهي غير لفظ التخيير والندب، ورسوله (ص) أعلم
الناس بلغة العرب التي بها خاطبه ربه تعالى.
فإن قال قائل: فما كان مراد الله بالتخيير، الذي حمل رسول الله
(ص) على التخيير، وبذكره تعالى السبعين مرة، أتقولون: إنه أراد
تعالى ما قال عمر بن الخطاب من ألا يصلي عليهم ولا يستغفر لهم
ثم نزلت الآية الاخرى مبينة ؟.
فالجواب: أننا وبالله تعالى التوفيق، لا نقول ذلك، ولا يسوغ
لمسلم أن يقوله، ولا نقول إن عمر، ولا أحدا من ولد آدم عليه
السلام فهم عن الله تعالى شيئا لم يفهمه
عنه نبي الله (ص)، وهذا القول عندنا كفر مجرد، وبرهان ذلك أن
الله تعالى لو لم يرض صلاة النبي على عبد الله بن أبي، لما
أقره عليها، ولانزل الوحي عليه لمنعه كما نهاه بعد صلاته عليه
أن يصلي على غيره منهم، فصح أن قول عمر كان اجتهادا منه أراد
به الخير فأخطأ فيه، وأصاب رسول الله (ص)، وأجر عمر في ذلك
أجرا واحدا، لكنا نقول: إنه عز وجل خير نبيه (ص) في ذلك على
الحقيقة، فكان مباحا له (ص) أن يستغفر لهم ما لم ينه عن ذلك.
وأما ذكر السبعين فليس في الاقتصار عليه إيجاب أن المغفرة تقع
لهم بما زاد على السبعين، ولا فيه أيضا منع من وقوع المغفرة
لهم بما زاد على السبعين، إلا أن رسول الله (ص) طمع ورجا إن
زاد على السبعين أن يغفر لهم، ولم يحقق أن المغفرة تكون
بالزيادة، وهذا هو نفس قولنا بعينه، فلما أعلمه الله تعالى بما
كان في علمه عز وجل، ولم يكن أعلمه قبل ذلك به علمه حينئذ نبيه
(ص) ولم يكن علم قبل نزول المنع من الاستغفار لهم بالبت، أن ما
زاد على السبعين غير مقبول، فدعا راج لم ييأس من المغفرة، ولا
أيقن بها، وهذا بين في لفظ الحديث، وبالله تعالى التوفيق.
وقد سألت بريرة النبي (ص) إذ قال لها: لو راجعتيه يعني النبي
(ص) زوجها مغيثا - فقالت: أتأمرني يا رسول الله، فقال: لا،
إنما أشفع ففرق (ص) كما ترى بين أمره وشفاعته، فثبت أن الشفاعة
لا توجب على أحد فعل ما شفع فيه عليه السلام، وأن أمره بخلاف
ذلك: وليس فيه إلا الايجاب فقط.
(3/274)
وقال الله عز وجل: * (يأيها الرسول بلغ مآ
أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته قال علي: في هذه
الآية بيان جلي رافع لكل شك، في أن من لم يفعل ما أمر
به فقد عصى، لانه تعالى بين أن نبيه (ص) إن لم يبلغ كما أمر،
فلم يفعل ما أمر به، ولا معنى لهذا الخبر وهذا التقدم، إلا أن
خلاف الامر معصية لا موافقة، وبالله تعالى التوفيق وهم يقرون
على أنفسهم أنهم لا يفعلون ما أمروا به حتى يأمرهم أبو حنيفة،
ومالك، والشافعي.
وقال تعالى: يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا
عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالو سمعنا وهم لا يسمعون
فصح أنه لم يرد تعالى منا الاقرار وحده إلا مع العمل بما أمرنا
معه.
وقا تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمران
أن تكون لهم الخيرة من أمر هم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلالا
مبينا.
قال على وانبلج الحكم بهذه الآية ولم يبق للشك مجال، لان الندب
تخيير، وقد صح أن كل أمر لله ولرسوله ص) فلا اختيار فيه لاحد،
وإذا بطل الاختيار فقد لزم الوجوب ضرورة، لان الاختيار إنما هو
في الندب والاباحة للذين لنا فيهما الخيرة، إن شئنا فعلنا، وإن
شئنا لم نفعل، فأبطل الله عز وجل الاختيار في كل أمر يرد من
عند نبيه (ص)، وثبت بذلك الوجوب والفرض في جميع أوامرهما، ثم
لم يدعنا تعالى في شك من القسم الثالث وهو الترك، فقال تعالى:
* (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) *.
قال علي: وليس يقابل الامر الوارد إلا بأحد ثلاثة أوجه، لا
رابع لها نعلم ذلك بضرورة الطبيعة، وببديهة العقل: إما الوجوب
وهو قولنا، وإما الندب والتخيير في فعل أو ترك، وقد أبطل الله
عز وجل هذا الوجه في قوله تعالى: * (أن تكون لهم الخيرة من أمر
هم) * وأما الترك وهو المعصية فأخبر تعالى أن من فعل ذلك فقد
ضل ضلالا مبينا، فارتفع الاشكال جملة، وبطل كل شغب يأتون به.
وقال تعالى: * (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى
عليهخم) * فنص تعالى على توبيخ من لم يكتف بالتلاوة، وهذا هو
الحكم بالظاهر، وحظر الانتقال إلى
(3/275)
التأويل وقال تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب
تبيانا لكل شئ) * وقال تعالى: * (أنزلنا إليك الذكر لتبين
للناس ما نزل إليهم) * فصح أن لا بيان إلا نص القرآن ونص كلام
رسول الله (ص).
فإن قالوا: فإنتحملون كثيرا من أوامره تعالى على التخيير
والندب، فقد نقضتم هذا الحكم.
لهم وبالله تعالى التوفيق: ما فعلنا ما تقولون من النقض، لاننا
إنما حملنا منها على التخيير بأمر الله تعالى، حملناه أيضا على
وجوبه، فإذا نص ربنا عز وجل في أمر قد أمر به على أننا إن شئنا
فعلنا، وإن شئنا تركنا، فقد أوجب علينا قبول هذا النص على
ظاهره ضرورة، فلم نخرج عن أصلنا، ولم يكن لنا خيرة في صرفه إلى
الوجوب بأحد طرفيه دون الآخر فقط، كما أنه تعالى أو نبيه (ص)
إذا اقتصر المخاطب لنا منهما على لفظ لا تخيير معه، فلا خيرة
لنا في صرفه عن أمره الذي اقتصر عليه، فكل أمر مفرد فواجب
علينا حمله على انفراده، وكل أمر بتخيير فواجب علينا حمله على
التخيير، فالقبول فرض علينا لما يرد من الالفاظ على ظواهرها،
ولا خيرة لنا في شئ من ذلك، والاجماع إذا صح على حمل آية أو
خبر على التخيير، فقد أيقنا أن أصل الاجماع توقيف من رسول الله
(ص)، فحملنا ذلك التوقيف أيضا على الوجوب فلم ننقض قولنا بحمد
الله تعالى.
قال علي: أفلا يستحي أن يتكلم في الدين من يسمع كلام الله
تعالى في قسمة الصدقات يقول: * (إنما الصدقات المفقراء
والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب
والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فرضية من الله) * فيقول:
ليس ذلك فريضة، وجائز للامام أن يصرفها إلى ما يرى من وجوه
البر، أو إلى بعض هذه الاصناف، ثم يأتي إلى قول ابن عمر: فرض
رسول الله (ص صدقة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، صغير
أو كبير، صاعا من تمر
أو صاعا من شعير، فيقول: ليس صدقة الفطر فريضة، ولا الشعير ولا
التمر فيها أيضا فرضا، ولا مستحبا، بل البر الذي لم يذكره
النبي (ص) أفضل.
ثم يأتي إلى قول رسول الله (ص): من صلى ههنا معنا، وقد وقف قبل
ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد أدرك فقال: لا تخيير في ذلك،
والفرض الوقوف ليلا
(3/276)
ولا بد، وإلا بطل الحج.
ويقول في قول الله تعالى: * () *، إنه يفهم منه أن خطبة الجمعة
فرض تبطل الصلاة بتركها.
وأن ذكره تعالى للاعتكاف بعد ذكره لحكم الصيام، موجب أن يكون
الصوم في الاعتكاف فرضا لا يجزي الاعتكاف إلا به.
أيكون في عكس الحقائق ومجاهرة العقول الفهمة للغة العربية،
ومخالفة القرآن والسنة أكثر من هذا ؟.
وقال تعالى: * () *.
قال علي: فهذا لفظ الوعيد بقوله تعالى: * () * مقرونا بمخالفة
الطاعة، فأخبرنا تعالى أن ترك الطاعة تول، ولا تركا للطاعة
أكثر ممن يستجيز أن يترك ما أمر به أو يفعل ما نهى عنه.
وقال تعالى: * (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن
المنكر فصح بالنص كما ترى أن كل ما أمر به رسول الله (ص) فهو
معروف، وكل ما نهى عنه فهو منكر عن المعروف، فبين تعالى أن كل
من نهى عما أمر به رسول الله (ص) فهو منافق، وكل من قال في
قوله تعالى افعل.
فقال هو لا تفعل إن شئت، فقد أباح تركه والنهي عنه نصا.
وقال تعالى: ومن لم وقال تعالى ومن: * (وليحكم أهل الانجيل بمآ
أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)
*.
قال علي: ومن أجاز لنفسه ترك العمل بما أنزل الله فهو فاسق
ظالم بنص القرآن، وبنص تسمية الله عز وجل له، فقد نصصنا كلام
الله تعالى، وكلام نبيه (ص) في إيجاب أوامرهما ونواهيهما فرضا،
وبطل بذلك قول من قال على الندب أو الوقف.
قال علي: وقد فرق قوم بين أوامر الله عز وجل، وأوامر رسوله
(ص)، وهذا بين الفساد، فقد أنكر الله تعالى ذلك بقوله: * (من
يطع الرسول فقد أطاع الله إن العجب ليكثر من الحنفيين
والمالكيين الذين يجعلون الخطبة يوم الجمعة فرضا، فإذا سئلوا
عن البرهان في ذلك قالوا قول الله عز وجل: * (وإذا رأوا
(3/277)
تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما)
*.
قال علي: وما ندري ماذا تأدى إليهم في هذا اللفظ من إيجاب
الخطبة.
ويقولون إن الصيام في الاعتكاف فرض، إذا سئلوا عن برهان ذلك
قالوا: ذكر الله تعالى الاعتكاف إثر ذكر الصيام، وعلى هذا فكل
شريعة ففرض ألا تتم إلا بضم كل شريعة في القرآن إليها، فلا حج
لمن لم يصل.
ولا صلاة لمن أفطر في رمضان، ولا نكاح لمن لا يقسط في اليتامى،
فينفسخ نكاحه مع امرأته، لان الله تعالى عطف النكاح على أمر
اليتامى فقال تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم معطوف
بعضها على بعض.
ثم قالوا: في قوله تعالى: * (وأتمو الحج ولعمرة لله ليست
العمرة فرضا، وقد عطفها تعالى على الحج عطفا شركها به معه في
الاتمام، ولم يعطف الاعتكاف على الصيام، ولا الصيام على
الاعتكاف، وإنما عطف النهي عن المباشر في حال الاعتكاف على
أحكام الصيام، عطف جملة على جملة، لا عطف اشتراك.
ثم قالوا في قوله تعالى في قسمة الخمس: * (واعلموا أنما غنمتم
من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم
الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير) * فقالوا:
ليس هذا فرضا، وللامام أن يضع الخمس حيث رأى من مصالح
المسلمين، هذا وهم يسمعون الله تعالى يقول في قسمة الخمس على
من سمى: الصدقات، وقد قال تعالى ان كنتم آمنتم بالله وما
أنزلنا على عبدنا وقالوا في آخرها: * فريضة من الله فقالوا
ليست فريضة لهؤلاء فمن أضل ممن جعل الخطبة والصيام في الاعتكاف
فرضا ولم يأت به أمر، ولا ندب، وأسقط إيجاب ما سماه الله تعالى
فريضة، وقال فيه: وان كنتم آمنتم بالله وأما المالكيون فإنهم
احتجوا في عتق الاخ يملكه أخوه بقوله تعالى: * (قال رب إني لا
أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) * وما
عقل قط ذو لب وجوب عتق الاخ من هذه الآية كما لم يعقل وجوب
صلاة الظهر منها، وأسقطوا النفقة على الوارث بآرائهم وقد قال
تعالى: وعلى المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس
(3/278)
إلا وسعها لاتضار والدة بولدها ولا مولود
له وعليه الوارث مثل ذلك، ففرقوا بين مضارة الوالد بولده
فأوجبوا فيها النفقة، وبين مضارة الوارث بموروثه، فلم يوجبوا
فيها النفقة، وقد سوى الله عز وجل بينهما تسوية واحدة، ولا ضرر
في التمييز والعقل، أعظم من ترك الوارث موروثه يسأل أو يموت
جوعا، وهو ذو مال يغنيه، ويفضل عنه، وخالفوا في ذلك حكم عمر بن
الخطاب وعمله.
وقال المالكيون: أمر تعالى بالمكاتبة ندب، وأمره بإتيانهم من
مال الله الذي آتاهم ندب، وأمره بالمتعة ندب، ثم قالوا قوله
تعالى: * () * فرض، فلو تدبروا هذه الفضائح التي يطلقون، لكان
أولى بهم من معارضة
أوامر الله تعالى وأوامر رسوله (ص) بهذيان لا يطردونه، بل
يتناقضون فيه في كل حين، فمرة يقولون في بعض الاوامر ليس فرضا،
فإذا قيل لهم قد أمر الله تعالى بها، قالوا الاوامر موقوفة،
ولا يحمل على الفرض إلا بدليل، ومرة يوجبون الاوامر فرضا بلا
دليل ولا قرينة إلا التحكم والتقليد فقط، وبالله تعالى
التوفيق.
قال علي: وأما الموافقون لهم على الوقف من أصحاب الشافعي،
فإنهم يقولون: إن لم نجد دليلا على أن الامر على الندب أمضينا
الاوامر على الوجوب.
قال علي: وهذا ترك منهم لقولهم بالوقف، لانهم راجعون إلى إمضاء
الاوامر على الوجوب بمجردها بلا قرينة، إذا عدموا دليلا على
الندب.
قال علي: وهذا قولنا نفسه، ولم نخالفهم في أن الامر إذا جاء نص
أو إجماع على أنه ندب، فواجب أن يصار إلى أنه ندب، وإنما
خالفناهم في الوقف فقط.
قال علي: ونسألهم ألهذا الوقف غاية ؟ فإن حدوا حدا كلفوا عليه
البرهان ولا سبيل إليه، فإن لم يجدوا فيه حدا صار مدة العمر،
فبطل العمل بشئ من الاوامر وهذا يؤدي إلى إبطال الشريعة.
وقد احتج بعض من يقول بقولنا ممن سلف، فقال: لو كان الامر لا
يعلم بلفظه أنه على الوجوب، لكان لا يخلو من أن يعلم المراد
فيه، إما بأمر آخر، أو بشئ يستخرج من الامر، وكلا الامرين فلا
بد من الرجوع فيه إلى أمر،
(3/279)
فالكلام في الامر الثاني كالكلام في الامر
الاول، وهذا لا إلى غاية، فعلى هذا لا يثبت وجوب أمر أبدا.
وقالوا أيضا محتجين عن أهل الوقف: المعصية في اللغة هي مخالفة
الامر، والطاعة هو تنفيذ الامر، وقال الله تعالى: * (ومن يعص
الله ورسوله ويتعد
حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) * وقال تعالى: *
(وما أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا
فثبت الوجوب في الاوامر ضرورة، بحكم الله تعالى فالنار على من
تركها.
قال علي: ويقال لمن قال بالوقف: ماذا تصنع إن وجدت أوامر واردة
من الله تعالى ومن رسوله (ص) خالية من قرينة بالجملة، ولا دليل
هناك يدل على أنها فرض، ولا على أنها ندب، فلا بد من أحد ثلاثة
أوجه إما أن يقف أبدا، وفي هذا ترك استعمال أوامر الله تعالى،
وأوامر رسوله (ص)، وهذا هو نفسه ترك الديانة، أو يحمل ذلك على
الندب، فيجمع وجهين، أحدهما: القول بلا دليل، والثاني، استجازة
مخالفة الله ورسوله (ص) بلا برهان، أو يحمل ذلك على الفرض،
وهذا قولنا، وفي ذلك ترك لمذهبه وأخذ بالاوامر فرضا بنفس لفظها
دون قرينة، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فإن تعلقوا بما روي عن رسول الله (ص) أنه قال يوم بني
قريظة: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم العصر
قبلها وقالوا: لم يرد هنا هنا، وصلاها آخرون بعد العتمة فبلغ
ذلك النبي (ص) فلم يعنف واحدة من الطائفتين.
قال علي: هذا حجة لهم فيه أيضا، ولو شغب بهذا الحديث من يرى
الحق في القولين المختلفين لكان أدخل في الشغب، مع أنه لا حجة
لهم فيه أيضا.
فأما احتجاج من حمل الاوامر على غير الوجوب، فلا حجة لهم فيه،
لانه قد كان تقدم من رسول الله (ص) أمر في وقت العصر أنه مذ
يزيد ظل الشئ على مثله إلى أن تصفر الشمس، وأن مؤخرها إلى
الصفرة بغير عذر يفعل فعل المنافقين، فاقترن على الصحابة في
ذلك اليوم أمران واردان، واجب أن يغلب أحدهما على الآخر ضرورة،
فأخذت إحدى الطائفتين بالامر المتقدم، وأخذت
(3/280)
الطائفة الاخرى بالامر المتأخر، إلا أن كل
واحدة من الطائفتين حملت الامر الذي أخذت به على الفرض
والوجوب، وغلبته على الامر الثاني.
وقد ذكرنا هذا النوع من الاحاديث فيما خلا، وبينا كيفية العمل
في ذلك، ولو أننا حاضرون يوم بني قريظة لما صلينا العصر إلا
فيها، ولو بعد نصف الليل، على ما قد بينا في رتبة العمل في
جميع الاحاديث التي ظاهرها الاختلاف، وهي في الحقيقة متفقة من
الاخذ بالزائد، ومن استثناء الاقل معاني من الاكثر معاني، وقد
جمع هذان الحديثان كلا الوجهين معا، فأمره عليه السلام في ذلك
اليوم بأن لا يصلى صلاة العصر إلا في بني قريظة، أمر خاص في
صلاة واحدة، من يوم واحد في الدهر فقط، فكان ذلك مستثنى من
عموم أمره يصلى كل عصر، من كل يوم في الابد يخرج وقت الظهر إلى
أن تصفر الشمس، وأما ما لم تغب للمضطر حاشى يوم عرفة.
وأيضا فإن أمره عليه السلام بألا يصلى العصر من ذلك اليوم إلا
في بني قريظة، شريعة زائدة، وأمر وارد بخلاف الحكم السالف،
وبخلاف معهود الاصل في حكم صلاة العصر قبل ذلك اليوم وبعده،
فواجب طاعة ذلك الامر الحادث، والشرع الطارئ، لما قدمنا من
البراهين على وجوب القبول لكل ما أمرنا به رسول الله (ص) عن
ربه تعالى، وكان أمره بألا يصلى العصر في ذلك اليوم إلا في بني
قريظة كقوله ليلة يوم النحر في الحج - وقد ذكر بصلاة المغرب -
فقال عليه السلام: الصلاة أمامك فكان ذلك عند جميع المسلمين
ناقلا لوقت المغرب في تلك الليلة خاصة في الحج خاصة، في ذلك
المكان خاصة، عن وقتها المعهود إلى وقت آخر.
ولا فرق بين ورود ما أمر به في العصر يوم بني قريظة، وفي
المغرب ليلة المزدلفة، وهذا بين لمن تأمله.
قال أبو محمد: وأما إن احتج بهذا الحديث من يرى الحق في
القولين المختلفين
وقال: ترك النبي (ص) أن يعنف كل واحدة من الطائفتين، دليل على
أن كل واحدة منهما مصيبة.
قيل له، وبالله التوفيق: لا دليل فيه على ما ذكرت، ولكنه دليل
واضح على أن إحدى الطائفتين مصيبة مأجورة أجرين، والاخرى
مجتهدة مأجورة
(3/281)
أجرا واحدا، معذورة في خطئها بالاجتهاد،
لانها لم تتعمد المعصية وقد قال عز وجل: * () * وقال عليه
السلام: لكل امرئ ما نوى وكلا الطائفتين نوت الخير وقد نص عليه
السلام على أن الحاكم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر.
وكل متكلم في مسألة شرعية ممن له أن يتكلم على الوجه الذي أمر
به من الاستدلال الذي لا يشوبه تقليد ولا هوى، فهو حاكم في تلك
المسألة، لانه موجب فيها حكما، وكل موجب حكما فهو حاكم، وهو
داخل في استجلاب الامر بالحديث المذكور.
فإن قال قائل: فلم يأمر رسول الله (ص) الطائفة المخطئة عندكم
بالاعادة، إن كانت هي التي صلت العصر في وقتها المعهود، قبل
البلوغ إلى بني قريظة، وإنما كان وقتها عندكم في ذلك اليوم بعد
البلوغ إلى بني قريظة - أي وقت بلغ البالغ إليهم - أو لم يعنف
الطائفة المؤخرة للعصر إلى بعد نصف الليل إن كانت هي المخطئة
على تأخيرهم صلاة فرض عن وقتها ؟.
قيل له وبالله تعالى التوفيق: لسنا ندري في أي وقت بلغ خبر
الطائفتين المذكورتين إلى رسول الله (ص)، ولعل ذلك قد بلغه
عليه السلام في اليوم التالي، وبعد خروج وقت العصر جملة، ولا
إعادة على تارك صلاة بتأول ممن له أن يتأول على الوجه المحمود
لا بتقليد ولا بهوى، ولا إعادة على تارك صلاة عمدا بلا تأول
ولا ضرورة حتى يخرج وقتها، وأما المتأول فمعذور ولا يكلف
إلا ما علم، وأما العامد فذنبه أجل من أن نأمره نحن بكفارة أو
بصلاة لم يأمره الله تعالى بها، ولا يحل لنا ولا لغيرنا تعدي
حدود الله عز وجل بأن نلزمه فرضا لم يأذن به الله تعالى، ونسقط
عنه بذلك فرضا قد أمره الله تعالى به، ونعوذ بالله تعالى من
ذلك، وأمره إلى خالقه لا إلينا، وسيرد على ذي مغفرة واسعة، وذي
عقاب أليم، حيث لا يضيع له شئ، ولا يجمع عنده شئ، فعند
الموازين يعرف كل امرئ ما له وما عليه، نسأل الله عفوه وغفرانه
في ذلك الموقف آمين.
قال علي: وقد أنكر رسول الله (ص) على أبي سعيد بن المعلى إذ
ناداه فلم يستجب له - وكان في صلاة - فقال له رسول الله (ص):
ألم يقل الله تعالى: * () *.
(3/282)
قال علي: وفي هذا بيان جلي في حمل أوامر
الله تعالى وأوامر نبيه (ص) على الوجوب، وعلى الظاهر منها، ومن
تلك الاوامر أمره تعالى أن يطاع رسوله عليه السلام.
وفي قوله عليه السلام المذكور لابي سعيد، بيان جلي في صحة ما
أثبتناه قبل، من استثناء الاقل معاني من الاكثر معاني واستعمال
جميع الاوامر، لانه تعالى قال: * () * وقال تعالى: * () * خص
عليه السلام دون سائر الناس، أن يكلمه المصلون إذا كلمهم، ولا
يكون ذلك قاطعا لصلاتهم.
وبهاتين الآيتين والحديث المذكور بطل قول من قال: بأن المصلين
يكلمون الامام إذا وهل في صلاته ورام أن يحتج في ذلك بحديث ذي
اليدين، فبالنصوص التي ذكرنا أيقنا أن ذلك خاص للنبي (ص) دون
من سواه، وسبحان من يسر لاخواننا المالكيين، أن يجعلوا الخصوص
في هذا المكان عموما، وأن يجعلوا العموم الذي نص عليه السلام
على أنه عموم، وغضب على من أراد أن يجعله
خصوصا، من القبلة في صيام رمضان، فجعلوه خصوصا كل ذلك بلا دليل
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد: وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى
التهديد، لا على معنى الحقيقة، فقد اضمحلت الشريعة بين يديه،
ولعل وعيد الكفار أيضا كذلك، ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط
الكلام معه، لانه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها، إذ لعلها ندب،
ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد، وهذا مع فراقه المعقول خروج
عن الاسلام، لانه تكذيب لله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق.
ومما يبين أن أوامر الله تعالى كلها على الفرض حتى يأتي نص أو
إجماع، أنه ليس فرضا قوله تعالى: * () *.
قال علي: فعدد الله تعالى في كفر الانسا ن أنه لم يقض ما أمره
به، وكل من حمل الاوامر على غير الفرض واستجاز تركها، فلم يقض
ما أمره وفيما ذكرنا كفاية، وبالله تعالى التوفيق.
(3/283)
وقد فرق (ص) بين أمر الفرض، وأمر التخيير
بفرق، ولا مدخل للشغب فيه بعده، وهو ما حدثناه عن عبد الله بن
يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن
محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا أبو كامل فضيل بن حسين
الجحدري، ثنا أبو عوانة، عن شيبان، عن عثمان بن عبد الله بن
موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، قال: سأل رجل رسول
الله (ص): أتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت
فلا تتوضأ قال: أتوضأ من لحوم الابل ؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم
الابل.
قال علي: فأورد عليه السلام الوضوء الذي ليس عليه واجبا بلفظ
التخيير، وأورد الآخر بلفظ الامر فقط، ولو كان معناهما واحدا،
لما كان عليه السلام
مبينا للسائل ما سأل عنه، وهذا ما لا يظنه مسلم، والله الهادي
إلى سواء السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل فصل في كيفية ورود
الامر قال علي: الاوامر الواجبة ترد على وجهين: أحدهما: بلفظ
افعل، أو افعلوا، والثاني: بلفظ الخبر إما بجملة فعل وما
يقتضيه من فاعل أو مفعول، وإما بجملة ابتداء وخبر.
فأما الذي يرد بلفظ افعل أو افعلوا، فكثير واضح مثل: *
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وخذ من أموالهم صدقة وما أشبه
ذلك.
وأما الذي يرد بلفظ الخبر وبجملة فعل وما يقتضيه فكقوله تعالى:
* (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي
بغير بين ان الله يأمر كم أن تؤدوا الأمانات الى ألها وكقوله
تالى كتب عليكم الصيامو وكتب عليكم القتال حرمت عليكم أمهاتكم
واحل لكم ليلة الصيام وكتب عليكم القتال وحرمت عليكم امتهاتكم
واحل لكم اليلة الصيام و الرفث أي نساتكم وامرت
(3/284)
قال علي: فلا طريق لورود الاوامر والشرائع
الواجبة إلا على هذين الوجهين فقط، فأما عنصر الامر والنهي،
فإنما هو ما ورد بلفظ: افعل أو لا تفعل، فهذه صيغة لا يشركه
فيها الخبر المجرد الذي معناه معنى الخبر المحض، ولا يشركه
فيها التعجب، ولا يشركه فيها القسم، وإنما يشركه في هذه الصيغة
الطلبية فقط، فما كان منها إلى الله عز وجل فهو الدعاء فقط،
وما كان منها إلى من دونه تعالى، فهو الرغبة.
وقد يسمى الدعاء إلى الله عز وجل أيضا رغبة ولا يسمى الدعاء
على الاطلاق إلا ما كان طلبة إلى الله عز وجل، حتى إذا جاز
أضيف أن ينسب إلى غير الله تعالى، فنقول: ادع فلانا بمعنى
ناده.
قال علي: وأما المقدمات المأخوذة لانتاج النتائج في المناظرة،
فإنما الاصل فيها أن تصاغ بصيغة الخبر، مثل قوله (ص): كل مسكر
خمر، وكل خمر حرام النتيجة فكل مسكر حرام.
إلا أننا في مناظرتنا أهل ملتنا وأهل نحلتنا فيما تنازعنا فيه،
قد غنينا عن ذلك، لاتفاقنا على أن لفظ افعل، مقدمة مقبولة تقوم
بها الحجة فيما بيننا قياما تاما.
قال علي: ويميز ما جاء في الاوامر بلفظ الاخبار، مما جاء بلفظ
الخبر ومعناه الخبر المجرد، بضرورة العقل، فإن قول الله عز
وجل: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب
منا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة في ظاهر
ورود الامر إلا أن أحد اللفظين خبر مجرد لفظه لفظ الخبر،
ومعناه معنى الخبر، والآخر لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الامر،
وإنما علمنا ذلك
(3/285)
لان الجزاء بجهنم لا يجوز أن نؤمن نحن به،
لان ذلك ليس في وسعنا، وقد أمننا الله من أن يأمرنا بما ليس في
وسعنا قال الله عز وجل: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وأما
التحرير للرقبة، وتسليم الدية، فبضرورة العقل علمنا أن ذلك من
مقدوراتنا ومما لا يفعله الله عز وجل دون توسط فاعل منا، فبهذا
يتميز ما كان الخبر معناه الامر، وما كان منه مجردا للخبر في
معناه ولفظه.
وقد اعترض قوم من الملحدين علينا في قوله: * () * وأرادوا أن
يحملوا ذلك على أنه خبر في معناه ولفظه.
قال علي: وهذا خطأ بنص القرآن، وبضرورة المشاهدة، أما نص
القرآن، فقوله تعالى: * () * فارتفع ظن من ظن أن قول الله عز
وجل: * () * خبر وكيف يكون ذلك وقد أمر تعالى بقتل من قاتلنا
فيه وعنده.
وأما ضرورة المشاهدة، فما قد تيقناه
مما وقع فيه من القتل مرة بعد مرة، على يدي الحصين بن نمير،
والحجاج بن يوسف، وابن الافطس العلوي، وإخوانهم القرامطة،
والله تعالى لا يقول إلا حقا، فصح أن معنى قوله تعالى: * () *
إنما هو أمر بالبرهانين الضروريين اللذين قدمناهما.
وكذلك نقول: إنه لا يحل أن يقام في شئ من الحرم حد على أحد،
بوجه من الوجوه، ولا بسجن، ولا تعزير ولا قطع، ولا جلد، ولا
قصاص، ولا رجم، ولا قتل، لا في ردة، ولا في زنى، ولا في غير
ذلك.
حاشا من قاتلنا فيه فقط على نص القرآن، وبهذا جاء الخبر عن
رسول الله (ص).
وأما من أجاز أن يخالف الله تعالى ورسوله (ص) ويقتدي بعمرو بن
سعيد، ويزيد، والحجاج، والحصين بن نمير، فيقيم فيه الحدود
ويقتل فيه من استحق القتل عنده في غيره، فليفكر فيما يلزمه من
تكذيب ربه، وله ما اختار من اتباع من اتبع، وخلاف الله تعالى
ورسوله (ص) ليتخلص من السؤال الذي ذكرناه آنفا، ولو قدر على
ذلك لما قدر على التخلص من عصيان نبيه (ص) في قوله: إنها إنما
أحلت لي ساعة من نهار ولم تحل لكم ثم عادت كحرمتها بالامس إلى
يوم القيامة لا يسفك فيها دم وبين عليه السلام بنص كلامه، أنه
ليس لاحد أن يترخص في ذلك لاجل قتاله عليه السلام، ونص على أن
ذلك خاص له.
(3/286)
قال علي: وهذا خبر على التأبيد، وأمر على
التأكيد، لا يجوز أن يدخل فيه نسخ أبدا لنصه عليه السلام، على
أن ذلك باق إلى يوم القيامة، فمن أجاز ورود نسخ لهذا، فقد أجاز
الكذب من الرسول (ص)، ومن أجاز ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم
والمال، وسبحان من يسر لهؤلاء القوم عكس الحقائق، فيجعلون ما
قد جاء النص فيه بأنه خاص عاما، وما جاء فيه النص بأنه عام
خاصا، وبالله تعالى نتأيد.
وإنما سفك عليه السلام فيها الدماء المباحة، ونهى عن الاقتداء
به ذلك جملة، وقولنا في هذا هو قول عبد الله بن عمر وعطاء
وغيرهما، وكان عبد الله بن عمر يقول: لو لقيت فيها قاتل عمر،
ما ندهته.
قال علي: فما ورد من الاوامر والنواهي على الصفتين المذكورتين
فهو فرض أبدا ما لم يرد نص أو إجماع على أنه منسوخ، أو أنه
مخصوص، أو أنه ندب، أو أنه بعض الوجوه الخارجة عن الالزام على
ما سنفرد لها فصلا في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى، ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال علي: وأما صورة الندب، فهو أن يرد اللفظ: أو بمدح الفاعل
أو للفعل مثل قول عليه السلام إذ قال: يهلك الناس هذا الحي من
قريش ثم قال عليه السلام: لو أن الناس اعتزلوهم فكان هذا ندبا
إلى ترك القتال مع التأولين منهم، ومثل قوله عليه السلام: لو
اغتسلتم وإنما أوجبنا غسل الجمعة بحديث آخر فيه لفظ الايجاب،
وأما المدح فمثل قوله تعالى: * () * فكان ذلك حضا على مثل
فعلهم وهو الاستنجاء بالماء، ومثل إخباره (ص): أن لا حول ولا
قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة وما أشبه ذلك.
فما جاء باللفظ الذي ذكرنا فهو ندب لا إيجاب، يعلم ذلك بصيغة
اللغة ومراتبها، علم بضرورة لا يفهم سواه.
قال علي: وأما أمر الاباحة فإنه يراد بلفظ أو مثل قوله تعالى:
* () * ومثل قوله عليه السلام، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو
نهارا، وأن العجب ليكثر ممن حمل ما روى النبي (ص) أنه أمر
(3/287)
به الواطئ في رمضان، من صيام شهرين، أو
إطعام ستين مسكينا، أو تحرير رقبة على التخيير.
وقد روى حديث صحيح بالترتيب في ذلك، ثم رأى من رأيه أن يحمل
قوله عليه السلام في الوقوف بعرفة ليلا أو نهارا على إيجاب
الوقوف
ليلا ولا بد، ويكفي هذا القول وصفه.
وقد يرد أيضا لفظ الاباحة بلا حرج وبلا جناح مثل قوله تعالى: *
(ليس على الاعمى حرج، وقوله عليه السلام، وقد سئل عن تقديم
الرمي على الحلق وعلى النحر، وتقديم الحلق على النحر وعلى
الرمي: لا حرج.
لا حرج.
قال علي: وبهذا النص صح لنا أن قوله عز وجل: * (ولا تحلقوا
رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله أنه ليس المراد به النحر، ولكن
بلوغ وقت الاحلال بالنحر مع موافقة قولنا لظاهر الآية دون تكلف
تأويل بلا دليل ومثل قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه ومثل قوله تعالى فلا جناح على لان يطوف بها ومثل قول فلا
جناح عليهما ان يصالحا صلحا وقوله تعالى ليس عليكم جناج ان
تبتغوا فضلا من ربكم وقوله تعالى فان اراد افصالا عن تراض
منهما وتشاور فلا جناج عليهما يريد تعالى قبل تمام الحولين بنص
الآية.
وقوله تعالى فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقوله تعالى فان ي
لقها فلا جناح عليهما ان يتراجعا وقوله تعالى ولا جناح عليكم
فيما عرضتم به من خي بة النساء أو أكنتم في انفسكم وقوله تعالى
لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسو هن أو تفرضوا لهن
فريضة وقوله تعالى (وان اردتم ان تستر ضعوا اولادكم فلا جناح
عليكم) وقوله تعالى (الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم
فليس عليكم جناح الا تكتبوها) وقوله تعالى ولا جناح عليكم فيما
تراضيتم به من بعد الفرضية ان الله كان عليما) وقوله تعالى
(ولا جناح عليكم ان كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى ان تضعوا
اسلحتكم) قال على: وهذا هو المعهود في اللغة ومن أراد أن يجعل
قوله تعالى (ان الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو
اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) حجة في ايجاب الطواف بين
الصفاء والمرة فرضا على الحاج وعلى المعتمر فقد
أغفل جدا لأنه يلزمنه - مع مخالفة مفهوم اللغة - أن يقول في
الآيات التى تلونا
(3/288)
آنفا: ان كل ما ذكر فيها فرض افتداء المرأة
من زوجها فرض، وإن مراجعة المطلق ثلاثا للمطلقة بعد طلاق الزوج
الثاني لها فرض، وإن قصر الصلاة فرض، وإن طلاق المرأة قبل أن
تمس فرض، وإن تصالحهما على فطام ا لولد قبل الحولين فرض، وكذلك
سائر ما في تلك الآية.
قال علي: وإنما واجبنا السعي بينهما فرضا لحديث أبي موسى
الاشعري، إذ أمره عليه السلام بالطواف بينهما، ولولا ذلك
الحديث ما كان السعي بينهما فرضا، لا في عمرة ولا في حج،
وبالله تعالى التوفيق.
وإنما قلنا أيضا: بوجوب القصر فرضا لقوله عليه السلام، فاقبلوا
صدقته وبأحاديث أخر صح بها وجوب قصرها.
وكل لفظ ورد ب (عليكم) فهو فرض، وكل أمر ورد بلكم أو بأنه صدقة
فهو ندب، لان علينا إيجاب، ولنا صدقة إنما معناها الهبة، وليس
قبول الهبة فرضا إلا أن يؤمر بقبولها فيكون حينئذ فرضا، ومما
تحل به الاوامر على الندب أن يرد استثناء يعقبه في تخيير
المأمور، مثل قوله تعالى في الديات: * (الا ان تصدقوا وفي وجوب
الصداق (الا ان يعفون) وفي قضاء الدين (وان تصدقوا خير لكم)
وما أشبه ذلك وهذا معلوم كله بموضوع اللغة ومراتبها وبالله
التوفيق فصل في حمل الاوامر والاخبار على ظواهرها قال علي: ذهب
قوم ممن بلح عندما أراد من نصر ما لم يأذن الله تعالى بنصره من
التقليد الفاسد، واتباع الهوى المضل - إلى أن قالوا: لا نحمل
الالفاظ من الاوامر والاخبار على ظواهرها، بل هي على الوقف
وقال بعضهم - وهو بكر البشري -: إنما ضلت الخوارج بحملها
القرآن على ظاهره، واحتج بعضهم
أيضا بأن قال: لما وجدنا من الالفاظ ألفاظا مصروفة عن ظاهرها
ووجدنا قول القائل: إنك سخي، وإنك جميل، قد تكون على الهزؤ،
والمراد إنك قبيح،
(3/289)
وإنك لئيم، علمنا أن الالفاظ لا تنبئ عن
المعاني بمجردها.
