الإحكام في أصول الأحكام ط العاصمة

الاحكام - ابن حزم ج 4
الاحكام
ابن حزم ج 4

(4/)


الاحكام في أصول الاحكام للحافظ ابى محمد على بن حزم الاندلسي الظاهرى هذا الكتاب النفيس، الذى لم ترالعين مثيله في علم الأصول أحمد شاكر قوبلت على نسخة أشرف على طبعها الأستاذ العلامة أحمد شاكر رحمه الله الناشر زكريا على يوسف مطبعة العاصمة بالقاهرة - ت 23680 الجزء الرابع بسم الله الرحمن الرحيم الباب الرابع عشر في أقل الجمع قال علي: اختلف الناس في أقل الجمع فقالت طائفة: أقل الجمع اثنان فصاعدا، وهو قول جمهور أصحابنا، وقالت طائفة: أقل الجمع ثلاثة، وهو قول الشافعي وبه نأخذ، واحتج أصحابنا لقولهم بأن قالوا: الجمع في اللغة ضم شئ إلى شئ آخر، فلما ضم الواحد إلى الواحد كان ذلك جمعا صحيحا.
قال علي: هذا خطأ ولا حجة فيه، لانه يلزمهم على ذلك أن يكون الجسم ا لواحد مخبرا عنه بالخبر عن الجمع واقعا عليه اسم الجمع لانه جمع جزء إلى جزء وعضو إلى عضو، وليس المراد باسم الجمع الذي اختلفنا فيه هذا المعنى من معاني
الضم، وإنما المقصود به ما عدا الافراد والتثنية وليس ذلك إلا ثلاثة أشخاص متغايرة فصاعدا بلا خلاف من أهل اللغة وحفاظ ألفاظها وضباط إعرابها.
واحتجوا أيضا بأن قالوا: روي عن النبي (ص): الاثنان فما فوقهما جماعة.
قال علي: لا حجة لهم فيه، لانه حديث لم يصح، حدثني أحمد بن عمر بن أنس بن عبد الله بن حسين بن عقال، ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري، ثنا محمد بن أحمد بن الجهم، ثنا بشير بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا عليلة بن بدر هو الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن أبي موسى الاشعري قال: قال رسول الله (ص): الاثنان فما فوقهما جماعة وبه إلى ابن الجهم قال: ثنا عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا أبو توبة، ثنا مسلمة بن علي، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة أن رسول الله (ص) قال: اثنان فما فوقهما جماعة.
وقال أبو محمد رحمه الله: عليلة ساقط بإجماع، وأبوه مجهول، ومسلمة بن علي

(4/391)


ضعيف بلا خلاف، وكذلك القاسم عن أبي أمامة، فسقط الحديثان، وإنما المعتمد عليه في حكم الصلاة قوله عليه السلام لمالك بن الحويرث وابن عمه: فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وبإمامته في النافلة - (ص) - ابن عباس وحده.
واحتجوا أيضا بأن قالوا: خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الكثير عن أنفسهم ولا فرق، فيقول الاثنان: فعلنا وصنعنا، كما يقول الجماعة سواء بسواء.
قال علي: لا حجة لهم في ذلك في إيجابهم بهذا أن يكون الخبر عن الاثنين كالخبر عن الجماعة، لان ذلك قياس، والقياس فاسد، وأيضا فإن الخبر عن الاثنين بخلاف الخبر عن الجماعة، فنقول عن الاثنين: فعلا، وعن الجماعة: فعلوا، وأيضا فإن المرأتين تخبران عن أنفسهما، كما يخبر الرجلان عن أنفسهما، فتقول
المرأتان فعلنا وصنعنا، وليس ذلك بموجب أن يخبر عنهما كما يخبر عن الرجلين فيقال: فعلا بمنزلة فعلنا، ولا يجوز في اللغة قياس بإجماع عن أهلها، وإنما هي مسموعة والضمائر مختلفة عن الغائب والحاضر، والمخبر عن نفسه، والتثنية والجمع والمؤنث والمذكر، وقد تتفق الضمائر أيضا في مواضع، فليس اتفاقها فيها بموجب لاتفاقها في كل موضع، ولا اختلافها في بعض المواضع بموجب اختلافها في كل موضع، بل كل ذلك مأخوذ عن أهل اللغة كما سمعوه عن العر ب، وقد يخبر الواحد عن نفسه كما يخبر الاثنان، وكما يخبر الجماعة فيقول: فعلنا وصنعنا ونفعل ونصنع، ونحن نقول وهذا عندنا، وليس ذلك بموجب أن يكون الواحد جمعا، فبطل احتجاجهم بأن خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الجمع، وهو حجة في كون الاثنين جمعا.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) * وإنما كان لهما قلبان.
قال علي: ولا حجة لهم في هذا، لان هذا باب محفوظ في الجوارح خاصة، وقد نقل النحويون هذا الباب وقالوا: إن كل اثنين من اثنين، فإنه يخبر عنهما كما يخبر عن الجمع، كأن العرب عدت الشيئين المخبر عنهما ثم أضافتهما إلى الشيئين اللذين هما منهما، فصارت أربعة، فصح الجمع، وأنشدوا في ذلك: ومهمهين فدفدين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين

(4/392)


وهذا باب لا يتعدى فيه مسموعه من العرب فقط، ولا يجوز أن يقاس عليه، واحتجوا أيضا بقوله عز وجل: * (وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين) *.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لان الضمير في حكم العربية أن يكون راجعا
إلى أقرب مذكور إليه، وأقرب مذكور إلى الضمير قوله تعالى: * (غنم القوم) * فالقوم وداود وسليمان جماعة بلا شك فكأنه تعالى قال: وكنا لحكم القوم في ذلك أي للحكم عليهم، كما تقول هذا حكم أمر كذا، أي الحكم فيه وعليه.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض) * وبين تعالى أنهما اثنان بقوله في آخر الآية * (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) * ويقول أحدهما: * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) *.
قال علي: لا حجة لهم فيه، لان الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة وقوعا مستويا، وكذلك الزور على الزائر الواحد والاثنين والجماعة، وكذلك الالب والحرب، تقول هو إلب علي وهو حرب علي وهما حرب علي وإلب علي، وهم حرب علي وإلب علي، فلا يسوغ لاحد أن يقول: المتسورين على داود (ص) كانا اثنين دون أن يقول: بل كانوا جماعة، وقد قال ذلك بعض المفسرين، وقال تعالى: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) * وإنما نزلت في ستة نفر، علي، وحمزة، وعبيد بن الحارث رضي الله عنهم، وفي عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، إذ تبارزوا يوم بدر، وقد أخبر تعالى في آخر الآية بما يبين أنهم جماعة يقول تعالى: * (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) * إلى منتهى قوله * (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) *.
حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن محمد بن عيسى، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج، ثنا عمرو بن زرارة ثنا هشام، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما: * (هذان خصما اختصموا في ربهم) * إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر

(4/393)


علي وحمزة وعبيدة رضي الله عنهم، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة.
وإذا لم يأت نص بين في أن الخصمين المختصمين إلى داود (ص) كان إذ تسورا اثنين فقط لا ثالث لهما، فليس لاحد أن يحتج بذلك في إبطال ما قد صح في اللغة ولا في إثبا ت أمر لم يثبت بعد.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *.
قال علي: ولا حجة لهم في ذلك، وليس كما ظنوا، بل هذا جمع صحيح، لان لكل واحد من السارقين يدان، فهي أربع أيد بيقين، وقطع يدي السارق جميعا واجب يدا بعد يد، إذا سرق سرقة بعد سرقة، بنص القرآن.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (فإن كان له إخوة فلامه السدس) *.
قال علي: وهذا عليهم لا لهم، أنه لا يجوز أن تحط الام عن الثلث إلى السدس عندنا إلا بثلاثة من الاخوة لا باثنين، وقولنا في ذلك هو قول ابن عباس، وهو في اللغة بحيث لا يجهل محله إلا جاهل، وإنما حكم من حكم برد الام إلى السدس باثنين من الاخوة، إما بقياس، وإما بتقليد، وكل ذلك فاسد فإن قيل: قد قال بذلك عثمان، قيل له: قد خالفه ابن عباس وأنكر عليه ذلك، وبين عليه أن اللغة خلاف ما يحكم به، فلم يقدر عثمان على إنكار ذلك، ولم نرد على أن قال: لا أقدر أن أرد ما قد توارث به الناس.
واحتجوا بقوله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه السلام في قوله: * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * قالوا: وإنما كان يوسف وأخاه.
قال علي: هذا خطأ، بل ما كا نوا إلا ثلاثة، يوسف وأخاه الذي حبس من أجل الصواع الذي وجد في رحله، والاخ الكبير الذي قال: * (فلن أبرح الارض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم
فقولوا يأبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا) * فلما فقد يعقوب ثلاثة من بنيه تمنى رجوعهم كلهم.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * والطائفة تقع على الواحد وعلى الاثنين وعلى الاكثر، فأخبر تعالى عن الطائفتين مرة بلفظ الجمع بقوله: * (اقتتلوا) * ومرة بلفظ الاثنين: * (فأصلحوا بينهما) *

(4/394)


وقال تعالى في الآية التالية لها: * (فأصلحوا بين أخويكم) * فأمر بالاصلاح بين الاثنين كما أمر بالاصلاح بين الجماعة.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لان الطائفة كما ذكروا تقع على الواحد والاثنين والاكثر، فإذا أخبر عنهما بلفظ الجمع، فالمراد بهما الجمع، والمراد بالطائفتين في أول الآية المذكورة الكثير منهم، ومعنى قوله تعالى: * (فأصلحوا بينهما) * أي بين الجماعتين المقتتلتين، ثم علمنا تعالى وجوب الاصلاح بين الاثنين كوجوبه بين الكثيرين بقوله تعالى: * (فأصلحوا بين أخويكم) * وحمل الآية على ما نقول هو الذي لا يجوز غيره، لانه عموم لكيفية الاصلاح بين الكثير والقليل ولو كان ما ظن مخالفنا، لما علمنا فيها الاصلاح بين الاثنين فقط وهذا خطأ.
واحتجوا بقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: * (كلا فاذهبا بآياتنآ إنا معكم مستمعون) * ولم يقل معكما.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لانهم ثلاثة بلا شك، المرسلان وفرعون المكلم المرسل إليه، فالمستمعون ثلاثة بيقين.
قال علي: فإن قد بطل احتجاجهم بكل ما احتجوا به، فلنقل في بيان صحة مذهبنا، وبالله تعالى التوفيق.
فنقول: إن الالفاظ في اللغة إنما هي عبارات عن المعاني، ولا خلاف بين
القرب في أن الاثنين لهما صيغة في الاخبار عنهما، غير الصيغة التي للثلاثة فصاعدا، وإن للثلاثة فصاعدا - إلى ما لا نهاية له من العدد - صيغة غير صيغة الخبر عن الاثنين، وهي صيغة الجمع، ولا خلا ف بين أحد من أهل اللسان في أنه لا يجوز أن يقال قام الزيدون، وأنت تريد اثنين.
ولا جاءني الهندات، وأنت تريد اثنتين، وضمير الغائب موضوع بلا خلاف بين أحد من أهل اللسان في موضع اسم الغائب ومبدل منه، فلا يجوز أن يبدل ضمير الجماعة إلامن الجماعة، ولا ضمير الاثنين إلا من الاثنين، ولو كان ذلك لوقع الاشكال وارتفع البيان، وكذلك المخاطبات لا يجوز البتة أن نقول لاثنين: قمتم وقعدتم، وإنما يقال: قمتما وقعدتما: ولا يقال لاثنين: قمتن، ولا يقال للنساء: قمتما، وإنما قال: قمتن، فصح ما قلنا بحكم ظاهر اللغة التي بها نزل القرآن وبها تكلم النبي (ص)، وإلى مفهومها نرجع

(4/395)


في أحكام الديانة، إلا ما نقلنا عنه نص جلي وبالله تعالى التوفيق، وهذا ما لا يجوز خلافه، والله الموفق للصواب.
فصل من الخطاب الوارد بلفظ الجمع قال علي: وإذا ورد لفظ بصورة جمع وقدر على استيعابه، فلا بد من استيعابه ضرورة، وإلا فقد صحت المعصية وخلاف الامر، فإن لم يقدر على ذلك ولم يكن إلى استيعابه سبيل، فللناس قولان: أحدهما، أنه واجب أن يؤدي من ذلك ما أمكن، وما انتهى إليه الوسع، ولا يسقط عنه إلا ما عجز عنه أو ما قام نص أو إجماع بسقوطه، وبهذا نأخذ، وقالت طائفة: لا يلزم من ذلك إلا أقل ما يقع عليه اسم ذلك الجمع، وهو ثلاثة فصاعدا، وما زاد على ذلك فليس فرضا.
قال علي: والحجة للقول الاول هي حجتنا على القائلين بالخصوص أو الوقف وقد لزم عموم ذلك الجمع بيقين، فلا يسقط بشك ولا بدعوى، فأما ما عجز عنه
فساقط، وأما ما لم يعجز عنه فباق على وجوب الطاعة له، ويبين ذلك قول رسول الله (ص): وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.
قال علي: فمن ذلك قول الله عز وجل: * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * الآية وقوله تعالى * (الوصية للوالدين والأقربين) * فنقول إن الامام القادر على استيعاب جميع مساكين المسلمين وفقرائهم وغازيتهم وسائر الاصناف المسماة، ففر ض عليه استيعابهم، وأما من عجز عن ذلك فمن دونه، فقد أجمعت الامة بلا خلاف على أن له أن يقتصر على بعض دون بعض، ودل على ذلك قوله (ص) لزينب امرأة عبد الله بن مسعود إذ سألته أيجزي عني أن أتصدق على زوجي وولدي منه من الصدقة فقال عليه السلام: نعم.
قال علي: فبهذه النصوص صرنا إلى هذا الحكم، والاستيعاب والعموم معناهما واحد، وهذا كله من باب استعمال الظاهر، والوجوب، وقد رام قوم أن يفرقوا بين الاستيعاب والعموم، وهذا خطأ ولا يقدرون على ذلك أبدا، وقال هؤلاء القوم: العموم لبعض ما يقع عليه الاسم عموم ذلك الجزء الذي عم به.
قال علي: فيقال لهم: وكذلك الاستيعاب لبعض ما يقع عليه الاسم استيعاب لذلك الجزء الذي استوعب به ولا فرق.

(4/396)


قال علي: والجمع بلفظ المعرفة والنكرة سواء في اقتضاء الاستيعاب، كقوله تعالى: * (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * فهذا عموم لكل قوم لا يؤمنون، وهو بلفظ النكرة كما ترى، وقد ظن قوم أن الجمع إذا جاء بلفظ النكرة فإنه لا يوجب العموم، فقالوا: قولك جاء رجال لا يفهم منه العموم، كما يفهم من قولك جاء الرجال.
قال علي: وهذا ظن فاسد لا دليل عليه، وإنما هو ألفه لما وقع في أنفسهم
في عادات سواء استعملوها في تخاطبهم، وبخلاف معهود اللغة في الحقيقة، وقد أبطلنا ذلك بالآية التي ذكرنا آنفا، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الخامس عشر في الاستثناء قال علي: قد بينا في باب الاخبار وفي باب العموم والخصوص كيفية الاستثناء، ونحن الآن متكلمون - إن شاء الله عز وجل بتأييده لنا - في ماهية الاستثناء وأنواعه، فنقول وبالله تعالى التوفيق.
إن الاستثناء هو تخصيص بعض الشئ من جملته، أو إخراج شئ ما مما أدخلت فيه شئ آخر، إلا أن النحويين اعتادوا أن يسموا بالاستثناء ما كان من ذلك بلفظ: حاشا، وخلا، وإلا، وما لم يكن، وما عدا، وما سوى، وأن يجعلوا ما كان خبرا من خبر كقولك: اقتل القوم ودع زيدا، مسمى باسم التخصيص لا استثناء، وهما في الحقيقة سواء على ما قدمنا.
قال علي: واختلفوا في نحو من أنحاء الاستثناء، فقالت طائفة: لا يجوز أن يستثنى الشئ من غير جنسه أو نوعه المخبر عنه، وقالت طائفة: جائز أن يستثنى الشئ من غير جنس أو المخبر عنه، وبكلا هذين القولين قالت طوائف من أصحابنا الظاهرين، ومن إخواننا القياسيين.
قال علي: ونحن نقول: إن استثناء الشئ من غير جنسه ونوعه المخبر عنه جائز، واسمه في العربية عند النحويين الاستثناء المنقطع، وهو حينئذ ابتداء خبر آخر كقائل قال: أتاني المسلمون إلا اليهود، فهذا جائز كأنه قال: إلا اليهود فإنهم لم يأتوني،

(4/397)


وهذا لا ينكره نحوي ولا لغوي أصلا، إذا كان على الوجه الذي ذكرناه.
قال علي: والبرهان القاطع في ذلك قوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) *، وقال تعالى: * (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * فلم يدع تعالى للشك ههنا مجالا
إلا بينه، وأخبر أن إبليس كان من الجن، وقد حمل التهور قوما راموا نصر مذهبهم ههنا فقالوا: إن الملائكة يسمون جنا لاجتنانهم.
قال علي: وهذا قول فاحش من وجوه، أحدها وأوضحها قول الله عز وجل إذ سأل الملائكة: * (أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * فقالت الملائكة: * (سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) * ففرق تعالى بين الملائكة والجن فرقا كما ترى، والوجه الثاني إخباره عليه السلام: إن الملائكة خلقت من نور والجن خلقت من نار، ففرق بين النوعين فرقا من خالفه كفر.
حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، عن عبد الله بن حميد، عن عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله (ص) خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم.
والثالث إجماع الامة على أن من سمى جبريل أو ميكائيل جنيا فقد كفر، فقد ظهر بطلان هذا القول الفاسد، وكان أقصما احتج له القائلون به أن قالوا: الاجتنان هو الاستتار، ومن ذلك يسمى المجن مجنا، والجنة جنة، فالملائكة والجن مستترون عنا فهم جن.
قال علي: وهذا هذيان لبعض أهل اللغة، وفي كل قوم جنون، فلو أن عاكسا عكس عليهم فقال: ما اشتقا الاجتنان الذي هو الاستتار إلا من الجن، بماذا كانوا ينفصلون ؟ وأيضا فيقال لهم حتى لو صح قولكم: إن الجن اشتقوا من الاجتنان فمن أي شئ اشتق الاجتنان ؟ فإن جروا هكذا إلى غير غاية، وهذا يوجب أشياء موجودات لا أوائل لها، ولا نهاية لعددها، وهذا محال ممتنع، وموافقة أهل الكفر، وإن قالوا: ليس للفظ الذي اشتق منه اشتقاق، قيل لهم: فما الذي

(4/398)


جعل تلك اللفظة بأن تكون مبتدأة أولى من هذه الثانية.
وقد سقط في هذا كبار النحويين منهم أبو جعفر النحاس: فإنه ألف كتابا في اشتقاق أسماء الله عز وجل - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذا يلزمهم القول بحدوث أسماء الله عز وجل، لان كل شئ مشتق فهو مأخوذ مما اشتق منه وكل مأخوذ فقد كان قبل أن يوجد غير مأخوذ، فقد كانت الاسماء على أصلهم غير موجودة، والكلام ههنا يطول ويتشعب، ويخرجنا عن غرض كتابنا، وأسماء الله عز وجل إنما هي أسماء أعلام كقولك زيد وعمرو، والمراد بها الله تعالى الذي لم يزل وحده لا شريكله ولا يزال خالق كل شئ لا إله إلا هو رب العرش العظيم، وأما الاصوات المسموعة المعبر بها فمخلوقة لم تكن ثم كانت.

(4/399)


ومنهم أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، فإنه قال في نوادره: * (العشقة نبت يخضر ثم يصفر ثم يهيج ومنه سمي العاشق عاشقا) * أو ما علم هذا الرجل أن كل نبت في الارض فهذه صفته، فهلا يسمى العاشق باقلا مشتقا من البقل الذي يخضر، ثم يصفر، ثم يهيج، فإن ركب هذا الطريق اتسع له جدا، وأخرجه ذلك إلى بعض خرق من أدركناه من أهل الجنون، وأدخله في باب المضاحك والمطايب والمجون.
والذي نعتقد ونقول ونقطع على صحته، أن الاشتقاق كله باطل حاشا أسماء الفاعلين من أفعالهم فقط، وأسماء الموصوفين المأخوذة من صفاتهم الجسمانية والنفسانية، وهذا أيضا لا ندري هل أخذت الاسماء من الصفات، أو أخذت الصفات من الاسماء ؟ إلا أننا نوقن أن أحدهما أخذ من صاحبه، مثل ضارب من الضرب، ومثل آكل من الاكل، ومثل أبيض من البياض وغضبان من
الغضب، وما أشبه ذلك.
وأما سائر الاسماء الواقعة على الاجناس والانواع كلها، فلا اشتقاق لها أصلا وليس بعضها قبل بعض، بل كلها معا، وقد كنت أجري في هذا مع شيخنا أبي عبده حسان بن مالك رحمه الله، وكان أذكر من لقينا للغة مع شدة عنايته بها، وثقته وتحريه في نقلها، فكان يقول لي: قد قال بهذا الذي تذهب إليه كثير من أهل اللغة قديم وسماه لي، وشككت الآن في اسمه لبعد العهد وأظن أنه نفطويه.
وكيف يسوغ لذي عقل أن يسمي الملائكة جنا، وهو يسمع قول الله عز وجل * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * وما علمنا مسلما يقول: إن أحدا من الملائكة يدخل جهنم، وقد قال تعالى: * (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) * أفتراه تعالى أمر نبيه (ص) بأن يستعيذ من شر الملائكة ؟ هذا ما لا يظنه ذو عقل، وقد اعترض على بعض من كلمني في هذا المعنى بقوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * وقال: إنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الرحمن.
قال علي: وهذا ليس بشي، لانه قد روي عن ابن عباس أن قريشا كانت تقول: سروات الجن هم بنات الرحمن، فإنما عنى تعالى الجن على الحقيقة في هذا

(4/400)


المكان لا الملائكة، ونسأل من ذهب إلى هذا، أيجوز أن يقول قائل، والجن حافون من حول العرش ؟ وهذا ما لا يجيزه مسلم، وقد أخبر تعالى أن الجن عن السمع لمعزولون، ودون السماء بالشهب مقذوفون، وأن الملائكة بخلاف ذلك.
ويلزم من سمى الجن جنا من أجل اجتنانهم أن يسمي دماغه جنيا ويسمي مصيره جنيا، لان كل ذلك مجتن، وقد اعترض بعضهم بأن إبليس دخل مع الملائكة في الامر بالسجود لآدم (ص).
قال علي: وهذا باطل لان الله تعالى أخبر أنه كان من الجن، ولا تدخل الجن مع الملائكة فيما خصت به الملائكة، فلا بد أنه تعالى أمر إبليس أيضا بالسجود، وقد جاء النص بذلك فقال تعالى: * (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) * فقد أيقنا أن الله تعالى أمره بالسجود كما أمر الملائكة، فقد وجدنا الله تعالى استثنى إبليس من غير نوعه، فلا مجال للشك في هذا المعنى بعد هذا، ووجدناه تعالى قد قال أيضا: * (ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا) * أي لكن خطأ وقال تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة) * وقال تعالى * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى) *.
وقال تعالى * (لا يسمعون فيها لغو أو لا تأثما الاقيلا سلاما سلاما) * فاستثنى عز وجل الموتة الاولى وليست الموتة فيما يذاق أصلا في الجنة واستثنى تعالى التجارة - وهي حق - من الباطل واستثنى تعالى الخطأ من القتل المحرم، وليس المخطئ قاتلا من العمد الحرم، واستثنى تعالى القول الطيب سلاما سلاما من قول الاثم، ومن هذا الباب لا إله إلا الله، واستثنى الله تعالى من جملة الآلهة التي عبدها من سوانا وليس تعالى من جنسها ولا نوعها، ولا له عز وجل نوع ولا جنس أصلا، وقد قال تعالى: * (وما لاحد عنده من نعمة تجزى ئ إلا ابتغآء وجه ربه الاعلى) * وقال النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

(4/401)


فاستثنى الفخر من المعائب، وقال أيضا: وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الاواري لايا ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد فاستثنى الاثافي والنؤى من الا حدين، وقال آخر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
وقال تعالى: * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ئ إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا) * فاستثنى عز وجل رحمته من الوكيل عليه الذي لا سبيل إليه، فأي شئ قاله من أبى استثناء الشئ من غير جنسه في هذه الآيا ت وفي هذه الآي، فهو قولنا، وهو أنه استثناء منقطع، وعطف خبر على خبر، بمعنى لكن، أو حتى، وقد صح بلا ضرورة أن يخبر بخبر إيجاب عن واحد، وبخبر نفي عن آخر، ولا فرق بين أن يرد أحد الخبرين على الآخر بحرف العطف، وبين أن يرد بحر ف الاستثناء، وقد جاء كل ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
فصل من الاستثناء قال علي: واختلفوا في نوع من أنواع الاستثناء، وهو أن يستثنى من الجملة أكثرها، ويبقى الاقل، فأجازه قوم وهو قول جميع أصحابنا أهل الظاهر، وبه نأخذ، وبه قال جمهور الشافعيين، وأباه قوم وهو قول جمهور المالكيين، ولا نعلم لهؤلاء القوم حجة أصلا في المنع من ذلك إلا أن يقول بعضهم: إنكم قد وافقتمونا على جواز استثناء، ولا نوافقكم على جواز استثناء الاكثر.
قال علي: وهذه حجة إنما تصح فيما لا نص فيه، أو فيما لم يقم عليه برهان، وأما كل ما قام فيه برهان عقلي أو شرعي فلا نبالي من وافقنا فيه، ولا من خالفنا، وقد قامت البراهين على جواز استثناء الاكثر من جملة لا يبقى منها بعد ذلك الاستثناء إلا الاقل، قال الله عز وجل: * (قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أورد عليه) *، وهو بدل البيان، ولم يختلف قط أحد أنه

(4/402)


لم يفرض عليه قيام الليل كله، وإنما فرض عليه القيام في الليل، وهذا البدل يحل محل المبدل منه فالمفهوم أنه قال تعالى: قم الليل إلا نصفه، ثم زادنا الله تعالى
فائدة عظيمة، وهي أن النصف قليل بالاضافة إلى الكل.
قال علي: فإن قال قائل: كيف تحتجون بهذا وأنتم تقولون إن قيام أكثر من ثلث الليل لا يجوز ؟ لقول النبي (ص): إنه لا قيام فوق داود، وكان يقوم ثلث الليل بعد أن ينام نصفه ثم ينام سدسه ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: معنى قوله تعالى: * (قم الليل إلا قليلا) * إنما هو - والله أعلم - إعلام بوقت القيام لا بمقدار القيام، ليتفق معنى الآية والحديث، فكل من عند الله تعالى وما كان من عنده تعالى فلا اختلاف فيه.
قال الله عز وجل: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * فصح أن معنى قوله تعالى: * (قم الليل إلا قليلا) * قم في الليل إلا في قليل في نصفه.
وهكذا قوله تعالى: * (إن أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه ثلثه) * إنما معناه في أئنى.
وقوله تعالى * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * مع نهيه على لسان نبيه عن قيام أكثر من ثلث الليل، بيان أن الثلثين قبل الاضافة إلى الكل، لانهم كانوا يهجعون قليلا وهو الثلثان.
ويخرج أيضا على أن ما ههنا جحد محقق، فيكون معناه: كانوا ما يهجعون قليلا من الليل وهو الثلث فأقل، فيكون هذا أيضا حسنا موافقا لما صح عن النبي (ص) في قيام الثلث، وكلا القولين متفق، لانه إذا هجع الثلثين وقام الثلث، فإن الثلثين قليل بالاضافة إلى الكل، والثلث أيضا كذلك، وبالله تعالى التوفيق.
فإن اعترض معترض بقول رسول الله (ص): الثلث كثير.
قيل له صدق رسول الله (ص)، الثلث كثير بالاضافة إلى ما هو أقل منه، وهكذا كل عدد من العالم فألف ألف كثيرا بالاضافة إلى عشرة آلاف، وألف ألف قليل بالاضافة إلى عشرة آلاف ألف.
قال علي: ونقدر أن الذي أقحم هؤلاء القوم في هذه الورطة، تجويزهم للمحتبس س استثناء أقل من الثلث، ولم يجوزوا له استثناء الاكثر من ذلك، فقادهم الخطأ
إلى ما هو أشد خطأ منه، وإن أولى الناس بالتقنع إذا ذكر هذا الحديث الذي

(4/403)


اعترضوا به من قول رسول الله (ص): الثلث كثير فالمالكيون، لانهم يجعلون الثلث كثيرا في الاستثناء من الحبس كما ذكرنا.
ثم يجعلونه في حكم المرأة ذات الزوج في مالها قليلا، فيجوزون لها الثلث دون رأي زوجها، ويمنعونها من أكثر من الثلث إلا برأيه، ثم يجعلون الثلث كثيرا في الجائحة إذا أصابت من الثمرة ثلثها فصاعدا، ويجعلون ما دون الثلث قليلا لا حكم له، ثم يجعلون الثلث قليلا في استثناء البائع من حائطه المبيع، أو زرعه المبيع مكيلة تبلغ الثلث فأقل، ويجعلون ما زاد على الثلث في ذلك كثيرا ممنوعا.
ثم يجعلون الثلث كثيرا في الشاة تباع، ويستثنى منها أرطال فمنعوا من ذلك إن كانت الارطال مقدار الثلث، وأجازوه إن كانت أقل من الثلث، ثم يجعلون الثلث قليلا في الدار تكترى وفيها نخل لم يظهر بعد فيه ثمرة، أو ظهرت ولم يبد صلاحها، فأجازوا دخول تلك الثمرة في الكراء.
قالوا: فإن كانت أكثر من الثلث لم يجز ذلك ويجعلون العشر قليلا وما زاد عليه كثيرا، فيمن أمر آخر أن يشتري له جارية بثلاثين، فاشترى له جارية بثلاثة وثلاثين، قالوا: هي لازمة للآمر.
فإن كان أكثر فهي غير لازمة للآمر، وقد قالوا أيضا: إن ما زاد على نصف العشر كثير، فيمن أمر آخر أن يشتري له عبدا بمائة دينار، فاشتراه له بمائة وخمسة دنانير، أنه يلزمه ولا يلزمه إن اشتراه بأكثر، ومرة يجعلون النصف قليلا، فيمن كان له عند آخر دينارا فصارفه في نصفه بدراهم، فأخذ بالنصف الثاني طعاما، أن ذلك جائز، فإن صارفه بأكثر من النصف وأخذ بالباقي لم يجز ذلك، لانه كثير.
وقالوا: من ابتاع سلعا فوجد بعضها فاسد، لا يجوز بيعها كشاة ميتة بين مذكيات ونحو ذلك، فإن كان وجه الصفقة والذي يرجى فيه الربح، فسخت
الصفقة كلها، وإن كان أقل من ذلك فسخ الحرام ونفذ العقد في الحلال، وحدوا الكثير في ذلك بالسبعين من المائة، فجعلوا ما دون الثلاثة الارباع قليلا، وجعلوا نقص النصف من الاذن والذنب مانعا من جواز التضحية.
ونرجح في الثلث فما فوقه إلى النصف، ثم يجعلون الثلث قليلا، في الحلو السيف، والمصحف يكون فيه فضة تقع في ذلك قيمته ما هي فيه، فيجيزون بيعه كله أو بعضه، أو يكون فيه ذهب يقع في ثلث قيمة ما هو فيه، فيباع بالذهب

(4/404)


قالوا: فإن كان مقدار ذلك أكثر من الثلث مما هو فيه، لم يجز بيعه إن كان فضة بفضة أصلا، وإن كان ذهبا بذهب أصلا، قالوا: والسكين بخلاف الحلي والسيف المصحف في ذلك.
قال علي: فمرة كما ترى يجعلونه الثلث قليلا، ومرة يجعلونه كثيرا، ومرة يجعلون النصف قليلا، ومرة يجعلون ما زاد على العشر كثيرا، تحكما بآرائهم الفاسدة بلا دليل، وإن سماع هذه القضايا الفاسدة التي لم يأذن بها الله عز وجل لعبرة لمن اعتبر، وآية لمن تفكر، والعجب يتضاعف من قوم قبلوا ذلك ودانوا به كما ترى وتركوا له دلائل القرآن والسنة ونصوصهما، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال علي: وقد جاء في نص القرآن استثناء الاكثر من جملة يبقى منها الاقل بعد ذلك، فبطل كلام كل من خالفه، قال الله عز وجل لابليس: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * وقد أخبر رسول الله (ص) أنا في الامم التي تدخل النار، كالشعرة السوداء في الثور الابيض، وأنه عليه السلام يرجو ان يكون نصف أهل الجنة، وأن بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون للنار، واحد إلى الجنة، هذا حكم جميع ولد آدم عليه السلام، ويكفي من ذلك قوله تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) *
فقد استثنى الغاوين من جملة الناس وهم أكثر الناس، فاستثنى كما ترى ألفا غير واحد من ألف.
قال علي: وأيضا فإن الاستثناء إنما هو إخراج للشئ المستثنى، مما أخبر به المخبر عن الجملة المستثنى منها، ولا فرق بين إخراجك من ذلك الاكثر، وبين إخراجك الاقل، وكل ذلك خبر يخبر به، فالخبر جائز عن الاكثر كجوازه عن الاقل، ولا يمنع من ذلك إلا وقاح معاند أو جاهل، وأيضا فلا شك بضرورة التمييز أن عشرة آلاف أكثر من عشر آلاف حاشا واحدا، فإذا كان ذلك فعشرة آلاف غير واحد قليل بالاضافة إلى عشرة آلاف كاملة، وإذا كان ذلك فاستثناء القليل من الكثير جائز لا تمانع فيه.
وأيضا فإنه لا فرق بين قول القائل ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين، وبين قوله، واحد، ولا فرق بين قول القائل: سبعمائة وثلاثمائة، وبين قوله: ألف، وهذا كله من المتلائمات وهي

(4/405)


ألفاظ مختلفة معناها واحد، وإذا كان ذلك فلا فرق بين استثناء ثلاثمائة من ألف لانها بعض الالف، وبين استثناء تسعة وتسعمائة وتسعين من الالف أيضا لانها بعض الالف ولا فرق.
فإن قال قائل: إن ربك ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين إذا كان ذلك بمعنى واحد، قيل له وبالله تعالى التوفيق: لو عقلت معنى تسمية ربك تعالى لم تسمنا هذا، ونحن لا يحل عندنا أن نقول: إن الله تعالى فرد ولا أنه فذ ولا نقول إلا واحد وتر كما جاء النص فقط، لان كل ذلك تسمية، ولا يحل تسمية الباري تعالى بغير ما سمى به نفسه، ومن فعل ذلك فقد ألحد في أسمائه، وهو تعالى ليس عددا وإنما يسمى ما دونه واحدا على المجاز وإلا فليس في العالم واحد أصلا لان الواحد الذي لا يتكثر البتة، وليس هذا في العالم البتة حاشا الله تعالى
وحده، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: فأخر استثناء الجملة كلها، قيل له: هذا لا يجوز، لانه كان يتكون أحد الخبرين مبطلا للآخر، ومكذبا له كله، لانه إذا قال: أتاني إخوتك إلا إخوتك كأن قد قال: إتاني إخوتك لم يأتني إخوتك، وهذا تناقض وتكاذب وخلف من الكلام، ومحال لا يجوز أصلا، وليس هذا المحال موجودا في استثناء الاكثر من جملة يبقى منها الاقل، ولا في استثناء الشئ من غير جنسه، ألا ترى أنك إذا قلت: أتاني إخوتك، ولم يأتني بنو عمك، وأتاني إخوتك، ولم يأتوني كلهم لكن بعضهم، فهذان الخبران صدق إذا صدق فيهما، والاخبار بهما صحيح حسن، فهذا فرق ما بين استثناء الجملة كلها وبين استثناء أكثرها، واستثناء الشئ من غير جنسه.
وقد قال قائلون: إن من لفظ بعموم في خبره، فلا بد له أن يبقي - إن استثنى من جنس تلك الجملة - ما يقع عليه اسم عموم، ولم يجوزوا أن يقول القائل: أتاني إخوتك، لم يأتني كلهم ولكن أتاني واحد منهم، وقالوا: إن الآتي ليس إخوة ولكنه أخ، فلا يستثنى إلا بأن يبقى ثلاثة فصاعدا.

(4/406)


قال علي: وهذا لا معنى له، لان ألف سنة ليس مطابقا لتسعمائة، فإن قال: هو مطابق لتسعمائة وخمسين، قيل له: ومجئ الاخ الواحد مطابق لعدم مجئ جميعهم حاشاه ولا فرق، فإن قال قائل: فإذا لا تجوزون استثناء الجملة كلها، فكيف قلتم، إن من قال: لفلان عندي مائة دينار إلا عبدا قيمته مائة دينار، أو قال: لفلان عندي مائة دينار إلا مائة دينار.
إن هذا الاقرار لا يحكم عليه بشئ منه ولا يقضى لذلك لفلان عليه بشئ، قيل له وبالله تعالى التوفيق: وهذا موافق لاصلنا، لانه لما كان استثناء جميع الجملة محالا، وكان الناطق بذلك ناطقا بمحال لا يجوز، فكان كلامه ذلك باطلا، وإقراره فاسدا، والاقرار لا يجوز إلا صحيحا
مجردا من كما يبطله، فلذلك لم نحكم عليه بهذا الاقرار، لانه متناقض، وقد وافقنا خصومنا في ذلك على أن رجلا لو قال بحضرة عدول: إني زنيت الساعة أمامكم بامرأة كانت معنا، وقتلت الساعة بحضرتكم رجلا مسلما حرام الدم بلا سبب، وكذلك لو قال: رفعت رجلا مسلما إلى السحاب ثم أرسلته فسقط في البحر فمات، أو قال: أخذت عصا موسى عليه السلام وطعنت بها رجلا فقتلته فإنه لا يؤخذ بشئ من ذلك، ولا يحكم عليه إلا بالهوس والجنون، ولا فرق بين ما ذكرنا وبين ما حكمنا نحن به من إسقاط كل إقرار فاسد متناقض يسقط آخره أوله ويبطله، ولا فرق بين إسقاط بعض الجملة المقر بها الاستثناء، وبين إسقاط جميعها بالتناقض أو بذكر البراء منها، وبالله تعالى التوفيق.
فصل من الاستثناء قال علي: وإذا وردت أشياء معطوفات بعضها على بعض، ثم جاء الاستثناء في آخرها فإن لم يكن في الكلام نص بيان على أن ذلك الاستثناء مردود على بعضها دون بعض، فواجب محله على أنه مردود على جميعها، والبرهان على ذلك: أنه ليس بعضها أولى بها من بعض، فإن قال قائل: فهلا قلتم: إنه مردود عن أقربها منه، لان الالفاظ التي تقدمت قد حصلت على عمومها، فواجب ألا ينتقل عنه إلا بنص أو إجماع، فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن كل ألفاظ جمعت في حكم

(4/407)


واحد فلم يكمل بعد أمرها حتى ينقضي الكلام، فإذا جاء بعقبها استثناء فقد صح الاستثناء يقينا، وإذا صح يقينا فقد حصل التخصيص بالنص، وصار الاقتصار به على بعض ما قبله دون بعض دعوى مجردة لا دليل عليه، فإن قال قائل: فإن رده على أقرب ما يليه يقين، ورده على كل ما قبله شك، قيل له وبالله تعالى التوفيق: ليس شكا إذا قام الدليل على صحته، بل هو يقين، وأيضا فظاهر اللفظ
رده على كل ما قبله، وتخصيص الظاهر بلا دليل لا يجوز.
قال علي: وكذلك نقول في آية القذف في قوله تعالى: * (وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) * راجع إلى كل ما تقدم، ومسقط للفسق عنهم، وموجب لقبول شهادتهم، فإن قال قائل: فهلا أسقطتم به الحد، قلنا: منع من ذلك قول النبي (ص) لقاذف امرأته: البينة وإلا فحد في ظهرك، لانه عليه السلام لم يسقط الحد إلا ببينة لا بالتوبة، وقد حد حمله ومسطحا في قذفهم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولا شك في توبتهم حين نزول الآية ببراءتها، ولو لم يتوبوا لارتدوا وكفروا ولحلت دماؤهم، فصح أنهم حدوا بعد يقين توبتهم.
وكذلك قلنا في قوله تعالى: * (فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) *.
فلولا بيان الاستثناء أنه مردود إلى الاهل فقط، لسقطت به الرقبة ولكن لا حق للاهل في الرقبة ولا صدقة لهم فيها، وقد قال تعالى * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *.
وكذلك قلنا في قوله عز وجل: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * فهذا الاستثناء مردود على المخاطبين أنفسهم، وهذا القليل عندنا مستثنى من الفضل والرحمة، لا من اتباع الشيطان، والآية على ظاهرها دون تكلف تأويل، ومعناها: أن الله رحمكم وتفضل عليكم حاشا قليلا منكم لم يرحمهم ولا تفضل عليهم، وهم الكفار منكم والمنافقون الذين فيكم، فلم تتبعوا الشيطان بفضل الله تعالى ورحمته، وأما الذين لم يتفضل الله عليهم ولا رحمهم فاتبعوا الشيطان، وهذا الذي قلنا هو العيان المشهود والنص المسموع، فإن الاقل من المخاطبين الحاضرين مع الصحابة رضي الله عنهم كانوا

(4/408)


منافقين خارجين عن الفضل والرحمة، متبعين الشيطان فهم القليل المستثنون بقوله
تعالى: * (تعالى إلا قليلا) * واستثنوا من جملة المتفضل عليهم والمرجومين والممتنعين بذلك من اتباع الشيطان، فهو راجع على كل من ذكر في الآية، وبالله تعالى التوفيق وللناس في هذه الآية أقوال فقوم قالوا: هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * * (إلا قليلا) *.
قال علي: وهذا خطأ، لان رد الاستثناء إلى أبعد مذكور دعوى ساقطة فاسدة لم يقل بها قط أحد من النحويين وأهل اللغة الذين إليهم يرجع في مثل هذا، وإنما الناس على قولين كما قدمنا، قوم قالوا: الاستثناء مردود إلى أقرب مذكور، وقوم قالوا: إلى الجملة كلها، فإن وجد استثناء راجع إلى أبعد مذكور فلا يحمل غيره على حكمه، لانه بمنزلة ما خرج عن معهود أصله، وكلفظ نقل عن موضوعه وقال بعضهم: * (إلا قليلا) * راجع إلى قوله تعالى: * (أذاعوا به) * أي أذاعوا به إلا قليلا.
قال علي: ويبطل قول هؤلاء بما بطل به قول من ذكرنا قبلهم ولا فرق، وقال بعضهم: فضل الله ورحمته المذكوران في الآية هما: محمد (ص) والقرآن أي لولاهما لكنتم كفارا متبعين الشيطان إلا قليلا ممن هديناه قبل ذلك كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة.
قال علي: وهذا تأويل فاسد النية، لان زيدا وقسا لولا فضل الله ورحمته لهما لا تبعا الشيطان، والاستثناء إنما هو مخرج لما استثنى من جملة ما استثنى منه، فلا يجوز أن يكون هذا الاستثناء إلا من الفضل والرحمة والامتناع من اتباع الشيطان، الذي ذكر كل ذلك في الآية، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وحتى لو لم يجز في الاستثناء إلا رده إلى أقرب مذكور، لما كان في ذلك ما يوجب ألا نقبل شهادة القاذف إذا تاب، لان الفسق مرتفع عنه بالتوبة بنص الآية بإجماع الامة، وإذا ارتفع الفسق ثبتت العدالة ضرورة، لانه
ليس في العالم من المخاطبين إلا فاسق أو عدل، وإذا ثبتت العدالة وجب قبول الشهادة لقوله تعالى: * (رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) * فحرام علينا ألا نرضى عمن رضي الله عنه، وإذا كان حراما علينا، ففرضنا الرضا

(4/409)


عنه، وإذا كان الرضا عنه فرضا ففرض علينا قبول شهادته، لانه ممن نرضى من الشهداء بنص القرآن في إيجاب شهادة * (من ترضون من الشهداء) * فقد صح أن سقوط الفسق عنه موجب لقبول شهادته.
والعجب من أصحاب أبي حنيفة في تركهم ظاهر الآية وميلهم إلى رأيهم الفاسد، فإن نص الآية إنما يوجب ألا تقبل شهادته بنص القذف، وليس في ذلك أن شهادته لا تسقط إلا بعد أن يحد، وقالوا هم: إن شهادته لا تسقط إلا أن يحد، فزادوا في رأيهم ما ليس في القرآن، وخالفوا الآية في كل حال فقبلوا شهادته أفسق ما كان قبل أن يحد وردوها بعد أن ظهر الحد، وقد أخبر عليه السلام في كثير من الحدود أن إقامتها كفارة لفاعليها، وهم أهل القياس بزعمهم، فهلا قاسوا المحدود في القذف على المحدود في السرقة والزنى، وقد شاركهم المالكيون في بعض ذلك، فردوا شهادة المحدود فيما حد فيه وأجازوها فيما لم يحد فيه، وهذا كله افتراء على الله لم يأذن به، وحكم في الدين بغير نص.
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وكذلك قوله عز وجل: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) * إلى قوله تعالى: * (الا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) * فإن الاستثناء الذي في آخرها راجع بإجماع إلى كل ما تقدم قال علي: والاشتراط هو معنى الاستثناء في كل ما قلنا من ذلك قوله تعالى * (ذلك لمن خشي العنت منكم) * فهذا كما تراه استثناء صحيح لمن خشي العنت مع كل
ما تقدم من الشروط دون ذكر من لم يخش العنت، وكذلك قوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) * في كفارات الايمان فكان هذا الشرط عن عدم كل مذكور في الآية من رقبة وكسوة وإطعام لا على أقرب مذكور فيها.
وكذلك قوله تعالى في آية المحاربة: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * فكان ذلك راجعا على سقوط كل ما ذكر في الآية من قتل وصلب ونفي وقطع وخزي وعذاب، لا على بعض ذلك دون بعض بإجماع فإن اعترض معترض بقوله تعالى: * (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) * وأننا نقول إنه راجع إلى أقرب مذكور.

(4/410)


قال علي: وإنما وجب ذلك لضرورة بينة في تلك الآية، فإنه لا يجوز البتة في نصها أن يرد الشرط على كل مذكور فيها، لانه تعالى قال: * (وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * فكان ذكر الدخول من صلة وصف النساء اللواتي هن أمهات الربائب، لا بوصف أمهات النساء، إذ من المحال الممتنع أن يقول تعالى: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، لانه كلام فاسد البتة لا يفهم فلما صح أن الدخول المذكور إنما هو مراد به أمهات ربائبنا ضرورة، لانه من صلة اللاتي، واللاتي صفة للنساء اللواتي هن أمهات ربائبنا ضرورة، كان قوله تعالى: * (فإن لم تكونوا دخلتم بهن) * مرد ودا إليهن ضرورة أيضا، لانه أحد قسميهن اللذين هما دخول ولا دخول، وهو صلة الكلام المتصل به لا مما قبله.
فإن قال قائل: أنتم تجيزون أن يستثنى الشئ من خير جنسه، فكيف تقولون فيمن باع بدينار إلا درهما، أو إلا قفيز قمح، أو ما أشبه هذا ؟ قلنا له وبالله تعالى التوفيق: هذا عندنا ممتنع في البيع حرام، لانه يرجع إلى بيعتين في بيعة،
لان الدرهم والعرض، لا يستثنى من غير جنسه عندنا إلا على معنى الاستثناء المنقطع، كما بينا في أول هذا الباب، فإن كان ذلك فإنما مرجعه إلى القيمة، فإن كان ذلك في البيع فقد وجب أنه باعه بدينار إلا ما قابل صرف الدرهم من الدينار، وهذه بيعة أو ثمن مجهول، وكلاهما حرام في البيوع وهو جائز في الاقرار، لانه أقر له بدينار، وذكر أن له عنده درهما، فخرج الدرهم أو قيمته مما أقر به.
وكذلك لو قال مقر: له عندي دينار، ولي عنده ديناران، أو إلا دينارين لي عنده، لم يحكم عليه بشئ أصلا، لانه بعد أن أقر له أتى بما سقط به عنه الاقرار جملة، ولو كان ذلك في البيع لم يجز عند أحد من المسلمين، وبالله تعالى التوفيق.