قال علي: هذا كل ما موهوا به، وهؤلاء هم السوفسطائيون حقا بلا
مرية، وقد علم كل ذي عقل أن اللغات إنما رتبها الله عز وجل
ليقع بها البيان، واللغات ليست شيئا غير الالفاظ المركبة على
المعاني، المبينة عن مسمياتها قال الله تعالى: * (وما أرسلنا
من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من
يشآء وهو العزيز الحكيم) *) * واللسان هي اللغة بلا خلاف ههنا،
فإذا لم يكن الكلام مبينا عن معانيه.
فأي شئ يفهم هؤلاء المخذولون عن ربهم تعالى، وعن نبيهم (ص) بل
بأي شئ يفهم به بعضكم بعضا ؟.
ويقال لهم: إذا أمكن ما قلتم فبأي شئ نعرف مرادكم من كلامكم
هذا ؟ ولعلكم تريدون به شيئا آخر غير ما ظهر منه، ولعلكم
تريدون إثبات ما أظهرتم إبطاله.
فبأي شئ أجابوا به فهو لازم لهم في عظيم ما أتوا به من السخف،
وهؤلاء قوم قد أبطلوا الحقائق جملة، ومنعوا من الفهم بالبتة،
فيكاد الكلام يكون معهم عناء لولا كثرة من اغتر بهم من
الضعفاء، وصدق رسول الله (ص) إذ أنذر باتخاذ الناس رؤساء جهالا
فيضلون ويضلون.
وأما قول بكر: إن الخوارج إنما ضلت باتباعها الظاهر، فقد كذب
وأفك وافترى وأثم.
ما ضلت إلا بمثل ما ضل هو به، من تعلقهم بآيات ما وتركوا
غيرها، وتركوا بيان الذي أمره الله عز وجل أن يبين للناس ما
نزل إليهم، كما تركه بكر أيضا، وهو رسول الله (ص)، ولو أنهم
جمعوا آي القرآن كلها، وكلام النبي (ص)، وجعلوه كله لازما
وحكما واحدا ومتبعا كله لاهتدوا على أن الخوارج أعذر منه، وأقل
ضلالا، لانهم لم يلتزموا
قبول خبر الواحد، وأما هو فالتزم وجوبه، ثم أقدم على استحلال
عصيانه.
والقول الصحيح ههنا: هو أن الروافض إنما ضلت بتركها الظاهر،
واتباعها ما اتبع بكر، ونظراؤه من التقليد، والقول بالهوى بغير
علم ولا هدى من الله عز وجل ولا سلطان ولا برهان، فقال
الروافض: * (وإذ قال موسى لقومه إن الله تذبحو ابقرة) * قالوا:
ليس هذا على ظاهره، ولم يرد الله تعالى بقرة قط، إنما هي عائشة
رضي الله تعالى عنها، ولعن من عقها، وقالوا: الجبت والطاغوت،
ليسا على ظاهرهما
(3/290)
إنما هما أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما،
ولعن من سبهما.
وقالوا: * (يوم تمور السماء مورا ئ وتسير الجبال سيرا) * ليس
هذا على ظاهره إنما السماء محمو والجبال أصحابه، وقالوا: *
(وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ليس هذا على
ظاهره، إنما النحل بنو هاشم، والذي يخرج من بطونها هو العلم.
وسلك بكر ونظراؤه طريقهم، فقالوا: * (وثيابك فطهر) * ليس
الثياب على ظاهر الكلام، إنما هو القلب.
وقالوا: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، ليس على ظاهره من تفرق
الابدان، إنما معناه ما لم يتفقا على الثمن.
وقالوا: * () * ليس على ظاهره: إنما هو ابن ذكر، وأما الانثى
فلا.
وقالوا: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم
الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم
قبيلتكم.
قال علي: ويسأل هؤلاء القوم، أركبت الالفاظ على معان عبر بها
عنها دون غيرها أم لا ؟ فإن قالوا: لا سقط الكلام معهم، ولزمنا
ألا نفهم عنهم شيئا، إذ لا يدل كلامهم على معنى، ولا تعبر
ألفاظهم عن حقيقة، وإن قالوا نعم ؟ تركوا مذهبهم الفاسد، وكل
ما أدخلنا على من قال بالوقف في الاوامر، فهو داخل على هؤلاء.
ويدخل على هؤلاء زيادة إبطال جميع الكلام، أوله عن آخره،
وكذلك يدخل عليهم أيضا ما يدخل على القائلين بالوقف في العموم،
وسنذكره في بابه إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله.
فإن قالوا: بأي شئ تعرفون ما صرف من الكلام عن ظاهره ؟ قيل لهم
وبالله تعالى التوفيق: نعرف ذلك بظاهر آخر مخبر بذلك، أو
بإجماع متيقن منقول عن رسول الله (ص)، وعلى أنه مصروف عن ظاهره
فقط، وسنبين ذلك في آخر باب الكلام في العموم والخصوص إن شاء
الله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أكذب الله تعالى هذه الفرقة الضالة بقوله عز وجل - ذاما
لقوم يحرفون الكلم عن مواضعه -: * () * لا بيان أجلى من هذ ه
الآية في أنه لا يحل صرف كلمة عن موضعها في اللغة، ولا تحريفها
عن موضعها في اللسان، وأن من فعل ذلك فاسق مذموم عاص، بعد أن
يسمع ما قاله تعالى.
قال عز وجل
(3/291)
: * (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد
آتيناك من لدنا ذكرا ئ من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة
وزرا) * فصح أن الوحي كله من يترك ظاهره فقد أعرض عنه، وأقبل
على تأويل ليس عليه دليل.
وقال تعالى: وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من
بعد ما عقلوه وهم يعملوم وكل من صرف لفظا عن مفهومه في اللغة
فقد حرفه.
وقد أنكر الله تعالى ذلك في كلام الناس بينهم فقال تعالى: *
(فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله
سميع عليم) * وليس التبديل شيئا غير صرف الكلام عن موضعه
ورتبته، إلى غيرها، بلا دليل من نصر أو إجماع متيقن عنه (ص).
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا
انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) * فصح أن اتباع الظاهر
فرض، وأنه لا يحل تعديه أصلا.
وقال تعالى: * (يأيها الذين يحب المعتدين) *.
والاعتداء هو تجاوز الواجب، ومن أزاح اللفظ عن موضوعه في اللغة
التي
بها خوطبنا بغير أمر من الله تعالى، أو رسوله (ص)، فعداه إلى
معنى آخر، فقد اعتدى فليعلم أن الله لا يحبه، وإذا لم يحبه فقد
أبغضه، نعوذ بالله من ذلك.
وقال تعالى: * (يتعد حدود الله فأولئك هم لظالمون) * وقال
تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا
فيها وله عذاب مهين) *.
وقد أخبر تعالى أنه: * (وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على
الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتص ادقين) * فنص نصا
جليا لا يحتمل تأويلا، على أنه علق كل مسمى اسما مخصوصا به،
وكذلك من حدود الله تعالى التي قد أخبر أنه من تعداها فهو
ظالم، وأنه يدخله نارا - وأهل ذلك هم - لاقدامهم على الباطل
الذي لا يخفى على ذي لب، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، ونسأله
التوفيق، فكل شئ يبدله لا إله إلا هو، فلا موفق إلا من هدى،
ولا ضال إلا من خذل.
ولله تعالى في كل ذلك الحجة البالغة علينا.
ولا حجة لنا عليه.
ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال تعالى: * (اتبع مآ أوحي إليك من ربك) * فأمره باتباع
الوحي النازل وهو
(3/292)
المسموع الظاهر فقط وقال تعالى: * (أولم
يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) * أخبر تعالى أن
الواجب علينا أن نكتفي بما يتلى علينا وهذا منع صحيح لتعديه
إلى طلب تأويل غير ظاهره المتلو علينا فقط، وقال تعالى آمرا
لنبيه (ص) أن يقول: * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا
أعلم الغيب) * إلى منتهى قوله تعالى اتن اتبع الا ما يوحى الى.
قال علي: ولو لم يكن إلا هذه الآية لكفت، لانه عليه السلام قد
تبرأ من الغيب، وأنه إنما يتبع ما يوحى إليه فقط، ومدعي
التأويل وتارك الظاهر تارك
للوحي مدع لعلم الغيب، وكل شئ غاب عن المشاهد الذي هو الظاهر
فهو غيب ما لم يقم عليه دليل من ضرورة عقل، أو نص من الله
تعالى، أو من رسوله (ص)، أو إجماع راجع إلى النص المذكور وقال
تعالى: * (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب
مفصلا فمن ابتغى حكما غير النصوص الواردة من الله تعالى في
القرآن، وعلى لسان نبيه (ص)، فقد ابتغى غير الله حكما.
وبين تعالى أن الحكم هو ما أنزل في الكتاب مفصلا، وهذا هو
الظاهر الذي لا يحل تعديه وقال تعالى: * () * فنص تعالى على أن
الباطل إنما يمتحى، وأن الحق إنما يصح بكلماته تعالى، فثبت
يقينا أن الكلمات معبرات عما وضعت له في اللغة، وأن ما عدا ذلك
باطل، فصح اتباع ظاهر اللفظ بضرورة البرهان.
وقال تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري
علينا غيره) *.
قال علي: ومن ترك ظاهر اللفظ وطلب معاني لا يدل عليها لفظ
الوحي فقد افترى على الله عز وجل، بنص الآية المذكورة.
وقال تعالى: * () * وقال تعالى: * () * فنص تعالى على البيان،
إنما هو القرآن وكلام النبي (ص) فقد فصح بذلك اتباع ما أوجب
القرآن وكلامه عليه السلام، وبطلان كل تأويل دونهما وقال
تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) *.
قال علي: ففي هذه الآية كفاية لمن عقل أن لغة النبي (ص) التي
(3/293)
خاطبنا بها، لا يحل أن نتعدى بألفاظها عن
موضوعاتها إلى ما سواه أصلا.
أخبرني يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري كتابا إلي، حدثنا
سعيد بن نصر، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا
خالد بن مخلد، حدثنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا هشام، عن عروة،
عن أبيه، قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ما كان رسول
الله (ص) يتأول شيئا من القرآن إلا آيا بعدد أخبره بهن جبريل
عليه السلام.
قال علي: فإذا كان النبي (ص) لا يتأول شيئا من القرآن إلا بوحي
فيخرجه عن ظاهرة التأويل، فمن فعل خلاف ذلك فقد خالف الله
تعالى ورسوله (ص)، وقد نهى تعالى وحرم أن يقال عليه ما لم
يعلمه القائل، وإذا كنا لا نعلم إلا ما علمنا، فترك الظاهر
الذي علمناه وتعديه - إلى تأويل لم يأت به ظاهر آخر - حرام
وفسق ومعصية لله تعالى، وقد أنذر الله تعالى وأعذر فمن أبصر
فلنفسه ومن عمي فعليها.
حدثنا حمام بن أحمد قال: حدثنا محمد بن يحيى بن مفرج، حدثنا
ابن الاعرابي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن
معمر عن جعفر بن برقان قال: قال أبو هريرة: يا ابن أخي إذا
حدثت بالحديث عن رسول الله (ص) فلا تضرب له الامثال، وصدق أبو
هريرة رضي الله عنه ونصح.
وبالله تعالى التوفيق.
فصل في الاوامر، أعلى الفور هي أم على التراخي قال القائلون:
إن الاوامر على التراخي، وقال آخرون: فرض الاوامر البدار إلا
ما أباح التراخي فيها نص آخر أو إجماع.
قال علي: وهذا هو الذي لا يجوز غيره، لقول الله تعالى: *
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * وقال تعالى: * (فاستبقوا
الخيرات) * وقد قدمنا أن أوامر الله تعالى على الوجوب، فإذا
أمرنا تعالى بالاستباق إلى الخيرات، والمسارعة إلى ما يوجب
المغفرة، فقد ثبت وجوب البدار إلى ما أمرنا به ساعة ورود الامر
(3/294)
دون تأخر ولا تردد، وقد شغب بعض المخالفين
فقال: ليس في قوله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم في أن
الاوامر واجب البدار إليها، لانه تعالى أمرنا بالمسارعة إلى
المغفرة لا إلى الفعل.
قال علي: وهذا مما يسر فيه هؤلاء القوم لعكس الحقائق، وقد
أيقنا بقوله تعالى: * (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) * أن أحدا
لا يؤتى المغفرة إلا بعمل صالح يقتضي له وعد الله تعالى
بالرحمة والمغفرة، وعلمنا ذلك يقينا أن مراد الله تعالى بقوله:
* (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * إنما هو سارعوا إلى الاعمال
الموجبة للمغفرة من ربكم إذ لا سبيل إلى المسارعة إلى المغفرة
إلا بذلك، وهذا من الحذف الذي دلت عليه الحال، وإنما قلنا هذا
لوجهين: أحدهما: النص الجلي الوارد في أنه لا يجزي أحد بمغفرة
ولا غيرها إلا بحسب عمله.
والثاني: النص الوارد بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وليس
في وسع أحد المسارعة إلى المغفرة المجردة دون توسط عمل صالح،
فهذان الظاهران نصا أن في تلك الآية حذفا دلت عليه الحال، فما
كان مرتبطا بوقت واحد كصيام رمضان فقد جاء النص بإيجاب تأخيره
إلى وقته، فإذا خرج الوقت فقد ثبت العجز عن تأديته كما أمرنا
إلا بأن يأتي في شئ من ذلك نص آخر فيوقف عنده، وما كان مرتبطا
بوقت فيه مهلة فقد جاء النص بإباحة تأخيره إلى آخر وقته،
وإيجاب تأخيره إلى أول وقته، فإذا خرج الوقت فكل ما قلنا في
الذي قبله ولا فرق، وذلك كأوقات الصلاة.
وما لم يأت مرتبطا بوقت، ففرضه البدار في أول أوقات الامكان،
إلا أن الامر به لا يسقط عن المأمور به لعصيانه في تأخيره،
وكذلك ما كان مرتبطا بوقت له أول محدود لم يحد آخره، أو ما كان
مرتبطا بوق ت محدود متكرر.
فالنوع الاول: كقضاء صيام المريض والمسافر لايام رمضان، فذلك
لازم
في أول أوقات القدرة عليه، فإن بادر إليه فقد أدى ما عليه وإن
أخره لغير عذر كان عاصيا بالتأخير وكان الامر عليه ثابتا أبدا.
والنوع الثاني: كوجوب الزكاة، فإن لوقتها أولا وهو انقضاء
الحول، وليس قبل ذلك أصلا، وليس لآخر وقتها آخر محدود، بل هو
باق أبدا إلى وقت العرض
(3/295)
على الله عز وجل، لان النص لم يأت في ذلك
بانتهاء، والقول في المبادرة إلى أدائها وفي التأخير كما قلنا
في النوع الذي قبله.
والنوع الثالث: كالحج فإنه مرتبط بوقت من العام محدود، وليس
ذلك على الانسان في عام بعينه، بل هو ثابت على كل مستطيع إلى
وقت العرض على الله عز وجل، والقول في البدار إليه أو تأخيره،
كالقول في النوعين اللذين قبله.
فإن قال قائل: فلم أجزتم صيام كفارة اليمين وقضاء رمضان غير
متتابع، وكذلك صيام متعة الحج، وكذلك غسل الاعضاء في الوضوء،
والغسل من الجنابة والجمعة، فأجزتم كل ذلك غير متتابع ؟.
قيل له، وبالله تعالى التوفيق: إنا لم نفارق أصلنا الذي ذكرنا،
ولا خالفنا النص في شئ من ذلك، لان الله تعالى إنما أوجب في
الكفارة ثلاثة أيام، ومعنى ثلاثة أيام يوم ويوم ويوم، ولكل يوم
حكمه.
فإذا صام يوما فقد صام بعض فرضه، وأدى من ذلك فرضا قائما
بنفسه، والصيام شئ آخر غير المبادرة، فإذا صام غير مبادر فقد
أطاع في أداء الصوم، وعصى في ترك البدار، وهما فرضان متغايران
لا يبطل أحدهما ببطلان الآخر، وإنما ذلك كمن صلى ولم يزك،
فعليه معصية ترك الزكاة، وله أجر الطاعة بالصلاة، ولا تظلم نفس
شيئا: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ئ ومن يعمل مثقال ذرة
شرا يره) *.
وإنما كان يبطل أحدهما بترك الآخر، ولو جاء النص يربط أحدهما
بالآخر،
كربطه تعالى التتابع في صيام الظهار، وفي صيام كفارة القتل،
فهذان إن لم يتابعا فلم يؤديا كما أمر الله تعالى، ولم يشترط
التتابع في قضاء رمضان، ولا في الكفارات، ولا في متعة الحج،
وأمر الله تعالى بالمسارعة إلى الطاعات، هو أمر بأن يكون فعلنا
على تلك الصفة من المسارعة، فالمسارعة المأمور بها صفة لفعلنا،
فمن تركها عصى وكان مؤديا لما أداه غير مسارع ما لم يشترط
الوقت والتتابع، وأمره تعالى بالتتابع في صيام الظهار، وكفارة
القتل، هو أمر بأن يكون ذلك الصيامان على هذه الصفة، فالمتابعة
المأمور بها هنالك صفة للشهرين، فإذا لم يكونا متتابعين فليسا
اللذين أمر الله تعالى بهما.
وكذلك نقول في غسل الاعضاء في الوضوء وغسل الجنابة أنه غير
مأمور
(3/296)
بذلك، إلا إذا قام إلى الصلاة فقط، فمتى
أراد صلاة تطوع أو صلاة فرض فهو قائم إلى الصلاة، ولم يخص
تعالى بذلك القيام إلى الصلاة فرض دون القيام إلى صلاة تطوع،
فله حينئذ أن يغتسل ويتوضأ، فإذا أتمها فله أن يؤخر التطوع ما
شاء، وله تأخير الفرض بمقدار ما يدركها مع الامام، أو كان ممن
عليه فرض حضورها في الجماعة، أو إلى آخر وقتها، إن كان ممن لا
يلزمه فرض حضورها في جماعة، ثم لا يحل له تأخيرها أصلا أكثر.
وأما من لا يريد صلاة، ولا يمكنه صلاة، كالحائض إثر الجماع،
فقد صح عن رسول الله (ص) أنه طاف على جميع نسائه، واغتسل بين
كل اثنتين منهن، فصح بهذا النص أن الغسل جائز تعجيله، وإن لم
يرد الصلاة بعده، وبالله تعالى نتأيد فلما أبيح لنا ذلك كان
المفرق والمتابع يقع على فعلهما اسم وضوء وغسل على السواء
وقوعا مستويا، وكان في غسله عضوا من أعضائه بنية ما أبيح له من
تعجله، مؤديا لفرض غسل ذلك العضو، ولكل عضو حكمه فمن فرق غسله
أو وضوءه
ما لم يقم إلى الصلاة فلم يترك مسارعة أمر بها حتى إذا أراد
القيام إلى الصلاة، إما مع الامام، وإما في آخر وقتها، ففرض
عليه المسارعة إلى إتمام وضوئه وغسله.
وكذلك قلنا في قضاء رمضان: إنه إنما أمر تعالى بأيام أخر، ولم
يشترط فيها المتابعة، فمن بادر إلى صيامها فقد أدى فرض الصوم
وفرض البدار، ومن لم يبادر وصام فقد أدى فرض الصوم، وعصى في
ترك فرض المسارعة.
وكذلك نقول فيمن لم يعجل تأدية زكاته في أول أوقات وجوبها،
وفيمن أخر الحج عن أول أوقات الامكان، أنه إن حج وزكى بعد ذلك
فقد أدى فرض الزكاة والحج، وعليه إثم المعصية بترك المسارعة،
لا يسقط ذلك الاثم عنه أداء ما أدى من ذلك إلا في الموازنة يوم
القيامة، يوم وجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا.
قال علي: ومما يوجب أيضا فرض المبادرة إلى الطاعة، قول الله
تعالى: * (والسابقون السابقون ئ أولئك المقربون) * وقد قال
عليه السلام: لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى أو
كلاما هذا معناه، هذا وإن كان إنما أوجب أن يقول عليه السلام
تأخر قوم عن الصف الاول لبعض الامر المكروه، فهو محمول على
ظاهره ومقتضى لفظه على ما قد أثبتنا وجوبه في الفصل الذي قبل
هذا
(3/297)
قال علي: وقد سأل أبو بكر محمد بن داود -
رحمة الله عليه - من أجاز تأخير الحج فقال: متى صار المؤخر
للحج إلى أن مات عاصيا، أفي حياته فهذا غير قولكم أو بعد موته
؟ فالموت لا يثبت على أحد معصية لم تكن لازمة في حياته.
قال علي: ونحن نزيد في هذا السؤال فنقول: وبعد الموت لا يأثم
أحد إلا من سن سنة سوء يقتدى به فيها.
فأجابه بعض المجيزين لذلك - وهو أبو الحسن القطان الشافعي -
بأن قال: إنما كان له في التأخير بشرط أن يفعل قبل أن يموت،
فلما مات قبل أن يفعل علمنا أنه
لم يكن له مباحا التأخير.
قال علي: ونحن نقول: إن أبا الحسن لم يحقق الجواب الشافي، وكان
أدخل في الشغب لو قال: إنه إثم في آخر عام قدر فيه على الحج
ولم يحج، كما قال الشافعي فيمن حلف بالطلاق، إن لم يطلق
امرأته، إنها لا تطلق إلا آخر أوقات صحته التي كان فيها قادرا
على الطلاق.
قال علي: ونحن نجيب في هذين الجوابين معا ببيان لائح بحول الله
وقوته فنقول: قال الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)
* وإنما يلزم الله تعالى الاثم من ترك ما لم يعلم أنه ليس له
تركه، أو قامت عليه بذلك حجة، أو عمل ما يعلم أنه ليس له أن
يعمله، أو قامت عليه حجة بذلك، ولم يطلع الله أحدا على وقت
منيته، ولا عرفه بآخر أوقات قدرته، ولا قامت عليه حجة في ذلك
الوقت إلا ما قد قام في سائر الاحوال قبل ذلك، ولا حدث عليه من
الاوامر إلا ما حدث قبل ذلك الوقت، فإن كان عاصيا في ذلك الوقت
فهو عاص قبل ذلك الوقت، وإن لم يكن عاصيا قبل ذلك الوقت فليس
عاصيا في ذلك الوقت، إلا بنص يخص ذلك الوقت، بوقوع المأثم فيه
دون غيره، ومن فرق بين الاوقات بلا نص ولا إجماع، فقد قال بلا
علم وذلك حرام.
وأيضا فإن الله تعالى لم يكلف أحدا أن يعلم هل يموت قبل أن
يؤدي ما عليه فيأثم، أو يعلم أنه لا يموت حتى يؤدي فيسقط عنه
المأثم، وقول القطان يوجب أن الناس مكلفون ذلك، ويوجب أيضا أن
يكون المستطيعون للحج المؤخرون له بلا عذر مختلفي الاحكام،
فبعضهم آثم في تأخيره،
(3/298)
وهذا مع ما فيه من التحكم بلا دليل، ومن
تكليف المرء علم متى يموت، فمخالف لجملة مذاهب أصحابه في الفسخ
في تأخير الحج جملة، وهو ممن لا يخالفها أصلا،
ولولا ذلك لشكرناه على خلافها ولم نلمه، وبالله تعالى التوفيق.
فبقي سؤال أبي بكر رحمة الله عليه بحسبه.
قال أبو محمد، ومما يبين أن الاوامر على الفور قوله تعالى: *
(فلولا نفر من كل فأوجب تعالى قبول النذارة، وقال تعالى: * ()
* فأمر تعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق واستثناه من قبول
النذارة، وليس إلا توقف أو بدار، ولا سبيل إلى قسم ثالث إلا
الترك جملة، والتوقف هو أيضا ترك، فلما خص خبر الفاسق بالتوقف
فيه، وأبانه بذلك عن خبر غير الفاسق، وجب البدار ضرورة إلى خبر
العدل، فوجب الفور بالبرهان الضروري، وبطل الوقف إلا في خبر
الفاسق.
قال علي: ويكفي من ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف الرجل
الصالح، قال: ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى
البغدادي، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن
الحجاج، ثنا عبد الله بن معاذ العنبري وقال: ثنا أبي، ثنا
شعبة، عن الحكم، سمع علي بن الحسين عن ذكوان مولى عائشة أنها
قالت: قدم رسول الله (ص) لاربع مضين من ذي الحجة أو خمس، فدخل
علي رسول الله (ص) وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله
أدخله الله النار ؟ قال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا
هم يترددون، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي
معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلوا.
قال علي: فرفع هذا الحديث الشك جملة، وبين عليه السلام أن أمره
كله على الفرض، وعلى الفور، وإن التردد حرام لا يحل، ونعوذ
بالله العظيم من كل ما أغضب النبي (ص).
فإن اعترضوا بمن بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ، قلنا: هو
بمنزلة من لم يبلغه الامر في أنه لم يلزم حكما فلا يلام على
تركه حتى يبلغه، ولا يعذب على تركه حتى يعمله - وبالله تعالى
التوفيق - بل حكمه الثبات على ما بلغه من المنسوخ، لانه
مأمور به جملة حتى يبلغه الناسخ، لقوله تعالى: * (لانذر كم به
ومن بلغ) * فصح أن
(3/299)
الذي بلغه من أمر الله تعالى في القرآن أو
على لسان رسول الله (ص) هو اللازم، لقوله عز وجل: * (وأطيعوا
الله وأطيعوا الرسول) * حتى يبلغه الامر الناسخ، فحينئذ يسقط
عنه المنسوخ ويلزمه الناسخ.
وأما احتجاجهم بتأخيره عليه السلام الحج، فقد حج عليه السلام
قبل الهجرة، ورآه جبير بن مطعم واقفا بعرفة، فأنكر جبير ذلك،
لانه كان عليه السلام من الخمس الذين لا يقفون بعرفة، ويكفي من
هذا كله أنا على يقين من أن الله تعالى أمره بتأخير الحج، حتى
يعهد إلى المشركين ألا يقربوا المسجد الحرام، وإنما قطعنا على
ذلك لقول الله تعالى آمرا أن يقول: * (ان اتبع الا ما يوحى الى
فصح يقنا انه عليه السلام لا يفعل إلا ما يوحي إليه ربه عز
وجل، فلما أخر الحج علمنا أنه فعل ذلك عليه السلام بوحي، وكان
عليه السلام قد أعلمه ربه تعالى أنه لا يقبضه حتى يتم التعليم،
ويكمل التبليغ، ويدخل الناس في دين الله أفواجا، وهذا يقتضي
أنه لا يموت حتى يعلم الناس مناسكهم، وليس غيره عليه السلام
كذلك.
وأيضا فلا ندري متى نزل فرض الحج عليه لعله إنما نزل عليه إذ
حج عليه السلام حجة الوداع، وهذا هو الاظهر، لانه لو نزل قبل
ذلك لما آخر عليه السلام تعليم المناسك إلى حجة الوداع التي
قال فيها: خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أو
كما قال عليه السلام، ويبين ذلك الحديث الطويل عن جابر، ففي
أوله: ثم أذن رسول الله (ص) في العاشرة أن رسول الله (ص) حاج،
فلو فرض الحج قبل ذلك لما أخر الاذان في الناس بوجوبه عليهم.
والحديث المأثور من طريق ابن عباس وأبي هريرة إذ خطب الناس
فقال:
إن الله فرض عليكم الحج فقال له قائل: - وقيل إنه الاقرع بن
حابس - أفي كل عام يا رسول الله ؟ وهذا والله أعلم إنما كان في
حجة الوداع.
وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بما يدل على ذلك من خروجهم إلى
الحج في ذلك العام، ينتظرون أمره عليه السلام، والوحي ينزل
عليه، والاحكام التي نزلت في تلك الحجة من نسخ الحج لمن لم يسق
الهدي، وأن يحل بمتعة، ومن
(3/300)
إيجاب القران على من ساق الهدي، وسائر ما
نزل في تلك الحجة من بيان شرائع الحج مما لم يكن نزل قبل ذلك،
وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله على محمد نبي الرحمة، وهادي
الامة وسلم.
فصل في الامر المؤقت بوقت محدود الطرفين في الامر المؤقت بوقت
محدود الطرفين، متى يجب أفي أوله أم في آخره ؟ والامر المرتبط
به بصفة ما، والامر المؤقت بوقت محدود الاول غير محدود الآخر،
وفيه زيادات تتعلق بالفصل الذي أتممناه قبل هذا.
قال علي: أما الامر المرتبط بوقت لا فسحة فيه فغير جائز تعجيل
أدائه قبل وقته، ولا تأخيره عن وقته، وذلكم ما ذكرنا قبل هذا
من صيام شهر رمضان، فإن جاء نص بالتعويض منه وأدائه في وقت
آخر، وقف عنده، وكان ذلك عملا آخر مأمورا به، وإن لم يأت بذلك
نص ولا إجماع، فلا يجوز أن يؤدى بشئ منه في غير وقته.
وكذلك كل عمل مرتبط بوقت محدود الطرفين، كأوقات الصلوات وما
جرى هذا المجرى، فلا يجوز أداء شئ من ذلك قبل دخول وقته، ولا
بعد خروج وقته، ومن شبه ذلك بديون الآدميين لزمه أن يجيز صيام
رمضان في شعبان قياسا على تعجيل ديون الناس قبل حلول أوقاتها،
ولزمه أن يجيز تقديم الصلوات قبل وقتها
قياسا على ذلك، وعلى ما أجازوا من تعجيل الزكاة قبل حلول
وقتها، فبعضهم قال: بثلاثة أعوام، وبعضهم قال: بعام فأقل،
وبعضهم قال: الشهر والشهرين ونحو ذلك، وبعضهم فرق متحكما،
فأجاز تعجيل الزكاة التي في الاموال قبل الحول بشهر أو شهرين،
ومنع من شهرين ونصف، وأجاز في تعجيل زكاة الفطر اليوم واليومين
ومنع من ثلاثة أيام، وهذا قول يكفي من بطلانه سماعه، لانه حكم
بلا إذن من الله عز وجل، وفرق بلا دليل.
قال علي: ولا فرق بين ما أجاز أداء الامر بعد انقضاء وقته،
وبين من أجازه قبل دخول وقته هذا على أن بعضهم قد أجاز للمريض
الذي يخاف تغير عقله تعجيل الصلاة قبل وقتها، فإذا ادعوا أن
الاجماع منعهم من ذلك أكذبهم قول
(3/301)
ابن عباس، فإنه يجيز أداء الصلاة قبل دخول
وقتها، وصلاة الظهر قبل زوال الشمس، ولا فرق في ديون الناس بين
أدائها بعد وقتها وحلول أجلها، وبين أدائها قبل وقتها وحلول
أجلها فليقولوا كذلك في جميع شرائع الله تعالى.
قال علي: وبطلان هذا القياس سهل، فلو كان القياس حقا لكان في
هذا المكان باطلا بحتا، بحول الله وقوته، فنقول وبالله تعالى
التوفيق: إن ديون الناس التي إلى أجل، لا يجوز لاحد أداؤها قبل
حلول أوقاتها، ولا تأخيرها عن حلول أوقاتها إلا بإذن الذين لهم
الديون ورضاهم، ولا خلاف في ذلك جملة، ولكن تناقض من تناقض في
بعض ذلك، ولا خلاف في أن من كان له على أحد ثلاثة ديون من ثلاث
معاملات، وكلها إلى آجال محددة، فأذن الذي له الدين في تعجيل
أحد تلك الديون بعينه قبل الاجل، ورضي بذلك الغريم ثم أذن في
تأخير آخر من تلك الديون بعينه بعد حلول أجله، فليس ذلك بموجب
جواز تعجيل الدين الذي لم يأذن بتعجيله، ولا بمجيز تأخيره عن
أجله هذا ما لا خلاف بين اثنين
فيه، فإذا لم يكن إذن الناس فيما أذنوا فيه من تعجيل ديونهم أو
تأجيلها، موجبا أن يقاس ما سكتوا عنه من سائر ديونهم على ما
أذنوا فيه من تعجيل ديونهم، فذلك أبعد من أن تقاس ديون الله
تعالى التي لم يأذن في تأجيلها، ولا في تعجيلها على ما أذن
الناس فيه من تعجيل ديونهم وتأجيلها.
قال علي: وهذا ما لا خفاء به على من له مسكة عقل، وأيضا فلا
خلاف بين اثنين في أن من له دين فأسقطه البتة، ورضي الغريم
بذلك، فإن ذلك الدين ساقط، فيلزمهم إذا أجازوا تأخير ديون الله
تعالى عن أوقاتها، وتعجيل بعضها عن أوقاتها - وإن لم يأذن الله
تعالى في ذلك - قياسا على جواز تأخير ديون الناس، وجواز
تعجيلها إذا أذنوا في ذلك - بأن يجيزوا سقوط ديون الله تعالى
بالبتة، وإن لم يأذن الله تعالى في ذلك، قياسا على سقوط ديون
الناس بالبتة - إذا أذنوا في ذلك - وهذا أصح قياس وأشبه
بقياسهم الذين حكوا، لو كان القياس حقا، والقياس بحمد الله
تعالى باطل محض.
قال علي: وأيضا فإن الزكوات والكفارات بالصدقات، وإن كان الله
تعالى قد جعلها للمساكين، فليست من حكم ديون الناس في ورد ولا
صدر، لان ديون
(3/302)
الناس التي راموا تشبيه الزكوات بها، هي
لاقوام بأعيانهم، فحكمهم جائز فيها، لانها مال متعين لهم،
وموروث عنهم، وأما الزكوات والكفارات فليست لقوم من المساكين
بأعيانهم، ولا هؤلاء المساكين بأولى بها من غيرهم من المساكين،
فما كان هكذا فلا إذن لمن حضر من المساكين فيها لا بتعجيل ولا
بتأجيل، ولا يستحقونها إلا بقبضها في أوقاتها، لا قبل ذلك ولا
بعده.
وبيان ذلك أنها لا تورث عنهم قبل قبضهم لها، ولا يجوز حكمهم
فيها، ولا تصرفهم ولا إبراؤهم قبل قبضها، وكل هذا لا خلاف فيه،
وإنما شبه رسول الله (ص)
ديون الناس بديون الله تعالى في شيئين لا ثالث لهما.
أحدها: بقاء حكمها بعد الموت وبعد العجز.
والثاني: أداء الولي لها عن الميت فعصوا الله تعالى - أو من
عصاه منهم - ورسوله (ص)، في الوجهين اللذين شبه رسول الله (ص)
فيها ديون الناس بديون الله تعالى، وتركوهما معا، فقالوا: من
مات وعليه حج أو زكاة أو صيام أو كفارات، فقد سقط وجوبها فيما
ترك، ولا يقضى عنه إلا أن يأمر بذلك فيقضى عنه الزكاة والحج
خاصة من الثلث، ويطعم عنه إن - أوصى بذلك - في الصيام فقط.
ثم شبهوا ديون الله بديون الناس فيما لا شبه فيه بينهما، وفيما
لم يأذن به الله عز وجل، ومن شغب منهم بالحديث الذي روي من جمع
زكاة الفطر في المسجد، ومبيت أبي هريرة عليها، فلا حجة لهم
فيه، لانه لا يخلو ذلك الجمع المذكور من أحد وجهين لا ثالث
لهما: أحدهما: أن تكون جمعت ولم تفرق حتى يأتي يوم الفطر الذي
هو وقت أدائها، وليس هذا مخالفا لقولنا، ولو جاء وقت أدائها
لما حل لمسلم أن يظن بالنبي (ص) أنه أخر إعطاءها - وهو عليه
السلام إذ بقي عنده دينار لم يستحقه عليه أحد لم يأو إلى
نسائه، ولا فارق المسجد ليلا ولا نهارا قلقا آسفا حتى يعطيه،
فكيف يمنع أحدا حقا وقد وجب أداؤه، - ومن ظن هذا بالنبي (ص)
فقد هذي.
أو تكون أخرجت في وقتها ولا يحضر من يستحقها فانتظر النبي (ص)
حضورهم كما كان يفعل بما اجتمع عنده عليه السلام من غنم الصدقة
ونعمها، ولا يحل لمؤمن أن يظن بالنبي (ص) غير
(3/303)
أحد هذين الوجهين.
وبالله تعالى التوفيق، وليس في المذكور أنها أعطيت المساكين
قبل يوم الفطر فبطل تشغيبهم به، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فإذا كان حكم الاموال والعبادات ما ذكرنا، فلا خلاف
في أن الوقت إنما معناه زمان العمل، وأنه لا يفهم من قول الله
عز وجل ورسوله (ص): اعملوا عمل كذا في وقت كذا، وصلوا صلاة كذا
من حين كذا إلى حين كذا - إلا أن هذا الزمان المحدود هو الذي
أمرنا فيه بالعمل المذكور، فنقول حينئذ للمخالف: ما معنى خروج
الوقت ؟ فلا بد ضرورة من أنه انقضاء زمان العمل، فإذا ذهب زمان
العمل، فلا سبيل إلى العمل، إذ لا يتشكل في العقول كون شئ في
غير زمانه الذي جعله الله تعالى زمانا له، ولم يجعل له زمانا
غيره، وهذا من أمحل المحال وأشد الامتناع الذي لا يدخل في
الامكان البتة.
فإن قال قائل: كل وقت فهو لذلك العمل وقت.
أبطل حكم الله تعالى ورسوله (ص) في حدهما الوقت، وتعدى حدودهما
واستحق النار، وقد قال تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد
حدوده يدخله نارا خالدا فيها وتعدي الحدود على الحقوق، هو أن
يحد الله تعالى وقتا فيتعداه مخلوق من الناس - دون نص ورد -
إلى وقت آخر، وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإنهم لا يقدمون على إطلاق تمادي الوقت بعد خروج الوقت
المنصوص.
ويقال لهم أيضا: أخبرونا عن هذا الذي تعمد ترك الصلاة حتى خرج
وقتها فأمرتموه بإعادتها، أفي الوقت الذي رتبه الله تعالى
أمرتموه بها ؟ أم في وقت لم يرتبه الله تعالى لها وقرنها به ؟
فإن قالوا في وقتها الذي رتبه الله تعالى لها، كفروا وكذبوا
مجاهرة، وإن قالوا: بل في وقتها، أقروا بأنهم أمروا أن تؤدى
الصلاة بخلاف ما أمر الله تعالى، ومن فعل شيئا بخلاف ما أمر
الله تعالى به، فلم يفعل الذي أمر، بل فعل ما لم يؤمر به، فهو
عاص في ذلك الفعل مرة ثانية، وإنما يأمرونه بمعصية وبأمر غير
مقبول لقوله عليه السلام: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
فصح لما ذكرنا - صحة جلية - أن من أمره الله تعالى
بأداء عمل ما، في وقت ما، فعمله في غير ذلك الوقت، فإنما عمل
عملا لم يؤمر به،
(3/304)
ومن أمر بعمله فقد شرع شريعة لم يأذن بها
الله تعالى، بل قد نهى عنها، إذ نهى عن تعدي حدوده.