(4/411)


الباب السادس عشر في الكناية بالضمير قال علي: والضمير راجع إلى أقرب مذكور، لا يجوز غير ذلك، لانه مبدل من مخبر عنه أو مأمور فيه، فلو رجع إلى أقرب مذكور لكان ذلك إشكالا رافعا للفهم، وإنما وضعت اللغات للبيان، فإذا كانت الاشياء المحكوم فيها أو المخبر عنها كثيرة، وجاء الضمير يعقبها ضمير جمع فهو راجع إلى جميعها كما قلنا في الاستثناء، ولا فرق ألا ترى أنك لو قلت أتاني زيد وعمرو وخالد، فقتلته، أنه لا خلاف بين أحد من أهل اللغة في أن الضمير راجع إلى خالد، وأنه لا يجوز رده إلى زيد أو إلى عمرو، فإن وجد يوما ما في شئ من النصوص رجوع ضمير إلى أبعد مذكور، فهو بمنزلة ما ذكرنا من نقل اللفظ عن موضوعه في اللغة، ولو قال: أتاني زيد وعمرو وخالد وعبد الله ويزيد فقتلتهم، لكان راجعا بلا خلاف بين أحد من أهل اللغة إلى جميعهم وكلهم.
قال علي: وما يبين أن الشرط في آية التحريم إنما هو في الربائب لا في أمهات النساء، ما ذكرنا من أن الضمير راجع إلى أقرب مذكور، والضمير بجمع المؤنث في قوله تعالى: * (دخلتم بهن) * راجع لما قدمنا إلى أقرب مذكور إليه لا يجوز غير ذلك، وأقرب مذكور إليه أمهات ربائبنا، فوجب أن يكون راجعا إليهن على ما قدمنا، وبالله تعالى التوفيق.
الباب السابع عشر في الاشارة قال علي: والاشارة بخلاف الضمير، وهي عائدة إلى أبعد مذكور، وهذا حكمها في اللغة إذا كانت الاشارة بذلك أو تلك أو هو أو أولئك أو هم أو هي أو هما، فإن كانت بهذا أو هذه، فهي راجعة إلى حاضر قريب ضرورة، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل اللغة، ولا يعرف نحوي أصلا غير ما ذكرنا، ولذلك أوجبنا أن يكون القرء في حكم العدة هو الطهر خاصة دون الحيض، وإن كان القرء في اللغة واقعا على الحيض كوقوعه على الطهر ولا فرق، ولكن لما قال

(4/412)


رسول الله (ص): مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء فكان قوله عليه السلام: تلك إشارة تقتضي بعيدا وأبعد مذكور في الحديث قوله عليه السلام: تطهر فلما صح أن الطهر بهذا الحديث هو العدة المأمور أن تطلق لها النساء صح أنه هو العدة المأمور بحفظها لاكمال العدة، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه قال علي: اختلف الناس في المجاز، فقوم أجازوه في القرآن والسنة، وقوم منعوا منه، والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق: أن الاسم إذا تيقنا بدليل نص
أو إجماع أو طبيعة أنه منقول عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقوف عنده، فإن الله تعالى هو الذي علم آدم الاسماء كلها، وله تعالى أن يسمي ما شاء بما شاء.
وأما ما دمنا لا نجد دليلا على نقل الاسم عن موضوعه في اللغة فلا فيحل لمسلم أن يقول: إنه منقول، لان الله تعالى قال: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) * فكل خطاب خاطبنا الله تعالى به أو رسوله (ص) فهو على موضوعه في اللغة ومعهوده فيها، إلا بنص أو إجماع أو ضرورة حس، نشهد بأن الاسم قد نقله الله تعالى أو رسوله (ص) عن موضوعه إلى معنى آخر، فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه.
قال علي: وهذا الذي لا يجوز غيره، ومن ضبط هذا الفضل وجعله نصب عينيه ولم ينسه، عظمت منفعته به جدا، وسلم من عظائم وقع فيها كثير من الناس.
قال علي: فكل كلمة نقلها تعالى عن موضوعها في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان تعالى تعبدنا بها قولا وعملا كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك فليس شئ من هذا مجازا، بل هي تسمية صحيحة واسم حقيقي لازم مرتب من حيث وضعه الله تعالى، وأما ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم، فهذا هو المجاز، كقوله تعالى: * (واخفض

(4/413)


لهما جناح الذل من الرحمة) * فإنما تعبدنا تعالى بأن نذل للابوين ونرحمهما، ولم يلزمنا تعالى قط أن ننطق، ولا بد فيما بيننا بأن للذل جناحا، وهذا لا خلاف فيه، وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام، لانه لا خلاف في أن فرضا علينا أن ندعو إلى هذه الاعمال بهذه الاسماء بأعيانها ولا بد، وبالله تعالى التوفيق.
واحتج من منع من المجاز بأن قال: إن المجاز كذب، والله تعالى ورسوله (ص) يبعدان عن الكذب.
قال علي: فيقال له صدقت وليس نقل الله تعالى الاسم عما كان علقه عليه في موضع ما إلى موضع آخر كذبا، بل هو الحق بعينه، لان الحق هو ما فعله تعالى والباطل هو ما لم يأمر به أو لم يفعله، ومن ظن أن هنا حقا هو عيار على الله تعالى، وزمام على أفعاله يلزمه عز وجل أن يجري أفعاله عليه فقد كفر، وقد تكلمنا في هذا في باب إثبات حجج العقول، ونستوعب الكلام فيه إن شاء الله تعالى في باب إبطال العلل من كتابنا هذا، وقد تكلمنا على ذلك أيضا في كتابينا الموسومين بالتقريب والفصل كلاما كافيا، وبالله تعالى التوفيق.
وليست الاسماء موضوعة على المسميات، إلا إما بتوقيف وإما باصطلاح، ولا موقف إلا الله عز وجل، فإذا أوقع الموقف الاول - عز وجل - اسما ما على مسمى ما في مدة ما، أو في معنى ما، ثم نقل ذلك الاسم إلى معنى آخر، في مكان آخر، فلا كذب في ذلك، ولا للكذب ههنا مدخل، وإنما يكون كاذبا من نقل منا اسما عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر يلبس به بلا برهان، فهذا هو الكاذب الآفك الاثيم، وكذلك لو اصطلح اثنان على أن يسميا شيئا ما اسما ما - مخترع من عندهما أو منقول عن شئ آخر - يتفاهما به لا ليلبسا به فلا كذب في ذلك، فإذا جاز هذا فيما بيننا فهو للذي يلزم للجميع أن يعبدوه ويطيعوه ما أمكن، وهو بذلك تعالى أولى.
والتلبيس في هذا هو من قال: العسل حلال، والمسكر من مصراة عسل فهو حلال، فهذا كاذب، فإنه أتى إلى عين سماها الله عز وجل خمرا - والخمر حرام - فسماها بغير اسمها ليستحلها بذلك، وقد أنذر بذلك رسول الله (ص).
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن محمد بن إسحاق القاضي، عن ابن الاعرابي، عن

(4/414)


سليمان بن أشعث، عن أحمد بن حنبل، ثنا زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، عن حاتم بن حريث، عن مالك بن أبي مريم، ثنا عبد الرحمن بن غنم قال: أنبأ أبى ومالك
الاشعري قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن معاوية المرواني، عن أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الاعلى، ثنا خالد - هو ابن الحارث - عن شعبة، سمعت أبا بكر بن حفص يقول: سمعت ابن محيريز يحدث عن رجل من أصحاب النبي (ص) عن النبي (ص) بمثله.
قال علي: فقد بينا وجه الحقيقة في هذا، ثم نذكر إن شاء الله تعالى طرفا من الآي التي تنازعوا فيها، فإن الشئ إذا مثل سهل فهمه.
فمن ذلك قوله عز وجل: * (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) * فقال قوم: معناه واسأل أهل القرية، واسأل أهل العير، وقال آخرون: يعقوب نبي فلو سأل العير أنفسها والقرية نفسها لاجابته.
قال علي: وكلا الامرين ممكن، ومنقوله تعالى: * (جدارا يريد أن ينقض) * فقد علمنا بضرورة العقل أن الجد ار لا ضمير له، والارادة لا تكون إلا بضمير الحي - هذه هي الارادة المعهودة التي لا يقع اسم إرادة في اللغة على سواها - فلما وجدنا الله تعالى، وقد أوقع هذه الصفة على الجدار الذي ليس فيه ما يوجب هذه التسمية، علمنا يقينا أن الله عز وجل قد نقل اسم الارادة في هذا المكان إلى ميلان الحائط، فسمى الميل إرادة، وقد قدمنا أن الله تعالى يسمي ما شاء بما شاء، إلا أن ذلك لا يوجب نقل الحقائق التي رتب تعالى في عالمه عن مراتبها، ولا نقل ذلك الاسم في غير المكان الذي نقله فيه الخالق عز وجل، ولولا الضرورة التي ذكرنا ما استجزنا أن نحكم على اسم بأنه منقول عن مسماه أصلا، وقد أنشد أبو بكر محمد بن يحيى الصولي في نقل اسم الارادة عن موضوعها في اللغة إلى غيره قول الراعي: قلق الفؤوس إذا أردن نضولا وذكر أبو بكر الصولي رحمه الله أن ابن فراس الكاتب، وكان دهريا سأله في هذه
الآية، فأجاب أبو بكر بهذا البيت، وقد قال قوم: إنه تعالى قادر على أن يحدث في الجدار إرادة، وبلى هو قادر على ما يشاء، وكل ما يتشكل في الفكر، ولكن

(4/415)


كل ما لم يأتنا نص أنه خرق تعالى فيه ما قد تمت به كلماته من المعهودات، فهو مكذب، كما أن لكل مدع ما لم يأت بدليل فهو مبطل، وكذلك قوله تعالى: * (وهي تجري بهم في موج كالجبال) * فإنه تعالى سمى حركة السفينة جريا، وحركة السفينة اضطرارية، وهذا مما قلنا من أنه تعالى يسمي ما شاء بما شاء، فهو خالق الاسماء والمسميات كلها، حاشاه لا إله إلا هو وأما قوله تعالى: * (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) * فإنما عن تعالى حب العجل، على ما ذكرنا من الحذف الذي أقيم لفظ غيره مقامه، وأما قول تعالى: * (يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد) * وهو عندنا حقيقة وإنطاق لها.
وقد احتج علينا قوم بقول الله تعالى: * (إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) *.
قال علي: وهذا أيضا عندنا على الحقيقة، وأن الله تعالى وضع فيها التمييز إذ خيرها، فلما أبت حمل الشرائع وأشفقت من تحمل الامانة سلبها إياه، وسقطت الكلف عنها، وممكن أن يكون على نقل اللفظ أيضا، والمراد بذلك أنها لم يحملها إذا لم يركب تعالى فيها قوة الفهم والعقل، ولا النفس المختارة المميزة.
وهذا موجود في كلام العرب وأشعارها، فإن العرب تقول إذا أرادت أن تمدح: أبى ذلك سؤددك، وإذا أرادت الذم: أبى ذلك لؤمك، أي إن سؤددك غير قابل لهذه الفعلة لمضادتها له، وكذلك في الذم أي إن لؤمك غير قابل لهذه المكرمة لمضادتها له، فعلى هذا كانت إباية السموات والارض لا على ما سواه إلا أن الاول أصح وبه نقول.
وإنما فرقنا بين هذا في هذا الوجه، وبين ما قلنا آنفا في إنطاق جهنم، لان كلام
الله عز وجل كله عندنا بيان لنا، وجار على معهود ما أوجبه فهمنا بإدراك عقولنا وحواسنا، وإنما قلنا ذلك لقول الله عز وجل: * (وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون) * وحضنا تعالى على التفكير والتدبر للقرآن، وأخبرنا بأنه بيان لنا، وكل ذلك يكون إلا بما تميزه عقولنا، لا بما يضادها، فلما صح ذلك كله، وأدانا التدبير والبصر والسمع والعقل إلى أن السموات جمادات لا تعقل، وأن الارض كذلك، وأن حد النطق هو التمييز للاشياء، وأن التمييز لا يكون إلا

(4/416)


في حي، وأن الحي هو الحساس المتحرك بإرادة، وأن المميز هو بعض الحي لا كله، وأن حد التمييز هو إمكان معرفة الاشياء على ما هي عليه، وإمكان التصرف في الصناعات والاعمال المختلفة بإرادة، وأيقنا أن كل هذه الصفات ليست الارض، ولا الافلاك، ولا الجبال له حاملة، علمنا أن هذه اللفظة، التي أخبرنا بها تعالى عن هذه التي ليست أحياء، لفظة منقولة عن معهودها عندنا إلى معان أخر من صفات هذه الاشياء المخبر عنها، الموجودة فيها على الحقيقة، ومن تعدى هذه الطريقة فقد لبس الاشياء، ورام إطفاء نور الله تعالى الموضوع فينا.
وبالجملة فمن أراد إخراج الامور عن حقائقها في المبادئ، ثم عن حقائقها في المعاهد فينبغي أن يتهم في دينه، وسوء أغراضه، فإسلم من ذلك فلا بد من وصمة في عقله، أو قوة في جهله، إلا أن هذا كله لا يعتر ض على الوجه الاول، لان الانطاق الذي كان وضعه الله تعالى فيها حينئذ قد سلبها إياه، إذ أبت قبول الامانة، وإنما يعترض بهذا كله على من يقول: إنها باقية على نطقها إلى اليوم، فهذا باطل لا شك فيه بما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
وقذكر رجل من المالكيين - يلقب خويز منداذ: أن للحجارة عقلا، ولعل تمييزه يقرب من تمييزها، وقد شبه الله قوما زاغوا عن الحق بالانعام
وصدق تعالى، إذ قضى أنه أضل سبيلا منها، فإن الانعام لا تعدوا ما رتبها ربها لها من طلب الغذاء، وإراد بقاء النوع، وكراهة فسادها بعد كونها، وهؤلاء رتبهم خالقهم عز وجل ليعرفوا قدرته، وإنها بخلاف قدرة من خلق، وليعرفوا رتبة ما خلق على ما هي عليه، فبعدوا ذلك، فمن مشبه قدرة ربه تعالى بقدرة المخلوقين ومن مريد أن يجرى على ربه تعالى حكم عقله فيصرفه به، تعالى الله عما يقول أهل الظلم علوا كبيرا.
ومن مفسد رتب المخلوقات، وساع في إبطال حدودها، وإفساد الاستدلال بها على التوحيد وكل حزب بما لديهم فرحون وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة فيحكم بيننا فيما فيه نختلف، وتالله لتطولن ندامة من لم يجعل حظه من الدين والعلم إلا نصر قول فلان بعينه، ولا يبالي ما أفسد من الحقائق في تلك السبيل العضلة، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، فقال هذا الجاهل: إن من الدليل على أن الحجارة تعقل قوله تعالى: * (إن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار

(4/417)


وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية) * قال: فقد أخبر تعالى أن منها ما يهبط من خشية الله، فدل ذلك على أن لها عقلا، أو كلاما هذا معناه.
قال علي: ونحن نقول: إن من العجب العجيب استدلال هذا الرجل بعقله على أنه لا يخشى الله تعالى إلا ذو عقل، فهلا استدل بذلك العقل نفسه على ما شاهد بحسه من أن الحجارة لا عقل لها، وكيف يكون لها تمييز وعقل، والله تعالى قد شبه قلوب الكفار التي لم تنقد إلى معرفته عز وجل بالحجارة في أنها لا تذعن للحق الوارد عليها، فكذب الله تعالى في نفيه المعرفة عن الحجارة نصا، إذ جعلها تعالى بمنزلة قلوب الكفار في عنود تلك القلوب عن الطاعة له عز وجل، فكيف يكون للحجارة عقل أو تمييز بعد هذا.
فإن قال قائل: فما وجه إضافة الخشية إلى الحجارة ؟ قلنا له، وبالله تعالى التوفيق: قد قدمنا أن الله تعالى رتب الاسماء على المسميات، وجعل ذلك سببا للتفاهم،
ولولا ذلك ما كان تفاهم أبدا، ولا فهمنا عنه تعالى شريعة، ولا علمنا مراده عز وجل في أمر ولا نهي، ولا في خبر أخبرنا به، وعرفنا تعالى بذلك التمييز الذي وضع فينا من صفات المخلوقات ما قد عرفناه، وجعل لتلك الصفات أسماء نعبر بها عنها ونفاهم بها الاخبار عنها.
فكان مما رتب لنا من ذلك في اللغة العربية، إن سمينا تمييزا حال من رأيناه يفهم ويتكلم ويسأل عن وجوه الاشياء المشكلة، فيجا ب فيفهم، ويسأل عما علم منها فيجب ويحدث بما رأى وشاهد وسمع، ويؤمر بالكلام وينهى عن ضروب مختلفة من الافاعيل، فيفهم ما يزاد منه كل ذلك.
وكان مما رتب لنا أيضا عز وجل أن لم تكن فيه هذه الصفات سميناه غير مميز، فإن كان من الحيوان مما سوى الملائكة والجن والانس سميناه حيا غير مميز، وإن كان من غير الحيوا سميناه جمادا غير حي، إن كان من الشجر أو الحجارة أو الارض أو الماء أو النار أو الهواء أو غير ذلك.
وأقر تعالى هذه الرتب في أنفسنا - بما وضع فيها من التمييز - إقرارا صار من أنكر شيئا منه ربما آل به إلى أن نسقط عنه الحدود، ولا يقتص منه إن قتل.
وتسقط عنه الشرائع، ويصير في محل من لا يخاطب لعدم عقله وتمييزه، فإن زاد ذلك، لم يؤمن عليه أن يغل ويداوي دماغه الذي هو منبعث الحس والحركة، بأنواع كريهة من العلاج.
فلما

(4/418)


أيقنا أن تلك الصفات - المسماة برتبة الله تعالى تمييزا - ليست في الحجارة وجب ضرورة أن تسمى مميزة.
وأيضا فقد قال تعالى مصدقا لابراهيم خليله عليه السلام في قوله: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * وإنما كان يعبد الحجارة.
فصح بالنص أنها لا تفهم ولا تعقل.
فلما رأيناه تعالى قد أوقع عليها خشية له، علمنا أن هذه اللفظة هنالك منقولة
عن موضعها عندنا إلى صفة أخرى من صفات الحجارة، وهي تصريفه لها تعالى كيف شاء، لا تخرج تلك الخشية عن هذه الجملة التي فسرنا البتة.
فهذا وجه إضافة الخشية إلى الحجارة، إذ الخشية المعهودة عندنا هي الخوف من وعيد الله عز وجل، والائتمار لامره تعالى، والحجارة خالية بيقين من كل ذلك، وكيف يخشى من لم يؤمر ولا ينهى ولا كلف ولا وعد أم أي شئ يخشى غير العقا ب ولا عقاب إلا على عاص، ولا عاصي إلا مأمور والحجارة ليست بمأمورة، فليست عاصي فلا عقاب عليها ولا خشية عليها نعني الخشية المعهودة فيما بيننا ولا مميز إلا حي، والحجارة ليست حية فليست مميزة.
ومما ذكرنا من نقل بعض الاسماء إلى غير معهودها قول رسول الله (ص) في الفرس: إن وجدناه لبحرا فأوقع عليه السلام لفظة بحر على الفرس الجواد، وكذلك لما قال رسول الله (ص): ارفق بالقوارير يعني - النساء - كان ذلك نقلا لاسم القوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى النساء، وكذلك قوله تعالى: * (قواريرا من فضة) * هو نقل أيضا للقوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى الفضة، إلا أنه لا يحل لمسلم أن يقول في لفظه لم يأت نص ولا ضرورة حس بأنها منقولة عن موضوعها إنها منقولة ولا يتعدى بكل ذلك ما جاء في نص أو ضرورة حس، ولا يصرف لفظ عن موضوعه إلا بأحد هذين الوجهين، وإلا فهي باقية في مرتبتها في اللغة، وليس لاحد أن يصرف عن وجهه إذ لم يصرفه الله تعالى ولا رسوله (ص) وإن العجب ليكثر ممن يقول إن الشحم يسمى ندى فإذا سئل من أين قلت ذلك ؟ أنشد قول أعرابي جلف:

(4/419)


كثوب العداب الفرد يضربه الندى تعلى الندى في متنه وتحدرا
فيكون ذلك قاطعا لخصمه، يستشهد أن الجواري يسمين القوارير وأن الفرس الجواد يسمى بحرا، وأن الخشية قد يسمى بها الوقوع تحت التدبير: بأن خالق اللغات والمتكلمين أوقع هذا الاسم على هذا المعنى، وبأن أفصح العرب سمى النساء قوارير، والفرس بحرا.
ولعمري لو أنه عليه السلام يقول ذلك قبل بلوغه أربعين عاما، وقبل أن ينبأ لكان قوله أعظم حجة لفصاحته وعلمه بلغة قومه، وأنه من وسيطة قريش ومسترضع في بني سعد بن أبي بكر بن هوازن فجمع فصاحة الحيين: خندف وقيس أهل تهامة والحجارة العالية، الذين إليهم انتهت الفصاحة في اللغة العربية الاسماعيلية والذي لا شك فيه، فهو أنه عليه السلام أفصح من امرئ القيس، ومن الشماخ، ومن حسن البصري، وأعلم بلغة قومه من الاصمعي وأبي عبيدة، وأبي عبيد.
فما في الضلال أبعد من أن يحتج في اللغة بألفاظ هؤلاء، ولا يحتج بلفظة فيها عليه السلام فكيف وقد أضاف ربه تعالى فيه إلى ذلك العصمة، ومن الخطأ فيها القول والتأييد الالهي، والنبوة والصدق المقطوع على غيبه الذي صحبه خرق العادات والآيات والمعجزات، وفي أقل من هذا كفاية لمن كانت فيه حشاشة، فكيف أن يظن به عليه السلام أن يخبر عن ربه تعالى خبرا يكلفنا فهمه، وهو بخلاف ما يفهم ويعقل ويشاهد ويحس ما ينسب هذا إليه (ص) إلا ملحد في الدين كائد له.
وأعجب العجب أن هؤلاء القوم يأتون إلى الالفاظ اللغوية فينقلونها عن

(4/420)


موضوعها بغير دليل، فيقولون: معنى قوله تعالى: * (وثيابك فطهر) * ليس للثيا ب المعهودة، وإنما هو القلب.
ثم يأتون إلى ألفاظ قد قام البرهان الضروري على أنها منقولة عن موضعها في اللغة إلى معنى آخر، وهو إيقاع الخشية على الحجارة.
فيقولون: ليس هذا اللفظ ههنا منقولا عن موضوعه مكابرة للعيان، وسعيا في طمس نور الحق، وإقرارا لعيون الملحدين الكائدين لهذا الدين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في التشبيه قال علي: التشبيه بين الاشياء المشتبهة حق مشاهد، فإذا شبه الله عز وجل أو رسوله (ص) شيئا بشئ فهو صدق وحق وتنبيه على قدرة عظيمة لانه ليس في العالم شيئان إلا وهما مشتبهان من وجه ما، وغير مشتبهين من وجه آخر وقد قال الله تعالى: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * فهذا الذي قلنا هو ارتفاع التفاوت، لان التماثل هو ضد التفاوت، وإذا بطل التفاوت صح التماثل، ولذلك افتقر الناس إلى معرفة حدود الكلام، وضبط الصفا ت التي تتفق فيها الموصوفات التي سعى قوم من النوكى في إبطالها، وهيهات من إبطال الحقائق.
فإن قال قائل: إنه عليه السلام قد شبه ديون الله تعالى بديون الناس في وجوب قضائها، وأنتم لا تقولون بقضاء الصلاة عن الميت.
فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إننا بتوفيق الله عز وجل لنا أهل الطاعة لهذا الحديث، وغيره، وقد نسب إلينا الباطل من ظن أننا نخص هذا الحديث أو غيره بلا نص، فنقول: يقضى الصوم والحج والصلاة المنذورة والمنسية والتي نيم عنها، وأما الصلاة المفروضة المتروكة عمدا، والصوم المفروض في رمضان المتروك عمدا، فإن الذفرط فيها لا يقدر على قضائها أبدا، وليس عليه صيام يقضيه، ولا صلاة يقضيها، وإنما عليه إثم، أمره فيه إلى ربه تعالى، فلا يقضى عنه ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وهذه أيضا من عجائب هؤلاء القوم، فإنهم يأتون إلى أشياء لم يشبه

(4/421)


الله تعالى ولا رسوله (ص) بعضها ببعض، فيحكون لها بحكم واحد لادعائهم أنها مشتبهة فيقولون: لا يجوز للنكاح بأقل مما يقطع في اليد في السرقة، وقد علم كل ذي عقل أنه لا شبه بين السرقة والنكاح، ثم يأتون إلى ما أكد الله تعالى شبهوساوى بينهما، فيبطلون التساوي فيهما فيقولون: إن ديون الناس تقضى عن الميت وديون الله تعالى لا تقضى عنه، فهل في تقحم الباطل أعظم من هذا ؟ قال علي: وهذا الذي قلنا في المجاوز والتشبيه هو عين الحقيقة بالبراهين التي ذكرنا لم نتر ك فيه علقة لمتعقب منصف، وبالله تعالى التوفيق، فأما أهل الشغب فهم بمنزلة التائه في الفلوات، وإنما علينا - بعون الله تعالى - نهج الطريق القصد وإيضاحه، حتى لا يوجد بحول الله تعالى وقوته طريق أنهج ولا أخصر منه، والحمد لله رب العالمين ويوفق الله تعالى من يشاء بما يشاء، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله (ص)، وفي الشئ يراه عليه السلام أو يبلغه فيقره صامتا عليه لا يأمر به ولا ينهى عنه قال علي بن أحمد رحمه الله: قال قوم من المالكيين: أفعاله عليه السلام على الوجوب، وهي آكد من أوامره، وقال آخرون منهم من الحنفيين: الافعال كالاوامر، وقال آخرون من كلتا الطائفتين ومن الشافعيين: الافعال موقوفة على دليلها، فما قام منها على أنه واجب صير إليه، وما قام دليل أنه منها ندب أو إباحة صير إليه، وممن قال بهذا من الشافعيين أبو بكر الصيرفي، وابن فورك، وقال سائر الشافعيين وجميع أصحاب الظاهر: ليس شئ من أفعاله عليه السلام واجبا، وإنما ندبنا إلى أن نتأسى به عليه السلام فيها فقط، وألا نتركها على معنى الرغبة عنها، ولكن كما نترك سائر ما ندبنا إليه مما
إن فعلناه أجرنا، وإن تركناه لم نأثم ولم نؤجر، إلا ما كامن أفعاله بيانا لامر أو تنفيذا لحكم، فهي حينئذ فرض، لان الامر قد تقدمها، فهتفسير الامر.

(4/422)


قال علي: وهذا هو القول الصحيح الذي لا يجوز غيره.
واحتج من قال إنها على الوجوب، وإنها أوكد من الاوامر بما حدثنا سعيد الجعفري قال: ثنا أبو بكر بن الادفوي، ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن النحاس النحوي، عن أحمد بن شعيب النسائي، عن سعيد بن عبد الرحمن، حدثنا سفيان - هو ابن عيينة - عن الزهري، قال وثبتني معمر بعد عن الزهري، عن عروة بن الزبير أن مسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم - يزيد أحدهما على صاحبه - قالا: خرج رسول الله (ص) عام الحديبية فذكر الحديث وفيه طول، فلما فرغ من قصة الكتاب قال رسول الله (ص) لاصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا رسول الله أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم منهم أحدا حتى تنحر وتحلق، فخرج عليه السلام فنحر بدنة ودعا بحالقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.
قال علي: وما نعلم حجة أشنع عليهم من هذا الحديث الذي احتجوا به، لان الذي أوجب الله علينا طاعته وأمرنا باتباعه هو النبي (ص) الذي أنكر عليهم التأخر عما أمرهم به، ولم يأمر باتباع الذين خالفوه حتى فعل ما أمرهم به والذين أوهموه حتى جعلوه يشكوا ما لقي منهم.
ومن أخذ بفعل الناس وترك أمر نبيه (ص)، وعمل بما أنكره عليه السلام ولم يلتفت إلى أمر نبيه (ص)، وصوب فعل من
أغضبه وتعمد ذلك، فقد ضل ضلالا، ولم نأمن عليه مفارقة الاسلام.
وليعلم كل ذي لب أن ذلك الفعل من أهل الحديبية رضي الله عنهم خطأ ومعصية، ولكنهم مغفور لهم بيقين النص في أنه لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية، وليس غيرهم كذلك، ولا يحل لمسلم أن يقتدي بهم في ذلك، فلا بد

(4/423)


لكل فاضل من زلة.
وكل عالم من وهلة، وكل أحد من الخيار فإنه يؤخذ من قوله وفعله، ويترك ويرغب من كثير من قوله وفعله، إلا أن رسول الله (ص) ومن اقتدى بأهل الحديبية في هذا الفعل الذي أنكره رسول الله (ص) فقد هلك، رضي الله عنهم مضمون لهم المغفرة في ذلك وغيره، ولم يضمن ذلك لغيرهم.
وقد أقر بعضهم رضي الله عنهم على نفسه الخطأ العظيم في هذا الباب كما حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح قال: ثنا عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا أبو كريب محمد بن العلاء، ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا: أنبأنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول: اتهموا رأيكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع رد أمر رسول الله (ص) قال الاعمش عن أبي وائل عن سهل - لرددته.
قال علي: ويوم أبي جندل هو يوم الحديبية، فقد أقر سهل رضى الله عنهم أنهم أساؤوا الرأي يوم الحديبية، حتى لو استطاعوا رد أمر رسول الله ص) لردوه.
حدثنا أبو سعيد الجعفري، حدثنا ابن الادفوي، ثنا أبو جعفر بن الصفار، عن النسائي، عن سعيد بن عبد الرحمن، حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري قال: وثبتني معمر عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم
فذكرا حديث الحديبية، وفيه أن عمر بن الخطاب قال: والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي (ص) فقلت: ألست نبي الله حقا ؟ قال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا إذا ؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت: أو ليس وعدتنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت: لا قال: إنك تأتيه وتطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى، قلت فلم نعطى الدنية إذا ؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق.

(4/424)


قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت: لا.
قال: إنك ستأتيه وتطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
قال علي: لم يشك عمر قط مذ أسلم في صحة نبوة محمد (ص)، ومعاذ الله من أن يظن ذلك به ذو مسكة، ولكنه شك في وجوب اتباع ما أمرهم به من الحلق والنحر، وإمضاء القضية بينه وبين قريش، ثم ندم على ذلك كما ترى، وعمل لذلك أعمالا مستغفرا مما سلف منه، من الامر الذي ينصره الآن من أضله الله تعالى بالتقليل الفاسد، ومثل هذا، من غير أهل الحديبية، فسق شديد، ولكنهم بشهادته (ص) مغفور لهم لا يدخله النار منهم أحد إلا صاحب الجمل الاحمر وحده.
قال علي: وقد بين النبي (ص) دينهم في هذا الباب، كما ثنا يحيى بن عبد الرحمن، ثنا ابن دحيم، ثنا إبراهيم بن حماد، ثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا نصر بن علي، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: ثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: حلق يوم الحديبية رجال، وقصر آخرون فذكر ابن عباس أنه (ص) ترحم على المحلقين ثلاثا، وعلى المقصرين واحدة، بعد أن ذكر بهم ثلاث مرات فقالوا: ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم ؟ فقال (ص): إنهم لم يشكوا.
قال علي: لم يشكوا في وجوب تنفيذ أمره، وشك المترددون فعوقبوا كما ترى، وإن كانوا مغفورا لهم كلهم، وكذلك الذين فروا من الزحف يوم أحد، فأخبر تعالى أنه إنما استفزهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ثم أخبر تعالى أنه عفا عنهم، فمن اقتدى بهم في الفرار من الزحف فهو غير حاصل على ما حصلوا عليه من العفو، بل يبوء بغضب من الله تعالى.
ولا عجب أعجب ممن يقتدي بأهل الحديبية في خطيئة وقعت منهم قد ندموا عليها، واعترفوا بها، وينهى عن الاقتداء بهم في فعل فعلوه كلهم، موافق لرضا الله عز وجل، ورضا رسوله (ص) في نحرهم البدنة في ذلك اليوم عن سبعة، والبقرة عن سبعة بأمر رسول الله (ص)، وأنهم نحروا سبعين بدنة عن سبعمائة إنسان ما سوى البقر، فيقول هؤلاء: لا يجوز الاقتداء بهم في ذلك تقليدا لما لك ثم يحض على الاقتداء بهم في خطيئة أخطؤوها قد تابوا منها، فهل في عكس الحقائق

(4/425)


والمجاهرة بالباطل أشنع من هذين المذهبين وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
ومن العجائب التي لا يفهم منها إلا الاستخفاف بالدين والخنا، احتجاج ابن خويز منداذ المالكي، إيجاب أفعال رسول الله (ص) فرضا، بحديث الانصاري الذي قبل امرأته وهو صائم، فأمرها أن تستفتي في ذلك أم سلمة، فأتى النبي (ص) فوجد المرأة فسأل عنها، فأخبرته أم سلمة بخبرها فقال لها رسول الله (ص): ألا أخبرتها أني أفعل ذلك ؟ فقالت: قد فعلت، فزاده ذلك شرا وقال: يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله (ص) وقال: أما والله
إني لاتقاكم لله وأعلمكم بما أتقي.
قال أبو محمد: وإن احتجاج ابن خويز منداذ بهذا الحديث، وهو لا يقول به، ولا يستحبه ولا يبيحه، بل يكره القبلة للصائم ويرغب عن فعل النبي (ص) في ذلك ويسخط الله تعالى ورسوله (ص) لرغبته عما كان عليه السلام يفعله، لآية من الآيات الشنيعة، وهو لا يرى هذا الفعل واجبا ولا مستحبا ولا مطلقا، ثم يحتج به في إيجاب أفعاله (ص) وليس العجب ممن يطلق لسانه بمثل هذا الخنا فإنه قد عدم الرقبة والحياء والخوف، ولا يبالي بالاثم ولا بالعار، وإنما العجب ممن يسمعه ثم يقبله، ويكتبه مصدقا له مستحسنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون على دروس العلم وذهابه.
وهذا الحديث الذي ذكر أعظم حجة في أن أفعاله عليه السلام ليست على الوجوب، ولكنها مستحبة مندوب إليها، يأتي متركها راغبا عنها، كما يأثم ابن خويز منداذ ونظراؤه في رغبتهم عن فعل النبي (ص) في التقبيل وهو صائم ولا يأثم من تركها مستحبا لها غير راغب عنها ولا يؤجر أيضا، وأما من فعلها مؤتسيا فيها بالنبي (ص) فهو مأجور، والحمد لله رب العالمين.
واحتج من قال: إن أفعاله عليه السلام كأوامره، بأن قال: قد أمرنا باتباعه عليه السلام بقوله تعالى: * (فآمنوا بالله ورسوله النبي الامي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) * قالوا: وهذا إيجاب علينا اتباعه، في فعله وأمره سواء.
قال علي: الاتباع لا يفهم منه محاكاة الفعل في اللغة أصلا، وإنما يقتضي الامتثال لامره عليه السلام، والطاعة لما علم عن ربه عز وجل، وقد بين ذلك عليه

(4/426)


السلام في قوله: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وبقوله (ص): كل أحد يدخل الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال:
من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى.
قال علي: والمعصية إنما هي مخالفة الامر، لا ترك محاكاة الفعل، وما فهم قط من اللغة أن يسمى تارك محاكاة الفعل عاصيا إلا بعد أن يؤمر بمحاكاته، فإنما استثنى عليه السلام من دخول الجنة من خالف الامر فقط، وبقي من لا يحاكي الفعل غير راغب عنه على دخول الجنة، فقد صح أنه ليس عاصيا، وإذا لم يكن عاصيا فلم يجتنب فرضا فقد صح أن محاكاة الفعل ليست فرضا، وأيضا فما فهم عربي قط من خليفة يقول: اتبعوا أمري هذا، أنه أراد افعلوا ما يفعل، وإنما يفهم من هذا امتثال أمره فقط، وأيضا فإن أفعال النبي (ص) لا يختلف أحد في أنها غير فرض عليه بمجردها، ومن المحال أن يكون كذلك ويكون فرضا علينا، وهذا هو خلاف الاتباع حقا، وقد هذرقوم بأن قالوا: من الحجة في ذلك قول الله عز وجل: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *.
قال علي: وهذا تخليط، لان الايتاء في اللغة إنما هو الاعطاء، والفعل لا يعطى، وإنما يعطينا أوامره فقط، ولا سيما وقد اتبع ذلك النهي، وإنما توعد الله على مخالفة الامر بقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * وقال بعضهم: الضمير في أمره راجع إلى الله عز وجل.
قال علي: فيقال لهم لا عليكم، أمر رسول الله (ص) هو أمر من الله عز وجل نفسه، بقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فنطقه كله أمر الله عز وجل.
قال علي: الآية كافية في أن اللازم إنما هو الامر فقط لا الفعل، لان الله عز وجل إنما أخبر أن الوحي من قبله تعالى هو النطق، والنطق إنما هو الامر، وأما الفعل فلا يسمى نطقا البتة، فصح أن فعله عليه السلام كله إباحة وندب لا إيجاب، إلا ما كان منه بيانا لامر.
قال علي: وقال بعضهم: معنى أمره ههنا حاله، كما تقول أمر فلان اليوم
على إقامة، أو أمره على عوج، يعني حاله.

(4/427)


قال علي: وهذا يبطل بأن هذه الآية إنما جاءت بإيجاب ما ذكر قبلها من الامر الذي هو النطق قال الله عز وجل: * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * فصح أن هذا الوعيد في أمره لهم بالبقاء معه، وكذلك كان عليه السلام لا يؤذن لشئ من صلوات التنفل كالعيدين والكسوف تفريقا بين الفعل والامر، إذ لو دعوا إلى الصلاة لكان أمرا، والامر فرض.
وقد حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا زهير بن حرب، ثنا جرير، عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: صنع رسول الله (ص) أمرا نترخص فيه، فبلغ ذلك ناسا من أصحابه، فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك فقام خطيبا فقال: ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه، فوالله لانا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية.
قال علي: فهذا نص جلي عن رسول الله (ص) لم ينكر عليهم ترك فعل ما فعل، فصح أنه ليس ذلك واجبا، ولو كان واجبا لانكر تركه، وإنما أنكر عليهم إنكاره، والتنزه عنه، وهذا منكر جدا، وقد أنكر عليهم ترك أمره، فوضح الفرق بين الفعل والامر لمن عقل، وبالله تعالى التوفيق.
وبه إلى مسلم حدثنا محمد بن رافع، وعبيد الله بن معاذ، وابن أبي عمر، وقتيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو كريب، وأبو بكر بن أبي شيبة، قال ابن رافع: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن همام بن منبه، وقال ابن معاذ: ثنا أبي، ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، وقال ابن أبي عمر: ثنا سفيان - وهو ابن عيينة - عن أبي الزناد،
عن الاعرج، وقال قتيبة: ثنا المغيرة الخرامي، عن أبي الزناد، عن الاعرج، وقال ابن نمير: ثنا أبي، عن الاعمش، عن أبي صالح السمان.
وقال ابن أبي شيبة، وأبو كريب: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي صالح، ثم اتفق همام ومحمد بن زياد والاعرج وأبو صالح، كلهم عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله (ص): ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم.
وهذه

(4/428)


رواية كل من ذكرنا، ولم يخالفهم همام في شئ إلا أنه قال: * (ما تركتكم) *.
قال أبو محمد:، وهذا خبر منقول نقل التواتر عن أبي هريرة فلم يوجب رسول الله (ص) على أحد إلا ما استطاع مما أمر به، واجتناب ما نهى عنه فقط، ولا يجوز البتة في اللغة العربية أن يقال: أمرتكم بما فعلته، وأسقط عليه السلام ما عدا ذلك، وأمرهم بتركه ما تركهم.
وقد علمنا بضرورة الحس والمشاهدة أنه عليه السلام، وكل حي في الارض لا يخلو طرفة عين من فعل، إما جلوس أو مشي، أو وقوف أو اضطجاع، أو نوم أو اتكاء، أو غير ذلك من الافعال، فأسقط عليه السلام عنا كل هذا، وأمرنا بتركه فيه، حاشا ما أمر به أو نهى عنه فقط، فوضح يقينا أن الافعال كلها منه عليه السلام لا تلزم أحدا وإنما فيها الائتساء المتقدمة فقط.
قال أبو محمد: وصح بالحديث الذي قبل هذا، أنه لا حجة في فعل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولا في قوله، لان أولئك الذين كرهوا ما فعله عليه السلام، قصدوا بذلك الخير في اجتهادهم، وقد أنكر عليه السلام ذلك فصح أنه لا حجة إلا فيما جاء عنه عليه السلام فقط، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وإنما حضنا الله تعالى في أفعاله عليه السلام على الائتساء به بقوله
تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * وما كان لنا فهو إباحة فقط، لان لفظ الايجاب إنما هو علينا لا لنا، نقول: عليك أن تصلي الخمس، وتصوم رمضان، ولك أن تصوم عاشوراء، وتتصدق تطوعا، ولا يجوز أن يقول أحد في اللغة العربية: عليك أن تصوم عاشوراء وتتصدق تطوعا، ولك أن تصلي الخمس، وتصوم رمضان، هذا الذي لا يفهم سواه في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى بما ألزمنا من شرائعه.
قال أبو محمد: وقال بعضهم: قوله تعالى بعقب الآية المذكورة: * (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) * بيان أن ذلك إيجاب لان هذا وعيد.
قال أبو محمد: التأويل خطأ لان الائتساء المندوب إليه في الآية المذكورة إنما هو للمؤمنين الذين يرجون الله واليوم الآخر، ولم يقل تعالى هو على الذين يرجون الله واليوم الآخر وأما الكفار الذين لا يرجون الله واليوم الآخر،

(4/429)


فراغبون عن الائتساء به عليه السلام، وكذلك قوله (ص): إني أصوم وأفطر وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني وصدق عليه السلام، أن من ترك شيئا من أفعاله راغبا عنها فهو كافر، وأما من تركها غير راغب عنها لكن اقتصارا على الفرض، وتخفيفا من التطوع، عالما بأنه يترك فضلا كثيرا، فقد أفلح كما قال عليه السلام للاعرابي الذي حلف لا يزيد على الاوامر الواجبات شيئا فقال عليه السلام: أفلح والله إن صدق دخل الجنة.
قال أبو محمد: وفي هذا الحديث بيان كاف في أن الاوامر هي الفروض، وأن أفعاله عليه السلام ليست فرضا، لان الاعرابي إنما سأل رسول الله (ص) عما أمر به، لا عما يفعل، ثم حلف ألا يفعل غير ذلك، فصوب رسول الله (ص) قوله وحسن فعله، وهذا كاف لمن عقل، إذ لم يلزمه عليه السلام اتباع
أفعاله، وهذا ما لا إشكال فيه.
قال أبو محمد: بل أنكر رسول الله (ص) على أصحابه رضي الله عنهم التزام المماثلة لافعاله، كما حدث عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية القرشي، ثنا أبو خليفة، نا أبو الوليد الطياسى - هو هاشم بن عبد الملك - عن حماد بن سلمة، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: صلى بنا رسول الله (ص)، فلما صلى خلع نعليه فوضعهما يساره فخلع القوم نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما لكم خلعتم نعالكم ؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: إني لم أضعهما من بأس، ولكن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا وأذى، فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليمسحه.
قال أبو محمد: فهذا عدل من الصحابة - أبو سعيد الخدري - شهد أن رسول الله (ص) أنكر عليهم التزام مماثلة أفعاله، فبطل كل تعلل بعد هذا وصح ألا يلزم إلا أمره عليه السلام فقط.
قال أبو محمد: وإنما تعلق بما ذكرنا قوم من أصحاب مالك، على أنهم أترك خلق الله لافعاله عليه السلام، فقد تركوا فعله عليه السلام في صلاته بالناس وهم وراءه قيام أو جلوس وتركوا فعله عليه السلام في دخوله وإمامته بالناس بعد ابتداء أبي بكر بالتكبير بهم والصلاة، وجوزوه في الاستخلاف حيث لم يأت به

(4/430)


نص ولا إجماع، ورغبوا عن فعله عليه السلام في الصب على بول الصبي، واختاروا ا لصوم في رمضان في السفر، ورغبوا عن فعله عليه السلام في الفطر، ورغبوا عن فعله عليه السلام في التقبيل وهو صائم، وقد غضب رسول الله (ص) على من رغب عن ذلك أو تنزه عنه، وخطب الناس ناهيا عن ذلك، ورغبوا عن فعله عليه السلام في قراءته: * (والطور) * في
المغرب، وتركوا فعله عليه السلام في تطيبه في حجة الوداع، وأخذوا بأمر له متقدم، لو كان على ما ظنوه كان منسوخا بآخر فعله عليه السلام، وتركوا فعله عليه السلام حكمه بالسلب للقاتل، وتركوا فعله عليه السلام في سجوده في سورة * (والنجم) * وفي: * (إذا السماء انشقت) * وتركوا فعل جميع الصحابة في هذين الموضعين، وكل من أسلم من الجن والانس.
قال أبو محمد: فأما ما كان من أفعاله عليه السلام تنفيذا لامر فهو واجب، فمن ذلك قوله عليه السلام: صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم وهمه بإحراق منازل المتخلفين عن الصلاة في الجماعة، وجلده شارب الخمر، لانه عليه السلام لما أخبر أن الاموال والاعراض حرام ثم أن ينتهك شر منها، أو بأنه يريد انتهاكها، علمنا أن ذلك حق، وأما بعد الامر فواجب لا إباحة لانه عليه السلام لا يهم إلا بأمر حق، وقد أمر بجلد الشارب ثم كان فعله بيانا للجلد الذي أمر به.
وكذلك ما كان من أفعاله عليه السلام نهياعشئ أو أمرا بشئ فهو على الوجوب، كإزالته (ص) ابن عباس عن يساره، ورده إلى يمينه، فهذا وإن كان فعلا فهو أمر لابن عباس للوقوف عن يمينه، ونهي له عن الوقوف عن يساره، وإنما الفعل المجرد هو الذي ليس فيه معنى الامر.
فإن قال قائل: فهلا قلتم إن همه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة، إباحة لا فرض، على أصلكم في انتقال الشئ إذا نسخ إلى أقرب المراتب منه لا إلى أبعدها عنه، قيل له وبالله تعالى التوفيق: كذلك نقول ما لم يأت دليل على أنه منقول إلى أبعد المراتب عنه، ولكن لما قال عليه السلام: أمرت أن أقاتل

(4/431)


الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
بحقها، وحسابهم على الله، ثم أخبر عليه السلام أنه قد هم بحرق بيوت المتخلفين علمنا بالنص المذكور أن ذلك حق واجب إنفاذه، إذ قد نص أنه لا يستبيح دما ولا مالا إلا بحق، والحق فرض ما لم يأت دليل على أنه إباحة.
قال أبو محمد: قد قلنا: إن القائلين بأن أفعاله عليه السلام على الوجوب هم أشد الناس خلافا لهذا الاصل الفاسد، فإن المالكيين يقولون إن خطبة الامام يوم الجمعة خطبتين قائما يجلس بينهما ليست فرضا، وإنما الفرض خطبة واحدة، وما روي قط أن النبي (ص) خط ب إلا خطبتين قائما يجلس بينهما، فلم يروا فعله عليه السلام ههنا على الوجوب.
ويقولون: إن ترتيب الوضوء ليس فرضا، ولا شك في أن النبي (ص) كان يرتب وضوءه ولا ينكسه، لا يشك مسلم في ذلك.
ويرون أن الصلاة للصبح بمزدلفة ليس فرضا، ولا يبطل حج من تركه، ورسول الله (ص) صلاها هناك، وآذن أن من لم يدركها هنالك فلا حج له، ويرون أن من صلى المغرب قبل مزدلفة ليلة النحر فصلاته تامة ورسول الله (ص) أخرها إلى المزدلفة فلم يصلها إلا فيها، ولا يرون رمي جمرة العقبة فرضا، ورسول الله (ص) قد رماها، ولا يرون الضجعة بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح فرضا، ورسول الله (ص) كان يفعلها دائما عليها مواظبا لها، وكذلك فقهاء المدينة السبعة، وأهل المدينة، وكل هذه المسائل فجماهير الصحابة والتابعين والفقهاء يرونها فرضا وإنما أتينا بهذه المسائل لئلا يدعو إجماعا على أنها ليست فرضا، ومثل هذا لو تتبع كثير، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فإن تعارض فعل وقول، مثل أن يحرم عليه السلام شيئا ثم يفعله، فإن هذا إن علمنا أن الفعل كان بعد القول فهو نسخ له، وبيان أن حكم

(4/432)


ذلك القول قد ارتفع، لانه عليه السلام لا يفعل شيئا محرما، ولا يجوز أن يقال في شئ فعله عليه السلام أنه خصوص له إلا بنص في ذلك، لانه عليه السلام قد غضب على من قال ذلك، وكل شئ أغضب رسول الله (ص) فهو حرام، وذلك مذكور في حديث الانصاري الذي سأله عن قبلة الصائم، فأخبره عليه السلام أنه يفعل ذلك، فقال الانصاري: يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله (ص) وقال: والله إني لاتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وما أذر أو كما قال عليه السلام.
فلا يحل لاحد بعد هذا أن يقول في شئ فعله عليه السلام: إنه خصوص له، إلا بنص مثل النص الوارد في الموهبة بقوله تعالى: * (خالصة لك من دون المؤمنين) *، ومثل وصاله عليه السلام في الصوم، وقوله ناهيا لهم: إني لست كهيئتكم، ومثل نومه - عليه السلام وصلاته دون تجديد وضوء، فسئل عليه السلام عن ذلك، فقال: عيناي تنامان ولا ينام قلبي فما جاء فيه بيان كما ذكرنا فهو خصوص، وما لم يأت فيه نص كما قلنا فلنا أن نتأسى به عليه السلام، ولنا في ذلك الاجر الجزيل، ولنا أن نترك غير راغبين عن ذلك فلا نأثم ولا نؤجر.
فمما جاء كما ذكرنا: نهيه عليه السلام عن الصلاة قائما، إذا صلى الامام جالسا، ثم هو عليه السلام صلى جالسا في مرضه الذي مات فيه، وصلى أبو بكر مذكرا إلى جانبه قائما فأقر، فعلمنا أن ذلك نسخ لايجاب الجلوس عن المذكر خاصة، فإن شاء صلى جالسا، وذلك أفضل عندنا، وإن شاء قائما، كل ذلك جائز حسن.
وكذلك قلنا في حضه عليه السلام على صيام يوم عرفة، ثم أفطر عليه السلام فيه، فقلنا: صيامه أفضل للحاج وغيره، وإفطاره مباح حسن، وقد روت عائشة: أنه عليه السلام كان يترك الفعل وهو يحبه، خشية أن يفعله الناس فيفرض عليهم، كما فعل عليه السلام في قيام الليل في رمضان، قام ثم ترك خوفا
أن يفرض علينا.
وإنما قلنا هذا لئلا يقول جاهل: أيجوز أن يترك عليه السلام الافضل،

(4/433)


ويفعل الاقل فضلا ؟ فأعلمناه عليه السلام يفعل ذلك رفقا منه، كما أخبر عليه السلام أنه لولا رجال من أصحابه لا يتخلفون عنه أصلا، وأنه لا يجد ما يحملهم عليه ما تخلف عن سرية يوجهها في سبيل الله، فأخبر عليه السلام أنه يتخلف عن الجهاد وهو أفضل، خوفا أن يشق على أمته، وهذا كثير.
قال أبو محمد: وأما إذا لم يعلم أي الحكمين قبل: الامر أم الفعل ؟ فإنا نأخذ بالزائد، كما فعلنا في نهيه عليه السلام عن الشرب قائما، وروي عنه عليه السلام أنه شرب قائما، وفي نهيه عليه السلام عن الاستلقاء ووضع رجل على رجل، وروي عنه أنه عليه السلام رئي مضطجعا في المسجد كذلك، فأخذنا ههنا بالزائد، وهو النهي في كلا الموضوعين، لان الاصل إباحة الاضطجاع على كل حال والاستلقاء كما يشاء، وإباحة الشرب على كل حال، فقد تيقنا أننا نقلنا عن هذه الاباحة إلى نهي عن كلا الامرين بلا شك في ذلك، ثم لا ندري هل نسخ ذلك النهي أولا ؟ ولا يحل لمسلم أن يترك شيئا هو على يقين من أنه قد لزمه، لشئ لا يدري أهو ناسخ أم لا ؟ واليقين لا يبطل بالشك، والظن لا يغني من الحق شيئا، فنحن على ما صح لدينا أنه قد لزمنا، حتى يقيم المدعي لبطلانه - علينا البرهان في صحة دعواه، وإلا فهي ساقطة، وبالله تعالى التوفيق.
وهكذا قلنا في حديث رسول الله (ص): كل مما يليك مع ما قد صح من تتبعه الدباء من نواحي القصعة ولا فرق، على أن هذا الخبر ليس فيه أنه عليه السلام تناول الدباء مما لا يليه، بل يمكن تتبعه من نواحي الصحفة مما يليه، وليس هكذا الاقوال، فإنه (ص) إذا قال قولا فيه إباحة، ثم جاء بعد عموم تحريم، إلا أنه
ممكن استثناء إباحة قبل، فواجب ضم القولين جميعا إلى واحد، واستثناء الاقل من الاكثر، لان القول بيان جلي، وليس في الفعل بيان المراد: لا بتخصيص ولا بغيره.
قال أبو محمد: فالحاصل من هذا أن القولين إذا تعارضا، وأمكن أن يستثنى أحدهما من الآخر، فيستعملان جميعا لم يجز غير ذلك، وواء أيقنا أيهما أول أو لم نوقن، ولا يجوز القول بالنسخ في ذلك، إلا ببرهان جلي من نص أو إجماع

(4/434)


أو تعارض لا يمكن معه استثناء أحدهما من الآخر، وأما القول والفعل إذا تعارضا، فإن كان الفعل قبل القول، أو لم يعلم أقبله أم بعده فالحكم القول، ويكون الفعل حينئذ منسوخا، ولا يجوز أن يستثنى منه الفعل، لاننا لا ندري أحاله نخص أم زمانه أم مكانه ؟ إذ ليس في الفعل بيان عموم ولا تفسير حد، وإن كان الفعل بعد القول، فحينئذ نخص تلك الحال بيقين فقط، لاننا من ذلك على يقين، ولسنا من تخصيص الزمان والمكان على يقين، ولا يجوز أن نحكم في الدين بالشك، كما فعلنا فيما قد صح من أن المرأة تقطع الصلاة.
ثم صح أن عائشة ذكرت أن رسول الله (ص) كان يصلي وهي بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة، فتكره أن تقعد فتؤذي رسول الله (ص) فتمسك كما هي، فصح بهذا النص أن هذا الفعل كان بعد النهي، لانها أخبرت أنها لو قعدت لآذت رسول الله (ص) بذلك ودل أيضا هذا الخبر على المداومة على ذلك، فاستثناء حال الاضطجاع من قطع المرأة الصلاة على سائر أحوالها، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد لو كانت الافعال على الوجوب، لكان ذلك تكليفا لما لا يطلق من وجهين ضروريين: أحدهما: أنه كان يلزمنا أن نضع أيدينا حيث
وضع (ص) يده، وأن نضع أرجلنا حيث وضع عليه السلا م رجله، وأن نمشي حيث مشى، وننظر إلى ما نظر إليه، وهذا كله خروج عن المعقول.
والوجه الثاني: أن أكثر هذه الاشياء التي تصرف عليه السلام بأفعاله فيها فقد ثبت فكنا من ذلك مكلفين ما لا نطيق، فبطل كل قول في هذا الباب حاشى

(4/435)


ما ذكرنا من الائتساء به عليه السلام في أفعاله، وأما من قال: نطلب الدليل، فإن وجدنا دليل، على وجوب الفعل صرنا إليه، وإن لم نجد دليلا حملنا الافعال على الائتساء فقط، فهي نفس قولنا، إلا أننا نحملها على الائتساء أبدا ما لم نجد دليلا على الوجوب، فإن وجدناه صرنا إليه، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما الشئ يراه عليه السلام أو يبلغه أو يسمعه، فلا ينكره ولا يأمر به فمباح، لان الله عز وجل وصفه عليه السلام فقال: * (الذين يتبعون النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) * فلو كان ذلك الشئ منكرا لنهى عنه عليه السلام بلا شك، فلما لم ينه عنه لم يكن منكرا فهو مباح المباح معروف، وما عرفه عليه السلام فهو معروف، ولا معروف إلا ما عرف، ولا منكر إلا ما أنكر، فمن ذلك: غناء الجاريتين في بيته، وهو عليه السلام يسمع ولا ينكر، فأنكر ذلك أبو بكر، فأنكر النبي (ص) على أبي بكر إنكاره، فصح بذلك ما ذكرنا نصا، ووجب الانكار على كل ما أنكر ما علمه عليه السلام فأقره.
ومن ذلك زفن السودان، فنهاهم عمر، فأنكر عليه السلام على عمر إنكاره عليهم، ومن ذلك اللعب التي رأى عليه السلام عند عائشة، وفيها فرس ذو أجنحة مع نهيه عليه السلام عن الصور، فكان ذلك إذا مستثنى مما نهى عنه، ومثل إنكاره عليه السلام الصور في الستر، مع إباحته لذلك إذا كان
رقما في ثوب، واستثناءه إياه من جملة ما نهى عنه من الصور، فلما قطعت عائشة الستر وسادتين، اتكأ عليه السلام عليهما ولم ينكرهما، فصح من ذلك أن المعلق من الثياب التي فيها الصور مكروه، ليس حراما ولا مستحبا، لكن من تركها أجر، ومن استعملها لم يأثم، واختار ههنا عليه السلام الافضل، واختاره لعائشة وفاطمة رضي الله عنهما، وصح بذلك أن الثياب التي فيها الصور وإذا كانت وسائد فذلك حسن مباح ولا مستحب لا نكرهه أصلا بل نحبه.
وكذلك الشئ إذا تركه عليه السلام ولم ينه عنه ولا أمر به، فهو عندنا مباح

(4/436)


مكروه، ومن تركه أجر، ومن فعله لم يأثم ولم يؤجر، كمن أكل متكئا، ومن استمع زمارة الراعي، فلو كان ذلك حراما لما أباحه عليه السلام لغيره، ولو كان مستحبا لفعله عليه السلام، فلما تركه كارها له كرهناه ولم نحرمه.
فإن قال قائل: فقد ناموا بحضرة رسول الله (ص)، ثم صلوا ولم يأمرهم بإعادة الوضوء، وأنتم لا ترون ذلك، قيل له وبالله التوفيق: ما روى أحد قط أن رسول الله (ص) رآهم نياما، ولا أعلم أنهم ناموا، وإنما جاء الحديث: أنه عليه السلام أبطأ بالعشاء الآخرة حتى نام الناس، وسمع لهم غطيط، وصاح عمر: نام النساء والصبيان.
فالحديث كما تسمع بين في أنهم ناموا وهو عليه السلام غائب غير حاضر، وإنما أعلمه عمر بنوم النساء والصبيان، وهذان الصنفان ليس عليهم حضور الصلاة في الجماعة فرضا، وأيضا فمن أين للمحتج بهذا أن يقول: ناموا قعودا نوما قليلا، بلا أن يرد ذلك في الحديث، ولعل فيهم من نام مستندا إلى صاحبه أو إلى الحائط أو مضطجعا نوما طويلا، ما يدري من لم يحضر نومهم كيف كان نومهم، ومثل هذا من الدعاوى لا يستجيزها ذو دين متهم بالصدق.
فلما صح أنه عليه السلام كان غائبا، ولم يأتنا نص في أنه عليه السلام علم نومهم،
وصح أمره عليه السلام في حديث صفوان بن عسال المرادي بالوضوء من النوم جملة -: لزمنا ألا نزول عما أمرنا لامر لا ندري أعلمه عليه السلام أم لم يعلمه ؟ ولو صح عندنا أنه عليه السلام علم أنهم ناموا وأقرهم على ذلك لقلنا به، ولاسقطنا الوضوء عمن نام جملة على أي حال نام، ولو صح في ذلك الخبر أن عمر قال: نام الناس، لما كان لهم فيه متعلق، لانه كان يكون معناه نام الناس الذين ينتظرونه عليه السلام، وكيف وكل طائفة منهم تخالف هذا الخبر، لانهم يخصون بعض أحوال النوم دون بعض، وليس بيننا في الخبر أصلا.
فإن قال قائل: أيجوز أن يخفى ذلك على رسول الله (ص) ؟ قيل له: نعم، كما جاز عندكم معاشر الشافعيين والمالكيين والحنفيين قول جابر: كنا نبيع أمهات الاولاد على عهد رسول الله.
على أن بيع أمهات الاولاد أشهر من نوم قوم في الليل، والقوم في عوزة من المصابيح بركن المسجد.