ولا يشك ذو حس أن صوم غد هو غير صوم اليوم، فمن أمره الله
بصيام اليوم فأفطر عامدا للمعصية، ثم صام غدا، فإنما صام يوما
لم يأمره الله تعالى بصيامه، فلا يكون ذلك قاضيا ما أمر به،
ولا يؤدي أحد ما أمر به إلا كما أمر به، لا كما نهى، ولا فرق
بين هذا وبين ما أمره الله تعالى بحركة إلى مكان ما، كالحج إلى
مكة في ذي الحجة، فحج هو إلى المدينة في ذي القعدة فأي فرق بين
هذا وبين من أمر بصيام في رمضان، فصام هو في شوال ؟ أو بصلاة
ما بين زوال الشمس إلى زيادة الظل على مثل من يوم بعينه،
فصلاها هو في وقت آخر من يوم آخر، وأي فرق بين هذا وبين من أمر
أن يفعل فعلا في عين ما كنفقة على زوجة له مباح له وطؤها، ففعل
هو ذلك الفعل في غير تلك المرأة، فهل هذا كله إلا غير الذي أمر
به، وكل ذلك باب واحد، وطريق واحدة يجمعه كلها جمعا مستويا
قوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا
خالدا فيها وله عذاب مهين) * وقوله عليه السلام: من عمل عملا
ليس عليه أمرنا فهو رد وأي فرق بين تعلق الامر بالازمان وبين
تعلقه بالاعيان أو بمكان دون مكان ؟.
فإن قالوا: إنا قد وجدنا أوامر معلقة بزمان ينوب عنها تأدية
ذلك العمل في زمان آخر.
قيل له وبالله التوفيق: إذا جاء بذلك نص أو إجماع فقد علمنا أن
الله عز وجل مد ذلك الوقت، وعلق ذلك الامر، بذلك الزمان
الثاني، وجعله وقتا له، ونحن لا ننكر هذا، بل نقر به إذا أمرنا
به، لا إذا نهينا عنه، وقد جاء مثل ذلك في الامكنة، كمن نذر
صلاة في بيت المقدس، فإنه إن صلى بمكة أجزأه
للنص في ذلك، ولا يجزي ذلك فيما لم يرد فيه نص، وكذلك من مات
وعليه صيام لزم وليه أن يصوم عنه، للامر الوارد في ذلك، وكذلك
من لم يحج أحج عنه من رأس ماله للنصوص الواردة في كل ذلك.
فإن قالوا لنا: ما تقولون في الصلاة المنسية ؟ أو التي ينام
عنها ؟ أكل وقت لها وقت ؟ قيل له، وبالله تعالى التوفيق: نعم
كل وقت لها، ومتى ما صلاها
(3/305)
فهو وقتها بنص كلام رسول الله (ص)، وكذلك
السكران لقوله تعالى * () * فإن قالوا: فبأي شئ تأمرون من تعمد
ترك صلاة حتى خرج وقتها، وتعمد ترك صوم رمضان في غير عذر - من
سفر أو مرض أو غير ذلك مما جاء فيه نص أو إجماع ؟ قلنا لهم
وبالله تعالى التوفيق: نأمرهم بما أمرهم به ربهم عز وجل إذ
يقول: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * وبما يقول لهم نبيهم (ص)
إذ يقول: إن من فرط في صلاة فرض جبرت يوم القيامة من تطوعه
وكذلك الزكاة وكذلك سائر الاعمال، فأمره بالتوبة والندم
والاستغفار والاكثار من التطوع، ليثقل ميزانه يوم القيامة،
ويسد ما ثلم منه، وأما أن نأمره بأن يصلي صلاة ينوي بها ظهرا،
لم يأمره الله عز وجل به أو عصرا لم يأت به نص، أو نأمره بصيام
يوم على أنه من رمضان وهو من غير رمضان فمعاذ الله من ذلك.
فإذن كنا نكون متعدين بين يدي الله تعالى ورسوله (ص) وآمرين له
بأن يعمل غير ما أمره الله تعالى به بل ما قد نهاه عنه.
ثم نسألهم فنقول: هذا الذي تعمد ترك صلاة أو صوم، ثم أمرتموه
بقضائه أقضى ما أمره الله تعالى من ذلك كما أمر أم لا ؟ فإن
قالوا: نعم كذبوا، وهم لا يقولون ذلك، وإن قالوا: لا أقروا
بأنهم أمروه أن يؤدي العمل على غير
ما أمره الله تعالى به فإن سألونا بمثل ذلك في ناسي الصلاة
والنائم عنها، والمفطر لسفر أو مرض ؟ قلنا لهم: قد أدى ما أمره
الله تعالى به كما أمره، وفي الوقت الذي أمره الله تعالى به،
ولا ندري أقبل منه أم لا ؟ وكذلك كل عمل يعمله في وقته ولا
فرق، ولو صح الحديث في إيجاب القضاء على عامد الافطار لقلنا
به، ولكنه لم يصح إنما رواه عبد الجابر بن عمر، ومن هو مثله في
الضعف، فإن قالوا: أنتم تأمرون الولي بأن يصوم عنه إن مات، ولا
توجبون عليه أن يصوم عن نفسه.
قال علي: فنقول: كذبتم، إنما قلنا كما قال رسول الله (ص): من
مات وعليه صيام صام عنه وليه ومعنى عليه صيام، عليه أن يصوم،
لان الصيام مصدر، تقول: صام يصوم صياما وصوما، فإنما هذا فيمن
مات وعليه أن يصوم
(3/306)
- وإنما ذلك النادر - والذي فرط في قضاء
رمضان أفطره السفر أو مرض، فأما العامد للفطر بغير عذر فليس
عليه صيام، وإنما عليه إثم ترك الصيام، وفي هذا كفاية لمن عقل،
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وكل أمر علق بوصف ما، لا يتم ذلك للعمل المأمور به
إلا بما علق به فلم يأت به المأمور كما أمر، فلم يفعل ما أمر
به فهو باق عليه كما كان، وهو عاص بما فعل، والمعصية لا تنوب
عن الطاعة، ولا يشكل ذلك في عقل ذي عقل، فمن ذلك: من صلى بثوب
نجس أو مغصوب وهو يعلم ذلك، ويعلم أنه لا يجوز له ذلك الفعل،
أو صلى في مكان نهي عن الاقامة فيه كمكان نجس، أو مكان مغصوب،
أو في عطن الابل، أو إلى قبر، أو من ذبح بسكين مغصوبة، أو
حيوان غيره بغير إذن صاحبه، أو توضأ بماء مغصوب، أو بآنية فضة،
أو بإناء ذهب، فكل هذا لا يتأدى فيفرض، فمن صلى كما ذكرنا فلم
يصل، ومن توضأ
كما ذكرنا فلم يتوضأ، ومن ذبح كمذكرنا فلم يذبح وهي ميتة لا
يحل لاحد أكلها لا لربها ولا لغيره، وعلى ذابحها ضمان مثلها
حية، لانه فعل كل ذلك بخلاف ما أمر.
وقال عليه السلام: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
قال علي: وقد نهاه الله تعالى عن استعمال تلك السكين، وعن ذبح
حيوان غيره بغير إذن مالكه، وعن الاقامة في المكان المغصوب،
وأمر بالاقامة للصلاة، وبتذكية ما يحل أكله، وبضرورة العقل،
علمنا أن العمل المأمور به هو غير العمل المنهي عنه، ولا يتشكل
في العقل غير ذلك، فذبحه حيوان غيره أو بسكين مغصوبة ليس هو
التذكية المأمور بها، فإذا لم يذك كما أمر فلم يحل بذلك العمل
المنهي عنه أكل ما لا يحل أكله إلا بالتذكية المأمور بها، ولا
شك في أن إقامته في المكان المغصوب ليست الاقامة المأمور بها
في الصلاة، ولو كان ذلك لكان الله عز وجل آمرا بها، ناهيا عنها
إنسانا واحدا، في وقت واحد، في حال واحدة، وهذا مما قد تنزه
الحكيم العليم في إخباره تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها،
وليس اجتناب الشئ والاتيان به في وقت واحد في وسع أحد، فصح ما
قلنا، وبالله التوفيق.
وقد عارض في هذا بعض أهل الاغفال بمن طلق أو أعتق في مكان
مغصوب، أو صبغ لحيته بحناء مغصوبة، أو تعلم القرآن في مصحف
مغصوب.
(3/307)
قال علي: وهذا الاعتراض يبين جهل المعترض
به، لان الطلاق والعتاق والبيع والعطايا والصدقات لفظ لا يقتضي
إقامة مأمورا بها، بل مباح له أن يطلق ويفعل كل ذلك، وهو يمشي
أو وهو يسبح في الماء، فليس مرتبطا بالاقامة في المكان،
والصلاة لا بد لها من إقامة إلا في حالة المسابقة أو الضرورة،
فمن اضطر إلى الاقامة في مكان مغصوب فصلاته فيه تامة، لانه ليس
مختارا للاقامة هناك، والصابغ بالحناء بعد إزالة الحناء ليس هو
مستعملا في تلك الحال لشئ مغصوب، وأما
لو صلى وهو مختضب بها لبطلت صلاته لفعله فيها ما لا يحل له،
وأما تعلم القرآن فليس مرتبطا بجنس المصحف، وقد يتعلم المرء
تلقينا، ثم أيضا هو في حال حفظه غير مستعمل لشئ مغصوب، وكذلك
في قراءاته ما حفظ في صلاته، وبالله التوفيق.
وبالجملة فلا يتأدى عمل إلا كما أمر الله تعالى، أو كما أباح،
لا كما نهى عنه، وبالله تعالى التوفيق، وكل عمل لا يصح إلا
بصحة ما لا يصح، فإن ذلك العمل لا يصح أبدا، وكل ما لا يوجد
إلا بعد وجود ما لا يوجد، فهو غير موجود أبدا، وكل ما لا يتوصل
إليه إلا بعمل حرام فهو حرام أبدا، وكل شئ بطل سببه الذي لا
يكون إلا به فهو باطل أبدا، وهذه براهين ضرورية معلومة بأول
(3/308)
الحس، وبديهة العقل، ومن خالف فيها فهو
سوفسطائي، مكابر للعيان، وبالله التوفيق.
قال علي: وقد أشار قوم من إخواننا إلى أنه لا يقبل تطوع من
عليه فرض.
قال علي: وهذا إذا أجمل دون تفسير أو خطأ، وذلك أن الحديث قد
صح عن النبي (ص) أن الله تعالى يجيز صلاة من لم يتم فرض صلاته
بتطوع إن كان له وكذلك الزكاة، وكذلك سائر الاعمال.
قال علي: والصحيح في هذا الباب أن كل فرض تعين في وقت لا فسحة
فيه، فإنه لا يجزي أحدا أداه غيره في ذلك الوقت، وذلك كإنسان
أراد صيام نذر عليه، أو تطوع في شهر رمضان وهو مقيم صحيح، فهذا
لا يجزيه، أو كإنسان لم يبق عليه من وقت الصلاة إلا مقدار ما
يدخل فيها فقط، فهذا حرام عليه أن يتطوع أو يقضي صلاة عليه، أو
يصلي صلاة نذر عليه، حتى تتم التي حضر وقتها بلا مهلة ولا
فسحة، فإن قضى حينئذ صلاة فاتته لم تجزئه، وعليه قضاؤها ثانية،
وكذلك إن صلى صلاة نذر عليه، وليس كذلك من لزمته زكاة، ولم يبق
من ماله إلا قدر ما يؤدي ما وجب عليه منها فقط، إلا أن له غنى
بعد ذلك، فهذا يجزئه أن يتصدق
بما شاء منه تطوعا، وأن يؤدي منه نذرا، بخلاف ما ذكرنا قبل،
لان الزكاة في ذمته، لا في عين ما بيده.
وكذلك من أحاطت بماله ديون الناس - حاشا بعد الموت - لان النص
منع من ذلك، ولم يجعل وصية ولا ميراثا إلا بعد الدين.
ولكن من حضره وقت الحج وهو مستطيع، فلا يجزئه أن يحج تطوعا ولا
نذرا قبل أداء الفرض، وكذلك العمرة، لان النبي (ص) قال: من عمل
عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، فالمستطيع للحج مأمور بأدائه
حينئذ، ومن حضر رمضان فهو مأمور بصيامه لرمضان، ومن لم يبق
عليه من وقت صلاته إلا مقدار ما يدخل فيها فهو مأمور بالدخول
فيها، فإذا فعل غير ما أمر به فهو رد بنص كلام رسول الله (ص)
وليس كذلك من لم يبق بيده من ماله إلا مقدار الزكاة، أو مقدار
ديون الناس، لانه ليس مأمورا بأداء ذلك مما بيده، ولا بد لانه
لو استقرض مالا فأدى منه الزكاة التي عليه، وديون الناس التي
عليه أجزأه ذلك بلا خلاف، ولم يجز للقاضي أن يلزمه الاداء من
ماله ولا بد، والصلاة والحج والصيام في أوقاتها بخلاف ذلك.
(3/309)
وأما إذا دخل وقت الصلاة وفيه مهلة بعد،
فلا خلاف بين أحد من المسلمين في جواز التطوع حينئذ، وبهذا
جاءت النصوص، وأما من سافر في رمضان، أو مرض فهو غير مأمور
بصيامه لرمضان، وغير منهي عن صيامه لغير رمضان، فله أن يصومه
لما شاء من نذر، أو تطوع أو قضاء واجب، وأما من عليه صلوات
نسيها أو نام عنها، وعليه قضاء رمضان سافر فيه أو مرض فأفطر،
فإن وقت هذه الصلوات وقت قضاء هذا الصوم ممتدا أبدا، فإن أخر
قضاء ذلك وهو قادر غير معذور فهو عاص بالتأخير فقط، وذلك لا
يسقط عنه قضاء ما لزمه قضاؤه من ذلك، فهذا والصلاة التي دخل
وقتها سواء، فإن تطوع بصلاته أو
صيام لم يضع له ذلك عند الله تعالى، لان وقت ما لزمه ممتد بعد
فلا يفوته.
وبالله تعالى التوفيق، ومما يبين هذا حديث عائشة رضي الله عنها
أنها قالت: كانت تكون على الايام من قضاء رمضان، يعني من قضاء
أيام حيضها، ولا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان، لشغلي برسول
الله (ص) أو كلاما هذا معناه.
قال علي: وهذا مما قد أيقنا أن رسول الله (ص) علمه وأقر عليه،
لانه لا يجوز أن تحيض إلا وهو يعلم ذلك، لانها كانت لها ليلتان
من تسع، ولا يمكن أن يغفل عليه السلام أمرها بتعجيل القضاء لو
كان الفرض لا يجزئ إلا بتعجيله، وقولها لا أستطيع، أوضح عذر،
وهذا نص ما قلنا وبيانه.
ومما يبين صحة ما قلنا آنفا، من أن الزكاة وديون الناس وسائر
فرائض الاموال إنما هي واجبة في ذمة المرء، لا في عين ما بيده
من المال، أنه لو كانت واجبة في عين ما بيده من المال، ثم تلف
ذلك المال لسقطت عنه تلك الحقوق، وهذا باطل، وأيضا فإنه مما لا
يقوله مسلم، فلما لم تسقط الحقوق المذكورة بذهاب جميع عين
المال، صح يقينا أنها في ذمته، وإنما يصير ما له لغيره بأحد
وجوه أربعة أوجبها النص وهي: أداؤه من ماله، أو قبض من له حق
حقه مما ظفر منه من ماله، أو قضاء الحاكم بما له للغرماء فيما
لزمه من الحقوق، أو بموته فقط.
وكان يكفي من هذا الحديث الصحيح: عن النبي (ص) بأمره بإكفاء
القدور وهي تفور باللحم الذي عجل أصحابه رضي الله عنهم، فذبحوا
من
(3/310)
المغنم قبل القسمة، فلو جاز أكل ذلك اللحم
لما أمر عليه السلام بإكفاء القدور وهي تفور.
وقد روي من طريق أخرى أنه عليه السلام جعل يرمله بالتراب
ويقول: إن النهبة ليست بأحل من الميتة أو كلاما هذا معناه، فإن
اعترضوا بحديث الشاة
التي روي أنه عليه السلام قال فيها: إني لاجد طعم لحم أخذ بغير
إذن أهله، أو كلاما هذا معناه، قال: ثم أمر عليه السلام
بإطعامه للاسارى، فهذا حديث لا يصح لانه إنما روي من طريق رجل
من الانصار، ولم يأت من غير هذه الطريق أصلا فسقط الاحتجاج به،
وهرقه عليه السلام اللحم من القدور في الارض، مع نهيه عليه
السلام عن إضاعة المال، دليل واضح على أنه لا يحل أكله وهذا نص
قولنا.
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وأما العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين، قد ورد
النص بالفسحة في تأخيره - فإنه يجب بأول الوقت، إلا أنه قد أذن
له في تأخيره، وكان مخيرا في ذلك وفي تعجيله، فأي ذلك أدى فقد
أدى فرضه، إلا أنه يؤجر على التعجيل لتحصيله العمل، واتهمه به،
ولا يأثم على التأخير لانه فعل ما أبيح له، وذلك مثل تأخير
المرء الصلاة إلى آخر وقتها الواسع، ولذلك أسقطنا الملامة
والقضاء عن المرأة تؤخر الصلاة عن أول وقتها فتحيض فعلت ما
أبيح لها، ومن فعل ما أبيح له فقد أحسن.
وقال تعالى: * (ما على المخسنين من سبيل) * فسقطت الملامة.
وقد أخر عليه السلام الصلاة إلى آخر وقتها، فصح بذلك أن ذلك
جائز مباح حسن، وإن كان التعجيل أحسن، وسقط القضاء عنها لخروج
الوقت، لانه يؤدي عمل إلا في وقته المأمور به، كما أسقط خصومنا
- موافقين لنا - القضاء عن المغمى عليه أكثر من خمس صلوات،
وبعضهم أسقطها عن المغمى عليه صلاة فما فوقها.
وأما كل عمل محدود الطرف الاول غير محدود الطرف الآخر، فإن
الامر به ثابت متجدد وقتا بعد وقت، وهو ملوم في تأخيره، لانه
لم يفسح له ذلك، وكلما أخره حصل عليه اسم التضييع، وإثم الترك
لما أمر به.
فإن أداه سقط عنه إثم الترك، وقد استقر عليه إثم ترك البدار.
ولا يسقطه عنه إلا ربه تعالى بفضله
(3/311)
إن شاء - لا إله إلا هو - كسائر ذنوبه التي
لا بد من الموازنة فيها، لان الاداء والتعجيل فعلان متغايران
كما قدمناه، وقد يؤدي من لا يعجل، فصح أنهما شيئان متغايران،
وكذلك القول في ديون الناس، فإن المماطل الغني آثم بالمطل،
وآثم بمنع الحق، فإذا أدى الحق يوما ما سقط عنه المنع، وقد
استقر إثم المطل عليه فلا يسقط عنه بالاداء، لان المنع والمطل
شيئان متغايران، وقد يؤدي ولا يمنع من قد مطل.
ولذلك قلنا، فيمن غصب مالا فلم يؤده إلى صاحبه حتى مات المغصوب
منه ثم أداه إلى ورثته: إنه باق عليه إثم الغصب من الميت،
وإنما سقط عنه إثم الغصب من الوارث وهو الثاني، لانه لا شك عند
كل ذي عقل أن ظلمه لزيد الموروث غير ظلمه لعمرو الحي الوارث.
وقد انتقل ملك المال إلى الوارث، وملك الوارث لذلك المال غير
ملك المورث له، هذا شئ يعلم بضرورة العقل وبديهة الحس.
فإن أحدث الغاصب ظلما ثانيا لهذا الحي، فهو عمل آخر، وإثم
متجدد، فإن رد إليه ماله فقد سقط عنه إثم ظلمه إياه، ولا يسقط
ما وجب لزيد من الحق في حياته إنصاف هذا الغاصب لعمرو بعد موت
زيد، وكذلك لو مات الغاصب فصرف المال وارثه، فإنما سقط الاثم
عن الوارث الصارف، لا عن الميت الغاصب، لان عمل زيد لا يلحق
عمرا إلا بنص أو إجماع، قال الله عز وجل: * (ولا تكسب كل نفس
الا عليها) * وقال تعالى: * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) *
اللهم إلا أن يرد نص بأن عمل زيد يلحق عمرا بعد موته أو في
حياته، فنقر بذلك سامعين طائعين، كالصيام عن الميت والحج عنه
وأداء ديونه، فلو أمر الميت أن يرد ما غصب في حياته كان قد
تبرأ أو سقط عنه إثم الامساك، وبقي عليه إثم المطل، لان كل ذلك
أعمال متغايرة، فلو تطوع امرؤ برد دين أو غصب عن ميت وجعل
الاجر للميت لكان ذلك لاحقا بالميت ومرد عنه على حديث أبي
قتادة،
(3/312)
وإنما نقول ما قال لنا الله تعالى ورسوله
(ص) ونعلم ما علمناه ولا مزيد، وبالله التوفيق.
وأصحاب القياس يتناقضون في المسائل التي ذكرنا أقبح تناقض،
فيجيزون قضاء الحج إذا وصى به، ولا يجيزون قضاء الصوم إذا أوصى
به، ويجيزون تقديم الصلاة قبل وقتها للمريض إذا خشي على عقله،
وفي ليلة المطر، ولا يقيسون على تقديم العتمة قبل ليلة المطر -
تقديم العصر قبل وقتها يوم المطر ولا تقديم الظهر قبل وقتها.
فإن قالوا: الوقت مشترك بين العتمة والمغرب لزمهم أن يجيزوا
تقديم العتمة إلى وقت المغرب لغير ضرورة، لانه وقتها، ومن صلى
الصلاة في وقتها فقد أحسن، ولزمهم تقديم العصر إلى الظهر بغير
ضرورة لذلك أيضا، وقد قال بذلك ابن عباس وجماعة من السلف رضي
الله عنهم، ولسنا نقول بذلك إلا في يوم عرفة فقط، لانه لم يأت
في ذلك نص غيره، فظهر عظم تناقضهم.
ولقد شاهدت بعض أهل مساجد الجانب الشرقي بقرطبة أيام تغلب
البربر عليها، يستفتون شيوخ المالكيين في تعجيل العتمة قبل
وقتها خوف القتل، إذ كان متلصصة البرابر يقفون لهم في الظلام
في طرق المسجد، فربما أوذوا إيذاء شديدا - فما فسحوا لهم في
ذلك، ولم يقيسوا ضرورة خوف الموت على ضرورة خوف بلل الثياب في
الطين، وهذا كما ترى، وبالله تعالى التوفيق.
وقال قوم: إن العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين هو في أول
الوقت ندب وفي آخره فرض.
قال علي: وهذا خطأ فاحش لانه لو كانت تأديته في أول الوقت ندبا
لما أجزأه ذلك، لان الندب غير الفرض، ولا ينوب عمل عن عمل آخر
غيره من غير نوعه إلا بنص، ولكن هذا بمنزلة الاشياء المخير
فيها في الكفارات أيها أدى فهو فرضه، وكذلك من صلى أول الوقت
فقد أدى فرضه، وإن صلى في وسطه فقد أدى فرضه،
وإن صلى في آخره فقد أدى فرضه، فإن قال الآمرون من تعمد ترك
صلاة حتى خرج وقتها بالقضاء: إنما فعلنا ذلك قياسا على قضاء
الصلاة المنسية، والتي نيم عنها.
قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: أكثركم لا يرى على الحالف على
الحنث عمدا كفارة، ولا على القاتل عمدا كفارة، قياسا على
المخطئ غير المعتمد، وهذا
(3/313)
تناقض منكم، وحتى لو طردتم خطأكم لكان ذلك
زيادة في الخطأ، لان القياس عن القائلين به إنما هو الحكم للشئ
بحكم شئ آخر لعلة جامعة بينهما، ولا علة تجمع بين الناسي
والعامد، وهذا هو قياس الشي على ضده، لا على نظيره، وهذا خطأ
عندكم وعند جميع الناس، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في موافقة معنى الامر لمعنى النهي قال علي: النهي مطابق
لمعنى الامر لان النهي أمر بالترك، وترك الشئ ضد فعله، وليس عن
الشئ أمرا بخلافه الاخص، ولا بضده الاخص، وتفسير الضد الاخص
أنه المضاد في النوع، وتفسير الضد الاعم أنه المضاد في الجنس،
فإذا قلت للانسان لا تتحرك فقد ألزمته السكون ضرورة، لانه لا
واسطة بين الضد الاعم، وبين ضده، فمن خرج من أحدهما دخل في
الآخر، وهذا الذي سميناه في كتاب التقريب المنافي، وأما من
نهيته عن نوع من أنواع الحركة فليس ذلك أمرا بضده، مثال ذلك:
لو قلت لآخر: لا تقم فإنك لم تأمره بالجلوس ولا بد، لان بين
الجلوس والقيام وسائط من الاتكاء والركوع والسجود والانحناء
والاضطجاع، فأيها فعل فليس عاصيا لك في نهيك إياه عن القيام
وكذلك لو قيل لانسان: لا تلبس السواد فليس في ذلك إيجاب لباسه
البياض ولا بد، بل إن لبس الحمرة والصفرة أو الخضرة، لم يكن
بذلك عاصيا، بل يكون مؤتمرا في تركه السواد، وبالله تعالى
التوفيق.
وأما الامر: فهو نهي عن فعل كل ما خالف العمل المأمور، وعن كل
ضد له خاص أو عام، فإنك إذا أمرته بالقيام فقد نهيته عن القعود
والاضطجاع والاتكاء والانحناء والسجود، وعن كل هيئة حاشا
القيام، وإنما كان هكذا لان ترك أفعال كثيرة مختلفة في وقت
واحد واجب موجود ضرورة، لان من قام فقد ترك كل فعل خالف القيام
كما أخبرنا في حال قيامه.
وأما الاتيان بأفعال كثيرة في وقت واحد، وهي مختلفة متنافية
ومتضادة، فمحال لا سبيل إليه ألا ترى من سافر فإنما يمشي إلى
جهة واحدة وهو تارك لكل جهة غير التي توجه نحوها، ولا يمكنه أن
يتوجه إلى جهتين في وقت واحد بفعله
(3/314)
نفسه.
وتخالف أيضا بنية النهي بنية الامر في وجه آخر، وهو أن ما ورد
نهيا بلفظ أو فهو نهي عن الجميع، مثل قوله تعالى: * (فاصبر
لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * ومثل قولك لا تقتل
زيدا أو عمرا أو خالدا، فهو يقتضي النهي عن قتلهم كلهم، وما
ورد أمرا بلفظ، أو فهو تخيير في أحد الاقسام المذكورة مثل
قولك: كل خبزا أو تمرا أو لحما، وخذ هذا أو هذا.
والنهي يقتضي اجتناب المنهى عنه، كما أن الامر يقتضي إتيان
المأمور به، وقد بينا أن النهي عن الشئ أمر بتركه، والامر
بالترك يقتضي وجوب الترك، وبينا أن الامر بالشئ نهي عن تركه،
فالنهي عن الترك يقتضي الفعل الذي بوقوعه يرتفع تركه، وبالله
تعالى التوفيق.
وقد اعترض في هذا بعض أهل الشغب فقال: لو كان الامر بالشئ نهيا
عن تركه، أو كان النهي عن الشئ أمرا بتركه، لكان العلم بالشئ
جهلا بضده.
قال علي: وحكاية هذا الكلام الساقط تغني عن تكلف الرد عليه،
لانه رام التشبيه بين ما لا تشابه بينه، وهو بمنزلة من قال: لو
كان الموت ضد الحياة لكان السمع ضد البصر، ومثل هذا من الغثائث
ينبغي لمن كان به رمق أن يرغب بنفسه
عنه، ولكن من لم يعد كلامه من عمله كثرت أهذاره، ومن لم يستح
فعل ما شاء، وأما العلم بالشئ، فهو على الحقيقة عدم العلم
بضده، لان علمك بأن زيدا حي، وهو عدم العلم، وبطلان العلم بأنه
ميت، وقول القائل: لا نأكل لا شك عند كل ذي حس أن معناه: اترك
الاكل ولا فرق.
وهذا من المتلائمات.
وقد أفردنا لهذا بابا في كتاب التقريب وبطل مما ذكرنا قول من
قال: النهي نوع من أنواع الامر، وقول من قال: الامر نوع من
أنواع النهي وصح أن كل أمر فهو أيضا نهي، وكل نهي فهو أيضا
أمر.
فإن قال قائل: قد يرد أمر ليس فيه نهي عن شئ أصلا، وهو أمر
الاجابة.
وقال آخر: قد يرد نهي ليس فيه معنى من الامر أصلا، وهو نهي عن
الاختيار للترك.
قال علي: كلاهما مخطئ، أما الامر بالاباحة فإنما معناه إن شئت
افعل، وإن شئت لا تفعل، فليس مائلا إلى الامر إلا كميله إلى
النهي ولا فرق، وكذلك القول في نهي الاختيار للترك، وهو
الكراهية ولا فرق، وهكذا أمر الندب ولا فرق، وفيه معنى إباحة
الترك موجود، وبالله تعالى التوفيق.
(3/315)
فصل في الامر هل يتكرر أبدا أو يجري منه ما
يستحق به المأمور اسم فاعل لما أمر به.
قال علي: اختلف الناس في الامر، إذا ورد بفعل ما، هل يخرج من
فعله مرة عن اسم المعصية، أو يتكرر عليه الامر أبدا فيلزمه
التكرار له ما أمكنه، فبكلا القولين قال القائلون.
قال علي: والصواب أن المطيع غير العاصي، ومحال أن يكون الانسان
مطيعا عاصيا من وجه واحد.
فمن أمر بفعل ما ولم يأت نص بإيجاب تكراره، ففعله فقد استحق
اسم مطيع، وارتفع عنه اسم عاص بيقين، وكل شئ بطل
فلا يعود إلا بيقين من نص أو إجماع.
وإنما تكلم في هذه المسألة القائلون بقول الشافعي رحمه الله،
في تكرار الصلاة على النبي (ص) في كل صلاة، لاجل قوله تعالى: *
(يايها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) *.
قال علي: ولو كان ما احتجوا به من وجوب التكرار صحيحا، لما كان
موضع الجلوس الآخر من الصلاة أحق به من القيام والسجود وسائر
أحوال الانسان، وهم إنما أوجبوا ذلك بعد التشهد الاخير من
الصلاة فقط.
وقد ورد حديث في لفظه إبعاد لمن ذكر عنده رسول الله (ص)، فلم
يصل عليه، فإن صح لقلت هو فرض متى ذكر عليه السلام، وإن لم يصح
فقد صح أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، ولا يزهد في
هذا إلا محروم، والذي يوقن فهو أنه من يرغب عن الصلاة على رسول
الله (ص)، وعن السلام عليه، فهو كافر مشرك، ومن صلى عليه وسلم
ثم ترك غير راغب عن ذلك، ولكن عالم بأنه مقصر باخس نفسه حظا
جليلا - فلا أجر له في ذلك ولا إثم عليه.
فإن قالوا: فما تقولون في الجهاد ؟ قلنا: قد صح أن الجهاد فرض
علينا إلى أن لا يبقى في الدنيا إلا مؤمن أو كتابي يغرم الجزية
صاغرا بأمر الله تعالى لنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، ويكون
الدين كله لله، ويؤمن المشركون كلهم، ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة، ويعطي أهل الكتاب الجزية وهم صاغرون.
فالقتال ثابت
(3/316)
علينا أبدا، حتى يكون ما ذكرنا، وحسبنا أنه
فرض على الكفاية، وتركه للمطبق مكروه ما لم يقو للعدو، أو لم
يستنفر الامام، فأي ذلك كان، فالجهاد فرض على كل مطيق في ذات
نفسه متعين عليه.
ويبطل قول من قال بالتكرار: أنه لو كان قوله صحيحا، للزم من
سلم عليه
أن يرد أبدا، ولا يمسك عن تكرار الرد، لقوله تعالى: * (وإذا
حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوها إن الله كان على كل شئ
حسيبا) * ولا خلاف في أن بمرة واحدة يخرج من فرض الرد.
وأما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمنكر الذي يرى غدا
غير المنكر الذي يرى اليوم، وفرض علينا تغيير كل منكر، وكذلك
القول في الامر بالمعروف، لان المعروف الذي يأمر به غدا غير
الذي أمر به اليوم، وقد جاء النص مبينا بقوله (ص): من رأى منكم
منكرا فليغيره ومما يبطل قول من قال بالتكرار قوله تعالى: *
(فريه مسلمه الى أهل وتحرير رقبة مؤمنة) * وأمره تعالى بأداء
الزكاة، وما أشبه ذلك، لا يلزم تكراره إلا ما جاء النص مبينا
بإيجاب تكراره، وإلا فوفاء واحد يجزي، ودية واحدة، ورقبة
واحدة.
قال علي: وقد احتج على القائلين بالتكرار بعض من سلف، ممن يقول
بأنه يخرج المأمور بذلك بفعله مرة واحدة، بأن قال لما أجمع
الناس على أن التكرار لا يلزم حتى يمتنع المرء من الاكل والنوم
والنظر في أسبابه، فلما صح ذلك لم يكن من حد في ذلك حدا أولى
ممن حد حدا آخر، فوجب أنه يخرج من المعصية بفعل ما أمر بفعله
مرة، واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام إذ سئل عن الحج أفي كل
عام ؟ فقال عليه السلام: دعوني ما تركتكم قالوا: فلو كان الامر
يجب تكراره لما أنكر عليه السلام على السائل عن الحج أفي كل
عام ؟ لانه كان يكون واضعا للسؤال موضعه، أو سائلا تخفيفا عما
يقتضيه اللفظ، ولكن رسول الله (ص) خشي أن يكون سؤاله موجبا
لنزول زيادة على ما اقتضاه لفظ الامر بالحج، فيدخل ذلك السائل
في جملة من ذم رسول الله (ص) بقوله أعظم الناس جرما في الاسلام
من سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته.
قال علي: وهذا احتجاج صحيح ظاهر.
قال علي: وقد تعلق بالتكرار من قال بإيجاب التيمم لكل صلاة.
(3/317)
قال أبو محمد: وهذا خطأ، لان نص الآية لا
يوجب التيمم إلا على من أحدث بقوله تعالى: * (وان كنم مرضى أو
على سفرا أو جاء.
حد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا طيبا) * فلو تركنا ظاهر هذه الآية لوجب الوضوء فرضا على
كل قائم إلى الصلاة، ولما وجب ذلك في التيمم.
لان نص الآية بإيجاب الوضوء على قائم إلى الصلاة، وليس فيه
إيجاب التيمم إلا على من أحدث فقط، ولكن لما صلى عليه السلام
الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، علمنا أن المأمور بالوضوء
هو المحدث فقط، وأما تكرار التيمم فنص الآية يبطله.
قال علي: واحتج القائلون بالتكرار بأن قالوا: وافقتمونا على أن
النهي متكرر ثابت أبدا، وأنه متجدد كل وقت، فهلا قلتم إن
المنهي يخرج عن النهي بترك ما نهي عنه ساعة من الدهر فقط، كما
قلتم: إن يفعل مرة واحدة يخرج عن الامر، وإن الامر لا يعود
عليه.
قال علي: هذه شغبة دقيقة، وقد قدمنا فيما خلا أن النهي هو أمر
بالترك، وأن الترك ممكن لكل أحد، وليس يمتنع الترك على مخلوق،
والفعل بخلاف ذلك منه ممكن، ومنه ما لا يقدر عليه، وقدمنا أن
ترك المرء لافعال كثيرة في وقت واحد موجود واجب، وأن فعله
بخلاف ذلك، وأن المرء في حال نومه وأكله وصلاته ونظره في
أسبابه، تارك لكل ما نهي عن تركه إن أراد الترك، وليس الامر
كذلك، بل لا يقدر على أداء أكثر الاوامر في الاحوال التي
ذكرنا، وقد أمرنا عليه السلام أن نجتنب ما نهانا عنه، وأمرنا
أن نفعل ما أمرنا به ما استطعنا، ولم يقل عليه السلام: فأتوه
ما استطعتم، وكان حينئذ يلزم التكرار، وإنما قال عليه السلام
فأتوا منه ما استطعتم ومن إنما هي للتبعيض المقدور، فلما امتنع
تكرار الامر بما قدمنا قبل، من أن التكرار لوازم لكان تكليفا
لما لا يطاق،
وأنه لما بطل ذلك كان من اقتصر في ذلك على حد ما يجده، أو عدد
من التكرار يوجبه، أو على وقت ما - متحكما بلا دليل لم يلزم
منه إلا ما اتفق عليه، وهو مرة واحدة يقع عليه بها اسم فاعل
مطيع، ويرتفع بها عنه اسم عاص، وكان ذلك فرقا صحيحا بين ما
يقدر عليه مما ذكرنا، وبين ما يقدر عليه من الترك في كل وقت،
وفي كل حال، ومن أدى من الامر ما استطاع فقد فعل ما أمر به،
(3/318)
ومن فعل ما أمر فقد سقط عنه الامر، وبالله
تعالى التوفيق.
والقائلون بالتكرار: إنما اضطروا إليه في مسألتين أو ثلاث، وهم
في سائر مسائلهم تاركون له، وقد قدمنا أن القوم إنما حسبهم نص
المسألة الحاضرة بما لا يبالون أن يهدموا به سائر مسائلهم،
وبالله تعالى التوفيق فال علي: وصحيح القول في هذه المسألة هو
ما قلنا من أن يفعل مرة واحدة يؤدي المرء ما عليه، ولا يلزمه
تكرار الفعل لما ذكرنا، إلا أن ترتفع تلك الحال التي فيها ذلك
الامر ثم تعود، فإن الامر يعود ولا بد، كمرض المسلم تجب
عيادته، فبمرة واحدة يخرج من الفرض ما دام في تلك العلة، فإن
أفاق ثم مرض عاد حكم العيادة أيضا، وفك العاني متى صار عانيا
وجب فكه، كإطعام الجائع متى عاد جوعه عاد وجوب إطعامه،
وكالتعوذ متى قطع الانسان القراءة ثم ابتدأ القراءة، وكالوضوء
متى أحدث، وكالصلاة في كل يوم، ولا يلزم تكرار شئ من ذلك بعد
فعله في حال واحدة، وبالله تعالى التوفيق.
والقول بالتكرار باطل، لانه تكليف ما لا يطاق، أو القول بلا
برهان، وكلاهما باطل، لاننا نسألهم عن تكرار الاوامر المختلفة،
وبعضها يقطع عن فعل بعض فلا بد ضرورة من ترك جميعها إلا واحدا،
فأيها هو الواحد، وهذا هو القول بلا برهان، وكل ما كان هكذا
فهو باطل بلا شك، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في التخيير قال علي: واختلفوا في الاشياء إذا خير الله عز
وجل بينها، وأوجب على المخير أن يقصد أيها شاء فيفعله ككفارة
الايمان، وكفارة الحلق في الحج قبل يوم النحر لمرض أو أذى من
الرأس، وفي العمرة كذلك، قبل تمامها، وفي جزاء الصيد وما أشبه
ذلك، فقال قوم: هي كلها واجبة، فإذا فعل أحدها سقط سائرها.
قال علي: وهذا خطأ فاحش لوجهين: أحدهما: أن أو لا توجب تساوي
ما عطف بها واجتماعه، وإنما يوجب ذلك الواو والفاء وثم، هذا ما
لا يجهله من له أدنى بصر باللغة العربية، والثاني: أنها لو
وجبت كلها لما سقطت بفعل بعضها،
(3/319)
وما لزم فرضا فإنما يسقط بأن يفعل، لا بأن
يفعل غيره، وهذا شئ يعلم بالضرورة، لان ما أوجب الله تعالى
عليك عمله فلم يرد منك أن تقيم مقامه غيره إلا بنص وارد في
ذلك، وإلا فأنت عاص، إن لم تفعل الذي أمرت به، فلو أوجب تعالى
عليه عتق رقبة لم يخرج منها بكسوة، وهذا الذي لا يعقل سواه.
وذهب قوم إلى أنه تعالى إنما أوجب في ذلك شيئا واحدا مما خير
فيه تعالى لا بعينه، ولكن أيها شاء المخير، ونحن لا ننكر هذا،
لان عقولنا ليست عيارا على ربنا عز وجل، ولا في العقل ما يمنع
من أن يريد الله تعالى إيجاب ما شاء إلى الموجب عليه، فإذا فعل
المخير المكفر أي الكفارات - التي خوطب بها - شاء فقد أدى
فرضه، وهو الذي سبق في علم الله عز وجل أنه به يسقط عنه الاثم.
والتخيير ينقسم قسمين: أحدهما الذي ذكرنا، وهو أن يلزم المرء
أحد وجهين، أو أحد وجوه لا بد من أن يأتي ببعضها أيها شاء،
فهذا فرضه الذي يأتي به مما خير فيه.
والقسم الثاني أن يقال للمرء: إن شئت أن تفعل كذا، وإن شئت ألا
تفعله
أصلا، وهذا النوع لا يجوز أن يكون فرضا أصلا، ولا يكون إلا
تطوعا، لان كل شئ أبيح للمرء تركه جملة أو فعله فهو تطوع بلا
خلاف من أحد، وهذا لازم لمن قال إن المرء مخير في السفر بين
إتمام الصلاة أو قصرها، لان من قول هذا القائل أن الركعتين
الزائدتين أن من تركهما لم يأثم، فهي إذن تطوع، وإذا كانتا
تطوعا فغير جائز أن يصليهما بركعتي الفرض اللتين لا بد له من
أن يأتي بهما، وليس يلزمهم هذا في قولهم في الصيام إن شاء صام
في رمضان في السفر، وإن شاء أفطر، لانهم لا يسقطون عنه الصيام
جملة كما يسقطون عنه الركعتين اللتين تتم بهما الصلاة أربعا،
لكن يقولون: إن شاء صام رمضان فيه، وإن شاء صامه في أيام أخر،
ولا بد عندهم من صيامه، فإنما هذا تخيير في أحد الوقتين لا في
ترك الصيام أصلا، وهناك خيروه في الاتيان بالركعتين أو تركهما
البتة، فافهم.
(3/320)
فصل في الامر بعد الحظر ومراتب الشريعة قال
علي: قد بينا في غير موضع: أن مراتب الشريعة خمسة: حرام وفرض،
وهذان طرفان، ثم يلي الحرام المكروه، ويلي الفرض الندب، وبين
الندب والكراهة واسطة وهي الاباحة، فالحرام ما لا يحل فعله
ويكون تاركه مأجورا مطيعا، وفاعله آثما عاصيا، والفرض ما لا
يحل تركه ويكون فاعله مأجورا مطيعا، ويكون تاركه آثما،
والمكروه هو ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر، وإن تركه أجر،
والندب هو ما إن فعله المرء أجر، وإن تركه لم يأثم ولم يؤجر،
والاباحة هي ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر، وإن تركه لم
يأثم ولم يؤجر، كصبغ المرء ثوبه أخضر أو أصفر، فإذا نسخ الحظر
نظرنا، فإن جاء نسخه بلفظ الامر فهو فرض واجب فعله بعد أن كان
حراما، وإن كان أتى فعل لشئ تقدم فيه النهي فهو منتقل إلى
الاباحة فقط، والنهي باق على الاختيار، وكذلك الامر إذا
أتى بعده فعل بخلافه فهو منتقل إلى الاباحة، والامر باق على
الندب، كما قلنا في أمره عليه السلام الناس إذا صلى إمامهم
جالسا أن يصلوا وراءه جلوسا، ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي
توفي فيه جالسا، والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم، فعلمنا
أن نهيه عليه السلام عن القيام للمذكر خاصة ندب واختيار، إلا
أن يفعل ذلك تعظيما للامام فهو حرام، وعلمنا أن الوقوف له
مباح، وإنما هذا فيما تيقنا فيه للمتقدم والمتأخر، وأما ما لم
يعلم أي الخبرين كان قبل، فالعمل بذلك الاخذ بالزائد،
والاستثناء على ما قدمناه، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وقد ادعى بعض من سلف أنه تقرأ الاوامر كلها الواردة
بعد لحظر، فوجدها كلها اختيارا أو إباحة، وذكر من ذلك قوله
تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمر
كم الله) ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وعن الانتباذ في
الظروف فانتبذوا * (فالآن باشروهن
(3/321)
قال علي: وقد أغفل هذا القائل: قد قال الله
تعالى: * (ما كتب الله لكم وكلوا أو اشربوا، فكان الفطر بالاكل
والشرب فرضا لا بد منه، بين ذلك النهي عن الوصال وكذلك قوله
تعالى: لله الآية إلى قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا
تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه
ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا فالانتشار المذكور
في هذه ا لآية هو الخروج عن بيوت النبي (ص)، وهو فرض لا يحل
لهم القعود فيها بعد أن يطعموا ما دعوا إلى طعامه، وأما
الاوامر التي ذكرنا قبل، فإن دلائل النصوص قد صحت على أنها
ندب، ونحن لا نأبى الاقرار بما أتى به نص بل نبادر إلى قبوله،
وإنما ننكر الحكم بالآراء الفاسدة والاهواء الزائغة بغير برهان
من الله عز وجل.
أما قوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا فإن رسول الله (ص) حل
من عمرته ومن حجه ولم يصطد، فعلمنا أنه ندب وإباحة، وأما قوله
تعالى
: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض فقد صح عن النبي (ص)
أن الملائكة لا تزال تصلي على المرء ما دام في مصلاه الذي صلى
فيه ما لم يحدث، ولم يخص صلاة من صلاة، فصح أن الانتشار مباح
إلا للحدث والنظر في مصالح نفسه وأهله فهو فرض.
وأما قوله عليه السلام في القبور، فزوروها، فإن الفرض لا يكون
إلا محدودا، إما موكولا إلى المرء ما فعل منه، أو محمولا على
الطاقة والمعروف، وليس في زيارة القبور نص بشئ من هذه الوجوه،
ثم لو كان فرضا لكان زائرها مرة واحدة قد أدى فرضه في ذلك، لما
قدمنا في إبطال التكرار.
وأما قوله عليه السلام: فانتبذوا فإنه عليه السلام لم ينتبذ،
لكن كان ينتبذ له، فصح أن الانتباذ ليس فرضا، لكنه إباحة، وأما
قوله تعالى: * (فالآ باشروهن) * والمباشرة من الرجل لزوجته فرض
ولا بد، ولا يحل له هجرها في المضجع، ولا الامتناع من وطئها
إلا بتجافيها له عن ذلك، على ما بينا في كتاب النكاح من كلامنا
في الاحكام، والحمد لله رب العالمين.
قال علي: وقد ذهب بعض المالكيين إلى أن ههنا واجبا ليس فرضا
ولا تطوعا.
قال علي: وهذا هذيان فاسد لا يعقل أصلا، لان الواجب هو الذي لا
بد من
(3/322)
فعله، وغير الواجب هو ما إن شاء فعله المرء
وإن شاء تركه، ولا يعرف ههنا شئ يتوسط هذين الطرفين، فإن راعوا
ما ورد به لفظ الفرض في الشريعة فهم أول عاص لما ورد فيها، لان
الله عز وجل يقول: * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * الآية
الى قوله تعالى فرضية من الله، فقالوا هم: هذه القسمة ليست
فريضة، بل جائز أن يعطى من الصدقات غير هؤلاء، وجائز أن توضع
في بعض هذه الاصناف دون بعض، وقال ابن عمر: فرض رسول الله (ص)
صدقة الفطر على كل
صغير أو كبير ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا، من المسلمين صاعا من
تمر أو صاعا من شعير فقالوا: ليس هذا فرضا، ولا الشعير أيضا،
ولا التمر فيها فرضا فما نعلم أحدا ترك لفظ الفرض الوارد في
الشريعة منهم، ثم احتجوا في البرسام الذي ادعوه من وجوه أنه شئ
واجب ليس فرضا ولا تطوعا، فقالوا: ذلك مثل الاذان والوتر
وركعتي الفجر وصلاة العيدين والصلاة في جماعة ورمي الجمار
للمبيت ليالي منى بمنى.
قال علي: وكل هذا فدعوى فاسدة، أما الصلاة في جماعة والاذان
ورمي الجمار ففرائض واجبة يعصي من تركها، لامر النبي (ص) بها،
وأما صلاة العيدين والوتر وركعتا الفجر والمبيت ليالي منى
بمنى، فليست فرائض، ولكنها تطوع يكره تركها، فلو تركها، تارك
دهره كله متعمدا ما أثم ولا عصى الله عز وجل، ولا قدح ذلك في
عدالته، وقد قال عليه السلام في الذي حلف أن لا يزيد على
الصلوات الخمس الفرائض: أفلح والله إن صدق، دخل الجنة إن صدق
وقد سأل هذا القائل النبي (ص) إذ وصف له الصلوات الخمس فقال:
يا رسول الله هل علي غيرها ؟ فقال: لا، إلا أن تطوع فسمى النبي
(ص) تارك كل صلاة ما عدا الخمس مفلحا ولم يعنفه، وأخبر عليه
السلام أن كل صلاة ما عدا الخمس فهي تطوع فحرام على كل أحد
خلاف النبي (ص)، ولولا أن الامر ورد بصلاة الجنائز فصارت فرضا
لا بد منه، لكانت تطوعا، ولكن من هذه الخلال أشياء يكره تركها،
فمن تركها لم يأثم ولم يؤجر، ومن فعلها أجر، فبطلت بما ذكرنا
قسمتهم الفاسدة، والحمد لله رب العالمين.
(3/323)
فصل في ورود الامر بلفظ خطاب الذكور قال
علي: اختلف الناس: فقالت طائفة: إذا ورد الامر بصورة خطاب
الذكور، فهو على الذكور دون الاناث، إلا أن يقوم دليل على دخول
الاناث
فيه، واحتجوا بأن قالوا: إن لكل معنى لفظا يعبر عنه، فخطاب
النساء افعلن، وخاطب الرجال: افعلوا، فلا سبيل إلى إيقاع لفظ
على غير ما علق عليه إلا بدليل.
وذ هبت طائفة أخرى إلى أن خطاب النساء والإنات لا يدخل فيه
الذكور وأن خطاب الذكور يدخل فيه النساء والإناث إلا أن تأتى
نص أو إجماع على إخراج النساء والإناث من ذلك قال علي: وبهذا
نأخذ، وهو الذي لا يجوز غيره، والدليل الذي استدلت به الطائفة
الاولى هو أعظم الحجة عليهم، وهو دليلنا على إبطال قولهم، لان
لكل معنى لفظا يعبر به كما قالوا ولا بد، ولا خلاف بين أحد من
العرب، ولا من حاملي لغتهم أولهم عن آخرهم، في أن الرجال
والنساء، وأن الذكور والاناث إذا اجتمعوا وخوطبوا أخبر عنهم،
أن الخطاب والخبر يردان بلفظ الخطاب، والخبر عن الذكور إذا
انفردوا ولا فرق، وأن هذا أمر مطرد أبدا على حالة واحدة، فصح
بذلك أنه ليس لخطاب الذكور - خاصة - لفظ مجرد في اللغة العربية
غير اللفظ الجامع لهم وللاناث، ألا أن يأتي بيان زائد بأن
المراد الذكور دون الاناث، فلما صح لم يجز حمل الخطاب على بعض
ما يقتضيه دون بعض إلا بنص أو بإجماع، فلما كانت لفظة افعلوا
والجمع بالواو والنون وجمع التكسير يقع على الذكور والاناث
معا، وكان رسول الله (ص) مبعوثا إلى الرجال والنساء بعثا
مستويا، وكان خطاب الله تعالى، وخطاب نبيه (ص) للرجال والنساء
خطابا واحدا - لم يجز أن يخص بشئ من ذلك الرجال دون النساء إلا
بنص جلي أو إجماع لان ذلك تخصيص الظاهر، وهذا غير جائز، وكل ما
لزم القائلين بالخصوص فهو لازم لهؤلاء، وسيأتي ذلك مستوعبا في
بابه إن شاء الله تعالى.
فإن قالوا: فأوجبوا الجهاد فرضا على النساء قيل لهم، وبالله
تعالى التوفيق، لولا قول رسول الله (ص) لعائشة - إذ استأذنته
في الجهاد -
(3/324)
لكن أفضل الجهاد حج مبرور لكان الجهاد
عليهن فرضا، ولكن بهذا الحديث علمنا أن الجهاد على النساء ندب
لا فرض، لانه عليه السلام لم ينهها عن ذلك، ولكن أخبرها أن
الحج لهن أفضل منه، ومما يبين صحة قولنا أن عائشة - وهي حجة في
اللغة - لما سمعت الامر بالجهاد قدرت أن النساء يدخلن في ذلك
الوجوب حتى بين النبي (ص) لها أنه عليهم ندب لا فرض، وأن الحج
لهن أفضل منه، ونحن لا ننكر صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة،
بدليل من نص أو إجماع، أو بضرورة طبيعة تدل على أنه مصروف عن
موضوعه، وإنما يبطل دعوى من ادعى صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة
بلا دليل، فلم ينكر النبي (ص) عليها حملها الخطاب بلفظ خطاب
الذكور على عموم دخول النساء في ذلك وفي هذا كفاية لمن عقل.
فإن قالوا: فأوجبوا عليهن النفار للتفقه في الدين، والامر
بالمعروف والنهي عن المنكر، قلنا، وبالله تعالى التوفيق: نعم
هذا واجب عليهن كوجوبه على الرجال وفرض على كل امرأة النفقة في
كل ما يخصها كما ذلك فرض على الرجال ففرض على ذات المال منهن
معرفة أحكام الزكاة، وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة
والصلاة والصوم، وما يحل وما يحرم من المآكل والمشارب والملابس
وغير ذلك كالرجال ولا فرق، ولو تفقهت امرأة في علوم الديانة
للزمنا قبول نذارتها، وقد كان ذلك، فهؤلاء أزواج النبي (ص)،
وصواحبه قد نقل عنهن أحكام الدين، وقامت الحجة بنقلهن، ولا
خلاف بين أصحابنا وجميع أهل نحلتنا في ذلك، فمنهن سوى أزواجه
عليه السلام: أم سليم، وأم حرام، وأم عطية، وأم كرز، وأم شريك،
وأم الدرداء، وأم خالد، وأسماء بنت أبي بكر، وفاطمة بنت قيس،
ويسرة، وغيرهن، ثم في التابعين عمرة، وأم الحسن، والرباب،
وفاطمة بنت المنذر، وهند الفراسية، وحبيبة بنت ميسرة، وحفصة
بنت سيرين، وغيرهن.
ولا خلاف
بين أحد من المسلمين قاطبة في أنهن مخاطبات بقوله تعالى: *
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ومن شهد منك اشهر فالصمه ووذروا
ما بقى من الربا وحرمت عليكم الميتة والدم والذين يبتغون
الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبو هم وأشهدوا إذا تا يعتم ولله
على الناس حج البيت وأفيضوان من حيث
(3/325)
أفاض الناس وهل أنتم منهون وابتول اليتامى
حتى إذا بلغو النكاح وسائر أوامر القرآن، وإنما في مسألة أو
مسألتين تحكموا فيها وقلدوا، فاضطروا إلى مكابرة العيان، ودعوى
خروج النساء من الخطاب بلا دليل، ثم رجعوا إلى عمومهن مع
الرجال، بلا رقبة ولا حياء.
قال علي: وقد قال الله تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف
تسألون) *.
وقال أيضا: * (وأنذر عشيرتك الاقربين) * فنادى عليه السلام
بطون قريش بطنا بطنا ثم قال: يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة
بنت محمد، فأدخل النساء مع الرجال في الخطاب الوارد كما نرى.
فإن قال قائل: فقد قال تعالى: * (لا يسخر قوم من قوم عس أن
يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن) *
وقال زهير: وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن اللفظ إذا جاء مرادا به بعض
ما يقع تحته في اللغة وبين ذلك دليل فلسنا ننكره فقد قال تعلى:
* (يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم) *، فلا
خلاف بين لغوي وشرعي أن هذا الخطاب متوجه إلى كل آدمي من ذكر
أو أنثى، ثم قال تعالى: * (فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله
ونعم الوكيل) * فقام الدليل على أن المراد ههنا بعض الناس لا
كلهم، فوجب الوقوف عند ذلك لقيام الدليل عليه، ولولا ذلك لما
جاز أن يكون محمولا إلا على عموم الناس كلهم.
قال أبو محمد: وقد سأل عمرو بن العاص رسول الله (ص): أي الناس
أحب إليك ؟ فقال: عائشة قال: ومن الرجال ؟ قال: أبوها ثناه عبد
الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد
بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، أنبأ يحيى، ثنا
خالد بن عبد الله، عن خالد - هو الحذاء - عن أبي عثمان - هو
النهدي - قال أخبرني عمرو بن العاص عن رسول الله (ص)، ورسول
الله (ص) أعلم الناس باللغة التي بعث بها، فحمل اللفظ على
عمومه في دخول النساء مع الرجال حتى أخبره السائل أنه أراد بعض
من يقع عليه الاسم الذي خاطب به فقبل ذلك منه عليه السلام،
وهذا هو نص مذهبنا، وهو أن نحمل
(3/326)
الكلام على عمومه، فإذا قام دليل على أنه
أراد به الخصوص صرنا إليه، ولا خلاف بين المسلمين في أن قوله
تعالى: * (أو لحم خنزير) * واقع على إناث الخنازير كوقوعها على
ذكورها بنفس اللفظ للنوع كله.
وقد اعترض بعضهم بحديث ذكروه من طريق أم سلمة رضي الله عنها
فيه: أن النساء شكون وقلن ما نرى الله تعالى يذكر إلا الرجال
فنزلت: * (إن المسلمين والمسلمات الآية.
قال علي: وهذا حديث لا يصح البتة، ولا روي من طريق يثبت، حدثنا
محمد بن سعيد بن نبات، قال أحمد بن عبد البصير: ثنا قاسم بن
إصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار بندار،
ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا شعبة، عن حصين قال: سمعت عكرمة
يقول: قالت أم عمار: يا رسول الله يذكر الرجال في القرآن ولا
يذكر النساء، قال فنزلت * (ان المسلمنى والمسلمات) * الآلة.
قال علي: وهذا مرسل كما نرى لا تقوم به حجة، وثناه أيضا محمد
بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عبد البصير، ثنا قاسم بن أصبغ،
ثنا الخشني، ثنا محمد بن المثنى، حدثنا مؤمل،
ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة:
يذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر، فنزلت: * (انى لا أضيع عمل
عامل منكم من ذكر وانثى وقالت أم سلمة: يا رسول الله لا نقطع
الميراث ولا نغزو في سبيل الله فنقتل، فنزلت: * (ولا تتمنوا ما
فضل الله به بعضكم على بعض وقالت أم سلمة: يذكر الرجال ولا
نذكر، فنزلت: * (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمخؤمنات)
* قال علي: ويقال إن التفسير لم يسمعه ابن أبي نجيح من مجاهد،
ثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن، عن أحمد بن دحيم، عن إبراهيم بن
حماد، عن إسماعيل بن إسحاق، ولم يذكر مجاهد سماعا لهذا الخبر
عن أم سلمة، ولا يعلم له منها سماع أصلا، وإنما صح أنهن قلن:
يا رسول الله غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما، فجعل لهن
عليه السلام يوما وعظهن فيه وأمرهن بالصدقة، وكذلك صح ما روي
في خطبته عليه السلام في العيد، وأمره النساء أن يشهدن، ثم رأى
عليه السلام أنه لم يسمعهن فأتاهن فوعظهن قائما، أتاهن عليه
السلام إذ خشي أنهن لم يسمعن وإلا فقد كان يكفيهن جملة كلامه
على المنبر.
(3/327)
قال أبو محمد: والصحيح من هذا ما حدثناه
عبد الله بن يوسف بالسند المتقدم ذكره إلى مسلم، حدثنا يونس بن
عبد الاعلى الصدفي، وأبو معن الرقاشي، وأبو بكر نافع، وعبد
الله بن حميد، قال هؤلاء الثلاثة: ثنا أبو عامر عبد الملك بن
عمرو العقدي، ثنا أفلح بن سعيد، حدثنا عبد الله بن رافع، وقال
يونس بن عبد الاعلى: ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو - هو
ابن الحار ث أن بكيرا حدثه عن القاسم بن عباس الهاشمي، عن عبد
الله بن رافع، مولى ابن أم سلمة، عن أم سلمة زوج النبي (ص)
أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول
الله (ص) فلما كان يوما من ذلك والجارية تمشطني، فسمعت رسول
الله (ص) يقول: أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت:
إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت إني من الناس، ثم ذكرت
الحديث.
قال علي: في هذا بيان دخول النساء مع الرجال في الخطاب الوارد
بصيغة خطاب الذكور.
قال أبو محمد: واحتج بعضهم بقوله تعالى: * (ان المسلمين
والمسلمات والمؤمنى والمؤمنات) * فالجواب وبالله التوفيق: أنه
لا ينكر التأكيد والتكرار، وقد ذكر الله تعالى الملائكة ثم
قال: * (وجبريل وميكال) * وهما من الملائكة ويكفي من هذا ما
قدمناه من أوامر القرآن المتفق على أن المراد بهذا الرجال
والنساء معا بغير نص آخر، ولا بيان زائد إلا اللفظ، وكذلك
قوله: * (واشتهدوا شهيدين من رجالكم) * بيان جلي على أن المراد
بذلك الرجال والنساء معا، لانه لا يجوز في اللغة أن يخاطب
الرجال فقط، بأن يقال لهم وإنما كان يقال من أنفسكم فإن قالوا:
قد تيقنا أن الرجال مرادون بالخطاب الوارد بلفظ الذكور، ولم
نوقن ذلك في النساء، فالتوقف فيهن واجب، قيل له: قد تيقنا أن
رسول الله (ص) مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال، وإن الشريعة
التي هي الاسلام لازمة لهن كلزومها للرجال، وأيقنا أن الخطاب
بالعبادات والاحكام متوجه إليهن، كتوجهه إلى الرجال إلا ما
خصهن أو خص الرجال منهن دليل، وكل هذا يوجب ألا يفرد الرجال
دونهن بشئ قد صح اشتراك الجميع فيها إلا بنص أو إجماع وبالله
تعالى التوفيق.
(3/328)
قال علي: وإن العجب ليكثر ممن قال بخلاف
قولنا - من الحنفيين والمالكيين - ثم هم يأتون إلى خطاب النبي
(ص) للرجل الواطئ في رمضان بالكفارة، فقالوا: الواجب على
المرأة من مثل ذلك ما على الرجل، فأي مجاهرة أشنع من مجاهرة من
يأتي إلى خطاب عام لجميع أهل الاسلام فيريد إخراج النساء منه،
ثم يأتي إلى خطاب لرجل منصوص عليه لم يذكر معه غيره، فيريدون
إلزامه النساء بلا دليل ثم تناقضوا في ذلك، فألزموا الموطوءة
الواطئ ولا نص في الموطوءة، ولم يلزموا المظاهرة ما ألزموا
المظاهر، والعلة على قولهم واحدة وهي قوله: * (منكرا من القو
وزورا) * والمظاهرات قد قالت ذلك، وقد أوجب عليها - مثل ما يجب
على المظاهر - قوم كثير من العلماء، وهكذا أحكام من تعدى حدود
الله عز وجل، واتبع الرأي والقياس، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الاحرار دون العبيد أم يدخل
فيه العبيد معهم ؟ قال علي: ذهب قوم إلى أن قوله تعالى: *
(وأشهدوا ذوى عدل منكم) * أنه للاحرار دون العبيد، واحتجوا
بقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم
وإمائكم *.
قال: ما ندري أيهما أشد إقداما على الله وجرأة، أتخصيصهم
الاحرار في الآية الاولى دون العبيد ؟ أم استشهادهم بالآية
الثانية في ذلك ؟ فأول إبطال قولهم إن النبي (ص) بعث إلى
العبيد والاحرار بعثا مستويا بإجماع جميع الامة، ففرض استواء
العبيد مع الاحرار - إلا ما فرق فيه النص بينهم - كوجوب استواء
العرب والعجم من قريش، إلا ما فرق فيه النص بينهم، من كون
الخلافة لقريش دون العرب ومن تحريم الصدقة على بني هاشم وبني
المطلب دون سائر قريش والعرب، وكوجوب خمس الخمس لهم دون سائر
قريش والعرب، وإنما خاطبنا الله تعالى في آية الانكاح، لانه عز
وجل لم يجعل للعبد أن ينكح نفسه وجعله للحر، وهذا مكان نص فيه
على الفرق، ثم نعارضهم بقول الله تعالى
(3/329)
: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا
منكم خاصة) * وبقوله: * (ومن يتو لهم منكم فإنه منهم) * وبقوله
تعالى: * (ومن يتو لهم فأو لئك هم الظالمون) * وبقوله تعالى: *
(يومن بالله ويومن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم) * وبقوله
تعالى: * (ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا
مجرمين) * وبقوله تعالى: * (كانوا أشد منكم قوة) * وبقوله
تعالى: * (كانو أشد منكم قوة) وبقوله تعالى: * (سواء منكم من
أسر القول ومن جهر به) * وبقوله تعالى: * (ولقد علمنا
المستقدين منكم ولقد علمنا المستأخرين) * وبقوله تعالى: * (إذا
فريق منكم بربهم يشركون) * وبقوله تعالى: * (ومنكم من يرد أرذل
العمر) * وبقوله تعالى (ومن منكم إلا واردها) * هل خص بهذا
الخطاب الاحرار دون العبيد ؟ أو عم الجميع ؟ فلا بد من أنه
عموم للاحرار والعبيد، فكل خطاب ورد فهو هكذا، ولا فرق إلا ما
فرق النص فيه بين الاحرار والعبيد، وكذلك قالوا في قوله تعالى:
* (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * فقالوا هذا للأحرار دون
العبيد.
قال علي: وهذه أعجوبة شنيعة، أترى العبيد ليسوا من رجالنا ؟ إن
هذا الامر كان ينبغي أن يستحيى منه، وأن من جاهر بأن العبيد
ليسوا من رجالنا الواجب أن يرغب عن الكلام معه.
وأيضا فإن أول الآية المذكورة: * (يأيها الذين آمنوا إذا
تداينتم بدين إلى أجل مسمى الآية والآية الأخرى من قوله * (يا
أيها النبي إذا طلقتم النساء) * الآية، ولا خلاف بين أحد في
أنهما متوجهتان إلى الأحرار و العبيد، وأن هذا حكم عام
للمتبايعين من الأحرار وللمطلقين من الأحرار والعبيد، فإذا قد
صح ذلك فكيف يسوغ لذى عقل ودين يقول: إن قوله تعالى * (من
رجالكم) * وقوله تعالى * (منكم) * مخصوص به الأحرار دون العبيد
والآيتان كلتا هما بلا خلاف منهم مخاطب بهما الأحرار والعبيد
سواء فصل
في أمره عليه السلام واحدا هل يكون أمرا للجميع ؟ قال علي: قد
أيقنا أنه (ص) بعث إلى كل من كان حيا في عصره في معمور الارض،
من إنسي أو جني، وإلى من ولد بعده إلى يوم القيامة، وليحكم في
كل
(3/330)
عين وعرض يخلقهما تعالى إلى يوم القيامة،
فلما صح ذلك بإجماع الامة - المتيقن المقطوع به المبلغ إلى
النبي (ص) - وبالنصوص الثابتة بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم
القيامة.
ولزومه الانس والجن، وعلمنا بضرورة الحس أنه لا سبيل إلى
مشاهدته عليه السلام من يأتي بعده، كان أمره (ص) لواحد من
النوع، وفي واحد من النوع - أمرا في النوع كله، وللنوع كله،
وبين هذا أن ما كان من الشريعة خاصا لواحد، أو لقوم فقد بينه
عليه السلام نصا، وأعلم أنه خصوص، كفعله في الجذعة بأبي بردة
بن نيار، وأخبره عليه السلام أنها لا تجزي عن أحد بعده، وكان
أمره عليه السلام للمستحاضة أمرا لكل مستحاضة، وإقامته ابن
عباس وجابرا عن يمينه في الصلاة، حكما على كل مصل وحده مع
إمام، ولا خلاف بين أحد في أن أمره لاصحابه رضي الله عنهم وهم
حاضرون، أمر لكل من يأتي إلى يوم القيامة.
وأما إخواننا: فاضطربوا في هذا اضطرابا شديدا، فقالوا في فتياه
عليه السلام للواطئ في رمضان: إن ذلك الحكم جار على كل واطئ،
وأصابوا في ذلك، ثم لم يقنعوا بالصواب حتى تعدوه إلى الخطأ
فقالوا: وذلك الحكم أيضا جار على كل مفطر بغير الوطئ ثم لم
يقنعوا بذلك حتى قالوا: هو على النساء كما هو على الرجال، ثم
أتوا إلى حكم النبي (ص) في محرم مات، فأمر عليه السلام أ لا
يمس طيبا ولا يغطي وجهه ولا رأسه، وأن يكفن في ثوبه فقالوا هو
خصوص لذلك الواحد، وليس هذا حكم من مات وهو محرم، أفسمع
السامعون بأعجب
من هذا التحكم ؟ واحتجوا في ذلك بابن عمر وقد تركوا ابن عمر في
أزيد من مائة قضية، وتركوا في ذلك قول من خالف ابن عمر في ذلك
من أصحابه، واحتجوا بانقطاع عمل الميت تمويها وشغبا، وليس هذا
للميت ولكنه عمل الاحياء المأمورين بذلك كما أمروا بغسله
ومواراته ولا عمل للميت في ذلك ولا فرق.
فإن احتجوا في ذلك بقول علي رضي الله عنه: نهاني رسول الله (ص)
ولا أقول نهاكم، فقد قال كعب بن عجرة في أمر فدية حلق الرأس
نزلت في خاصة وهي لكم عامة.
(3/331)
وأيضا فقد بينا في آخر كتابنا أنه لا يجوز
التقليد، وقد بين علي رضي الله عنه أن قوله هذا ليس على ما ظن
الظان، من أن ذلك النهي لا يتعداه ذلك إذ سئل: أعهد إليك رسول
الله (ص) بشئ لم يعهده إلى غيرك ؟ فقال: لا، ما خصني رسول الله
(ص) بشئ إلا ما في هذه الصحيفة، وكان فيها العقل وأشياء من
الجراحات، ولا يقتل مؤمن بكافر، فصح أن قول علي نهاني، إنما هو
تحر للفظه عليه السلام فقط، وبالله تعالى التوفيق، وهو الموفق
للصواب.
فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من
لفظه عليه السلام السبب المحكوم فيه قال علي: وإذا ورد خبر
صحيح، وفيه أن رسول الله (ص) رأى أمرا كذا فحكم فيه بكذا، فإن
الواجب أن نحكم في ذلك الامر بمثل ذلك الحكم ولا بد، لانه
كسائر أوامره التي قدمنا وجوبها، وذلك مثل ما روي أنه (ص) رأى
رجلا يصلي منفردا خلف الصفوف، فأمره بالاعادة.
ورأى رجلا يحتجم فقال: أفطر الحاجم والمحجوم وأتي بشارب فجلده،
فاعترض قوم فقالوا: لعله
عليه السلام إنما أمره بالاعادة ليس من أجل انفراده، ولكن لغير
ذلك، وأن الحجام والمحجوم، كانا يغتابان الناس.
قال علي: وهذا لا يجوز لوجوه خمسة: أحدها: أنه عليه السلام
مأمور بالتبليغ، فلو أمر إنسانا بإعادة صلاة أبطلها عليه، ولم
يبين عليه السلام، وجه بطلانها لكان عليه السلام غير مبلغ وقد
نزهه الله تعالى عن ذلك، ولكان غير مبين ومن نسب هذا إلى النبي
(ص) فقد كفر.
والوجه الثاني: أن يقول القائل: لعله عليه السلام قد بين ذلك
ولم يصل إلينا.
قال علي: فمن قال ذلك أكذبه الله عز وجل بقوله: * (إنا نحن
نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وبقوله تعالى عن نبيه عليه
السلام: * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو
(3/332)
إلا وحي يوحى) * فصح أن كلامه كله (ص) وحي،
وأن الوحي محفوظ لانه ذكر، فلو بينه عليه السلام ولم ينقل
إلينا لكان غير محفوظ، وقد أكذب الله تعالى هذا القول، لانه لم
ينقل أحد أنه أمره بالاعادة لغير الانفراد.
والوجه الثالث: أن أحاديث كثيرة ثبتت بفرض تسوية الصفوف فيها،
وفيها إبطال صلاة من صلى منفردا، وقد ذكرناها في الفصل الذي
فيه ترجيح الاحاديث في باب الاخبار من كتابنا هذا.
والرابع: إن نقل الناقل الثقة أنه صلى منفردا فأعاد نقل وإنذار
ببطلان صلاة المنفرد - عنه عليه السلام، فواجب قبوله.
والخامس: أن قول القائل لعله كان هنالك سبب لم ينقل إلينا ظن.
وقد قال تعالى: * (إن الظن لا يغنى من الحق شيئا) *.
وقال عليه ا لسلام: الظن أكذب الحديث ولا يحل ترك نقل الثقات
لظنون زائفات.
وأما تخريج من خرج منهم: أن الحاجم والمحجوم كانا يغتابان
الناس، فإنهم
استجاروا من الرمضاء بالنار، وهم لا يرون إفطار الصائم
بالغيبة، فقد عصوا على كل حال، ولولا أن الرخصة وردت صحيحة من
الحجامة للصائم، لاوجبنا الافطار بها، ولكن استعمال الاحاديث
يوجب قبول الرخصة، لانها متيقنة بعد النهي، إذ لا تكون لفظة
الرخصة إلا عن شئ تقدم التحذير منه، ولهذا الحديث أجزنا
الحجامة للصائم، وأن يكون حاجما ومحجوما على ظاهر لفظ
الاحاديث، لا بالحديث الذي يقول: احتجم رسول الله (ص) وهو
صائم، لانه ليس في ذلك الحديث دليل على أنه كان بعد النهي فهو
موافق لمعهود الاصل ولا فيه بيان أيضا، أنه كان في صيام فرض لا
يجوز الافطار فيه، بل لعله كان في تطوع يجوز الافطار فيه، أو
في سفر كما جاء في بعض تلك الاحاديث: أنه كان صائما محرما عليه
السلام، وبالله تعالى التوفيق.
(3/333)
فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما
في أمر واحد لا أمرين قال علي: روي أن رجلا أتى رسول الله (ص)
في رمضا وهو يقول: احترقت، وأنه وصف أنه وطأ امرأته وهو صائم،
فأمره رسول الله (ص) بكفارة موصوفة، وروي من تلك الطريق بعينها
أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره عليه السلام بتلك الكفارة
بعينها، وذكر باقي الحديث الاول، فعلمنا بذلك أنهما حديث واحد،
لان الرواة لهذا هم أولئك الذين رووا بأي شئ كان الافطار،
وسياق الحديثين واحد، فصح أن بعض الرواة عن الزهري فسر القصة
وهم: سفيان، ومعمر، والليث، والاوزاعي، ومنصور بن المعتمر،
وعراك بن مالك، وأن بعضهم عن الزهري أجملها، وهم مالك، وابن
جريج، إلا أنهم كلهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي
هريرة.
قال علي: وليس هكذا حديث السارقة والمستعيرة، لان الوطئ في حال
الصوم إفطار صحيح، يقع عليه في الشريعة اسم إفطار على الحقيقة،
ولا يقع على السارق اسم مستعير جاحدا البتة، ولا يقع على
المستعير الجاحد اسم البتة.
وأيضا فقد روى حديث قطع المستعيرة ابن عمر، ولم يذكر سرقة
وإنما ذكر أمر السرقة عن عائشة فصح أنهما حديثان متغايران،
وهذا أيضا ما تعلق به المانعون من المسح على العمامة في حديث
المغيرة فقالوا: ذكره المسح على العمامة هو حديث واحد مع الذي
فيه ذكر المسح على الناصية والعمامة.
قال علي: وهذا خطأ، لان الوضوء لم يكن مرة واحدة منه عليه
السلام، بل كانت آلافا من المرار، فمن ادعى أن ذلك كله وضوء
واحد في وقت واحد، فقد دخل تحت الكذب، والقول بما لا يعلم،
وهذا لا يحل لمسلم.