(4/437)


وكما يقول المالكيون: إنخفي عليه ذبح آل أبي بكر الفرس وأكلهم إياه بالمدينة، وهذا أشيع من نوم قوم فركن المسجد، لقلة الخيل عندهم بالمدينة في أيامه (ص) ولشدة العيش عندهم، وقلة الادام، وشدة امتزاج أهل بيت أبي بكر مع النبي (ص) ومجاورتهم له، فكيف يخفى عليه أنهم ذبحوا فرسا فأكلوه، ولا يخفى عليه نوم قوم في ركن المسجد وهو غائب عنهم، ولو صح أنه عليه السلام كان حاضرا في المسجد لامكن أن يختفي نوم من في ركن المسجد عنه، فكيف وقد صح أنه عليه السلام كان غائبا عنهم، مع أن تخصيص نومهم بأنهم كانوا قعودا لا مستندين ولا مضطجعين ولا متكئين كذب من أقدم عليه، وبالله التوفيق.
قال أبو محمد: وفي باب القول بالاخبار من كتابنا في أول الباب المذكور أشياء قاطعة من الكلام في أفعال النبي (ص) وفي الشئ يعلمه فيقر عليه، إذا
استضافت إلى ما ههنا تم الكلام في ذلك، وكرهنا تكرارها، وبالله تعالى التوفيق.
الباب العشرون الكلام في النسخ وهو الموفى عشرين قال أبو محمد علي بن أحمد: حدالنسخ أنه بيان انتهاء زمان الامر الاول فيما لا يتكرر، وأما ما علق بوقت ما، فإذا خرج ذلك الوقت، أو أدى ذلك الفعل سقط الامر به، فليس هذا نسخا، فلكان هذا نسخا، لكانت الصلاة المنسوخة إذا خرج وقتها، والصيام منسوخا، بالاحرام والحيض والصيام والحج منسوخا، وهذا ما لا يقوله أحد بالاجماع المقطوع به على ألا يسمى نسخا، يكفي من الاطالة فيه وبالله تعالى التوفيق، مع من سمى هذا نسخا، فعليه البرهان على وجوب تسميته نسخا ولا سبيل إلى وجوبه فهو باطل قال تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
قال أبو محمد: وقد قال بعض من تقدم: إن النسخ هو تأخير البيان نفسه.
قال أبو محمد: والنسخ على ما فسرناه قبل، نوع من أنواع تأخير البيان، لان تأخير البيان ينقسم قسمين: أحدهما: جماعة غير مفهومة المراد بذاتها، مثل قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * إذا جاء وقت تكليف ذلك، بيلنا الحكم المراد منا في ذلك اللفظ المجمل بلفظ آخر مفسر.
والقسم الثاني: عمل مأمور به

(4/438)


في وقت ما، وقد سبق في علم الله عز وجل أنه سيحيلنا عنه إلى غيره في وقت آخر، فإذا جاء ذلك الوقت بين لنا تعالى ما كان مستورا عنا من النقل عن ذلك العمل إلى غيره، وبالجملة فإن اسم البيان يعم جميع أحكام الشريعة كلها، لانها كلها إعلام من الله تعالى لنا، وبيان المراد منا.
فإن قال قائل: ليس النسخ من البيان، لان البيان يقع في الاخبار، والنسخ لا يقع في الاخبار، قيل له وبالله تعالى التوفيق: إننا لم نقل: إن النسخ هو البيان،
وإنما قلنا: هو نوع من أنواع البيان، فكل نسخ بيان، وليس كل بيان نسخا، فمن البيان ما يقع في الاخبار وفي الاوامر، ومنه ما يقع في الاوامر فقط، فمن هذا النوع الواقع في الاوامر، النسخ هو رفع لامر متقدم، وقد يكون أيضا بيان يقع في الاوامر ليس نسخا، لكنه تفسير لجلة، إلا أنه لا يجوز لاحد أن يحمل شيئا من البيان على أنه نسخ رافع لامر متقدم، إلا بنص جلي في ذلك أو إجماع أو برهان ضروري، على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى في باب كيفية معرفة المنسوخ من المحكم.
ألا ترى أن قوله تعالى: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * فلسنا نقول: إنه نسخ أهل الكتاب من هذا الحكم، لكنا نقول: إن المراد بقوله تعالى في هذه الآية: * (فاقتلوا المشركين) * لله - إنما هم من عدا أهل الكتاب، وبين ذلك تعالى في استثنائه أهل الكتاب في الآية الاخرى.
وهكذا قولنا في آية الرضاع، وآية قطع السارق، وقوله تعالى: * (ألف سنة إلا خمسين عاما) * فنقول بلا شك: إن الله تعالى لم يرد بذلك كل رضاعة، ولا كل سارق، ثم نسخ ذلك عن بعضهم: وكذلك قوله تعالى: * (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * فإنه تعالى لم يرد بذلك العبيد والاماء، ثم نسخ خمسين عنهم ولا ألف سنة كاملة، ثم استدرك تعالى إسقاط الخمسين عاما، لكنه تعالى أراد في كل ما ذكرناه ما بقي عندما استثنى عز وجل وخص من كل ذلك، وكذلك قولنا في قوله تعالى: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * أنه تعالى لم يرد كل ما يقع عليه اسم نسك أو صدقة، أو اسم صيام، لكن أراد ما بينه النبي (ص) في حديث لكعب بن عجرة.
فإن قال قائل: إن البيان يقع موصولا بعضه ببعض، والنسخ لا يقع موصولا،

(4/439)


فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إننا قد قلنا في هذا ما يقع فيه من أنه ليس كل
بيان نسخا، فما كان من البيان نسخا لم يقع موصولا، وما كان منه غير نسخ لكن تفسيرا لمراده تعالى في جملة ما، فجائز أن يقع موصولا، وجائز أن يقع في مكان آخر من القرآن والسنة، وبالله تعالى التوفيق.
والنسخ ينقسم في اللغة إلى قسمين: أحدهما: التعفية، تقول: انتسخت دولة فلان، ونسخت الربح أو القوم، أي عفته جملة، والقسم الثاني: تجديد الشئ وتكثير أمثاله، تقول: نسخت الكتاب نسخا كثيرة، فالقسم الاول الذي هو التعفية هو الذي قصدناه بالكلام في هذا الباب، ولم نقصد القسم الثاني، وإنما ذكرناه ليوقف عليه وليعلم أنا لا نقصده بالكلام في هذا الباب فيرتفع التخليط والاشكال إن شاء الله تعالى.
فصل في الاوامر في نسخها وإثباتها قال أبو محمد: الاوامر نسخها وإثباتها تنقسم أقساما أربعة لا خامس لها، فقسم ثبت لفظه وحكمه، وقسم ارتفع حكمه ولفظه، وقسم ارتفع لفظه وبقي حكمه، وقسم ارتفع حكمه وبقي لفظه، ففي هذه الاقسام الثلاثة الاواخر يقع النسخ، وأما القسم الذي صدرنا به فلا نسخ فيه أصلا، وأما القسم الذي ارتفع حكمه ولفظه.
فقد روينا أن رجلا قرأ آية وحفظها، ثم أراد قراءتها فلم يقدر، فشكا ذلك إلى رسول الله (ص) فأخبر عليه السلام أنها رفعت، ومن ذلك العشر الرضعات المحرمات، ومن ذلك السورة التي ذكر أبو موسى الاشعري، أنهم كانوا يقرؤونها على عهد رسول الله (ص)، وكانت في طول سورة براءة، وأنها نسيت فارتفعت من الحفاظ، إلا آية منها وهي: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.
والسورة التي ذكرها أيضا أبو موسى: أنها كانت تشبه إحدى المسبحات فنسيت، ولم يحفظ منها إلا آية ذكرها، وقد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول: * (ما ننسخ من آية أو
ننسأها نأت بخير منها أو مثلها) *، وقد روينا أن رسول الله (ص) قرأ سورة فأسقط منها آية، فلما سلم قال: أثم أبي، أو كما قال عليه السلام فأجابه فسأله رسول الله

(4/440)


(ص) عما منعه أن يلقنه الآية، فقال أبي: ظننت أنها رفعت، فقال عليه السلام: لم ترفع فهذا بيان صحة ما ذكرنا من أنه يرفع لفظ الآية جملة.
وأما القسم الذي رفع لفظه وبقي حكمه، فآية الرجم، وآية الخمس رضعات المحرمات وقد تعلل قوم في رد هذا الحديث بقول عائشة رضي الله عنها: فتوفي رسول الله (ص) وأنهما لمما يقرأ من القرآن.
قال أبو محمد: وهذا لا تعلل فيه، وإنما معناه، أنه يقرأ من القرآن الذي سقط رسمه وإثباته في المصحف، ولم تقل قط عائشة إنه من القرآن المتلو في المصحف فبطل تعللهم، وأما القسم الذي رفع حكمه وبقي لفظه، فقوله تعالى: * (فأمسكوهن في البيوت) * وقوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم) * وآي ات كثيرة جدا، وأما الذي ثبت لفظه وحكمه، فسائر الآيات المحكمات.
والاوامر الواردة بأمر رسول الله (ص) منقسمة على الاقسام الاربعة التي ذكرنا أيضا، ولا يظن ظان أن قولنا هذا معارض لقولنا: إنه ليس له عليه السلام لفظ إلا قد بلغ إلينا، فإننا إنما نفينا بقولنا هذا أن يكون له عليه السلام لفظ لم ينسخ حكمه، فيسقط فلا يبلغ إلينا لا لفظه ولا حكمه.
فهذا الذي نفينا جملة بقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * وبقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * وبقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * والحفظ يكون بتبليغ المعنى، فكل حكم نقل إلينا كيفية فعله (ص) فيه، وصفة حكمه ولم ينقل إلينا نص لفظه في ذلك، فهو مما ارتفع لفظه وبقي حكمه، وذلك نحو ما روي
من قسمه عليه السلام مال البحرين وحكمه بالتمييز مع الشاهد، ومساقاته ومزارعته أهل خيبر، وما أشبه ذلك، فهذا لا بد من أنه قد كان له من ذلك لفظ إلا أنه لم ينقل، ونقل الحكم فهم بمنزلة ما ذكرنا أنه رفع لفظه من التلاوة وبقي حكمه ولا فرق، وكل ذلك وحي من الله تعالى، وأما المنسوخ لفظه وحكمه، فمرفوع عنا علمه وتتبعه وطلبه.

(4/441)


فصل في رد المؤلف على القائلين قال أبو محمد: قال بعض القائلين - وقد ذكر النسخ وارتفاع اللفظ المنسوخ فقال: وهذا وجه من وجوه الحكمة، يجوز أن يكون علم الله تعالى أن يرفع هذا اللفظ يصلح ما لا يصلح ببقائه، وذلك أنه إذا رفع تعالى الكل فقد علم أننا سنقبل على الامر الناسخ، ولا تتداخلنا فيه الشكوك، لان الله تعالى علم أن سيكون قوم من خلقه يبطلون النسخ، فكانوا يضلون ببقاء اللفظ المنسوخ فرفعه لهذا المعنى.
قال أبو محمد: وهذا من أفسد قول في الارض وأ سقطه، ويقال لمن قال بهذا الهجر: أكان الله تعالى غير قادر من وجوه الصلاح على أكثر من أن يرفع بعض كلامه لئلا يضل به قوم من خلقه ؟ أو كان قادرا على أن يكفيهم هذه المؤنة كلها، ويهديهم بأن يبين لهم المنسوخ بيانا جليا يرفع به عنهم الشكوك والحيرة ؟ فإن قال: لم يقدر الله تعالى على أكثر، كفر ووصف نفسه من القدرة بأكثر مما وصف به خالقه عز وجل لانه دائبا يشرح بزعمه، ويبين ليهدي الناس فيما يدعي، وإن قال: بل إنه تعالى قادر على ما ذكرت، قيل له: فقد فعل ما غيره أصلح لهم منه، وهذا ضد مذهبك الفاسد.
ويقال له أيضا: إذا كانت الحكمة عندك رفع لفظ بعض المنسوخ جملة، لئلا يضل به قوم، فلاي شئ أبقى تعالى لفظا آخر منسوخا حتى ضل به جماعة أنت
أحدهم ؟ في أشياء كثيرة تدعي أنت فيها النسخ ويخالفك فيها غيرك، وأشياء كثيرة تدعي أنت أنها غير منسوخة ويدعي غيرك فيها النسخ، فأين تلك الحكمة التي تطالب بها ربك تعالى ؟ وما الذي جعل رفع ما رفع أولى بالرفع من المنسوخ الذي أبقي لفظه، حتى تحيرت فيه طوائف من أهل الملة ؟ وما الذي جعل إبقاء ما أبقي لفظه المنسوخ أولى بالابقاء مما رفع لفظه من المنسوخ ؟ وما الذي أوجب نقض الحكم بما كان أمس فرضا ثم حرم اليوم، أو ما كان حراما أمس ثم أبيح اليوم ؟ وهل هذا هنا حال استحالت أو طبيعة انتقضت، فأوجب ذلك تبديل الشرائع، إن هذا لهو الضلا البعيد، والغناء الشديد، والجهل المظلم، والقحة الزائدة، وما

(4/442)


ههنا شئ أصلا إلا أن الله تعالى أراد أن يحرم علينا بعض ما خلق مدة ما، ثم أراد تعالى أن يبيحه وأراد أن يبيح لنا بعض ما خلق مدة ما، ثم أراد تعالى أن يحرمه علينا ولا علة لشئ من ذلك كما لا علة لبعثه محمدا عليه الصلاة والسلام في العصر الذي بعثه، دون أن يبعثه في العصر الذي كان قبله، وكما لا علة لكون الصلوات خمسا، دون أن تكون ثلاثا أو سبعا.
فصل في قول الله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسأها نأتى بخير منها أو مثلها) * قال أبو محمد: قال الله تعالى: وقد قرئ أو ننسها، ومعنى اللفظين مختلف، فالنسخ قد بينا معناه وهو رفع الحكم، وأما ننسها فمعناه من النسيان وهو رفع اللفظ جملة، وأما ننسأها فهو من التأخير، ومعناه أن يؤخر العمل بها إلى مدة معلومة، ويفعل الله من كل ذلك ما شاء لا معقب لحكمه.
فصل في اختلا ف الناس على النسخ اختلف الناس في النسخ على ما يقع، أعلى الامر أم على المأمو به ؟
قال أبو محمد: والصحيح من ذلك أن النسخ إنما يقع على الامر، ولا يجوز أن يقع على المأمور به أصلا، لان المأمور به هو فعلنا، وفعلنا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون قد وقع منا بعد، وإما أن يكون لم يقع منا بعد، فإن كان قد وقع منا بعد فقد فني، لان أفعالنا أعراض فانية، ولا يجوز أن ينهى عما قد فني، إذ لا سبيل إلى عودته أبدا.
وكذلك لا يجوز أن يؤمر أيضا بما قد فني، لانه لا يجوز أن يعود أيضا ولا أن يباح لنا ما قد فني أيضا، لان كل هذا محال، وإن كان لم يقع منا، فكيف ينسخ شئ لم يكن بعد، فصح أن المرفوع إنما هو الامر المتقدم، لا الفعل الذي لم تفعله بعد، فإذا قد صح أن الامر هو المرفوع فهو المنسوخ، والنسخ إنما يقع في الآمر لا في الامر ولا في المأمور به.
وبالله تعالى التوفيق.
وبرهان ما ذكرناه قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسأها) * فأخبر تعالى أن الآية هي المنسوخة لا أفعالنا المأمور بها، والمنهي عنها والآية هي الامر الوارد

(4/443)


من قبله تعالى، بإيجاب ما أوجب أو تحريم ما حرم.
وأما المأمور به فهي حركاتنا وأعمالنا من صلاة وصيام وإقامة حد وغير ذلك، فصح ما ذكرنا نصا، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في وقد تشكك قوم في معاني النسخ وقد تشكك قوم في معاني النسخ والتخصيص والاستثناء، فقوم جعلوها كلها نوعا واحدا.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لان النسخ هو رفع حكم قد كان حقا، وسواء عرفنا أنه سيرفع عنها أو لم نعرف بذلك وقد أعلم الله تعالى موسى وعيسى عليهما السلام أنه سيبعث نبيا يسمى محمدا بشرائع مخالفة لشرائعهما، فهذا نسخ قد علمنا به،
وأما التخصيص: فهو أن يخص شخص أو أشخاص من سائر النوع، كما خص عليه السلام بفرض التهجد، وإباحة تسع نسوة وكما خص أبو هاشم وبنو المطلب بتحريم الصدقة، وأبو بردة تجزئ عنه الجزعة في الاضحية.
وأما الاستثناء: فهو ما جاء بلفظ عام، ثم استثني منه بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ.
كقوله تعالى: * (إلا على أزواجهم) * وما أشبه ذلك.
إلا أن التخصيص إذا حقق فيه النظر فهو استثناء صحيح، والفرق بين النسخ والاستثناء هو أن الجملة المستثنى منها بعضها، ولم يرد قط تعالى إلزامنا إياها بعمومها، ولا أراد إلا ما بقي منها بعد الاستثناء.
وأما النسخ: فالذي نهينا عنه اليوم قد كان مراد منا بالامس بخلاف الاستثناء.
وبالله تعالى التوفيق.
فإن قاقائل: إن النسخ استثناء الزمان الثاني من إطلاق الفعل على التأييد، قيل له وبالله تعالى التوفيق: ليس هذا مما نجعله مع الاستثناء المطلق نوعا واحدا لما ذكرنا من أن المستثنى لم يرد قط منا بوجه من الوجوه، وأن المنسوخ قد كلفناه، هذا فرق ظاهر بين، فإن كان هذا المخالف يريد أن يقول: إن النسخ نوع من أنواع الاستثناء، لان استثناء زمان تخصيصه بالعمل سائر الازمان لم نأب عليه ذلك، ويكون حينئذ صواب القول: إن كل نسخ استثناء وليس كل استثناء نسخا.
وهذا صحيح.

(4/444)


فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه قال أبو محمد: أنكر بعض اليهود النسخ جملة، وقد تكلمنا في هذا في كتابنا الموسوم بالفصل ونعيد ههنا منا ما يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
فنقول وبالله تعالى التوفيق:
إن منكري النسخ قالوا: ليس من الحكمة أن يأمر الله تعالى بشئ أمس ثم ينهى عن مثله اليوم، وهذا من نظائر قول أصحابنا بالعلل، وهؤلاء قوم يتعقبون على ربهم تعالى، فيقال لهم: أخبرونا أي حكمة وجبت عليه تعالى أن يأمر أمس بما أمر به ؟ أترى لو لم يأمر تعالى بما أمر به لكانت تبطل حكمته ؟ أو لو أمر بغير ما أمر به لكانت تبطل حكمته ؟ أو ترون إذ قدس الارض المقدسة، ولعن أريحا، ولعن أورشليم أكان ذلك مفسدا لحكمته ؟ وإذ حظر العمل في السبت وأباحه في الاحد، أرأيتم لو عكس الامر أكان ذلك مبطلا لحكمته ؟ فإن راموا فرقا بين شئ من ذلك لحقوا بالمجانين، وجاهروا بما لا يفهم وبما يعلم بطلانه.
ثم يقال لهم: أليس الله تعالى قد ملك قوما من الكفار العصاة الظلمة ومكنهم وأذل قوما من الكفار العصاة الظلمة وملك غيرهم رقابهم، وملك قوما صالحين فضلاء مؤمنين، ومكنهم وبسط أيديهم، وأذل قوما صالحين فضلاء مؤمنين وملك غيرهم رقابهم، ومد أعمار قوم كفار طغاة، واخترم آخرين منهم قبل بلوغ الاكتهال، وفعل مثل ذلك بقوم مؤمنين أفاضل، ومكن قوما عصاة مردة من البيان والكلام في العلوم حتى أضلوا أمما من الخلق، وجعل آخرين منهم بلداء أغبياء، وفعل مثل ذلك أيضا بالمؤمنين سواء بسواء، فما الذي جعل هذا حكمه دون عكس كل ذلك ؟ وما الفرق بين هذا من أفعاله تعالى وبين أن يأمر اليوم بأمر ثم ينهى عن مثله غدا ؟ وما يفرق بين كل ما ذكر إلا عديم عقل أو وقح سخيف.
فإن قالوا: إن هذا هو البداء لزمهم مثل ذلك في كل ما ذكرنا آنفا، وفي إحيائه من يحيي ثم إماتته، وفي إغنائه من يغني ثم إفقاره وفي تصحيحه جسم من يرزقه العافية ثم يمرضه، وفي الهرم بعد الفتوة.

(4/445)


فإن قال قائل: ما الفرق بين البداء والنسخ ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: الفرق بينهما لائح، وهو أن البداء هو أن يأمر بالامر والامر لا يدري ما يؤول إليه الحال، والنسخ هو أن يأمر بالامر والامر يدري أنه سيحيله في وقت كذا ولا بد، قد سبق ذلك في عمله وحتمه من قضائه، فلما كان هذان الوجهان معنيين متغايرين مختلفين، وجب ضرورة أن يعلق على كل واحد منها اسم يعبر به عنه غير اسم الآخر ليقع التفاهم، ويلوح الحق، فالبداء ليس من صفات الباري تعالى، ولسنا نعني الباء والدال والالف، وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أن يأمر بالامر لا يدري ما عاقبته، فهذا مبعد من الله عز وجل، وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا، وأما النسخ فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها، وهو القضاء بالامر قد علم أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده عز وجل، كما سبق في علمه تعالى.
ولسنا نكابر على النون والسين والخاء، وإنما نعني المعنى الذي بينا، وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا من الاسماء، ولكن اسمه عند النسخ، وبهذه العبارة نعبر عن هذا المعنى الذي لا يخلو الله تعالى فعل منه أصلا في دار الابتلاء، وكل شئ منها كائن فاسد، وهذا هو النسخ، وهو نوع من أنواع الكون والفساد الجاريين في طبيعة العالم بتقدير خالقه ومخترعه ومدبره ومتممه لا إله إلا هو.
واسم الصفة الاولى عندنا البداء فيها، يعبر عن هذا المعنى الذي هو من صفات المختارين من الانس والجن وسائر الحيوان، وهخلق مذموم، لانه نتيجة الملل والندم والسآمة، وهذه الاخلاق منفية عن الملائكة بنص القرآن، فكيف عن الباري تعالى فهذا فرق ما بين البداء والنسخ قد لاح، والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم.
قال أبو محمد: والنسخ قبل حلول الوقت الذي علم الله عز وجل أنه يحيل فيه الحال ممتنع في الوجود، لا في قدرته تعالى على ذلك، وهو عندنا في ظاهر الامر ممكن.
قال أبو محمد: وهو في وقت حلوله وبلوغ أمده الذي قدره تعالى كائنا فيه واجب وهو - بعد أن علمنا الله عز وجل أنه لا نبي بعمحمد (ص) - ممتنع لا سبيل

(4/446)


إليه في الوجود، لا على معنى أنه تعالى لا يوصف بالقدرة على ذلك - بل نعوذ بالله من الفكر في هذا أو التشكيك - بل هو عز وجل قادر الآن وأبدا على أن يبعث نبيا آخر بدين آخر، ولكنه أخبرنا أنه لا يفعل ذلك، مريدا لتركه وقوله الحق، فعلمنا أن كون ما لا يريد تعالى كونه، ممتنع أن يكوأبدا.
ويقال لمن أبى النسخ: ما الفرق بين أن يأمرنا الله بشئ في وقت ما، ويبينه لنا، ويعلمنا أنه إذا أتى وقت كذا وجب الانتقال إلى شئ آخر، وبين أن يأمرنا ولا يعلمنا أنه سينقلنا إلى شئ آخر ؟ وهذا ما لا سبيل إلى وجود فرق فيه أبدا لذي تمييز وعقل، لانه ليس لنا على الله تعالى شرط، ولا عليه أن يطلعنا على علمه، ولا يتقمن مسارنا، ولا أن يأخذ آراءنا في شئ، ومدعي هذا ملحد في دين الله عز وجل، كافر به مفتر عليه، وقد نص تعالى على ذلك بقوله تعالى: * (ولا يحيتون بشئ من علمه الا بما شاء) * وبقوله عز وجل: * (فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) * وهذا ما لا يخالفنا فيه إلا بعض اليهود، وأما أهل الاسلام فكلهم يجيزون النسخ، إلا بعض من منع من هذه اللفظة وأجاز المعنى، وهذا ما لا ننازعه فيه إذا سلم لنا الصفة المسماة، فلسنا ممن يشتغل بالاسم إلا حيث أوجب ذلك النص.
وأما اليهود: فغير منكر من شدة جهلهم وضعف عقولهم، وعظيم بهتهم
وكذبهم وتناقض أقوالهم وصلابة وجوههم، ورخاوة قلوبهم وفر غيظهم على ربهم عز وجل، إذا أحل بهم من البلاء والذل والمهانة والخسة ما أحل، أن يدعوا أن لهم على ربهم شروطا أكثر من هذا، فهم يدعون لكلب من أخبارهم يسمى إشماعيل، لعنة الله عليه وعليهم أن الله - تعالى عما يقول اليهود المشركون علوا كبيرا - تعلق في خرب بيت المقدس بثياب إشماعيل، وهو يعنون ربهم - يبكي ويئن كما تئن الحمامة، وأنهم يعنون ربهم رغب إلى إشماعيل هذا الرذل أن يبا رك عليه.
بمعنى أن ربهم طلب من إشماعيل البركة، فمن كان ربه عنده في

(4/447)


نصاب من يطلب بركة إشماعيل لنفسه غير منكر أن يسفهوه فيما أحبوا، وهذه صفة جني لعب بعقولهم وسخر منهم، لا صفة الباري تعالى عز وجل، على أنه قد بين لهم في التوراة أمر رسول الله (ص) وأنذروا به.
فصح بذلك أن شريعتهم إنما علقت لهم بشرط ما لم يأت النبي (ص) المنتظر، الذي هو رجاء الامم، والذي يستعلي من جبار فاران، ومعه ألوف من الصالحين، والذي يجعل الله تعالى كلامه في فمه، ومن عصاه انتقم منه، فصار ذلك بمنزلة ما أمروا به من العمل في التيه بأوامر ما، وفي البيت والشام بأوامر أخر، ومثله ما أمروا به من العمل في غير السبت، ثم تحريم العمل في السبت، وبمنزلة صيام وقت ما، والمنع منه في وقت آخر، ومثل إباحة الوطئ في وقت ما، وتحريمه في وقت الحيض وسائر الشرائع المرتبطة بأوقات ما، فإذا عدمت تلك الاوقات انتقل حكم تلك الشرائع، وكل ذلك لا علة له ولا شئ يوجبه أصلا، لا مصلحة ولا غيرها، إلا أنه تعالى أراد ذلك، كما أراد خلق ما خلق من الخلائق المختلفات فقط، وبالله تعالى التوفيق.
فكيف وفي توراتهم أن الله تعالى أباح لآدم وبنيه أكل حيوان حاشا الدم، وهذا خلاف شريعة موسى عليه السلام فقد صح النسخ عندهم.
فصل فيما يجوز النسخ فيه وفيما لا يجوز فيه النسخ قال أبو محمد: النسخ لا يجوز إلا في الكلام الذي معناه الامر أو النهي، وقد بينا في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب لحدود المنطق: أن الكلام كله ينقسم أربعة أقسام: أمر ورغبة وخبر واستفهام، فالاستفهام والخبر والرغبة لا يقع فيها نسخ، وإنما يسمى الرجوع عن الخبر وعن الاستفهام استدراكا، فكل ذلك منفي عن الله عز وجل، لان الرجوع عنهما إنما هو تكذيب للخبر المرجوع عنه، ومعرفة وكراهية لما رجع عن الاستفهام عنه لعرض حدث أو لعلم بشئ كان يجهل.
وأما الرجوع عن الرغبة فإنما يسمى استقالة أو تنزها عما انحط إليه قبل ذلك، وقد قدمنا أن المعاني إذا اختلفت فواجب أن يخالف بين أسمائها، لئلا يقع الاشكال، وليلوح البيان، ويصح الفهم والافهام، فبقي الرجوع عن الامر بإحداث أمر غيره فيسمى نسخا، وهو فعل من علم أن سيرفع أمره ويحيله.
فإذا ورد الكلام لفظه لفظ الخبر،

(4/448)


ومعناه معنى الامر، جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) * وفي هذا تو جدمنا المعصية مثل قوله تعالى: * (مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) * فإنما هذا أمر لنا بأن نؤمن كل من دخل مقام إبراهيم، وليس هذا خبرا، ولو كان خبرا لكان كذبا لانه قد قتل الناس حوله ظلما وعدوانا.
قال أبو محمد: وموجود في كل لغة أن يرد الامر بلفظ الخبر، وبلفظ الاستفهام كقول القائل لعبده: أتفعل أمر كذا، أو ترى ما يحل بك ؟ وإنما ذلك أن الخبر عن الشئ إيجاب لما يخبر به عنه، والامر إيجاب لفعل المأمور به، فهذا اشتراك بين صيغة الخبر وصيغة الامر، فإذا قال قائل: حق عليك القيام إلى زيد، فهذا خبر صحيح البنية، معناه قم إلى زيد.
وكذلك قوله تعالى: * (ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا) * معناه ليحج الناس منكم من استطاع، وكذلك إذا قال القائل: قد أوجبت عليك القيام إلى زيد، فهذا خبر صحيح البنية، معناه قم إلى زيد، وكذلك قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * معناه صوموا، فما كان من الاخبار هكذا فالنسخ فيها جائز، وأما ما كان خبرا مجردا مثل: قام زيد وهذا عمرو، ووقع أمس خطب كذا، وزيد الآن قائم، وغدا يكون أمر كذا، فهو لا يجوز النسخ فيه البتة، لانه تكذيب لهذا الخبر والله تعالى منزه عن الكذب بإخباره تعالى أن قوله الحق، وبقوله تعالى: * (فالحق والحق أقول) * وهو موصوف بأنه ينسخ ويحيل ويبدل الامور بقوله تعالى: * (يمحو الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب) * وبقوله تعالى: * (تؤنى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء ونذل من تشاء) * وبقوله تعالى: * (يض من يشاء ويهدى من يشاء) * بإخباره تعالى أنه كل يوم في شأن وقد اختلف أ صحابنا في بعض الاوامر، أيجوز فيها النسخ أم لا، فقالوا: كل ما علم بالعقل فيجوز أن ينسخ مثل التوحيد وشبهه.
قال أبو محمد: وهذا فاسد من القول، لانه مجمل لما لا يجوز مع ما لا يجوز ولكن يسأل قائل هذا القول، فيقال: ما أردت بقولك لا يجوز نسخ التوحيد ؟ فإن كنت تريد أنه بعد أن أعلمنا الله تعالى أنه لا ينسخ هذا الدين أبدا لا يجوز تبديله،

(4/449)


وإن كنت تريد أنه لما سلف في سابق علم الله تعالى أنه لا ينسخه أبدا، علمنا أنه لا يجوز نسخه فنعم، هذا قوله صحيح، وهكذا إباحة الكبش، وتحريم الخنزير، وجميع شرائع الملة الحنيفة المستقرة، لا يجوز نسخ شئ منها أبدا، ولا فرق بين التوحيد وسائر الشرائع في ذلك البتة.
وإن كنت تريد أنه تعالى غير قادر على نسخ التوحيد، أو أنه تعالى قادر على
نسخه، والامر بالتثنية أو التثليث، إلا أنه لو فعل ذلك لكان ظلما وعبثا، فاعلم أنك مخطئ ومفتر على الله تعالى، لانك معجز له متحكم عليه، وقاض بأنك مدبر لخالقك عز وجل، وموقع له تحت رتب وقوانين بعقلك إن خالفها عبث وظلم.
وهذا كلام يؤول إلى الكفر المجرد، والشرك المحض، مع عظيم ما فيه من الجهل والجنون.
بل نقول: إن الله عز وجل قادر على أن ينسخ التوحيد، وعلى أن يأمر بالتثنية والتثليث وعبادة الاوثان، وأنه تعالى لو فعل ذلك لكان حكمة وعدلا وحقا، ولكان التوحيد كفرا وظلما وعبثا، ولكنه تعالى لا يفعل ذلك أبدا، لانه قد أخبرنا أن لا يحيل دينه الذي أمرنا به، فلما أمنا ذلك صار ما تبرأ الله منه كفرا وظلما وعبثا، وصار ما أمر به حقا وعدلا وحكمة فقط.
وليس اعتقادنا التوحيد حقا ولا حكمة بذاته، دون أن يكون لله فيه أمر، ولكن إنما صار حقا وعدلا وحكمة، لان الله تعالى أمر به ورضيه، وسماه حقا وعدلا وحكمة فقط.
فهذا دين الله عز وجل الذي نص عليه بأن يفعل ما يشاء وأنه: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * وأنه لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء، وهذا هو القول الذي دلت العقول على صحته وبطلان ما عداه لان العقل يشهد أن الله تعالى خلقه، وأنه كان تعالى حقا واحدا أولا، إذ لا نفس حيوانية ولا عقل مركب فيها ولا في غيرها، ولا جوهر ولا عرض، ولا عدد ولا معدود

(4/450)


ولا رتبة من الرتب، وأنه تعالى خلق النفوس بعد أن لم تكن، وخلق العقول على ما هي عليه بعد أن لم تكن، ورتب فيها الرتب على ما هي عليه بعد أن لم يكن شئ منها، وأنه لو شاء أن يخلق العقول على غير ما هي عليه، وأن يرتب الامور فيها على خلاف ما رتبها لفعله، ولما تعذر ذلك عليه ولكان حينئذ هو الحق والعدل والحكمة، وما عداه الظلم والجور والعبث، لا معقب لحكمه.
ومن ادعى غير هذا، فقد ادعى أن رتبة العقل المجهول في النفس كانت موجودة، إذ لا عقل ولا نفس، وهذا عين التناقض والخبال والخلف والمحال، ومن أنار الله تعالى عقله وسيره لان يستضئ به، وتصور له حدوث العالم بعد أن لم يكن، أشرف على صحة ما ذكرناه وأيقنه وشاهده وعلمه ضرورة، ولم يكن عنه له محيد أصلا، ومن أصحب الله تعالى نفسه والحيرة، وتمييزه الضعف، تحير وتصور الامور بخلاف ما هي عليه، ولم يخرج إلى طرف وظن الظنون المردية، ولله تعالى الحمد على ما علم وهدى، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
قال أبو محمد: ومن بديع ما قطع أصحابنا على أنه لا يجوز نسخه، شكر المنعم، وأن كفر المنعم لا سبيل إلى إباحته في العقل أصلا.
قال أبو محمد: فنسأل قائل هذا القول الفاسد فنقول له: ما تقول في رجل استنقذ طفلا قد أشرف الاسد على افتراسه فرباه ولا أب له ولا أم ولا مال فأحسن تربيته، ثم علمه العلوم وأكرمه وبره ولم يذله، ولا استخدمه، وموله وزوجه وخوله، ثم إن ذلك المحسن إليه زنى وهو محصن، وسرق وقذف، ثم تاب من كل ذلك وتعبد، ثم قامت عليه بذلك بينة عدل، وقدم إلى يتيمه - وهو بعد حاكم من حكام المسلمين، فما ترى أن يفعل فيه أيشكر فيعفو عنه ولا سيما وقد تاب ؟ أو يأمر بأن يوجع متناه بالسياط، ثم يقطع يده، ثم يأمر بشدخ هامته بالحجارة حتى يموت ؟ فإن قال: أرى أن يعفو عنه، كفر إن اعتقد ذلك أو فسق إن أشار بذلك غير معتقد له، وإن قال: أرى أن يوقع به أنواع العذاب الذي ذكرنا فقد ترك مذهبه الفاسد في ألا يكفر إحسان المنعم.
فإن قال: إن هذا الفعل هو شكره على الحقيقة.
قال خلاف ما ادعى أن العقل يوجبه، وسمى غاية الاساءة إحسانا، فإن رجع إلى أن يقول: إنما يحسن في العقول شكر المنعم

(4/451)


الذي أمر الله تعالى بشكره، لا شكر المنعم الذي أمر الله تعالى بالاضرار به، وألا يقارض على إحسانه، رجع إلى الحق، وإلى أنه لا حسن إلا ما فعل الله تعالى، ولا قبيح إلا ما نهى الله عنه وهذا الذي لا يجوز غيره.
والعجب من ذهاب هؤلاء القوم عن نور الحق في هذه المسألة، وهم يسمعون الله تعالى يقول: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبآءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) * وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين) * فأوجب تعالى القيام عليهم بمر الحق، وإن أدى إلى صلبهم وقتلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وأعضائهم، وضربهم بالسياط، وشدخهم بالحجارة، وهتك أستارهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وبيع أملاكهم وبيعهم مماليك وأخذ أموالهم، وإن كانوا آباءنا المحسنين إلينا إذا كفروا، فأين شكر المنعم، وبر الاب على الاطلاق ؟ وهذا كله محال.
وإنما الذي يجب فهو بر الوالدين الابوين الذين أوجب الله برهما، وإنما الذي يجب أيضا فهو شكر المنعم الذي أمر الله بشكره، ولم يأمرنا الله تعالى ببر الوالدين لما وجب برهما ولا عقوقهما، ولو لم يأمرنا بشكر المنعم لما لزم شكره ولا كفره، كما لا يلزم بر الوالدين الحربيين أو المحاربين، وكذلك المنعم الحربي

(4/452)


أو المحارب، ولو لم يأمرنا بالرحمة لما وجبت أيضا.
كما أننا نضجع الخروف الصغير ونذبحه ونطبخ لحمه ونأكله ونفعل ذلك أيضا بالفصيل الصغير، ونثكل أمه إياه، ونولد عليها من الحنين والوله أمرا ترق قلوب سامعيه له، وتؤلم نفوس
مشاهديها، وقد شاهدنا كيف خوار البقر وفعلها إذا وجدت دم ثور قد ذبح، وكل هذا حلال بلا مأمور به ويكفر من لم يستحله، ويجب بذلك سفك دمه، فأي فرق في العقول بين هذا وبين ذبح صبي آدمي لو أبيح لنا ذلك ؟ وقد جاء في بعض الشرائع أن موسى عليه السلام أمر في أهل مدين إذا حاربهم بقتل جميع أطفالهم أولهم عن آخرهم من الذكور، وقد سئل رسول الله (ص) عن أطفال المشركين يصابون في البيات، فقال: هم من آبائهم فهل في هذا كله شئ غير الامور الواردة من الله عز وجل ؟ وقد قال قوم: إذا جاء أمر بشريعة ما، وجاء على فعلها وعد وعلى تركها وعيد ثم نسخ ذلك الامر، فقد نسخ الوعد والوعيد عليه.
قال أبو محمد: فيقال له وبالله تعالى التوفيق: لم ينسخ الوعد ولا الوعيد لانهما إنما كانا متعلقين بثبا ت ذلك الامر لا على الاطلاق، وإنما يصح النسخ فيها لو بقي ذلك الامر بحبسه، ثم يأت خبر بإسقاط ذلك الوعيد، وهذا ما لا سبيل إليه بعد ورود الخبر به.
ولا نسخ في الوعد ولا في الوعيد البتة، لانه كان يكون كذبا وإخلافا وقد تنزه الله تعالى عن ذلك، ولكن الآيات والاحاديث الواردة في ذلك مضموم بعضها إلى بعض، ولا يجوز أن نقتصر منها على بعض دون بعض، على ما بينا في كتاب الفصل، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد غلط قوم غلطا شديدا، وأتوا بأخبار ولدها الكاذبون والملحدون، منها أن الداجن أكل صحيفة فيها آية متلوة فذهب البتة، ومنها أن قرآنا أخذه عثمان بشهادة رجلين، وشهادة واحدة، ومنها أن قراءات كانت على عهد رسول الله (ص) أسقطها عثمان، وجمع الناس على قراءة واحدة.
قال أبو محمد: وهذا كله ضلال نعوذ بالله منه ومن اعتقاده، وأما الذي لا يحل اعتقاد سواه فهو قول الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * فمن
شك في هذا كفر، ولقد أساء الثناء على أمهات المؤمنين ووصفهن بتضييع

(4/453)


ما يتلى في بيوتهن، حتى تأكله الشاة فيتلف، مع أن هذا كذب ظاهر، ومحال ممتنع، لان الذي أكل الداجن لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون رسول الله (ص) حافظا له، أو كان قد أنسيه، فإن كان في حفظه فسواء أكل الدواجن الصحيفة أو تركها، وإن كان رسول الله (ص) قد أنسيه فسواء أكله الداجن أو تركه قد رفع من القرآن، فلا يحل إثباته فيه كما قال تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) *.
فنص تعالى على أنه لا ينسى أصلا شيئا من القرآن إلا ما أراد تعالى رفعه بإنسائه.
فصح أن حديث الداجن إفك وكذب وفرية، ولعن الله من جوز هذا أو صدق به، بل كل ما رفعه الله تعالى من القرآن فإنما رفعه في حياة النبي (ص)، قاصدا إلى رفعه، ناهيا عن تلاوته إن كان غير منسي، أو ممحوا من الصدور كلها، ولا سبيل إلى كون شئ من ذلك، بعد موت رسول الله (ص)، ولا يجيز هذا مسلم، لانه تكذيب لقوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * ولكان ذلك أيضا تكذيبا لقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * ولكان ما يرفع منه بعد مو ت رسول الله (ص) خرما في الدين ونقصا منه، وإبطالا للكمال المضمون، ولكان ذلك مبطلا لهذه الفضيلة التي خصصنا بها، والفضائل لا تنسخ والحمد لله رب العالمين.
وأما فعل عثمان رضي الله عنه: فلم يمت رسول الله (ص) إلا والقرآن مجموع كما هو مرتب، لا مزيد فيه ولا نقص ولا تبديل، والقراءات التي كانت على عهد رسول الله (ص) باقية كلها كما كانت، لم يسقط منها شئ، ولا يحل حظر شئ منها قل أو كثر.
قال الله تعالى: * (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) * ولبيانه هذا وتقصي الكلام
فيه مكانه من باب الاجماع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: وقد قال قوم في آية الرجم: إنها لم تكن قرآنا، وفي آيات الرضعات كذلك.
قال أبو محمد: ونحلا نأبى هذا، ولا نقطع أنها كانت قرآنا متلوا في الصلوات، ولكنا نقول: إنهكانت وحيا أوحاه الله تعالى إلى نبيه (ص) مع

(4/454)


ما أوحى إليه من القرآن، فقر المتلو مثبوتا في المصاحف والصلوات، وقرئ سائر الوحي منقولا محفوظا معمولا به، كسائر كلامه الذي هو وحي فقط، ولسنا ننكر رفع آيات في عهد رسول الله (ص) من الصدور جملة، لقوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) * ولا نجيز ذلك بعد موته لقوله تعالى: * (نأت بخير منها أو مثلها) * فإنما اشترط الله تعالى لنا رفعها معلقا بأن يأتينا بخير منها أو مثلها، وهذا ما لا سبيل إليه بعد وفاة رسول الله (ص)، لان الاتيان بآية بعده لاسبيل إليه، إذ قد انقطع الوحي بموته، ومن أجاز ذلك فقد أجاز كون النبوة بعده، ومن أجاز ذلك فقد كفر وحل دمه وماله، ولا سبيل إلى أن ينسى عليه السلام شئ من القرآن قبل أن يبلغه، فإذا بلغه وحفظه للناس فلسنا ننكر أن ينساه عليه السلام، لانه بعد محفوظ مثبت، وقد جاء مثل ذلك في خبر صحيح، أنه سمع رجلا يتلو القرآن فدعا له بالرحمة، وأخبر عليه السلام أنه أذكره آية كان نسيها، ولانه قبلغه كما أمر.
كما حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالا: ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، أن النبي (ص) سمع رجلا يقرأ من الليل فقال: رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت اسقطتها من سورة كذا وكذا
ورواه عبدة وأبو معاوية عن هشام: أذكرني آية كنت أنسيتها.
فصل هل يجوز نسخ الناسخ قال أبو محمد: ولا فرق بين أن ينسخ تعالى حكما بغيره، وبين أن ينسخ ذلك الثاني بثالث، وذلك الثالث برابع، وهكذا كل ما زاد كل ذلك ممكن إذا وجد برهان على صحته، وقد جاء في بعض الآثار، أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فكان عاشوراء فرضا، ثم نسخ فرضه بصيام رمضان، بشرط أن من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا وأفطر هو، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصيام على الحاضر المطيق الصحيح البالغ العاقل، وكان من نام لا يحل له الاكل ولا الوطئ، ثم نسخ ذلك بإباحة كل ذلك في الليل والحظر لصيام الليل

(4/455)


إلى الفجر، وقد أوردنا في كتاب النكاح من ديواننا الكبير المسمى بالايصال - بأصح أسانيد - أن نكاح المتعة أباحه الله تعالى، ثم نسخه، ثم أباحه ثم نسخه، ثم أباحه ثم نسخه إلى يوم القيامة.
فصل في مناقل النسخ قال أبو محمد: مراتب الاوامر في الشريعة كلها خمسة لا سادس لها، وهي: حرام: وهو الطرف الواحد، وفرض: وهو الطرف الثاني، وبين هذين الطرفين ثلاث مراتب، فيلي الحرام مرتبة الكراهة، وهي الاشياء التي تركها خير من فعلها إلا أن من تركها أجر، ومن فعلها لم يأثم وذلك نحو الاكل متكئا، والتمسح من الغسل في ثوب معد لذلك، وما أشبه ذلك.
ويلي مرتبة الفرض مرتبة الندب، وهي الاشياء التي فعلها خير من تركها، إلا أن من فعلها أجر، ومن تركها غير راغب عنها لم يأثم وفي هذا الباب يدخل التطوع كله بأفعال الخير وبين هاتين المرتبتين مرتبة المباح المطلق، وهو ما تركه
وفعله سواء، إن فعله لم يؤجر ولم يأثم، وإن تركه لم يؤجر ولم يأثم، كجلوس الانسان مربعا أو مرفوع الركبة الواحدة، وصباغة ثوبه أخضر أو أسود، وحسه الشئ بيده وما أشبه ذلك، فإذا نسخ الفرض نظر، فإن كان بلفظ لا تفعل بعد أن أمرنا بفعله فهو منتقل إلى التحريم، لان هذه صيغة للتحريم.
وإن نسخ بأن قال: * (لا جناح عليكم) * أو بلفظ تخفيف، أو بترك أو بفعل، لم ينتقل إلا إلى أقرب المراتب وهو الندب، وذلك مثل صيام عاشوراء، فإنه لما نسخ وجوبه انتقل إلى الندب، وكذلك إن نسخ التحريم فإن كان نسخه بلفظ * (افعل) * انتقل إلى الفرض، لان هذه صيغة الفرض وإن نسخ * (بلا جناح) * أو بتخفيف، انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة، أو الندب بلفظ * (افعل) * انتقلا إلى الفرض.
فإن نسخا بلفظ * (لا تفعل) * انتقلا إلى التحريم، فإن نسخا بتخفيف، انتقلا إلى الاباحة المطلقة، لان الاباحة أقرب إليهما من الفرض والتحريم، لان المكروه والمندوب إليه مباحان، ولكنهما معلقان بشرط كما ترى، وقد نسخ تحريم وطئ النساء بعد النوم في ليالي

(4/456)


الصوم إلا الاباحة بالندب، ونسخ المنع من القتال بإيجابه ونسخ فرض استقبال بيت المقدس بالتحريم، وقد نسخ فرض بفرض آخر، كنسخ حبس الزواني إلى الجلد والرجم، أو الجلد والتغريب.
فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟ قال أبو محمد: إذا جمعت الآية أو الحديث حكمين فصاعدا، فجاء نص أو إجماع بنسخ أحد الحكمين، أو تخصيصه أو إخراجه إلى الندب، وقف عنده، ولم يحل لمسلم أن يقول: إن الحكم الآخر منسوخ من أجل هذا الحكم المذكور معه في الآية أو الحديث، ولا أنه مخصوص، ولا أنه ندب، بل يبقى على حكمه
كما كان، وعلى ما يوجبه ظاهره لقول الله عز وجل: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *.
ومن ادعى أن هذا الحكم مرتبط بيانه أو نسخه بحكم آخر فقد افترى على الله عز وجل، وادعى ما لا دليل عليه، ولزمه أن متى وجد في سورة واحدة آية منسوخة، أن يقول: إن تلك السورة منسوخة كلها من أجل الآية المنسوخة منها، ولزمه ما هو أفحش من هذا، وهو أن يقول: إن القرآن كله منسوخ من أجل وجوده فيه أحكاما كثيرة منسوخة.
ولا فرق بين عطف حكم على حكم وبين عطف آية على آية، ولا فرق بين ذكر حكمين في آية، وبين ذكرهما في سورة، فإذوجب أن يكون أحد الحكمين المذكورين في الآية منسوخا لزم مثل ذلك في أحكام السورة كلها، لان الحكم المذكور معها منسوخ أيضا ولا فرق، وهذا إبطال للشريعة جملة وخروج عن الاسلام ومن الله تعالى العافية علينا من ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: مثال ذلك قوله تعالى: * (واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * ثم نسخ تعالى الامساك في البيوت وأثبت استشهاد الاربعة.
وقد نهى رسول الله (ص) عن مهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام وثمن الكلب، فخرج كسب الحجام عن التحريم بحديثه عليه السلام أطعمه رقيقك وناضحك، فيلزم من خالفنا أن يبيح من أجل ذلك مهر البغي

(4/457)


وحلوان الكاهن، وهذا ما لا يقوله مسلم، وقد قال الطحاوي: إن النهي عن ثمن الكلب منسوخ بنسخ إيجاب قتل الكلاب.
قال أبو محمد: ولا أدري في أي عقل أم في أي نص وجد هذا الرجل أنه إذا حرم قتل حيوان حل بيعه أتراه جهل أن يبيعه وبيع كل حر حرام وقتله حرام،
ما لم يقترف ما حل دمه ؟ إن هذه لغباوة شديدة وعصبية لمذهبه الفاسد قبيحة.
ونعوذ بالله من التقليد المؤدي إلى القول على الله تعالى بمثل هذا بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير، وليت شعري ما الفرق بينه وبين من عارضه فقال: بل لما حرم الله أكلها حرم بيعها ؟ فصل في كيف يعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخا قال أبو محمد: لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شئ من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين، لان الله عز وجل يقول: * (وما أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله) * وقال تعالى: * (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) * فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه ففرض اتباعه، فمن قال في شئ من ذلك إنه منسوخ.
فقد أوجب ألا يطاع ذلك الامر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة، وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفتر مبطل.
ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها، لانه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما، وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى، وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شئ من القرآن والسنة، وهذا خروج عن الاسلام، وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه، فإذا قد صح ذلك وثبت، فلنقل في الوجوه التي بها يصح نسخ الآية أو الحديث، فإذا عدم شئ من تلك الوجوه، فقد بطلت دعوى من ادعى النسخ في شئ من الآيات أو الاحاديث.
قال أبو محمد: فإذا اجتمعت علماء الامة - كلهم بلا خلاف من واحد منهم - على نسخ آية أو حديث فقد صح النسخ حينئذ، فإن اختلفوا نظرنا، فإن وجدنا الامرين لا يمكن استعمالهما معا، أو وجدنا أحدهما كان بعد الآخر بلا شك، أو

(4/458)


وجدنا نصا جليا على منسوخ، ووجدنا نصا في ذلك من نهي بعد أمر أو أمر بعد نهي أو نقل من مرتبة إلى مرتبة على ما قدمنا - فقد أيقنا بالنسخ، مثل قوله عليه السلام: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الانتباذ في الاسقية فانتبذوا وأباح الانتباذ في كل ظرف، ومثل قول جابر: كان آخر الامرين من رسول الله (ص) ترك الوضوء مما مست النار، ومثل ما روي أنه رخص في الحجامة للصائم، والترخيص لا يكون إلا بعد النهي، والحجامة هكذا فعل الحاجم والمحجوم معا، فهذان وجهان.
أو نجد حالا قد أيقنا بإبطالها وارتفاعها، وحالا أخرى قد أيقنا بنزولها ووجوبها ورفعها للحال الاولى، ثم جاء نص من قرآن أو حديث موافق للحال المرفوعة التي قد سقطت بيقين، إلا أننا لا ندري هل جاء هذا النص - الموافق لتلك الحال المرفوعة - قبل مجئ الحال الرافعة أو بعدها ؟ فإذا كان مثل هذا ففر ض ألا يترك ما أيقنا بوجوبه علينا، وصح عندنا لزومه لنا، وحرم علينا أن نرجع إلى حال قد أيقنا بارتفاعها عنا، وصح عندنا بطلانها إلا بنص جلي راد لنا إلى الحالة الاولى، ورافع عنا الحالة الثانية.
ومن تعدى هذا فقد قفا ما لا علم له به وترك الحق واليقين، واستعمل الشك والظنون، وذلك ما لا يحل أصلا، فكيف وقول الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقوله تعالى: * (قد تبين الرشد من الغي) * وقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي) * شواهد قاطعة بأنه لا يجوز البتة أن يكون الله تعالى تركنا في عمياء وضلالة لا ندري معها أبدا، هل هذا الحكم منسوخ أو غير منسوخ، هذا أمر قد أمنا وقوعه أبدا، إذ لو كان ذلك لكان الدين قد بطل أكثره، ولكننا في شك متصل لا ندري أنعمل بالباطل في نصوص
كثيرة من القرآن والسنن، أم نعمل بالحق وهل نحن في طاعات كثيرة لله تعالى ولرسوله (ص) على ضلال أو على هدى ؟ حاشا لله من هذا.
فصح يقينا أن كل تيقنا بطلانه فهو باطل أبدا، بلا شك حتى يأتي نص ثابت بأنه قد عاد بعد بطلانه هكذا ولا بد، وإلا فلا، والحمد لله رب العالمين.
فمن هذا الباب ما قد أيقنا من أن إباحة زواج أكثر من أربع نسوة قد ارتفعت، وأن نكاح أكثر من أربع حرام على كل أحد - بعد رسول الله (ص) بيقين، وقد

(4/459)


جاء حديث بتخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع فكان هذا الحديث موافقا لحال ما نسخ من ترك التحريم لزواج أكثر من أربع، وما كان عليه من أسلم وعنده أكثر من أربع، لانهم نكحوهن وذلك غير محظور عليهم، فلما نزل التحريم خيروا في أربع منهن، وكان من ابتدأ نكح خامسا فصاعدا، وأكثر من أربع معا، أو أختين، أو أم وابنتها بعد نزول تحريم كل ذلك - عاصيا لله عز وجل، وعاملا عملا ليس عليه أمره فهو رد ففعله ذلك كله مردود.
وعقده ذلك فاسد مفسوخ محلول غير ماض أصلا، فصح بذلك ارتفاع التخيير، وأنه إنما كان ذلك للذين نكحوا أكثر من أربع قبل أن يحظر ذلك، وأيضا فلو صح تخيير من ابتدأ نكاح خمس في كفر بعد ورود النهي عن ذلك لما كافي ذلك إباحة تخيير من أسلم، وعنده أختان أو حريمتان، ومع ذلك أيضا: أننا قد أيقنا أنه قد كان في صدر الاسلام: إذا نام الرجل في ليل رمضان، حرم عليه الوطئ والاكل والشرب، ثم نسخ ذلك وجاء حديث أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي (ص) بأن من أدركه الصبح وهو جنب فقد أفطر، فكان هذه الحديث موافقا لتلك الحال المنسوخة، وقد أيقنا برفعها وبإباحة الوطئ إلى تبين طلوع الفجر، فلا سبيل إلى الرجوع إلى حظر الوطئ إلا ببيان جلي.
ومن ذلك أننا قد أيقنا بأن الوصية لم تكن مدة من صدر الاسلام فرضا،
ثم أيقنا نزول وجوب الوصية للوالدين والاقربين، ثم جاء حديث عمران بن الحصين في الستة الاعبد، فكان هذا الحديث موافقا للحال المرفوعة من ألا يلزم المرء أن يوصي لوالديه وأقربيه فلم يجز لنا أن نرفع به حكم الآية التي أيقنا أنها ناسخة للحال الاولى، ولا جاز لنا أن نرجع إلى حالة قد أيقنا أنها حظرت علينا إلا بنص جلي.
إن هذا الحديث كان بعد نزول الآية، وبأن أولئك الاعبد لم يكونوا أقارب الموصي بعتقهم، ولا سبيل إلى وجود بيان بذلك أبدا، وبالله تعالى التوفيق.
فصح أن كل ما كان في معنى الحال المتقدمة - من إباحة ترك الوصية للوالدين والاقربين - منسوخ بيقين، ولم يصح أنه عاد بعد أن نسخ، ولا يحل الحكم بالظنون، وأيضا فقد ملك قوم من العرب أقاربهم، وقد كان هراسة أخا عنترة، واستلحف شداد عنترة، وكان هراسة عبدا لاخيه، وقد كان في نساء الصحابة رضي الله عنهم من باعها عمها أخو أبيها، وهي أم ولد أبي اليسر الانصاري.
قال أبو محمد: ومن استجاز أن يترك اليقين من الآية المذكورة، بأن يقول: لعل حديث عمران في الاعبد الستة نسخها، فليقنعوا من أصحاب أبي حنيفة بقولهم: لعل حكم

(4/460)


العرايا نسخ بالنهي عن المزابنة، وبقولهم: لعل القصا ص بغير نسخ بالنهي عن المثلة، وليقولوا بقول من منع أن يمسح على الخفين، وقال: لعل ذلك نسخ بآية الوضوء التي بالمائدة، وليأخذوا بقول ابن عباس في إباحة الدرهم بالدرهمين، ويقولوا: لعل النهي عن ذلك نسخ بقوله عليه السلام: إنما الربا في النسيئة وليأخذوا بقول عثمان البتي في إبطال العاقلة، ويقولوا: لعحكم العاقلة نسخ بقوله تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى) * وليبطلوا السلم ويقولوا: لعله نسخ بنهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك، ويستحلوا أكل الحمير والسباع ويقولوا: لعل النهي عنها منسوخ، بقوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما) * الآية.
فإن أبوا من كل ما ذكرنا، وقالوا: لا نقول في شئ من ذلك إنه منسوخ إلا بيقين فكذلك يلزمهم أن يقولوا أيضا بقول ابن عباس: إن الآية القصرى نسخت الآية الطولى فيوجبوا خلود القاتل من المسلمين في نار جهنم أبدا، فإن أبوا ألزمهم مثل ذلك في آية الوصية ولا فرق.
وكذلك القول فيمن قال في رضاع سالم، فإنه لما كان مرتبطا بالتبني وكان التبني منسوخا، بطل حكم التعلق به لبطلانه، وكل سبب بطل فإن مسببه يبطل بلا شك، فإن هذا أيضا خطأ، لانه لم يأت نص ولا إجماع ولا ضرورة مشاهدة بأن هذا الحكم مخصوص به التبني فقط، بل هو عموم على ظاهره ولا يجوز تخصيصه بالدعوى بلا نص ولا إجماع.
فهذه الوجوه الاربعة لا سبيل إلى أن يعلم نسخ آية أو حديث بغيرها أبدا، إما إجماع متيقن، وإما تاريخ بتأخر أحد الامرين عن الآخر مع عدم القوة على استعمال الامرين، وإما نص بأن هذا الامر ناسخ للاول وأمر نتركه، وإما يقين لنقل حال ما فهو نقلي لكل ما وافق تلك الحال أبدا بلا شك.
فمن ادعى نسخا بوجه غير هذه الوجوه الاربعة فقد افترى إثما عظيما وعصى عصيانا ظاهرا، وبالله تعالى التوفيق.
فمما تبين بالنص أنه منسوخ قوله تعالى: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * ثم قال تعالى: * (فلنولينك قبلة ترضاها) * فهذا تأخير لائح أن القبلة التي كانت قبل هذه منسوخة وأن التوجه إلى الكعبة كان بعد تلك القبلة.
وهذا أيضا له إجماع، ومثل قوله تعالى: * (فالآن باشروهن) * فنسخ بذلك النهي عن الوطء في ليل رمضان، ومثل قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * نسخ به قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) * وهذا نقل مسند إلى النبي (ص) بإجماع، يعني نسخ إباحة

(4/461)


الفطر، والاطعام، من ندب إلى فرض ومثل نسخ قيام الليل، فإنه نسخ بالنص المنقول
بإجماع من فرض إلى ندب.
قال أبو محمد: وقد ادعى قوم في قوله تعالى: * (ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) *.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لانه ليس إجماعا، ولا فيه بيان نسخ، ولا نسخ عندنا في هذه الآيات أصلا، وإنما هي فرض البراز للمشركين، وأما بعد اللقاء فلا يحل لواحد منها أن يولي دبره جميع من على وجه الارض من المشركين إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - على ما نبين في موضعه إن شاء الله تعالى - أو من كان مريضا أو زمنا بقوله تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) *.
فإن قالوا: إن الضعيف القلب معذور لانه دخل في جملة الضعفاء قيل لهم: هذا خطأ لان من رضي أن يكون مع الخوالف لضعف قلبه، ملوم بالنص غير معذور، وأيضا فإن ضعف القلب قد نهينا عنه بقوله تعالى: * (ولا تهنوا) * ولا يجوز أن يكون تعالى أراد وهن البدن، لانه لا يستطاع دفعه أصلا والله تعالى لا يكلف إلا ما نطيق، وضعف القلب مقدور على دفعه ولو أراد الجبان أن يثبت لثبت، ولكنه آثر هواه والفرار على ما لا بد له من إدراكه من الموت الذي لا يعدو وقعه ولا يتقدم ولا يتأخر وهذا بين وبالله تعالى التوفيق.
والعجب ممن يقول: إن هذه الآية مبيحة لهروب واحد أمام ثلاثة فليت شعري من أين وقع لهم ذلك ؟ وهل في الآية التي ذكروا فرارا أو تولية دبر بوجه من الوجوه، أو إشارة إليه ودليل عليه ؟ ما في الآية شئ من ذلك البتة، وإنما فيها أخبار عن الغلبة فقط، بشرط الصبر، وتبشير بالنصر مع الثبات.
ولقد كان ينبغي أن يكون أشد الناس حياء من الاحتجاج بهذه الآيات في إباحة الفرار عن ثلاثة: أصحاب القياس المحتجين علينا بقول الله تعالى: * (ومن أهل الكتاب
من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) * ويقو ل لنا: إن ما فوق القنطار بمنزلة القنطار، فهلا جعلوا ههنا ما فوق الاثنين، بمنزلة الاثنين ولكن هكذا يفعل الله بمن ركب ردعه واتبع هواه وأضرب عن الحقيقة جانبا.
وأما نحن فلو رأينا في الآيات المذكورة ذكر إباحة فرار لقلنا به، ولسلمنا

(4/462)


لامر ربنا، ولكنا لم نجد فيها لاباحة الفرار أثرا ولا دليلا بوجه من الوجوه، وإنما وجدنا فيها أننا إن صبرنا غلب المائة منا المائتين، وصدق الله عز وجل، فليس في ذلك ما يمنع أن يكون أقل من مائة أو أكثر من مائة يغلبون العشرة آلاف منهم وأقل وأكثر، كما قال تعالى: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) * وهكذا كله إخبار عن فعل الله تعالى ونصره عز وجل لمن صبر منا فتلك الآية التي فيها أن المائة منا تغلب المائتين، وهي إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها أن المائة منا تغلب الالف، وهاتان الآيتان معا هما إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) * فلم يخص في هذه الآية عددا من عدد، بل عم عموما تاما.
فإن قال قليل التحصيل: فأي معنى لتكرار ذلك وما فائدته ؟.
قيل له: قد ذكرنا الجواب عن هذا الفضول من السؤال السخي ف، في باب دليل الخطاب من ديواننا هذا، ولكن لا بد من إيراد بعض ذلك، لورود هذا السؤال فيقول وبالله تعالى التوفيق: هذا اعتراض منك على الله عز وجل، والمعنى في ذلك والفائدة كالمعنى والفائدة في تكرار قصة موسى عليه السلام في عدة مواضع بعضها أتم في الخبر من بعض، وبعضها مساو لبعض، وكما كرر تعالى العنب والرمان والنخل بعد ذكر الفاكهة، وكما كرر تعالى: وأقيموا الصلاة والصلاة الوسطى، بعد ذكر المحافظة على جميع الصلوات.
وكما كرر تعالى: فبأي
آلاء ربكما تكذبان في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة: ولم يكررها ثلاثين مرة، لا ثمانية وعشرين مرة.
ولا كررها أيضا في غير تلك السورة، وكما أخبر تعالى في مكان بأنه رب السموات والارض وما بينهما في مكان آخر بأنه رب الشعرى، ولم يذكر معها غيرها.
ولا يسأل رب العالمين عما قال ولا ما فعل، وإنما علينا الايمان بكل ما أتى من عند الله وقبوله كما هو، واعتقاده في موجبه ولا نتعداه، ولنا الاجر على الاقرار به، وعلى تلاوته، وعلى قبوله كما ذكرنا.
فأي حظ أعظم من هذا الحظ المؤدي إلى الجنة وفوز الابد، وهل يبتغي أكثر من هذا الامر إلا من لا عقل له ولا يسأل الله عما يفعل إلا ملحد أو جاهل أو سخيف أو فاسق، لا بد من أحد هذه، وما فيها حظ لمختار.

(4/463)


فإن قال قائل: فما معنى قول الله تعالى: * (الآن خفف الله عنكم) * في الآيات المذكورات.
وما هذا التخفيف ؟ وهو شئ قد خاطبنا الله تعالى به وامتن به علينا فلا بد من طلب معناه والوقوف على مقدار النعمة علينا في ذلك، وما هذا الشئ الذي خفف عنا، لنحمد الله تعالى عليه، ونعرف وجه الفضل علينا فيه.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن هذا السؤال صحيح حسن، ووجه ذلك أن أول الآية يبين وجه النعمة عليه وموضع التخفيف، وهو قوله تعالى: * (حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * فكان في هذه الآية التحريض لنا على قتالهم، وإيجاب نهوضنا إليهم وهجومنا على ديارهم، ونحن في عشر عددهم، هذا هو ظاهر الآية ومفهومها الذي لا يفهم منها أحد غير ذلك ثم خفف عنا تعالى ذلك وجعلنا في سنة من ترك التعرض للقصد إلى محالهم، إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة أكثر من ضعيفنا، وكنا بالآية الاولى في حرج إن لم نغزهم ونحن في عشر عددهم، فنحن الآن في حرج إن لم نقصدهم إذا كان
المقاتلون من الجهة المقصودة مثلينا فأقل، فإن كانوا ثلاثة أمثالنا فصاعدا فنحن في سعة من أن لا نقصدهم ما لم ينزلوا بنا، وما لم يستنفر الامام أو أميره، إلا أن نختار النهوض إليهم وهم في أضعاف عددنا.
فأي هذه الوجوه الثلاثة كان قد حرم علينا الفرار جملة، ولو أنهم جميع أهل الارض والملاقي لهم مسلم واحد فصاعدا، فهذا هو وجه التخفيف.
وبهذا تتآلف الآيات المذكورة مع قوله تعالى: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ومع قول رسول الله (ص): فإذا استنفرتم فانفروا ومع إجماع الامة على أنه إذا نزل العدو ساحتنا، ففرض علينا الكفاح والدفاع.
وأيضا فقول الله عز وجل: * (الان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) * يبين وجه التخفيف، وإنما هو عن فيه ضعف فقط، فصار هذا التخفيف إنما هو عن الضعفاء فقط كقوله تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * الاية.
ومن النسخ الذى بينه النص قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنقول

(4/464)


بالاجماع، لا وصية لوارث فنسخ بذلك الوصية للوالدين والاقربين الذين يرثون، وبقي الولدان والاقربون الذين لا يرثون على وجوب فرض الوصية لهم.
قال أبو محمد: وقد بينا في كتابنا هذا في باب الكلام في الاخبار المأثورة عن النبي (ص) في فصل أفردناه للكلام فيما ادعاه قوم من تعارض الاخبار - كلاما استغنينا عن تكراره ههنا، فيه بيان غلط قوم فيما ظنوه نسخا وليس بنسخ، ولكن اكتفينا بأن نبهنا عليه ههنا لانه لا غنى بمزيد معرفة فقه النسخ عنه وبالله تعالى التوفيق.
فصل
لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب قال أبو محمد: ولا يضر كون الآية المنسوخة - في ترتيب المصحف في الخط والتلاوة - متقدمة في أول السورة أو في سورة متقدمة في الترتيب.
وتكون الناسخة لها في السورة أو في سورة متأخرة في الترتيب، لان القرآن لم ترتب آياته وسوره على حسب نزول ذلك، لكن كما شاء ذو الجلال والاكرام منزله.
لا إله إلا الله.
ومرتبه الذي لم يكل ترتيبه إلى أحد دونه.
فأول ما نزل من القرآن: * (اقرأ باسم ربك الذى خلق، الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) * ثم * (يأيها المدثر فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) * وهما متأخرتان قرب آخر المفي الخط والتلاوة، وآخر ما نزل آية الكلالة في سورة النساء، وسورة براءة، وهما في صدر المصحف في الخط والتلاوة، فلا يجوز مراعاة رتبة التأليف في معرفة الناسخ والمنسوخ البتة.
وقد نسخ الله قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) * بقوله تعالى * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشرا) * بإجماع الامة كلها، والناسخة في المصحف في الخط والتلاوة والترتيب والتأليف قبل المنسوخة، وفي هذا كفاية، وبالله تعالى التوفيق.

(4/465)


فصل: في نسخ الاخف بالاثقل والاثقل بالاخف قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم: لا يجوز نسخ الاخف بالاثقل.
قال أبو محمد: وقد أخطأ هؤلاء القائلون.
وجائز نسخ الاخف بالاثقل والاثقل بالاخف، والشئ بمثله، ويفعل الله ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، وإن احتج محتج بقوله الله تعالى: * (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) * وبقوله تعالى: * (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) * وبقوله تعالى: * (وما
جعل عليكم في الدين من حرج) * وبقوله تعالى * (ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها) * فالا حجة لهم في شئ من ذلك، أما قوله تعالى * (يريد اله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (وما جعل عليكم في الذين من حرج) * فنعم، دين الله كله يسر، والعسر والحرج هو ما لا يستطاع، أما ما أستطيع فهو يسر وأما قوله تعالى * (يريد الله أن يخفف منه ولا ثقيل البتة إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه هذا أمر يعلم حسا ومشاهدة، ولا ولا يشك ذو عقل أن الصلوات الخمس المفروضة علينا أخف من خمسين صلاة، وأنها لو كانت صلاة واحدة كانت أخف علينا من الخمس، وقد خفف الله تعالى عن المسافر فجعلها ركعتين وعن الخائف فجعلها ركعة واحدة، ولو شاء ألا يكلفنا صلاة أصلا لكان أخف بلاشك.
وقد نص الله تعالى في الصلاة على أنها كبيرة إلا على الخاشعين، ولا يشك ذعقل وحس أن صيام شهر أخف من صيام عام، وأن صيام ساعة أخف من صيام يوم، فكل ما كلفنا الله تعالى فهو يسر وتخفيف بالاضافة إلى ما هو أشد مما حمله من كان قبلنا، كما قال الله تعالى آمرا لنا أن ندعوه فنقول: * (ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا وما لا طاقة لنا به) *.
وكما نص تعالى أنه وضع بنبيه (ص) الاصر الذي كان عليهم، والاغلال التي كانوا يطوقونها، إذ يقول تعالى: * (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم

(4/466)


عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم) * فهذا هو عين اليسر وعين التخفيف وإسقاط الحرج، وأين يقع ما كلفناه نحن مما كلفه بعض قوم موسى، من قتل أنفسهم بأيديهم،
فكل شئ كلفناه يهون عند هذا، وكذلك ما في شرائع اليهود من أنه من خطر على ميت تنجس يوما إلى الليل، وسائر الثقائل التي كلفوا وحرم عليهم، وخفف عنا ذلك كله.
ولله الحمد والمنة.
وأما قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) * فإنما معناه بخير منها لكم، وكلام الله لا يتفاضل في ذاته، فمعناه أكثر أجرا.
ولو احتج بهذه الآية من يستجيز أن يقول: لا ننسخ الاخف إلا بالاثقل لكنا أقوى شغبا ممن خالفه، لانه لا خلاف أن الاثقل فاعله أعظم أجرا وقد قال عليه السلام لعائشة في العمرة: هي على قدر نصبك ونفقتك كانت الناسخة أعظم أجرا، فلا يكون ذلك إلا لثقلها، فهذه الآية عليهم لا لهم فسقط احتجاجهم بكل ما شغبوا به.
ثم نقول: إن من قال: إن الله تعالى إنما يلزمنا أخف الاشياء: فإنه يلزمه إسقاط الشرائع كلها، لانها كلها ثقال بالاضافة إلى ترك عملها، والاقتصار على عمل جزء من كل عمل منها، وهذا شئ يعلم بالحس والمشاهدة.
فصار قول من خالفنا مؤديا إلى الخروج عن الاسلام جملة ولا عمل في الدنيا إلا وفيه كلفة ومشقة.
وقد قال الشاعر: هل الولد المحبوب إلا تعلة وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل وفي الاكل والشرب مشقة، فلو أن الانسان يصل إلى ذوق الطعوم المستطابة والشبع، دون تكلف تناول ومضغ وبلع، لكان أخف عليه وأقل مشقة وأيسر غررا، فرب مختنق بأكله كان في ذلك حتفه، أو الاشراف على الحتف.
ورب متأذ بما يدخل من ذلك في جوفه، وبما يدخل بين أضراسه، ومغث لمعدته

(4/467)


فيتقيأ فيألم لذلك، ومن ملوث لثوبه بما يسقط من يده ولو تتبعنا ما في اللذات
من عسر ومشقة لطال ذلك جدا، فكيف بالاعمال المكلفة.
ولكن العسر والمشقة تتفاضل، فإنما رفع الله عز وجل عنا في بعض المواضع ما لا نطيق، وخفف تعالى في بعضها تخفيفا أكثر من تخفيف آخر.
وقد جاء في الاثر: حفت الجنة بالمكاره فبطل بهذا الحديث نصا قول من قال: إن الله تعالى لا ينسخ الاخف بالاثقل.
وصح أن الله تعالى يفعل ما يشاء فينسخ الاخف بالاثقل، والاثقل بالاخف، والشئ بمثله، والشئ بإسقاطه جملة، ويزيدنا شريعة من غير أن يخفف عنا أخرى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل.
فإن اعترضوا بقوله تعالى: * (الآن خفف الله عنكم) * فهذه حجة عليهم بينة لا محيد عنها، لان التخفيف لا يكون إلا بعد تثقيل، فإذا ثقل علينا تعالى أولا فما الذي يمنع من أن يثقل علينا آخرا إن شاء.
وقد كنا برهة خالين من ذلك التثقيل الاول ثم ثقلنا به، فما المانع من أن يعود علينا ثانية كما كان أولا وأن نزاد تثقيلا آخر أشد منه، ويكفي من هذا كله وجودنا ما لا سبيل لهم إلى دفع نسخه تعالى أشياء خفافا بأشياء ثقال.
فمن ذلك نسخه تعالى صيام يوم عاشوراء بصيام شهر رمضان، ونسخ إباحة الافطار في رمضان، وإطعام مساكين - بدل ما يفطر من أيامه - بوجوب صيامه فرضا على كل حاضر صحيح بالغ عاقل عالم بالشهر، ولزوم الصيام فيه، ونسخ سقوط الغسل عن المولج العامد الذاكر لطهارته بإيجاب الغسل عليه، ونسخ تعالى إباحة الكلام للمصلي بعد أن كان حلالا بتحريمه، وقد كان الكلام فيها فيما ناب الانسان أخف بلا شك، ونسخ تعالى سقوط فرض الجهاد وبيعة المسلمين لرسول الله (ص) على بيعة النساء بإيجاب القتال، وحرم الخمر بعد إحلالها وقال تعالى: * (كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه) * فصح أنه تعالى حرم عليهم أشياء كانت لهم حلالا وقد كان المنسوخ من كل ما ذكرنا أخف من الناسخ بالحس والمشاهدة.
وقد بين الله تعالى ذلك بإخباره
أن في الخمر والميسر منافع للناس، فأبطل تعالى علينا تلك المنا فع ولا يشك ذو عقل أن عدم المنفعة أثقل من وجودها.
ونسخ تعالى الاذى والحبس عن

(4/468)


الزواني والزناة والرجم والتغريب، ولا شك عند من له عقل أن الحجارة والسياط أثقل من السب والسجن.
وقد اعترض بعض من يخالف قولنا في هذه المسألة بأن قال في نسخ الحبس عن الزواني: إن الحبس لم يكن مطلقا، وإنما كان مقيدا بوقت منتظرا لقوله تعالى: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) *.
قال أبو محمد: وهذا الاعتراض ساقط من وجوه ثلاثة: أحدها: أنه لا يجد مثل هذا الشرط في أذى الزناة وتبكيتهم ولا في سائر ما ذكرنا من الخفائف المنسوخة بالثقائل.
والثاني: أن كل نسخ في الدنيا فهذه صفته، وإنما هو مقيد عند الله تعالى بوقت محدود في علمه تعالى، كما قالت عائشة في فرض قيام الليل: إنه تعالى أمسك خاتمة الآية في السماء اثني عشر شهرا ثم أنزلها.
ولا فرق بين أن يبدي إلينا ربنا تعالى أنه سينسخ ما يأمرنا به بعد مدة وبين ألا يبدي إلينا ذلك حتى ينسخه وكل ذلك نسخ ولا فرق بين معجل النسخ ومؤجله، في أن كل ذلك نسخ.
والثالث: أن السبيل الذي انتظر بهن هو أثقل مما كان عليهن أولا، لانه شدخ بالحجارة حتى يقع الموت بعد الايلام بالسوط، أو نفي في الارض بعد الايلام بالسوط، فكانت السبيل المحمولة لهن سبيل الهلاك أو البلاء وكل ذلك أشد من الحبس.
وهذا نفس ما اختلفنا فيه فأجزناه نحن وأبوه هم.
وقد اعترض بعضهم في نسخ البيعة على بيعة النساء بإيجاب القتال بأن قال: كان القتال أثقل علينا في صدر الاسلام لقلتنا، فلما كثر عددنا صار تركه أثقل.
قال أبو محمد: ولو كان لهذا القائل علم بكيفيا ت الاسماء وحدود الكلام لم يأت
بهذا الهذر.
ويقال له: أخبرنا، أزاد الناس حين نزول آية إيجاب القتال زيادة قووا بها قوة ثانية أكثر مما كانوا أم لا ؟ فإن قال: لا.
نقص قوله وتبرأ منه وأخبر أن الحال بعد نزول هذه الآية الموجبة للقتال بعد أن كان غير واجب - كالحال التي كانت قبل نزول إيجاب القتال.
وبطل ما قدر من التفاضل في القوة الموجبة لنزول إيجاب القتال، وإن قال: نعم، جمع أمرين

(4/469)


: أحدهما: أنه يقفو ما ليس له به علم ويكذب، والثاني: أنه لم يتخلص بعد من إلزامنا ويقال له: لا بد أنه قد كان بين بلوغهم العدد الذي بلغوه حين نزول آية إيجاب القتال عليهم، وبين نزول الآية وقت ما لا بد منه فقد كان العدد موجودا ولا قتال عليهم.
ثم نسخ بإيجاب القتال.
وأيضا فإنه ليس في المعقول أصلا، ولا في الوجود عدد إذا بلغته الجماعة قويت على محاربة أهل الارض كلهم، وقد ألزم الله تعالى المسلمين إذا أمرهم بالقتال مجاهدة كل من يسكن معمور العالم من الناس، والمسلمون يومئذ لم يبلغوا الالف، وقد علم كل ذي عقل أنه لا فرق في القوة - على محاربة أهل الارض كلهم - بين ألف وألفين وبين واحد واثنين.
وإنما ههنا نزول النصر، فإذا أنزل الله تعالى على الانسان الواحد قوي ذلك الواحد على محاربة أهل الارض كلهم، وعجزوا كلهم عنه، كما قال تعالى لنبيه (ص): * (والله يعصمك من الناس) * وأيقنا بذلك لو بارزوه كلهم لسقطوا أمامه، ولقدر على جميعهم.
وقد قال بعض المخالفين لقولنا: إن الصبر على القتال أثقل لذي النفس الآنفة.
قال أبو محمد: ويكفينا من الرد على هذه المقالة تكذيب الله عز وجل لها، فإنه تعالى خاطب الصحابة رضي الله عنهم، وهم آنف الناس نفوسا، وأحماهم قلوبا، وأعزهم همما، أو خاطب أيضا كل مسلم يأتي إلى يوم القيامة وهم أعز الامم نفوسا، وأقرها على الضيم، بأن قال تعالى: * (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى ان
تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم) * وكفانا عز وجل الشغب والتعب وبين أن الكتاب مكروه عندنا.
والمكروه أثقل شئ.
وأخبرنا سبحانه وتعالى أن المكروه - الذي هو أثقل - قد يكون لنا فيه خير أكثر مما في الاخف، فقد حكم الله تعالى لنا في هذه المسألة حكما جليا، لا يسوغ لاحد أن يتكلم بعد سماعه في هذا المعنى بكلمة مخالفة لقولنا، والحمد لله رب العالمين.
واعترض بعضهم بأن قال: لم تكن الخمر مباحة، بل كانت حراما بالعقل فلم ينسخ إباحتها.
قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى التوفيق: إذ هذا القائل لو اشتغل بقراءة حديث النبي (ص) لكان ذلك أولى به من الكلام في الدين قبل النفقة فيه، وقد روينا في الحديث الصحيح تحليلها قبل أن تحرم، حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد

(4/470)


بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج قال: ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا أبو همام عبد الاعلى، ثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله (ص) قال: يا أيها الناس إن الله يعر ض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا، فمن كان عنده منها شئ فليبعه ولينتفع به قال: فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال (ص): إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده شئ فلا يشرب ولا يبع.
وروينا من الاطراف الصحاح شربها معلنا بعلم رسول الله (ص) - أكثر ذلك - عن حمزة، وسعد، وأبي عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي أيوب، وأبي طلحة، وأبي دجانة سماك بن خرشة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل وغيرهم من المهاجرين والانصار رضي الله عنهم، فكيف يقول هذا الجاهل: إنها لم تكن حلالا، وإن العقل حرمها، وأين عقل هذا الجنون العديم العقل - على الحقيقة -
من عقل رسول الله (ص) الذي كان يراهم يشربونها - ولا ينكر ذلك عليهم - أزيد من ستة عشر عاما بعد مبعثه عليه السلام، فإن الخمر لم تحرم إلا بعد أحد.
وأحد كانت في الثالث من الهجرة، وتنادم الصحابة في المدينة بحضرة رسول الله (ص)، وما وقع لبعضهم من العربدة على بعض، ومن الجنايات في شارفي علي، ومن التخليط في الصلاة - أشهر من أن يجهله من له علم بالاخبار، وكل ذلك يعلمه ولا ينكره عليه السلام، ولا يحل لمؤمن أن يقول إنه عليه السلام أقر على حرام أصلا، ويكفي من هذا ما قدمنا من أمره عليه السلام يبيعها قبل أن تحرم، وبأن ينتفع بها، والشرب يدخل في الانتفاع، وبالله التوفيق.

(4/471)


فصل في نسخ الشئ قبل أن يعمل به قال أبو محمد: أكثر المتقدمون في هذا الفصل وما ندري أن لطالب الفقه إليه حاجة ولكن ما تكلموا ألزمنا بيان الحق في ذلك بحول الله وقوته، والصحيح من ذلك: أن النسخ بعد العمل به وقبل العمل به، جائز كل ذلك، وقد نسخ تعالى عنا إيجابه خمسة وأربعين صلاة في كل يوم وليلة، قبل أن يعمل بها أحد.
قال أبو محمد: ومن جعل هذا بداء فقد جعل النسخ بداء ولا فرق، وكل ما دخلوه في نسخ الشئ قبل أن يعمل به راجع عليهم في نسخه بعد أن يعمل به ولا فرق، والله تعالى يفعل ما يشاء، والذي نقدر أن الذي حداهم إلى الكلام في هذه المسألة مذهبهم الفاسد في المصالح، ونحن لا نقول بها، بل نفوض الامر إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء، ليس عليه زمام، ولا له متعقب، وسنبين ذلك في با ب العلل من هذا الديوان إن شاء الله تعالى.
فإن قال قائل: فماذا أراد الله عز وجل منا إذ قال: خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم نسخها وردها إلى خمس قبل أن نصلي الخمسين ؟ قيل له، وبالله تعالى
التوفيق: إنه أراد منا الطاعة والانقياد والعزيمة على صلاتها، والاعتقاد لوجوبها علينا فقط، ولم يرد تعالى قط منا كون تلك الصلوات، ولا أن نعملها، ونحن لا ننكر أن يأمر تعالى بما لم يرد قط منا كونه، بل يوجب ذلك، ونقول: إنه تعالى أمر أبا طالب بالايمان، ولم يرد قط تعالى كون إيمانه موجودا.
وقد نص تعالى على ذلك بقوله: * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * وقوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) *.
فأخبر تعالى أنه لم يجب هداية أبي طالب، وأنه أراد ألا يهدي قوما، وكلهم مأمور بالاهتداء، وقد بينا هذا في كتاب الفصل، ولو أنه تعالى لم ينسخها حتى نصليها لعلمنا حينئذ أنه تعالى أراد كونها منا، كما علمنا أنه تعالى أراد إسلام أبي بكر وعمر وسائر من أسلم، وإنما نعلم ما أراد تعالى كونه بعد ظهوره، أو أخبرنا الله تعالى بأنه سيكون والله أعلم، وهو الذي أطلعنا عليه من غيبه، ونحن كنا مأمورون بالصلاة.
وقد يموت كثير من الناس قبل أن يتأتى عليه وقت صلاة بعد بلوغه،

(4/472)


إنه تعالى إنما أراد من هؤلاء الانقياد والعزيمة فقط، والله تعالى لم يرد قط ممن مات قبل حلول وقت الصلاة أن يصليها.
واحتج بعض من تقدم - في إجازة نسخ الشئ قبل العمل به - بحديث الزبير: إذ خاصم الانصاري في سيل مهزور ومذينب وجعل الامر الآخر منه عليه السلام ناسخا للاول.
وأبطل قول من قال: كان الامر الاول على سبيل الصلح وتر ك الزبير بعض حقه وقال: إن هذا لا يحل أن يقال، لان حكمه عليه السلام كله حق واجب، لقول الله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم) * فلم يخص أمرا دون أمر، ولو ساغ ذلك في هذا الحديث، لساغ لكل أحد أن يقول في أي حكم حكم به رسول الله (ص):
هذا على سبيل الصلح لاعلى سبيل الحقيق، وهذا كفر من قائله.
قال أبو محمد: وقد صدق هذا المحتج فيما قال.
قال بعضهم: لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد.
قال أبو محمد: وهذا قياس، والقياس باطل، ولو كان القياس حقا لكان هذا فاسدا، إذ ليس سقوط العقل موجبا لسقوط الاعتقاد، وقد يعتقد وجوب الشئ وتصحيحه من لا يفعله من المسلمين العصاة، وقد يفعله من لا يعتقده من المنافقين والمرائين، وهذا أمر يعلم بالمشاهدة، فبطل أن يكون الاعتقاد مرتبطا بالعمل، وبطل ما موه به هذا المعترض من أنه لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد، فإن قالوا: لو جاز نسخ الشئ قبل العمل به لكان اعتقاده حسنا وطاعة، وفعله قبيحا ومعصية، وهذا محال.
فالجواب: إن هذا شغب ضعيف لانهم جمعوا بين حكم زمانين مختلفين، وإنما يكون اعتقاد الشئ حقا - إن فعل - إذا لم ينسخ، فأما إذا نسخ فإنما الواجب اعتقادا أنه معصية إن فعل، واعتقاد أنه قد كان طاعة في وقت آخر، وهذا ليس محالا فإن قالوا: الاعتقاد فعل قيل لهم: الاعتقاد فعل النفس منفردة لا شركة للجسد

(4/473)


معها فيه، والعمل فعل النفس بتحريك الجسد، فهو شئ آخر غير الاعتقاد وقد فرق رسول الله (ص) بينهما بقوله (ص) العمل بالنيات، فجعل النية وهي الاعتقاد غير العمل.
قال أبو محمد: وقد احتج القدماء - من القائلين بقولنا في هذه المسألة - بحجج منها أمره تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، وقول إبراهيم عليه السلام: * (إن هذا لهو البلاء المبين) * وقالوا: هذا بيان جلي أن الذي أمر به نسخ قبل أن
يكون، لان قوما قالوا: إنما أمر بتحريك السكين على حلق ولده فقط، فأبطل تعالى قولهم بقول إبراهيم: * (إن هذا لهو البلاء المبين) * ولو لم يؤمر بقتله لما كان في تحريك السكين على حلقه بلاء فصح بقول إبراهيم عليه السلام، أنه إنما أمر بقتل ولده وإماتته بالذبح، ثم نسخ ذلك قبل فعله.
قال أبو محمد: وهذا احتجاج صحيح لا ينفك منه أصلا.
فإن قال قائل: عرفونا ما الذي أراد الله تعالى منا إذا أمرنا بالشئ ثم نسخه قبل فعله، أراد العمل به ثم بدا له قبل فعله ؟ أم أراد ألا يعمل به ؟ والشئ إذا لم يرده تعالى فقد سخطه وكرهه ولم يرضه، فعلى قولكم إنه تعالى يأمرنا بما يكره ويسخط ويلزمنا ما لا يرضى كونه منا.
قال أبو محمد: فيقال، وبالله تعالى التوفيق، إنه تعالى أمر بما أمر من ذلك ولا مراد له إلا الانقياد في المأمور فقط، ولم يرد قط وقوع الفعل، ونهانا عنه قبل أن يكون منا، ولا يسأل عما يفعل، ولسنا ننكر أن يأمرنا تعالى الآن بأمر قد علم أن بعد مدة ينهى عنه ويسخطه، وإنما الذي ننكر أن يأمر تعالى بما هو ساخط له في حين امره، فهذا لا سبيل إليه.
وأما أن يأمرنا بأمر قد علم أنه سينهانا عنه في ثاني الامر، ويسخطه بعد مرور وقت الامر به، فهذا واجب وهذه صفة كل نسخ، وكل أمر مرتبط بكل وقت، وبالله تعالى التوفيق، وقد اعترض بعضهم في أمره تعالى بخمسين صلاة، ثم جعلها تعالى إلى خمس بأن قال:

(4/474)


إنما يلزمنا الامر إذا بلغنا، وكاذلك الامر لم يبلغ بعد إلى المسلمين، فأجاب بعض من سلف القائلين بقولنا: إنه تعالى قد أبلغ أمره بذلك إلى رسوله، فهو سيدنا وإمامنا فكان الخمسون اللازمة له لبلوغ الامر إليه، ثم نسخت عنه قبل أن يعمل بها.
قال أبو محمد: فإن قالوا: لم يرد الله تعالى قط بالخمسين إلا خمسا يعطي بكل واحدة عشر حسنات، واحتجوا بما في آخر الحديث من قوله تعالى: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن هذا الكلام هو بيان قولنا لا قولهم، لان الخمس لا تكون خمسين في العدد أصلا، وإنما هي خمسون في العدد، وخمسون في الاجل، وكنا ألزمنا أولا خمسين في العدد وهي خمسون في الاجر فقط، فأسقط عنا التعب وبقي لنا الاجر، فصح أن الساقط غير اللازم ضرورة، وبرهان ذلك حطه تعالى إلى خمس وأربعين وإلى أربعين، ثم إلى خمس وثلاثين ثم ثلاثين، وهكذا خمسا خمسا حتى بقيتخمسا، وهذا لا إشكال فيه، في أن الملزم غير المستقر آخرا، فبطل اعتراضهم، والحمد لله رب العالمين.
ومن طريق ما اعترض به بعضهم أن قال: لعله عليه السلام قد صلى الخمسين صلاة قبل نسخها، أو لعل الملائكة صلتها قبل نسخها.
قال أبو محمد: وهذا جهل شديد، ولو كان لقائل هذا أدنى علم بالاخبار لم يقل هذا الهجر، لان الاسراء إنما كان في جوف الليل، ولم يأت الصباح إلا وهو (ص) قد رجع إلى مكة وكان بها قبل مغيب الشفق وبعد غروب الشمس، وقبل طلوع الشمس من تلك الليلة، وإنما لزمت الخمسون في يوم وليلة.
وأيضا فهو عليه السلام، يذكر بلفظه في الحديث: أنه لم ينفك راجعا وآتيا من ربه تعالى إلى موسى عليه السلام، وأما الملائكة فلم يبعث رسول الله (ص) إليهم، بل بعضهم هم الرسل من الله تعالى إليه، وإنما بعث إلى الجن والانس الساكنين دون سماء الدنيا، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين مع النصوص الواردة في القرآن والحديث في خطاب هذين النوعين فقط، وإنما بعث إليهما فقط، والملائكة في مكان لا ليل فيه، وإنما هي في السموات التي هي

(4/475)


الافلاك، وفي الكرسي وتحت العرش وحوله، والليل إنما يبلغ إلى فلك القمر الذي هو سماء الدنيا فقط، والجن مرجومون بالشهب إذا دنوا منها بنص القرآن بقوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * فصح يقينا أن الملائكة لا تلزمهم صلاتنا، لانهم لا ليل عندهم ولا نهار، وإنما هو في أنوار بسيطة صافية، وإنما تلزم الصلوات في أوقات الليل والنهار.
وقد احتج في هذا بعض من تقدم بأن قال: يقال لمن أبذلك: ما الذي أنكرتم ؟ أنسخ ما قد فعل، أم نسخ ما لم يفعل، أن نسخ الامر الوارد بالفعل ؟ ولا سبيل إلى قسم رابع، فإن قالوا: نسخ ما قد فعل، أحالوا، ولا سبيل إلى نسخ ما قد فعل، لانه قد فعل وفني، فلا سبيل إلى رده، وإن قالوا: نسخ ما لم يفعل، فقد أثبتوا نسخ الشئ قبل فعله، وهذا هو نفس ما أبطلوا، لان الذي لم يفعل هو غير الذي فعل ضرورة.
فإن قالوا: نسخ الامر فلا فرق بين نسخ الامر قبل أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الامر، وبين نسخه بعد أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الامر، والفعل المأمور به على كل حال غير الامر به، فلا يتعلق الامر بالفعل لانه غيره، لان الامر هو فعل الله مجردا، والفعل هو فعلنا نحن فبينهما فرق كما ترى.
قال أبو محمد: وهذه حجة ضرورة لا محيد عنها.
واحتج أيضا بأن قال: إن الامر إذا ورد ففعله فاعلون ثم نسخ فلا خلاف في جواز ذلك، ولا شك في أنه قد بقي خلكثير لم يعملوا به ممن لم يأت بعد، وقد كانوا مخاطبين بذلك الامر حين نزوله، فقد نسخ قبل أن يعمل به هؤلاء الذين لم يعملوا به، ولا فرق بين أن يجوز نسخه قبل أن يعمل به بعض المأمورين وبين نسخه قبل أن يعمل به أحد منهم.
قال أبو محمد: وهذه أيضا حجة ضرورية لا محيد عنها.
قال أبو محمد: وسألني سائل فقال: لو أمر التعالى بأمر فقال: اعملوا بهذا الامر ثمانية متصلة، أو قال أبدا، أيجوز نسخ هذأم لا ؟ فقلت: إن النسخ جائز في هذه لانه من باب نسخ الشئ قبل أن يعمل به، ولافرق بين أن يأمرنا بخمسين صلاة نصليها، وبين أن يأمرنا بعمل ما أبدا، أو ثمانية أيام،

(4/476)


ثم ينسخه عنا قبل أن يتم عمل ذلك، وليس الكذب في الامر والنهي مدخو إنما يدخل الكذب في الاخبار، فلو أن الامر خرج بهذا التحديد بلفظ الخبر لم يجز نسخه، لانه كان يكون كذبا مجردا، إذ في الاخبار يقع الكذب، وهذا بخلاف الامر إذا خرج بلفظ الخبر غير مرتبط بتحديد وقت، فالنسخ جائز فيه، لانه ليس يكون حينئذ كذبا، وإنما يكون النسخ حينئذ بيانا للوقت الذي لزمنا فيه ذلك العمل، فما جاء بلفظ الخبر على التأييد فلا يجوز نسخه قول الله: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي فلو بدل لكان هذا القول كذبا، ومنه لابد الابد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، والقول في المتعة فهي حرام بحرمة الله ورسوله إلى يوم القيامة، فلو نسخ هذان الامران لكان هذان القولان كذبا إذ كان يبطل وجوده ما أخبرنا بوجوده إلى يوم القيامة، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا بعد أن اتفقوا على جواز نسخ القرآن بالقرآن، وجواز نسخ السنة بالسنة، فقالت طائفة: لا تنسخ السنة بالقرآن ولا القرآن بالسنة، وقالت طائفة: جائز كل ذلك، والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة والسنة تنسخ بالقرآن وبالسنة.
قال أبو محمد: وبهذا نقول وهو الصحيح، وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر والسنة المنقولة بأخبار الآحاد، كل ذلك ينسخ بعضه بعضا، وينسخ الآيات
من القرآن، وينسخه الآيات من القرآن، وبرهان ذلك ما بيناه في باب الاخبار من هذا الكتاب، من وجوب الطاعة لما جاء عن النبي (ص)، كوجوب الطاعة لما جاء في القرآن ولا فرق، وأن كل ذلك من عند الله بقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فإذا كان كلامه وحيا من عند الله عز وجل، والقرآن وحي، فنسخ الوحي بالوحي جائز، لان كل ذلك سواء في أنه وحي.
واحتج من منع ذلك بقوله تعالى: * (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسي) * قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لاننا لم نقل إن رسول الله (ص)

(4/477)


بدله من تلقاء نفسه، وقائل هذا كافر، وإنما نقول: إنه عليه السلام بدله بوحي من عند الله تعالى، كما قال آمرا له أن يقول: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) * فصح بهذا نصا جواز نسخ الوحي بالوحي، والسنة وحي فجائز نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها) * قالوا: والسنة ليست مثلا للقرآن ولا خيرا منه.
قال أبو محمد: وهذا أيضا لا حجة لهم فيه، لان القرآن أيضا ليس بعضه خيرا من بعض، وإنما المعنى نأت بخير منهالكم أو مثلها لكم، ولا شك أن العمل بالناسخ خير من العمل بالمنسوخ، قبل أن ينسخ، وقد يكون الاجر على العمل بالناسخ مثل الاجر على العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ، وقد يكون أكثر منه، إلا أن فائدة الآية أننا قد أمنا أن يكون العمل بالناسخ أقل أجرا من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ، لكن إنما يكون أكثر منه أو مثله، ولا بد من أحد الوجهين، تفضلا من الله تعالى - لا إله إلا هو - علينا.
وأيضا فإن السنة مثل القرآن في وجهين: أحدهما: أن كلاهما من عند الله عز وجل على ما تلونا آنفا من قوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) *.
والثاني استواؤهما في وجوب الطاعة بقوله تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * وبقوله تعالى * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * وإنما افترقا في ألا يكتب في المصحف غير القرآن، ولا يتلى معه غيره مخلوطا به، وفي الاعجاز فقط.
وليس في العالم شيئان إلا وهما يشتبهان من وجه ويختلفان من آخر لا بد من ذلك ضرورة ولا سبيل إلى أن يختلفا من كل وجه، ولا أن يتماثلا من كل وجه، وإذ قد صح هذا كله، فالعمل بالحديث الناسخ أفضل وخير من العمل بالآية المنسوخة، وأعظم أجرا، كما قلنا قبل ولا فرق، وقد قال تعالى: * (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) * وقد تكون المشركة خيرا منها في الجمال وفي أشياء من الاخلاق ونحوها، وإن كانت المؤمنة خيرا عند الله تعالى، وهذا شئ يعلم حسا ومشاهدة، وبالله تعالى التوفيق.

(4/478)


واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانه كل ما جاء عن النبي (ص) فالله عز وجل هو المثبت له، وهو تعالى الماحي به لما شاء أن يمحو من أوامره، وكل من عند الله، وهذه الآية حجة لنا عليهم في أنه تعالى يمحو ما شاء بما شاء عن العموم، ويدخل في ذلك السنة والقرآن.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * قالوا: والمبين لا يكون ناسخا.
قال أبو محمد: وهذا خطأ من وجهين، أحدهما: ما قد بينا في أول الكلام في النسخ، من أن النسخ نوع من أنواع البيان، لانه بيان ارتفاع الامر المنسوخ،
وبيان إثبات الامر الناسخ، والثاني: أن قولهم: إن المبين لا يكون ناسخا دعوى لا دليل عليها، وكل دعوى تعرت من برهان فهي فاسدة ساقطة.
واحتجوا بقوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانه لم يقل تعالى: إني لا أبدل آية إلا مكان آية، وإنما قال لنا: إنه يبدل آية مكان آية، ونحن لم ننكر بل أثبتناه، وقلنا: إنه يبدل آية، ويفعل أيضا غير ذلك، وهو تبديل وحي غير ذلك، متلو مكان آية، ببراهين أخر، وكل ما أبطلنا به أقوالهم الفاسدة في دليل الخطاب، فهو مبطل لاحتجاجهم بهذه الآية.
واحتجوا بقوله تعالى: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه) * قالوا: فإذا منعه الله تعالى من أن يبين القرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه، فهو من نسخه أشد منعا.
قال أبو محمد: وهذا شغب وتمويه، لاننا لم نجز قط أن يكون الرسول عليه السلام ينسخ الآيات من القرآن قبل أن يقضى إليوحي نسخها، وقائل ذلك عندنا كافر، وإنما قلنا: إنه عليه السلام إذا قضى إليربه تعالى وحيا غير متلو بنسخ آية، أبداه رسول الله (ص) إلى الناس حينئذ بكلامه، فكان سنة مبلغة وشريعة لازمة ووحيا منقولا، ولا يضره أن يسمى قرآنا ولا يكتب في المصحف، كما لم يضر ذلك سائر الشرائع التي ثبتت بالسنة، ولا بيان لها

(4/479)


في القرآن، من عدد ركوع الصلوات، ووجوه الزكوات، وما حرم من البيوع وسائر الاحكام، وكل ذلك من عند الله عز وجل.
واحتج بعضهم بقوله تعالى: * (قل نزله روح القدس من ربك) * قال: وهذا لا يطلق إلا على القرآن.
قال أبو محمد: وهذا كله كذب من قائله وافتراء، وكل وحي أتى إلى النبي (ص) بشريعة من الشرائع، فإذا نزل به الروح القدس من ربه، وقد جاء نص الحديث، بأن جبريل عليه السلام نزل فصلى، فصلى رسول الله (ص)، ثم صلى فصلى رسول الله (ص) هكذا، حتى علمه الصلوات الخمس، وليس هذا في القرآن، وقد نزله روح القدس كما ترى.
قال أبو محمد: فبطل كل ما احتجوا به، وبالله تعالى التوفيق.
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا أحدث الله تعالى لنبيه عليه السلام أمرا برفع سنة تقدمت أحدث النبي عليه السلام سنة تكون ناسخة لتلك السنة الاولى.
فأنكر عليه بعض أصحابه هذا القول فقال: لو جاز أن يقال في وحي نزل ناسخا لسنة تقدمت فعمل بها النبي (ص)، أن عمله هذا نسخ السنة الاولى لكان إذا عمل عليه السلام سنة فنسخ بها سنة سالفة له، فعمل بها الناس إن عمل الناس نسخ السنة الاولى، وهذا خطأ.
قال أبو محمد: وهذا اعتراض صحيح، والرسول (ص) مفترض عليه الانقياد لامر ربه عز وجل.
فإنما الناسخ هو الامر الوارد من الله عز وجل، لا العمل الذي لا بد منه، والذي إنما يأتي انقيادا لذلك الامر المطاع.
قال أبو محمد: فيقال لمن خالفنا في هذه المسألة: أيفعل الرسول (ص) أو يقول شيئا من قبل نفسه دون أن يوحى إليه به ؟ فإن قال: نعم، كفر وكذبه ربه تعالى بقوله عز وجل: * (وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحى يوحى) * وبقوله تعالى آمرا له أن يقول: * (ان أتبع إلا ما يوحى إلى) * فلما بطل أن يكون فعله (ص) أو قوله إلا وحيا، وكان الوحي ينسخ بعضه بعضا، كانت السنة والقرآن ينسخ بعضها بعضا.
قال أبو محمد: ومما يبين نسخ القرآن بالسنة بيانا لا خفاء به قوله تعالى:

(4/480)


* (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفا هن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * ثم قال (ص): خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فكان كلامه (ص) الذي ليس قرآنا ناسخا للحبس الذي ورد به القرآن.
فإن قال قائل: ما نسخ الحبس إلا قوله تعالى: * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * قيل له: أخطأت، لان هذا الحديث يوجب بنصه أنه قبل نزول آية الجلد لانه بيان السبيل الذي ذكر الله تعالى، وأمر لهم باستماع تلك السبيل، وأيضا فإن في الحديث التغريب والجلد، وليس ذلك في الآية التي ذكرت، فالحديث هو الناسخ على الحقيقة، لا سيما إذا كان خصمنا من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أو مالك، فإنهم لا يرون على الثيب جلدا إنما يرون الرجم فقط، فوجب على قولهم الفاسد ألا مدخل للآية المذكورة أصل في نسخ الاذى والحبس الذي كان حد الزناة والزواني.
فإن قال قائل منهم: ما نسخ الاذى والحبس إلا ما روي مما كان نازلا وهو: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، قيل له، وبالله تعالى التوفيق: قد تركت قولك ووافقتنا على جواز نسخ القرآن المتلو بما ليس مثله في التلاوة، وبما ليس مثله في أن يكتب في المصحف، فإذا جوزت ذلك، فكذلك كلامه (ص) بنص القرآن وحي غير متلو، وليس ذلك بمانمن أن ينسخ به.
وقد بلح بعضهم ههنا فقال: إنما عنى بقوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * غير المحصنين فقط وقال: كما خرج العبد والامة من هذا النص، فكذلك خرج المحصن والمحصنة منه.
قال أبو محمد: فيقال له: إذا جوزت خروج حكم ما من أجل خروج
حكم آخر بدليل، فلا ننكر على أبي حنيفة قوله: من تزوج أمه وهو يعلم أنها أنه فوطئها خارج عن حكم الزناة، ولا ننكر على مالك قوله: إن من وطئ عمته وخالته بملك اليمين، وهو يعلم أنهما محرمتان عليه خارج عن حكم الزناة، ولا تدخل أنت فيه اللوطي ولا ذكر له فيهم، وهذا من غلطهم أن يخرجوا من الزناة من وقع عليه اسم زان، وأن يدخلوا فيهم من لا يقع عليه اسم زان، وهذا

(4/481)


جهار بالمعصية لله تعالى وخلاف أمره، وتحكم في الدين بلا دليل نعوذ بالله من ذلك.
قال أبو محمد: ومما نسختفيه السنة القرآن، قوله عز وجل: * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * فإن القراءة بخفض أرجلكم وفتحها، كلاهما لا يجوز إلا أن يكون معطوفا على الرؤوس في المسح ولا بد، لانه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف عليه، لانه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان، لا تقول ضربت محمدا وزيدا، ومررت بخالد وعمرا، وأنت تريد أنك ضربت عمرا أصلا، فلما جاءت السنة بغسل الرجلين صح أن المسح منسوخ عنهما.
وهكذا عمل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال عليه السلام: ويل للاعقا ب والعراقيب من النار وكذلك قال ابن عباس: نزل القرآن بالمسح.
قال أبو محمد: والنسخ تخصيص بعض الازمان بالحكم الوارد دون سائر الازمان، وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الاعيان، مثل قوله عليه السلام: لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وما أشبه ذلك، فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الاعيان بالسنة، وبين جواز تخصيص بعض الازمان بها ؟ وما الذي أوجب أن يكون هذا ممنوعا، وذلك موجودا ؟ فإن قالوا: ليس التخصيص كالنسخ، لان التخصيص لا يرفع النص، والنسخ يرفع النص كله.
قيل لهم:
إذا جاز رفع بعض النص بالسنة - وبعض النص نص - فلا فرق بين رفع بعض نص آخر بها، وكل ذلك سواء، ولا فرق بين شئ منه.
قال أبو محمد: وقد أقروا وثبت الخبر، بأن آيات كثيرة رفع رسمها البتة، ولا يجوز أن ترفع بقرآن، إذ لو رفعت بقرآن لكان ذلك القرآن موجودا متلوا، وليس في شئ من المتلو ذكر رفع لآية كذا مما رفع البتة، فوجب ضرورة أن ما ارتفع، رسمه من القرآن فإنما رفعته سنته عليه السلام، و إخباره أن ذلك قد رفع وهذا نفس ما أجزنا من نسخ القرآن بالسنة، فإن قالوا: إنما رفع بالانساء، قيل لهم: الانساء ليس قرآنا، وإنما ذلك هو فعل منه تعالى وأمر بألا يتلى.
قال أبو محمد: ومما نسخ من القرآن بالسنة قوله تعالى: * (إن ترك خيرا الوصية

(4/482)


) * نسخ بعضها قوله (ص): لا وصية لوارث وقد قال قوم: إن آيات المواريث نسخت هذه الآية.
قال أبو محمد: وهذا خطأ محض، لان النسخ هو رفع حكم المنسوخ ومضاد له، وليس في آية المواريث ما يمنع الوصية للوالدين والاقربين إذ جائز أن يرثوا ويوصى لهم مع ذلك من الثلث، ومن بديع ما يقع لمن قال: إن القرآن لا تنسخه السنة، أنهم نسوا أنفسهم، فجعلوا حديث عمران بن الحصين في الستة الاعبد، ناسخا لوصية الوالدين والاقربين، فأثبتوا ما نفوا وصححوا ما أبطلوا، وقد تكلمنا في بطلان ذلك فأغنى عن ترديده، ولا فرق بينهم في دعواهم لذلك وبين من قال: بل الآية نسخت حديث الستة الاعبد.
ومما نسخ من السنة بالقرآن: صلحه (ص) أهل الحديبية إلى المدة التي كانت، ثم نسخ الله تعالى ذلك في سورة براءة، ولم يجز لنا صلح مشرك إلا على الاسلام فقط، حاشا أهل الكتاب، فإنه تعالى أجاز صلحهم على أداء الجزية
مع الصغار، وأبطل تعالى تلك الشروط كلها، وتلك المدة كلها، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في نسخ الفعل بالامر والامر بالفعل قال أبو محمد: قد بينا أن كل ما فعله (ص) من أمور الديانة، أو قاله منها فهو وحي من عند الله عز وجل، بقوله تعالى: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) * وبقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) * والله تعالى يفعل ما يشاء فمرة ينزل أوامره بوحي يتلى، ومرة بوحي ينقل ولا يتلى، ومرة بوحي يعمل به ولا يتلى ولا ينقل، لكنه قد رفع رسمه وبقي حكمه، ومرة أن يري نبيه (ص) في منامه ما شاء، ومرة يأتيه جبريل بالوحي، لا معقب لحكمه، فجائز نسخ أمره (ص) بفعله، وفعله بأمره، وجائز نسخ القرآن بكل ذلك، وجائز نسخ كل ذلك بالقرآن وكل ذلك سواء ولا فرق.
وكذلك الشئ يراه رسول الله (ص) ويقره ولا ينكره، وقد كان تقدم عنه تحريم جلي، فإن ذلك نسخ لتحريمه، لانه مفترض عليه التبليغ، وإنكار المنكر، وإقرار المعروف، وبيان اللوازم، وهو معصوم من الناس، ومن خلاف ما أمره به

(4/483)


ربه تعالى، فلما صح كل ما ذكرنا أيقنا أنه إذا علم شيئا كان قد حرمه ثم علمه ولم يغيره -: أن التحريم قد نسخ، وأن ذلك قد عاد حقا مباحا ومعروفا غير منكر.
وأما إن كان قد تقدم في ذلك الشئ نهي فقط ثم رآه (ص) أو علمه فأقره، فإنما ذلك بين أن ذلك النهي على سبيل الكرامة فقط، لانه لا يحل لاحد أن يقول في شئ من الاوامر، إن هذا منسوخ إلا ببرهان جلي، إذ كلها على وجوب الطاعة لها، وما تيقنا وجوب طاعتنا له، فحرام علينا مخالفته لقول قائل: هذا منسوخ، ولو جاز قبول ذلك ممن ادعاه بلا برهان لسقطت الشرائع كلها، لانه ليس قول زيد وعمر وومالك والشافعي وأبي حنيفة: هذا منسوخ، بأولى
من قول كل من على ظهر الارض - فيما يستعمله من ذكرنا -: هذا أيضا منسوخ.
وقد قال تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * ومن قال في شئ من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله (ص): هذا منسوخ أو هذا متروك، أو هذا مخصوص، أو هذا ليس عليه العمل، فقد قال: دعوا ما أمركم به ربكم أو نبيكم ولا تعملوا به، وخذوا قولي وأطيعوني في خلاف ما أمرتم به.
قال أبو محمد: فحق من قال ذلك أن يعصى، ولا يلتفت إلى كلامه، إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع، كما قدمنا في فصل كيفية معرفة المنسوخ من المحكم.
قال أبو محمد ومما ذكرنا أنه نهى عنه (ص)، ثم رآه فلم ينكره نهيه المصلين خلف الجالس عن القيام.
ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي مات فيه جالسا، والناس وراءه قيام ولم ينكر عليه السلام ذلك، فصح أن ذلك النهي الاول ندب، إلا من فعل ذلك إعظاما للامام، فهو حرام على ما بين عليه السلام يوم صلاته إذ ركب فرس أبي طلحة فسقط.