وأيضا فقد روى المسح على العمامة والخمار - من لم يذكر مسحا
على الناصية أصلا وهم: سلمان، وبلال، وكعب بن عجرة، وعمرو بن
أمية الضمري، لا سيما المالكيين المانعين من الاقتصار على
المسح للناصية فقط، فإنهم لا متعلق لهم
(3/334)
بحديث المغيرة أصلا، وكل ما تعلقوا به بهذا
الباب فهو حجة عليهم فصح بما ذكرنا أن حديث المغيرة وحديث من
ذكرنا متغايران، وبالله تعالى التوفيق.
فينبغي مراعاة هذا في النصوص.
ومثل ذلك من القرآن قول الله عز وجل: * (براءة من الله ورسوله
الى الذين عاعد تم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة ة أشهر)
* ثم قال تعالى في تلك السورة نفسها بعد يسير: * (وأذان من
الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ من
المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم
غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ئ إلا الذين
عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا
عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين
ئ فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *.
قال علي: فوجدناه تعالى قد جعل مدة من عاهدوا من المشركين
أربعة أشهر، ثم وجدناه تعالى قد جعل مدة المشركين من يوم الحج
الاكبر - وهو يوم النحر بنص تسمية رسول الله (ص) بذلك انسلاخ
الاشهر الحرم.
فليس بين الامدين إلا خمسون يوما، فعلمنا يقينا أن هؤلاء
المشركين الذين جعل أمدهم شهرين غير عشرة أيام، هم غير
المشركين الذين عوهدوا أربعة أشهر، وهذا ينبغي أن يتفقد جدا،
فإنه برفع الاشكال كثير، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في عطف الاوامر بعضها على بعض قال علي: وقد يعطف أوامر
مفروضات على غير مفروضات، ويعطف غير مفروضات على مفروضات،
والاصل في ذلك: أن كل أمر فهو فرض إلا ما خرج عن ذلك بضرورة حس
أو بنص أو إجماع، فإذا كانت أوامر معطوفات فخرج بعضها بأحد
الدلائل التي ذكرنا عن الوجوب، بقي سائرها على حكم المفهوم من
الاوامر في الجملة، ولا نبالي كان الخارج عن معهود حكمه هو
الاول في الذكر، أو الآخر أو الاوسط.
كل ذلك سواء، وهو بمنزلة ما لو خرج بنسخ، فإن سائرها يبقى على
حكم الوجوب والطاعة، فمن ذلك قوله تعالى: * (كلوا من ثمرة إذا
ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاره، فلوا لا الإجماع على أن
(3/335)
الاكل من الثمر ليس فرضا لقلنا إنه فرض.
ولكن لما خرج عن أن يكون فرضا بدليل الاجماع، بقي الفعل
المعطوف عليه على حكم الوجوب، وهو قوله تعالى وآتوا حقه يوم
حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين *.
قال علي: وإنما آتينا بما يوافقنا عليه أصحاب مالك وأبي حنيفة
والشافعي،
وإلا فقد تناقضوا في مثل هذا، إلا أن الحقيقة ما ذكرنا وبالله
تعالى التوفيق.
ومن ذلك أيضا، فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا: وزوروها - يعني
القبور - ولا تقولوا هجرا.
الامر الاول ندب الاجماع والثاني فرض، وبالله تعالى التوفيق.
وكذلك قوله: * (فاسعوا ألى ذكر الله وذروا البيع) * كان السعي
خاصا للرجال دون النساء، ولم يمنع ذلك الامر بترك البيع من أن
يكون فرضا فرضا على ظاهره وعاما لكل أحد من رجل أو امرأة
ووافقنا على ذلك أصحاب مالك، ومثل هذا كثير، وبالله تعالى
التوفيق، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فصل في تناقض القائلين بالوقف هاك نبذ من تناقض القائلين
بالوقف، وحملهم أوامر كثيرة على وجوبها وعن ظاهرها بغير قرينة
ولا دليل، إلا مجرد الامر، وصيغة اللفظ فقط، وما تعدوا فيه
طريق الحق، إلى أن أوجبوا فرائض لا دليل على إيجابها، يدل على
كثير تناقضهم وفساد قولهم.
قال علي: إن القائلين بالوقف - من المالكيين والشافعيين
والحنفيين - قد أوجبوا أحكاما كثيرة بأوامر وردت لا قرينة
معها، فكان نقضا لمذهبهم في الوقف، وما قنعوا بذلك حتى أوجبوا
فرائض بلا أوامر أصلا، فمن أعجب ممن لم يوجب بأمر الله تعالى
إنفاذ ما أمر به، وأوجب أحكاما بغير أمر من الله تعالى، فمن
ذلك أن المالكيين قالوا في قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا
البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) * فأبطلوا البيع بمجرد هذا
الامر، ولم يقنعوا بذلك حتى أبطلوا ما لم يبطل الله عز وجل من
النكاح، والاجازة - تعديا لحدوده تعالى، وقد تعلل بعضهم في هذا
بأن لفظة * (ذروا) * لا يقع إلا للفرض.
(3/336)
قال علي: وهذا ما لا يعرفه حامل لغة من
العرب.
وقد قال تعالى: * (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) * أفترى ذر في هذا
المكان موجبة ترك الكفارة، دون وعظ ودعاء إلى الايمان وقتل
موسى وإغرام جزية وصغار وقال في قوله تعالى: * (كتب عليكم وهو
كره لكم) * و: * (كتب عليكم القصاص) * و: * (وكتب عليكم
الصيام) * هذه فرائض وقالوا في قوله: * (كتب عليكم إذا حضر
أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف
حقا على المتقين) * فقالوا: ليس هذا فرضا، مع أمره عليه السلام
من عنده شئ يوصي فيه: أن لا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة
عنده، ففرقوا بلا دليل وقالوا في قوله تعالى: * (فإن احصرتم
فما استيسر من الهدى) * هذا فرض وفي قوله تعالى: * (فمن كان
منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام) * قالوا: هذا فرض
وكذلك قالوا في هدي العمرة وجزاء الصيد، وقالوا بفرض التكبير
في أول الصلاة والتسليم منها ذلك فرض، وقالوا في حكم المصراة
ذلك فرض، وقالوا في التقويم على الشريك المعتق ذلك فرض،
وأوجبوا الزكاة في أموال الصغار بعموم قولتعالى: * (خذ من
أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * وبقوله عليه السلام: إن
عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، ولم يوجبوا صدقة الفطر فرضا وقد
جاء النص بأنه عليه السلام فرضها، وهي داخلة في جملة قوله عليه
السلام: إن عليهم صدقة وفي جملة قوله تعالى: * (خذ من أموالهم
صدقة وأو جبوا الزكاة في الزيتون بقوله تعالى: * (والزيتون
والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمرة إذا أثمرة وآتوا حقه
حصاره) * ولم يروها في الرمان، وقد ذكرهما تعالى في الآية ذكرا
واحدا، وأوجبوا غسل الاناء من ولوغ الكلب سبعا لو ورد الامر
بذلك فقط.
وأما الحنفيون فإنهم رأوا ألا تقف المرأة مع الرجل في الصلاة
فرضا، ورأوا الاستسعاء فرضا، ولم يروا الايتاء من مال الله
للمكاتب فرضا ولا مكاتبة من دعا إلى المكاتبة فرضا وكل ذلك
مأمور به، ورأوا تمتيع المطلقة التي لم تمس
ولم يفرض لها صداق فرضا بقوله: * (فمتعوهن) * ولم يروا ذلك
فرضا لسائر المطلقات وقد قال تعالى: * (وللمطلقات متاع
بالمعروف حقا على المتقين) * ومثل هذا كثير.
ورأى الشافعيون: الصلاة على النبي (ص) في الصلاة فرضا، ولم
يروا التكبير
(3/337)
في الركوع والرفع فرضا، وقد جاء به الامر،
ورأوا النية في الوضوء فرضا، ولم يروا فعل الاستنثار فرضا،
وبكل ذلك جاء الامر سواء، ورأوا الخيار قبل التفرق في البيع
فرضا، ولم يروا الاشهاد فيه فرضا، وبكل ذلك جاء الامر.
ومثل هذا كثير: ورأوا الايتاء من مال الله للمكاتب فرضا ولم
يروا كتابة من دعا إلى المكاتبة مما ملكت أيمانكم فرضا،
وكلاهما جاء به الامر مجيئا مستويا، وفيم ذكرنا طرف يستدل به
على تناقض من قال بالوقف وبالله تعالى التوفيق.
وقد ذكرنا أقسام الاوامر في كتاب التقريب فأغنى عن إعادتها،
وسنذكر إن شاء الله تعالى الدلائل المخرجة للامر عن موضوعه في
الايجاب إلى سائر أقسامه، في فصل آخر باب العموم التالي
لكلامنا في هذا إن شاء الله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق، ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله الموفق للصواب.
الباب الثالث عشر في حمل الامر وسائر الالفاظ كلها على العموم
وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقفأو الخصوص، إلا ما أخرجه عن
العموم دليل حق قال علي: اختلف الناس في هذا الباب، فقالت
طائفة: لا تحمل الالفاظ إلا على الخصوص، ومعنى ذلك حملها على
بعض ما يقتضيه الاسم في اللغة دون بعض، وقال بعضهم: بل نقف فلا
نحملها على عموم ولا خصوص إلا بدليل، فالقول الاول هو لبعض
الحنفيين، وبعض المالكيين، وبعض الشافعيين، والثاني لبعض
الحنفيين، وبعض المالكيين وبعض الشافعيين، وقالت طائفة: الواجب
حمل
كل لفظ على عمومه، وهو كل ما يقع عليه لفظه المرتب في اللغة
للتعبير عن المعاني الواقعة تحته، ثم اختلفوا على قولين، فقالت
طائفة منهم: إنما يفعل ذلك بعد أن ينظر هل خص ذلك اللفظ شئ أم
لا، فإن وجدنا دليلا على ذلك صرنا إليه، وإلا حملنا اللفظ على
عمومه دون أن نطلب على العموم دليلا، وهذا قول عض الشافعيين
وبعض الحنفيين.
وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه، وكل ميقتضيه اسمه
دون توقف ولا نظر، لكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه
بعض ما يقتضيه
(3/338)
لفظه صرنا إليه حينئذ، وهذا قول جميع أصحاب
الظاهر، وبعض المالكيين، وبعض الشافعيين، وبعض الحنفيين، وبهذا
نأخذ، وهو الذي لا يجوز غيره، وإنما اختلف من ذكرنا على قدر ما
بحضرتهم من المسائل على ما قدمنا من أقوالهم فيما خلا، فإن
وافقهم القول بالخصوص قالوا به.
وإن وافقهم القول بالعموم قالوا به، فأصولهم معكوسة على فروعهم
ودلائلهم مرتبة على ما توجبه مسائلهم.
وفي هذا عجب: أن يكون الدليل على القول مطلوبا بعد اعتقاد
القول، وإنما فائدة الدليل، وثمرته إنتاج ما يجب اعتقاده من
الاقوال، فمتى يهتدي من اعتقد قولا بلا دليل ثم جعل يطلب
الادلة بشرط موافقة قوله، وإلا فهي مطرحة عنده.
قال علي: وكل ما ذكرنا أنه يدخل على القائلين بالوقف، أو
التأويل في صرف الاوامر عن الوجوب، وصرف الالفاظ عن ظواهرها،
فهو أدخل على من قال بالوقف أو الخصوص ههنا، ويدخل عليهم أيضا
أشياء زائدة.
قال علي: فما احتج به من ذهب إلى أن اللفظ لا يحمل على عمومه
إلا بعد طلب دليل على الخصوص، أو إلا بدليل على أنه على
العموم، أن قالوا: ليست الالفاظ مقتضية للعموم بصيغها لما وجدت
أبدا إلا كذلك، كما لا يوجد اسم السواد على
البياض، فلما وجدنا ألفاظا ظاهرها العموم والمراد بها الخصوص،
علمنا أنها لا تحمل على العموم إلا بدليل.
قال علي: وقد تقدم إفسادنا لهذا الاستدلال فيما خلا من القول
بالوجوب وبالظاهر، ونقول ههنا: إنه ليس وجودنا ألفاظا منقولة
عن موضوعها في اللغة بموجب أن يبطل كل لفظ، ويفسد وقوع الاسماء
على مسمياتها، ولو كان ذلك لكان وجودنا آيات منسوخة، لا يجوز
العمل بها موجبا لترك العمل بشئ من سائر الآيات كلها، إلا
بدليل يوجب العمل بها من غير لفظها، ومن قال هذا فقد كفر
بإجماع، ومن لم يقله فقد تناقض، ودل على فساد مذهبه، وأما
قولهم: كما لا يوضع اسم السواد على البياض، فقد يوضع أسود على
غير اللون، فيقال: فلان أسود من فلان من معنى السيادة، وليس
ذلك بمبطل أن يكون السواد موضوعا لعدم الالوان، وقد يقال
للاسود أبو البيضاء وليس ذلك بمبطل أن يكون البياض موضوعا للون
المفرق للبصر.
(3/339)
وقد احتج عليهم بعض من تقدم من القائلين
بالعموم فقال ليس إلى وجود لفظ عام يراد به الخصوص سبيل البتة
إلا بدليل وارد يبين أنه منقول عن مرتبته إلى غيرها، كالدليل
على تخصيص قوله تعالى: * (تدمر كل شئ بامر ربها) * فصح بالنص
وبالظاهر، وبمقتضى اللفظ أنها لم تدمر من الاشياء إلا ما أمرت
بتدميره وهذا لفظ خصوص لبعض الاشياء، لا لفظ عموم لجميعها،
لكنه عموم لما قصد به، قال: وكذلك كل لفظ عموم أريد به الخصوص،
قال: فلما صح ذلك بطل ما احتجوا به من وجودهم لفظا ظاهره
العموم المطلق ويراد به الخصوص.
قال علي: واحتجوا أيضا فقالوا: لم نجد قط خطابا إلا خاصا لا
عاما، فصح أن كل خطاب فإنما قصد به من بلغه الخطاب من العاقلين
البالغين خاصة دون غيرهم.
قال علي: هذا تشغيب جاهل متكلم بغير علم، ليت شعري أين كان عن
قوله: * (وهو بكل شئ عليم) *.
وأيضا فإن الذي ذكر من تو جه الخطاب إلى البالغين العقلاء
العالمين بالامر دون غيرهم، فإنما ذلك بنص وارد فيهم، فهو عموم
لهم كلهم، ولم نعن بقولنا بالعموم كل موجود في العالم، وإنما
عنينا كل من اقتضاه اللفظ الوارد، وكل ما اقتضاه الخطاب، فعلى
هذا قلنا بالعموم، وإنما أردنا حمل كل لفظ أتى على ما يقتضي،
ولو لم يقتض إلا اثنين من النوع، فإن ذلك عموم لهما، وإنما
أنكرنا تخصيص ما اقتضاه اللفظ بلا دليل أو التوقف فيه بلا
دليل، مثل قوله تعالى: * (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا
باحلق فقلنا هذا عموم لكل نفس حرمهما الله من انسان ملى أو ذمى
لم يتأتنا ما يوجب القتل لهما ومن قتل حيوانا نهى عن قتله إما
لتملك غيرنا له أو لبعض الأمر ومثل قوله تعالى ولا تنحكوا ما
نكح آباؤ كم من النساء الا ما قد سلف فإنما أنكرنا استباحة نفس
بلا دليل ونكاح ما نكح الآباء، ومن خالفنا لزمه ألا ينفذ تحريم
قتل نفس إلا بدليل، وألا يحرم كثيرا منكح الآباء إلا بدليل من
غير هذه الآية، مبين لكل عين في ذاتها، وهذا يخرج إلى الوسواس،
وإلى إبطال التفاهم وبطلان اللغة، وبطلان الدين ومثل قول رسول
الله (ص): البر بالبر ربا، إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا،
إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا، إلا هاء وهاء، والملح بالملح
ربا إلا هاء وهاء، والذهب
(3/340)
بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة
ربا إلا هاء وهاء فوجب حمل كل ذلك على كل بر، وكل شعير، وكل
تمر، وكل ملح، وكل ذهب، وكل فضة، وكقوله عليه السلام: كل مسكر
حرام فوجب أن يحمل على كل مسكر، وكل من تعدى هذا فقد أبطل حكم
اللغة، وحكم الديانة.
قال علي: وشغبوا أيضا بآيات الوعيد مثل قوله تعالى: * (وإن
الفجار لفي جحيم) * * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون) * قالوا: وهي غير محمولة على عمومها.
قال علي: ولولا النصوص الواردة بقبول التوبة، وبالموازنة،
وبغفران السيئات باجتناب الكبائر لوجب ضرورة حمل آيات الوعيد
على ظاهرها وعمومها، ولكن صرنا إلى بيان خطاب آخر، وكذلك القول
في الآية الاخرى، وفي كل آية وخطاب حديث وخبر، ونحن لا ننكر
تخصيص العموم بدليل نص آخر أو ضرورة حس، وإنما أنكرنا تخصيصه
بلا دليل.
قال علي: وسألونا أيضا فقالوا: تعتقدون في أول سماعكم الآية
والحديث، قبل تفهمكم فالجواب: إننا نعتقد العموم ولا بد من
ذلك، وإلا أننا في أول سماعنا وقبل تفقهنا لسنا مفتين ولا
حكاما ولا منذرين، حتى نتفقه، فإذا تفقهنا حملنا حينئذ كل لفظ
على ظاهره وعمومه وحكمنا بذلك، وأفتينا وتدينا إلا ما قام عليه
دليل أنه ليس على ظاهره وعمومه فنصير إليه، ولو أن حاكما، أو
مفتيا لم يبلغه تخصيص ما بلغه من العموم، لكان الفرض عليهما
الحكم بالذي بلغهما من العموم والفتيا به، وإلا فهما فاسقان
حتى يبلغهما الخصوص فيصير إليه.
ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول: ماذا تعتقدون في الآية
والحديث إذا سمعتموها قبل تفقهكم، أتعتقدون في بطلان الطاعة
لهما، وأنهما منسوخان، أو تعتقدون وجوب الطاعة لهما وأنهما
مستعملان محكمان، ما لم يقم دليل على نسخهما ؟ فإن قالوا:
نعتقد أنهما منسوخان، وأنهما على الوقف فارقوا قول جميع
المسلمين، وأدى ذلك إلى إبطال جميع الشرائع ومفارقة الاسلام،
لان الدليل الذي يطلب على بطلان النسخ ليس إلا آية أخرى، أو
نصا أو إجماعا، ويلزمهم من الوقف في الآية الاخرى، وفي الحديث
الآخر أو من القول بأنهما منسوخان ما لزم في الخطاب الاول، ولا
فرق، وهكذا أبدا، ولزمهم الوقف أيضا في دعواهم الاجماع،
(3/341)
لعل ههنا خلافا فبطلت الديانة على قولهم،
ووجب بهذا القول ألا يعمل أحد
بشئ من الدين إذ لعل ههنا شيئا خصه أو شيئا نسخه، وهذا خلاف
دين الاسلام، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل قول أدى إلى هذا،
وإن قالوا: بل على أنهما محكمان حتى يقوم دليل على أنهما
منسوخان رجعوا إلى الحق، وهذا يلزمهم في القول بالوقف أو
الخصوص ولا فرق.
قال علي: وشغبوا أيضا فقالوا: نحن في الخطاب الوارد كالحاكم،
شهد عنده شاهدان، فلا بد له من السؤال عنهما والتوقف حتى تصح
عدالتهما.
قال علي: وهذا تشبيه فاسد، لان الشاهدين لو صح عندنا قبل
شهادتهما أنهما عدلان فهما على تلك العدالة، ولا يحل التوقف
على شهادتهما، والفرض إنفاذ الحكم بها ساعة يشهدان، وكذلك ما
أيقنا أنه خطاب الله تعالى، أو خطاب رسوله (ص) لنا، وإنما
نتوقف في الشاهدين إذا لم نعلمهما، وكذلك نتوقف في الخبر إذا
لم يصح عندنا أنه عن النبي (ص) فلا نحكم بشئ من ذلك.
قال علي: ومما احتجوا به أن قالوا قال الله تعالى: * (تدمر كل
شئ) * قال تعالى: * (ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم)
* وقال تعالى: * (أوتيت من كل شئ) * وقد علمنا أن الريح تدمر
كل شئ في العالم، وأن بلقيس لم تؤت كل شئ، لان سليمان عليه
السلام أوتي ما لم تؤت هي.
قال علي: وهذا كله لا حجة لهم فيه أما قوله تعالى: * (تدمر كل
شئ) * فإنا قد قلنا إن الله تعالى لم يقل ذلك وأمسك، بل قال
تعالى: * (تدمر كل شئ بأمر ربها) * فصح بالنص عموم هذا اللفظ،
لانه تعالى إنما قال: إنها دمرت كل شئ على العموم من الاشياء
التي أمرها الله تعالى بتدميرها فسقط احتجاجهم بهذه الآية،
وأما قوله: * (ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) *
فهذه الآية مبطلة لقولهم، لانه إنما أخبر أنها دمرت كل شئ أتت
عليه لا كل شئ لم تأت عليه فبطل تمويههم.
وأما قوله تعالى: * (وأوتيت من كل شئ) * فإنما حكى تعالى هذا
القول عن
الهدهد، ونحن لا نحتج بقول الهدهد، وإنما نحتج بما قاله الله
تعالى مخبرا به لنا عن علمه، أو ما حققه الله تعالى من خبر من
نقل إلينا خبره، وقد نقل تعالى إلينا عن
(3/342)
اليهود والنصارى أقوالا كثيرة، ليست مما
تصح.
فإن قال قائل: فإن سليمان عليه السلام قال للهدهد: * (قال
سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) * قلنا نعم، ولكن لم يخبرنا
الله تعالى أن الهدهد صدق في كل ما ذكر، فلا حجة لهم في هذه
الآية أصلا.
ثم نقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: إذا احتججتم بهذه الآيات
في حمل القرآن، وكلام النبي (ص) على الخصوص لا على العموم،
فالتزموا ذلك، ولسنا نبعدكم عن هذه الآية التي احتججتم بها،
فنقول لكم، قول الله تعالى: * (و جعلنا لهم سمعا وأبصارا
وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصار هم ولا أفئد تهم من شئ
إذا كانو يجحدون بآيات الله) * فأخبرونا على قوله تعالى، في
هذه الآية، إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا أهو
على عمومه ؟ أم يقولون: إنها أغنت عنهم شيئا ؟ فإن قلتم كذبتم
ربكم، وإن لم تقولوا، تركتم مذهبكم الفاسد، ومثل هذا في القرآن
كثير جدا، بل هو الذي لا يوجد غيره أصلا في شئ من القرآن
والكلام إلا في مواضع يسيرة قد قام الدليل على خصوصها، ولولا
قيام الدليل على خصوصها لم يحل لاحد أن يحملها إلا على العموم،
وبالله تعالى التوفيق قال علي: وموهوا أيضا بما هو عليهم لا
لهم، وهو تردد بني إسرائيل في أمره تعالى لهم بذبح البقرة.
قال علي: ومن كان هذا مقداره في العلم فحرام عليه الكلام فيه،
لان الله تعالى ذمهم بذلك التوقف أشد الذم، أفيسوغ لمسلم أن
يقوي مذهبه بأنه موافق لامر ذمه الله عز وجل ؟ ولو لم يكن في
ترددهم إلا قولهم لموسى عليه السلام: * (أتتخذنا
هزوا قال) * جوابا لقوله: * (إن الله يأمر كم أن تذبحوا بقرة)
ومن خاطبه نبي عن الله عز وجل بأمر ما، فجعله المخاطب هزوا فقد
كفر.
قال علي: فحسبهم وحسبنا لهم اقتداؤهم باليهود الحاملين كلام
ربهم تعالى على أنه هزء، واحتجوا بقوله: * (خلق كل شئ) * وهو
عز وجل غير مخلوق، وبقوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس ان
الناس قد جعوا لكم فاخشو هم) *.
قال علي: وإنما قال ذلك لهم بعض الناس، وإنما كان الجامعون لهم
بعض الناس لا كلهم.
(3/343)
قال علي: نحن لا ننكر أن يرد دليل يخرج بعض
الالفاظ عن موضوعها في اللغة، بل أجزنا ذلك، وهاتان الآيتان قد
قام البرهان الضروري على أن المراد بخلقه تعالى كل شئ: أن ذلك
في كل ما دونه عز وجل على العموم، وهذا مفهوم من نص الآية،
لانه لما كان تعالى هو الذي خلق كل شئ، ومن المحال أن يحدث أحد
نفسه لضرورات براهين أحكمناها في كتاب الفصل، صح أن اللفظ لم
يأت قط لعموم الله تعالى فيما ذكر أنه خلقه، وكذلك لما كان
المخبرون لهؤلاء بأن: * (الناس قد جمعو لهم) * ناسا غير الناس
الجامعين، وكان الناس الجامعون لهم غير الناس المخبرين لهم،
وكانت الطائفتان معا غير المجموع لها، علمنا أن اللفظ لم يقصد
به إلا ما قام في العقل، وإنما ننكر دعوى إخراج الالفاظ عن
مفهومها بلا دليل، وكذلك لا ننكر نسخ الامر كله بدليل يقوم على
ذلك، وإنما ننكر دعوى النسخ بلا دليل.
قال علي: وموهوا أيضا بأن قالوا: لو كان للعموم صيغة تقتضيه،
ولفظ موضوع له، لما كان لدخول التأكيد عليه معنى، لانه كان
يكتفى في ذلك باللفظ الدال على العموم.
قال علي: وهذا تعليم منهم لربهم أشياء استدركوها لا ندري ما
ظنهم فيها،
أنسيان أم فوات أم عمد ؟ وكل هذا كفر، وهذا جري منهم على
عادتهم في الحكم بالقياس في أشياء ادعوا أن ربهم تعالى لم
يذكرها، ولا حكم فيها، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ذلك،
ونقول: إنه علم لنا إلا ما علمنا، وأن التأكيد في اللغة موجود
كثير، كتكراره تعالى ما كرر من الاخبار، وكتكراره عز وجل سورة
واحدة: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * إحدى وثلاثين مرة: *
(ويفعل الله ما يشآء) * و: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) *
ولهذا أعظم الفائدة لانه تعالى علم أنه سيكون في خلقه قوم
أمثالهم يرومون إبطال الحقائق فحسم من دعاويهم ما شاء
بالتأكيد، وليقيم بذلك الحجة عليهم وترك التأكيد فيما شاء،
ليضلوا فيها ويستحق منهم من قلد وعاند العذاب الاليم، ويؤجر من
أطاع وسلم الاجر الجزيل بمنه وطوله، لا إله إلا هو ولو أنه
تعالى لم يكرر ما كرر من أخبار الامم السالفة، ومن أمره
فأقيموا
(3/344)
الصلاة وآتوا الزكاة، في غير ما موضع، ومن
أمره تعالى بالايمان واجتناب الكفر في غير ما سورة، ومن ذكر
النار والجنة في غير ما سورة فما كان ذلك مسقطا لوجوب ما وجب
من ذلك كله إذ كرره، ولكان ذلك واجبا بذكره مرة واحدة، كوجوبه
إذا ذكر ألف ألف مرة ولا فرق، ولكان الشك في خبر ذكر مرة
واحدة، أو تكذيبه يوجب الكفر، كوجوب الكفر بالشك فيما كرره ألف
مرة، وكوجوب الكفر بتكذيبه ولا فرق، وقد ذكر تعالى قصة موسى
عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن، ولم يذكر قصة يوسف عليه
السلام إلا مرة واحدة، ولا فرق عند أحد من الامة بين صحة قصة
يوسف، وبين صحة قصة موسى عليهما السلام، ومن شك في ذلك فهو
كافر مشرك حلال الدم والمال، فالتأكيد كالتكرار ولا فرق، ولو
لم يؤكد تعالى ما أكد لكان واجبا
وعاما، لا يقتضيه اسمه، كوجوبه مع التأكيد، ولا فرق، وإنما
معنى التأكيد كمعنى قول القائل: أنا شهدت فلانا، ونظرت إليه
بعيني هاتين، وهو يفعل أمر كذا، وقد علمنا أن النظر لا يكون
إلا بالعينين، وكذلك يقول سمعت بأذني والسمع لا يكون إلا
بالاذنين، ولو سكت عن ذلك لعلمنا من خبره كالذي علمنا إذا ذكر
العينين والاذنين ولا فرق.
وأيضا فإن الاستثناء جائز بعد التأكيد، كجوازه قبل التأكيد
فنقول: رأيت الوجوه إلا فلانا، فلو كان التأكيد مخرجا للكلام
عن الخصوص إلى العموم لما جاز فيه الاستثناء، فصح أنه بمنزلة
التكرار ولا فرق.
قال علي: ثم نعكس عليهم سؤالهم الفاسد، فنقول لهم: لو جاز أن
تكون صيغة العموم للخصوص لما جاز أن يدخل عليها للتأكيد
فينقلها إلى العموم، وهذا لهم لازم، لانهم صححوا هذا السؤال،
فكل من صحح القضية فهي لازمة له، وليست لازمة لمن يصححها ولا
ابتدأ السؤال.
قال علي: ولو صح قولهم لوجب أن يكون كل شئ انتقل عن حاله
باطلا، وأن يكون ذلك الانتقال دليلا على أن المنتقل لم يكن
حقا، لانه يلزمهم أن الشئ لو كان حقا لما صار باطلا، ولما قام
دليل على بطلانه، ونحن نجد الحياة للانسان باتصال النفس في
الجسد، ثم تذهب تلك الحياة وتبطل بيقين، فيلزمهم إذ قالوا:
(3/345)
لو كان العموم حقا لما انتقل لفظه إلى
خصوص، أن يقولوا: لو كانت الحياة حقا لما انتقل حاملها إلى
الموت، هذا مع افتقار دليلهم هذا إلى دليل، وأنه دعوى مجردة
ساقطة، لان دعواهم أن انتقال الشئ عن مرتبته مبطل لكونها مرتبة
لها دعوى ساقطة، يشبه سؤال السوفسطائية واليهود، وقد أبطلنا
استدلالهم في ذلك في كتاب الفصل بحمد الله تعالى.
قال علي: وقالوا أيضا: لو كان العموم حقا لما حسن الاستثناء
منه، وصرفه بذلك إلى الخصوص.
قال علي: وهذا غاية التمويه، لان العموم صيغة ورود اللفظ
الجامع لاشياء ركب ذلك اللفظ عليها، فإذا جاء الاستثناء، كان
ذلك اللفظ مع الاستثناء معا صيغة للخصوص، وهذا نص قولنا، فورود
الاستثناء عبارة عن الخصوص وعدم الاستثناء عبارة عن العموم.
قال علي: ثم يعكس عليهم هذا السؤال نفسه فيقال لهم: لو كان
للخصوص صيغة لما كان للاستثناء معنى، لانه لم يكن يستفاد به
فائدة أكثر مما يفهم من اللفظ قبل ورود الاستثناء، وقد قدمنا
أنه إنما يلزم القضية من صححها وسأل بها، وأما نحن، فهذه كلها
سؤالات فاسدة، ولكنها لهم لازمة إذا ابتدؤوا بالسؤال بها.
وقالوا أيضا: لو كان اللفظ يقتضي العموم ما حسن فيه الاستفهام،
أخصوصا أراد أم عموما ؟ فلما حسن فيه الاستفهام علمنا أنه لا
يقتضي العموم بنص لفظه.
قال علي: وهذا كالاول، وإنما يحسن الاستفهام من جاهل بحدود
الكلام، واستفهام المستفهم عن الآية أو الحديث مذموم، وقد أنكر
ذلك رسول الله (ص) وقال: اتركوني ما تركتكم، ثم نعكس عليهم هذا
السؤال نفسه فنقول لهم: لو كان اللفظ يفهم منه الخصوص، لما كان
للاستفهام معنى.
قالوا: ألا ترى أن السؤال والاستفهام لا يحسن في الخبر عن
الواحد، لانه مفهوم من نص لفظه.
قال علي: وهذا خطأ، لان الاستفهام يحسن في الواحد كحسنه في
العموم، وذلك أن يقول القائل: أتاني اليوم زيد، فيقول السامع:
أجاءك زيد نفسه ؟ إما على سبيل الاكبار، وإما على سبيل السرور،
أو على بعض الوجوه المشاهدة،
(3/346)
وهذا أمر معلوم لا ينكره ذو عقل، وقد يحسن
ذلك الشريعة أيضا من طالب راحة أو تخفيف، كما سأل ابن أم مكتوم
إذ نزلت آية المجاهدين، فطلب أن يخرج له عذر من عموم اللفظ
الوارد، وقد كان له كفاية في غير هذه الآية في قوله تعالى: *
(ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * وما أشبه ذلك، وكسؤال
العباس في الاذخر فاستثنى من العموم في النهي عن أن يختلى خلا
الحرم بمكة، وقد يحسن أيضا الاستفهام في العدد، كقول القائل:
أتاني عشرة من الناس في أمر كذا فيقول له السامع: أعشرة ؟
فيقول: نعم وذلك نحو قول الله عز وجل: * (ثلاثه أيام في الحج
وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) * فقد كنا نعلم لو لم يذكر
تعالى العشرة، إن ثلاثة وسبعة عشرة، وقد كنا نعلم بقوله تعالى:
* (تلك عشرة) * إنها عشرة، ولكنه تعالى ذكر * (كاملة) * كما
شاء، فلما صح كل ما ذكرناه وحسن الاستفهام عن اسم واحد، وعن
العدد وهو لا يحتمل صرفا عن وجهه أصلا، ولم يكن ذلك مجيزا
لوقوع اسم الواحد على أكثر من واحد، وكذلك في العدد - لم يكن
أيضا وقوع الاستفهام في العموم، موجبا لاسقاط حمله على العموم،
وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا أيضا: أرأيتم قولكم بالعموم ؟ أبعموم قلتموه وعلمتم
صحته، أم بغير عموم ؟ قال علي: وهذا من الهذيان الذي قد تقدم
إبطالنا إياه في كلامنا في حجة العقل، وهو سخف أتى به بعض
السوفسطائيين القاصدين إبطال الحقائق، وهو ينعكس عليهم في
قولهم بالخصوص وفي قولهم بالوقف، فيقال لهم: أرأيتم قولكم
بالوقف، أبو قف قلتموه وعلمتموه أم بغير وقف ؟ وأرأيتم قولكم
بالخصوص، أبخصوص قلتموه وعلمتموه أم بغير خصوص ؟ والجواب
الصحيح المبين لجهلهم: هو أننا نقول، وبالله تعالى التوفيق:
إنما قلنا بالعموم استدلالا بضرورة العقل الحاكم بأن اللغة
إنما هي رتبت لكل معنى في العالم، عبارة مبينة عنه موجبة
للتفاهم بين المخاطب والمخاطب، ولاننا وجدنا الاجناس العامة
للانواع الكثيرة، ووجدنا الانواع العامة للاشخاص الكثيرة -
يخبر عنها بأخبار، وترد فيها شرائع لوازم، فلا بد ضرورة من لفظ
يخبر به عن الجنس كله، وهذا لا بد منه، وإلا بطل الخبر عن
الاجناس، وهذا ما لا سبيل إليه أصلا،
(3/347)
ولا بد أيضا من لفظ يحضر به عن بعض ما تحت
الجنس، ليفهم المخاطب بذلك ما يريد، ومبطل هذا مبطل للعيان،
جاحد للضرورات.
وسألوا أيضا فقالوا: إن كان قولكم بالعموم والظاهر حقا، فما
قولكم فيمن سمع آية قطع يد السارق، وآية جلد الزناة، وآية
تحريم المرضعات لنا، والراضعات معنا، ولم يسمع أحاديث التخصيص
لكل ذلك، ولا آية التخصيص للاماء، أتأمرونه بقطع يد من سرق
فلسا من ذهب، وبجلد الامة والعبد مائة مائة إذا زنيا، وتحرمون
من أرضعت رضعتين، وتقولون إنه مأمور من عند الله تعالى بذلك ؟
فلزمكم القول بأنه مأمور بما لم يأمر به، والقول بأنه مأمور
بالباطل أو تأمرونه بأن لا ينفذ شيئا من ذلك حتى يطلب الدليل
فيتركون القول العموم بالظاهر.
قال علي: فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إن الله تعالى لم يأمر
قط بقطع سارق أقل من ربع دينار ذهبا ولا حرم قط من أرضعت أقل
من خمس رضعات، ولا أمر قط بجلد العبد والامة أكثر من خمسين،
لان الرسول عليه السلام قد بين كل ذلك وكلامه عليه السلام
وكلام ربه سواء، في أنه كله وحي، وفي أنه كله لازمة طاعته،
فالآيات التي ذكروا، والاحاديث المبينة، لها مضموم كل ذلك بعضه
إلى بعض غير مفصول منه شئ عن آخر، بل هو كله كآية واحدة أو
كلمة واحدة، ولايجوز لاحد أن يأخذ ببعض النص الوارد دون بعض،
وهذه النصوص وإن فرقت في التلاوة فالتلاوة غير الحكم، ولم تفرق
في الحكم قط، بل بين النبي (ص) ذلك مع ورود الآي معا، ولا يفرق
بين قوله تعالى
: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * مع قوله عليه
السلام: لا قطع في أقل من ربع دينار فصاعدا وبين قوله تعالى: *
(ألف سنة إلا خمسين عاما) *.
وكذلك لا فرق بين قوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم) *
وبين نزول خمس رضعات محرمات ناسخة لعشر محرمات، وبين قول
القائل: لا إله إلا الله، فلا يجوز أن يفصل شئ من ذلك في الحكم
عن بيانه، كما لا يحل لاحد أن يأخذ القائل لا إله إلا الله في
بعض كلامه دون بعض، فيقضي عليه بقوله: لا إله بالكفر، لكن نضم
كلامه كله بعضه إلى بعض فنأخذه بكلامه وكذلك إذا نزلت الآية
المجملة أتى بعقبها الاحاديث المفسرات فكان ذلك
(3/348)
مضمونا بعضه إلى بعض، ومستثني بعضه من بعض،
ومعطوفا بعضه على بعض، فبطل ماراموا أن يموهوا به، وصح أنه
سؤال فاسد، وأن الذين خوطبوا بالآيات المذكورات خوطبوا ببيانها
معا، وأما نحن فكل إنسان منا فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن
يكون لم يتفقه في الدين، أو يكون قد تفقه في الدين ولا سبيل
إلى وجه ثالث، فالذي لم يتفقه في الدين وليس من الذين خاطبهم
الله بقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * ولا
من الذين خوطبوا بالفتيا والحكم في تحريم المرضعات، ولا من
المأمورين بجلد الزناة، وإنما أمر بذلك كله الفقهاء والحكام
العالمون باللغة والفقه، بلا خلاف من أحد من المسلمين في ذلك.
وقد بين تعالى ذلك بقوله: * (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
قومهم إذ رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * فصح بالنص أنه ليس كل
أحد مأمورا بالتفقه في غيما يخصه في نفسه.
فصح بما ذكرنا أن المأمورين بتنفيذ الاحكام والفتيا في الدين
الفقهاء الذين قد سمعوا النصوص كلها، وعرفوها وعرفوا الاجماع
والاختلاف، وأن كل من
كان بخلاف هذه الصفة، فلم يأمر قط بقطع من سرق جبالا من ذهب،
ولا بأن يفتي يفتى في تحريم من أرضعت ألف رضعة ولا بجلد زان
حرا أو عبدا وكل متفقه فقبل أن يكمل تعلم النصوص والإجماع فهو،
غير مأمور ولا مخاطب بالحكم في شئ ولا بالفتيا في شئ، لكنه
مأمور بالطلب والتعليم، فإذا فقه فحينئذ لزمه تنفيذ ما سمع على
عمومه وظاهره، ما لم يأت نص بنسخ أو تخصيص أو تأويل، فبطل
سؤالهم بطلانا ظاهرا، والحمد لله تعالى.
ولكنا نقول: لو أن امرأ سمع هذه الآيات، ولم يسمع ما خصصها
لكان حكى العمل بما يبلغه التخصيص، فيلزمه حينئذ كما قلنا في
المنسوخ، سواء بسواء وليس بعد النبي (ص) من أحاط بجميع العلم،
وإنما يلزم كل واحد ما بلغه، وقد رجم عثمان التي ولدت لستة
أشهر، وقد أمر عمر برجم مجنونة حتى نهاه علي عن ذلك وأخبره بأن
النبي (ص) أخبر أن القلم مرفوع عن المجنون.
قال علي: وهم تناقضوا في هذه الآيات بلا دليل، فحملوا بعضها
على العموم، وبعضها على الخصوص، فتركوا قولهم بالوقف، وحملوا
على العموم ما قد صح
(3/349)
الخصوص فيه، واعترضوا أيضا بأن قالوا: لما
كان المعهود أن يقول القائلون: جاءني بنو تميم، وفسد الناس،
ولا خير في واحد، وذهب الخلق وذهب الوفاء، ولا يكون ذلك كذبا،
وقد تيقنا أنه لم يرد بذلك جميع بني تميم، ولا جميع الناس، ولا
جميع الا حدين، ولا جميع الخير، ولا جميع الخلق ولا الوفاء كله
صح الخصوص.
قال علي: وهؤلاء القوم لا ندري مع من يتكلمون، ونحن لم ننكر أن
يكون في اللغة ألفاظ يقوم الدليل على أنها مخصوصات، وكل ما
ذكروا فقد قام الدليل على أنه ليس على عمومه كما قام الدليل،
على أن آيات كثيرة أنها منسوخة لا يحل العمل بها، فلما لم يكن
كل ذلك واجبا أن تحمل النسخ من أجله على سائر الآيات، لم يكن
أيضا واجبا أن نحمل التخصيص على كل لفظ من أجل وجودنا ألفاظا
كثيرة قد قام الدليل على أنها مخصوصة، ولكن القوم يسوموننا إذا
وجدنا لفظا منقولا عن موضوعه في اللغة أن نحكم بذلك في كل لفظ،
وفي هذا إبطال اللغة كلها، وإبطال التفاهم وإيجاب للحكم بلا
دليل، والدليل الذي قام على تخصيص ما ذكروا، علمنا أنه لو أراد
به العموم لكان كاذبا، وأما لو أمكن أن يكون صادقا لما انتقل
عن عمومه إلا بدليل.
قال علي: وقالوا أيضا: قد اتفقنا على وجوب استعمال الخطاب على
بعض ما اقتضاه، واختلفنا في سائره، فلا يلزمنا إلا ما اتفقنا
عليه.
قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: هذا اعتراض فاسد من وجوه كثيرة
أحدها: أنه خلاف النصوص والعقول والاجماع، لان الامة مجمعة،
والعقول قاضية، والنصوص من القرآن والسنن واردة - كل ذلك متفق
- أن ما قام عليه دليل برهاني فواجب المصير إليه، وإن اختلف
الناس فيه وواجب ألا نقتصر على ما أجمع عليه دون ما اختلف فيه
إلا في المسائل التي لا دليل عليها إلا الاجماع المجرد المنقول
إلى النبي (ص).
وأيضا فقد قال تعالى: * (فإن تناز عتم في شئ فردوه الى الله
والرسول فأمر تعالى عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة
ودلائلهما قد قامت بوجوب حمل الالفاظ على موضوعها في اللغة.
(3/350)
وأيضا فإن هذا من سؤالات اليهود إذ قالوا:
قد وافقتمونا على نبوة موسى عليه السلام، وخالفناكم في نبوة
محمد (ص)، وهذا سؤال فاسد، لان الدلائل التي أوجبت تصديق موسى
عليه السلام، هي التي أوجبت تصديق محمد (ص)، فإن لم يجب بها
تصديق نبوة محمد (ص) لم يجب بها تصديق نبوة موسى عليه السلام،
وكذلك الدلائل التي دلت على حمل لفظ الخصوص على
الخصوص التي دلت على حمل العموم على العمل، والدلائل التي دلت
على حمله اللفظ على ذلك البعض وافقتمونا عليه: هي التى دلت
حمله على سائره الذي خالفتمونا فيه، ولا فرق.
وأيضا، فإنهم مناقضون لهذا القول، لانه كان يلزمهم على ذلك ألا
يقتلوا مشركا إلا مشركا اتفقوا على قتله، وهم لا يفعلون، لان
قائل هذا إن كان مالكيا فقد ناقض، لانه لم يقتل المرأة
المرتدة، ولم يتفق على قتلها، ويقتل ولد المرتد الحادث له
الردة إذا بلغ ولم يسلم، وابن ابنه كذلك، ولم يتفق على قتلهم،
ويقتل المشرك إذا سب النبي (ص) ولم يتفق على قتله، وإن كان
شافعيا، فكذلك أيضا.
ويقتل - زائدا على من ذكرنا - من خرج من اليهودية إلى
النصرانية، ومن خرج من النصرانية إلى اليهودية إلا أن يسلم،
وإن كان حنفيا، فهم يقتلون المسلم المختلف في قتله، إذا قتل
كافرا، بعموم قوله تعالى: * (النفس بالنفس) * وأن من تورع عن
قتل كافر قد أباح الله تعالى قتله، وجاء النص بقتله، وأقدم على
قتل مسلم قد حرم الله دمه عموما وخصوصا بعموم آية لم نخاطب
بها، ولا ألزمنا الحكم بما فيها، لعظيم الجرم قليل الورع مقدم
على أكبر الكبائر، وبالله تعالى التوفيق.
وكذلك إن قال: لا أقطع إلا سارقا اتفق على قطعه، فهم أيضا
ينكرون ذلك لانهم نعني المالكيين - يقطعون في أقل من عشرة
دراهم، وليس متفقا عليه، ويقطعون في الزرنيخ والنورة والفاكهة
واللحم، وليس القطع في ذلك إجماعا، والحنفيون يقطعون من سرق
شيئا مغصوبا من مال الغاصب، وليس قطعهم إجماعا، ويلزمهم بهذا
القول إلا يقولوا إلا بما أجمع عليه.
قال علي: وهم لا يفعلون ذلك البتة، فقد أفسدوا دليلهم وبالله
تعالى التوفيق،
(3/351)
فإنه يقال لهم: أبنص صح عندكم هذا القول أم
بإجماع ؟ فإن قالوا: بنص، أو ذكروا دليلا ما، كذبوا، وادعوا ما
لا يجدون أبدا، وكانوا مع كذبهم قد تركوا قولهم بألا يقولوا
إلا بما أجمع عليه، لانهم يقولون بالنص، وإن خالف الاجماع، وإن
قالوا: قلنا ذلك بإجماع كذبوا وجاهروا.
وبالجملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقد قط، وهو ألا يقول القائل
بالنص حتى يوافقه الاجماع، بل قد أصبح الاجماع على أن قائل هذا
القول معتقدا له كافل بلا خوف لرفضه القول بالنصوص التي لا
خلاف بين أحد في وجوب طاعتها.
قال علي: وقالوا أيضا: إن على المراد بالكلام دلائل تدل على
الرضا والسخط، من تغيير اللون، وحدة الامر والنجه والبشر.
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: ليس هذا مما نحن فيه، ولا كون
هذه الاحوال مما يمنع من إخراج الامر على العموم، ثم نعكس
عليهم هذا في قولهم بالخصوص والوقف فيلزمهم الوقف إلى أن
يجتمعوا بالنبي (ص) يوم القيامة، وفي هذا إبطال الدين والخروج
عن الاسلام، وتشبه هذه التساؤلات أن تكون سؤالات ملحد جاهل
قليل الحياء.
وقالوا أيضا: إنكم اعتقدتم العموم فيما أراد الله تعالى به
الخصوص، فقد خالفتموه عز وجل، قيل لهم وأنتم إن أردتم الخصوص
فيما أراد الله تبارك وتعالى العموم، فقد خالفتموه عز وجل، وإن
اعتقدتم الوقف فيها حكم الله تعالى فيه بما حكم، من عموم أو
خصوص - فلا بد من أحدهما - فقد خالفتم الله عز وجل بيقين لا شك
فيه، ولا شك في أن الله تعالى لم يرد قط في شئ من أحكامه وقفا،
بل أنفذ تعالى الحكم بما أنفذ.
وأيضا فنحن قاطعون على أن كل أمر لم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس
على عمومه، فهو على عمومه بلا شك ولا مرية، نقطع على ذلك عند
الله عز وجل، ونقطع أيضا بأن كل من بلغه العموم ولم يبلغه
الخصوص، أو بلغه المنسوخ ولم
يبلغه الناسخ، فإن الله تعالى لم يلزمه قط إلا ما بلغه لا ما
لم يبلغه، قال تعالى
(3/352)
: * (لانذر كم ومن بلغ) *، ونقطع بأن هذا
كله هو الحق عند الله عز وجل لنصه تعالى، على أن عليه بيانه
فما لم يبين على غير وجهه، فقد تيقنا على أنه مراد منا على
اقتضاء لفظه، ولا بد.
قال علي: فهذه اعتراضاتهم كلها قد استوعبناها ونقضناها، وبينا
فسادها كلها وانعكاسها عليهم من فسادها بحمد الله تعالى، ونحن
الآن شارعون - بتوفيق الله تعالى لنا وعونه إيانا - في إيراد
البراهين على بطلان قولهم ووجوب حمل الالفاظ على عمومها،
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: واحتج من سلف من القائلين بالعموم، المخالفين في ذلك
فقال: لو كان الخطاب على الوقف أو الخصوص حتى يقوم الدليل على
العموم، لكان ذلك الدليل لا ينفك ضرورة من أحد وجهين لا ثالث
لهما، وإما أن يكون لفظا بخطاب أو معنى مستخرجا من خطاب، فإن
كان خطابا فالخطاب الثاني كالاول، ولا فرق إن كان يدل بنفسه
على العموم، فالاول مثله، وإن كان الاول لا يدل بنفسه على أنه
على العموم، فالثاني لا يدل أيضا، وإن كان معنى مستخرجا من
خطاب، فلا يجوز أن يكون المعنى المستخرج من الخطاب أقوى من
الخطاب الذي منه استخرج وهذا يقتضي وجوب خطابات لا نهاية لها،
وهذا ممتنع لا سبيل إليه، ويؤدي أيضا إلى إبطال فهم كل خطاب
أصلا.
وقالوا أيضا: إننا وجدنا في اللغة أسماء للواحد لا تتعداه كزيد
وكرجل من شأنه وصفته فلا يعقل منه أكثر من واحد، ووجدنا فيها
أسماء التثنية لا تقع على واحد ولا على أكثر من اثنين، ووجدنا
أيضا لفظا للجمع الزائد على الاثنين، فكان ذلك واقفا على كل ما
يقتضيه الجمع إلا أن يأتي بيان باستثناء
أو بصفة أو بعدد يختص بذلك بعض الجمع دون بعض فتصير إليه.
وقالوا: يقال لمن قال بالخصوص: ما معنى قولكم هذا خصوص ؟ فلا
جواب لهم إلا أن يقولوا هو حمل للاسم على بعض ما يقتضيه دون
بعض مثل قوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجد تموهم) *
فيقولون: هذا على بعض المشركين دون بعض، فيقال لهم فبأي شئ
استحق عندكم هذا البعض - الذي حملتم اللفظ عليه - أن يكون
محمولا عليه ذلك اللفظ دون سائر من أخرجتم عنه ؟ وما الفرق
بينكم
(3/353)
وبين من قال: بل اللفظ محمول على الذي
أخرجتم عنه أنتم، وغير محمول على الذين حملتموه أنتم عليه، فإن
قالوا: الدليل كذا صاروا إلى أن التخصيص إنما كان بدليل غير
حمل اللفظ على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل، وهذا الامر لا
ننكره، بل نقول متى قام الدليل على التخصيص صرنا إليه، وبطل
بهذا حمل الاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل، فذلك ما
أردنا أن نبين، وهذا ترك منهم لمذهبهم الفاسد، وإن لم يكن
بأيديهم إلا الاقتصار على التخصيص لمن خصوا بلا دليل، حصلوا
على التحكم والدعوى، وكل دعوى بلا دليل فهي ساقطة، وبالله
تعالى التوفيق.
احتجوا على القائلين بالوقف فقالوا: هذا القول إلى متى يكون ؟
فإن حدوا حدا كانوا متحكمين بلا دليل، وإن قالوا حتى ننظر في
دلائل القرآن والسنة، سألناهم فقلنا لهم: فإن لم تجدوا دليلا
على عموم ولا خصوص، ولم تجدوا غير اللفظ الوارد ماذا تصنعون ؟
فإن قالوا: نقف أبدا أقروا بالعصيان ومخالفة الاوامر، وأدى
قولهم إلى أن الله يبين مراده، وأن الرسول (ص) لم يبين ولم
يبلغ وهذا كفر.
وإن قالوا: إن لم نجد دليل على الخصوص صرنا إلى العموم، فقد
رجعوا
إلى ما نكروا، وأقروا بأنهم إنما حملوا الكلام على العموم
بصيغته ولفظه، وبعدم الدليل على الخصوص، وهذا هو نفس قولنا
الذي أبوه أولا عادوا إليه من قريب، فإن قال قائل: إن هذا لا
يوجد لزمهم السؤال الذي سألنا به أولا من قولنا لهم: هل يخلو
الدليل من أن يكون لفظا آخر، أو معنى مستخرجا من لفظ ؟ وألزمهم
إيقاظ التفاهم أبدا، وأيضا فإن ذلك موجود وقد قال تعالى: * (إن
الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس
أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا
بصيرا) * ولم تؤكد بشئ أصلا وهذا عندهم محمول على عمومه، وقد
قال تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء.
ولم يأت بتوكيد زائد فحملوه على عمومه دو ن دليل غيره وارد
اللفظ فقط، ومثل هذا كثير جدا، بل هو الاكثر في القرآن والسنة،
وإنما ادعوا الخصوص في مسائل يسيرة، وليس هذا مكان احتجاجهم
بقرينة الوعيد، لاننا إنما نكلمهم في عموم كل ما اقتضاه اللفظ
لا في الوجوب.
(3/354)
وقد حمل مالك قوله تعالى: * (وأنتم عاكفون
في المساجد) * على عموم جميع المساجد بنص اللفظ، لا بدليل زائد
ولا بيان وارد، وحمل قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم ولم
يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) * على جميع الازواج، بلا دليل زائد،
وليس شئ من ذلك إجماعا.
وحمل هو وأبو حنيفة قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين) *
على عمومه في النكاح والوطئ بملك اليمين.
وحملوا كلهم أيضا قوله تعالى: * (أمهاتكم وبناتكم م اللاتي
أرضعنكم) * على عموم بلا دليل، بل الدليل قام على خصوص ذلك،
فأبوا من قبوله، فبان تناقضهم في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: ويلزمهم أيضا ألا يحكموا بالاجماع، إذ لعل ههنا خلافا
لم يبلغهم ولا يحكموا بنص، إذ لعله منسوخ ولا يقاس لان القياس
لا يكون إلا على نص أو إجماع والوقف واجب في النقص والاجماع،
فبطل الدين كله على قول هؤلاء القوم.
قال علي: ويقال لهم: ما الفرق بينكم وبين من خص بالخطاب بعض
الازمان دون بعض، كما خصصتم أنتم بعض الاعيان دون بعض ؟ فإن
قالوا: إن محمدا (ص) إنما بعث ليحكم في كل زمان.
قيل لهم: وكذلك أيضا بعث عليه السلام ليحكم على كل أحد في كل
عين ولا فرق.
قال علي: وقد بينا في غير ما مكان أن اللغة إنما وضعت ليقع بها
التفاهم، فلا بد لكل معنى من اسم مختص به: فلا بد لعموم
الاجناس من اسم، ولعموم كل نوع من اسم، وهكذا أبدا إلى أن يكون
لكل شخص اسمه، ومن سعى في إبطال هذا فهو سوفسطائي على الحقيقة،
عاكس للامور على وجوهه، مفسد للحقائق، ويأبى الله إلا أن يتم
نوره.
قال علي: ولا فرق بين الاخبار بالاوامر في كل ذلك وكل اسم فهو
يقتضي عموم ما يقع تحته، ولا يتعدى إلى غير ما يقع تحته،
والوعد والوعيد في كل ذلك كسائر الخطاب ولا فرق، والحديث
والقرآن كله كاللفظة الواحدة، فلا يحكم بآية دون أخرى، ولا
بحديث دون آخر، بل بضم كل ذلك بعضه إلى بعض، إذ ليس
(3/355)
بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض، ومن فعل غير
هذا فقد تحكم بلا دليل.
ويقال لهم: ما الفرق بينكم وبين من قال: لعل الخطاب الوارد
إنما خص به الصحابة دون غيرهم ؟ فكل ما قالوا ههنا فهو مردود
عليهم في دعواهم خصوص بعض ما يقع عليه الخطاب دون بعض.
ويقال لهم: بأي شئ استجزتم قتل من قتلتم من المشركين، وقطع من
قطعتم
من السراق، وجلدتم من جلدتم من الزناة، وحد من حددتم من
القذفة، وخصصتموهم بإيقاع هذه الاحكام عليهم، دون سائر من يقع
عليه اسم زان أو قاتل أو قاذف أو سارق، فهل ههنا إلا أنهم
سرقوا وقتلوا وزنوا وقذفوا ؟ فهكذا فعل غيركم ممن أخرجتموه من
الخطاب، وأسقطتم عنه ما حملتم على هؤلاء، فلاي معنى خصصتم من
أمضيتم عليه الحكم دون من لم تمضوه عليه ؟ فإن قالوا: بدلائل
دلت على ذلك، لم نأب ذلك، وقلنا لهم: هذا قولنا، وحسبنا أننا
قد أزلناكم عن الحكم بالخصوص المجرد الذي هو الافتراء على الله
عز وجل في الحكم عنه تعالى بما لم يأذن به، وقد رام قوم أن
يفرقوا بين الاوامر والاخبار، واحتجوا بأنهم مضطرون إلى العمل
بالاوامر، وليست الاخبار كذلك.
وقال علي: وهذا فرق فاسد، لاننا مضطرون إلى وجوب اعتقاد صحة
الاخبار وإلى الاقرار بها - وهي التي وردت بها النصوص - كما
نحن مضطرون إلى العمل بالاوامر، ولا فرق، والاعتقاد الصحيح فعل
الله تعالى في النفس والاقرار بالمعتقد فعل النفس بتحريكها
آلات الكلام من اللسان والحنك ومخارج الحروف، فلا بد لها من أن
تخص بالاقرار بما اعتقدت أو تعم، وخوف الخطأ في العمل في
الاوامر، كخوف الخطأ في الاعتقاد للاخبار على ما لا يجوز،
واعتقاد الباطل لا يجوز، كما لا يجوز العمل بالباطل فصح أن
الاخبار كالاوامر ولا فرق.
واحتج بعض من سلف من القائلين بالعموم على القائلين بالخصوص
فقال: ما تقولون في قوله تعالى: * (الله وخاتم) * للنبيين من
العرب دون غيرهم، أم عموم بنفس اللفظ ؟ فإن قالوا: خصوص كفروا،
وإن قالوا: عموم بنفس اللفظ، تركوا لمذهبهم الفاسد، فإن ادعوا
أن ذلك إجماع، لزمهم أن لا يقولوا إلا بما أجمع عليه فقط، وقد
قدمنا إفساد هذا القول فإنهم لو قالوا
(3/356)
لكانوا بذلك خارجين عن الاجماع، لان الامة
مجمعة على أن الاقتصار على القول بالاجماع فقط دون الائتمار
للنصوص - وإن وقع فيها اختلاف - حرام لا يفعله مسلم، ولا يسع
مسلم فعله، والنص من القرآن والسنن، جاء بوجوب طاعة النبي (ص)
وتحكيمه عند التنازع والاختلاف، وأيضا فهم لا يفعلون ذلك، فسقط
تعلقهم بكل وجه، بحمد الله تعالى.
فإن قالوا: علمنا أنه عليه السلام آخر النبيين بقوله (ص): لا
نبي بعدي قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: وهذا يحتمل من الخصوص
ما تحمله سائر النصوص، ولا فرق، ولعله أنه أراد لا نبي بعدي من
العرب أو في الحجاز أو إلى مائة عام أو ما أشبه ذلك، كما زعمت
العيسوية من اليهود والجر مدانية - القائلون بتواتر الرسل -
والغالية التي قالت بنبوة علي ونزيع والمغيرة ومنصور الكسف
بالكوفة، وبيان وأبي الخطاب، وأيضا فإن الاجماع إذ قد صح على
ذلك فهو أعظم الحجج عليهم لاجماع الامة على حمل هذا الخطاب على
عمومه، وكذلك يسألون عن قوله (ص): بعثت إلى الاحمر والاسود
وهذا يحتمل من الخصوص ما احتمله: * (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما) * وما احتمله قوله عز وجل: * (والذين يرمون المحصنات
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، فلاي معنى
خصصتم أحد الخطابين بلا دليل، وحملتم الآخر على عمومه بلا دليل
إلا نفس اللفظ فقط ؟ واحتج عليهم بعض من سلف من القائلين
بالعموم بأن قال إنكم متفقون على أن اللفظ إذا ورد فيه تأكيد
فإنه محمول على عمومه، قال: فيقال لهم: إن التأكيد يحتمل من
الخصوص مثل ما يحتمل الخطاب المؤكد ولا فرق، وقد جاء النص
بذلك، فقال تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون الا ابليس) *
فجاء الاستثناء بعد تأكيدين اثنين.
قال علي: قال تعالى: * (ولكن حق القول مني لاملان جهنم من
الجنة والناس
أجمعين) * ثم جاء الاستثناء بقوله: * (إن الذين سبقت لهم منا
الحسنى أولئك عنها مبعدون ئ لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت
أنفسهم خالدون وقال تعالى مخاطبا لابليس * (لأملأن جهنم منك
وممن تبعك منهم) * ثم جاء الاستثناء فيمن
(3/357)
تاب عن اتباع إبليس، وفيمن تساوت حسناته
وسيئاته التي اتبع فيها إبليس فجاء التخصيص كما ترى بعد
التأكيد، فبطل احتجاجهم بالتأكيد، ولزمهم ألا يحملوا خطابا على
عمومه أبدا، أكد أو لم يؤكد، ولزمهم الوقف أبدا وألا ينتفعوا
بتأكيد ولا غيره.
فإن قالوا: إنه يلزمهم إذا ورد الاستثناء، أن تقرروا بأن ذلك
الخطاب أريد به الخصوص، قلنا لهم: وكذلك نقول: ولسنا معترضين
على ربنا تعالى، ولا على نبينا (ص)، ولا نعلم إلا ما علمنا
تعالى، ولا ننكر صرفهما الالفاظ عن وجوهها ولا شرعهما الشرائع
علينا، ولا تحريم ما حرما، ولا تحليل ما حللا، ولو أمرانا بقتل
آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا لسارعنا إلى ذلك مبادرين، أو أمسكنا
مقرين بالمعصية غير داعين إلى ضلالة، ولا مصوبين لذنوبنا، بل
مستغفرين الله تعالى من ذلك، راغبين في التوبة.
قال علي: وما أخوفني أن يكون ملقي هاتين النكتتين من القول
بالوقف، في اتباع الظاهر وفي الوجوب، وفي العموم وفي الفور ومن
القول بصرف الالفاظ الواردة عن الله تعالى ورسوله (ص) إلى
تأويل بلا دليل، وإلى سقوط الوجوب بلا دليل، وإلى الخصوص بلا
دليل، وإلى التراخي بلا دليل كافرا مشركا زنديقا مدلسا على
المسلمين، ساعيا في إبطال الديانة، فإن هذه الملة الزهراء
الحنيفية السمحة كيدت من وجوه خمسة، وبغيت الغوائل من طرق شتى،
ونصبت لها الحبائل من سبل خفية، وسعي عليها بالحيل الغامضة،
وأشد هذه الوجوه سعي من تزيا بزيهم، وتسمى
باسمهم، ودس لهم سم الاساود في الشهد والماء البارد، فلطف لهم
في مخالفة القرآن والسنة، فبلغ ما أراد ممن شاء الله تعالى
خذلانه، وبه تعالى نستعيذ من البلاء، ونسأله العصمة بمنه، لا
إله إلا هو.
فلتسؤ ظنونكم أيها الناس بمن يحسن لكم مفارقة ظاهر كلام ربكم
تعالى، أو كلام نبيكم (ص) بغير بيان منها، أو إجماع من جميع
الامة، وبمن يزين لكم التأخر عن طاعتها، ويسهل عليكم ترك
الانقياد لهما، ويقرب لديكم التحكم في خطابهما، والفرق بينهما
بطاعة بعض ومعصية بعض، وهذا هو التخصيص الذي يدعونه بلا دليل،
وبالله نعتصم.
(3/358)
قال علي: ويلزمهم إذا أجازوا تخصيص ألفاظ
القرآن والسنن بلا دليل أو الوقف فيها، أن يجيزوا مثل ذلك في
الاعداد ولا فرق، فيقفوا فيما أوجب الله تعالى من صيام شهرين
متتابعين في كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الواطئ في شهر
رمضان، فلعله تعالى قد استثنى من الشهرين عشرة أيام في حديث لم
يبلغهم، أو بقياس لم ينتبهوا له بعد كما استثنى تعالى من مدة
نوح عليه السلام في قومه خمسين عاما بعد ذكره عز وجل ألف سنة،
ومثل هذا لازم لهم في جميع ما خوطبوا به، وهذا قول كما قدمنا
ليس فيه إلا إبطال الديانة مع فاحش تناقضهم، وأنه دعوى بأيديهم
بلا دليل.
فإن قالوا: هذا لا يجوز في الاعداد، لانه لو لم يكن الاستثناء
متصلا بها لكانت كذبا قيل لهم: وكذلك الاخبار إن لم يكن على
عمومها، ولم يأت نص آخر أو إجماع بتخصيصها كانت كذبا ولا فرق،
وكذلك الاوامر إن كان المراد بها الخصوص، ولم يأت نص آخر، ولا
إجماع بتخصيصها كانت تعنيتا، تعالى الله عن ذلك كله.
قال لهم بعض من سلف القائلين بالعموم: فإذا لم يفهم من كل خطاب
بمجرده ما اقتضاه لفظه فلعل قولك: نقول بالوقف: وقول من قال
منكم نقول بالخصوص،
إنما أردتم به في بعض المواضع دون بعض، ولعلكم أردتم غير ما
ظهر إلينا من كلامكم، فإنكم تناظرونا دأبا في ألا نحمل الالفاظ
على ظواهرها، ولا على عمومها، فأول ما ينبغي أن يستعمل هذا
فيه، ففي كلامكم، فتجعلون في نصاب من لا يفهم عنهم مرادهم ولا
يصح خطابهم، وصحت السفسطة بعينها عليهم.
قال علي: وكذلك يقال أيضا للقائلين بالوقف أو الندب: أموجبون
أنتم لحمل الاشياء الواردة من الله تعالى ونبيه (ص) على أنها
غير واجبة، وعلى الوقف فيها، أم أنتم نادبون إلى ذلك ؟ فإن
قالوا: نحن موجبون لذلك قيل لهم: فما الذي جعل كلامكم محمولا
على الوجوب ؟ وكلام ربكم تعالى محمولا على غير الوجوب ؟ وهذا
كفر شديد ممن اعتقده، وضلال عظيم ممن تقلده، وإن قالوا: بل نحن
نادبون إلى ذلك أقروا أنهم لا يلزمنا قبول قولهم، وبالله تعالى
التوفيق.
وأيضا قال علي: قولهم بحمل الالفاظ على الخصوص إنما معناه
بحملها على بعض ما يقتضيه لفظها.
قال علي: وهذا أمر ليس في طاقة أحد فهمه، والوقوف على حقيقته
أبدا، لانه لا ندري أي أبعاض تلك الجملة يقبل، ولا أيها يرد،
وليس بعضها أولى بحمل الحكم عليه من بعض، فصار ذلك تكليفا لما
ليس في الوسع، وهذه هي السفسطة نفسها وإبطال الحقائق جملة، وقد
أكذبهم تعالى بقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ويقال لهم
أيضا: أرأيتم قول الله تعالى: * (وعلم آدم الاسماء كلها) *
لهذا التعليم الذي
(3/359)
امتن الله تعالى به على أبينا آدم عليه
السلام فائدة ؟ أم لا فائدة له ؟ فإن قالوا: لا فائدة له
كفروا، وكذبتم الملائكة في إقرارهم بأن ذلك علم عظيم لم يكن
عندهم حتى علمهم إياه الخالق عز وجل، وإن قالوا: إن لذلك
التعليم فائدة سئلوا ما هي ؟ ولا سبيل إلى أن تكون تلك الفائدة
إلا إيقاع الاسماء على مسمياتها، والفصل بين المسميات
بالاسماء، ومعرفة صفات المسميات التي باختلافها وجب تخالف
الاسماء، ليقع
بذلك التفاهم بين النوع الذي أسكنه الله أرضه، وأرسل إليهم
الانبياء بالشرائع، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
وإذ قد ثبت هذا وصح فكل من أراد أن يثبت أن الاسماء لا تفهم
منها مسمياتها على عموم ما يقتضيه اللفظ، ولا يعرف بها ما علقت
عليه فهو مبطل للعقل والشريعة معا، وبالله تعالى التوفيق، وله
الحمد على جميع نعمه لا إله إلا هو.
ويلزمهم في قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * أن يكون لعل
ذلك في بعض الامهات دون بعض، وفي بعض الاخوات والبنات دون بعض،
أو لعل الذي حرم هو بيعه أو أكلهن دون جماعهن كما حملتم قوله
تعالى: * (فاقتلوا المشكين حيث وجدتمو هم) * على بعض المشركين
دون بعض، فلم تبيحوا قتل الرهبان، ولا قتل المرتدات، ولا أولاد
المرتدين إذا بلغوا كفارا، وكما فعلتم في القذف فلم تحدوا قاذف
الكافرة والامة المسلمة، وسائر ما حملتموه على الخصوص، ومثل
هذا لازم لهم في كل خطاب في القرآن والسنن، وبالله تعالى
التوفيق.
ويقال لمن قال منهم: إن الذي يدل على حمل الالفاظ على عمومه
إنما هو للتأكيد الوارد.
قال علي: يقال لهم: لو كان التأكيد ما ذكرتم لكان كلامهم
متناقضا، لانا نجد التأكيد يأتي مرتين وثلاثا، الاول، يأتي
لاخراج اللفظ من الخصوص إلى العموم، الثاني: مثله أيضا، ولو
وجب أن يكون مخرجا للكلام المؤكد والتأكيد الاول - عن الخصوص
إلى العموم، فكان يكون التأكيد الاول خصوصا وعموما معا، وهذا
ولا يعلل الصحيح في ذلك ما قدمناه من أن التأكيد إنما هو حسم
لشغب أمثالهم فقط، وليس التأكيد مخرجا للكلام المؤكد عن خصوص
إلى عموم أصلا، وقد قال الله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم
أجمعون) * وقد أجاب بعض القائلين بالوقف عن هذه المسألة فقال:
معنى قوله تعالى: * (أجمعون) * ي بعد ذكر: * (كلهم) * هو غير
المعنى في * (كلهم) * ى لان * (كلهم) * هو مخرج لقوله تعالى: *
(الملائكة) * وعن الخصوص إلى
العموم و: * (وأجمعون) * دال على أنهم سجدوا مجتمعين لا
مفترقين.
قال علي: وهذا جهل شديد، وكذب مفرط، لان جميعا ليس معناه
الاجتماع، ولا هو
(3/360)
من بابه، وهذه مجاهرة في اللغة، ولا يعرفها
أهل اللغة، ولا يعرف أحد من أهل اللسان أن قول القائل: أتاني
القوم أجمعون، أنه أراد مجتمعين، بل جائز أن يكون الذين أتوا
أفرادا مفترقين، وهذه هي السفسطة التي حذر منها الاوائل، وجملة
الامران أن هؤلاء قوم تعلقوا بأنهم وجدوا ألفاظا خارجة عن
موضوعها في اللغة إما إلى مجاز، وإما إلى معان مشتركة فرأوا
بذلك إبطال الحقائق كلها، وإبطال وقوع الاسماء على مسمياتها،
واختصاص كل اسم بمنعها، وعمومه لكل ما علق عليه كانوا بمنزلة
من قال: لما وجدت في الكلام كذبا كثيرا فأنا أحمله كله على
الكذب، ووجدت في الشريعة منسوخا كثيرا لا يحل العمل به، إذ
لعله قصد به غير ما يعقل منه، ووجدنا العمل بجميعه، ولا فرق
بين هذا وبين قولهم: وجدنا ألفاظا على غير ظاهرها، فنحن نقف في
كل لفظ فلا نستعمله على مفهومه، إذ لعله قصد به غير ما يعقل
منه، ووجدنا ألفاظا لا يراد بها عمومها، فنحن نقف في كل لفظ
فلا نمضيه على ما علق عليه.
قال علي: وقد قال بعض أهل الوقف، إذ سئل: فأي شئ نعرف بأن
اللفظ على عمومه، بلفظ أم بمعنى ؟ وألزم أن احتمال التخصيص
داخل في الثاني كدخوله في الاول، وهكذا أبدا، وكلف والفرق بين
اللفظ الثاني والاول فبلح عند ذلك، إذ لا سبيل إلى فرق، فقال
إن الاشياء التي بها يلوح العموم لا تحد ولا تحصر ولا سبيل إلى
بيانها.
قال علي: وهذه ثنية الانقطاع التي من بلغها سقط حسيرا، وعلم
أنه لا حيلة عنده ولا قوة لديه، وهو دليل من دلائل العجز
والضعف، وكل من أقر بأنه لا يقدر على بيان قوله، فقد حصل في
محل لا يعجز عن مثله ذو لسان إذا استجاز لنفسه الفضائح، فلا
يعجز أحد عن أن يدعي ما شاء من المحالات
والدعاوى، فإذا كلف بيانا أو دليلا قال: هذا لا يطاق عليه.
قال علي: ونظر ذلك هذا المبلح، بأن قال: كما أن العدد الذي وجب
ضرورة العلم في الاخبار لا سبيل إلى حده.
قال علي: وقد كذب، بل ذلك محدود، وقد بينا فيما خلا، وهو أنه
إذا ورد اثنان من جبهتين مختلفتين فحدثا غير مجتمعين، وقد تيقن
أنهما لم يلتقيا ولا توطأ، فأخبرا بحديث طويل لا يمكن اتفاق
خاطر اثنين على توكيده، ولم يكن هناك لهما ولا لمن حدثا رغبة
فيما حدثا به وعنه، ولا رهبة ولا هوى وذكرا مشاهدة أو سماعا من
اثنتين فصاعدا،
(3/361)
كما وصفنا أيضا أنهما شاهدا، فهو خبر ضروي
يوجب العلم واليقين بلا شك، وأن عشرات الالوف إذا حشدوا وكلفوا
خبرا ما، ولهم في ذلك رغبة أو رهبة أو هوى فجائز اجتماعهم على
فعل الكذب، وقد شاهدنا ذلك في شكر الولاة وذمهم، إلا أن هذا لا
يخفى، بل هو معلوم ضرورة من قبلهم، لانهم وإن اجتمعوا على ما
جمعوا له فكلهم يخبر صديقه وامرأته وجاره قبل أن يجمع، وبعد أن
ينفض من ذلك الجمع بحقيقة الامر وجلية الخبر، وهذا مشاهد كل
يوم من أحوال الناس ونقل أخبارهم من موت أو ولادة أو نكاح أو
طلاق أو عزلة أو ولاية أو وقفة أو ما شبه ذلك، وإنما أغفل
الناس هذا لقلة المتفقدين لمثل هذا وشبهه، ولكثرة من ينسى ما
يمر عليه من ذلك، وأصيخوا رحمكم الله إلى ما نقول لكم: اعلموا
ان كل من لا يحمل كلام تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم
على ظاهره عمومه والوجوب فإن مذهبه الذى يصرح به هو انه متى
امره الله تعالى بأمر أو رسوله عليه السلام قال لا اقبل شيئا
من هذا الكلام إذ لعل له بأويلا على العموم إذ لعلك أردث به
بعض ما يقع عليه فاعرفوا الآن ان هذا هو الكفر الصريح والخرج
عن السلام جهارا لابد منه أو من الرجوع الى طاعة الله ورسوله
(ص) والائمار بالقرآن والسنن وأخذها على ماهى عليه في اللغة
العربية
والعمل بما جاء الأمر الأمر فيهما فهذا هو الإسلام فعليكم به
وارفضوا ما خالفه ما ذكرنا قبل ففيه لاح - بحمد الله تعالى -
افك القائلين بالخصوص أو بالوقف قال فصل في بيان العموم
والخصوص قال علي: الكلام ينقسم ثلاثة أقسام: فمنخصوص يراد به
الخصوص بقوله: زيد وعمرو وما أشبه ذلك، وعموم يراد به العم،
ومعنى ذلك حمله على كل ما يقتضيه لفظه، فمنه ما يكون اسما لجنس
يعم أنواع كثيرة كقوله تعالى: * (وجعلنا من الماء كل شئ حى) *
فيقع تحت الحي المذكور الانس وأنواع الطير كلها، وأنواع ذوات
الاربع كلها، وأنواع الهوام كلها، وقد خرج من هذا العموم
الملائكة لاخبار الرسول (ص)
(3/362)
أنهم خلقوا من نور، وأما الجن فمن النار
بنص القرآن، إلا أننا نبعد أن يكون في تركيبهم شئ من الماء،
وإن كان العنصر هو النار، كما في تركيبنا الماء والنار
والهواء، وإن كان عنصرنا التراب، ومنها ما يكون اسما لنوع ما
كقوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير) * فهذا عموم لجميع
الخيل، ولجميع البغال والحمير، دون سائر الانواع، وليس هذا
خصوصا لان معنى قولنا: عموم وإنما هو ما اقتضاه اللفظ فقط دون
ما تقتضيه، فمن سمى هذا خصوصا فقد شغب وشبك.