(4/484)


فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي قال أبو محمد: قال قوم: النسخ يقع حين نزول الوحي، لان المنسوخ - على ما بينا - إنما هو أمر الله المتقدم لا أفعال المأمورين، إلا أن الغائب لا يقع عليه الملامة، ولا الوعيد إلا بعد بلوغ الامر الناسخ إليه، وكذلك سائر الاوامر التي لم تنسخ هي لازمة لكل من قرب وبعد، ولكل من لم يخلق بعد، لكن الملامة والوعيد مرفوعان عمن لم يبلغه حتى يبلغه.
فإذا بلغته فأطاع حمد وأجر وإن عصى ليم واستحق الوعيد وأجره على فعل منسخ - مما لم يبلغه نسخه -
أجر واحد، لانه مجتهد مخطئ كما نص رسول الله (ص) في ذلك.
والذي نقول به: إن النسخ لا يلزم إلا إذا بلغ وبين ما قلنا قوله تعالى: * (لانذركم به ومن بلغ) * فإما أوجب الحكم بعد البلوغ.
فلو أن من بلغ المنسوخ - ممن بعد عن رسول الله (ص) ثم لم يبلغه الناسخ أقدم على ترك المنسوخ الذي بلغه دون علم الناسخ وعمل بالناسخ، كان عليه إثم المستسهل لترك الفرض، لا إثم تارك الفرض: إنه لا يجوز لمن علم نسخ الحكم أن ينفذ عليه حكم تارك الحكم لأن كل واحد منهما له حكم ما بلغه ومن بلغه تحريم الحكم على الجاهل، لم يجز له أن يحكم عليه بحكم العالم.
مثال ذلك: رجل لقي رجلا فقتله على نية الحرابة، فإذا بذلك المقتول هو قاتل وا الذي قتله، أو وجده مشركا محاربا، فهذا ليس عليه إثم قاتل مؤمن عمدا، ولا قود عليه ولا دية، لانه لم يقتل مؤمنا حرم الدم عليه، وإنما عليه إثم مريد قتل المؤمن عمدا ولم ينفذ ما أراد، وبين الاثمين بون كبير، لان أحدهما هام، والآخر فاعل، وكإنسان لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها، فإذا بها زوجته، فهذا ليس عليه إثم الزنى، ومن قذفه حد حد القذف، لكن عليه إثم مريد الزنى.
ولا حد عليه، ولا يقع عليه اسم فاسق بذلك.
وقد صح عن رسول الله (ص): من هم بسيئة فليعملها لم تكتب عليه، ولو أن رجلا ممن بلغه فرض استقبال بيت المقدس ولم يبلغه نسخ ذلك، وصلى إلى الكعبة لكان مفسدا لصلاته

(4/485)


بعبثه فيها، لا بصلاته إلى غير القبلة، ولان الائتمار إنما يكون بعد العلم بالامر اللازم له لا قبل، ولا تكون طاعة أصلا إلا بنية وقصد إلى عمل بعد ما أمر به علمه بأنه لازم له، وإلا فهو عبث، لا يسمى ذلك في اللغة طائعا أصلا، ولكتب عليه اسم المستسهل للصلاة إلى غير القبلة، ومثاله الآن: بينما رجل في
صحراء أداه اجتهاده إلى جهة ما فخالفها متعمدا، فوافق في الوجهة التي صلى إليها إن كانت القبلة على حق، فهذا عابث في صلاته فاسق، وليس مصليا إلى غير القبلة.
قال أبو محمد: كذلك كانت صلاة أهل قباء، ومن كان بأرض الحبشة إلى بيت المقدس صلاة تامة، وإن كان النسخ قد وقع بالقبلة إلى الكعبة على من بلغه لانهم لم يعلموا ذلك، ولكن أجرهم على صلاتهم كذلك أجران، وأما من بلغه ذلك ثم نسيه، أو تأول فيه فأجرهم على صلاته كذلك أجرا واحدا لانهم مجتهدون أخطؤوا ما عند الله عز وجل، وهم مأمورون باستقبال الكعبة، ولكنهم غير ملومين ولا آثمين في ترك ذلك، لانهم معذورون بالجهل، وهذا بين وبالله تعالى التوفيق، وليس كذلك أهل قباء، ومن كان بأرض الحبشة، لافرضهم البقاء على ما بلغهم، حتى ينتقل بلوغ النسخ إليهم.
قال أبو محمد: وقد تبين بهذا ما قلناه في غير موضع من كتابنا، أن المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب، وكذلك قلنا في جميع العبادات، فإن سأل سائل عن قولنا في الوكيل يعزله موكله أو يموت، فينفذ الوكيل ما كان وكل عليه بعد عزله، وهو يعلم أنه معزول، أو بعد موت الذي وكله وهو لا يعلم بموته قلنا له، وبالله تعالى التوفيق: قال الله عز وجل: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *.
وقال (ص): د ماؤكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام فكل أمر انفذه الوكيل بعد عزله وهو غير عالم فنافذ، لان عازله ولا يعلمه مضار، وقد قال (ص): من ضار أضر الله به فهو منهي عن المضارة.
وأما ما أنفذ بعد موت موكله - وهو عالم أو غير عالم - فهو مردود منسوخ، لانه كاسب على غيره بغير نص ولا إجماع، ولا يجوز القياس أصلا ولكل حكم حكمه، وليست هذه الامور بابا واحدا فيستوي الحكم فيها، إلا أن يكون وكله على دفع وديعة أو دين أو حق لآخر فهذا نافذ، عزله أو علم الوكيل أنه عزله أو أنه مات، أو لم يعلم

(4/486)


لان الذي فعل حق للمدفوع إليه لا للدافع، فليس كاسبا على غيره بل فعل فعلا واجبا على كل أحد أن يفعله، أمر بذلك أو لم يؤمر، لانه قيام بالقسط.
قال الله تعالى: * (كونوا قوامين بالقسط) * وقال تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى) * ومن البر إيصال كل أحد حقه.
وأما القاضي والامين يعزله الامير فليس للامام أن يضيع أمور المسلمين فيبقيهم دون من ينفذ أحكامهم، لكن يكتب أو يوصي إلى القاضي أو الوالي إذا أتاك عهدي فاعتزل عملنا.
فإن لم يفعل كذلك فكل حكم أنفذه المعزول قبل أن يعلم العزل بحق فهو نافذ، لانه لم يكلف علم الغيب، وقد ظلم الامام إذ عزله دون تقديم غيره، والظلم مردود، ومن باع مال غيره أو تأمر فحكم فوافق أن صاحب ذلك المال المبيع قد كان وكله قبل أن يبيع ما باع، ولم يعلم الوكيل بذلك، أو وافق أن الامام قد كان ولاه ما تأمر عليه، ولم يعلم هو بذلك، فكل ما فعل فمردود منسوخ، لانهما غير مطيعين بما فعلا، بل هما عاصيان لان الطاعة عمل من الاعمال والاعمال بالنيات، ولا نية لهذين فيما فعلا لانهما لم يفعلا كما أمرا بل كما لم يؤمرا.
كما قلنا قبل فيمن صلى إلى جهة ولا يشك أنها غير القبلة.
فوافق أنها القبلة فصلاته فاسدة، لانه لم ينو الطاعة المأمور بها، وكذلك من باع فوافق أنه ماله ولا يعلم، أو قد ورثه أو استحقه فبيعه ذلك مردود أبدا، وكذلك هبته وصدقته لو وهبه أو تصدق به.
وكذلك لو كان عبدا فأعتقه.
ويرد كل ذلك لانه عمل لم يعمل بالنية التي أبيح له أن يعمله بها ولا عمل إلا بنية.
وأما من لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها فإذا هي زوجته.
فإنها تستحق بذلك جميع المهر وتحل لمطلقها ثلاثا، لان الوطئ لا يحتاج فيه إلى نية، وقد رجم النبي (ص) بوطئ في الكفر، ولو تزوجها وهو عاقل ثم جن فوطأها
في حال جنونه لاستحقت في ماله جميع الصداق بلا خوف، ويلحق به الولد بلا خوف فصح أن الوطئ لا يحتاج فيه إلى نية بإجماع.
وأما من صام رمضان وهو لا يدري فوافق رمضان فلا يجزيه.
وكذلك الصلاة يصليها وهو لا يدري أدخل وقتها أم لا.
لان هذه الاعمال تقضي نية مرتبطة بها لا يصلح العمل إلا بها.
فإن امتزجت بغير تلك النية أو عدمت ارتباط

(4/487)


النية بها بطلت، وكذلك الصلاة خاصة.
فإنها قد دخل فيها عمل يبطلها وهو العبث، وكذلك الزكاة يعطيها بغير نية أنها زكاة.
قال أبو محمد: وموت الموكل عزل لوكيله البتة.
وموت الامام بخلاف ذلك، وليس موته عزلا لعماله حتى يعزلهم الامام الوالي بعده، لان مال الموكل قد انتقل إلى وراثة غيره.
وقد قال تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *، ولان رسول الله (ص) قد مات وله عمال باليمن والبحرين وغيرهما، فلم يختلف مسلمان في أن موته (ص) لم يكن عزلا لمن ولى حتى عزل أبو بكر من عزل منهم.
والقياس باطل وهاتان مسألتان قد فرق بينهما النص والاجماع، ولا سبيل إلى الجمع بينهما.
فصل في النسخ بالاجماع قال أبو محمد: النسخ بالاجماع المنقول عن النبي (ص) جائز لان الاجماع أصله التوقيف من النبي (ص)، إما بنص قرآن أو برهان قائم من آي مجموعة منه، أو بنص سنة أو برهان قائم منها كذلك، أو بفعل منه عليه السلام أو بإقرار منه عليه السلام لشئ علمه.
فإذا كان الاجماع كذلك فالنسخ به جائز.
قال أبو محمد: وقد ادعى قوم أن الاجماع صح على أن القتل منسوخ على
شارب الخمر في الرابعة.
قال أبو محمد: وهذه دعوة كاذبة، لان عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو يقولان بقتله، ويقولان جيئونا به فإن لم نقتله فنحن كاذبان.
قال أبو محمد: وبهذا القول نقول، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس قال أبو محمد: وقد أجاز قوم نسخ القرآن والسنة بالقياس.
قال أبو محمد: وهذا قول تقشعر منه الجلود والقياس باطل، والكلام في إبطاله مكان من هذا الديوان إن شاء الله تعالى، ومن العجب العجيب أن القائلين بهذا الامر العظيم يمنعون من نسخ القرآن بالسنة، فهل في عكس الحقائق

(4/488)


أعظم من هذا.
وإذا كان القياس باطلا فالباطل لا يحل استعماله، ولا ترك الحقائق له وقد أجاز قوم نسخ السنة بقول الصاحب.
قال أبو محمد: وهذا كفرمن قائله، وخروج عن الاسلام لقوله تعالى: * (ايوم أكملت لكم دينكم) * فهذا تكذيب للباري تعالى، ومن كذب وأجاز لاحد أن يزيد في الدين أو يبدله أو ينقص منه فقد كفر، فمن أضل ممن دان بأن غير رسول الله (ص) يبطل برأيه وإرادته دينا أتى به النبي (ص) عن الله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن الامة مجمعة بلا خلاف، على أن خبر التواتر عن رسول الله (ص) لا يحل لاحد أن يعارضه بنظر، وخبر الواحد إذا صح عند القائلين به كخبر التواتر عن رسول الله (ص) في وجوب الطاعة ولا فرق، فمن أجاز نسخه بنظر أو معارضته بقياس، فقد تناقض وخرج عن الاجماع، وفي هذا ما فيه، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الحادي والعشرون
في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الاحكام قال الله تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * الآية، وأنبأنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثنا يزيد بن إبراهيم التستري، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد عن عائشة.
قالت: تلا رسول الله (ص): * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أو لوا الألباب) *.
قالت: قال رسول الله (ص): إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله تعالى فاحذروهم، وبه إلى مسلم قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني قال: حدثنا زكريا، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله (ص) يقول،

(4/489)


- وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه: إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن حمى الله محارمه وقال تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن) * وقال تعالى: * (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين.
قال أبو محمد: فوجدناه تعالى قد حض على تدبر القرآن، وأوجب التفقه فيه، والضرب في البلاد لذلك ووجدناه تعالى قد نهى عن اتباع المتشابه منه، ووجدناه (ص) قد أخبر بأن المتشابهات - التي بين الحرام البين والحلال البين - لا يعلمها كثير من الناس، فكان ذلك فضلا لمن علمها، فأيقنا أن الذي
نهى عز وجل عن تتبعه، هو غير الذي أمر بتتبعه وتدبره والتفقه فيه، وأيقنا بلا شك أن المشتبه الذي غبط (ص) عالمه، هو غير المتشابه الذي حذر من تتبعه، هذا الذي لا يقوم في المعقول سواه، إذ لا يجوز أن يكلفنا تعالى طلب شئ، وينهانا عن طلبه في وقت واحد، فلما علمنا ذلك وجب علينا طلب المتشابه الذي أمرنا بطلبه، لنتفقه فيه، وأن نعرف أي الاشياء هو المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فنمسك عن طلبه.
فنظرنا في القرآن وتدبرناه، كما أمرنا تعالى فوجدناه جاء بأشياء منها التوحيد وإلزامه، فكان ذلك مما أمرنا باعتقاده والفكرة فيه، فعلمنا أنه ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه، ومنها صحة النبوة وإلزامنا الايمان بها، فعلمنا أن ذلك ليسمن المتشابه الذي نهينا عن تتبعه، ومنها الشرائع المفترضة والمحرمة والمندو ب إليها والمكروهة والمباحة، وذلك كله مفترض علينا تتبعه وطلبه، فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذى نهينا عن تتبعه.
ومنها تنبيه على قدرة الله تعالى وذلك مما أمرنا بالتفكر فيه بقوله تعالى: * (أفلا ينظرون إلى الا بل كيف خلقت) * وبقوله تعالى: * (ويتفكرون فخلق السماوات والارض) * مثنيا عليهم، فأيقنا أنه ليس من المتشابه.
ومنها أخبار سالفة جاءت على معنى الوعظ لنا، وهي مما أمرنا بالاعتبار به بقوله تعالى: * (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب) * فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه

(4/490)


الذي نهينا عن تتبعه.
ومنها وعد أمرنا وحضضنا على العمل لاستحقاقه، ووعيد حذرنا منه، وكل ذلك مما أمرنا به بالفكرة فيه لنجتهد في طلب الجنة، ونفر عن النار، فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه.
فلما علمنا أن كل ما ذكرنا ليس متشابها، وعلمنا يقينا أنه ليس في القرآن إلا
محكم ومتشابه، وأيقنا أن كل محكم فلما أيقنا ذلك ضرورة علمنا يقينا أن ما عدا ما ذكرنا هو المتشابه، فنظرنا لنعلم أي شئ هو فنجتنبه ولا نتتبعه - وإنما طلبناه لنعلم ماهيته لا كيفيته ولا معناه، فلم نجد في القرآن شيئا غير ما ذكرنا، حاشا الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور، وحاشا الاقسام التي في أوائل بعض السور أيضا فعلمنا يقينا أن هذين النوعين هما المتشابه الذي نهينا عن اتباعه، وحذر النبي (ص) من المتبعين له، وكذلك وجدنا عمر رضي الله عنه، قد أوجع صبيا على سؤاله عن تفسير والذاريات.
فصح ضرورة أن هذين القسمين هما المتشابه الذي نهينا عن ابتغاء تأويله، إذ لم يبق بعد ما ذكرنا مما أمرنا بتتبعه إلا هذان النوعان، فلم يبق غيرهما، فحرام على كل مسلم أن يطلب معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور.
مثل: * (كهيعص) * و * (حم عسق) * و * (ن) * و * (الم) * و * (ص) * و * (طسم) * وحرام أيضا على كل مسلم أن يطلب معاني الاقسام التي في أوائل السور، مثل: * (والنجم) * و * (الذاريات) * * (والطور) * * (والمرسلات عرفا) * * (والعاديات ضبحا) * وما أشبه ذلك.
قال أبو محمد: وقد قال قوم: إن المتشابه هو ما اختلف فيه من أحكام القرآن.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش، لان هذا القول دعوى ورأي من قائله لا برهان على صحته، وأيضا فإن ما اختلف فيه، فلا بد من أن الحق في بعض ما قيل فيه موجود واضح لمن طلبه برهان ذلك قوله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وقوله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فالبيان مضمون موجود، فمن طلبه طلبا صحيحا وفقه الله تعالى، وأيضا فإن الاحكام المختلف فيها فرض علينا تتبعها، وابتغاء تأويلها، وطلب حكمها الحق فيها والعناية بها والعمل بها، وأما المتشابه فحرام علينا بالنص تتبعه وطلب معناه، فبطل بذلك أن يكون المختلف فيه متشابها.
وإذا بطل ذلك صح أنه محكم، ولا يضر الحق جهل

(4/491)


من جهل، ولا اختلاف من اختلف فيه.
وقال آخرون: المتشابه هو ما تقابلت فيه الادلة.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش، لانه دعوى من قائله بلا برهان، ورأي فاسد، ولان تقابل الادلة باطل، وشئ معدوم لا يمكن وجوده أبدا في الشريعة، ولا في شئ من الاشياء، والحق لا يتعارض أبدا.
وإنما أتى من أتى في ذلك لجهله بيان الحق، ولاشكال تمييز البرهان عليه مما ليس ببرهان، وليس جهل من جهل في إبطال الحق.
ودليل الحق ثابت لا معارض له أصلا.
وقد بينا وجوه البراهين في كتابنا التقريب وكتابنا الموسوم بالفصل، وفي كتابنا هذا ولا سبيل إلى أن يأمرنا تعالى بطلب أدلة قد ساوى فيها بين الحق والباطل، ومن نسب هذا إلى الله تعالى فقد ألحد، وأكذبه ربه تعالى إذ يقول: * (تبيانا لكل شئ) * وإذ يقول تعالى: * (قد تبين الرشد من الغي) * وبقوله تعالى: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * فصح أن متشابه الاحكام الذي ذكر (ص) أنها لا يعلمها كثير من الناس مبينة بالقرآن والسنة، يعلمها من وفقه الله تعالى لفهمه من الفقهاء الذين أمر عز وجل بسؤالهم إذ يقول تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *.
وقد قال قوم إن قوله تعالى: * (والراسخون في العلم) * معطوف على الله عز وجل.
قال أبو محمد: وهذا غلط فاحش، وإنما هو ابتداء وخبره في: * (يقولون) * والو أو لعطف جملة على جملة.
وبرهان ذلك أن الله حرم تتبع ذلك المتشابه، وأخبر أن متبعه وطالب تأويله زائغ القلب مبتغي فتنة، وحذر النبي (ص) ممن اتبعه، ولا سبيل إلى علم معنى شئ دون تتبعه وطلب معناه، فإذا كان التتبع حراما فالسبيل إلى علمه مسدود، وإذا كانت مسدودة فلا سبيل إلى علمه أصلا، فصح أن الراسخين لا يعلمونه أبدا، وأيضا فإن فرضا على العلماء بيان ما علموا الناس كلهم
يقول الله تعالى: * (لبيننه للناس ولا يكتمونه) * وبقوله عز وجل: * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) *.
قال أبو محمد: فلو علمه الراسخون في العلم، لكان فرضا عليهم أن يبينوه للناس

(4/492)


ولو لم يبينوه لكانوا ملعونين، ولو بينوه لعلمه الناس، ولو علمه الناس لكان محكما لا متشابها.
ولتساوى فيه الراسخون وغيرهم، وهذا ضد ما قال تعالى، فبطل بذلك قول من ظن أن الراسخين يعلمونه وأما ذمه عليه السلام من جهل تلك المتشابهات إن وقع حولها، فإنما ذلك بنص الحديث خوف مواقعة الحرام البين، فصح أن تلك المتشابهات ليست حراما في ذاتها على من جهلها خاصة، ليست حراما عليه، إذ لم يبلغه تفصيل تحريمها عليه، ولكن الورع أن يتركها خوف وقوعه في الحرام البين.
قال أبو محمد: وبين صحة قولنا في هذا الباب ما حدثناه عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى بن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، ثنا يزيد بن إبراهيم التستري، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: تلا رسول الله (ص): * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالباب) * قالت قال رسول الله (ص): إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم.
قال أبو محمد: فقد حذر عليه السلام ممن اتبع ما تشابه من القرآن، وقد علمنا أن اتباع أحكامه كلها فرض، فصح أن المتشابه هو غير ما أمرنا بتدبيره
والتفقه فيه كما ذكرنا.
وقد تأول قوم في قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * إن ذلك نزل في قوم من المنافقين كانوا يعترضون على التنازل من القرآن ويقولون لعله سينزل غدا نسخه، فيحملون معنى تأويله على أنه مآله.
أي لا يعلم النازل من القرآن أينسخ أم لا لا إله إلا الله تعالى.
قال أبو محمد: وهذا فاسد لانه دعوى بلا برهان، وما كان هكذا هو باطل بيقين.
لقول الله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) وتخصيص ما يقتضيه كلام الله تعالى ما لم يقل وكذب عليه، نعوذ بالله من هذا، وليكن هذا تخصيصا

(4/493)


للآية بلا دليل.
وقد أبطلنا تخصيص الظواهر بلا دليل فيما خلا من كتابنا هذا لاننا الآن قد علمنا ما لكل آية في القرآن وغيرها ما قد نسخ منها وما لم ينسخ بعد أبدا.
وقال قوم أيضا: إن معنى: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * أي وما يعلم علة نزول الآيات إلا الله.
قال أبو محمد: وهذا أيضا فاسد كالذي قبله، لانه دعوى بلا برهان وتقويل لله ما لم يقل، وإخبار عنه تعالى بما لم يخبر به عن نفسه، ولانه لو كان كما ذكروا لكان لنزول الآيات علل لا يعلمها إلا الله عز وجل، وقد أبطلنا قول من قال: إن الله تعالى يفعل لعلة في باب إبطال العلل من كتابنا هذا، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الثاني والعشرون في الاجماع، وعن أشئ يكون الاجماع وكيف ينقل الاجماع قال أبو محمد: اتفقنا نحن وجميع أهل الاسلام - جنهم وإنسهم - في كل زمان إجماعا صحيحا متيقنا، على أن القرآن الذي أنزله الله على محمد رسول الله (ص) وكل ما قاله محمد (ص) فإنه حق لازم لكل أحد، وإنه دين الاسلام.
ثم
اختلفوا في الطريق المؤدية إلى رسوله (ص)، فاعلموا رحمكم الله أن من اتبع نص القرآن، وما أسند من طريق الثقات إلى رسول الله (ص) فقد اتبع الاجماع يقينا، وأن من عاج عن شئ من ذلك فلم يتبع الاجماع.
وكذلك إجماع أهل الاسلام كلهم جنهم وإنسهم، في كل زمان وكل مكان، على أن السنة واجب اتباعها، وأنها ما سنه رسول الله (ص)، وكذلك اتفقوا على وجوب لزوم الجماعة، فاعلموا رحمكم الله أن ما اتبع ما صح برواية الثقات مسندا إلى رسول الله (ص) فقد اتبع السنة يقينا، ولزوم الجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون لهم بإحسان، ومن أتى بعدهم من الائمة وأن من اتبع أحدا دون رسول الله (ص) فلم يتبع السنة، ولا الجماعة وأنه كاذب في ادعائه السنة والجماعة فنحن - معشر المتبعين للحديث المعتمدين عليه - أهل السنة والجماعة حقا بالبرهان الضروري، وأننا أهل الاجماع كذلك، والحمد لله رب العالمين.
ثم اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الاجماع من علماء أهل الاسلام حجة

(4/494)


وحق مقطوع به في دين الله عز وجل.
ثم اختلفنا، فقالت طائفة: هو شئ غير القرآن وغير ما جاء عن النبي (ص)، لكنه: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه، لكن برأي منهم أو بقياس منهم عن منصوص.
وقلنا نحن: هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الامة على غير نص - من قرآن أو سنة عن رسول الله (ص) - يبين في أي قول المختلفين هو الحق، لا بد من هذا فيكون من وافق ذلك النص، هو صاحب الحق المأجور مرتين، مرة على اجتهاده وطلبه الحق، ومرة ثانية على قوله بالحق واتباعه له.
ويكون من خالف ذلك النص - غير مستجيز لخلافه، لكن قاصدا إلى الحق مخطئا - مأجورا أجرا واحدا على طلبه للحق، مرفوعا عنه الاثم إذا لم يعمد له.
وقد تيقن أيضا أن لا يختلف المسلمون في بعض النصوص، ولكن يوقع الله عز وجل لهم الاجماع
عليه كما أوقع تعالى بينهم الاختلاف فيما شاء أن يختلفوا فيه من النصوص.
واحتجت الطائفة المخالفة لنا بأن قالت: قال الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) *.
قالوا: فافترض الله طاعة أولي الامر، كما افترض طاعة رسوله (ص)، وكما افترض طاعة نفسه عز وجل أيضا ولا فرق.
فلو كان عز وجل إنما افترض طاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله (ص) لما كان لتكرار الامر بطاعتهم بمعنى، لانه يكتفي عز وجل بذكر طاعة رسوله (ص) فقط، لانها على قولكم معنى واحد، فصح أنه إنما افترض عز وجل طاعتهم فيما قالوه برأي أو قياس، مما ليس فيه نص عن الله تعالى ولا عن رسوله (ص).
قال أبو محمد: وجمعوا في استدلالهم بهذه الآية إلى تصحيح الاجماع، تصحيح القول بالرأي والقياس فيما ظنوا، وقالوا أيضا: قال عز وجل: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه) * قالوا: وهذه كالتي قبلها، وقالوا أيضا: قال الله عز وجل: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم) * قالوا: فتوعدوا على مخالفة سبيل المؤمنين أشد الوعيد، فصح فرض اتباعهم فيما أجمعوا عليه، من أي

(4/495)


وجه أجمعوا عليه، لانه سبيلهم الذي لا يجوز ترك اتباعه.
وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا سعيد بن منصور، وأبو الربيع العتكي، وقتيبة، قالوا: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبى، عن ثوبان قال: قال رسول الله (ص): لا تزال طائفة
من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله - زاد العتكي وسعيد في روايتهما -: وهم كذلك.
وبه إلى مسلم حدثنا منصور بن أبي مزاحم، ثنا يحيى بن حمزة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني عمير بن هاني، قال: سمعت معاوية على المنبر يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفريري، ثنا البخاري، ثنا الحميدي، ثنا الوليد هو ابن مسلم، ثنا ابن جابر هو عبد الرحمن بيزيد بن جابر - حدثني عمير بن هاني قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله (ص): لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قالوا: فصح أنه لا تجتمع أمة محمد (ص) على غير الحق أبدا، لانه (ص) قد أنذر بأنه لا يزال منهم قائم بالحق أبدا.
قال أبو محمد: وقد روي أنه عليه السلام قال: لا تجتمع أمتي على ضلالة وهذا وإن لم يصح لفظه ولا سنده فمعناه صحيح بالخبرين المذكورين آنفا.
قال أبو محمد: هذا كل ما احتجوا به، ما لهم حجة غير هذا أصلا.
قال أبو محمد: وكل هذا حق لا ينكره مسلم ونحن لم نخالفهم في صحة الاجماع، وإنما خالفناهم في موضعين من قولهم.
أحدهما: تجويزهم أن يكون الاجماع على غير نص.
والثاني: دعواهم الاجماع في مواضع ادعوا فيه الباطل، بحيث لا يقطع أنه إجماع بلا برهان.
أما في مكان قد صح فيه الاختلاف موجودا، وإما في مكان

(4/496)


لا نعلم نحن فيه اختلافا إلا أن وجود الاختلاف فيه ممكن، نعم، وقد خالفوا
الاجماع المتيقن على ما تبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإذا الامر هكذا فلا حجة لهم في شئ من هذه النصوص أصلا فيما أنكرناه عليهم.
إنما الاخبار التي ذكرنا عن رسول الله (ص) فإنما فيها أن أمته عليه السلام لا تجتمع ولا ساعة واحدة من الدهر على باطل، بل لا بد أن يكون فيهم قائل بالحق وقائم بالحق وقائم به، وهكذا نقول، وهذا الخبر إنما فيه بنص لفظه وجود الاختلاف فقط، وأن مع الاختلاف فلا بد فيهم من قائل بالحق.
وأما قوله تعالى: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم) * فإنها حجة قائمة عليهم، والحمد لله رب العالمين، وذلك أن الله تعالى لم يتوعد في هذه الآية متبع على غير سبيل المؤمنين فقط، لا مع مشاقته لرسول الله (ص) بعد أن تبين الهدى وهذا نص قولنا، والحمد لله رب العالمين.
واعلم أنه لا سبيل للمؤمنين البتة إلا طاعة القرآن والسنن الثابتة على رسول الله (ص)، وأما إحداث شرع لم يأت به نص فليس سبيل المؤمنين، بل هو سبيل الكفر، قال الله تعالى: * (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) *.
قال أبو محمد: هذه سبيل المؤمنين بنص كلام الله تعالى، لا سبيل لهم غيرها أصلا فعادت هذه الآية حجة لنا عليهم، وأما قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * وقوله تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم) * فإن هذا مكان قد اختلف الصدر الاول فيه في من هم أولي الامر كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي، ثنا محمد بن مفرج، ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ، ثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو معاوية - هو محمد بن خازم الضرير - عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قال: هم الامراء.
وروينا عن مجاهد والحسن وعكرمة وعطاء قال: هم الفقهاء، وروينا ذلك بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور، عن هشيم وسفيان بن عيينة، قال هشيم:

(4/497)


أخبرنا أبو معاوية، ومنصور، وعبد الملك بن معاوية، عن الاعمش، عن مجاهد، ومنصور، عن الحسن، وعبد الملك، عن عطاء، وقال سفيان عن الحكم بن أبان عن عكرمة.
قال أبو محمد: فإذا لم يأت قرآن ببيان أنهم العلماء المجمعون، ولا صح بذلك إجماع، فالواجب حمل الآيتين على ظاهرهما، ولا يحل تخصيصهما بدعوى بلا برهان، لانه مع ذلك تقويل لله عز وجل ما لم يقل، ونحن نقطع بأنه تعالى لاراد بعض أولي الامر دون بعض لبينه لنا، ولم يدعنا في لبس فوجب ما قلناه من حمل الآيتين على عمومهما.
فنقول: إن أولي الامر المذكورين في الآيتين هو الأراء والعلماء، لأن كلتا الطائفتين أولو الأمر منا، وإذ هذا هو الحق، فمن الباطل المتيقن أن يقول قائل: إن الله تعالى أمرنا بقبول طاعة الامراء العلم فيما لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله (ص) فصح أن طاعة العلماء الامراء إنما تجب علينا فيما أمرنا به، مما أمر الله به تعالى ورسوله (ص) فقط.
وأما قولهم: إن الله تبارك وتعالى لو أراد هذا لاكتفى بالامر بطاعة الرسول عليه السلام على أن يذكر تعالى أولى الامر - فكلام فاسد، لانه يقال لهم: إن قلتم إن ذكره تعالى طاعة أولي الامر منا فيما قالوا برأي أو قياس لا فيما نقلوه إلينا عن النبي (ص)، إذ قد أغنى أمره تعالى بطاعة الرسول عن تكراره -: فيلزمكم سواء بسواء أن تقولوا أيضا: إن أمره تعالى بطاعة رسوله (ص) بعد أمره بطاعة نفسه عز وجل، دليل على أنه عز وجل، إنما أمرنا بطاعة رسول الله (ص) فيما قاله من عند نفسه، لا فيما أتانا به من عند ربه عز وجل، إذ قد أغنى أمر بطاعة نفسه عن تكراره لا فرق بين القولين.
فإن أبيتم من هذا ظهر تناقضكم وتحكمكم بالباطل بلا بر هان، وإن جسرتم وقلتموه أيضا كنتم أتيتم بعظائم مخالفة للقرآن وللرسول عليه الو للاجماع المتيقن، إذ جوزتم أن يأتي رسول الله (ص) بشرائع لم يوح الله تعا لى بشئ منها إليه قط، والله تعالى قد أكذب هذا القول إذ أمره أن يقول:

(4/498)


* (إن أتبع إلا ما يوحى) * وإذ يقول عز وجل مخبرا عنه (ص): * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فأخبر تعالى عن أن النبي (ص) لا ينطق البتة إلا بوحي يوحى إليه، وأنه لا يتبع البتة إلا ما يوحي الله تعالى إليه فقط، فمن كذب ربه فلينظر أين مستقره.
وإذا جوزتم أن يجمع الناس على شرائع يحدثونها لم يوح بها الله تعالى إلى رسوله (ص) ولا بينها رسوله (ص)، والله تعالى يكذب من قال هذا، إذ يقول: * (ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم) * فالدين قد كمل وما كمل فلا مزيد فيه أصلا.
وأما تكرار الله تعالى الامر بطاعة رسوله (ص) بعد أمره بطاعة نفسه تعالى، وتكراره الامر بطاعة أولي الامر بعد أمره بطاعة الرسول (ص) وإن كان كل ذلك ليس فيه إلا طاعة ما أمر الله به فقط لا ما لم يأت به الوحي منه عز وجل، فوجه ذلك واضح وهو بيان زائد، لولا مجيئه لالتبس على بعض الناس فهم ذلك الامر، وذلك أنه لو لم يأمرنا الله تعالى إلا على الامر بطاعته فقط، لتوهم بعض الجهال أنه لا يلزمنا إلا ما قاله تعالى في القرآن فقط، وأنه لا يلزمنا طاعة رسوله (ص) فيما جاءنا به مما ليس في نص القرآن، فلما أمر تعالى مع طاعته بطاعة رسوله (ص) ليظهر البيان ولم يمكن أن يمنع من طاعة رسول الله (ص) فيما أمرنا إلا معاند له.
ولو لم يأمرنا تعالى إلاعلى الامر بطاعة أولي الامر منا لامكن أن يهم جاهل فيقول: لا يلزمنا طاعة رسول الله (ص)
إلا فيما سمعنا منه مشافهة.
فلما أمرنا تعالى بطاعة أولي الامر منا ظهر البيان في وجوب طاعة ما نقله إلينا العلماء عن النبي (ص) فقط، فبطل أن يكون لهاتين الآيتين متعلق، والحمد لله رب العالمين.
فإن قالوا: لو كان هذا لمكان قوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * معنى، لا ن ما جاءنا عن الله تعالى وعن النبي (ص) فواجب قبوله، اتفق عليه أو اختلف فيه، فأي معنى للفرق وبين أمره تعالى بطاعة أولي الامر، ثم أمره بالرد عند الشارع إلى الله ورسول ؟ قلنا: ليس في قوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فرد وه إلى الله والرسول) * خلاف لامره تعالى بطاعة أولي الامر، بل كل ذلك ليس فيه إلا طاعة القرآن

(4/499)


والسنن المبلغة إلينا فقط، ولكن في قوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * معنى زائد ليس فيما تقدم من الآية، وهو نهيه تعالى عن تقليد أحد واتباعه، والامر بالاقتصار على القرآن والسنة فقط ولا مزيد.
وأيضا والكل من المسلمين متفقون على أن رسول الله (ص) أمرنا أن نصلي إلى بيت المقدس مدة، ثم أمرنا بترك تلك القبلة وبالصلاة إلى مكة، فوجب ذلك، وأنه عليه السلام لو نهانا عن أن نصلي الخمس وعن صوم رمضان لحرم علينا أن نصليها أو نصومه، وهكذا في سائر الشرائع، أفهكذا القول عندكم وأمرنا بذلك بعد جميع أهل الارض ؟ فإن قالوا: نعم، كفروا، وإن قالوا: لا، فرقوا بين طاعته عليه السلام وطاعة أولي الامر.
فإن قالوا: هذا محال، لا يجوز أن يجمع الناس على ذلك لا نكفر وضلال، قلنا: صدقتم وكذلك أيضا محال لا يجوز أن يجمعوا على إحداث شرع - ليأمر الله تعالى به ولا رسوله (ص) برأي أو بقياس، ولا فرق، فبطل أن يكون لهم في شئ من النصوص المذكورة متعلق بوجه من الوجوه،
والحمد لله رب كثيرا.

(4/500)


وقالوا: لو كان الاجماع لا يكون إلا عن نص وتوقيف لكان ذلك النص محفوظا، لان الله تعالى قال: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * فلما لم يوجد ذلك النص علمنا أن الاجماع ليس على نص.
قال أبو محمد: وهذا كلام أوله حق وآخره كذب.
ونحن نقول: لا إجماع إلا عن نص، وذلك النص: إما كلام منه (ص) فهو منقول، ولا بد محفوظ حاضر، وإما عن فعل منه عليه السلام فهو منقول أيضا كذلك، وإما إقراره - إذ علمه فأقره ولم ينكره - فهي أيضا حال منقولة محفوظة، وكل من ادعى إجماعا علمه على غير هذه الوجوه كلفناه تصحيح دعواه، في أنه إجماع لا سبيل إلى برهان على ذلك أبدا بأكثر من دعواه، وما كان دعوى بلا برهان فهو باطل، فإن لجأ إلى ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع، قلنا له: وهذا تدبير من الكذب والدعوى الافيكة بلا برهان وتمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب بعد هذا - مفرد لبعض قول من قال: إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع - ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فكيف وفيما ذكرنا ههنا من أنها دعوى بلا برهان كفاية.
قال أبو محمد: وإذا قد بطل كل ما اعترضوا به، فلنقل بعون الله تعالى على إيراد البراهين على صحة قولنا، قال عز وجل: * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) * فأمرنا تعالى أن نتبع ما أنزل ونهانا عن أن نتبع أحدا دونه قطعا، فبطل بهذا أن يصح قول أحد لا يوافق النص، وبطل بهذا أن يكون إجماع على غير نص، لان النص باطل، والاجماع حق، والحق لا يوافق الباطل.
وقد ذكرنا قوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * فصح أنه لا يحدث بعد النبي (ص) شئ من الدين، وهذا باطل أن يجمع على شئ من الدين لم يأت به قرآن
ولا سنة، ويصح بضرورة العقل أنه لا يمكن أن يعرف أحد ما كلفه الله تعالى عباده إلا بخبر من عنده عز وجل، وإلا فالخبر عنه تعالى بأنه أمر بكذا، ونهي عن كذا كاذب على الله عز وجل إلا أن يخبر بذلك عنه تعالى من يأتيه الوحي من عند ربه فقط.
وصح أيضا بضرورة العقل، أن من أدخل في الدين حكما يقر بأنه لم يأت به وحي من عند الله تعالى عن رسوله (ص)، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وقد ذم الله تعالى ذلك وأنكره في نص القرآن فقال: * (شرعوا

(4/501)


لهم من الدين ما لم يأذن به الله) *.
قال أبو محمد: ومن طريق النظر الضروري الراجع إلى العقل والمشاهدة والحس أننا نسأل من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه فيكون حقا لا يسع خلافه، فنقول له، وبالله تعالى التوفيق: أفي الممكن عندك أن يجتمع علماء جميع الاسلام في موضع واحد، حتى لا يشذ عنهم منهم أحد بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في الامصار ؟ أم هذا ممتنع غير ممكن البتة ؟ فإن قال: هذا ممكن، كابر العيان، لان علماء أهل الاسلام قد افترق الصحابة رضي الله عنهم في عصر رسول الله (ص) إلى اليوم وهلم جرا لم يجتمعوا مذ أن افترقوا، فصار بعضهم في اليمن في مدنها، وبعضهم في عمان، وبعضهم في البحرين، وبعض في الطائف وبعض بمكة، وبعض بنجد.
وبعض بجبل طيئ، وكذلك في سائر جزائر العرب.
ثم اتسع الامر بعده عليه السلام، فصاروا من السند وكابل، إلى مغارب الاندلس، وسواحل بلاد البربر، ومن سواحل اليمن إلى ثغور أرمينية، فما بين ذلك من البلاد البعيدة واجتماع هؤلاء ممتنع غير ممكن أصلا لكثرتهم وتنائي أقطارهم.
فإن قال: ليس اجتماعهم ممكنا، قلنا: صدقت.
وأخبرنا الآن كيف الامر إذا قال بعضهم قولالا نص فيه، أتقطع على أنه حق، وأنت لا تدري أيجمع عليه سائرهم أم لا ؟ أم تقففيه ؟ فإن قال: أقطع بأنه حق، قلنا:
حكمت بالغيب وبما لا تدري، وحكمت بالباطل بلا شك، فإن قال: بل أقف فيه حتى يجمع عليه سائرهم قلنا: فإنما يصح إذ قال به آخر قائل منهم، فلا بد من نعم فيقال لهم: فلو خالفهم فعلى قولك لا يكون حقا، فمن قوله نعم فيقال له: فكيف يكون حقا ما يمكن أمس أن يكون باطلا، وهذا حكم على الله تعالى، وليس هذا حكم الله وكفى بهذا بيانا.
وأيضا فإن اليقين قد صح بأن الناس مختلفون في هممهم، واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه، وينفرون عما سواه، متباينون في ذلك تباينا شديدا متفاوتا جدا فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس، ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد، ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف، ومنهم جانح إلى

(4/502)


لين العيش يميل إلى الترفيه، ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة، ومنهم معتدل في كل ذلك إلى التوسط، ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الانكار، ومنهم حليم يميل إلى الاغضاء، ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلا، لاختلاف دعاويهم ومذاهبهم فيما ذكرنا، وإنما يجمع ذو الطبائع المختلفة على ما استووا فيه من الادراك بحواسهم، وعلموه ببدائة عقولهم فقط، وليست أحكام الشريعة من هذين القسمين فبطل أن يصح فيها إجماع على غير توقيف، وهذا برهان قاطع ضروري.
وأما الاجماع على القياس، فيبطل من قرب، لانهم لم يجمعوا على صحة القياس، فكيف يجمعون على ما لم يجمعوا عليه.
قال أبو محمد: فاعترض فيها بعض المخالفين فقال: قد اختلف الناس في القول بخبر الواحد، وقد أجمع على بعض ما جاء به خبر الواحد.
قال أبو محمد: وهذا باطل ومخرقة ضعيفة، لان المسلمين لم يختلفوا قط في
وجوب طاعة رسول الله (ص)، وإنما اختلفوا في الطريق المؤدية إليه (ص) والذين لا يقولون بخبر الواحد.
ثم أجمعوا على حكم ما جاء من أخبار الآحاد - فإنهم يقولون: إنما قلنا به لانه نقل كافة، لا لانه خبر واحد.
فإن قلتم: إن من القياس ما يوافق النص، قلنا لكم: المتبع حينئذ إنما هو النص ولا نبالي وافقه القياس أو خالفه، فلم نتبع القياس قط وافق النص أو خالفه، وكذلك لا يجوز الاجماع على قول إنسان دون النبي (ص) لانه لا أحد بعده إلا وقد خالفه طوائف من المسلمين في كثير من قوله.
وأيضا فإن كان من بعده عليه السلام فممكن أن يصيب وأن يخطئ، فاتباع خطأ من أخطأ باطل وأما صواب المصيب في الدين، فإنما هو باتباع النص، فالنص هو المتبع حينئذ لا قول الذي اتبع النص، وإنما يجب اتباع النص سواء وافقه الموافق أو خالفه المخالف.
وأيضا فإنه يقال لمن أجاز الاجماع على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله (ص): أخبرونا عما جوزتم من الاجماع - بعد رسول الله (ص) على غير نص، هل يخلو من أربعة أوجه لا خامس لها ؟ إما أن يجمعوا على تحريم شئ مات (ص) ولم يحرمه، أو على تحليل شئ مات رسول الله (ص) وقد حرمه، أو على إيجاب فرض مات رسول الله (ص) ولم يوجبه أو على إسقاط فرض مات

(4/503)


رسول الله (ص) قد أوجبه، وكل هذه الوجوه كفر مجرد وإحداث دين بدل به دين الاسلام، ولا فرق بين هذه الوجوه، وبين من جوز الاجماع على إسقاط الصلوات الخمس أو بعضها أو ركعة منها، أو على إيجاب صلوا ت غيرها أو ركوع زائدة فيها، أو على إبطال صوم رمضان أو على إيجاب صوم شهر رجب، أو على إبطال الحج إلى مكة، أو على إيجابه إلى الطائف، أو على إباحة الخنزير، أو على تحريم الكبش، كل هذا كفر صراح لا خفاء به.
فإن
قالوا: كل هذه نصوص، وإنما جوزنا الاجماع على ما لا نص فيه، قلنا: وكل ما ذكرنا لا نص فيه، وإنما هي شرائع زائدة في دين الله تعالى أو ناقصة منه هذه صفة ما لا نص فيه لا سبيل إلى أن يكون حكم لا نص فيه يخرج من أحد هذين الوجهين.
فإن قالوا: هذا لا يجوز، رجعوا إلى قولنا من قرب، ومن أجاز شيئا من هذا كفر، وبالله تعالى التوفيق.
وهذا أيضا برهان قاطع في إبطال القول بالقياس بالرأي والاستحسان لا مخلص منه.
واعلموا أن قولهم: هذه المسألة لا نص فيها، قول باطل، وتدليس في الدين، وتطريق إلى هذه العظائم، لان كل ما يحرمه الله تعالى على لسان نبيه (ص) إلى أن مات (ص) فقد حلله بقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الارض جميعا) * وقوله: * (قد فصل لكم ما حرم عليكم) * وكل ما لم يأمر به عليه السلام فلم يوجبه، وهذه ضرورة لا يمكن أن يقوم في عقل أحد غيرها، وأما كل ما نص يأمر به (ص) بالامر به أو النهي عنه فقد حرمه أو أوجبه فلا يحل لاحد مخالفته، فصح أنه لا شئ إلا وفيه نص جلي فصح أنه لا إجماع إلا على نص، ولا اختلاف إلا في نص كما ذكرنا، ولا قياس يوجب في نص إلا وهو زائد في الدين أو ناقص منه ولا بد.
ثم نقول لهم أيضا: أخبرونا عن الاجماع جملة، هل يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها بضرورة العقل ؟ أما أن يجمع الناس على ما لا نص فيه كما ادعيتم فقد أريناكم بطلان ذلك، وأنه محال ذلك وأنه محال وجوده لصحة وجود النصوص في كل شئ من الدين أو يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله (ص) فهذا كفر مجرد كما قدمنا.

(4/504)


أو يكون إجماع الناس على شئ منصوص فهذا قولنا هذه قسمة ضرورية لا محيد
عنها أصلا، وإذ هو كما ذكرنا فاتباع النص فرض، سواء أجمع الناس عليه أو اختلفوا فيه، لا يزيد النص مرتبة في وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه، ولا يوهن وجوب اتباع اختلاف الناس فيه، بل الحق حق وإن اختلف فيه، وإن الباطل باطل وإن كثر القائلون به، ولولا صحة النص عن النبي (ص) بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به - فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل - لقلنا: والباطل باطل وإن أجمع عليه، لكن لا سبيل إلى الاجماع على باطل.
قال أبو محمد: فإذا الامر كذلك فإنما علينا صلب أحكام القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله (ص): إذ ليس في الدين سواهما أصلا ولا معنى لطلبنا هل أجمع على ذلك الحكم أو هل اختلف فيه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل: فقد صححتم الاجماع آنفا، ثم توجبون الآن أنه لا معنى له، قلنا: الاجماع موجود كما الاختلاف موجود، إلا أننا لم يكلفنا الله تعالى معرفة شئ من ذلك، إنما كلفنا اتباع القرآن وبيان رسول الله (ص) الذي نقله إلينا الامر منا، على ما بينا فقط، ولان أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما وحي مثبت في المصحف، وهو القرآن وإما وحي غير مثبت في المصحف، وهو بيان رسول الله (ص)، قال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * وقال تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *.
ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها، إما شئ نقلته الامة كلها عصرا بعد عصر، كالايمان والصلوات والصيام ونحو ذلك، وهذا هو الاجماع ل يس من هذا القسم شئ لم يجمع عليه، وإما شئ نقل نقل تواتر كافة عن كافة من عند نا كذلك إلى رسول الله (ص) ككثير من السنن وقد يجمع على بعض ذلك، وقد يختلف
فيه، كصلاة النبي (ص) قاعدا بجميع الحاضرين من أصحابه، وكدفعه

(4/505)


خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم إذا شاء وغير ذلك كثير، وإما شئ نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغا إلى رسول الله (ص) فمنه ما أجمع على القول به، ومنه ما اختلف فيه، فهذا معنى الاجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البتة، ومن ادعى غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري، ويقول ما لا علم له، ويقول بما لا يفهم، ويدين بما لا يعرف حقيقته.
وبالله تعالى التوفيق، وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل.
فصل في اختلاف الناس في وجوه من الاجماع قال أبو محمد: ثم اختلف الناس في وجوه من الاجماع، لا علينا أن نذكرها إن شاء الله تعالى، وإن كنا قد بينا آنفا أنه حاجة بأحد إلى طلب إجماع أو اختلاف، وإنما الفرض على الجميع، والذي يحتاج إليه الكل، فهو معرفة أحكام القرآن، وما ثبت عن رسول الله (ص) فقط، كما بينا أن أهل العلم مالوا إلى معرفة الاجماع، ليعظموا خلاف من خالفه، ويزجروه عن خلافه فقط، وكذلك مالوا إلى معرفة اختلاف الناس، لتكذيب من لا يبالي بادعاء الاجماع - جرأة على الكذب، حيث الاختلاف موجود - فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه فقط، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فقالت طائفة: الاجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط، وأما إجماع من بعدهم فليس إجماعا، وقالت طائفة: إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح، ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة منهم: إذا صح إجماع كل عصر ما فهو إجماع صحيح، وليس لهم ولا لاحد بعد أن يقول بخلافه.

(4/506)


وقالت طائفة منهم أخرى: بل يجب مراعاة ذلك العصر، فإن انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافا لما أجمعوا عليه، فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لاحد خلافه، وإن رجع أحد منهم عما أجمع مع أصحابه فله ذلك، ولا يكون ذلك إجماعا.
وقالت طائفة: إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف، ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا.
وقالت طائفة: بل إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما، ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول أهل العصر الماضي، فهو إجماع صحيح لا يسع أحدا خلافه أبدا، وقالت طائفة: إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلا أو أقل أو أكثر فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه، وهو إجماع صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الاقوال، فلا يسع أحدا الخروج على تلك الاقوال كلها، له أن يتخير منها ما أداه إليه اجتهاده.
وقالت طائفة: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع صحيح لا يجوز خلافه لاحد، وقالت طائفة: ليس إجماعا، وقالت طائفة: إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد، وقول الجمهور هو إجماع صحيح، وهذا قول محمد بن جرير الطبري.
وقالت طائفة: ليس هذا إجماعا.
وقالت طائفة: قول الجمهور والاكثر إجماع، وإن خالفهم من هو أقل عددا منهم، وقالت طائفة ليس هذا إجماعا.
وقالت طائفة: إجماع كل أهل المدينة هو الاجماع، وهذا قول المالكيين ثم اختلفوا، فقال ابن بكير منهم وطائفة معه: سواء كان عن رأي أو قياس أو نقلا، وقال محمد بن صالح الابهري منهم وطائفة معه: إنما ذلك فيما كان نقلا فقط.
وقالت طائفة: إجماع أهل الكوفة، وهذا قول بعض الحنفيين.
وقالت طائفة: إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة ولم يعرف له مخالف منهم، فهو إجماع، وإن خالفه من بعد الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين.

(4/507)


وقال بعض الشافعيين: إنما يكون إجماعا إذا اشتهر ذلك القول فيهم وانتشر، ولم يعرف له منهم مخالف، وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فليس إجماعا، بل خلافه جائز.
ثم ههنا أقوال هي داخلة في باب الهوس إن سلم أصحابها من القصد إلى التلاعب بالدين، كقول بعض الحنفيين: ليس لاحد أن يختار بعد أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد، وأن اختيارات الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق راهويه وأبي ثور وداود بن علي وسائر العلماء - شذوذ خرق الاجماع.
وكقول بكر بن العلاء القشيري المالكي: إن بعد سنة مائتين قد استقر الامر، وليس لاحد أن يختار، وكقول إنسان ذكره أبو ثور في رسالة له ورد عليه وكان قوله: إنه ليس لاحد أن يخرج عن اختيارات الاوزاعي وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح.
قال أبو محمد: أصناف الحمق أكثر من أصناف التمر، ويكفي في بطلان كل قول من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ثابتة عن رسول الله (ص) قول الله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) * وقوله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * فصح أنه لا برهان في الدين إلا ما حده الله تعالى، وأن حدود الله ليست إلا في كلامه، وبيان رسول الله (ص) فقط وأن من لم يأت في قوله في الدين ببرهان - من القرآن وأن حكم مستند ثابت إلى رسول الله (ص) - فليس من الصادقين، بل هو كاذب آفك
ضال مضل، وبالله تعالى التوفيق، إلا أنه لا بد - بحول الله تعالى - من بيان شبه هذه الاقوال الفاسدة، التي قد عظم خطأ أهلها وكثر اتباعها، لعل الله تعالى يهدي بهداه لنا أحدا - فيكون خيرا لنا من حمر النعم، كما قال رسول الله (ص) - وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل.
واعلموا أن جميع هذه الفرق متفقة على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح، وقائلون بأن كل ما اشتهر فيهم رضي الله عنهم، ولم يقع منهم نكير له، فهو إجماع صحيح، فاعلموا أن إجماع هذه الفرق على ما ذكرنا، حاكم لنا عليهم، وموجب لنا أننا المتبعون للاجماع، وأن مخالفينا كلهم مخالفون للاجماع بإقرارهم، والحمد لله رب العالمين، كما نذكر في الباب المتصل بهذا إن شاء الله تعالى.

(4/508)


فصل ذكر الكلام في الاجماع إجماع من هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم أم الاعصار بعدهم ؟ وأي شئ هو الاجماع وبأي شئ يعرف أنه إجماع ؟ قال أبو محمد: قال سليمان وكثير من أصحابنا: لا إجماع إلا إجماع الصحابة رضي الله عنهم، واحتج في ذلك بأنهم شهدوا التوقيف من رسول الله (ص)، وقد صح أنه لا إجماع إلا عن توقيف، وأيضا فإنهم رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين لا مؤمن من الناس سواهم، ومن هذه صفته فإجماعهم هو إجماع المؤمنين، وهو الاجماع المقطوع به، وأما كل عصر بعدهم فإنما بعض المؤمنين لا كلهم، وليس إجماع بعض المؤمنين إجماعا، إنما الاجماع إجماع جميعهم، وأيضا فإنهم كانوا عددا محصورا يمكن أن يحاط بهم وتعرف أقوالهم، وليس من بعدهم كذلك.
قال أبو محمد: أما قوله: إنهم شهدوا التوقيف من رسول الله (ص) فهو كما قال، وهذا إنما هو حجة في أنه لا إجماع إلا عن توقيف ولا شك في أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح، وإنما الكلام في الاعصار بعدهم، وقد عارضه مخالفوه
بأن قالوا: قد يجوز أن يحمل أهل عصر بعدهم على دليل نص قرآن أو سنة، فهذا يدخل في التوقيف، وأما قوله: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين، وإن من بعدهم إنما هو بعض المؤمنين فقول صحيح يعرف صدقه بالعيان والمشاهدة إلا أنه قد عارض مخالفوه في نكتة من هذه الجملة، وهو أنه قال: إن كان هكذا فإنه مذ مات خديجة رضي الله عنها، أو بعض قدماء الصحابة رضي الله عنهم، فإن الباقين منهم إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم أيضا، فقل: إن الاجماع إنما هو إجماع من أسلم منهم بمكة قبل أن يموت منهم أحد، فعارضه بعض أصحابنا بأن قال: نعم، هذا حق، ما جاء قط نص قرآن ولا سنة بتسمية ما اتفق عليه من بقي من بعد من مات إجماعا.
قال بعض أصحابنا: لا، ولكن نقول: إن كل من مات منهم رضي الله عنهم، فنحن موقنون قاطعون بأنه لو كان حيا لسلم الوحي المنزل من القرآن أو البيان من رسو الله (ص) لانه لم يمت إلا مؤمنا بكل ما ينزل على رسول الله (ص) بعده بلا شك، وليس كذلك من بعدهم، لانه حدث فيمن بعدهم من لا يقول بخبر الواحد الثقة عن رسول الله (ص) فلا نقطع عليهم بطاعة ما حكم به (ص) بخلاف الصحابة الذين من مات منهم فهو داخل في الاجماع بهذه الجملة.

(4/509)


فعارضه المخالف فقال: إن الامر وإكان كذلك، فمع ذلك فقد كان يمكن أن يخالف الوحي متأولا باجتهاده كما فعل عمروخالد وأبو السنابل وغيرهم، فإن لم يعتد هذا خلافا، لانه وهم من صاحبه، فلا يعتبخلاف أحد من أهل الاسلام للنص - إذا خالفه متأولا باجتهاده - لان كل مسلم كان أو يكون فإنه مسلم لما قاله رسول الله (ص) وحكم به، وإن خالف بعد ذلك متأولا باجتهاده مخطئا، قاصدا إلى الخير في تقديره فقد صار على هذا القول كل حكم إجماعا وبطل الاختلاف.
قال أبو محمد: وهذا اعتراض غير صحيح، ولا يمنع مما أوجبه أبو سليمان من
أن من بعد الصحابة إنما هم بعض المؤمنين - لا كلهم لان كل حكم نزل من الله تعالى بعد موت من مات من الصحابة رضي الله عنهم، فلم يكلفوا قط ألا يخالفوا فقط أن لا يخالفوا ذلك الحكم، لانه لم يبلغهم، وإنما يلزمهم الحكم بعد بلوغه.
قال الله عز وجل: * (لانذركم به ومن بلغ) * وإنما كان يراعي إجماعهم عليه، أو خلافهم له لو بلغهم، وليس من بعدهم - إذا بلغ الحكم - كذلك، بل إن اتبعوه لقد أجمعهم عليه، ومن خالفه منهم مجتهدا فقد وجب الاختلاف في ذلك الحكم.
وأما قوله: إن عد الصحابة رضي الله عنهم كان محصورا، ممكنا جمعه وممكنا ضبط أقوالهم، وليس كذلك من بعدهم، فإنما كان هذا إذا كانوا كلهم بحضرة رسول الله (ص) قبل تفرقهم في البلاد، وأما بعد تفرقهم فالحال في تعذر حصر أقوالهم كالحال فيمن بعدهم سواء ولا فرق، هذا أمر يعرف بالمشاهدة والضرورة.
قال أبو محمد: وأما من قال: إن إجماع أهل كل عصر فهو إجماع كل صحيح، فقول الباطل لما ذكرنا من أنهم بعض المسلمين لا كلهم، لكنه حق لما ذكرنا قبل من قول رسول الله (ص): إنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله.
قال أبو محمد: ونحن - إن شاء الله - مبينون كيفية الاجماع بيانا ظاهرا يشهد له الحس والضرورة، وبالله تعالى التوفيق.
فنقول: إن الاجماع - الذي هو الاجماع المتيقن ولا إجماع غيره - لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى، لكن ينقسم قسمين: أحدهما: كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الاسلام، في أن من لم يقل به فليس مسلما، كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: وكوجوب

(4/510)


الصلوات الخمس، وكصوم شهر رمضان، وكتحريم الميتة والدم والخنزير، والاقرار بالقرآن، وجملة الزكاة، فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما،
فإذا ذلك كذلك فكل من قال بها فهو مسلم، فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الاسلام.
والقسم الثاني: شئ شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول الله (ص)، أو تيقن أنه عرفه كل من غاب عنه (ص) منهم، كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر.
يخرجهم المسلمون إذا شاؤوا.
فهذا لا شك عند كل أحد في أنه لم يبق مسلم في المدينة إلا شهد الامر أو وصل إليه، يقع ذلك الجماعة من النساء والصبيان الضعفاء.
ولم يبق بمكة والبلاد النائية مسلم إلا عرفه وسر به.
على أن هذا القسم من الاجماع قد خالفه قوم بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، وهما منهم وقصدا إلى الخير وخطأ باجتهادهم فهذان قسمان للاجماع ولا سبيل إلى أن يكون الاجماع خارجا عنهما، ولا أن يعرف إجماع بغير نقل صحيح إليهما.
ولا يمكن أحدا إنكارهما، وما عداهما فدعوى كاذبة، وبالله تعالى ومن ادعى أنه يعرف إجماعا خارجا من هذين النوعين.
فقد كذب على جميع أهل الاسلام، ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا.
قال أبو محمد: نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا ابن الورد، نا أحمد بن حماد زغبة، نا يحيى بن بكير، نا الليث بن سعد، حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب، قال أخبرني أنس بن مالك: أنه سمع عمر بن الخطاب الغد حين بايع المسلمون أبا بكر في مسجد رسول الله (ص) وقد استوى أبو بكر على المنبر ثم استوى - يعني عمر - فتشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله تعالى، ولا في عهد عهده إلي رسول الله (ص)، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله (ص) حتى يدبرنا، فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله، فخذوا به تهتدوا بما هدي له رسول الله (ص).

(4/511)


قال أبو محمد: فهذا عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة جميع الصحابة - رضي الله عنهم -: يعلن ويعترف بأنه يقول القول لم يجده في قرآن وفي سنة وأنه ليس كما قال.
ولا ينكر ذلك أحد من الصحابة، ويأمر باتباع القرآن ولا يخالفه في ذلك أحد منهم، فصح أن قولنا بألا يتبع ما روي عن أحد من الصحابة إلا أن يوجد في قرآن أو سنة هو إجماع الصحابة الصحيح، وأن وجوب اتباع النصوص هو الاجماع الصحيح، وهو قولنا والحمد لله رب العالمين، وأن من خالف هذين القولين فقد خالف الاجماع الصحيح.
وكذلك من قلد إنسانا بعينه في جميع أقواله، أو جهل وكده الاحتجاج بجميع أقوال إنسان بعينه، كما فعل الحنفيون والمالكيون والشافعيون -: خلاف متيقن لجميع عصر الصحابة، ولجميع عصر التابعين، ولجميع عصر تابعي التابعين أولهم عن آخرهم، فنحن ولله الحمد المتبعون للاجماع، وهم المخالفون للاجماع المتيقن، نسأل الله تعالى أن يفئ بهم إلى الهدى وأن يثبتنا عليه.
فصل في من قال إن الاجماع لا يجوز لاحد خلافه وأما من قال: إن الاجماع لا يجوز لاحد خلافه، فقول صحيح.
وضعوه موضع تلبيس، وأخرجوه مخرج تدليس، وصارت كلمة حق أريد بها باطل، وذلك أنهم أوهموا أن ما لا إجماع فيه، فإن الاختلاف فيه سائغ جائز.
قال أبو محمد: وهذا باطل، بل كل ما أجمع عليه أو اختلف فيه فهما سوا في هذا الباب، فهلا يحل لاحد خلاف الحق أصلا سواء أجمع عليه أو اختلف فيه، فإقيل: فهلا عذرتم من خالف الاجماع كما عذرتم من خالف فيم فيه خلاف ؟ قلنا: كلا لعمري ما فعلنا شيئا مما تقولون، ولا فرق عندنا فيما نسبتم إلينا الفرق بينه بل قولنا الذي ندين الله تعالى به هو أنه لا حق في الدين فيما جاء به كلام الله تعالى في القرآن، أو بيان رسول الله (ص) للوحي المنزل إليه،
وأنه لا يحل لاحد خلاف شئ من ذلك، فمن جهل وأخطأ قاصدا إلى الخير، لم يتبين له الحق ولا فهمه، فخالف شيئا من ذلك فسواء أجمع عليه أو اختلف

(4/512)


فيه، هو مخطئ معذور مأجور مرة، كمن أسلم ولم يبلغه فرض الصلاة، أو كمن أخطأ في القرآن الذي لا إجماع كالاجماع عليه، فأسقط آية أو بدل كلمة أو زادها غير عامد، لكنه مقدر أنه كذلك، فهذا لاإثم عليه ولا حرج.
وهكذا في كل شئ ومن عمد فخالف ما صح عن النبي (ص)، غير مسلم بقلبه أو بلسانه أنه كحكمه عليه السلام فهو كافر، سواء كان فيما أجمع عليه أو فيما اختلف فيه قال تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * وإن خالف ما صح عنده من ذلك بعلمه، وسلم له بقلبه ولسانه، فهو مؤمن فاسق، كالزاني وشارب الخمر وسائر العصاة، سواء كان مما أجمع عليه أو مما اختلف فيه.
فهذه الحقائق التي لا يقدر أحد على معارضتها، لا الاقوال المموهة وبالله تعالى التوفيق.
فصل وأما في من قال بمراعاة انقراض العصر في الاجماع، فمن أحسن قول قيل.
لأن عصر الصحابة رضى الله عنهم، اتصل مائة عام وثلاثة أعوام.
لأن سمية أم عامر رضي الله عنها ماتت في أول الاسلام، ثم لم يزالوا يموت منهم من بلغ أجله، كأبي أمامة وخديجة وعثمان بن مظعون وقتلى بدر وأحد وأهل البعوث، عاما عاما.
ومن مات في خلال ذلك، إلى أن مات أنس سنة إحدى وتسعين من الهجرة، وكان عصر التابعين مداخلا لعصر الصحابة رضي الله عنهم، لانه لما أسلم الاثنا عشر رجلا من الانصار رضي الله عنهم، قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر كاملة لانهم أسلموا في ذي الحجة في أيام الحج - وحملوا مع أنفسهم مصعب بن عمير
رضي الله عنه معلما لهم القرآن والدين، وبقوا كذلك تمام عام، ثم حج منهم سبعون مسلما وثلاث نسوة مسلمات - كلهم يعرف اسمه وحسبه - وهم أهل بيعة العقبة، وتركوا بالمدينة إسلاما كثيرا فاشيا، يتجاوز المائتين من الرجال والنساء ثم هاجر (ص) في ربيع الاول.
فلا شك في أنه قد مات في تلك الخمسة عشر شهرا منهم موتى من نساء ورجال، لانهم أعداد عظيمة وكلهم من جملة التابعين - وهم الجمهور - إلا من شاهد منهم النبي (ص) وهم الاقل.

(4/513)


وهكذا كل مسلم ممن أسلم ولم يلق النبي (ص) من جميع جزيرة العرب، كبلاد اليمن، والبحرين، وعمان والطائف، وبلاد مصر وقضاعة، وسائر ربيعة وجبلي طيئ والنجاشي.
فكل من لم يلق منهم النبي (ص) فهو من التابعين، فلم يزل التابعون يموت منهم الواحد والاثنان والعشرات والمئون والآلاف من قبل الهجرة بسنة وشهرين إلى أن مات آخرهم في حدود ثمانين ومائة من الهجرة، كخلف بن خليفة الذي رأى عمرو بن حريث، وكمن ذكر عنه أنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، فمن هذا الواهي دماغه الذي يتعاطى مراعاة انقراض أهل عصر، مقدار مائة عام وثلاثة أعوام، ثم عصر آخر مقدار مائة سنة وثمانين سنة، ويضبط أنفاسهم وإجماعهم، هل اختلفوا بعد ذلك أم لا ؟ فكيف أن يوجب ذلك على الناس لا سيما وأهل ذينك العصرين متداخلان مضى كثير من أهل العصر الثاني، قبل انقراض العصر الاول بدهر طويل أكثر من مائة عام، وقد أفتى جمهورهم من الصحابة كعلقمة ومسروق وشريح وسليمان وربيعة وغيرهم ماتوا في عصر الصحابة.
وهكذا تتداخل الاعصار إلى يوم القيامة.
وقد اعترض بعضهم في هذا بقول رسول الله (ص): خيركم القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فقلت: بين الامرين فرق كما
بين النور والظلمة لان الذي تباينت به الاعصار المذكورة، هو شفوف في الفضل لا يلحقه الآخرون، معروف لمن تأخر من قرن الصحابة على من تقدم من قرن التابعين.
وليس كذلك جواز الفتيا، لانه إن لم تجز الفتيا لتابع حتى ينقرض عصر الصحابة، لم تجز فتيا من ذكرنا ممن مات من التابعين في عصر الصحابة، وهذا باطل، أو يقولون إنه يراعي انقراض عصر التابعين مع عصر الصحابة معا، ففي هذا مراعاة كل عصر إلى يوم القيامة مع عصر الصحابة لتداخل الاعصار، وهذا محال والذي يدخل هذا القول من الجنون أكثر من هذا، لانه يجب على قولهم أنه إذا لم يبق من الصحابة إلا أنس وحده، فإنه كان له ولغيره من

(4/514)


التابعين أن يرجعوا عما أجمعوا عليه قالها أنس.
انسد عليهم هذا الباب وألقيت المعلقة فحرم عليهم الرجوع ما كان مباحا لهم قبيل ذلك وكفى بهذا جنونا.
وليت شعري متى يمكن التطوف عليهم في آفاقهم، بل ألا يزايلهم إلى أن يموتوا ومتى جمعوا له في صعيواحد، ما في الرعونة أكثر من هذا، ولا في الهزل والتدين بالباطل ما يفوق هذا ونعوذ بالله العظيم من الضلال.
فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ماوأما من قال: إذا اختلف أهل عصر ما، في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا فإنه كلام فاسد لان الاختلاف لا حكم له إلا الانكار له والمنع منه وإيجاب القول على كل أحد بما أمر الله تعالى به في كتابه أو على لسان رسوله (ص) فقط ولا مزيد فالاختلاف لا يحل أن يثبت، ولا يسع أحدا خلاف الحق أصلا لكن من خالفه جاهلا متأولا فهو مخطئ معذور مأجور أجرا واحدا كما ذكرنا آنفا.
وفرض على كل من بلغه الحق أن يرجع إليه فإن عانده بقلبه أو بلسانه عالما بالحق
فهو كافر وإن عانده بفعله عالما ففاسق، كما قدمنا وبالله تعالى التوفيق.
فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان على أحد لاقوال التي اختلف عليه أهل الماضي، فليس لاحد خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الثاني، فقد قلنا في تعذر علم هذا بما قلنا آنفا، وسنزيد في ذلك بيانا لا يحيل إن شاء الله تعالى عن ذي لب، وقد قلنا: إنه لا معنى لمراعاة ما أجمع عليه مما اختلف فيه، إنما هو حق أو خطأ، والحق في الدين ليس إلا في كلام الله تعالى أو بيان رسول الله (ص) الثابت عنه بنقل الثقات مسندا فقط.
وهذا لا يسع أحدا خلافه ولا يقويه ولا يزيده رتبة في أنه حق أن يجمع عليه ولا يوهنه أن يختلف فيه والخطأ هو خلاف النص، ولا يحل لاحد أن يخطئ لانه يعذر

(4/515)


بتأوله وجهله كما قدمنا أو يكفر بعناده أو بقلبه أو بلسانه أو يفسق بمخالفته بعمله فقط وبالله تعالى ولا سبيل إلى إجماع أهل عصر ما، على خلاف نص ثابت، لان خلاف التوفيق النص باطل، ولا يجوز إجماع الامة على باطل لقول النبي (ص): لا تزال طائفة من أمتي على الحق، فصح أن هذا القول - الذي صدرنا في الباب - فاسد.
فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة وأما قول من قال: إن افترق أهل العصر على أقوال كثيرة جدا أو أكثر من واحد، فإن ما لم يقولوه قد صح الاجماع منهم على تركه، فقد قلنا في تعذر معرفة ذلك وحصره، ونقول أيضا إن شاء الله تعالى وقد قلنا، إنه لا يمكن مع ذلك أن يجمع أهل عصر طرفة عين، فما فوقها خطأ على خطأ لاخبار النبي (ص) بأنه: لا تزال طائفة من أمتي على الحق فهذه الاقوال كلها متخاذلة غير موضوعة وضعا
صحيحا خارجة عن الامكان إلى الامتناع وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به.
قال أبو محمد: فموهوا ههنا بأن قالوا: قد صح الاجماع من الصحابة رضي الله عنهم بعد رسول الله (ص) على المنع من بيع أمهات الاولاد، وكان بيعهم على عهده (ص) حلالا وقد صح إجماعهم على جلد شار ب الخمر ثمانين جلدة، ولم يكن ذلك على عهده (ص) وقد صح إجماعهم على إسقاط ستة أحرف من جملة الاحرف السبعة التي كانت على عهد رسول الله (ص).
قلنا: كذبتم وأفكتم، أما جلد شارب الخمر ثمانين فيعيذ الله تعالى عمر من أن يشرع حدا لم يأت به وحي من الله تعالى ورسوله (ص).
ونحن نسألكم: ما الفرق بين ما تدعونه بالباطل من إحداث حد لم يشرعه رسول الله (ص) في الخمر ؟ وبين إثبات حد في اللياطة بقطع الذكر أو في الزنى بجلد مائتين أو بقطع يد الغاصب ؟ أو بقلع أضراس آكل الخنزير ؟ وما الفرق بين هذا كله وبين إسقاط صلاة وزيادة أخرى، وإبطال صوم رمضان وإحداث شهر آخر، ومن أجاز هنا فقد خرج عن الاسلام، وكفر كفرا صراحا، ولحق بالباطنية وغلاة الروافض واليهود والنصارى الذين بدلوا دينهم، وإنما

(4/516)


جلد عمر الاربعين الزائدة تعزيرا، كما صح عنه أنه كان إذا أتي بمن تتابع في الخمر جلده ثمانين، وإذا أتي بمن لم يكن له منه إلا الوهلة ونحوها جلده أربعين.
ويا معشر من لا يستحي من الكذب، أين الاجماع الذي تدعونه ؟ وقد صح أن عثمان وعليا وعبد الله بن جعفر - بحضرة الصحابة - جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر.
كما حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا يحيى بن حماد، ثنا عبد العزيز بن المختار، ثنا عبد الله بن الفيروز الداناج
- مولى ابن عامر - ثنا حصين بن المنذر أبو ساسان قال: شهدت عثمان أتى الوليد يشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، والثاني أنه قاءها، قال عثمان: يا علي قم فاجلده، فقال علي يا حسن قم فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه، فقال علي: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده، وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، جلد رسول الله (ص) أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكل سنة.
فإن كان ضرب الثمانين إجماعا، فعثمان وعلي وأبي جعفر والحسن ومن حضرهم خالفوا الاجماع، ومخالف الاجماع عندهم كافر.
فانظروا فيما تقحمهم آراؤهم.
وحاشا للائمة الصحابة رضي الله عنهم من الكفر، ومن مخالفة الحق، ومن إحداث شرع لم يأذن به الله تعالى.
فإن قيل: فما معنى قول علي: وكل سنة.
قلبا.
صدق لان التعزير سنة، فإن قيل: إن التعزير عندكم لا يتجاوز عشر جلدات.
قلنا يمكن أن يجلده عمر لكل كأس عشر جلدات تعزيرا، فهذا جائز، وقد تعلل في هذا الخبر بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه في نصر ضلاله، فإن ذكر ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، حدثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفربري، ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا خالد بن الحارث، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي حصين أنه حدث قال: سمعت عمير ابن

(4/517)


سعد النخعي قال: سمعت علي بن أبي طالب قال: ما كنت لاقيم حدا على أحد فيموت فأحد نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله (ص) لم يسنه.
قال أبو محمد: فاعجبوا لعمى هذا الانسان، يعلل حديثا صحيحا لا مغمز فيه، بحديث مملوء عللا أولها: أن راويه مختلف فيه، مرة عمير بن سعيد، ومرة عمير
بن سعد، ومرة نخعي، ومرة حنفي.
ثم الطامة الكبرى كيف يجعل هذا المفتون حجة شيئا يخبر علي عن نفسه أنه يجد في نفسه ما لا يجد من سائر الحدود، فإن كان حقا وسنة، فلم يجد في نفسه أذى حتى يؤدي ديته إن مات من ذلك الجلد، وهلا وجد في نفسه ممن مات في سائر الحدود، وفي هذا كفاية، ثم معاذ الله أن يثبت علي في الدين ما لم يسنه عليه السلام، ثم لو صح لكان وجهه بينا، وهو أنه إنما يجد في الاربعين الزائدة التي جلدوها تعزيرا.
ثم نقول لهم: لو ادعى عليكم ههنا خلاف الاجماع: لصدق مدعي ذلك عليكم، لانكم تقرون أن عمر أول من جلد في الخمر ثمانين، وقد كان استقر الاجماع قبله على أربعين، فقد أقررتم على أنفسكم بخلاف الاجماع، ونسبتم عمر إلى خلاف الاجماع، وقد أعاذه الله تعالى من ذلك، وأما أنتم فأنتم أعلم بأنفسكم، وإقرار كم على أنفسكم لازم لكم، فإن لجاتم إى مراعاة انقراض العصر لزمكم في جلد عثمان وعلي في الخمر أربعين بعدهم ولا فرق.
وأما أمهات الاولاد فكذبه في ذلك أفحش من كل كذب.
لان عبد الله بن الربيع قال: ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، ثنا ابن الاعرابي، ثنا أبو داود السجستاني، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: بعنا أمهات الاولاد على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا، فهذا عمل الناس أيام رسول الله (ص) وأيام أبي بكر.

(4/518)


أنبأنا محمد بن سعيد بن ثابت، أنبأنا أحمد بن عون الله، أنبأنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني، أنبأنا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر - غندر - نا محمد بن سعيد عن، الحكم بن عتيبة، عن زيد بن وهب.
قال: انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد، فإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه، فلما صلى
سألاه فقال لاحدهما: من أقرأك قال اقرأنيها أبو عبدة أو أبو الحكم المزني.
وقال الآخر: أقرأنيها عمر بن الخطاب، فبكى ابن مسعود حتى بل الحصى بدموعه وقال: اقرأ كما أقرأك عمر، فإنه كان للاسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الاسلام وقال: وسألته عن أم الولد فقال: تعتق من نصيب ولدها.
نا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي، نا الدبري، نا عبد الرزاق، نا سفيان بن عيينة، عن الاعمش عن زيد بن وهب.
قال: مات رجل منا وترك أم ولد، فأراد الوليد بن عقبة بيعها في دينه، فأتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي، فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فذكرنا ذلك له، فقال: إن كنتم لا بد فاجعلوها في نصيب ولدها.
وبه إلى عبد الرزاق، عن ابن جريج أنه حدثه قال: أخبرنا عطاء بن أبي رباح، أن ابن الزبير أقام أم حبي أم ولد محمد بن صهيب في مال ابنها وجعلها من نصيبه ويسمى ابنها خالدا.
قال عطاء وقال عباس: لا تعتق أم الولد حتى يلفظ سيدها بعتقها.
نا أحمد بن محمد الطلمنكي، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس، نا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا هشيم أخبرنا مغيرة بن مقسم، عن الشعبي، عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب أعتقا أمهات الاولاد قال علي بن أبي طالب: فقضى بذلك عمر حتى أصيب، ثم قضى بذلك عثمان حتى أصيب، فلما وليت رأيت أن أرقهن.
قال أبو محمد: وهذا قول زيد بن ثابت وغيره، فيقال لهؤلاء الذين قد أعمر الله تعالى أبصارهم أتقرون أن عمر هو أول من منع من بيعهن فمن قولهم: نعم، ويدعونه إجماعا من كل من معه من الصحابة رضي الله عنهم، فيقال لهم: قد أقررتم أن عمر قد خالف الاجماع بهذا الفعل، إذا قلتم إن المسلمين كانوا على بيعهن حتى نهاهم عمر، فهل في خلاف الاجماع أكثر من هذا، أو كذبتم إذ قلتم إن عمر أول من حرم

(4/519)


بيعهم لا بد من إحداهما.
وقد أعاذ الله عمر من خلاف الاجماع، وأما أنتم فأعلم بأنفسكم، وإقراركم بذلك على أنفسكم لازم لكم، ثم لو صح لكم أن عمر رضي الله عنه وكل من أجمعوا على ذلك فصار إجماعا للزمكم أن ابن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، خالفوا الاجماع وخلاف الاجماع عندكم كفر، فانظروا أي مضايق تقتحمون ومن أي أحواف تتساقطون ؟ ولا بد من هذا أو من كذبكم في دعوى الاجماع على حكم عمر بذلك لا مخرج من أحدهما.
وأما نحن فدعوى الاجماع عندنا في مثل هذا إفك وكذب، وجرأة على التجليح بالكذب على جميع أهل الاسلام، ولا ينكر الوهم - بالاجتهاد، والخطأ مع قصد إلى طلب الحق والخير - على أحد بعد رسول الله (ص)، ولا نقول في شئ من الدين إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله (ص)، ولا نبالي من خالف في ذلك، ولا نتكثر بمن ولولا، وما، نا أحمد بن قاسم قال: نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم، نا جدي قاسم بن أصبغ، نا مصعب بن محمد، نا عبيد الله بن عمر الرقي، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما ولدت مارية إبراهيم قال النبي (ص): أعتقها ولدها مع دلائل من نصوص أخرى ثابتة قد ذكرناها في كتاب الايصال.
ما قلنا إلا ببيع أمها ت الاولاد، لكن السنة الثابتة لا يحل خلافها، وما نبالي خلاف ابن عباس لروايته، فقد يخالفها متأولا أنه خصوص، أو قد ينسى ما روي وما كلفنا الله تعالى قط أن نراعي أقوال القائلين، إنما أمرنا بقبول رواية النافرين ليتفقهوا في الدين المنذرين لمن خلفهم المؤمنين مما بلغهم وصح عنهم عن رسول الله (ص).
وبالله تعالى التوفيق.
وأما دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الاحرف
السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل فعظيمة من عظائم الافك والكذب، ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الاسلام.
ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا، مما لا نكره فيه أصلا، فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة، ومعاذ الله من ذلك، وسواء عند كل ذي عقل

(4/520)


إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى، أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى، ولا فرق، وتالله إن من أجاز هذا غافلا ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر، فإنه خروج عن الاسلام لا شك فيه، لانه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وفي قوله الصادق: * (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ئ ثم إن علينا بيانه) * فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه.
فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى، وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها، وما رامت غلاة الروافض وأهل الالحاد الكائدون للاسلام إلا بعض هذا.
وهذه الآية تبين ضرورة أن جميع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره، حتى جمع كما هو، فإنه من فعل الله عز وجل وتوليه جمعه، أوحى به إلى نبيه عليه السلام، وبينه عليه السلام للناس، فلا يسع أحدا تقديم مؤخر من ذلك، ولا تأخير مقدم أصلا.
ونحن نبين فعل عثمان رضي الله عنه ذلك بيانا لا يخفى على مؤمن، ولا على كافر، وهو أنه رضي الله عنه علم أن الوهم لا يعزى منه بشر، وأن في الناس منافقين يظهرون الاسلام ويكنون الكفر، هذا أمر يعلم وجوده في العالم ضرورة، فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين إلى كل مصر مصحفا يكون عندهم، فإن وهم واهم في نسخ مصحف، أو وتعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف، أو في القراءة، رجع إلى المصحف المشهور
المتفق على نقله ونسخه.
فعلم أن الذي فيه هو الحق، وكيف كان يقدر عثمان على ما ظنه أهل الجهل ؟ والاسلام قد انتشر من خراسان إلى برقة، ومن اليمن إلى أذربيجان، وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف، وليست قرية ولا حلة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها، يعلمونه من تعلمه، من صبي أو امرأة، ويؤمهم به في الصلوات في المساجد.
وقد حدثني يونس بن عبد الله بن مغيث قال: أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي، أحد مقرئين ثلاثة للعامة كانوا فيها، وكان هذا القرشي لا يحسن النحو فقرأ عليه قارئ يوما في سورة ق: * (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت

(4/521)


منه تحيد) * فرده عليه القرشي تحيد التنوين، فراجعه القارئ وكان يحسن النحو، فلج المقرئ وثبت على التنوين وانتشر ذلك الخبر إلى أن بلغ إلى يحيى بن مجاهد الفزاري الالبيري، وكان منقطع القرين في الزهد والخير والعقل، وكان صديقا لهذا المقرئ، فمضى إليه فدخل عليه، وسلم عليه وسأله عن حاله.
ثم قال له: إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرئ فأردت تجديد ذلك عليك، فسارع المقرئ إلى ذلك، فقال له الفزاري: أريد أن أبتدئ بالمفصل، فهو الذي يتردد في الصلوات فقال له المقرئ: ما شئت، فبدأ عليه من أول المفصل، فلما بلغ سورة ق، وبلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرئ بالتنوين، فقال له يحيى بن مجاهد: لا تفعل ما هي إلا غير منوتة بلا شك، فلج المقرئ.
فلما رأى يحيى بن مجاهد لجاجه قال له: يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا لترجع إلى الحق في لطف، وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو، فإن الافعال لا يدخلها تنوين البتة، فتحير المقرئ إلا أنه لم يقنع بهذا، فقال يحيى بن مجاهد بيني وبينك المصاحف، فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحف الجيران، فوجدوها
مشكولة بلا تنوين، فرجع المقرئ إلى الحق.
وحدثني حمام بن أحمد بن حمام قال: حدثني عبد الله بن محمد بن علي، عن اللخمي الباجي قال: نا محمد بن لبانة قال: أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الاعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة، وكان عديم الورع، بعيدا عن الصلاح، قال: فخطبنا يوم الجمعة فتلا في خطبته: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) * فقرأها بنونين عننتم.
قال: فلما انصرف أتيناه وكنا نأخذ عنه رأي مالك، فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها، فقال: نعم، هكذا أقرأناها، وهكذا هي، فلج فحاكمناه إلى المصحف فقام ليخرج المصحف ففتحه في بيته وتأمله، فلما وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه أنف الفاسق من رجوعه إلى الحق فأخذ القلم وألحق ضرسا زائدا ؟ قال محمد بن عمر: فوالله لقد خرج إلينا والنون لم يتم بعد جفوف مدادها.
قال أبو محمد: فالاول واهم مغفل، والثاني فاسق خبيث، فلولا كثرة المصاحف بأيدي الناس لتشكك كثير من الناس في مثل هذا إذا شاهدوه ممن يظنون به خيرا أو علما، ولخفي الخطأ والتعمد.
فمثل هذتخويف عثمان رضي الله عنه، ولقد

(4/522)


عظمت منفعة فعله ذلك، أحسن الله جزاءه.
وأما الاحرف السبعة، فباقية كما كانت إلى يوم القيامة، مثبوتة في القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، فما بين ذلك، لانها من الذكر المنزل الذي تكفل الله تعالى بحفظه، وضمان الله تعالى لا يخيس أصلا، وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع.
ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الافك على عثمان رضي الله عنه في هذا أنبأناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني، نا إبراهيم بن أحمد البلخي، نا الفربري، نا البخاري نا أمية - هو ابن بسطام - نا يزيد بن ربيع عن حبيب بن
الشهيد عن ابن مليكة عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) * قال قد نسختها الآية الاخرى، فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال: يا ابن أخي: لا أغير شيئا منه من مكانه.
وبه إلى البخاري، نا موسى بن إسماعيل، نا إبراهيم، حدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق.
فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الامة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
فأرسل عثمان إلى حفصة أم المؤمنين، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بهما إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
فهذان الخبران عن عثمان، إذا جمعا صححا قولنا وهو: أنه لم يحل شيئا من القرآن عن مكانه الذي أنزله الله تعالى عليه، وأنه أحرق ما سوى ذلك مما وهم فيه واهم، أو تعمد تبديله متعمد.
نا عبد الله بن الربيع التميمي، نا عمر بن عبد الملك الخولاني، نا أبو سعيد الاعرابي العزي، نا سليمان بن الاشعث، نا محمد بن المثنى، نا محمد بن جعفر، نا

(4/523)


شعبة عن الحكم عن مجاهد، عن أبي ليلى، عن أبي بن كعب أن النبي (ص) كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرف.
فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتي لا تطيق على ذلك، ثم أتاه
الثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف قرؤوا عليه فقد أصابوا.
وبه إلى سليمان بن الاشعث، نا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله (ص) أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لففته بردائه فجئت به رسول الله (ص) فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال له رسول الله (ص): اقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله (ص): هكذا أنزلت، ثم قال لي: اقرأ فقرأت، فقال: هكذا نزلت، ثم قال (ص): إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه.
قال أبو محمد: فحرام على كل أحد أن يظن أن شيئا أخبر رسول الله (ص) أن أمته لا تطيق ذلك، أتى عثمان فحمل الناس عليه فأطاقوه، ومن أجاز هذا فقد كذب رسول الله (ص) في قوله لله تعالى: إن أمته لا تطيق على ذلك ولم ينكر الله تعالى عليه ذلك، ولا جبريل عليه السلام وقال هؤلاء المجرمون إنهم يطيقون ذلك، وقد أطاقوه فيا لله ويا للمسلمين أليس هذا اعتراضا مجردا على الله عز وجل مع التكذيب لرسوله (ص) ؟ فهل الكفر إلا هذا ؟ نعوذ بالله العظيم أن يمر بأوهامنا فكيف أن نعتقده.
وأيضا فإن الله تعالى آتانا تلك الاحرف فضيلة لنا، فيقول من لا يحصل ما يقول: إن تلك الفضيلة بطلت فالبلية إذا قد نزلت، حاشا لله من هذا.
قال أبو محمد: ولقد وقفت على هذا مكي بن أبي طالب المقرئ رحمه الله، فمرة سلك هذه السبيل الفاسدة فلما وقفته على ما فيها رجع، ومرة قال بالحق في ذلك كما تقول، ومرة قال لي: ما كان من الاحرف السبعة موافقا لخط المصحف فهو
باق، وما كان منها مخالفا لخط المصحف فقد رفع، فقلت له: إن البلية التي فررت

(4/524)


منها في رفع السبعة الاحرف باقية بحسبها، في إجازتك رفع حركة واحدة من حركات جميع الاحرف السبعة أكثر من ذلك، فمن أين وجب أن يراعى خط المصحف، وليس هو من تعليم رسول الله لانه كاأميا لا يقرأ ولا يكتب واتباع عمل من دونه من غير توقيف منه عليه السلام لا حجة فيه، ولا يجب قبوله، وقد صححت القراءة من طريق أبي عمرو بن العلاء التميمي مسنده إلى رسول الله (ص): * (إن هذان لساحران) * وهو خلاف خط المصحف وما أنكرها مسلم قط فاضطرب وتلجلج.
قال أبو محمد: وقد قال بعض من خالفنا في هذا: إن الذين كانوا على عهد رسول الله (ص) كانوا عربا، يصعب على كل طائفة منهم القراءة بلغة غيرهم، فلذلك فسح لهم في القراءة على أحرف شتى من بعدهم كذلك، فقلنا: كذب هؤلاء مرتين، إحداهما على الله تعالى، والثانية على جميع الناس، كذبا مفضوحا جهارا لا يخفى على أحد.
أما كذبهم على الله عز وجل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لاجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها، فمن أخبرهم بها عن الله تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صح أنه تعالى حكم به، وهل يستجيز مثل هذا ذو دين أو مسكة عقل ؟ وهل يعلم مراد الله تعالى في ذلك إلا بخبر وارد من عنده عز وجل ؟ اللهم عياذك من مثل هذا الترامي من حالق إلى المهالك.
ومن أخبر عن مراد غيره بغير أن يطلعه ذلك المخبر عنه على ما في نفسه، فهو كاذب بلا شك، والكذب على الله تعالى أشد من الكذب على خلقه.
وأما كذبهم على الناس، فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الاعجمي المسلم من الترك والفرس والروم والنبط والقبط والبربر والديلم
والاكراد وسائر قبائل العجم - بلغة العرب التي بها نزل القرآن، أشد مراما من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري والربعي على لغة القرشي بلا شك، وأن تعلم العربي للغة قبيلة مه ن العرب - غير قبيلته - أمكن وأسهل من تعلم الاعجمي للعربية بلا شك، والامر الآن أشد مما كان حينئذ أضعافا مضاعفة، فالحاجة إلى بقاء الاحرف الآن، أشد منها حينئذ، على قول المستسهلين للكذب، في عللهم التي يستخرجونها نصرا لضلالهم، ولتقليدهم من غلط قاصد إلى

(4/525)


خلاف الحق ولاتباعهم، وله عالم قد حدروا عنها، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
وبرهان كذبهم في دعواهم المذكورة أنه لو كان مقالوه حقا، لم يكن لاقتضاء نزوله على سبعة أحرف معنى: بل كان الحكم أن تطلق كل قبيلة على لغتها، وبرهان آخر على كذبهم في ذلك أيضا أن المختلفين في الخبر المذكور الذي أوردناه آنفا أنهما قرآ سورة الفرقان بحرفين مختلفين كانا جميعا بني عم قرشيين من قريش البطاح من قبيلة واحدة جاران ساكنان في مدينة واحدة، وهي مكة، لغتهما واحدة وهما عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قريظ بن رزاح بن عدي بن كعب، وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب، ويجتمعان جميعا في كعب بن لؤي بين كل واحد منهما وبين كعب بن لؤي ثمانية آباء فقط فظهر كذب من ادعى أن اختلا ف الاحرف إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب وأبى ربك إلا أن يحق الحق، ويبطل الباطل، ويظهر كذب الكاذب، ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ.
قال أبو محمد: وقال آخرون منهم: الاحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها إنما هي وعد ووعيد وحكم، وزادوا من هذا التقسيم حتى بلغوا سبعة معان.
قال أبو محمد: المقلدون كالغرقى، فأي شئ وجدوه تعلقوا به.
قال أبو محمد: وكذب هذا القول أظهر من الشمس، لان خبر أبي الذي ذكرنا وخبر عمر الذي أوردناه - شاهدان بكذبه، مخبران بأن الاحرف إنما هي اختلاف ألفاظ القراءات لا تغير القرآن، ولا يجوز أن يقال في هذه الاقسام التي ذكرنا أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا، وأيضا فإنهم ليسوا في تقسيمهم هذا بأولى من آخر اقتصر على مبادئ الكلام الاول، فجعل القرآن ثلاثة أقسام فقط: خبرا، وتقديرا، وأمرا بشرع، وجعل الوعد والوعيد تحت قسم الخبر، ولا هم أيضا بأولى من آخر قسم الانواع التي في اشخاص المعاني، فجعل القرآن أقساما كثيرة أكثر من عشرة فقال: فرض وندب ومباح ومكروه

(4/526)


وحرام ووعد ووعيد، والخبر عن الامم السالفة، وخبر عما يأتي من القيامة والحساب، وذكر الله تعالى وأسمائه، وذكر النبوة، ونحو هذا، فظهر فساد هذا، وأيضا فإن هذه الاقسام التي ذكروا هي في قراءة عمر، كما هي في قراءة هشام بن حكيم ولا فرق، فهذا بيان زائد في كذب هذا التقسيم.
قال أبو محمد: فإن ذكر ذاكر الرواية الثابتة بقراءات منكرة صححت عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، مثل ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: * (وجاءت سكرة الموت) * ومثل ما صح عن عمر رضي الله عنه، من قراءة: * (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم والضالين) *، ومن أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعد المعوذتين من القرآن، وأن أبيا رضي الله عنه كان يعد القنوت من القرآن ونحو هذا.
قلنا: كل ذلك موقوف على من روى عنه شئ ليس منه عن النبي (ص) البتة، ونحن لا ننكر على من دون رسول الله (ص) الخطأ، فقد
هتفنا به هتفا، ولا حجة فيما روي عن أحد دونه عليه السلام، ولم يكلفنا الله تعالى الطاعة له ولا أمرنا بالعمل به، ولا تكفل بحفظه، فالخطأ فيه واقع فيما يكون من الصاحب فمن دونه ممن روى عن الصاحب والتابع، ولا معارضة لنا بشئ من ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
وإنما تلزم هذه المعارضة، من يقول بتقليد الصاحب على ما صح عن رسول الله (ص) وعلى القرآن، فهم الذين يلزمهم التخلص من هذه المذلة، وأما نحن فلا، والحمد لله رب العالمين، إلا خبرا واحدا وهو الذي رويناه من طريق النخعي والشعبي، كلاهما عن علقمة بن مسعود، وأبي الدرداء، كلاهما عن رسول الله (ص) أنه أقرأهما: والليل إذا يغشى ئ والنهار إذا تجلى ئ وما خلق الذكر والانثى.
قال أبو محمد: وهذا خبر صحيح مسند عن النبي (ص).
قال أبو محمد: إلا أنهما قراءة منسوخة لان قراءة عاصم المشهورة المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبي (ص)، وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبي الدرداء عن رسول الله (ص): فيهما جميعا: * (وما خلق

(4/527)


الذكر والانثى) * فهي زيادة لا يجوز تركها، وأنبأنا يونس بن عبد الله بن مغيث القاضي قال: حدثنا يحيى بن مالك بن عابد الطرطوشي، أخبرنا الحسن بن أحمد بن أبي خليفة، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا إبراهيم بن أبي داود، نا حفص بن عمر الحوضي، نا أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: اختلفوا في القراءات على عهد عثمان بن عفان، حتى اقتتل الغلمان والمعلمون، فبلغ ذلك عثمان فقال: عندي تكذبون به وتختلفون فيه، فما تأبى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا، يا صحابة محمد: اجتمعوا فاكتبوا للناس، قال: فكتبوا قال: فحدثني أنهم كانوا إذا تراودوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله (ص)
فلانا، فيرسل إليه وهو على ثلاثة من المدينة فيقول: كيف أقرأك رسول الله (ص) ؟ فيقول: كذا وكذا فيكتبونها، وقد تركوا لها مكانا.
قال أبو محمد: فهذه صفة عمل عثمان رضي الله عنه، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في نسخ المصاحف، وحرق ما حرق منها مما غير عمدا وخطأ، ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا، وهم المالكيون، قد صح عن صاحبهم ما ناه المهلب بن أبي صفرة الاسدي التميمي، قال ابن مناس: نا ابن مسرور، نا يحيى نا يونس بن عبد الاعلى، نا ابن وهب، حدثني ابن أنس قال: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا: * (إن شجرة الزقوم ئ طعام الاثيم) * فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال له ابن مسعود: طعام الفاجر.
قال ابن وهب: قلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك ؟ قال: نعم أرى ذلك واسعا فقيل لمالك: أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله ؟ قال مالك: ذلك جائز، قال رسول الله (ص): أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر مثل: تعلمون يعلمون، قال مالك: لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأسا، ولقد كان الناس ولهم مصاحف، والستة الذين أوصى لهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف.
قال أبو محمد: فكيف يقولون مثل هذا ؟ أيجيزون القراءة هكذا فلعمري لقد هلكوا وأهلكوا، وأطلقوا كل بائقة في القرآن أو يمنعون من هذا، فيخالفون صاحبهم في أعظم الاشياء وهذا إسناد عنه في غاية الصحة وهو مما

(4/528)


أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره، لكن قاصدا إلى الخير، ولو أن أمرا ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه، وقيام حجة الله تعالى عليه في ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافرا، ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: فبطل ما قالوه في الاجماع بأوضع بيان والحمد لله رب العالمين.
فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع، وبسط الكلام فيما هو إجماع، وفيما ليس إجماعا قال أبو محمد: قد ذكرنا قبل قسمي الاجماع الذي لا إجماع في العالم غيرهما أصلا، وهما: إما شئ لا يكون مسلما من لا يعتقده، كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والبراءة من كل دين يخالف دين الاسلام، كجملة القرآن وكالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان.
فإنه لا يشك مؤمن ولا كافر في أن رسول الله (ص) دعا الناس إلى هذه الشهادة، وحكم باسم الاسلام وحكمه لمن أجابه إليها، وحكم باسم الكفر وحكمه لمن لم يجبه إليه، وأن أهل الاسلام بعده عليه السلام جروا على هذا إلى يومنا هذا.
ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه (ص) صلى الصلوات الخمس بكل من حضره خمس مرات كل يوم وليلة، وصلاها النساء وأهل العذر في البيوت كذلك، وصلاها أهل كل محلة، وأهل كل قرية، وأهل كل محلة في كل مدينة فيها إسلام، في كل يوم من عهده عليه السلام إلى يومنا هذا، لا يختلفون في ذلك، وكذلك الاذان والاقامة والغسل من الجنابة والوضوء.
ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه (ص) صام شهر رمضان الذي بين شوال وشعبان في كل عام، وصامه كل مسلم بالغ حاضر من رجل أو امرأة معه وفي زمانه وبعده في كل مكان، وفي كل عام إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه (ص) حج إلى مكة في ذي الحجة، وحج معه من لا يحصي عددهم إلا خالقهم عز وجل، ثم حج الناس إلى يومنا هذا كل عام إلى مكة في ذي الحجة.

(4/529)


وهكذا جملة القرآن لا يشك مؤمن ولا كافر في أنه (ص) أتى به وذكر أن الله تعالى أوحاه إليه، وكذلك تحريم الام والابنة والجدة والخالة والعمة والاخت وبنت الاخت وبنت الاخ، والخنزير والميتة، وكثير سوى هذا.
قطع كل مؤمن وكافر أنه ص) وقف عليه وعلمه المسلمين، وعلمه المسلمون جيلا في كل زمان وكل مكان قطعا، إلا من أفرط جهله ولم يبلغه ذلك من بدوي أو مجلوب من أهل الكفر.
ولا يختلف في أنه إذا علمه فأجاب إليه فهو مسلم، وإن لم يجب إليه فليس مسلما، وأن في بعض ما جرى هذا المجرى أمورا حدث فيها خلاف بعد صحة الاجماع وتيقنه عليها، كالخمر والجهاد وغير ذلك، فإن بعض الناس رأى ألا يجاهد مع أئمة الجور.
وهذا يعذر لجهله وخطأه ما لم تقم عليه الحجة، فإن قامت عليه الحجة وتمادى على التدين بخلاف رسول الله (ص)، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال لقوله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *.
لآية: فإن قيل: فقد قال رسول الله (ص): لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فهلا أخرجتم بهذه الاشياء من الايمان كما أخرجتم من الايمان بوجود الحرج مما قضى (ص)، وترك تحكيمه.
قلنا: لانه (ص) أتى بالزاني والسارق والشارب، فحكم فيهم بالحكم في المسلمين لا بحكم الكافر فخرجوا بذلك من الكفر، وبقي من لم يأت بإخراجه عن الكفر على الكفر، والخروج عن الايمان كما ورد فيه النص، فهذا أحد قسمي الاجماع.
والثاني: شئ يوقن بالنقل المتصل الثابت، أن رسول الله (ص) علمه وفعله
جميع من بحضرته، ومن كان مستضعفا أو غائبا بغير حضرته، كفتح خيبر وإعطائه إياها بعد قسمتها على المسلمين لليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم، ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر، على أن المسلمين يخرجونهم متى شاؤوا.
وهكذا كل ما جاء هذا المجئ، فهو إجماع مقطوع علصحته من كل مسلم علمه أو بلغه، على أنه قد خالف في هذا بعد ذلك من وهم أو خط، فعذر

(4/530)


لجهله ما لم تقم عليه الحجة، وكما ذكرنا قبل ولا فرق فلا إجماع في الاسلام إلا ما جاء هذا المجئ، ومن ادعى إجماعا فيما عدا ما ذكرنا فهو كاذب آفك مفتر على جميع المسلمين، قائل عليهم ما لا علم له به.
وقد قال تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * وقال تعالى ذاما لقوم قالوا: * (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) * وقال تعالى: * (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم مممن ربهم الهدى) * وقال تعالى: * (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) *.
فصح بنص كلام الله تعالى - الذي لا يعرض عنه مسلم - أن الظن هو غير الحق وإذ هو غير الحق فهو باطل وكذب بلا شك، إذ لا سبيل إلى قسم ثالث، وقال رسول الله (ص): * (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) *.
قال أبو محمد: فهذا هو الحق الذي لا يحيل عليه من سمعه، ثم حدث بعد القرن الرابع طائفة قلت مبالاتها بما تطلق به ألسنتها في دين الله تعالى، ولم تفكر فيما تخبر به عن الله عز وجل، ولا عن رسوله (ص)، ولا عن جميع المسلمين، قصرا لتقليد من لا يغني عنهم من الله شيئا، من أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، الذين قد برئوا إليهم عما هم عليه من التقليد، فصاروا إذا أعوزهم شغب ينصرون به فاحش خطأهم في خلافهم نص القرآن، ونص حكم رسول الله (ص).
وبلحوا وبلدوا ونطحت أظفارهم في الصفا الصلد
أرسلوها إرسالا فقالوا: هذا إجماع، فإذا قيل لهم: كيف تقدمون على إضافة الاجماع إلى من لم يروا عنه في ذلك كله ؟ أما تتقون الله ؟ قال أكابرهم: كل ما انتشر في العلماء واشتهر ممن قالته طائفة منهم، ولم يأت على سائر خلاف له، فهو إجماع منهم لانهم أهل الفضل والذين أمر الله تعالى بطاعتهم، فمن المحال أن يسمعوا ما ينكرونه ولا ينكرونه، فصح أنهم راضون به، هذا كل ما موهوا به ما لهم متعلق أصلا بغير هذا، وهذا تمويه منهم ببراهين ظاهرة لا خفاء بها، نوردها إن شاء الله عز وجل وبه نستعين.
قال أبو محمد: أول ما نسألكم عنه أن نقول لكم، هذا لا تعلمون فيه خلافا، أيمكن أن يكون فيه خلاف من صاحب أو تابع أو عالم بعدهم لم يبلغكم أم لا يمكن ذلك البتة ؟ فإن قالوا عند ذلك: إن قال هذا القول عالم كان ذلك إجماعا، وإن

(4/531)


قاله غير عالم لم يكن ذلك إجماعا.
قلنا لهم: قد نزلتم درجة وسؤالنا باق لذلك العالم بحسبه، كما أوردناه سواء بسواء، فإن قالوا: بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم، قلنا: فقد أقررتم بالكذب، إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا.
فإن قالوا: بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف قلنا: ومن أين لكم بأن ذلك لعالم أحاط بجميع أقوال أهل الاسلام ؟ ونحن نبدأ لكم بالصحابة رضي الله عنهم فنقول: بالضرورة ندري يقينا لا مرية فيه بأنهم كانوا عشرات ألوف فقد غزا (ص) حنينا في اثني عشر ألف إنسان، وغزا تبوك في أكثر من ذلك، وحج حجة الوداع في أضعاف ذلك، ووفد عليه من كل بطن من بطون قبائل العرب وفودا أسلموا وسألوه عن الدين، وأقرأهم القرآن، وصلوا معه، كلهم يقع عليه اسم الصحابة.
ولقد تقصينا من روى عنه فتيا في مسألة واحدة فأكثر، فلم
نجدهم إلا مائة وثلاثة وخمسين، بين رجل وامرأة فقط، مع شدة طلبنا في ذلك وتهممنا وليس منهم مكثرون إلا سبعة فقط وهم: عمر وابنه عبد الله، وعلي وابن عباس وابن مسعود وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت، والمتوسطون فهم ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يوجد في فتيا كل واحد منهم جزء صغير.
فهؤلاء عشرون فقط، والباقون مقلون جدا، فيهم من لم يرو عنه إلا فتيا في مسألة واحدة فقط، ومنهم في مسألتين وأكثر من ذلك، يجتمع من فتيا جميعهم جزء واحد، هو إلى أصغر أقرب من الكبر، أفترى سائرهم لم يفت ولا مسألة ؟ إلا هذا والله هو الكذب البحت والافك والبهت، ثم ما قد نص الله تعالى في قرآنه من أن طوائف من الجن أسلموا.
قال: * (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا) * وقال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا: * (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك) * وأنهم قالوا: * (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) *.
وصح عن النبي (ص) بأنه أخبر بأن وفدا من الجن أتوه وأسلموا وبايعوه وعلمهم القرآن، فصح أن منهم مسلمين صالحين راشدين من خيار

(4/532)


الصحابة، هذا لا ينكره مسلم، ومن أنكره كفر وحل دمه، فيا هؤلاء هبكم جسرتم على دعوى العلم بقول عشرات ألوف من الناس من الصحابة - وإن لم بلغكم عنهم فيما ادعيتم إجماعهم عليه كلمة - أتراكم يمكنكم الجسر على دعوى إجماع أولئك الصحابة من الجن على ما تدعون بظنكم الكاذ ب الاجماع عليه ؟ لئن أقدمكم على ذلك القاسطون من شياطين الجن فانقدتم لهم لتضاعف فضيحة كذبكم وليلوحن إفككم لكل صغير وكبير، ولئن ردعكم عن ذلك رادع ليبطل دعواكم الاجماع.
وهذا لا مخلص منه، فإنهم كسائر الصحابة، مأمورون
منهيون، مؤمنون موعودون متوعدون، ولا فرق.
إن قالوا: إن شرائعهم غير شرائعنا قلنا: كذبتم، بل شرائعنا وشرائعهم سواء لتصديق الله تعالى لهم في قولهم: * (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون) * والاسلام واحدا إلا ما جاء به نص صحيح بأنهم خصوا به، كما خصوا أيضا طوائف من الناس كقريش بالامامة، وبني عبد المطلب بالخمس من الخمس، ونحو ذلك.
ثم انقضى عصر الصحابة رضي الله عنهم، وأتى عصر التابعين، فملؤوا الارض بلاد خراسان وهي مدن عظيمة كثيرة وقرى لا يحصيها إلا خالقها عز وجل، وكابل، وفارس، وأصبهان، والاهواز، والجبال وكرمان وسجستان ومكران، والسودان، والعراق، والموصل، والجزيرة وديار ربيعة وأرمينية وأذربيجان والحجاز واليمن والشام، ومصر والجزائر وإفريقية وبلاد البربر، وأرض الاندلس ليس فيها قرية كبيرة إلا وفيها من يفتي، ولا فيها مدينة إلا وفيها مفتون، فمن الجاهل القليل الحياء المدعي إحصاء أقوال كل مفتي في جميع هذه البلاد، مذ أفتوا إلى أن ماتوا ؟ إن كل واحد يعلم ضرورة أنه كذاب آفك ضعي ف الدين، قليل الحياء فبطل دعوى الاجماع كما بطل كل محال مدعي إلا حيث ذكرنا قبل فقط.
فإن قالوا: إنما يقول المرء: هذا إجماع عندي فقط، قلنا: قوله هذا كلاقول لان الاجماع عنده إذا لم يكن إجماعا عند غيره، فمن الباطل أن يكون الشئ مجمع عليه عند غير مجمع عليه معا.
وأيضا فإن قوله: هذا إجماع عندي باطل لانه منهي عن القطع بظنه، فمعنى قوله هذا إنما هو أنه يظن إجماع، وقد

(4/533)


مضى الكلام في المنع من القطع بالظن، وقال تعالى: * (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) * الآية، وقال تعالى: * (هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) *.
وهذا مالك يقول في موطئه - إذ ذكر وجوب رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه - ثم قال: هذا ما لا خوف فيه عن أحد من الناس ولا في بلد من البلدان.
قال أبو محمد: وهذه عظيمة جدا، وإن القائلين بالمنع من رد اليمين اكثر من القائلين بردها.
ونا أحمد بن محمد بن الجسور، نا وهب بن مسرة، نا ابن وضاح، نا سحنون، نا ابن القاسم قال: نا مالك: ليس كل أحد يعرف أن اليمين ترد ذكر هذا في كتاب السرقة من المدونة.
هذا الشافعي يقول في زكاة البقر: في الثلاثين تبيع، وفي الاربعين مسنة لا أعلم فيه خلافا، وإن الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب وقتادة، وعمال ابن الزبير بالمدينة، ثم عن إبراهيم النخعي، وعن أبي حنيفة: لاشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم، إلى كثير لهم جدا من مثل هذا إلا من قال لا أعلم خلافا، فقد صدق عن نفسه، ولا ملام عليه، وإنما البلبلة والعار والنار على من أقدم على الكذب جهارا، فادعى الاجماع إذ لم يعلم خلافا.
وقد ادعوا أن الاجماع على أن القصر في أقل من ستة وأربعين ميلا غير صحيح وبالله إن القائلين من الصحابة والتابعين بالقصر في أقل من ذلك لاكثر أضعافا من القائلين منهم بالقصر في ستة وأربعين ميلا ولو لم يكن لهؤلاء الجهال الذين لا علم لهم بأقوال الصحابة والتابعين، إلا الروايات عن مالك بالقصر في ستة وثلاثين ميلا، وفي أربعين ميلا، وفي اثنين وأربعين ميلا، وفي خمسة وأربعين ميلا، ثم قوله: من تأول فأفطر في ثلاثة أميال في رمضان لا يجاوزها فلا شئ عليه إلا القضاء فقط.
وادعوا الاجماع على أن دية اليهودي والنصراني تجب فيها ثلث دية المسلم لا أقل، وهذا باطل.
روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أن ديتهما كدية

(4/534)


المجوسي ثمانمائة درهم، وادعوا الاجماع أنه يقبل في القتل شاهدان.
وقروينا عن الحسن البصري بأصح طريق: أنه لا يقبل في القتل إلا أربعة كالزنى، ومثل هذا لهم كثير جدا، كدعواهم الاجماع على وجوب خمس من الابل في الموضحة، وغير ذلك كثير جدا، ولقد أخرجنا على أبي حنيفة والشافعي ومالك مئين كثيرة من المسائل، قال فيها كل واحد منهم بقول، لا نعلم أحدا من المسلمين قاله قبله، فاعجبوا لهذا.
فقالوا: إنما نقول ذلك، إذا انتشر القول في الناس فلم يحفظ عن أحد من العلماء إنكار ذلك، فحينئذ نقول: إنه إجماع لما ذكرنا من أنهم يقرون على ما ينكرون كما نقول في أصحاب مذهب الشافعي وأصحاب مذهب مالك وأصحاب مذهب أبي حنيفة، وإن لم يرو لنا ذلك عن واحد منهم، وكما نقول ذلك في أهل البلاد التي غلبت عليها الشبه والروافض، والاعتزال ومذهب الخوارج، أو مذهب مالك، أو الشافعي أو أبي حنيفة، وإن لم يرو لنا ذلك عن كل واحد من أهلها.
قلنا لهم: لم تخلصوا من هذا القول الذي هو حسبكم واحد منهم في كتابكم وآخرها إلا على كذبتين زائدتين على كذبكم في دعوى الاجماع، كنتم في غنى عن اختفائهما إحداهما: قولكم إنكم تقولون ذلك إذا انتشر قول طائفة من الصحابة أو من بعدهم فقالوا ههنا: فمن هذا نسألكم من أين علمتم بانتشار ذلك القول ؟ ومن أين قطعتم بأنه لم يبق صاحب من الجن والانس إلا علمه ؟ ولا يفتي في شرق الارض ولا غربها عالم إلا وقد بلغه ذلك القول ؟ فهذه أعجوبة ثانية، وسوأة من السوءات لا يجيزها إلا ممخرق يريد أن يطبق عين الشمس نصرا لتقليده، وتمشية لمقولته المنحلة عما قريب، ثم يندب حين لا تنفعها الندامة.
والكذبة الاخرى قولكم: فلم ينكروها ؟ فحتى لو صح لكم أنهم كلهم علموها، فمن أين قطعتم بأنهم لم ينكروها، وأنهم رضوها ؟ وهذه طامة أخرى.
ونحن نوجدكم أنهم قد علموا ما أنكروا، وسكنوا عن إنكاره لبعض الامر.
نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا أحمد بن دحيم بن خليل، نا إبراهيم بن حمادة نا