وإنما يسمى ما بقي من الجملة بعد أن يستثنى منها خصوصا، وما
استثني منها مما بقي خصوصا، لان العموم الذي ذكرنا قد ارتفع
ضرورة، لان اللفظ حينئذ ليس محمولا على كل ما يقتضيه لفظه،
فلما بطل أن يسمى ذلك عموما سمي خصوصا لانه خص منه بعضه دون
بعض بالاستثناء وبالابقاء، ومنه ما يقع لاهل صفة ما من النوع،
كقوله تعالى: * (ولذي القربى) *، فلما كان هذا عموما لذوي
القربى كلهم دون غيرهم وكان شاملا لكل ما وقعت عليه هذه
التسمية بهذه الصفة وكقوله تعالى: * (إنما
الصدقات للفقراء والمساكين) * الآية، فكان ذلك عموما لكل صدقة
فرض بدليل أخرج منها ما ليس فرضا، وكان ذلك عموما لكل مسكين،
ولكل فقير، ولكل عامل عليها، ولكل مؤلف قلبه، ولكل ما سمي
رقبة، إلا أن يخص شيئا من ذلك نص أو إجماع، وكذلك قوله (ص):
الائمة من قريش فهذا عموم لكل قرشي إلا من خصه نص أو إجماع من
النساء والصبيان، وكذلك سائر النصوص.
والقسم الثالث: عموم دل نص القرآن والسنة على أنه قد استثني
منه شئ، فخرج ذلك المستثنى مخصوصا من الحكم الوارد بذلك اللفظ.
قال علي: ومن العموم أن يكون لفظه مشتركا يقع على معان شتى،
وقوعا مستويا في اللغة، ومعنى قولنا: مستو، أنه وقوع حقيقي،
وتسمية صحيحة لا مجازية، فإذا كان ذلك فحملها واجب على كل معنى
وقعت عليه، ولا يجوز أن يخص بها بعض ما يقع تحتها دون بعض
بالبراهين التي أثبتنا آنفا في إيجاب القول بالعموم.
قال علي: ومن خالف هذا من أصحاب الظاهرين، فقد تناقض، ولا فرق
وبين وقوع اسم على ثلاثة من نوع فصاعدا إلى تمام جميع النوع
كقولك: مساكين وفقراء، وبين وقوع اسم على ثلاثة أشياء فصاعدا
مختلفة الحدود، يقع عليها كلها وقوعا مستويا، ليس بعضها أحق به
من بعض، ولهذا قلنا في قوله تعالى: * (الزانية لا ينكحها إلا
زان
(3/363)
أو مشرك) * إن الآية على عمومها، ولا يحل
لمسلم زان أو عفيف أن ينكح زانية مسلمة لا بوطئ ولا بعقد زواج،
فإن وقع فسخ أبدا ما لم تتب قبل أن يعقد معها النكاح، ولا يحل
لمسلمة زانية أو عفيفة أن تنكح زانيا ما لم يتب، فإن وقع
الزواج فسخ أبدا، وأبحنا للزاني خاصة نكاح الذمية العفيفة فقط،
لان النص لم يأت إلا بتحريم ذلك على المؤمنين خاصة، والزناة
والزواني مؤمنون، فقد حرم ذلك عليهم بالنص، ولم يأت في ذلك
تحريم على المشركين، وهذه كرامة المسلم والمسلمة، لا يدخل
فيها المشركون لان حكمهم الصغار.
وقد تناقض في هذا أصحابنا فحملوا النكاح ههنا على الوطئ خاصة،
وحملوه في قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء)
* على العموم لكل ما يقع عليه اسم نكاح، وهذا كما ترى بلا
دليل، وأما من ادعى أن قوله: * (الزانية لا ينكحها) * الآية
منسوخة بقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم) * فمغفل لوجهين:
أحدهما إجماع الامة على أنه لا يحل لاحد أن يقول في آية أو
حديث: إنهما منسوخان لا يجوز العمل بهما إلا بنص جلي أو إجماع.
والثاني: أن قوله تعالى: * (و أنكحوا الأيامى منكم) * (ليس فيه
ما يرد قوله تعالى: * (والزانية لا ينكحها الا زان أو مشرك) *
كما ليس فيها إباحة نكاح الاخت والبنت المحرمتين وإن كانتا من
الايامى ولكن إحدى الآيتين مضمومة إلى الاخرى فننكح الايامى
منا ما لم يكن زواني مع أنه يبعد عندنا في اللغة وقوع اسم أيم
على الزانية، فالواجب استعمال الآيتين معا، لان استثناء بعضها
من بعض ممكن، وقد قدمنا أنه لا يحل ترك آية لاخرى أصلا قال
علي: وكذلك قلنا نحن وسائر أصحابنا: إن قوله تعالى: * (والذين
يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلد) * فأوجبنا
كلنا معشر القائلين بالظاهر إلا قوما توقفوا دون قطع - وقلنا
بإيجاب حد القذف كاملا على كل قاذف محصنة بأي معنى وقع عليها
اسم محصنة من عفاف أو إسلام أو زواج، فأوجبنا الحد على قاذف
الامة والكافرة والصغيرة، وكذلك أوجبنا الزكاة في القمح
والشعير والتمر دون سائر الحبوب والثمار لقول رسول الله (ص):
ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة ولفظة دون في اللغة
التي بها خوطبنا تقع على معنيين وقوعا مستويا حقيقيا مجازيا،
وهما: بمعنى أقل، وبمعنى غير كما قال تعالى: * (واتخذوا من دون
الله) * يريد غير الله تعالى، وقوله تعالى: * (وأعدوا لهم ما
استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) *
فذكر تعالى المجاهرين
(3/364)
بالعداوة للمسلمين وآخرين من غيرهم مكاتمين
بها فلم يكن حمل لفظة دون في الحديث المذكور على معنى أقل،
أولى من حملها على معنى غير، فوجب حملها على كلا المعنيين
جميعا، وقد تناقض في ذلك أصحابنا، فلم يحملوها إلا على معنى:
أقل، فقط.
قال علي: وهذا ترك منهم لقولهم بالعموم، وحمل لفظة دون على
معنى غير أولى، لان حملها على معنى غير يقضي في جملته أقل فهو
القول بالعموم، لان الاقل من خمسة أوسق هو أيضا غير الخمسة
الاوسق، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فهذه أقسام مفهوم الكلام، وقد جعل قوم قسما رابعا:
فقالوا: وخصوص يراد به العموم.
قال علي: وهذا خطأ، وليس هذا موجودا في اللغة، وسنستوعب الكلام
في هذا إن شاء الله تعالى في باب الكلام في القياس، وفي باب
دليل الخطاب بحول الله وقوته، فإن اعترضوا علينا بأحاديث وردت
في رجال بأعيانهم، ثم صار حكمها عندنا على جميع الناس، فليس
ذلك بما ظنوا، ولكن جميع تلك الاحاديث فيها أحكام في أحوال
توجب الاخذ بذلك في أنواع تلك الاحوال، اتباعا للفظ الحكم
المعلق على المعنى المحكوم فيه، وقد بينا أن رسول الله (ص) لم
يبعث ليحكم على أهل عصره فقط، لكن على كل من يأتي إلى يوم
القيامة، وفي كل ما يحدث من جسم أو عرض إلى انقضاء الدنيا، ولا
سبيل إلى أن يبقي عليه حيا إلى أن يلقى كل أحد، فكان حكمه على
إنسان في حال ما، حدثت له أو منه، حكما في وقوع تلك الحال كما
قلنا.
ويبين ذلك الحديث الذي فيه: هو جبريل أتاكم يعلمكم دينكم أجل
بيان وأوضحه، في أن كل خطاب منه (ص) لواحد فيما يفتيه به،
ويعلمه
إياه هو خطاب لجميع أمته إلى يوم القيامة، وتعليم منه عليه
السلام لكل من يأتي إلى انقضاء الدنيا، لان ذلك الحديث إنما
خرج بلفظ تعليم الواحد في قوله (ص): أن تعبد الله كأنك تراه.
ويكفينا من هذا الحديث قوله عليه السلام - أثر جوابه لجبريل
عليه السلام - إن هذا الذي ذكر تعليم لهم، فأشار إلى الخطاب
المتقدم للواحد، وبين ذلك أيضا
(3/365)
قوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا
إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو
كلاهما) * فبدأ بالجماعة، ثم خاطب خطاب واحد، وقد صح أن المراد
بهذا الخطاب كل مسلم، والحكم على الاسماء فكل اسم حكم فيه عليه
السلام فهو على كل ما تحت ذلك النوع الذي يقع عليه ذلك الاسم.
قال علي: وهم أولى الناس بالهروب عن هذا السؤال، لانهم أتوا
إلى حديث الواطئ في رمضان، وهو المأمور بما يجب في ذلك من
الكفارة فلم يقنعوا بأن جعلوه عاما لكل واطئ حتى تعدوا فجعلوه
على كل آكل وشارب، ثم على كل موطوءة وآكلة وشاربة من الناس،
وأتوا إلى حديث الميت في إحرامه فقالوا: لا يتعدى به ذلك الميت
بعينه، وأتوا إلى أمره (ص) في غسل ابنته فقالوا: هو عام لكل
ميتة، وأتوا إلى صلاته على قبر المسكينة فقالوا: هو خاص لتلك
المسكينة ولهم من مثل هذا أزيد من ألف حكم كلها ينقض بعضها
بعضا.
والعجب كل العجب في قياسهم إفطارا على إفطار، فجعلوا في الاكل
الكفارة كالواطئ، ولم يقيسوا صياما على صيام، فلم يروا على
المفطر عمدا في قضاء رمضان كفارة ولا على المفطر في قضاء النذر
أيضا، وليس شئ من ذلك إجماعا، لان إبراهيم النخعي وسعيد بن
جبير، لا يريان الكفارة على الواطئ، وأصحاب الشافعي كلهم لا
يرون الكفارة على المفطر بغير الوطئ، وقتادة يرى الكفارة على
المفطر في قضاء رمضان كهي على المفطر في رمضان، ولا فرق لانه
فرض وفرض، وصوم وصوم، وفطر وفطر.
وقد ادعى قوم في أحاديث وردت أنها خصوص، مثل حديث رضاع سالم.
قال علي: وليس كما قالوا، بل كل رضاع فمحرم بظاهر القرآن، إلا
ما استثني بالسنة، من الاربع رضعات فأقل، وأما رضاع سالم فقد
قال قوم: إنما كان حكما في التبني، والتبني قد نسخ بقوله
تعالى: * (ادعوهم لآبائهم) * فلما سقط التبني سقط الحكم المر
تبط به، ولما لم يعلم أي الامرين كان قبل: أحديث سالم أم قوله
(ص): الرضاعة من المجاعة ؟ وجب الاخذ بالزائد على معهود الاصل
وكان قوله (ص): إنما الرضاعة من المجاعة مع قوله تعالى: *
(والوالدات يرضعن أولادهن حولين لمن أراد يتم الرضاعة) * زائدا
(3/366)
على معهود الاصل في التحريم بعموم الرضاع
فوجب الاخذ بالزائد.
قال علي: بل حديث سالم هو الزائد فيلزم الاخذ به، لان قوله
تعالى: * (يرضغن أو لادهن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة) *
مسقط لحكم ما زاد على الحولين، فصار حديث سالم زائدا على
الآية، وحاكما بتمادي التحريم بالرضاعة أبدا وما ندري في
المصائب أطم من قول من عصى النبي (ص) في التحريم برضاع سالم،
وسمع وأطاع لتحريم برضاع شهرين بعد الحولين فقط، ولتحريم أبي
حنيفة برضاع ستة أشهر بعد الحولين فقط ولا حولا ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم قال علي: ومما يبين قولنا قوله (ص) لابي
بردة في الاضحية بعناق جذعة: تجزيك ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك،
فبين (ص) أن هذا الحكم خصوصا لابي بردة ولو كان فتياه لواحد لا
يكون فتيا في نوع تلك الحال لما
احتاج عليه السلام إلى بيان تخصيصه، ومثله قوله تعالى: *
(خالصة لك من دون المؤمنين) * فخرج عليه السلام في نكاحه في
جملة قوله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) *
ومثله أمره تعالى بقوله: * (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم
لما يحييكم) * فخرج بذلك عليه السلام من جملة قوله (ص): إن هذه
الصلاة لا يحل فيها شئ من كلام الناس.
وقد تناقض أبو يوسف فرأى قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت
لهم الصلاة خصوصا له عليه السلام ولم يرقوله تعالى: * (خذ من
أموالهم صدقة) * خصوصا له عليه السلام.
وهذا تناقض ظاهر، وصلاة الخوف لازمة لنا لقوله (ص): صلوا كما
ترني أصلي، وأخذ الزكاة لازمة للامة لقوله (ص): أرضوا مصدقيكم،
وبقوله عليه السلام: فمن سألها عن وجهها فليعطها ومن سئل أكثر
منها فلا يعطها فإذا سألها أولو الامر المأمور في القرإن
بطاعتهم بقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الامر منكم) * لزم فرض أدائها إليهم، وكذلك أمره تعالى بقتال
المشركين حتى يعطوا الجزية موجب كل ذلك على الائمة قبضها
وإرسال السعاة والولاة فيها.
وأما خصوص لفظ في نوع يراد به نوع آخر فهذا خطأ لا سبيل إليه،
وهو
(3/367)
باطل بالطبيعة والشريعة واللغة، أما
الشريعة فقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده
يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) * وحدوده تعالى ما نص
على تحريمه، أو إيجابه أو إباحته فمن حرم غير ما نص الله تعالى
على تحريمه، أو أوجب غير ما نص الله تعالى على إيجابه، فقد
تعدى حدود الله تعالى.
وأما الطبيعة فقد علمنا علم ضرورة أن الاسماء إنما وضعت ليعبر
بها عن المعاني التي علقت عليها وسميت بها، لا عما لم يعلق
عليه ولا سمي بها، هذا ما لا يثبت في
عقل أحد غيره، وما عداه فسفسطة وتخليط وإفساد للعالم ولبنية
الحس والعقل.
وأما اللغة فإنا نسأل كل عالم وجاهل: ما البر ؟ فيقول: القمح،
فإن قلنا له عن الشعير: ما هذا ؟ قال شعير، فإن قلنا: هو بر،
أنكر ذلك وهزأ بقائله، هذا ما لا يختلف فيه أحد من شرق الدنيا
وغربها حتى إذا أتى الدين - الذي هو المحتاط فيه الواجب تحقيقه
- حكموا للشعير بحكم البر، وخالفوا ما أقروا أنه الحقيقة
وحكموا بما أثبتنا نحن وهم أنه باطل، وتعدوا الحدود وأوقعوا
الاسماء على غير مسمياتها، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في الوجوه التي تنقل فيها الاسماء عن مسمياتها، فيخرج بذلك
الامر عن وجوبه إلى سائر وجوهه، وعن الفور إلى التراخي، وعن
الظاهر إلى التأويل وعن العموم لكل ما يقتضي إلى تخصيص بعضه
وذكر الدلائل التي تدل على أن الاسماء قد انتقلت عن مسمياتها
إلى ما ذكرناه قال علي: هذا باب كثر فيه التخليط، وعظمت فيه
الاغاليط ولو قلنا: إنه أصل لكل خطأ وقع في الشرائع لم يبعد عن
الصواب فلنقل - بحمد الله وعونه - فيه قولا يرفع إن شاء الله
تعالى الاشكال فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن الاسماء
المنقولة عن معانيها تكون بأربعة أوجه: أحدها نقل الاسم عن بعض
معناه الذي يقع دون بعض، وهذا هو العموم الذي استثني منه شئ ما
فبقي سائر مخصوصا من كل ما يقع عليه كقوله تعالى: * (الذين قال
لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) * وكسائر ما ذكرنا.
(3/368)
والوجه الثاني نقل الاسم عن موضوعه في
اللغة بالكلية، وإطلاقه على شئ آخر، كنقل الله تعالى اسم
الصلاة عن الدعاء فقط، إلى حركات محدودة من
قيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة ما، وذكر ما، لا يتعدى شئ من
ذلك إلى غيره.
وكنقله تعالى اسم الزكاة عن التطهر من القبائح إلى إعطاء مال
محدود بصفة محدودة لا يتعدى، وكنقله تعالى اسم الكفر عن
التغطية إلى الجحد له عز وجل، أو لنبي من أنبيائه، أو لشئ صح
عن الله تعالى، وعن رسول الله (ص) مع بلوغ كونه كذلك إلى
الجاحد له، وكنقل الامر الوارد عن الوجوب إلى الندب أو
الاباحة، لان هذا هو وضع اللفظ المرتب للايجاب في غير معناه،
ونقل له عن موضوعه إلى الندب الذي هو غير معناه، بل له صيغة
أخرى تدل على أنه التخيير، وكنقل الامر عن إلزام العمل به إلى
المهلة فيه.
قال علي: فقد بان بما ذكرنا أن نقل الامر عن الوجوب والفور إلى
الندب والتراخي هو باب واحد، مع نقل اللفظ عما يقتضيه ظاهره
إلى معنى آخر، وهذا الباب يسمى في الكلام وفى الشعر الاستعارة
والمجاز، ومنه قوله تعالى: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) ومثل
هذا كثير.
والوجه الثالث: نقل خبر عن شئ ما إلى شئ آخر اكتفاء بفهم
المخاطب كقوله تعالى: * (واسأل القرية التى كنا فيها والعير
التى أقبلنا فيها) * وإنما أراد تعالى أهل القرية وأهل العير،
فأقام الخبر عن القرية والعير مقام الخبر عن أهلها، وكقوله
تعالى: * (وان كنتم مرضى أو على سفر) * فأقام ذكر السفر والمرض
مقام الحديث، لان المراد فأحدثتم.
وكقوله تعالى: * (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلقتم) * فأوقع تعالى
الحكم على الحلف، وإنما هو على الحنث أو إرادته لا على الحلف،
ومثل هذا كثير.
والوجه الرابع نقل لفظ عن كونه حقا موجبا لمعناه إلى قوله
باطلا محرما، وهذا هو النسخ كنقله تعالى الامر بالصلاة إلى بيت
المقدس إلى أن يحل ذلك اليوم أصلا بالعمد لغير ضرورة.
قال علي: وإنما فرقنا بين النسخ وبين نقل الامر عن الوجوب إلى
الندب أو
غيره، وإن كان كل ذلك نقلا، لان النسخ كان الامر المنسوخ مرادا
منا العمل به
(3/369)
قبل أن ينسخ، وأما المحمول على الندب فلم
يرد قط منا إلزامنا العمل به، وهذا فرق ظاهر.
قال علي: وكل ما ذكرنا فلا يحل أن يتعدى به موضوعه، لانه كما
ترى أنواع يجمعها جنس النقل للاسماء على مراتبها، فمن استجاز
منها واحدا بغير برهان لزمه أن يجيز جميعها، وفي ذلك القضاء
بالنسخ على كل شريعة، وبأنه لا يفهم عن الله تعالى ولا عن
رسوله (ص) لفظ أصلا إذ لعله قد نقل إلى معنى آخر، وهذا خروج عن
الاسلام.
قال علي: وإذا قد ذكرنا وجود النقل للاسماء عن معانيها، ومثلنا
منها أمثلة، تدل عليها، وتنبه على أمثالها مما لم نذكره بحول
الله تعالى وقوته: فنذكر إن شاء الله تعالى بتوفيقه لنا، وعونه
إيانا - الدلائل التي بها تعلم صحة الوجوه التي ذكرنا، وبها
يثبت عندنا أن الاسم قد نقل إلى بعض الوجوه التي ذكرنا، والتي
متى لم توجد لم يحل لمسلم أن يقول: إن هذا اللفظ على غير موجبه
وبالله تعالى التوفيق، فلنقل وبالله نعتصم: إن البرهان الدال
على النقل الذي ذكرنا ينقسم قسمين لا ثالث لهما: إما طبيعة
وإما شريعة.
فالطبيعة هو ما دل العقل بموجبه على أن اللفظ منقول من موضوعه
إلى أحد وجوه النقل الذي قدمنا مثل قوله تعالى: * (الذين قال
لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) * - فصح بضرورة العقل، أن
المراد بذلك بعض الناس لان العقل يوجب ضرورة أن الناس كلهم لم
يحشروا في صعيد واحد، ليخبروا هؤلاء بما أخبرهم به، ولان العقل
يوجب ضرورة أن المخبرين لهم بأن الناس قد جمعوا لهم، غير
الجامعين لهم، وغير المجموع لهم بلا شك،
وأن الجامعين غير المخبرين بالجمع، وغير المجموع لهم بلا شك
ومثل قوله تعالى: * (كونوا حجارة أو حديدا علمنا بضرورة العقل
أنه أمر تعجيز، لانه لا يقدر أحد على أن يصير حجارة أو حديدا،
ولو كان أمر تكوين لكانوا كذلك، فلما وجدهم العقل لم يكونوا
حجارة ولا حديدا علم أنه تعجيز وأما الشريعة فهي أن يأتي نص
قرآن أو سنة، أو نص فعل منه عليه السلام، أو إقرار منه عليه
السلام، أو إجماع على أحد وجوه النقل الذي ذكرنا كما دل
الاجماع على أن اسم أب في
(3/370)
قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم
من النساء) * منقول عن الاقتصا ر على الاب وعلى الاجداد من
الاب والام وإن بعدوا، إلى الآباء من الرضاعة والاجداد من
الرضاعة لقوله عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
كما دل نص أيضا على نقل اسم الاب إلى العم في قوله حاكيا عن
القائلين: * (نعبد الهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) *
وإنما كان إسماعيل عما لا أبا، ولم يجب من أجل هذا أن ننقل اسم
أب في المواريث إلى الجد من الام أصلا، وكما دل النقل المتواتر
أيضا على نقل اسم ابن في قوله تعالى: * (وحلائل أبائكم الذين
من أصلابكم) * عن لاقتصار على الابن وبني البنين وبني البنات،
وإن بعدوا، إلى البنين من الرضاعة أيضا، ولم يجب من ذلك أن
ننقل اسم الابن في المواريث إلى ابن الرضاعة، وبني البنات، ولا
يحجب بابن الرضاعة ولا ببني البنات الام عن الثلث ولا الزوج عن
النصف، ولا الزوجة عن الربع إلى السدس والربع والثمن، ولم يوجب
شئ مما ذكرنا أن ننقل اسلام عن الوالدات اللاتي حملن الانسان
في بطونهن في كل حكم إلى أمهات الرضاعة، لان العلم واجب ضرورة
بأن الناس ماتوا على عهد رسول الله (ص) ولهم بنو البنات
والاجداد من قبل الامهات، وكذلك من الرضاعة، فلم يرث أحد منهم
شيئا بالنقل عن الكواف عصرا عصرا، وكم يجب إذا خص الجد من الاب
والابن من الولادة، والام
من الولادة بالميراث أن يتعدى ذلك فيخص بعض الوالدات، وبعض
الابناء، وبعض الاجداد بلا دليل، ولذلك ورثنا الجد للاب إذا لم
يكن هنالك أب دون الاخوة ولانه متفق على أنه في تلك الفرائض
والاخوة مختلف فيهم ولا نص في ذلك، فلزم ألا نورث أحدا بلا نص
ولا إجماع، وهم الاخوة، ولزم أن يورث الجد لانه متفق على أنه
يرث في تلك الفرائض مع النص على أنه أب، وكان يلزم من يقول
بالخصوص أن يخرج بعض النبيين على أن يورثهم مع سائر النبيين
قياسا على الاجماع في ألا يورث بنو البنات، لانهم بنون، ولا
يحرم على آباء أمهاتهم نكاح حلائلهم، ومن قال إن الجدة قيست
على الام في التحريم لزمه أن يقيسها عليها في التوريث، وإلا
كان متناقضا، وبالله تعالى التوفيق.
فصح بما ذكرنا أن إخراج الاسماء عن مواضعها إذا قام دليل من
الادلة التي
(3/371)
ذكرنا - واجب لانه أخذ في كل ذلك بالظاهر
الوارد وبالنص الزائد، فلم يخرج عن الظاهر في كل ذلك، ووجب إذا
عدم دليل منها ألا ينقل شئ من الخطاب عن ظاهره في اللغة، وأما
من خصص الظاهر أو العموم بقياس، أو بدليل خطاب، أو بقول صاحبه،
فذلك باطل، وسنبين ذلك في الابواب المذكورة إن شاء الله تعالى.
وقد قال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فلاح أن لا
بيان إلا بنص أو بضرورة عقل كما قدمنا، لان رسول الله (ص) هو
التالي علينا القرآن فهو المبين به، وهو الآمر لنا بالسنن
المبينة علينا، وهو الآمر باتباع القرآن والسنن والاجماع، وهو
عليه السلام الذي نص علينا في القرآن إيجاب استعمال العقل
والحس.
وقد ذكرنا في باب الاخبار من هذا الكتاب كيف التخصيص بالآية
للآي وللحديث، وبالحديث للآي وللحديث.
قال علي: ومن التخصيص بالاجماع قوله تعالى: * (حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون) * فلما أجمعت الامة بلا خلاف أنهم إن
بذلوا فلسا أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم، ولا خرجوا عن
إيجاب قتلهم، وحتى لو كثر القائلون بذلك، واشتهر فضلهم ما وجب
أن يعتد بهذا القول، لانه لم يأت به قرآن ولا سنة، ولكن لما
قال تعالى: * (حتى يعطوا الجزية) * بالالف واللام، وهما في
اللغة التي بها نزل القرآن للعهد والتعريف - علمنا أنه أراد
تعالى جزية معلومة معهودة، وبين ذلك بقوله تعالى: * (الجزية) *
بالا لف واللام، والالف واللام في لغة العرب لا يقع إلا على
معهود، وصح أن النبي (ص) لما أمر بأخذ دينار من كل محتلم منهم
ومحتلمة، علمنا أن ما دون الدينار ليس هو الجزية المحرمة
لدمائهم وأموالهم، ولم يكن لاقصى الجزية وأكثرها حد يوقف عنده
فيدعى فيه وجوبه بالاجماع، فإن يحيى بن آدم وعطاء بن رباح،
وعمرو بن دينار، وسفيان الثوري، كلهم يقول: ليس لاكثر الجزية
حد، وإنما هو ما ترضوا به، فلما كان اسم الجزية يقع على
الدينار وجب قبوله ممن لا يقدر على أكثر منه، ولزم المصالحين
ما صالحوا عنه وهو أكثر من الدينار، ووجب أن يفرض على من يطيق
أكثر من دينار من أهل العنوة ما أطاق، ما لا يجحف به.
(3/372)
وأما نقل الامر عن الوجوب إلى الندب فإنه
لا مدخل للعقل فيه، وإنما يؤخذ من نص آخر أو إجماع فقط، كما
قلنا في قوله تعالى: * (إذا حللتم فاصطادوا) * أنه إباحة لما
ذكرنا في ذلك للاجماع على ذلك، وقلنا في الوتر: إنه ندب لقول
الله تعالى له ليلة أسري به: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول
لدي ولانه عليه السلام كان ينتقل على البعير، فإذا أراد
الفريضة نزل وكان يوتر على البعير وأما النهي عن القران بين
التمرتين في الاكل والاشهاد على التبايع وكتاب
الديون، والانتشار بعد الصلاة للنوم والاكل وطلب الرزق، والاكل
من الهدي والاطعام منه، ومن الاضحية والمكاتبة لمن طلبها ممن
فيه خير من الرقيق، وإيتاؤهم من مالنا، ففرائض كلها، لانه لا
نص في إخراجها عن الوجوب، ولا إجماع، وأما أمره تعالى لاهل
النار بالدخول فيها وأن يخسؤوا، وبصليها، فأمر اضطرار لا محيد
لهم عنه، وأما أمره تعالى لاهل الجنة بالاكل وبالشرب وقبول
النعيم فأمر إيجاب لا بد لهم من قبوله مختارين مغتبطين، كما
تفعل الملائكة فيما يؤمرون به، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه
قال علي: وأما النص الذي يصح البرهان على أنه ليس على عمومه،
فقد قال قوم الباقي على عمومه، وقال بعضهم - وهو عيسى بن أبان
الحنفي قاضي البصرة -: لا نأخذ منه إلا ما اتفق عليه.
قال علي: والصحيح من ذلك أنه كان من النصوص التي لو تركنا
وظاهرها لم يفهم منه المراد - فإننا لا نأخذ منها إلا ما يبينه
نص آخر أو إجماع، وذلك مثل: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأيضا
فإن الله تعالى نص لنا على الصلاة والزكاة بالالف واللام،
والالف واللام إنما يقعان على معهود، ولا يفهم من هذا الظاهر
كيفية الصلاة والزكاة الواجبين علينا فوجب أن يطلب بيانهما من
نصوص أخر أو إجماع، وقد أخبرنا تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا
وسعها، وليس في وسعنا
(3/373)
أن نفهم استقبال الكعبة والاتيان بأربع
ركعات للظهر في كل ركعة سجدتان، وثلاث للمغرب من قوله تعالى: *
(وأقيموا الصلاة) * ولا في وسعنا أن نفهم إعطاء شاة من خمس من
الابل، وما يجب من الزكاة من البقر والغنم من قوله تعالى:
* (آتوا الزكاة) * ولاجل هذا النص منعنا من أن يكون تعالى
يكلفنا ما لا نطيق، وأما لو شاء ذلك تعالى لكان حسنا في العقل،
ولو أنه تعالى كلفنا شرب ماء البحر في جرعة، ثم يعذبنا إن لم
نفعل لكان ذلك عدلا وحقا، ولكنه تعالى قد تفضل علينا وآمننا من
ذلك ولم يكلفنا ما لا نطيق، فله الحمد والشكر لا إله إلا هو.
وكذلك قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)
* ليس فيها بيان كيفية تلك الصدقة، ولا متى تؤخذ أفي كل يوم أم
في كل شهر أم في كل عام ؟ أم مرة في الدهر ؟ ولا مقدار ما يؤخذ
ولا من أي مال، ففي قوله تعالى: * (من أموالهم) * عمومان اثنان
أحدهما: الاموال، والثاني: الضمير الراجع إلى أرباب الاموال،
فأما عموم الاموال: فقد صح الاجماع المنقول جيلا جيلا إلى رسول
الله (ص) أنه لم يوجب الزكاة إلا في بعض الاموال دون بعض، مع
أن نص الآية يوجب ذلك، لانه إنما قال تعالى: * (خذ من أموالهم)
* فالظاهر يقتضي أن ما أخذ مما قل أو كثر فقد أخذ من أموالهم
كما أمر، وقوله عليه السلام إذ سئل عن الحمير: أفيها زكاة أم
لا على أن هذا اللفظ ليس مرادا به جميع الاموال وقد قال عليه
السلام: إن أموالكم عليكم حرام وقال عليه السلام: كل المسلم
على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، ونص عليه السلام على أنه لا
يحل له أخذ مال أحد إلا بطيب نفسه وليست الزكاة كذلك، بل هم
مقاتلون إن منعوها.
وأيضا فإن لفظة: * (من) * في قوله تعالى: * (من أموالهم) *
إنما هي للتبعيض وأيضا فلو كانت الاموال مرادة على عمومها لكان
ذلك ممتنعا، لان ذلك كان يوجب الاخذ من كل برة، ومن كل خردلة،
ومن كل سمة، لان كل ذلك أموال، فلما صح بكل ما ذكرنا أنه تعالى
لم يرد كل مال وجب طلب معرفة الاموال التي تجب فيها الزكاة،
ومقدار ما يؤخذ منها، ومتى يؤخذ من نص آخر، أو من الاجماع إذ
قد ثبت أن المأخوذ هو شئ من بعض ما يملكونه، فلا بد من بيان
ذلك الشئ
المراد، فإنه إذا أخذ شئ يقع عليه اسم شئ واحد من جميع
أموالهم، فقد أخذ
(3/374)
من أموالهم، وكان هذا أيضا موافقا للظاهر
وغير مخالف له البتة، وليس إلا هذا الوجه، إلا أن يوجب أكثر
منه نص أو إجماع، لانه قد تعذر الوجه الثاني، وهو أن يؤخذ من
كل مال جزء، وإذا لم يكن لشئ إلا قسمان فسقط أحدهما ثبت الآخر،
فلو لم تأت نصوص وإجماع على الاخذ من المواشي والذهب والفضة
والبر والشعير والتمر، لما وجب إلا ما يقع عليه اسم أخذ، لاجزأ
إعطاء برة واحدة أو شعيرة واحدة، أو أي شئ أعطاه المرء، ولكن
النصوص والاجماع على ما ذكرنا، فرض الوقوف عندهما.
وأما العموم الثاني: وهو عموم أرباب الاموال فبين واضح، وهو
من: كل إنسان ذي مال، فوجب استعماله على عمومه، إذ عرف مقدار
ما يؤخذ، ومتى يؤخذ، ومما يؤخذ، فلا مخرج من ذلك إلا ما أخرجه
نص أو إجماع على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما النص المفسر الذي يفهم معناه من لفظه، وكان يمكننا
استعماله على عمومه ولو لم يأتنا غيره، فأتى نص آخر أو إجماع،
فخص منه بعض ما يقع عليه الاسم، فإنه لا يخرج منه إلا أخرج
النص والاجماع، والحجة في ذلك هي الحجج التي أثبتنا بها القول
بالعموم في أول هذا الباب الذي نحن الآن في فصوله، ويلزم من
قال: لا أبقي منه إلا ما جاء نص أو إجماع في بقائه أن يبيح
دماء جميع الامة إلا ما اتفق على تحريم دمه، لان قوله عليه
السلام: دماؤكم وأموالكم عليكم حرام لقد اتفق على أنه ليس على
عمومه، بل لخص منه كثير كالزناة المحصنين، وقتلة الانفس
وغيرهم، فيلزمهم أن يقتلوا شارب الخمر في الرابعة، هذا لو لم
يأت فيه نص، ولكن على أصلهم الفاسد، وأن يقتل الساحر إن كان
حنفيا أو
شافعيا، وأن يقتل السيد بعبده، والمؤمن بالكافر إن كان مالكيا،
وإلا فقد تناقضوا وأقروا بأن العموم الذي قد خص بعضه، فإن
باقيه على العموم أيضا، إلا أن يخصه نص أو إجماع، ونحن نرى -
إن شاء الله تعالى - مسألة فيها تخصيص مترادف مرآة لكيفية
العمل فيما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق، فنقول: قال الله عز
وجل: * (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا) * فلا نص أكثر
معاني ولا وقال تعالى: أعلم من هذا، وفيه إباحة النساء والمآكل
كلها، وكل ما في الارض
(3/375)
وقال تعالى * (قل للمؤمنين يغضوا من
أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * فلا شئ بعد النص المذكور آنفا أعم
ولا أكثر معاني من هذا النص الثاني.
فلو لم يرد غيرهما لحرم النكاح جملة، والوطئ بالبتة، ولكان
النساء كلهن مستثنيات مما أبيح النص الاكثر المذكور آنفا، فلو
لم يرد غير هذين النصين لحرم النساء جملة.
وقال تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * فكان هذا
مبيحا لما حظر النص المذكور الذ ي فيه حفظ الفروج، لو لم يرد
غير هذه النصوص لوجب الاخذ بالتحريم، لان الآية التي فيها
إباحة النكاح موافقة للنص الاكثر الذي فيه إباحة كل ما في
العالم، وإنما هي تأكيد وتكرار كسائر ما في القرآن من التكرار
والتأكيد الذي أورده الله تعالى كما شاء، * (لا يسأل عما يفعل
وهم يسألون) * كما كرر تعالى أخبار الانبياء عليهم السلام: *
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * و * (أطيعوا الرسول) * فكرر
إباحة نكاح النساء كما شاء.
ولسنا نقول: إن شيئا من هذه النصوص قبل كل شئ، ولا أن شيئا
منها بعد شئ، وسواء نزل بعضها قبل بعض، أو نزلت معا، لا فرق
عندنا بين شئ من ذلك، وليس شئ مما نزل بعد رافعا لشئ نزل قبل
إلا بنص جلي في أنه رافع له، أو بإجماع على ذلك، وإلا فهو مضاف
إليه ومعمول به معه ضرورة
لا بد من ذلك، فلما صح ما قلنا من استثناء تحريم النكاح جملة
مما أباح تعالى لنا، ووجدناه تعالى قد استثنى إباحة النكاح من
حفظ الفروج استثناء تاما بقوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم
حافظون ئ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين
ئ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * فصح يقينا أن
الزواج وملك اليمين مستثنى مما حرم من إهمال الفروج.
ثم وجدها هذا الاستثناء يحتمل أن يؤخذ به على عمومه، فيخص به
من آية التحريم أشياء كثيرة: منها الاختان بملك اليمين، والام
والابنة بملك اليمين، والكتابية بملك اليمين، والحائض والمحرمة
والصائمة فرضا، والحريمة بصهر أو رضاع، ويحتمل ألا يخرج من
النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج جملة إلا ما خص نص جلي أو
إجماع متيقن على إخراجه منه، فلو أخرجنا من النص الذي فيه
تحريم إهمال الفروج كل ما يحتمل إخراجه، لكنا قد أسقطنا ما
تيقنا
(3/376)
وجوبه بما شككنا في إباحته، ونحن إذا لم
نخرج منه إلا ما جاء نص جلي، أو إجماع بإخراجه منه، كنا قد
علمنا بما تيقنا لزومه لنا من النص المبيح للوطئ، وعلمنا أيضا
بما تيقنا وجوبه من النص الذي فيه التحريم، إذ في استعمالنا ما
في إية إباحة الوطئ كله رجوع إلى الاصل الاول الذي فيه إباحة
كل ما في الارض، وترك ما قد لزم إخراجه منه بيقين.
فلو فعلنا ذلك لكنا متناقضين، لانها ثلاثة نصوص كما ترى: نص
عام، ثم آخر دونهما في العموم ثم ثالث دونهم معا في العموم.