(4/535)


إسماعيل بن إسحاق القاضي، نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، نا أبي عن محمد بن إسحاق الزهري - محمد بن مسلم بن شهاب - عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود أنه وزفر بن أوس بن الحدثان أتيا عبد الله بن عباس فأخبرهما بقوله في إبطال العول وخلافه لعمر بن الخطاب في ذلك، قال، فقال له زفر: فما منعك يا ابن عباس أن تشير عليه بهذا الرأي ؟ قال: هبته.
نا حمام بن أحمد، نا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي، ثنا الدبري، نا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أن أبا أيوب الانصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر، فلما استخلف عمر تركهما، فلما توفي عمر ركعهما، قيل له، ما هذه ؟ قال: إن عمر كان يضرب الناس عليهما.
نا جهم، نا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي الديري، نا عبد الرزاق، عن معمر أخبرني هشام بن عروة، عن أبيه: أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، جاء عمر بن الخطاب بأمة سوداء كانت لحاطب، فقال: إن العتاقة أدركت وقد أصابت فاحشة وقد أحصنت، فدعاها عمر فسألها عن ذلك.
فقالت: نعم من مرعوش بدرهمين، وهي حينئذ تذكر ذلك لا ترى به بأسا، فقال عمر لعلي وعبد الرحمن وعثمان: أشيروا علي، فقال علي وعبد الرحمن: نرى أن ترجمها، فقال عمر لعثمان: أشر، فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: عزمت عليك إلا أشرت علي برأيك، قال: فإني لا أرى الحد إلا على من علمه، وأراها تستهل به كأنها لا ترى به بأسا، فقال عمر: صدقت والذي نفسي بيده، ما الحد إلا عمن علمه.
فضربها عمر مائة وغربها عاما.
وبه عبد الرزاق، نا ابن جريج، أخبرني هشام بن عروة، عن أبيه أن يحيى
بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه، قال: توفي عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من صلى من رقيقه وصام، وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه، فلم يرعها إلا حبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحدثه فأرسل إليها عمر فسألها فقال: أحبلت ؟ فقال: نعم من مرعوش بدرهمين، وإذا هي تستهل به لا تكتمه فصاد ف عنده علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف

(4/536)


وعثمان، فقال: أشيروا علي، وكان عثمان جالسا فاضطجع، فقال علي وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد، فقال عمر: أشر علي يا عثمان، قال: قد أشار عليك أخواك، قال: أشر علي أنت.
قال عثمان: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه، فأمر بها عمر فجلدت مائة وغربها، ثم قال لعثمان: صدقت، والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه.
فهذا ابن عباس يخبر أنه منعته الهيبة من الانكار على عمر فيما يقطع ابن عباس أنه الحق، ويدعو فيه إلى المباهلة عند الحجر الاسود، وهذا أبو أيوب رجل صاحب رسول الله (ص) يدعي الانكار على عمر ضربه على الصلاة بعد العصر وبعيد ضربه، وهذا عثمان سكت وقد رأي أمرا أنكره في أشنع الاشياء وأعظمها وهو دم حرام يسفك بغير واجب، سأله عمر فتمادى على سكوته إلى أن عزم عليه وقد يسكت المرء، لانه لم يلح له الحق، أو يسكت موافقا ثم يبدو له وجه الحق، أو رأى آخر بعد مدة فينكر ما كان يقول ويرجع عنه، كما فعل علي في بيع أمهات الاولا، وفي التخيير بعد موافقته لعمر على كلا الامرين أو ينكر فلا يبلغنا إنكاره، ويبلغ غيرنا في أقصى المشرق وأقصى المغرب، أو أقصى اليمين، أو أقصى إرمينية.
وأما تنظيركم بأهل مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، والبلاد التي ظهر فيها
وغلب عليها قول ما، فهذا أعظم حجة عليكم لانه لا يختلف اثنان أن جمهور القائلين بمذهب رجل ممن ذكرتم لم يخلو قط من خلاف لصاحبهم في المسألة والمسألتين والمسائل وكذلك لم تخل قط البلاد المذكورة من مخالف لمذهب أهلها ولا أكثر من غلبة مذهب مالك على الاندلس وإفريقية، وقد كان طوائف علماء مخالفون له جملة، قائلون بالحديث، أو بمذهب الظاهر، أو مذهب الشافعي.
وهذا أمر مشاهد في كل وقت، ولا أكثر من غلبة الاسلام على البلاد التي غلب عليها، ولله الحمد، وإن فيها مع ذلك يهود ونصارى وملحدين كثيرا جدا.
فظهر فساد تنظيرهم عيانا، وعاد ما موهوا به مبطلا لدعواهم، وثبت بهذا

(4/537)


حتى لو انتشر القول وعرفه جميع العلماء، وإن في الممكن أن يخالفه جمهورهم أو بعضهم، ثم هذا عمر قد جلد التي لم يرد عليها الرجم لجهلها، وهي محصنة مائة وغربها عاما، بحضرة علي وعبد الرحمن، وعثمان، ولم ينكروا عليه ذلك فإن كان عندهم إجماعا فيقولوا به، وليس من خصومنا الحاضرين أحد يقول بهذا، وإن كان سكوتهم ليس موافقة ولا رضى، فليتركوا هذا الاصل الفاسد المهلك في الدين لمن تعلق به، ولا بد من أحدهما بالتلاعب بدين الله عز وجل، وقد أريناهم سكوتهم رضي الله عما يقولون به، فمن الجاهل المنكر لهذا ؟ حتى لو صح لهم أنهم عرفوه، فكيف وهذا لا يصح أبد الابد على ما بينا.
فإن قال قائل: فإذ هو كما قلتم، فمن أين قطعتم بالخلاف فيه وإن لم يبلغكم وهلا أنكرتم ذلك على أنفسكم كما أنكرتموه علينا إذ قلنا: إنه إجماع قلنا: نعم ؟ فقلنا ذلك لبرهانين ضروريين قاطعين.
أحدهما: أن الاصل من الناس وجود الاختلاف في آرائهم، لما قدمنا قبل اختلاف أغراضهم وطبائعهم، والثاني: لان الله تعالى بذلك قضى، إذ يقول: * (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم
ربك ولذلك خلقهم) * فصح إن الاصل هو الاختلاف الذي أخبر تعالى أننا لا نزال عليه، والذي له خلقنا، إلا من استثنى من الاقل.
وبرهان ثالث: وهو الذي لا يسع أحدا خلافه، وهو أن ما ادعيتم فيه الاجماع بالظن الكاذب كما قدمنا، لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا.
إما أن تدعوه في أمر موافق لنص القرآن أو السنة الثابتة المسندة، فهذا أمر لا نبالي اتفق عليه أم اختلف فيه، إنما الغرض أن يؤخذ بالنص في ذلك، سواء أجمع الناس أم اختلفوا، ولا معنى حينئذ للاحتجاج بدعوى الاجماع عليه والحجة قائمة بالنص الوارد فيه، فلا حاجة إلى القطع بالظن الكاذب في دعوى الاجماع البتة، وإما أن تدعوه في أمر لا يوافقه نص قرآن ولا سنة صحيحة مسندة بل هو مخالف لها في عمومها أو ظاهرهما، لتصححوه بدعواكم الكاذبة في أنه إجماع فهذه كبيرة من الكبائر، وقصد منكم إلى رد اليقين بالظنون، وإلى

(4/538)


مخالفة الله تعالى ورسوله (ص) بدعوى كاذبة مفتراة، وهذا لا يحل.
وإذا كان هذا القسم، فنحن نقطع حينئذ، ونثبت أنه لا بد من خلاف ثابت فيما ادعيتموه إجماعا، لان الله تعالى قد أعاذ أمة نبيه (ص) من الاجماع على الباطل والضلال لمخالفة القرآن وحكم رسول الله (ص)، فأنتم لم تقتنعوا بأن كذبتم على جميع الامة حتى نسبتم إليهم الاجماع على الخطأ في مخالفة القرآن والسنة الثابتة، وهذه من العظائم التي نعوذ بالله العظيم من مثلها، وليس ههنا قسم ثالث أصلا، لما قد أوردنا من البراهين على أنه لا يمكن وقوع نازلة لا يكون حكمها منصوصا في القرآن وبيان النبي (ص) إما باسمه الاعم وإما باسمها الاخص.
قال أبو محمد: واعلموا أن إقدام هؤلاء القوم، وجسرهم على معنى الاجماع،
حيث وجد الاختلاف، أو حيث لم يبلغنا ولكنه ممكن أن يوجد أو مضمون أن يوجد - فإنه قول خالفوا فيه الاجماع حقا، وما روي قط عن صاحب ولا عن تابع القطع بدعوى الاجماع حتى أتى هؤلاء الذين جعلوا الكلام في دين الله تعالى مغالبة ومجاذبة، وتحققا بالرياسة على مقلدهم وكفى بهذا فضيحة.
وأيضا قد تيقن إجماع المسلمين على أنه لا يحل لاحد أن يقطع بظنه اليقين فيه، فهذا إجماع آخر، فقد خالفوه في هذه المسألة، نا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي، نا ابن مفرج، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس، نا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا سفيان بن عيينة، عن مسعر بن كدام، عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: قال رجل لابن مسعود: أوصني بكلمات جوامع، فقال له ابن مسعود: ا عبد الله ولا تشرك به شيئا، وزل مع القرآن حيث زال، ومن أتاك بحق فاقبل منه، وإن كان بعيدا بغيضا، ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبا حبيبا.
قال أبو محمد: هذه جوامع الحق، اتباع القرآن وفيه اتباع بيان الرسول، وأخذ الحق ممن أتى به، ولئن كان لا خير فيه، وممن يجب بغضه وإبعاده، وألا يقلد خطأ فاضل، وإن كان محبوبا واجبا تعظيمه.
نا حمام بن أحمد، نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا عبد الله بن يونس المرادي، نا بقي بن مخلد، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا معاوية

(4/539)


بن هشام، نا سفيان - هو الثوري - عن جبلة بن عامر بن مطر، قال: قال لي حذيفة في كلام: فأمسك بما أنت عليه اليوم، فإنه الطريق الواضح، كيف أنت يا عامر بن مطر، إذا أخذ الناس طريقا مع أيهما تكون ؟.
قال عامر فقلت له: مع القرآن، أحيا مع القرآن وأموت، قال له حذيفة: فأنت إذا أنت.
قال أبو محمد: اللهم إني أقول كما قال عامر: أكون والله مع القرآن أحيا متمسكا به، وأموت إن شاء الله متمسكا به، ولا أبالي بمن سلك غير طريق القرآن،
ولو أنهم جميع أهل الارض غيري.
قال أبو محمد: وهذا حذيفة يأمر بترك طريق الناس، واتباع طريق القرآن إذا خالفه الناس.
نا أحمد بن محمد الطلمنكي، نا ابن مفرج، نا أحمد بن فريس، نا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن المنصور، نا هشيم، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي عن عبيدة السلماني، أن عمر بن الخطاب وعليا أعتقا أمهات الاولاد، قال عبيدة: قال علي: فقضى بذلك عمر حتى أصيب، ثم ولي عثمان فقضى بذلك حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن.
قال أبو محمد: هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لم ير حكم عمر ثم حكم عثمان - المشتهر المنتشر الفاشي، والذي وافقهما عليه - إجماعا - بل سارع إلى خلافه إذ أراه اجتهاده الصواب في خلافه، ولعمر الله، إن أقل من هذا بدرجات ليقطع هؤلاء المجرمون بأنه إجماع.
والسند المذكور قيل إلى سعيد بن منصور، نا عيسى بن يون س بن أبي إسحاق السبيعي، نا عبد الملك بن سليمان، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الشعبي قال: أحرم عقيل بن أبي طالب في موردتين، فقال له عمر: خالفت الناس، فقال له علي: دعنا منك، فإنه ليس لاحد أن يعلمنا السنة.
فقال له عمر: صدقت فهذا علي وعقيل لم ينكرا خلاف الناس، ورجع عمر عن قوله إلى ذلك إذ لم يكن ما أضافه إلى الناس سنة يجب اتباعها، بل السنة خلافه، فلا ينكر خلاف جمهور الناس للسنة.
وبه إلى سعيد بن منصور، نا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رياح قال: قلت لابن عباس، إن الناس لا يأخذون بقولي ولا بقولك، ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثنا على ما نقول.
قال ابن عباس: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، ما حكم الله بما قالوا.

(4/540)


قال أبو محمد: فهذا ابن عباس بأصح إسناد عنه، لا يلتفت إلى الناس ولا
إلى ما اشتهر عندهم، وانتشر من الحكم بينهم، إذا كان خلافا لحكم الله تعالى.
في مثل هذا يدعي من لا يبالي بالكذب الاجماع، وبه إلى سعيد بن منصور، نا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي زيد.
أنه سمع ابن عباس يقول في قول الله عز وجل: * (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) * قال ابن عباس: لم يؤمن بهذه الآية أكثر الناس، وإني لآمر هذه أن تستأذن علي - يعني جارية له.
قال أبو محمد: وهذا كالذي قبله، نا يحيى بن عبد الرحيم، نا أحمد بن دحيم، نا إبراهيم بن حماد، نا إسماعيل بن إسحاق، نا علي بن المديني، نا سفيان بن عيينة، نا مصعب بن عبد الله بن الزبير، عن أبي مليكة، عن ابن عباس.
قال: أمر ليس في كتاب الله عز وجل، ولا في قضاء رسول الله (ص)، وستجدونه في الناس كلهم - ميراث الاخت مع البنت.
فهذا ابن عباس لم ير الناس كلهم حجة على نفسه، في أن يحكم بما لم يجد في القرآن ولا في السنة.
نا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب، نا أحمد بن محمد، نا محمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا يحيى بن يحيى.
قال: قرأت على مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من الصحابة يصنعها.
فقال: وما هن يا ابن جريج ؟ قال: رأيتك لا تمس من الاركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا أروا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية.
فقال له ابن عمر، أما الاركان فإني لم أر رسول الله (ص) يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية، فإني رأيت رسول الله (ص) يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله (ص) يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ، بها وأما الاهلال فإني لم أر رسول الله (ص) يهل حتى تنبعث به راحلته.
قال أبو محمد: فهذا ابن عمر رضي الله عنه - بأصح إسناد إليه - لم ينكر مخالفته لجميع أصحابه فيما اقتدى فيه برسول الله (ص)، ولا أنكر على ابن جريج إخباره بأن أصحابه يخالفونه، فصح أنه لم ير أصحابه كلهم قدوة فيما وافق

(4/541)


وحدانية رسول الله (ص)، وهذا هو الحق الذي لا يسع أحدا القصد إلى خلافه.
قال أبو محمد: ثم هذا أبو حنيفة يقول: ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين، وما جاء عن رسول الله (ص) فسمعا وطاعة، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، تخيرنا من أقوالهم ولم نخرج عنهم، وما جاء عن التابعين، فهم رجال ونحن رجال، فلم ينكر عن نفسه مخالفة التابعين، وإنما لم ير الخروج عن أقوال الصحابة توقيرا لهم.
وهذا مالك: يفتي بالشفعة في الثمار ويقول - إثر فتياه به - وإنه لشئ ما سمعته ولا بلغني أن أحد قاله: فهذا مالك لم ير القول بما لم يسمع عن أحد قال به خلافا للاجماع، كما يدعي هؤلاء الذين لا معنى لهم، وهذا الشافعي يقول في رسالته المصرية، ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا.
قال حمام بن أحمد، ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال حمام: نا عباس بن أصبغ، وقال يحيى: نا أحمد بن سعيد بن حزم، ثم اتفق عباس وأحمد قالا جميعا، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، نا عبد الرحمن بن حنبل، قال: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الاجماع هو الكذب، من ادعى الاجماع فهو كذاب لعل الناس قد اختلفوا ما بد به ؟ ولم ينتبه إليه فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا، دعوى بشر المريسي والاصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك.
قال أبو محمد: صدق أحمد ولله دره، وبئس القدوة بشر بن عتاب المريسي، وعبد الرحمن بن كيسان الاصم، ولعمري إنهما لمن أول من هجم على هذه الدعوى، وهما المرءان يرغب قولهما، نا يوسف بن عبد الله النمري، نا عبيد الله بن محمد، نا
الحسن بن سلمون، نا عبد الله بن علي بن الجارود، نا إسحاق بن منصور، قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه وقد ذكر له قول أحمد بن حنبل في مسألة فقال إسحاق: أجاد، لقد ظننت أن أحدا لا يتابعني عليها، فهذا إسحاق لا ينكر القول بما يقع في تقديره أنه لا يتابعه أحد عليه، إذا رأى الحق فيما قاله به من ذلك.
قال أبو إسحاق: فهؤلاء الصحابة والتابعون، ثم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود، كلهم يوجب القول بما أداه إليه اجتهاده أنه الحق، وألا يعلم قائلا به قبله، فبمن تعلق هؤلاء القوم ؟ ليت شعري بل بالمريسي والاصم، كما قال أحمد رحمه الله.

(4/542)


قال أبو محمد: ولئن كان ما اشتهر من قول طائفة من الصحابة أو التابعين، ولم يعرف له خلاف - إجماعا فيما في الار ض أشد خلافا للاجماع ممن قلدوه دينهم مالك والشافعي، وأبي حنيفة، ولقد أخرجنا لهمئين من المسائل ليس منها مسألة إلا ولا يعرف أحد قال بذلك القول قبل الذي قال من هؤلاء الثلاثة فبئس ما وسموا به من قلدوه دينهم.
وقد ذكر محمد بن جرير الطبري أنه وجد للشافعي أربعمائة مسألة خالف فيها الاجماع.
وهكذا القول حرفا حرفا في أقوال ابن أبي ليلى، وسفيان والاوزاعي وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زيادة وأشهب وابن الماجشون والمزني وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد بن جرير، ما منهم أحد إلا وقد صحت عنه أقوال في الفتيا لا يعلم أحد من العلماء قالها قبل ذلك القائل ممن سمينا.
وأكثر ذلك فيما لا شك في انتشاره واشتهاره.
ثم ليعلموا أن كل فتيا جاءت عن تابع لم يرو عن صاحب في تلك المسألة قول، فإن ذلك التابع قال فيها بقول، ولا يعرف أن أحدا قاله، فالتابعون على هذا القول
الخبيث مخالفون للاجماع كلهم أو أكثرهم، ومخالف الاجماع عند هؤلاء الجهال كافر، فالتابعون على قولهم كفار، ونعوذ بالله العظيم من كل قول أدى إلى هذا.
واعلموا أن الذي يدعي ويقطع بدعوى الاجماع في مثل هذا، فإنه من أجهل الناس بأقوال الناس واختلافهم.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، فظهر كذب من ادعى أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع، وبالله تعالى التوفيق.
وأعجب شئ في الدنيا أنهم يدعون في مثله هذا أنه إجماع، ثم يأتون إلى الاجماع الصحيح المقطوع به المتيقن، فيخالفونه جهارا، وهو: أنه لا شك عند أحد من أهل العلم أنه لم يكن قط في عصر الصحابة رضي الله عنهم أحد أتى إلى قول صاحب أكبر منه، فأخذ به كله، ورد لقوله نصوص القرآن وكلام رسول الله (ص)، وجعل يحتال لنصره بكل ما أمكنه من حق أو باطل أو مناقضة.
ثم لا شك عند أحد من أهل العلم في أنه لم يكن قط في عصر التابعين أحد أتى إلى قول تابع أكبر منه، أو إلى قول صاحب فأخذ به كله، كما ذكرنا، ثم لا خلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لم يكن في القرن الثالث أحد أتى إلى

(4/543)


قول تابع، أو قول صاحب فأخذ به كله، فهذا الاجماع المقطوع به المتيقن في ثلاثة أعصار متصلة، ثم هي الاعصار المحمودة، قد خالفها المقلدون الآخذون بأقوال أبي حنيفة فقط، أو بأقوال مالك فقط، أو بأقوال الشافعي فقط، وهو عمل محدث، مخالف للاجماع الصحيح، فلهذا أعجبوا فهو مكان العجب حقا أن يخالفوا الاجماع المتيقن جهارا، ثم يدعون الاجماع حيث لا إجماع، ونعوذ بالله العظيم من الضلال.
فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم
لا يعد خلافا وأن قول من سواه فيمن خالفهم فيه إجماع قال أبو محمد: ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافا، وحكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي: أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام وقال: إن زيد بن ثابت لا يعد خلافا على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: فيقال لهم: ما معنى قولكم لا يعد خلافا ؟ أتنفون وجو خلاف ؟ فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان، أم تقولون: إن الله تعالى أمركم أتسموه خلافا ؟ أو رسوله (ص) أمركم بذلك ؟ فهذه شر من الاولى، لانه كذب على الله تعالى وعلى رسوله (ص) أم تقولون: إن قليل ذلك الخلاف من الضعة والسقوط في المسلمين - إما لفسقه وإما لجهله - بحيث لا يكون وجود قوله إلا كعدمه ففي هذا ما فيه، إذ ينزلون زيد بن ثابت أو ابن عباس أو غيرهما من التابعين الائمة في هذه المنزلة.
ولعمري إن من أنزل عالما - من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين أو من أئمة المسلمين - هذه المنزلة لاحق بهذه الصفة وأولى بها، ولا يخرج قولكم من إحدى هذه الثلاث قبائح، إذ لا رابع لها.
فإن قالوا: إنما قلنا: إنه خطأ وشذوذ قلنا: قد قدمنا أن كل من خالف أحدا

(4/544)


فقد شذ عنه، وكل قول خالف الحق فهو شاذ عن الحق، فوجب أن كل خطأ فهو شذوذ عن الحق، وكل شذوذ عن الحق فهو خطأ، وليس كل خطأ خلافا للاجماع، فليس كل شذوذ خلافا للاجماع، ولا كل حق إجماعا، وإنما نكلمكم ههنا في قولكم: ليس خلافا، ولكون ما عداه إجماعا، فقد ظهر كذ ب دعواهم وفسادها والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ووجدناهم احتجوا بروايلا تصح: عليكم بالسواد الاعظم ووجدنا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني، عن المسيب بن واضح، عن المعتمر بن سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي (ص) قال: لا تجتمع أمة محمد على ضلالة أبدا، وعليكم بالسواد الاعظم فإنه من شذ شذ إلى النار.
قال أبو محمد: المسيب بن واضح منكر الحديث لا يحتج به، روى المنكرات منها: أنه أسند إلى النبي (ص)، من ضرب أباه فاقتلوه وهذا لا يعرف ولو صح الخبر المذكور لكان معناه من شذ عن الحق، لا يجوز غير ذلك، وبما أنبأناه أحمد بن عمر بن أنس العذري، نا عبد الله بن الحسين، نا عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا محمد بن أحمد بن الجهم، نا أبو قلابة، نا وهب بن جرير بن حازم قال: سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن جابر بن سمرة قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قام فينا رسول الله (ص) كقيامي فيكم فقال: من أحب منكم بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد.
نا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرني إبراهيم بن الحسن، نا حجاج بن محمد، نا يوسف بن أبي إسحاق، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن الزبير قال: قام عمر بن الخطاب أمير المؤمنين على باب الجابية فقال: إن رسول الله (ص) قام فينا كقيامي فيكم فقال: يا أيها النا س أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى إن الرجل يحلف قبل أن يستحلف، ويشهد قبل أن يستشهد، فمن سره أن ينال بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن يد الله فوق الجماعة، ولا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطن اثالثهما، ألا إن الشيطان مع واحد، وهو من الاثنين أبعد، من سائته سيئته وسرته حسنته فهو المؤمن.

(4/545)


وبه إلى أحمد بن شعيب، نا الربع بن سليمان، نا إسحاق بن بكر، عن يزيد بن عبد الله، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
قال: إن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قام فقال: رسول الله (ص) قام فينا كقيامي فيكم.
فقال: أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطا مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد.
وبه إلى أحمد بن شعيب، نا إسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه - نا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن عبد الملك بن مالك بن عمر، عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية، فقال: رسول الله (ص) قام في مثل مقامي هذا، فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد.
وبه إلى أحمد بن شعيب، نا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - نا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال: إن رسول الله (ص) قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف على اليمين قبل أن يستحلف ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد عليها، فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهومن الاثنين أبعد، لا يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ألا من كان منكم تسوءه سيئته وتسره حسنته فهو مؤمن.
قال أبو محمد: هذا الخبر لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح، ولكنا نتكلم فيه على علاته، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إنه إن صح فإن ما ذكر فيه من الجماعة إنما هي بلا شك جماعة الحق.
ولو لم يكونوا إلا ثلاثة من الناس، وقد أسلمت خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين وسائر الناس كفار، فكانت على الحق وسائر
أهل الارض على ضلال.
ثم أسلم زيد بن حارثة وأبو بكر رضي الله عنهم، فكانوا

(4/546)


بلا شك هم الجماعة، وجميع أهل الارض على الباطل.
وقد نبئ رسول الله (ص) وحده، فكان على الحق واحدا، وجميع أهل الارض على الباطل والضلال، وقد صح عن النبي (ص) أن زيد بن عمر بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده.
قال أبو محمد: وذلك لان زيدا آمن بالله تعالى وحده، وجميع أهل الارض على ضلالة.
وقد صح عن رسول الله (ص) أنه قال: إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء قيل: ومن هم يا رسول الله قال: النزاع من القبائل وقال (ص): الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة وقال (ص): إن الساعة لا تقوم إلا على من لا خير فيهم نا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا محمد بن عباد وابن أبي عمر كلاهما، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد بن كيسان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): بدأ الاسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء.
وبه إلى مسلم، نا الفضل بن سهل، نا شبابة به سوار، نا عاصم - هو ابن محمد العمري - عن أبيه عن ابن عمر عن النبي (ص) قال: إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ نا أحمد بن محمد بن الجسور، نا محمد بن أبي دليم، أخبرنا ابن وضاح، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا حفص بن غياث، عن الاعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الاحوص، عن عبد الله بن مسعود: قال: رسول الله (ص): إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء ؟ قال: النزاع من القبائل.
ويالسند المتقدم إلى مسلم، نا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أنس بن مالك، عن النبي (ص) قال:
لا تقوم الساعة على احد يقول لا إله إلا الله.
وقال الله عز وجل - وذكر أهل الحق - فقال: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم) * وقال تعالى: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * في سورة يوسف وقال تعالى: * (وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك) * وقال تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) * وكلام الله تعالى حق وكلام رسوله (ص) حق، والحق لا يتعارض.

(4/547)


وهذه النصوص التي أوردناها هي قرآن منزل، أو أثر في غاية الصحة منقول نقل التواتر، وكلاهما في غاية البيان، فالاقل في الدين هم أهل الحق، وأن أكثر الناس على ضلال وعلى جهل، وأن الواحد قد يكون هو المصيب، وجميع الناس هم على باطل، لا تحتمل هذه النصوص شيئا غير هذا البتة، فلو صحت تلك الآثار التي قدمنا، لوجب ضرورة أنها ليست في الدين، لكن في شئ آخر، وبالضرورة تدري أنها ليست على عمومها، لان انفراد الرجل وحده في بيته غير منكر: وقد قال رسول الله (ص) يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.
وبرهان كا ف قاطع لكل من له أقل فهم في أنه (ص) لم يرد قط بالجماعة المذكورة كثرة العدد لا يشك في ذلك، لان النصارى جماعة واليهود جماعة، والمجوس وعباد النار جماعة، أفترونه (ص) أراد هذه الجماعات ؟ حاشا لله من هذا، فإن قالوا: إنما أراد جميع المسلمين، قلنا: فإن المنتمين إلى الاسلام فرق، فالخوارج جماعة، والروافض جماعة، والمرجئة جماعة، والمعتزلة جماعة، أفترونه عليه السلام أراد شيئا من هذه الجماعات ؟ حاشا له من ذلك.
فإن قالوا: إنما أراد أهل السنة، قلنا: أهل السنة فرق، فالحنفية جماعة، والمالكية جماعة، والشافعية
جماعة، وأصحاب الحديث الذين لا يتعدونه جماعة فأي هذه الجماعات أراد (ص) ؟ وليس بعضها أولى بصحة الدعوى من بعض، فصح يقينا قطعا كما أن الشمس طالعة من مشرقها أنه عليه السلام لم يرد قط إلا جماعة أهل الحق، وهم المتبعون للقرآن، ولما صح عن النبي (ص) من بيانه للقرآن بقوله وفعله.
وهذه هي طريق جميع الصحابة رضي الله عنهم، وخيار التابعين من بعدهم، حتى حدث التقليد المهلك، فإذا لا شك في كل هذا، وقد بينا أن أمره عليه السلام بلزوم الجماعة، إنما أراد يقينا أهل الحق، وإن كانوا أقل من أهل الباطل بلا شك، لم يرد كثرة العدد قط.
فلنتكلم بعون الله تعالى وقوته على ما في تلك الآثار، من أن الشيطان مع الفذ أو الواحد، وهو من الاثنين أبعد.
وقد أوضحنا بما لا إشكال فيه، أنه عليه السلام لم يرد بذلك الدين، بما لو أوردنا آنفا من النصوص، وببرهان آخر، وهو قوله:

(4/548)


وهو من الاثنين أبعد فلو أراد الدين، لكان المنفرد بقوله مصاحبا للشيطان، فإن استضاف إليه آخر بعد عنه الشيطان، فعاد الباطل حقا بدخول إنسان فيه، وهذا باطل متيقن ليست هذه صفة الدين، بل الباطل باطل، وإن دخل فيه آلاف فصح بلا شك أنه لم يرد الدين، ولاعموم التوحيد بكل حال فقد صح أنه إنما عنى خاصا من الاحوال بلا شك.
فإذا ذلك كذلك فلا يجوز أن ينسب إلى النبي (ص) أنه أراد حال كذلك إلا بنص صحيح عنه بذلك، وإن الناسب إليه (ص) ما لم يقل كاذب عليه، وقد أخبر عليه السلام، أنه من كذب عليه فليتبوأ مقعده من النار.
فإذا كان الامر كما قلنا يقينا، فقد صح عن النبي (ص) النهي أن يسافر المرء وحده، وفي تلك الاخبار أنفسها، لا ينفرد رجل مع امرأة فإن الشيطان ثالثهما، فنحن على يقين من أنه ههنا نهي عن الوحدة، وأن الشيطان ههنا مع الواحد، فإن كان اثنين فقد خرج عن النهي، وبعد الشيطان عنهما، فبطل
التعلق بتلك الآثار فيما ذهب إليه من ذهب، وأن خلاف الواحد لا يعد خلافا.
واعلموا أنه لا يمكن البتة، للحنفيين ولا المالكيين ولا الشافعيين، أن يحتجوا بشئ من ذلك الاثر، لان خلاف الواحد عندهم خلاف إلا من شذ منهم من مذاهب أصحابه، وقد قلنا إننا أخرجنا لكل واحد من أبي بكر ومالك والشافعي مئين من المسائل انفرد كل واحد منهم بقوله فيها، عن أن يعرف أحد قبله قاله بذلك القول.
وبرهان ضروري أيضا، هو أنه قد بينا أن له لو صح ذلك القول عن النبي (ص) لعلمنا أنه لم يرد بذلك الدين أصلا، لان اليهود والنصارى والمجوس والملحدين ثم الرافضة والمعتزلة والمرجئة والخوارج، جماعات عظيمة، فالشيطان بعيد عنهم ومجانب لهم، لانهم أكثر من واحد، يأبى الله تعالى هذا، وتالله ما عش الشيطان ولا بحبوحته إلا فيهم، وبلا شك أن أهل الباطل كلما كثروا فإن الشيطان أقوى فيهم منه مع المنفرد.
نا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عبد البصير، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا مؤمل بن إسماعيل البصري، نا سفيان الثوري، عن عبد الملك بن أبجر، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ربع السودان من لا يلبس الثياب، أكثر من جميع الناس.
فصح بكل هذا - يقينا لا مجال للشك فيه - أنه لا يرد قط بذلك الدين، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن النبي (ص) أثنى في تلك الاخبار على أصحابه، وعلى قرن التابعين، ثم على القرن الثالث.
فإذأثنى عليهم فهم الجماعة التي لا ينبغي أن تخالف، وكل من خالفهم فهو أهل الباط، ولو كانوا أهل الارض تلك القرون الثلاثة هي التي لم تقلد أحدا،

(4/549)


وإنما كانوا يطلبون القرآن والسنن فنحن معهم، والحمد لله رب العالمين.
وكل من قلد إنسانا بعينه، فقد خالف الجماعة، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وقد شغب بعضهم بأن قال لما أجمع نظراء هذا الواحد،
وعلمنا أنهم مؤمنون يقينا بالجملة، وأنهم من الامة بلا شك، ولم نقطع هذا الواحد المخالف لهم بأنه من الامة، وكان واجبا علينا اتباع من نوقن أنهم من الامة دون من لا نوقن أنه منها.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، لان الله تعالى أمرنا عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة بقوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * ومخالفة الواحد تنازع في المشاهدة والعيان، ولم يقل تعالى فردوه إلى الاكثر، ولا إلى من لم يخالفهم إلا واحد فصار من رد إلى غير القرآن والسنة، عاصيا لله عز وجل، مخالفا لامره.
وقد حصل لذلك الواحد من ظاهر الاسلام في الحكم، كالذي لكل واحد من مخالفيه ولا فرق.
قال أبو محمد: واحتجوا أيضا بما رويناه من طريق ابن وهب، أخبرني أبو فهد قال رسول الله (ص): ليتبع الاقلون العلماء الاكثرين.
قال أبو محمد: وهذا مرسل لا خير فيه، وباطل بلا شك، أول ذلك أنه محال، وهو عليه السلام لا يأمر بالمحال، لانه لا يمكن أن يتبع الاقل والاكثر إلا بعد إمكان عد جميعهم، وقد بينا أن عد جميعهم لا يمكن البتة بوجه من الوجوه، ولا يقدر عليه إلا الخالق وحده لا شريك له.
ووجه آخر، وهو أن الصحابة رضوان الله عنهم، قد أصفقوا أثر موت النبي (ص) على ألا يقاتل أهل الردة، ولا ينفذ بعث أسامة بن زيد، وخالفهم أبو بكر وحده، فكان هو المحق وكانوا على الخط، فإن قالوا: قد رجعوا إلى قوله قلنا: نعم، وهذه حجتنا، وإنما سألناكم عن الحال قبل أن يرجعوا إلى قول أبي بكر في ذلك.
وقد شغب بعضهم بما روي من أن الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب.
قلنا: إنما هذا في نص الخبر نفسه في السفر فقط، وإلا فالمصلي النافلة وحده على قولهم شيطان، ومصلي الفريضة مع آخر شيطانان، وفي هذا

(4/550)


ما فيه، نعوذ بالله العظيم من البلاء.
ثم نسألكم: هل ذلك الواحد عندكم مخالف للاجماع أم لا ؟ فإن قالوا: نعم، قلنا لهم: ومخالف الاجماع عندكم كافر، فمن قولهم: نعم، قلنا لهم، فعلى هذا فابن عباس كافر، وزيد بن ثابت عندكم كافر، إذ أقررتم أنهما خالفا الاجماع، وبالله إن نسب ذلك إليهما فهو والله أحق منهما، بل هما المؤمنان الفاضلان رضي الله عنهما، وإن أبوا من تكفير من خالف هذا النوع من الاجماع تناقضوا وظهر فساد قولهم، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: أخبرنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني، نا إبراهيم بن أحمد البلخي، حدثنا الفريرى، نا البخاري، نا عبد العزيز بن عبد الله، نا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولو آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا، ثم يتلو: * (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى) * إلى قوله: * (الرحيم) * إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الاسواق، وإن إخواننا من الانصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله (ص) لشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون.
قال أبو محمد: ففي هذا أن الواحد قد يكون عنده من السنن ما ليس عند الجماعة، وإذا كان عنده من السنة ما ليس عند غيره، فهو المصيب في فتياه بهذا دون غيره.
قال أبو محمد: وبالعيان ندري أن المسلمين أقل من غيرهم: قال رسول الله (ص): ما أنتم في الامم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الاسود، وذكر عليه السلام الصلاة والسلام أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة، ثم بالمشاهدة ندري أن الصالحين والعلماء أقل من الطالحين والجهال، وأن هذين الصنفين هم الاكثر، والجمهور، وبالمشاهدة ندري أن الزكي من العلماء هم أقل منهم بخلاف قول
المخالف، وقد ذكر في باب إبطال التقليد قول ابن مسعود: لا يقول أحدكم أنا مع الناس.
وذكرنا قبل هذا قول حذيفة: كيف أنت إذا سلك القرآن طريقا، وسلك الناس طريقا آخر ؟ وبينا قبل وبعد أن العرض إنما هو اتباع القرآن وما حكم به رسول الله (ص) فإنه لا معنى لقول أحد دون ذلك، كثر

(4/551)


القائلون به أو قلوا، وهذا باب ينبغي أن يتقى فقد عظم الضلال به، وكثر الهالكون فيه، ونعوذ بالله العظيم من البلاء.
قال أبو محمد: وكلامنا هذا كله تطوع منا، وإلا فلو اكتفينا من كل ذلك بما نذكره الآن إن شاء الله تعالى، وهو أن نقول لهم: إن كل من ادعى في أي قولة كانت لا نحاشي قولة من الاقوال - أن العلماء كلهم أجمعوا عليها إلا واحدا خالفهم فقط أو إلا اثنين، أو إلا ثلاثة، أو أي عدد ذكروا، فإنه كذاب مفتر آفك قليل الحياء، لانه لا سبيل بوجه من الوجوه إلى معرفة ذلك يقينا ولا إلى القطع به أصلا، لما قدمنا من تعذر إحصاء عدد المفتين من المسلمين، فوضح أن هذه مسألة فارغة، ولا حجة للاشتغال بها، أو كثرة من ضل بها.
فصل في قول من قال: قول الاكثر هو الاجماع ولا يعتد بقول الاقل قال أبو محمد: في الباب الذي قبل هذا نقض هذه المقالة، وفيه ذكرنا كل ما يمكن أن يشغبوا به، فأغنى عن إعادته، إلا أن هنا سؤالا رائدا، وهو أن نقول لهم: قلتم المحال وأتيتم في دينكم الباطل، والذي لا يمكن وجوده، وذلك إلى أنه لا سبيل إلى توفية حكمهم هذا حقه، إلا إحصاء عد جميع من تكلم في تلك المسألة من صاحب وتابع فمن بعدهم، ثم يعرف الاثر ولو بواحد، وهذا مع أنه محال فهو حمق، وقول بلا برهان.
وأيضا فما الفرق بينكم وبين من
قال قول الطائفة التي هي أفضل وأشهر في العلم أولى، وإن كانوا أقل عددا، فحصل التعارض وبطل القولان لانهم بلا دليل، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في إبطال قول من قال: الاجماع هو إجماع أهل المدينة قال أبو محمد: هذا قول لهج به المالكيون قديما وحديثا، وهو في غاية الفساد، واحتجوا في ذلك بأخبار منها صحاح، ادعوا فيها أنها تدل على أن المدينة أفضل البلاد، ومنها مكذوب موضوع في رواية محمد بن الحسن بن زبالة وغيره، ليس

(4/552)


هذا مكان ذكرها، لان كلامنا في هذا الكتاب إنما هو على الاصول الجامعة لقضايا الاحكام، لا لبيان أفضل البلاد، وقد تقصينا تلك الاخبار في كتابنا المعروف بالايصال في آخر كتاب الحج منه، وتكلمنا على بيان سقوط ما سقط منها، ووجه ما صح منها بغاية البيان، والحمد لله رب العالمين.
وبجمع ذلك أنهم قالوا: المدينة مهبط الوحي ودار الهجرة، ومجتمع الصحابة، ومحل سكنى النبي (ص)، وأحكامها فأهلها أعلم بذلك ممن سواهم، وهم شهداء آخر العمل من النبي (ص) وعرفوا ما نسخ وما لم ينسخ.
ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: إنما إجماعهم إجماع وحجة، فيما كان من جهة النقل فقط، وقالت طائفة منهم: إجماعهم إجماع وحجة، من جهة النقل كان أو من جهة الاجتهاد، لانهم أعلم بالنصوص التي منها يستنبط وعليها يقاس، فإذا هم أعلم بذلك، فاستنباطهم وقياسهم أصح من قياس غيرهم واستنباط غيرهم.
وقالوا: من المحال أن يخفى حكم النبي (ص) على الاكثر، وهم الذين بقوا بالمدينة، ويعرفه الاقل، وهم الخارجون عن المدينة، مع شغلهم بالجهاد، وذكروا قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم
- إذ أراد أن يقوم بالموسم الذي بلغه من قول القائل: لو قد مات عمر لقد بايعنا فلانا، فقال عمر: لاقومن بالعشية فلاحذرن الناس من هؤلاء الرهط يريدون يغصبونهم.
فقال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس، ويغلبون على مجلسك، فأخاف أن ألا ينزلوها على وجهها فيطيروا بها كل مطير، فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلو بأصحاب رسول الله (ص) من المهاجرين والانصار، ويحفظون مقالتك، وينزلوها على وجهها.
نا بهذا عبد الرحمن بن عبد الله نا إبراهيم بن أحمد، حدثنا الفربري، نا البخاري، نا موسى بن إسماعيل، نا عبد الواحد، نا معمر عن الزهري، عن عبيد الله بن عتبة، قال: حدثني ابن عباس، قال: قال لي عبد الرحمن بن عوف: لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل فقال له: إن فلانا يقول: لو قد مات عمر فبايعنا فلانا، ثم ذكر نصه كما أوردنا.

(4/553)


قال أبو محمد: هذا كل ما شغبوا به، وكله لا حجة لهم في شئ منه، على ما تبين إن شاء الله عز وجل.
أما دعواهم أن المدينة أفضل البلاد، فدعوى قد بينا إبطالها في غير هذا المكان، وبينا أن مكة أفضل البلاد بنص القرآن، والسنن الثابتة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وليس هذا مكان الكلام في ذلك، لكن نقول لهم: هبكم أنه كما تقولون، وليس كذلك، فأي برهان في كونها أفضل البلاد على أن إجماع أهلها هو الاجماع ؟ ألا يستحي من يدري أن كلامه مكتوب وأنه محاسب به بين يدي الله عز وجل، من أن يموه هذا التمويه البارد، ونحن نقول: إن مكة أفضل البلاد، وليس ذلك بموجب اتباع أهلها دون غيرهم، ولا أن إجماعهم دون إجماع غيرهم، ولا أنهم حجة على غيرهم، إذ ليس فضل البقعة موجبا لشئ من ذلك.
وأيضا فإنه لا يختلف مسلمان في أنه قد كان في المدينة منافقون، وهم شر الخلق، قال تعالى: * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) * وقال تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار) *.
وكان فيها فساق كما في سائر البلاد، وزناة وكذابون وشربة خمر وقذفة كما في سائر البلاد ولا فرق، وأهلها اليوم - وإنا لله وإنا إليه راجعون - غلاة الروافض الكفرة، أفترون لهؤلاء فضلا يوجب اتباعهم من أجل سكناهم المدينة ؟ فمن قولهم: لالكن إنما توجب الحجة بالفضلاء غير هم من أهل المدينة، قلنا لهم: ومن أين خصصتم فضلاء المدينة دون فضلاء غيرهم من البلاد ؟ وهذا ما لا سبيل إلى وجود برهان على صحته أبدا.
وأيضا فالمدينة فضلها باق بحسبه، كما كان لم يتغير ولا يتغير أبدا، وأهلها أفسق الناس، فقد بطل أن تكون للبقعة حكم في وجوب اتباع أهلها، وصح أن الفاضل فاضل حيث كان، والفاسق فاسق حيث كان.
وأما قولهم: إن أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله (ص) ممن سواهم، فهو كذب وباطل، وإنما الحق أن أصحا ب رسول الله (ص) وهم العالمون بأحكامه (ص) سواء بقي منهم من بقي بالمدينة أخرج منهم من خرج، لم يزد الباقي بالمدينة بقاؤه فيها درجة في علمه وفضله، ولاحظ

(4/554)


الخارج منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله.
وأما قولهم: إنهم شهدوا آخر حكمه (ص) وعلموا ما نسخ مما لم ينسخ فتمويه فاحش، وكذب ظاهر، بل الخارجون من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم بها منهم سواء كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ولا فرق، والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة، فظهر فساد كل ما موهوا به وبنوه على
هذا الاصل الفاسد، وأسموه بهذا الاساس المنهار.
وأما قولهم: إن من المحال أن يخفى حكم رسول الله (ص) على الاكثر، وهم الباقون بالمدينة، وبعلمه الاقل، وهم الخارجون عن المدينة، فتمويه ظاهر، وشغب غث، وإنما كان ممكن أن يموهوا بذلك، لو وجدوا مسألة رويت من طريق كل من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، وأفتى بها كل من بقي بالمدينة من الصحابة.
وأما ولا يجدوا هذا أبدا، ولا في مسألة واحدة، وإنما وجد فتيا الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك، وروايتهم كذلك، فممكن أن يغيب حكم النبي (ص) عن النفر من الصحابة، وبعلمه الواحد والاكثر منهم، وقد يمكن أن يكون الذي حضر ذلك الحكم يخرج عن المدينة، ويمكن أن يبقى بها، ويمكن خلاف ذلك أيضا، ولا فرق، وإنما تفرق الصحابة في البلاد بعد موت النبي (ص).
وأما قول عبد الرحمن لعمر - الذي ذكرنا - في تأخير الامر حتى يقدم المدينة فيخلو بوجوه الناس، وأهل الفقه وأهل العلم، فوالله ما أدرك مالك من هؤلائك أحدا، وإنما أخذ عنهم كما فعل أهل الامصار سواء ولا فرق، وأيضا فما كل قول قاله عبد الرحمن، ووافقه عليه عمر رضي الله عنه حجة، وقد علم جميع أهل الاسلام أن رسول الله (ص)، لم يخطب الخطبة التي عهد فيها إلى الناس وجعلها كالوداع لهم وقررهم ألا هل بلغت، وأشهد الله تعالى عليهم، إلا في الموسم أحفل ما كان في الاعراب وغيرهم ففعل رسول الله (ص) أولى من رأي رآه عبد الرحمن وعمر رضي الله عنهما.
وبرهان ذلك أنه لو سلك الائمة هذا الرأي ما تعلم جاهل شيئا أبدا، فصح أنه لا بد ممخاطبة الرعاع والجهال بما يلزم علمه، والعجب كله أنهم يموهون إجماع

(4/555)


أهل المدينة، ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده، ولا يأخذون بسواه وهم أترك الناس لاقوال أهل المدينة كعمر وابن عمر وعائشة وعثمان، ثم سعيد بن المسيب والقاسم وغيرهم.
ومن عجائب الدنيا التي لا نظير لها أن يتهالكوا على تقاليد رأي ابن القاسم المصري، وسحنون التنوفي من إفريقية، لان ابن القاسم أخذ عن مالك ولان سحنون أخذ عن ابن القاسم المصري عن مالك، ولا يرون لاخذ مسروق والاسود وعلقمة عن عائشة أم المؤمنين، وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما وجها ولا معنى، ثم لا يستحيون مع هذا من أهل التمويه بأهل المدينة، وإنما ذكرنا من أخذ عن هؤلاء المدنيين تنكيتا لهم، وكشفا لتناقضهم، وهم أترك خلق الله لاجماع أهل المدينة أجمعوا كلهم مع رسول الله (ص) على إعطاء أموالهم التي قسمها رسول الله (ص) على مفتتحي خيبر إلى اليهود، على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم يقرونهم ما أقرهم الله تعالى، ويخرجونهم متى شاؤوا وبقوا كذلك إلى أن مات رسول الله (ص مدة أربعة أعوام ثم مدة أبي بكر رضي الله عنه إلى آخر عام من خلافة عمر رضي الله عنه.
فقال المدعون إنهم على مذهب أهل المدينة.
هذا عقد فاسد وعمل باطل مفسو تقليدا لخطأ مالك.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، نا وهب بن ميسرة، نا ابن وضاح بن يحيى، نا مالك، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: نحرنا مع رسول الله (ص) يوم الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة.
نا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا محمد بن حاتم، نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: نحرنا يومئذ تسعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة، فهذا إجماع أهل المدينة حقا وعملهم بحضرة رسول الله (ص) وإجماع
الصحابة حقا.
فقال هؤلاء المنتسبون إلى اتباع أهل المدينة: هذا عمل لا يجوز، ولا يجزئ تقليدا لخطأ مالك، وخلافا لاهل المدينة وتمويها برواية عن ابن عمر قد جاء عنه خلافها.
وتركوا عمل أهل المدينة - كل من حضر منهم - مع عمر، في سجوده في:

(4/556)


* (إذا السماء انشقت) * وسجودهم مع عمر إذ قرأ السجدة، وهو يخط ب يوم الجمعة فنزل عن المنبر فسجد وسجدوا معه، ثم رجع إلى خطبته، فقال هؤلاء المنتمون إلى اتباع أهل المدينة.
هذا لا يجوز، تقليدا لخطأ مالك في ذلك، ولا سبيل إلى أن يوجد عمل لاهل المدينة أعم من هذا، وتركوا إجماع أهل المدينة، إذ صلوا مع رسول الله (ص) آخر صلاة صلاها بالناس، فقالوا: هذه صلاة فاسدة، تقليدا لخطأ مالك في ذلك.
والعجب احتجاجهم كلهم في ترك إجماع أهل المدينة على هذا وعملهم برواية الجعفي الكذاب الكوفي عن الشعبي أن النبي (ص) قال: لا يؤمن أحد بعدي جالسا.
وهذه رواية ليس في رواية أهل المدينة أنتن منها، فهل في العجب أكثر من هذا ؟ وهم يقولون: إن إجماع أهل الكوفة هو الاجماع فإن روايات أهل الكوفة الصحاح مدخولة.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرنا أبو أيوب بن محمد الوزان، نا عمرو بن أيوب، نا أفلح بن حميد، نا محمد بن حميد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع ناسا من أهل العلم، فيهم عمر بن عبد العزيز، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد، وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، وابن شهاب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألهم عن الطيب قبل الافاضة، فكلهم أمره بالطيب.
وقال القاسم: أخبرتني عائشة أنها طيبت
رسول الله (ص) لحرمه حين أحرم، ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت ولم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبد الله قال: كان عبد الله رجلا حادا محدا كان يرمي الجمرة ثيذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله، قال سالم: صدق.
فهذه فتيا أهل المدينة وفقهائها عن سلفهم، فقال هؤلاء المدعون: إنهم يتبعون أهل المدينة، لا يجوز ذلك تقليدا لخطأ مالك، واحتجوا برواية كوفية ليست موافقة لقولهم أيضا، لكن موهوا بإيرادها.
وذكر قيس بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود،

(4/557)


وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي، وعامل عمر بن الخطاب الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا وكذا، ورأى ذلك الزهري.
قال أبو محمد: فهل يكون عمل يمكن أن يقال: إنه إجماع - أظهر من هذا أو أفشى منه ؟ فقال هؤلاء المموهون باتباع أهل المدينة: هذا لا يحل ولا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك، والعجب أن مالكا لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة فاستحل هؤلاء القدر بنفحة، وقمحوا جميع آرائه في إجماع أهل المدينة، وإنا لله وإنا إليه راجعون على فشو الكذب واختداع أهل الغفلة والاغترار بالباطل.
ثم إن المسائل المذكورة التي ذكر مالك أنها إجماع أهل المدينة تنقسم قسمين: أحدهما: لا يعلم فيه خلاف من أحد من الناس في سائر الامصار، وهو الاقل.
والثاني: قد وجدنا فيه الخلاف، كما هو موجود في غير المدينة.
قال أبو محمد: ونقول لهم لا يخلو ما ادعيتموه - من إجماع أهل المدينة - من
أن يكون عن توقيف من رسول الله (ص)، أو يكون عن اجتهاد، وقد تقدم إبطالنا لكل اجتهاد أدى إلى ما لا نص فيه، أو إلى خلاف النص.
ثم لو صح لهم فمن أين جاز أن يكون اجتهاد أهل المدينة أولى من غيرهم ؟ والنصوص التي يقيسون عليها معروفة عند غيرهم، كما هي عندهم إذ كتمانها محال غير ممكن، ولا فرق بين دعواهم هذه ودعوى غيرهم، أو يكون إجماعهم عن توقيف من النبي (ص)، ولم يبق إلا هذا الوجه، فلا يخلو ذلك التوقيف من أن يكون علمه الخارجون من المدينة من الصحابة، أو جهلوه أو علمه من علمه من أهل المدينة سائر الناس أو كتموه، فإن كان علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو علمه من علمه ممن بقي في المدينة من سائر الناس، فقد استوى في العلم به أهل المدينة وغيرهم ضرورة، وإن كان من بقي في المدينة كتمه عن سائر أهل البلاد.
فهذا محال غير ممكن، لان كل سر جاوز اثنين شائع فكيف ما علمه جميع أهل المدينة بزعمهم ؟ وحتى لو صح أنهم كتموه لسقطت عدالتهم، قال الله عز وجل: * (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك

(4/558)


يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) * ولقد أعاذهم الله من هذا، فبطل ضرورة ما ادعوه من إجماع أهل المدينة.
وأيضا فإن الاجماع لا يصح نقله إلا بإجماع مثله، أو بنقل تواتر، وهم يرجعون في دعواهم الكاذبة لاجماع أهل المدينة إلا إلى إنسان واحد، وهو مالك، فهو نقل واحد كنقل غيره من العلماء ولا فرق.
وأيضا فيقال لهم: أخبرونا هل خص رسول الله (ص) بتبليغ أحكام الدين أو بعضها أو حكم واحد منها - المقيمين بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم عمن علم الله عز وجل أنهم سيخرجون عن المدينة.
فإن قالوا: نعم
كفروا وكذبوا، إذ جعلوه (ص) كتم شيئا من الدين عمن يلزمه من علم الديانة كالذي يلزم غيره، وصاروا إلى أقوال الروافض من كثب، وإن قالوا: لا، ثبت أن السنن هي بيان الدين في غير المدينة كما هي في المدينة ضرورة ولا فرق.
وأيضا فإن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يجاهدون ويحجون، ومن خرج عن المدينة منهم كانوا يفدون على عمر وعثمان فقد وجب التداخل بينهم.
وهكذا صحت الآثار بنقل التابعين من سائر الامصار عن أهل المدينة، وبنقل التابعين من أهل المدينة ومن بعدهم عن أهل الامصار فقد صحب علقمة ومسروق عمر وعثمان وعائشة أم المؤمنين، واختصوا بهم وأكثروا الاخذ عنهم، وكذلك صحب علقمة ومسروق وعمر وعثمان وعاشية أم المؤمنين، واختصوا بهم وأكثروا الأخذ عنهم.
وكذلك صحب عطاء عائشة أم المؤمنين وصحب الشعى وابن بن سيرين بن عمر، وصحب قتادة بن المسيب، وأخذ الزهري عن أنس، وأخذ مالك عن أيوب وحميد المكي، وأخذ عبيدالله بن عمر، عن ثابت البناني، وأخذ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس.
وأخبرني يوسف بن عبد الله النمري قال: نا عبد الوارث بن حسرون، نا قاسم بن أصبغ، نا أحمد بن زهير بن حرب، نا أحمد بن حنبل، نا عبد الرحمن بن مهدي، سمعت مالك بن أنس يقول: قال سعيد بن المسيب، إن كنت لاسير الايام والليالي في طلب الحديث الواحد، فاستوى الامر في المدينة وغيرها بلا شك.
وأيضا فنقول لهم: هل تعمد عمر وعثمان رضي الله عنهما أن يبعثا من يعلم أهل البصرة والكوفة والشام ومصر دينهم وأحكامهم أم أغفلا ذلك وضيعاه ؟

(4/559)


وعمالهما يترددون على هذه البلاد، ووفود هذه البلاد يفدون عليهما كل عام أم لم ي تركاذلك، بل علماهم كل ما يجب علمه من الدين ؟ ولا بد من أحد
هذه الاقسام، فإن قالوا: تعمدنا كتمان الدين عنهم أو ضيعوا ذلك، كذبوا جهارا، ونسبوا الخليفتين الفاضلين إلى ما قد نزههما الله تعالى عنه، مما هو أعظم الجور وأشد الفسق، بل هو الانسلاخ من الاسلام، وإن قالوا: ما تركا ذلك، علماهم كل ما يجب علمه والعمل به من الدين.
قلنا: صدقتم وقد ثبت بهذا أن أهل المدينة وغيرهم سواء في المعرفة والعلم والعدالة، وظهر فساد دعواهم الكاذبة في دعوى إجماع أهل المدينة.
أنبأنا محمد بن سعيد بن بنات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر - غندر -، نا شعبة، نا أبو إسحاق السبيعي قال: سمعت حارثة بن مضرب قال: قرأت كتاب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة: إني بعثت عليكم عمارا أميرا، وعبد الله معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله (ص) من أهل بدر فخذوا عنهما، واقتدوا بهما، فإنني آثرتكم بعبد الله على نفسي إثرة.
حدثني أحمد بن عمر بن أنس العدوي، نا عبد الله بن الحسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا محمد بن أحمد بن محمد بن الجهم، نا إسماعيل بن إسحاق القاضي، نا أحمد بن يونس، نا قيس بن أشعث، عن الشعبي قال: ما جاءك عن عمر فخذ به، فإنه كان إذا أراد أمرا استشار أصحاب محمد (ص) فإذا أجمعوا على شئ كتب به فهذا تعليم عمر ما عنده من العلم لاهل الامصار، فصار الامر في المدينة وغيرها سواء.
وأيضا فنقول لهم: إذا كان إجماع أهل المدينة عندكم هو الاجماع، ومن قولكم إن من خالف الاجماع كافر، فتكفرون كل من خالف إجماع أهل المدينة بزعمكم أم لا ؟ فإن قالوا: نعم لزمهم تكفير ابن مسعود وعلي، وكل من روي عنه فتيا مخالفة لما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من صاحب أو تابع فمن دونهم، وفي هذا ما فيه، وإن أبوا من ذلك قلنا لهم: كذبتم في الدعوى إن إجماعهم هو الاجماع،
فارجعوا عن ذلك واقتصروا على أن تقولوا صوابا أو حقا ونحو ذلك.