فإن قال قائل: بل نأخذ بالنص الاخص قلنا له وبالله التوفيق:
إنك إن فعلت ذلك رجعت إلى قولنا، لاننا نوجد لا نصا أخص من
النص الذي فيه إباحة الوطئ فيلزمك أن تغلب هذا الاخص الذي هو
نص رابع، وإلا نقضت
قولك، وهو قول الله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) *
والمشركات من الكتابيات هن بعض من تملك أيماننا، وكذلك الاختان
إذ ملكناهما.
وأما أصحابنا القياسيون فتناقضوا تناقضا فاحشا ظاهر الخطأ،
لانهم عمدوا إلى قوله عز وجل: * (ولا تنكحوا المشركات حتى
يؤمن) * إلى قوله تعالى: * (وان تجمعوان بين الاختنى الا ما قد
سلف) * وإلى قوله سبحانه وتعالى: * (وأمهات نسائكم) * وهذه كما
ترى آيات محرمات لنساء موصوفات، وعمدوا إلى قوله تعالى: * (إلا
على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * فاستثنوا
الاختين بملك اليمين، والام وابنتها بملك اليمين، والعمة وبنت
أخيها بملك اليمين، والخالة وبنت الخالة بملك اليمين، من الآية
التي فيها إباحة ملك اليمين.
إلا أن يكون أختان معا أو أم وابنة، أو عمة وبنت أخيها، فإن
أولئك لا يحل وطؤهن، ثم إن يستثنوا الاماء الكتابيات بما
أباحوه من ملك اليمين، فلو أن عاكسا عكس فأباح الاختين والام
والابنة بملك اليمين، وحرم الامة الكتابية بقوله تعالى: * (ولا
تنكحوا المشركات حتى يؤمن كان يكون بينهم إلا التحكم بلا دليل
؟.
فإن قالوا: قد أبيحت الكتابية، قيل لهم: أخطأتم إنما أبيحت
بالزواج لقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أو توا الكتاب من
قبلكم إذا آتيتموهن أجور هن) *
(3/377)
فإنما أباح المحصنات الكتابيات بشرط
إيتائهن الاجور، وإيتاؤهن الاجور لا يكون إلا في الزواج لا في
ملك اليمين، وهذا مالا شك فيه عند أحد، فبطل أن يكون المراد
بالاباحة المذكورة الاماء الكتابيات، فبقين على أصل التحريم.
ولو أننا رضينا لانفسنا من الحجة بنحو ما يرضون به لانفسهم
لقلنا لهم: إن قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) *
إنما قصد به الاماء لقوله تعالى في أثر ذلك: * (ولا تنكحوا
المشركات حتى يؤمن) * ولكنا في ذلك
نبين بأقوى مما يحتاجون به في أكثر مسائلهم: مثل احتجاجهم في
إيجاب الخطبة بقوله تعالى: * (وتركوك فائما) * ومثل احتجاجهم
في عتق الاخ بقوله تعالى: * (لا أملك إلا نفسي وأخي) * م في
المنع من النفخ في الصلاة بقوله تعالى: * (ولا تقل لهما أف) *
ومثل احتجاجهم في القسامة ببقرة بني إسرائيل.
ومثل هذا من التمويه البارد الفاسد الداخل في حدود هذيان
المبرسمين، ولكن الله عز وجل قد أغنانا بالنصوص الظاهرة التي
لا مجال للتأويل فيها، وبنصره تعالى لنا عن تكلف بنيات الطرق،
وادعاء ما لا يصح، ومن أمكنته السيوف لم يفتقر إلى المحاربة
بحطام التبن، ولا سيما من قال منهم: إن النص إذا خص بعضه لم
يؤخذ من باقيه إلاما أجمع عليه، فإنه يقال له في هذا المكان:
إباحة ملك اليمين قد خرج منه بالنص بالاجماع أشياء كثيرة فمنها
الذكور والبهائم، والام من الرضاع والاخت من الرضاع، وكل حريمة
بصهر ورضاع، وكل حائض، وكل صائمة فرض، وأخرجت أنت منه الاختين
والام والابنة والعمة والخالة، فيلزمك ألا تبيح مما بقي إلا ما
اتفق عليه، ولم يتفق على إباحة الامة الكتابية بملك اليمين،
ولا جاء بها نص.
فواجب عليك القول بتحريمها.
ويقول لسائرهم: أنتم أهل القياس فقيسوا ما اختلفنا فيه من وطئ
الامة الكتابية بملك اليمين على ما اتفقنا عليه من تحريم
الاختين بملك اليمين، وسائر ما ذكرنا، ويقال للمالكيين منهم:
أنتم تدخلون التحريم بأدق سبب ولا تدخلون التحليل إلا بأبين
وجه، فحرموا الوطئ للامة الكتابية، إذ لا سبب معكم في تحليلها
لا دقيق ولا جليل، ولكم في تحريمها أبين سبب فإن ادعوا إجماعا
أكذبهم ابن عمر، فقد
(3/378)
صح عنه تحريم الكتابيات جملة، وتلا الآية
التي ذكرنا.
قال علي: وأما جمهور أصحابنا الظاهريين، فإنهم سلكوا طريقة لهم
في ترك
ما ظاهره التعارض - قد بينا بطلانها - فجعلوا قوله تعالى: *
(وأن تجمعوا بين الاختين) * * (وأمهات نسائكم) * * (ولا تنكحوا
المشركات حتى يؤمن) *: معارضا لقوله تعالى: * (إلا ما ملكت
أيما نكم) * ورجعوا إلى الاصل بالاباحة.
قال علي: وهذا خطأ شديد من كل وجه، وحتى لو كان التعارض موجودا
وكان العمل صحيحا لكان ههنا باطلا، فكيف والتعارض غير موجود
لقوله تعالى * (ولو كان من عند غير الله لو جدوا فيه اختلافا
كثيرا) * ولقوله تعالى * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * العمل
المذكور عنهم فاسد بترك ما قد ثبت اليقين بوجوب الطاعة له.
قال علي: ولو كان العمل المذكور صحيحا لكان الرجوع إلى قوله
تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) *
أولى منه إلى إباحة قد خص منها حفظ الفروج، ولكن الصواب ما
بينا من استثناء الاقل معاني من الاكثر والعجب كل العجب من
تحريمهم الامة الوثنية بملك اليمين بلا خلاف منهم بقوله تعالى:
* (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * وإباحتهم لامة الكتابية
بملك اليمين بلا نص فيها أصلا ولا إجماع، فخصوا قوله تعالى: *
(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * بلا دليل، وفرقوا بين الامة
الوثنية والكتابية بلا دليل.
فإن قالوا: إن قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات) * إنما قصد
به الزواج اخطؤوا من وجهين: أحدهما: تخصيص العموم بلا دليل،
والثاني: تناقضهم وتحريمهم الامة الوثنية بملك اليمين، وإنما
جاء نص الاباحة من الكتابيات بالزواج فقط فحرام أن يستثنى من
تحريم المشركات بشئ غير الزواج وحده الذي استثني بالنص، ولا
سيما وهم يبطلون القياس، إنما أباح الاماء بملك اليمين من
أباحهن قياسا على الحرائر منهن في الزواج، والقياس باطل، فلم
يبق إلا أن يقولوا: إن المشركات اسم لا يقع على الكتابيات، فإن
قالوا هذا وكان القائل مالكيا أو شافعيا تناقض
(3/379)
في أنهم حملوا قوله تعالى: * (انما
المشركون نس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * على
الكتابي كما حملوه على الوثني.
وإن كان حنفيا تناقض في حمله قوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين
حيث وجد تمو هم) * الآية على الكتابي كحملهم إياها على الوثني،
وبرهان ذلك قبولهم إسلامهم إن أسلم، وليس في آية حرب أهل
الكتاب إلا * (حتى يعطوا الجزية) * فقط.
وبالله التوفيق.
ومما احتج به عيسى بن أبان في قوله: إن النص إذا خص منه شئ وجب
حمل سائره على الخصوص - أن قال: إن ذلك مثل شاهدين جرحا بقصة
ما، فوجب على سائر شهادتهما في كل شئ قال علي بن أحمد: وهذا
القول فمع ما فيه من الاضطراب وتشبيهه بشئ لا يشبهه، إقدام
عظيم على الله عز وجل وعلى رسوله (ص)، ولو كان القياس حقا -
وقد أعاذ الله تعالى من ذلك - لكان هذا القياس أحمق قياس في
الارض، فكيف والقياس كله باطل.
ولله تعالى الحمد.
فيقال لعيسى: ليت شعري ما الذي شبه كلام الله تعالى، وكلام
رسوله (ص) الذي ألزمنا الله تعالى توقيره والطاعة له، وحرم
علينا معصيته - بكلام فاسقين قد ثبت جرحتهما، وقد أمرنا تعالى
ألا نقبل خبرهما.
بل لقائل هذا القول المردود مثل السوء، ولله تعالى ولرسوله
المثل الاعلى، وهلا قال إذ لم يوفقه الله تعالى لقبول الحق: إن
النص الذي خص بعضه بمنزلة شاهدين عدلين شهدا لابيهما فلم يقبلا
على مذهبه الفاسد، فلا يكون ذلك موجبا لرد شهادتهما في سائر ما
شهدا به لغير أبيهما، فهذا قياس أصح من قياسه لو كان القياس
حقا، فكيف والقياس باطل كله فاسد، إلا أن الذي علمناهم أمثل
لاننا مأمورون بقبول شهادة العدلين كما نحن مأمورون بقبول النص
الوارد من الله تعالى ورسوله (ص) والعمل به ؟ فإذا سقط عنا
قبول ما شهدا به لدليل قام على ذلك في بعض
المواضع، لم يوجب ذلك سقوط سائر شهادتهما في سائر المواضع،
وكذلك النص اللازم لنا قبوله إذا قام دليل على سقوط بعضه في
بعض المواضع لم يكن ذلك موجبا لسقوط باقيه وسائره.
فهذا أشبه مما قال، لان الجرح الذي نظر به مسقط العدالة
بالجملة، وليس خصوص النص بمسقط للعمل به جملة.
(3/380)
ولو شبه الشاهد المجرح عدالته بالمنسوخ من
الملك والشرائع فأوجب بذلك سقوط جميعها عنا، لكان أدخل في
التمويه، وألطف في التشبيه، ولكنهم مع قولهم بالقياس وتركهم له
كلام الله تعالى وكلام رسوله (ص) فإنك تجدهم أجهل الخلق بترتيب
باطلهم، وأشدهم اضطرابا فيه وهكذا يكون ما كان من عند غير
الله.
ولله الحمد على ما وفق بمنه.
قال علي: ونسي عيسى نفسه إذ قال بما ذكرنا، من أن النص إذا خص
بعضه لم يؤخذ من باقيه إلا ما اتفق على الاخذ به منه، فهلا
تذكر على هذا الاصل إذ قال - في نهيه (ص) عن قتل النساء - إن
المرتدة لا تقتل، وهذا نص قد خص منه الزانية المحصنة والقاتلة،
فهلا أسقط أيضا منه المرتدة، ولم يأخذ منه إلا ما اتفق عليه من
المنع من قتل الحربيات المأسورات، ولكن القوم إنما هم ناصرون
لما حضرهم من مسائلهم لا يبالون بما أصلوا في ذلك، ولا بما
احتجوا، ولا يستحيون من نقضه بعد ساعة، وإبطاله بأصل مضاد
للاصل الاول على حسب ما يرد عليهم من المسائل كل ذلك طاعة
لمالك وأبو حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وقلة مبالاة
لمخالفة القرآن وترك كلام النبي (ص).
وبالله تعالى نستعين من الخذلان، ونسأل المزيد من التوفيق.
قال علي: ولا فرق بين تخصيص بعض آية أو حديث - لم يرد في ذلك
البعض تخصيص، لكن لانه قد خص بعض آخر منهما - وبين من أراد من
ذلك أن يخص
كل آية وكل حديث، لانه قد وجد آيات مخصوصات وأحاديث مخصوصة،
وكل هذا تحكم بلا دليل، أو بدليل فاسد.
وفي هذا إبطال الشريعة، ومن استجاز ما ذكرنا وصوبه، لزمه أن
يقول بنسخ كل آية، لانه قد وردت آيات منسوخات.
وهذا يخرج إلى إبطال الاسلام، ويقال لهم: ما الفرق بينكم وبين
من خص سورة بكمالها أو قال بنسخ كل ما فيها، لانه وجد بعضها
منسوخا ومخصوصا.
وهذا ما لا يقولونه وهو موجب قولهم الفاسد.
قال علي: واحتج بعض من ذهب هذا المذهب فقال: من حلف أن هذه
الآية أو الحديث مخصوصا فيما قد قام الدليل على تخصيص بعضهما
لم يحنث.
(3/381)
قال علي: يقال له صدقت.
ومن نازعك في هذا حتى تلحقه، ونحن نقر لك بأن هذا النص مخصوص
إذا قام الدليل على خصوص بعضه، ولكن الباقي بعد ما خص مأخوذ
على موجبه وعلى كل ما اقتضاه لفظه بعد ما خرج منه، ونحن على ما
لزمنا من وجوب الطاعة له.
قال علي: ويلزم من قال بهذا أن يقول: متى وجدت عددا قد استثني
منه شئ وجب أن أسقطه كله، ومتى وجدت إنسانا قد وجب أخذ بعض
ماله، لم أمتنع من أخذ باقته إلا أن يمنعني منه إجماع، ومن قال
هذا لزمه في قول الله تعالى: * (فلث فيهم ألف سنة إلا خمسين
عاما) * أن يقول لعله قد خصت منها خمسون أخر بالاستثناء فيكون
مقامه فيهم تسعمائة عام فقط أو أقل، وهذا فساد في العقل وكفر
في الاسلام.
فإن قال قائل: قدرخص للزبير وعبد الرحمن في الحرير لحكة كانت
بهما فقلتم أنتم: هو عام لكل من كان في مثل حالهما.
قيل له: هذا هو نص قوله تعالى * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا
ما اضطررتم إليه) * فكل مضطر إلى محرم فهو له حلال، وهذا
الحديث - الذي فيه إباحة الحرير لعبد الرحمن والزبير هو بعض
الآية المذكورة، وهو بمنزلة مفت سمع أن اليمين على من ادعي
عليه، فأوجب اليمين بذلك على زيد، وعلى عمرو، وعلى خالد، لانهم
مدعى عليهم، فأصاب في ذلك وكل هؤلاء قد اقتضاهم الحديث
المذكور.
فإن قال قائل: فهلا عممتم الآية التي ذكرتم في قوله تعالى *
(إلا ما اضطر رتم إليه) * فأبحتم به أكل الميتة للباغي إذا
اضطر إليها، وأنتم لا تفعلون ذلك ؟ قيل له وبالله تعالى
التوفيق: إنما منعناه لوجهين: أحدهما: أن الباغي مستثنى من
جملة المضطرين، وقد قلنا: إنه يجب استثناء الاقل معاني من
الاكثر معان.
والوجه الثاني: أن الباغي مضطر، لانه لو ترك البغي لارتفعت
ضرورته من أجله، فهو مختار لحاله غير مضطر إلى الميتة، لانه لو
أراد ترك البغي لكان قادرا على ذلك، ولحلت له الميتة حينئذ
لضرورة - إن كانت به - إنما المضطر الذي لا يقدر على دفع
ضرورته، ومن سلك طريقا وهو باغ وتحصن في حصن وهباغ فهو المختار
لعدم التصرف فليس مضطرا، فليس له دخول في جملة من أبيحت
للميتة.
وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(3/382)
فصل في مسائل من العموم والخصوص قال علي:
ومما تناقض فيه القائلون بتخصيص النصوص بالقياس: أن قالوا
بعموم قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * فقالوا: المدخول بها وغير المدخول
بها سواء، ولم يقيسوا غير المدخول بها في الوفاة على غير
المدخول بها في الطلاق، كما قاس بعضهم الاحداد على المطلقة
ثلاثا، على الاحداد على المتوفى عنها زوجها، فإن كان القياس
حقا فليستعملوه في كل مشتبهين، وإن كان باطلا فليجتنبوه.
قال: ومما خص بالاجماع قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الانثيين) * فخص بنص السنة العبد بأنه لا يرث
وخصت السنة أيضا الكافر بأنه
لا يرث المسلم، ولا المسلم الكافر.
وقال تعالى: * (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت
قلوبكم) * وقال رسول الله (ص): رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فخص
الكتاب قائل الخطأ بوجوب الكفارة عليه، وخص الاجماع المنقول من
أحدث ناسيا أنه منتقض الوضوء، وقد ادعى قوم أن حد العبد مخصوص
بالقياس على حد الامة.
قال علي: وقد أفكوا في ذلك، بل جاء النص بأن حد العبد مخالف
لحد الحر في حديث دية المكاتب من طريق علي رضي الله عنه، وابن
عباس رضي الله عنهما وقالوا أيضا في قوله تعالى: * (فإذا وجبت
جنوبها فكلوا منها) * أنه خص منها جزاء الصيد في أنه لا يؤكل
منه بالاجماع، وهدي المتعة قيس عليه.
قال علي: هذا خطأ، إنما أمر تعالى بالاكل من التطوع ما لم يعطب
قبل محله، وأما كل هدي واجب فقد قال تعالى: * (لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * فلما
كانت هذه الواجبات كلها مأمورا بإخراجها من أموالنا، وكان ذلك
مسقطا لملكنا عنها كانت قد انتقلت إما إلى ملك المساكين، وإما
إلى ملك الله عز وجل، لا بد من أحد الوجهين المذكورين، وما خرج
عن ملكنا فلا يحل لنا أن ننصرف فيه إلا بنص مبيح أو إجماع
والعجب من حملهم أمر الله تعالى بالاكل منها والاطعام، على أن
ذلك غير واجب، ثم أرادوا أن
(3/383)
يخصموا منها بقياس لا يشبه ما أرادوا
تشبيهه به، نعني هدي المتعة بهدي الجزاء فهلا إذ قاسوا هدي
المتعة على هدي الجزاء قاسوا صيام الجزاء على صيام المتعة ولكن
هذا في تناقضهم يسير جدا، وأيضا فلا إجماع في تحريم الاكل من
جزاء الصيد، وقد روينا عن بعض التابعين إباحة الاكل منه.
قال علي: وقال بعضهم: كيف تتركون ظاهر القرآن الذي من أنكره أو
شك فيه كفر، لخبر واحد لا تكفرون ما خالفكم فيه، ولا تفسقونه ؟
قال علي: فيقال لهم: وبالله تعالى التوفيق: القطع على وجوب
الائتمار لهما معا واحد بالدلائل التي قد ذكرناها في باب إثبات
العمل بخبر الواحد من هذا الكتاب، وكلاهم وحي من عند الله
تعالى، والقطع في المراد منهما بالمغيب منهما معا إنما هو على
حسب الظاهر منهما، وإنما يكفر من أنكر تنزيل القرآن أو تنزيل
بعضه فقط، وأما إن أنكر الاخذ بظاهره، وتأول في آياته تأويلات
لا يخرج بها عن الاجماع، فإننا لا نكفره ما لم تقم الحجة عليه،
كما لا نكفر من خالفنا في قبول خبر الواحد ما لم تقم الحجة
عليه، وكلا الامرين سواء، ولو أن امرأ يقول: لا أقبل ما قال
رسول الله (ص) لكان كافرا مشركا كمن أنكر القرآن أو شك فيه ولا
فرق، وبالله تعالى التوفيق.
* (فصل من الكلام في العموم) * قال علي: وإذا ورد أن رسول الله
(ص) فعل فعلا كذا نظرنا فإن كان عرضا منتهكا، أو دما مسفوحا،
أو مالا مأخوذا، علمنا ذلك واجب لانه عليه السلام حرم الدماء
والاموال والاعراض جملة إلا بحق، فما أخذ عليه السلام من ذلك
علمنا أنه فرض أخذه، وأنه مستثنى من التحريم المذكور، من ذلك
جلد الشارب، وهمه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن
الصلاة، وهو عليه السلام لا يهم إلا لحق واجب لو أصر عليه
المهموم فيهم لانفذه عليهم، لا يحل لاحد أن يظن غير ذلك، ومن
قال: إنه عليه السلام يتوعد بما لا يفعل فقد نسب إليه الكذب
وناسب ذلك إليه كافر، ومثل ذلك القضاء باليمين مع الشاهدين
وغير ذلك كثير.
(3/384)
فصل من العموم قال علي: العموم قسمان: منه
مفسر، ومنه مجمل، فالمجمل هو الذي لا يفهم
من ظاهره معناه، والمفسر قد ذكرناه، وأما المجمل فلا بد من طلب
المراد فيه من أحد موضعين: إما من نص آخر، وإما من إجماع، فإذا
وجدنا تفسير تلك الكلمة في نص آخر قلنا به وصرنا إليه، ولم
نبال من خالفنا فيه ولا استوحشنا منه كثروا أو قلوا صغروا أو
جلوا، ولم نتكثر بمن وافقنا فيه كائنا من كان من قديم أو من
حديث وقليل وكثير، وليس ممن كان معه الله ورسوله (ص) قلة، ولا
ذلة ولا وحشة إلى أحد، ولا فاقة إلى وفور عدد، فإذا لم نجد نصا
آخر نفسر هذا المجمل، وجب علينا ضرورة فرض طلب المراد من ذلك
المجمل في الاجماع المتيقن المنقول عن جميع علماء الامة -
الذين قال تعالى فيهم: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * - وكيفية العمل في ذلك أن
نأخذ بما أجمعوا عليه من المراد بمعنى ذلك المجمل، ونترك ما
اختلفوا فيه، فهذا هو حقيقة ما أمرنا به من الاخذ بالاجماع،
وترك كل قول لم يقم عليه دليل.
وهذا الذي نسميه استصحاب الحال، وأقل ما قيل.
فإن قال قائل: إن هذان اسمان مختلفان في المعنى، فما الفرق
بينهما ؟ ولم صرتم إلأحدهما في بعض الامكنة ؟ وإلى الآخر في
أمكنة أخرى، وما حد المواضع التي تأخذوا فيها باستصحاب الحال،
وما حد المواضع التي تأخذون فيها بأقل ما قيل وأنتتسمون فعلكم
في كلا الموضعين اتباعا للاجماع، وإجماعا صحيحا، وأنتم لا
تسمون من انفسكم بإجمال لا تستطيعون تفسيره، وتعيبون بذلك
أصحاب القياس أشد عيب قيل له، وبالله تعالى التوفيق.
صدقت في صفتك وأحسنت في سؤالك، والجواب عما سألت عنه، إن الذي
عملنا فيه بأن سميناه أقل ما قيل، فإنما ذلك في حكم أوجب غرامة
مال أو عملا بعدد لم يأت في بيان مقدار ذلك نص، فوجب فرضا ألا
نحكم على احد لم يرد ناقض في الحكم عليه إلا بإجماع على الحكم
عليه، وكان العدد الذي قد اتفقوا على وجوبه وقد صح الاجماع في
الحكم
به، وكان ما زاد على ذلك قولا بلا دليل، لا من نص ولا إجماع،
فحرام على كل
(3/385)
مسلم الاخذ به، وأما الذي عملنا فيه بأن
سميناه استصحاب الحال، فكل أمر ثبت إما بنص أو إجماع فيه تحريم
أو تحليل أو إيجاب، ثم جاء نص مجمل ينقله عن حاله فإنما ننتقل
منه إلى ما نقلنا النص، فإذا اختلفوا ولم يأت نص ببرهان على
أحد الوجوه التي اختلفوا عليه، وكانت كلها دعاوى، فإذا ثبت على
ما قد صح الاجماع أو النص عليه، ونستصحب تلك الحال، ولا ننتقل
عنها إلى دعاوى لا دليل عليها، وهذا القسم موجود كثيرا، فهذا
الجواب مستوعب لبيان جميع الوجوه التي سألت عنها، ومبين للحد
الذي سألت عنه، وللفرق الذي سألت عنه ولوجوب المصير إلى ما
سألت عن دليل وجوب المصير إليه، وبيان كون كلا الوجهين إجماعا،
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: ومن خالف الطريق التي ذكرنا فلا بد له ضرورة من أحد
وجهين لا ثالث لهما: إما أن يقول برأيه بلا دليل في دين الله
عز وجل، وإما أن يقلد، وكل ذلك باطل، فلا بد له من الباطل.
قال علي: ونحن نمثل من ذلك أمثله لتكون أبين للطالب، فنقول،
وبالله تعالى التوفيق، إن ذلك مثل قوله تعالى: * (حتى يعطوا
الجزية عن يدوهم صاغرون) * ومثل ذلك قوله تعالى: * (فدية مسلمة
إلى أهله) * وقوله تعالى: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) *
وقوله تعالى: * (فإطعام ستين مسكينا) * وقوله تعالى: * (خذ من
أموالهم صدقة) * وقوله تعالى: * (فمتعوهن) * وقوله تعالى: *
(فكاتبو هم ان علمتم فيهم خيرا) * وقوله تعالى: * (أو كفارة
طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) * وقول رسول الله (ص): ما من
صاحب إبل لا يؤدي حقها، وما من صاحب بقر لا يؤدي حقها، وما من
صاحب فضة أو ذهب لا يؤدي حقها حقها وما من صاحب فضد أو ذهب لا
يؤدى حقها
إلا فعل به يوم القيامة كذا وكذا، وجاء النص بإيجاب النفقة على
الزوجات وذوي الرحم وملك اليمين.
فأما قوله تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *
فإنه حكم في مشركين قد أمرنا بقتلهم وأخذ أموالهم وسبي نسائهم
وأطفالهم، وأوجب كل ذلك علينا وصح بالنص إيجاب دينار على
الواحد منهم، فصح أن من بذل منهم أقل من دينار لم يجز حقن
دمائهم بذلك، فكان الدينار أقل ما قال قائلون إنه جزية يلزم
(3/386)
قبولها بالنص، وليس في أكثر من ذلك حد ووقف
عنده فيقول القائل: هو أكثر ما قيل، فلو لم يكن ههنا حد يوقف
عنده لما وقع عقد ذمته أبدا، لانهم كانوا يكونو إنما بذلوا
شيئا طلب منهم أكثر، وهذا لا نهاية له، وليس من حد حدا بأولى
ممن حد حدا آخر، فهذا لا ينضبط أبدا، فصح أن الحد الاول هو
الواجب أخذه وهو الدينار إذا بذلوه ولم يطيقوا أكثر منه، وليس
في النص لاخذ أكثر من الدينار ممن أطاقه، وبالله تعالى
التوفيق.
وأما زكاة البقر فقد قدمنا ذكر خبر معاذ رضي الله عنه، وأن
مسروقا أدركه وحضر حكمه وشاهده، هذا ما لا شك فيه، ولم يكن أخذ
زكاة البقر من عمل معاذ نادرا ولا خفيا، بل كان فاشيا ظاهرا
معلنا مرددا كل عام كثيرا، فهذا غاية صحة النقل الموجب للعلم
والعمل، وكذلك عمله ونقله في الجزية فصح أن زكاة البقر والجزية
مسندان صحيحان عن رسول الله (ص) من طريق معاذ.
وأما عدد الجزية ومقدارها فقد ذكرناه آنفا، فهو اللازم إلا أن
يتفقوا معنا باختيارهم على أكثر، أو يتملكوا دون عهد فيلزموا
ما يطيقون، ويحرم بذلك دماؤهم، وسبيهم.
وأما الصغار عليهم، فإن النص قد ورد بإلزامه إياهم، فكل ما وقع
عليه اسم صغار فنحن نأتيه فيهم، إلا ما منعنا منه نص أو إجماع
فقط
، ولذلك أبحنا دماءهم إن ركبوا فرسا أو حملوا سلاحا أو تكنوا
بكنى المسلمين، أو تشبهوا بهم أو سبوا مسلما أو أهانوه أو
خالفوا شيئا من الشروط التي قد جمعناها في كتا ب ذي القواعد،
لانه عموم واجب أخذه كله وحمله على كل ما اقتضاه اسمه، وهذا
بخلافما جاء عن المسلمين، فإن المسلمين قد جاء النص فيهم
بتحريم دمائهم وأموالهم وأعراضهم والاضرار بهم، وأوجب الله
علينا كرامة كل مسلم بنهينا عن التحاسد والتنازع، وأن يحقر
أحدنا أخاه المسلم، وأمرنا بالتراحم والتعاطف وهذا بخلاف ما
أمرنا به في المشركين، فلا يحل من مال مسلم ولا من عرضه ولا من
دمه ولا من أذاه إلا ما صح بإيجابه، فلذلك قلنا في الدية
المأخوذة من المسلمين بأقل ما قيل.
ولما صح تحريم أموال أهل الذمة بالجزية المتفق على قبولها، وجب
أيضا ألا نحكم عليهم بعد تيقنا تحريم دمائهم وأموالهم، وسبيهم،
إلا بأقل ما قيل
(3/387)
عليهم، واستصحابا للحال التي قد تيقنا
وجوبها علينا فيهم، وإنما حرم بعد الجزية مال الذمي استصحابا
للحال التي قد تيقنا وجوبها عليهم فيها، فلذلك لم نقل أيضا في
الدية المأخوذة منهم في قتل بعضهم بعضا إلا بأقل ما قيل وذلك
ثلثا عشر دية المسلم إما ثمانمائة درهم، وإما ستة أبعرة وثلثا
بعير، ما لم ينقضوا ذمتهم فيعودوا بنقضها إلى ما كانوا عليه
قبل الذمة بالاجماع والنص وبالله التوفيق.
وأما قوله تعالى: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * فقد بين
ذلك نص عن النبي (ص) جلي.
وأما قوله تعالى: * (فإطعام ستين مسكينا) * فإننا صرنا في
تفسير مقدار هذا الاطعام إلى نص ورد في الواطئ خاصة، وصرنا في
كفارة الظهار إلى أقل ما قيل في ذلك، وهو موافق للنص الوارد في
كفارة الواطئ.
وأما قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * فإننا صرنا في ذلك
إلى بيان
نصوص وردت في ذلك، وتركنا ما لم يأت فيه نص من الاموال، فلم
نأخذ منه شيئا، لما ذكرنا من تحريم أخذ مال مسلم بغير طيب
نفسه، فحرم أن يؤخذ من مال مسلم شئ أصلا إلا بنص بين جلي أو
إجماع، لان قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم
بها) * هو مستثنى من جملة تحريم أموالهم، فلا يخرج من ذلك النص
الاكثر الاعم إلا ما بينه نص أو إجماع.
وأما قوله تعالى: * (فمتعوهن) * فإنما نأخذ في مقدار متعة
المطلقة بما أوجبه البرهان قبل، استصحابا لما قلنا من تحريم
مال المسلم جملة.
وأما قوله: * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * فإنا لا نجبر
السيد على قبول أقل من قيمة المكاتب، ولا نجبر المكاتب على
أكثر مما يطيق، لاجماع القائلين بإيجاب ذلك - وهم أهل الحق -
على إيجاب المقدار الذي ذكرناه.
وأما قوله تعالى: * (أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) *
فإنا صرنا في ذلك إلى مقتضى ظاهر الآية على ما بيناه في كتابنا
في المسائل، لان الاصل ما قد ذكرنا من تحريم مال المسلم جملة،
ومن أنه لا يحل لاحد أن يفرض شريعة على أحد لا من صيام ولا من
غيره إلا ما أوجبه نص، وأما قوله عليه السلام: ما من صاحب إبل
وما من صاحب غنم، وما من صاحب بقر، وما من صاحب ذهب فإنا صرنا
في بيان مقدار الابل والغنم والبقر المأخوذ منها ومقدار
(3/388)
الحق المأخوذ منها - إلى نصوص واردة في ذلك
مبينة بيانا جليا، ولذلك أوجبنا حلبها يوما وردها فرضا.
وأما الذهب فإنه لانص في مقدار ما يؤخذ منه الحق منها، ولا في
مقدار الحق المأخوذ منها، فصرنا في ذلك إلى الاجماع ضرورة، وقد
قدمنا أنه لا يحل من مال مسلم إلا ما أوجبه نص أو إجماع، فلم
نوجب في الذهب إلا أقل
ما قيل، فلم نأخذ أقل من أربعين دينارا من ذهب ولا من الزيادة
حتى يبلغ أربعين دينارا أبدا بخلاف الفضة، لان الفضة ورد فيها
نص، فوجب حمله على عمومه بخلاف الذهب الذي لم يرد في مقدار ما
يؤخذ منه نص يصح البتة، وبالله تعالى التوفيق.
وأما حلي الذهب فإنه قد أجمعت الامة على وجوب الزكاة في الذهب
قبل أن يصاغ حليا - إذا بلغ المقدار الذي ذكرنا - ثم اختلفوا
في سقوطها إذا صيغ فاستصحبنا الحال الذي أجمعنا عليها، ولم
نسقط الاختلاف ما قد وجب باليقين والاجماع.
وأما النفقات الواجبات فقد أوجبها تعالى بالمعروف، وأمرنا
بالاحسان في ذلك، وهذا يقتضي الشبع والسكن والكفاية وستر
العورة بما لا يكون شهرة ولا مثلة، فقد رأينا في هذا كله وجه
العمل الذي من حفظووقف عليه كفي تعبا عظيما، ولاح له الحق دون
تخطيط ولا إشكال، بحول الله وقوته.
قال علي: وأما إذا ورد لفظ لغوي فواجب أن يحمل على عمومه وعلى
كل ما يقع في اللغة تحته، وواجب ألا ندخل فيه ما لا يفيده
لفظه، مثل قوله تعالى * (إن علمتم فيهم خيرا) *، فالخير في
اللغة يقع على الصلاح في الدين وعلى المال، فلا يجوز أن نخص
بهذا النص بعض ما يقع عليه دون بعض إلا بنص، فلما قال تعالى: *
(فيهم) *، ولم يقل معهم، ولا قال تعالى عندهم، أنه إنما أراد
الدين فقط، فلذلك قلنا: إنه لا يجوز مكاتبة كافر لانه لا خير
فيه البتة، وأما المسلم فقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله
خير كثير ففيه خير على كل حال، ولم يقل تعالى خير، وبعض الخير
خير، وبالله تعالى التوفيق.
ومن ذلك قوله عليه السلام: ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو
تمر
(3/389)
صدقة، فوجب حمل دون على كل ما يقتضيه من
أقل ومن غير، فسقطت بذلك الزكاة عن الخضراوات كلها والقطاني
والفاكهة وسائر الثمار كلها لانها غير الحب والتمر، ووجب حمل
الحب على ما يقع عليه في اللغة، لا يقع على القمح والشعير فقط،
ذكر ذلك الكسائي وغيره من ثقات أهل اللغة في علمهم ودينهم.
ومثل ما جاء أنه عليه السلام كان يجعل فضل المال في الكراع
والسلاح، فوجب وضعه في كل ما يسمى كراعا وسلاحا، ولذلك لم يجز
تحبيس شئ من الاموال إلا ما جاء فينص، لانه شرع شريعة، فلا يحل
الحكم بها إلا بنص، وأجزنا أن يحبس المرء على نفسه، لانه داخل
في عموم قوله عليه السلام: إن شئت حبست الاصل وتصدقت بالثمرة،
فجائز للمرء أن يتصدق على نفسه وعلى غيره، لانه كله تصدق وقد
صح عن النبي (ص) قوله: ابدأ بنفسك فتصدق عليها.
قال أبو محمد: وذكر بعض أهل الكلام في هذا الباب حديثا رواه
أبو عبيد في غريب الحديث، وهو أمره عليه السلام قوما من جهينة
بإدفاء رجل كان أصابه البرد، والادفاء في لغتهم القتل فقتلوه.
قال علي: وهذا حديث مكذوب لا يصح البتة، بل نحن على يقين من
أنه كذب مفترى، لأنه عليه السلام أفصح العرب وأعرفهم في لغتهم،
ومأمورا بالبيان، وليس من البيان أن يأمر هم بكلام يقتضى عند
هم غاير مراده صلى الله عليه وسلم ولا خحجة لهم في قصة عدى في
الخيطين، لان عديا من قبله أتى سوء الفهم، وقد كان لعدي في
قوله تعالى: * (ثم وتموا الصيام الى الليل) * كفاية في أن
المراد خيط الفجر من خيط الليل، وقد كان نزل بعد: * (من الفجر)
* وقد فعل فعل عدى سائر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل
اللغة، وأصابوا في ذلك حتى نزل * (من الفجز) * وانتقلوا عن
الظاهر الاول الى الظاهر النازل بعده،
بذلك الزكاة عن الخضراوات كلها والقطاني والفاكهة وسائر الثمار
كلها لانها غير الحب والتمر، ووجب حمل الحب على ما يقع عليه في
اللغة، لا يقع على القمح والشعير فقط، ذكر ذلك الكسائي وغيره
من ثقات أهل اللغة في علمهم ودينهم.
ومثل ما جاء أنه عليه السلام كان يجعل فضل المال في الكراع
والسلاح، فوجب وضعه في كل ما يسمى كراعا وسلاحا، ولذلك لم يجز
تحبيس شئ من الاموال إلا ما جاء فينص، لانه شرع شريعة، فلا يحل
الحكم بها إلا بنص، وأجزنا أن يحبس المرء على نفسه، لانه داخل
في عموم قوله عليه السلام: إن شئت حبست الاصل وتصدقت بالثمرة،
فجائز للمرء أن يتصدق على نفسه وعلى غيره، لانه كله تصدق وقد
صح عن النبي (ص) قوله: ابدأ بنفسك فتصدق عليها.
قال أبو محمد: وذكر بعض أهل الكلام في هذا الباب حديثا رواه
أبو عبيد في غريب الحديث، وهو أمره عليه السلام قوما من جهينة
بإدفاء رجل كان أصابه البرد، والادفاء في لغتهم القتل فقتلوه.
قال علي: وهذا حديث مكذوب لا يصح البتة، بل نحن على يقين من
أنه كذب مفترى، لأنه عليه السلام أفصح العرب وأعرفهم في لغتهم،
ومأمورا بالبيان، وليس من البيان أن يأمر هم بكلام يقتضى عند
هم غاير مراده صلى الله عليه وسلم ولا خحجة لهم في قصة عدى في
الخيطين، لان عديا من قبله أتى سوء الفهم، وقد كان لعدي في
قوله تعالى: * (ثم وتموا الصيام الى الليل) * كفاية في أن
المراد خيط الفجر من خيط الليل، وقد كان نزل بعد: * (من الفجر)
* وقد فعل فعل عدى سائر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل
اللغة، وأصابوا في ذلك حتى نزل * (من الفجز) * وانتقلوا عن
الظاهر الاول الى الظاهر النازل بعده، وهذا الذى لا يجوز لأحد
تعديه، وبالله تعالى التوفيق، وهو الموفق للصواب.
(3/390)
|