(4/560)


قال أبو محمد: وأيضا فلا شئ أظهر ولا أشهر ولا أعلن ولا أبين ولا أفشى من الاذان، الذي هو كل يوم وليلة خمس مرات، برفع الاصوات في مساجد الجماعات في الصوامع المشرفات لا يبقى رجل ولا امرأة، ولا صبي، ولا عالم ولا جاهل إلا تكرر على سمعه كذلك، ولا يستعمله المسافرون كما يستعمله الحاضرون، ولا يطول به العهد فينسى، وفي المدينة فيه من الاختلاف كالذي خارج المدينة.
صح عن ابن عمر أن الاذان وتر، وروي عنه وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قولهما في الاذان: حي على خير العمل.
نا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله بن محمد بن عثمان، نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز، نالحجاج بن منهال، نا حماد بن سلمة، نا أيوب السختياني، وقتادة، كلاهما عن محمد بن سيرين، عن ابن عمر، أنه مر على مؤذن فقال له: أوتر أذانك، نا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي، نا الديري، نا عبد الرزاق، عن معمر عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: الاذان ثلاثا ثلاثا.
وبه إلى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل، عن ابن عمر أنه كان إذا قال في الاذان: حي على الفلاح، قال: حي على خير العمل.
ومن ادعى أن الصحابة في الكوفة والبصرة ومكة بدلوا الاذان، فلكافر مثله، أن يدعي ذلك على الصحابة بالمدينة، وكلاهما كاذب ملعون، وحق صحابة المدينة والكوفة والبصرة جائز واجب فرض سواء على كل مسلم، ولا فرق من ادعى ذلك على التابعين بالكوفة والبصرة فالفاسق مثله أن يدعي على التابعين بالمدينة إذ لا فرق بينهم.
ومن ادعى ذلك على الولاة بالبصرة والكوفة، فلغيره أن ينسب مثل ذلك إلى الولاة بالمدينة، فقد وليها من الفساق كالذين ولوا البصرة والكوفة كالحجاج وخالد القسري وطارق وعثمان بن حيان المري، وكلهم نافذ
أمره في الدماء والاموال والاحكام، وموضعهم من الفسق بالدين بحيث لا يخفى فهذا أصل عظيم.
ثم الزكاة فالزهري يراها في الخضر، ومالك لا يراها وابن عمر لا يرى الزكاة مما أنبتت الارض إلا في البر والشعير والتمر والزيت والسلت، ومالك يخالفه ولا شئ بعد الاذان بالصلاة أشهر من عمل الزكاة، وابن عمر لا يجيز في زكاة

(4/561)


الفطر إلا التمر والشعير، ومالك يخالفه، وقال ابن عمر وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو سليمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزهري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عدل الناس بصاع شعير في صدقة الفطر مدين من بر، وروي ذلك أيضا عن عمر وعثمان وأسماء بنت أبي بكر فخالفهم مالك فصح أنهم أترك الناس لعمل أهل المدينة.
وقال بعضهم: من خرج عن المدينة اشتغل بالجهاد، قلنا: لا يشغل الجهاد عن تعليم الدين فقولكم هذا مجاهدة بالباطل وقالوا: إن كان ابن مسعود إذا أفتى بفتيا أتى المدينة فيسأل عنها، فإن أفتى بخلاف فتياه رجع إلى الكوفة ففسخ ما عمل.
قال أبو محمد: وهذا كذب إنما جاء أنه أفتى بمسألتين فقط، فأمر عمر بفسخ ذلك وعمر الخليفة فلم يمكنه خلافه.
نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا أحمد بن دحيم، نا إبراهيم بن حماد، قال: نا إسماعيل بن إسحاق، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن بسلمة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عمرو الشيباني أن رجلا سأل ابن مسعود عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها ؟ قال: نعم، فتزوجها، فولدت له، فقدم على عمر فسأله، فقال: فرق بينهما، قال ابن مسعود: إنها ولدت، قال عمر: وإن ولدت عشرا ففرق بينهما.
قال أبو محمد: والخلاف في هذا موجود بالمدينة، نا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله
بن محمد بن عنان، نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال: إن طلق الابنة قبل أن يدخل بها تزوج أمها، وإن ماتت موتا لم يتزوج أمها.
نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا أحمد بن دحيم، نا إبراهيم بن حماد، نا إسماعيل بن إسحاق، نا إسماعيل بن أبي أويس، نا عبد الرحمن بن أبي الموال، عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة أن رجلا من بني ليث يقال له الاجدع، تزوج جارية شابة فكان يأتيها فيتحدث مع أمها فهلكت امرأته، ولم يدخل بها فخطب أمها وسأل عن ذلك ناسا من أصحاب النبي (ص) فمنهم من رخص له ومنهم من نهاه.
قال أبو محمد: هذا والمسألة المذكورة منصوصة في القرآن الذي هو عند جميع الناس كما هو عند أهل المدينة لا يمكن أن يدعوا فيها توفيقا حتى خفي عمن هو خارج

(4/562)


المدينة، لكن من أباح ذلك حمل الام على حكم الربيبة، ومن منع أخذ بظاهر الآية وعمومها وهو الحق فلا مزية ههنا لاهل المدينة على غيرهم أصلا، وقد صح أن عمر استفتى ابن مسعود بالبتة وأخذ بقوله، وهذا مدني إمام أخذ بقول كوفي وذكر غريبة تضحك الثكالى ويدل على ضعف دين المموه، وقلة عقله: وهي أنهم ذكروا خبر ابن عمر إذ رأى سعدا وهو يمسح فلم يأخذ بعمله حتى رجع إلى المدينة فسأل أباه.
قال أبو محمد: وهذا عليهم لا لهم لان ابن عمر مدني، وقد خفي عليه حكم المسح وسعد مدني فلم يأخذ ابن عمر بفعله إلا أن يقولوا: إنه لا يجوز أن يؤخذ بقول مدني إلا إذا كان بين جدران المدينة.
فهذا حمق لا يقوله من لا مسكة له.
وموهوا بما أنبأنا عبد الله بن الربيع قال: نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرنا محمد بن المثنى، نا خالد بن الحارث، نا حميد عن الحسن قال: قال ابن عباس وهو أمير البصرة في آخر الشهر: أخرجوا زكاة صومكم، فنظر الناس بعضهم إلى بعض فقال: من هنا من أهل المدينة ؟ قوموا فعلموا إخوانكم، فإنهم لا يعلمون أن هذه الزكاة فرضها رسول الله (ص) على
كل ذكر أو أنثى حر أو مملوك، صاعا من شعير أو تمر أو نصف صاع من قمح.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه: أولها: أنه خبر ساقط منقطع أخذه الحسن بلا شك من غير ثقة ذلك، لان الحسن لم يكن بالبصرة أيام ابن عباس أميرا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما نزلها الحسن أيام معاوية لا خلاف في هذا.
وثانيها: أن البصرة بناها عتبة بن غزوان المازني من بني مازن بن منصور أخي سليم بن منصور، وهذا بدري من أكابر المهاجرين الاولين الممتحنين في الله تعالى في أول الاسلام سنة أربع عشرة من الهجرة في صدر أيام عمر رضي الله عنه، وإنما وليها ابن عباس لعلي في آخر سنة ست وثلاثين بعد يوم الجمل بعد اثنتين وعشرين سنة من بنيانها، وسكنها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، ووليها أبو موسى الاشعري بعد عتبة بن غزوان، والمغيرة بن شعبة وغيرهما أيام عمر وطول أيام عثمان رضي الله عنهما، وولي قبض زكاتها أنس بن مالك في تلك الايام.
فكيف يدخل في عقل من له مسكة عقل، أن مصرا يسكنه عشرات الالوف من المسلمين منهم مئون من الصحابة رضي الله عنهم، تداوله الصحابة من قبل

(4/563)


عمر وعثمان فلم يكن فيهم أحد يعلمهم زكاة الفطر التي يعلمها النساء والصبيان في كل مدينة وكل قرية لتكررها في كل عام في العيد إثر رمضان، حتى بقوا المدة المذكورة ليس فيهم أحد علم ذلك، وأهل المدينة يعرفونها، فكيف يكتم مثل هذا والوفود من البصرة يفدون على الخليفتين بالمدينة ؟.
وتالله إن هذه لمصيبة على عمر وعثمان وأهل المدينة أعظم منها على أهل البصرة إذ تعمدوا ترك تعليمهم أو ضيعوا ذلك وكل ذلك باطل لا يمكن البتة، وكذب لا خفاء به، ومحال ممتنع لما ذكرنا.
وثالثها: أن المحتجين بهذا الخبر - وهم المقلدون لمالك - أول مبطل لحكم هذا
الخبر، فلا يرون ما فيه من نصف صاع قمح مكان صاع شعير في زكاة الفطر، أفليس من الرزايا والفضائح والبلايا والقبائح من يموه بخبر يحتج به فيما ليس فيه منه شئ على من لا يراه حجة لو صح ؟ لانه ليس من كلام النبي (ص)، ثم المحتج به أول مخالف لما احتج به، وأول مبطل ومكذب لما فيه، مما لو صح ذلك الخبر لما حل لاحد خلافه، لانه عن النبي (ص)، نعوذ بالله العظيم من مثل هذا المقال في الدنيا والآخرة.
وإذ قد صححوا ههنا رواية الحسن عن ابن عباس فقد: نا أحمد بن محمد الطلمنكي، نا ابن مفرج، نا محمد بن أيوب الرقي، نا أحمد بن عروة بن عبد الخالق البزار نا محمد بن المثنى، نا يزيد بن هارون، نا حميد الطويل، عن الحسن البصري، قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة فقال: فرض رسول الله (ص) صدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد، صاع من تمر أو صاع من شعير أو بنصف صاع من بر ومن أتى بدقيق قبل منه، ومن أتى بسويق قبل منه.
وهم أول عاص لما في هذا الخبر، فيا للناس، مرة يصححون رواية الحسن عن ابن عباس إذا ظنوا أنهم يموهون به في إثبات باطل دعواهم، ومرة يبطلونهم ويكذبونها إذا خالفت رأي مالك فيزورون شاهدهم ويكذبون أنفسهم، ألا ذلك هو الضلال المبين.
قال أبو محمد: وهذا خبر رواه ابن سيرين وأبو رجاء عن ابن عباس وهما حاضران لولايته فلم يذكروا فيه ما ذكر ابن عباس من القول: يا أهل المدينة قوموا علموا إخوانكم، فصح أنها زيادة من لا خير فيه.

(4/564)


قال أبو محمد: فبطل كل ما موهوا به ونحن ولله الحمد على ثقة من أن الله لو أراد أن يجعل إجماع أهل المدينة حجة لما أغفل أن يعين ذلك على لسان رسوله (ص) فإذا لم يفعل فنحن نثبت بأنه لم يجعل قط إجماعهم حجة
على أحد من خلقه، هذا لو صح وجود إجماع لهم في شئ من الاحكام، فكيف ولا سبيل إلى وجود ذلك أبدا، إلا حيث يجمع سائر أهل الاسلام عليه، أو حيث نقل إجماعهم كلهم ورضاهم بذلك الحكم وتسليمهم لهم.
وإلا فدعوى إجماعهم كذب بحت على جميعهم ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا.
قال أبو محمد: وهذا مالك يقول في موطئه الذي رويناه عنه، من طرق في كتاب البيوع منه في أوله في باب ترجمته العيب في الرقيق قال مالك: الامر المجتمع عليه عندنا فيمن باع عبدا أو وليدة أو حيوانا بالبراءة، فقد برئ من كل عيب إلا أن يكون علم في ذلك عيبا فكتمه، فإن كان علم في ذلك عيبا فكتمه لم تنفعه تبرئته، وكان ما باع مردودا عليه.
قال أبو محمد: والذي عليه العمل عند أصحابه ومقلديه من قوله: هو أن حكم الحيوان مخالف لحكم الرقيق، وأن بيع البراءة لا يجوز البتة في الحيوان لكنه كالعروض لا يبرأ من عيب فيه، علمه أو لم يعلمه.
قال أبو محمد: فإذا كان عند هؤلاء المجرمين إجماع أهل المدينة إجماعا لا يحل خلافه، وهذا مالك ههنا قد خالف ما ذكر أنه الامر المجتمع عليه عندهم، فلا بد ضرورة من أحد حكمين لا ثالث لهما: أما إبطال تهويلهم بإجماع أهل المدينة وبخلافه وجواز مخالفته، وإما أن يلحقوا بمالك الذي قلدوه دينهم ما يلحق مخالف الاجماع الذي يقر أنه إجماع وهذا صعب ممن خالف ما يقر أنه إجماع، وفي هذا كفاية لمن له أدنى عقل، ومن أراد الله تعالى توفيقه.
قال أبو محمد: والقوم كما ترى يموهون بإجماع أهل المدينة، فإن حقق عليهم لم يحصلوا من جميع أهل المدينة ومن إجماعهم إلا على ما انفرد به سحنون القيرواني، وعيسى بن دينار الاندلسي، عن ابن القاسم المصري، عن مالك وحده، من رأيه وظنه، وكثير من ذلك رأي ابن القاسم واستحسانه وقياسه على أقوال مالك.
فاعجبوا لهذه الامور القبيحة كيف يستحسنها ذو ورع، أو من يدري أن

(4/565)


الله سيسأله عن قوله وفعله، ونعوذ بالله العظيم من الخذلان.
فإن موهوا بما روي من عمل قضاة المدينة الذين أدرك مالك، فليعلم كل ذي فهم أن النازلة كانت تقع في المدينة وغيرها فلا يقضي فيها الامير ولا القاضي حتى يخاطب الخليفة بالشام، ثم لا ينفذ إلا من خاطبه به فإنما هي أوامر عبد الله والوليد وسليمان ويزيد وهشام والوليد بحسبكم والقليل من ذلك من عهد عمر بن عبد العزيز أقصر مدته.
هذا أمر مشهور في كتب الاحاديث.
فصل فيمن قال إن الاجماع هو إجماع أهل الكوفة قال أبو محمد: إنما نتكلم بما يمكن أن يموه قائله بشغب يخفى على الجهال أو فيما يمكن أن يخفى وجه الحق فيه على بعض أهل العلم لخفاء الدلائل أو لتعارضها، وإما ما لا شبه فيه غير الاحموقة والعصبية فلا، ولا فرق بين إجماع أهل الكوفة وإجماع أهل البصرة وإجماع أهل الفسطاط، هذا إن أرادوا إجماع من كان بها من الصحابة أو من بعدهم من التابعين، أو على أن يسمح لهم في العصر الثالث، وأما إن نزلنا عن ذلك فلا فرق بين أهل الكوفة وأهل أوقانية وأهل أوطانية وفسا ونسا.
ولو أن امرأ نصح نفسه، فأقصر عن التلبيس في الدين، وإضلال المساكين المغترين وشغل نفسه بالقرآن كلام الله تعالى وبيان رسوله (ص) الذي لافترض الله تعالى علينا طاعته، وترك التعصب لقول فلان وفلان كان أسلم لمعاده وأبعد له من الفضيحة في العاجلة وما توفيقنا إلا بالله تعالى.
فصل في إبطال قول من قال: إن قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع وإن ظهر خلافه في العصر الثاني
قال أبو محمد: قال بهذا طوائف من المالكيين والحنفيين، ثم أقحم هذا الشغب معهم الشافعيون، ثم اختلفوا فقالت طائفة: سواء انتشر أو لم ينتشر فهو إجماع، وقالت طائفة إنما يكون إجماعا إذا اشتهر وانتشر، وأما إذا لم يشتهر

(4/566)


ولا انتشر فلا يكون إجماعا.
وقالت طائفة: إنما يكون إجماعا إذا كان من قول أحد الائمة الاربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فقط وانتشر مع ذلك، وإلا فليس إجماعا وإن كان من قول غيرهم فلا يكون حجة وإن انتشر.
وقالت طائفة: ليس شئ من ذلك إجماعا ولكنه حجة.
قال أبو محمد: فإنما قال من قال منهم هذه الاقوال، عند ظفره بشئ منها مع انقطاع الحبل بيده وعدمه شيئا ينصر به خطأه وتقليده، ثم هم أترك الناس لذلك إذا خالف تقليدهم، لا مؤنة عليهم في إبطال ما صححوا وتصحيح ما أبطلوا في الوقت، إنما حسب أحدهم نصر المسأل الدائرة بينه وبين خصمه في حينه ذلك، فإذا انتقلا إلى أخرى فأخف شئ على كل واحد منهم تصحيح ما أبطل في المسألة التي انقضى الكلام، وإبطال ما صحح فيها.
فقد ذكر الاجهري محمد بن صالح المالكي عن ابن بكير وكل واحد منهم من جملة مذهب مالك ومقلديه: أنه كانت أصوله مبنية على فروعه، إذا خرج قوله في مسألة على العموم قال: من قولي العموم وإذا خرج قوله في أخرى على الخصوص، قال من قولي الخصوص.
ولقد رأيت لعبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي في كتابه المعروف بشرح الرسالة في باب من يعتق على المرء إذا ملكه فذكر قول داود: لا يعتق أحد على أحد، وذكر قول أبي حنيفة: يعتق كل ذي رحم محرم.
فقال: من حجتنا على داود قول رسول الله (ص): من ملك ذا رحم محرم فهو حر وهذا نص جلي.
ثم صار إلى قول أبي حنيفة بعد ستة أسطار فقال: فإن احتج بما روي عن النبي (ص): من ملك ذا رحم محرم فهو حر قلنا: هذا خبر لا يصح.
ولا أحصي كم وجدت للحنفيين والمالكيين والشافعيين تصحيح رواية ابن لهيعة، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إذا كان فيها ما يوافق تقليدهم في مسألتهم تلك، ثم ربما أتى بعدها بصفحة أو ورقة أو أوراق احتجاج خصمهم عليهم برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو برواية ابن لهيعة، فيقولون: هذه صحيفة، وابن لهيعة ضعيف.
قال أبو محمد: وهذا فعل من لا يتقي الله عز وجل، ومن عمله يوجب سوء الظن بباطن معتقده، ونعوذ بالله من الخذلان قال الله تعالى: * (يحلونه عاما

(4/567)


ويحرمونه عاما) * وقال تعالى: * (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * وقال تعالى: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) * فأنكر الله تعالى على من صحح شيئا مرة ثم أبطله أخرى مع أن أقوالهم التي ذكرنا في هذا الباب دعاوى فاسدة بلا برهان ولا استدلال أصلا، إلا ما تقدم إفسادنا له من قولهم: إنهم لا يقرون على باطل.
فقلنا لهم: ومن لكم بأنهم لم ينكروا ذلك وسائر ما ذكرنا هنالك.
وقد كتبنا في مناقضتهم في هذا الباب وغيره كتابا ضخما تقصينا فيه عظيم تناقضهم، وفاحش تضاد حجاجهم وأقوالهم، ونذكر هنا إن شاء الله تعالى يسيرا دالا على الكثير، إذ لو جمع تناقضهم لاتى منه ديوان أكبر من ديواننا هذا كله، نعم وقد تعدوا عقدهم الفاسد في هذا الباب، إلى أن قلدوا قول صاحب قد خالفه غير من الصحابة في قولهم ذلك، أو قد صح رجوع ذلك الصاحب عن ذلك القول، فاحتجوا به وادعوا إجماعا.
فمن ذلك: احتجاج المالكيين في التحريم على الناكح جاهلا في العدة يدخل بها أن يتزوجها أبدا، احتجاجا بما روي عن عمر في ذلك، وقد صح عن علي
خلافه، وصح رجوع عمر عن القول وكتعلقهم بما روي عن عمر في امرأة المفقودة.
وقد خالفه عثمان وعلي في ذلك.
وكتعليق الحنفيين بما روي عن ابن مسعود في جعل الآبق، وخالفوه في تلك القضية نفسها في تحديد المسافة، وكتوريثهم المطلقة ثلاثا في المرض، تعلقا بعمر وعثمان، وقد خالفهما ابن عباس وابن الزبير، وقد اختلف عمر وعثمان في ذلك أيضا.
وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر بن الخطاب، وتقليد الحنفيين له فيما صح عنه من طريق الشعبي عن شريح أنه كتب إليه أن يحكم في غير الدابة بربع ثمنها، وكتقليد المالكيين والحنفيين له في جلده في الخمر أربعين، وخالفه الشافعيون في ذلك، وقد صح عن عمر وعثمان وعلي وأبي بكر جلد أربعين في الخمر.
وكتقليد المالكيين والحنفيين لعائشة أم المؤمنين، في ما لم يصح عنها في إنكارها بيع شئ إلى أجل ثم يبتاعه البائع له بأقل من ذلك الثمن، وخالفها الشافعي في ذلك، وخالفها فيه أيضا زيد بن أرقم.
وكتقليدهم عمر في أجل العنين

(4/568)


وقد خالفه في ذلك علي ومعاوية والمغيرة بن شعبة، وكتقليد الحنفيين والمالكيين عمر في تقويم الدية بالذهب والفضة، وخالفه الشافعي، وخالفه الحنفيون والمالكيون أيضا في تقويم الدية بالبقر والغنم والحلل، وكتقليد المالكيين والحنفيين ما روي عن أبي بكر وعمر وعثمان في حيازة الهبات، وقد خالفهم ابن مسعود، وروي الخلاف في ذلك عن أبي بكر.
وكتقليد المالكيين والشافعيين لعمر في رد المنكوحة بالعيوب.
وخالفوه في الرجوع بالصداق وخالفه في ذلك علي وغيره، وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر وابن مسعود في قولهما: من ملك ذار رحم محرم فهو حر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة في ذلك.
وكخلاف المالكيين والزبير وقدامة بن مظعون
وأبا الدرداء وابن مسعود في إباحة نكاح المريض.
ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف.
وكمخالفة الحنفيين والمالكيين أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وابن الزبير وعثمان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم في القود من اللطمة وكسر الفخذ لا يعرف لهم من الصحابة مخالف كخلافهم في إضعاف القيمة في ناقة المزني، ولا يعرف من الصحابة مخالف في ذلك.
وكخلافهم عمر في قضائه في الترقوة بحمل وفي ضلع بحمل، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة.
ومثل هذا لهم كثير جدا يجاوز المئين من القضايا، قد جمعناها والحمد لله في كتابنا الموسوم بكتاب الاعراب عن الحيرة والالتباس الموجودين في مذاهب أهل الرأي والقياس.
قال أبو محمد: وأما قول من قال منهم: إذا كان ذلك من فعل الامام فهم أترك الناس لذلك، مع تعري قولهم من الدلالة، ومما حضر ذكره من ذلك احتجاجهم في جلد الشاهد بالزنى والشاهدين والثلاثة - إذ لم يتموا أربعة - حد القاذف، احتجاجا بجلد عمر أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد بحضرة الصحابة ثم لم يستحيوا ولا بالوا من خلاف عمر في تلكخ القضية بعينها بحضرة الصحابة في ذلك المقام نفسه.
إذ قال أبو بكرة لما تم جلده وقام: أشهد أن المغيرة زنى، فأراد عمر جلده فقال له علي: إن جلدته فارجم المغيرة فتركه، وكلهم يرى جلده ثانيا إذا قالها بعد تمام جلده، أفلا حياء إذ لا تقوى، وهل سمع بأفحش من هذا العمل وأفصح منه ؟ ومثل هذا لهم كثيرا جدا.

(4/569)


وأما دعواهم وقولهم في الاشتهار والانتشار، فطريف جدا وإنما هم قوم أتى أسلافهم كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وعيسى بن أبان ونظرائهم، وكمالك وابن وهب وسحنون وإسماعيل ونظرائهم وكالشافعي والمزني والربيع وابن شريح ونظرائهم فاحتجوا لما قاله الاول منهم بمرسل أو رواية عن صاحب نجدها
في الاكثر لا تصح، أو تصح ونجد فيها خلافا من صاحب آخر، أو لا نجد فأشاعوها في أتباعهم فتلقاها الاتباع عنهم وتدارسوها وتهادوها بينهم، وأذاعوا عند القلة الآخذة عنهم فتداولوها على ألسنتهم ومجامعهم وفي تواليفهم.
وفي مناظرتهم بينهم أو مع خصومهم فوسموها بالانتشار والاشتهار والتواتر، ونقل الكوا ف وهي في أصلها هباء منبث وباطل مولد، أو خامل في مبدئه وإن كان صحيحا لم يعر ف منتشرا قط.
فهذه صفة ما تدعون فيه الانتشار والتواتر، كالخبر المضاف إلى معاذرضي الله عنه في اجتهاد الرأي فما عرفه قط أحد في عصر الصحابة، ولا جاء قط عن أحد منهم أنه ذكره لا من طريق صحيحة ولا من طريق واهية، ولا متصلة ولا منقطعة، ولا جاء قط عن أحد التابعين أنه عرفه ولا ذكره في رواية صحيحة ولا سقيمة لا موصولة ولا مقطوعة، حتى ذكره أبو عون محمد بن عبيد الله وحده.
وإنما أخذه عن مجهول لا يعرف احد عن مثله فيما ادعى وزعم ذلك المجهول أيضا، فأخذه عن أبي عون فيما بلغنا رجلان فقط، شعبة وأبو إسحاق الشيباني، ثم اختلفوا أيضا في كافة لفظه ومعناه على أبي عون فلما ظفر القائلون بالرأي عند شعبة وثبوا عليه وطاروا به شرقا وغربا، وكادوا يضربون الطبول حتى عرفه من لا يعرف عن رسول الله (ص) كلمة، وادعوا فيه التواتر.
ومعاذ الله من هذا فما أصله إلا مظلم ولا مخرجه إلا واه، ولا منبعثه إلا من باطل وتوليد موضوع مفتعل ممن لا يعرف عمن لم يسم ممن لم يعرف قط في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين، ولا ذكره أحد منهم غير أبي عون بن عبيد الله الثقفي وحده كما ذكرنا، فهذه صفة جمهور ما يدعون فيه التواتر والانتشار، بل صفة جميعه، وأتوا إلى المشهور المنتشر الفاشي فخالفوه بلا كلفة ولا مؤنة، كصلاة النبي (ص) قاعدا بالاصحاب، وككونه (ص) إمامنا في

(4/570)


صلاة ابتدأها أبو بكر، وكالمساقاة إلى غير أجل، وغير ذلك من حكم عمر في إضعاف القيمة في ناقة المزني على رقيق حاطب وإضعاف عثمان الدية على القاتل في الحرم وغير ذلك كثير جدا.
قال أبو محمد: وفي كلامنا في الفصل الذي ذكرنا آنفا في كلامنا في الاجماع الذي أبطلنا فيه قول من قال: إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع إبطال لقولهم في هذا الباب، لانه إذا بطل القول بدعوى الاجماع فيما لا يعرف فيه خلاف، والقول بدعوى الاجماع فيما يوجد فيه الخلاف العظيم أظهر بطلانا وأفحش سقوطا.
قال أبو محمد: وليست منهم طائفة إلا وهي تضحك غيرها منهم بهذا الحجر يعني مخالفة الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، فإن كان هذا إجماعا ومخالف الاجماع عندهم كافر فكلهم كافر على هذا الاصل الفاسد.
إذ ليس منهم طائفة إلا وقد خالفت صاحبا فيما لا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف، في أزيد من مائة قضية وتمادوا عليها مع احتجاج بعضهم على بعض بذلك وتنكيثهم لهم أبدا ويلزمهم تكفير فضلاء التابعين بمثل هذا نفسه، ولا بد لهم ضرورة من هذا أو من ترك دعواهم في هذا الفصل الاجماع، وهذا أولى بهم لانه ترفيه عن أنفسهم، وترك لدعوى الكذب وقصة واحدة تكفي في خلاف الاجماع إذا قامت به الحجة على مخالفه، فكيف وقد جمعنا لهم من ذلك مئين من المسائل على كل طائفة من الحنفيين والمالكيين والشافعيين وبالله التوفيق.
وأما قول من قال منهم: إن قول الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف حجة وليس إجماعا فهو أيضا عائد عليهم فيما خالفوا فيه الذي لا يعرف له منهم مخالف، وسيأتي الرد على هذا القول في باب الكلام في إبطال التقليد إن شاء الله عز وجل وبه نستعين، لا إله إلا هو ويكفي من إبطال ذلك أنه لم يأت
قرآن ولاسنة بإيجاب تقليد الصاحب الذي لا يعرف له منهم مخالف لا سيما فيما خالف تلك الرواية عن ذلك الصاحب نص القرآن أو السنة الثابتة، وفي هذا خالفناهم لا في رواية عن صاحب موافقة للقرآن أو السنة وإذا لم يأت بذلك قرآن ولا سنة فهو قول فاسد ودعوى باطلة، وإنما جاء النص باتباع القرآن وبيان النبي (ص) فقط وبأالدين قد كمل والحمد لله رب العالمين.

(4/571)


فصل في من قال ليس لاحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف وزفر بن الهذيل العنبري ومحمد بن الحسن مولى بني شيبان، والحسن بن زياد اللؤلؤي.
وقول بكر بن العلاء: ليس لاحد أن يختار بعد التابعين من التاريخ.
وقول القائل: ليس لاحد أن يختار بعد الاوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح الكلابي، وعبد الله بن المبارك مولى بني حنظلة - فأقوال في غاية الفساد، وكيد الدين لا خفاء به، وضلامغلق وكذب على الله تعالى، إذا نسبوا ذلك إليه أو دين جديد أتونا به من عند أنفسهم ليس من دين محمد (ص) في شئ وهي كما نرى متدافعة متفاسدة، ودعاوى متفاضحة متكاذبة ليس بعضها بأولى من بعض ولا بعضها بأدخل في الضلالة والحمق من بعض.
ويقال لبكر من بينهم فإذا لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا غيرك، فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين، أو من هو مثله من فقهاء الامصار أو من جاء بعد متعقبا عليه وعلى غيره، ممن هو أعلم منه بالسنن وأصح نظرا أمثله، كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما.
ويقال له أيضا: إن قولك هذا السخيف الدال على ضلالة قائله وجهالته
وابتداعه ما لم يقله مسلم قبله يوجب أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأصبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل وهم أئمتك بإقرارك كان لهم أن يختاروا إلى أن انسلخ ذو الحجة من سنة مائتين، فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقا لهم قبل ذلك من الاختيار فهل سمع بأسخف من هذا الاختلاط وليت شعري ما الفرق بين سنة مائتين وبين سنة ثلاثمائة أو أربعمائة أو غيرها من سني التاريخ.
ويقال للحنفيين: أليس من عجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والقول في دين الله تعالى بالظن الكاذب، والرأي الفاسد، والشرع لما لم يأذن به الله تعالى لابي حنيفة

(4/572)


وأبي يوسف وزفر ومحمد بن الحسن واللؤلؤي على جهلهم بالسنن والآثار، وفساد رأيهم وقياساتهم التي لم يوفقوا منها إلا لكل بار متخاذل، والتي هي في المضاحك أدخل منها في الجد، ويجعلون تلك الاقوال الفاسدة خلافا على القرآن وسنن رسول الله (ص) ثم لا يجيزون الاخذ بالسنن الثابتة للشافعي، ولا لاحمد بن حنبل، ولا لاسحاق بن راهويه، وداود بن علي، وأبي ثور، ومحمد بن نصر ونظرائهم، على سعة علم هؤلاء بالسنن، ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم، وعلى تبحرهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين، وثقة نظرهم.
ولطف استخراجهم للدلائل.
وأن من قال منهم بالقياس فقياسه من أعذب القياس وأبعده من ظهور الفساد فيه وأجرأه على علته مع شدة ورع هؤلاء، وما منحهم الله تعالى من محبة المؤمنين لهم، وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم، وحلول أبي حنيفة وأصحابه في صدر هذه المنازل.
فإن موهوا بتقدم عصر أبي حنيفة، وموه المالكيون بتقديم عصر مالك وتأخر
عصر من ذكرنا، قلنا: هذا عجب آخر، وقد علمنا وعلمتم أنه لم يكن بين آخر وقت فتيا أبي حنيفة وأول أوقات الشافعي إلا نحو ثلاثين عاما، ولم يكن بين آخر فتيا مالك وبين أول فتيا الشافعي إلا عام أو نحوه ولعله قد أفتى في حياة مالك.
وقد أفتى الشافعي، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن واللؤلؤي أحياء وكذلك أفتى المغيرة وابن كنانة وابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن الماجشون أحياء، ومات الشافعي وأشهب في شهر واحد، ومات الحسن بن زياد بعدهم بنحو عام ومات الماجشون ومطرف بعدهما بأعوام كثيرة.
فليت شعري من المبيح لبعضهم ما حجزوه عن بعض ؟ ثم لم يكن بين آخر فتيا مالك وأول وقت فتيا أحمد وإسحاق وأبي ثور إلا عشرين عاما أفي مدة عشرين عاما يغلق باب الاختبار ؟ تعالى الله عن قول المجانين، وكل هؤلاء أفتى والحسن بن زياد حي.
فما الذي أباح للحسن بن زياد ولابن القاسم من الفتيا، ما لم يبح لاحمد وإسحاق وأبي ثور ؟ وبالله إن بينهم وبين ذينك من التفاوت في العلم أكثر مما بين المشرق والمغرب ثم أفتى داود بن علي ومحمد بن نصر ونظراؤهما مع أحمد وإسحاق وأبي ثور، ثم هكذا ينشأ العلماء ويموت العلماء عاما عاما، وما هو

(4/573)


إلا ليلة ثم جمعة ثم شهر إلى شهر وعام إلى عام، حتى يرث الله الارض ومن عليها، فمن حد حدا أو وقف الاختيار عليه ومنعه بعده فقد سخف وكذب واخترع دين ضلالة وقال بلا علم، ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا.
قال الله عز وجل: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * وقال تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) * وقال تعالى: * (اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) * وقال تعالى * (فاسئلوا أهل الذكران كنتم تعلمون) *
فلم يخص عز وجل عصرا من عصر، ولا إنسانا من إنسان.
فمن خالف هذا فهو مضل داخل في أعداد النوكى لاطلاقه لسانه بالتخليط.
والحق في هذا الذي لا يحل خلافه، فهو إن خالف ما جاء به رسول الله (ص) عن ربه تعالى في القرآن وفي السنن المبينة للقرآن، لا يحل لاحد أصلا ولا يجوز أن يعد قول قائل - كائنا من كان - خلافا لذلك، بل يطرح على كل حال.
وأما خلاف أبي حنيفة ومالك ففرض على الامة، لا نقول مباح، بل فرض لا يحل تعديه، لانهما لا يخلو أن في كل فتيا لهم من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا، إما موافقة النص من القرآن والسنة الثابتة، وإما مخالفة النص كذلك، فإن كانت فتياهما أو فتيا أحدهما موافقة نص القرآن أو السنة، فالمتبع هو القرآن والسنة لا قول أبي حنيفة ولا قول مالك، لان الله تعالى لم يأمرنا قط باتباعهما فمتبعهما مخالف لله تعالى، وإن كانت فتياهما مخالفة للنص، فلا يحل لاحد اتباع ما خالف نص القرآن والسنة، وهكذا نقول في كل مفت بعد رسول الله (ص).
أنبأنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال: قال معاوية لابن عباس: أنت على ملة علي ؟ قال: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة النبي (ص).
نا يونس بن عبد الله بن مغيث، نا يحيى بن عابد، نا الحسين بن أحمد بن أبي خليفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا يوسف بن يزيد القراطيسي، نا سعيد بن منصور، نا هشيم عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي قال: كان يكره أن يقال سنة أبي بكر وعمر، ولكن سنة

(4/574)


الله عز وجل وسنة رسوله (ص).
نا حمام بن أحمد، نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا عبد الله بن يونس المرادي، نا بقي بن مخلد، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا محمد بن بشر،
نا عبد الله بن الوليد، نا عبيد بن الحسين.
قال: قالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز: تريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب، قال عمر بن عبد العزيز: قاتلهم الله، ما أردت دون رسول الله إماما.
فهؤلاء الصحابة والتابعون فيمن تعلق المخالفون ؟ فإن موهوا، بكثرة أتباع أبي حنيفة ومالك وبولاية أصحابهما القضاء فقد قدمنا أن الكثرة لا حجة فيها ويكفي من هذا قول الله عز وجل: * (وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله) * وقال: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) * وقال رسول الله (ص): إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء وأنذر عليه السلام بدروس العلم وظهور الجهل.
فلعمري لئن كان العلم ما هم عليه من حفظ رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي فما كان العلم قط أكثر مما هو منه الآن، وهيهات: إذا هبطت نجران من رمل عالج فقولا لها ليس الطريق هنالك ولكن الحق والصدق هوما أنذر به رسول الله (ص) من دروس العلم والذي درس هو اتباع القرآن والسنن، فهذا هو الذي قل بلا شك وأصحابه هم الغرباء القليلون، جعلنا الله منهم ولا عدا بنا عنهم، وثبتنا في عدادهم، وأحشرنا في سوادهم.
آمين آمين.
وأما ولايتهم القضاء فهذه أخزى وأندم، وما عناية جورة الامراء، وظلمة الوزراء خلة محمودة ولا خصلة مرغوب فيها في الآخرة، وأولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من ملوك بني العباس وبني مروان، بالعنايات والتزلف إليهم عند دروس الخير وانتشار البلاء وعودة الخلافة ملكا عضوضا وانبراء على أهل الاسلام وابتزازا للامة أمرها بالغلبة والعسف، فأولئك القضاة هم مثل من ولاهم من المبطلين سنن الاسلام، المحيين لسنن الجور والمكر

(4/575)


والقبالات وأنواع الظلم وحل عرى الاسلام، وقد علمنا أحوال أولئك القضاة الذين يأخذون دينهم عنهم، وكيف كانوا في مشاهدة إظهار البدع من المحنة في القرآن بالسيف والسياط والسجن والقيد والنفي ثم سائر ما كانوا يتشاهدونه معهم على ما استعانوا هم عليه من تسمية أمور ملكهم، فمثل هؤلاء لا يتكثر بهم وإنما كان أصل ذلك تغلب أبي يوسف على هارون الرشيد وتغلب يحيى بن يحيى على عبد الرحمن بن الحكم فلم يقلد للقضاء شرقا وغربا إلا من أشار به هذان الرجلان واعتنيا به، والناس حراص على الدنيا فتلمذ لهما الجمهور، لا تدينا لكن طلبا للدنيا، وولاية القضاء والفتيا، والتديك على الجيران في المدن والارياض والقرى، واكتساب المال بالتسمي بالفقه.
هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره فاضطرت العامة إليهم في أحكامهم وفتياهم وعقودهم ففشا المذهبان فشوا طبق الدنيا.
قال الله عز وجل: * (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) * وقال رسول الله (ص): حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وصار من خالفهم مقصودا بالاذى مطلوبا في دمه أو مهجورا مرفوضا إن عجزوا عن أذاه لمنزلة له عند السلطان أو لكفه للسانه وسده لبابه إذ وسعته التقية والصبر صبر.
وكذلك إفريقية كان الغالب فيها السنن والقرآن إلى أن غلب أسد بن الفرات بن أبي حنيفة، ثم ثار عليهم سحنون بن أبي مالك فصار القضاء فيهم دولا، يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم الخيار، وكان مالكيا فتوارثوا القضاء كما تورث الضياع فرجعوا كلهم إلى رأي مالك طمعا في الرياسة عند العامة فقط.
هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره، قرب إلينا داء الامم قبلنا.
كما قال

(4/576)


رسول الله (ص): إننا سنركب سنن من قبلنا.
فقيل: اليهود والنصارى يا رسول الله ؟ قال: فمن إذا وهذا مما أنذر به رسول الله، فهو من معجزات نبوته وبراهينه عليه السلام، وهكذا قلدت هاتان الطائفتان أحبارهم وأساقفتهم فحملوهم على آرائهم.
قال أبو محمد: وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الاجماع، وهو أن يختلف المسلمون في مسألتين على أقوال، فيقوم برهان من النص على صحة أحد تلك الاقوال في المسألة الواحدة.
فقال أبو سليمان: إنه برهان على صحة قولهم في المسألة الاخرى، وخالفه في ذلك ابنه أبو بكر وأبو الحسن بن المغلس وجمهور أصحابنا، وقول أبي سليمان في هذه المسألة خطأ لا خفاء به، لانه قول بلا برهان ثم يجب لو صح هذا أن يكون صواب من أصحاب في مسألة برهانا على أنه مصيب في كل مسألة قالها، وهذا لا يخفى على أحد بطلانه، وما ندري كيف وقع لابي سليمان هذا الوهم الظاهر الذي لا يشكل ؟ وتكلموا أيضا في معنى نسبة هذا الاجماع وهو أن يصح إجماع الناس، على أن حكم أمر كذا كحكم أمر كذا، ثم اختلفوا فمن مانع لا من موجب، ومن مبيح لكليهما، أو مموجب حكما في كليهما، فقال برهان من النص على حكم ما جاء في إحدى المسألتين، فواجب أن يكون حكم الاخرى كحكمها لصحة الاجماع على أن حكمهما سواء.
قال أبو محمد: لو أمكن ضبط جميع أقوال علماء جميع أهل الاسلام، حتى لا يشذ منها شئ لكان هذا حكما صحيحا، ولكن لا سبيل لضبط ذلك البتة، وغير ما قدمنا مما لا يكون مسلما من لم يقل به، وحتى لو أمكن معرفة
قول العالم، فقد كان يمكن رجوعه عن ذلك القول إذا ولى عنه السائل ليعرف قول غيره فوضح أنه لا سبيل البتة، ولا إمكان أصلا في حصر أقوال جميع علماء أهل الاسلام في فتيا خارجة عن الجملة التي ذكرنا.
قال أبو محمد: ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف.
وفي مناديح رحبة في هذا التعسف بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله (ص)، فلا سبيل إلى وجود شرع لم ينص على حكمه والحمد لله رب العالمين.

(4/577)


والمتكلمون في هذه المسألة حكمهم فيها بالمساقاة والمزارعة على الثلث والربع فإنهم قالوا: قد اختلف في الناس في ذلك، فمن مانع من المساقاة أو المزارعة جملة، ومن مبيح لها جملة، ثم صح النص بإباحتها عن النصف، وقد صح الاجماع على أن حكمها أقل من النصف، وأكثر من النصف كالحكم في النصف.
قال أبو محمد: ما نحتاج إلى هذه الشغاب الحرجة، والدعاوى المعوجة، بل نقول: إن رسول الله (ص) أباح لاصحاب الضياع في تلك المعاملة النصف، والمعاملين النصف، فدخلها دون النصف ضرورة بالمشاهدة فيما جعل لكل طائفة من النصف، فإذا تراضى الفريقان على أن يترك أحدهما مما يجعل له أخذه جزءا مسمى، ويقتصر على بعضه.
فذلك له، إذ كل أحد محكم في مثل ذلك مما جعل له كما لو وهب الوارث بعض ميراث لمن يشركه في الميراث أو لغيره، فإن قيل: فهلا أجزتم هذا بعينه في التراضي فيما يقع فيه الربا على خلاف التماثل ؟ قلنا: لم يجز ذلك لان النص الوارد في الربا مما عنى التماثل، وحظره وتوعدنا عليه، ولم يأت حكم نص المساقاة المزارعة والمواريث واشتراط مال المملوك المبيع والثمرة المأبورة بالمنع مما عدا ذلك، بل أباح الاشتراط للنصف أو الكل، ولم يمنع ما دخل في الاباحة المذكورة بالنص ما هو أقل من النصف أو الكل، وبالله التوفيق.
قال أبو محمد علي: وكثيرا ما نحتج مع المخالفين بما أجمعوا عليه معنا، ثم ننكر عليهم الانتقال عنه إلى حكم آخر، كقولنا لمن حرم الماء وحكم بنجاسته في إبل حرام حله، فلم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، ومثل هذا كثير جدا فعاب ذلك علينا من لم يحصل وقال: قد جمعتم في هذه الطريق وجهين من عظيمين، أحدهما الاحتجاج بإجماعهم معكم، وأنتم تنكرون دعوى معنى الاجماع، وتجعلونها كذبا على الامر أن يقال لكم: فما الذي أنكرتم على اليهود إذ قالوا: قد أجمعتم معنا على نبوة موسى عليه السلام وصحة التوراة وحكم السبت، وخالفناكم في نبوة محمد (ص) وصحة القرآن وشرائع دينكم.
قال أبو محمد: فقلنا: ما تناقضنا في شئ من ذلك، وأما احتجاجنا على مخالفينا موافقتهم لنا على حكم ما، وإنكارنا عليه الخروج مما أجمع معنا عليه فإنما فعلنا ذلك لخروجه عما قد حكم بصحته إلى قول آخر بلا برهان من قرآن أو سنة فقط،

(4/578)


فبينا عليهم القول في الدين بلا برهان، وهذا حرام ومعيب بالقرآن والسنة، ولم ندع إجماعا ولم نصححه، إنما ادعينا على الخصم ما ينكره من إجماعه معنا، بمعنى موافقته لنا فقط، فلاح الفرق بين الدعوى المكذوبة، وأما الذي أنكرناه على اليهود فإنه ضد المسألة التي تكلمنا فيها آنفا وهو امتناع اليهود من الاقرار بما ظهر البرهان بصحته وأقوى من برهانهم على ما ادعوا أننا أجمعنا معهم عليه، وأنكرنا على المذكورين آنفا أن قالوا قولا بلا برهان، وخروجهم عما قد صح البرهان بصحته، وأنكرنا على اليهود تركهم القول بما قد صح برهانه، وتماديهم على ما قد صح البرهان ببطلانه وسلكنا بين الطائفتين طريق الحق وشارع النجاة، والحمد لله رب العالمين، وهو الثبات مع البرهان إذا ثبت، والانتقال معه إذا نقل فقط، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في معنى نسبوه إلى الاجماع وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الاجماع وهو: أن ذكروا أن يختلف الناس على قولين فأكثر في مسألة، فيشهد النص من القرآن والسنة بصحة قول من تلك الاقوال، فيبطل سائرها، ثم تقع فروع من تلك المسألة، فقالوا: يجب أن يكون المقول به، هو ما قاله من شهد النص لصحه قوله في أصل تلك المسألة، ونظروا ذلك بالحكم العاقلة.
قال بها قوم ولم يعرفها قوم، منهم عثمان البتي فصح النص بقول من صححها، فلما صرنا إلى من هم العاقلة، وجب أن ينظروا إلى من أجمع القائلون بالعاقلة على أنه من العاقلة، فيكون من العاقلة ومن اختلفوا فيه أهو من العاقلة أم لا ألا يكون من العاقلة ؟ قال أبو محمد: وقولنا ههنا هو قولنا فيما سلف من أنه إذا أمكن أن يعرف الاجماع في ذلك لكان حجة، لكن لا سبيل إلى إحصائهم ولا إلى حصر أقوالهم لما قدمنا قبل، ونحن في سعة والحمد لله عن التعلق بهذه الثنايا الاشبة والتورط في هذه المضايق القشبة بما قد بينه لنا ربنا عز وجل ورسوله (ص) من النص

(4/579)


الذي لا دين لنا فيه، وما عداه فليس من دين الله تعالى ولا من عنده عز وجل، وقد كتب رسول الله (ص) إلى كل بطن عقولة، وألزم اليهودية من قتل بينهم لو اعترفوا أنه قتله بعضهم خطأ أو قام بذلك بينة، فوجب بذلك أن العاقلة هم بطن القاتل خطأ الذي ينتمي إليه حتى بلغ إلى القبيلة التي تقف عندها، وهكذا في كل شئ، والحمد لله رب العالمين.
فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الاهواء أم لا ؟ قال أبو محمد: قد أوضحنا قبل والحمد لله رب العالمين أن الاجماع لا يكون البتة
إلا عن نص منقول عن رسول الله (ص) لا على باطل لم يأت من عند الله تعالى من رأي ذي رأي، أو قياس من قائس يحكمان بالظن فإن ذلك كذلك والسؤال باق، وهل نقبل نقل أهل الاهواء وروايتهم ؟ فقولنا في هذا وبالله تعالى التوفيق: إن من يشهد بقلبه ولسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق، وأنه برئ من كل دين غير دين محمد (ص)، فهو المؤمن المسلم، ونقله واجب قبوله، إذا حفظ ما ينقل، ما لم يمل إيمانه إلى كفر أو فسق، وأهل الاهواء وأهل كل مقالة خالفت الحق، وأهل كل عمل خالف الحق، مسلمون أخطؤوا ما لم تقم عليهم الحجة فلا يكدح شئ من هذا في إيمانهم ولا في عدالتهم، بل هم مأجورون على ما دانوا به من ذلك وعملوا أجرا واحدا، إذا قصدوا به الخير ولا إثم عليهم في الخطأ، لان الله تعالى يقول: * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * ونقلهم واجب قبوله كما كانوا، وكذلك شهادتهم، حتى إذا قامت على أحد منهم الحجة في ذلك من نص قرآن أو سنة ما لم تخص ولا نسخت، فأيما تمادى على التدين بخلاف الله عز وجل، أو خلاف رسوله (ص)، أو نطق بذلك، فهو كافر مرتد، لقول الله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *، وإن لم يدن

(4/580)


لذلك بقلبه ولا نطق به لسانه لكن تمادى على العمل بخلاف القرآن والسنة، فهو فاسق بعمله مؤمن بحقده، وقوله: ولا يجوز قبول نقل كافر ولا فاسق ولا شهادتهما، قال الله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ) *.
والآية.
وقد فرق بعض السلف بين الداعية وغير الداعية.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش، وقول بلا برهان، ولا يخلو المخالف للحق من أن يكون معذورا بأنه لم تقم عليه الحجة، أو غير معذور لانه قامت
عليه الحجة فإن كان معذورا فالداعية وغير الداعية سواء كلاهما معذور مأجور، وإن كان غير معذور، لانه قد قامت عليه الحجة، فالداعية وغير الداعية سواء، وكلاهما إما كافر كما قدمنا، وإما فاسق كما وصفنا، وبالله تعالى التوفيق.
ولا فرق فيما ذكرنا بين من يخالف الحق بنحلة أو بفتيا إذا لم يفرق الله تعالى ولا رسوله (ص) بين ذلك، إنما قال: * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم) * عم عز وجل ولم يخص.
قال بعضهم: إن الصحابة اختلفوا في الفتيا فلم ينكر بعضهم على بعض بل أنكروا على من خالف في ذلك، قلنا: ليس كما قلتم، إنما لم ينكروا على من لم تقم الحجة عليه في المسألة فقط.
وأنكروا أشد الانكار على من خالف بعد قيام الحجة عليه، وكيف لم ينكروا وقد ضربوا على ذلك بالسيوف من خالفهم فأي إنكار أشد من هذا ؟ أو ليس عمر قد قال: والله ما مات رسول الله (ص) ولا يموت حتى يكون آخرنا موتا، وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فما قدح هذا في عدالته، إذ قال مخطئا ثم رجع إلى الحق إذ سمع القرآن: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * وإن المتمادي على هذا القول بعد قيام الحجة عليه كافر من جملة غالية السبائية، أو ليس ابن عباس يقول: أما تخافون أن يخسف الله بكم الارض أقول لكم قال رسول الله (ص) وتقولون قال أبو بكر وعمر.
وكان إسحاق بن راهويه يقول فيما روى عنه محمد بن نصر المروزي في الامام، أنه سمعه يقول: من صح عنده حديث عن النبي (ص) ثم خالفه - يعني باعتقاده - فهو كافر.
قال أبو محمد: صدق والله إسحاق رحمه الله تعالى، وبهذا نقول وقد روي عن عمر أنه قتل رجلا أبى عن حكم رسول الله (ص) ورضي بحكم عمر، وكيف

(4/581)


لو أدرك عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وإسحاق رحمه الله من نقول له قال
أما تخافون أن يخسف الله بكم الارض أقول لكم قال رسول الله (ص) وتقولون قال أبو بكر وعمر.
وكان إسحاق بن راهويه يقول فيما روى عنه محمد بن نصر المروزي في الامام، أنه سمعه يقول: من صح عنده حديث عن النبي (ص) ثم خالفه - يعني باعتقاده - فهو كافر.
قال أبو محمد: صدق والله إسحاق رحمه الله تعالى، وبهذا نقول وقد روي عن عمر أنه قتل رجلا أبى عن حكم رسول الله (ص) ورضي بحكم عمر، وكيف

(4/582)


لو أدرك عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وإسحاق رحمه الله من نقول له قال الله عز وجل كذا، وقال رسول الله (ص) كذا قال: أبى سحنون ذلك، ومن قلنا له: هذا حكم رسول الله (ص)، فقال: أنا في غنى عنه ما أحتاج إليه مع قول العلماء ومن قال لنا: لو رأيت شيوخي يستدبرون القبلة في صلاتهم ما صليت إلى القبلة.
والله ما في بدع أهل البدع شئ يفوق هذه.
وليت شعري إن كان هؤلاء القوم مؤمنون بالله تعالى وبالبعث، وبأنهم موقوفون وأن الله سيقول لهم: ألا امركم باتباع كتابي المنزل، وبنبي المرسل، ألم أنهكم عن اتباع آبائكم ورؤسائكم، ألم آمركم برد ما تنازعتم فيه إلي وإلى رسولي، وقدمت إليكم الوعيد ؟ فماذا أعدوا من الجواب لذلك الموقف الفظيع، والمقام الشنيع ؟ والله لتطولن ندامتهم حين لا ينفعهم الندم، وكأن به قد أزف وحل.
نسأل الله أن يوزعنا شكر ما من علينا من اتباع كلامه، وحكم رسوله (ص) ومن أن بغض إلينا اتباع من دونه ودون رسوله (ص)، ونسأله أن يميتنا على ذلك، وأن يفئ بأهل الجهالة والضلالة، آمين آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم.
ثم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس إن شاء الله)

(4/582)