الإحكام في أصول الأحكام ط العاصمة

الاحكام - ابن حزم ج 5
الاحكام
ابن حزم ج 5

(5/)


الاحكام في اصول الاحكام للحافظ ابي محمد على بن حزم الاندلسي الظاهرى هذا الكتاب النفيس الذي لم تر العين مثله في علم الاصول احمد شاكر الجزء الخامس قوبلت على نسخة أشرف على طبعها الاستاذ العلامة أحمد شاكر رحمه الله

(5/589)


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان جميع العقود والعهود والشروط الا ما اوجبه منها قرآن أو سنة عن رسول الله (ص) ثابته.
قال أبو محمد: إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابة في امر ما على حكم ما ثم ادعى مدح ان ذلك الحكم قد انتقل أو بطل من اجل انه انتقل ذلك الشى المحكوم فيه عن بعض احواله أو لتبدل زمانه أو لتبدل مكانه فعلى مدعى انتقال الحكم من اجل ذلك ان ياتي ببرهان من نص قرآن أو سنة عن رسول الله (ص) ثابتة على ان ذكل الحكم قد انتقل أو بطل فان جاء به صح قوله وان لم يات به فهو به مبطل فيما ادى من ذلك والفرض على الجميع الثبات على ما جاء به النص ما دام يبقى اسم ذلك الشى المحكوم فيه عليه لانه اليقين والنقلة دعوى وشرع لم ياذن الله تعالى به فهما مردودان كاذبان حتى
اتى النص بهما.
ويلزم من خالفنا في هذا ان يطلب كل حين تجديد الدليل على لزوم الصلاة والزكاة وعلى صحة نكاحه امراته وعلى صحة ملكه لما يملك ويقال للمخالف في هذا: اخبرنا اتحكم انت بحكم آخر من عندك ؟ ام تقف فلا تحكم بشى اصلا لا بالحكم الذى كنت عليه ولا بغيره ؟ فان قال: بل اقف قيل له وقوفك حكم لم ياتك به نص وابطالك حكم النصر الذي قد اقررت بصحته خطا عظيم وكلاهما لا يجوز وان قال بل احدث حكما آخر قيل له: ابطلت حكم الله تعالى وعرعت شرعا لم ياذن به الله وكلاهما من الطوام المهلكة نعوذ با لله من كل شي.
ويقال له: في كل حكم تدين به لعله قد نسخ هذا النص أو لعل ههنا ما يخصه لم يبلغك ويقال له: لعلك قد قتلت مسلما أو زنيت قالحد أو القود عليك.

(5/590)


فان قال: انا على البراءة حتى يصح على شي: ترك قوله الفاسد ورجع الى الحق وناقض إذ لم يكن سلك في كل شي هذا المسلك ويلزمهم ايضا كان لابراثوا موتاهم إذ لعلهم قد ارتدوا ا لعلهم قد تصدقوا بها أو لعلهم ادانوا ديونا نستخرقها.
فيلزمهم اقامة البينة على براءة موتاهم في حين موتهم على كل ذلك والذي يلزمهم يضيق عنه جلد الف بغير ويلزمهم ان لا يقولوا بتمادى نبوة نبي حتى يقيم كل حين البرهان على صحة نبوته.
واما نحن فلا ننتقل عن حكم الى حكم آخر الا ببرهان وكذلك نقول لكل من ادعى النبوة كمسيلة والاسود وغيرهما.
عهدنا كم غير انبياء فانتم على بطلان دعواكم حتى يصح ما يثبتها وكذلك نقول لمن ادعى ان فلانا قد حل دمه بردة أو زنا: عهدناه بريثا من كل ذلك فهو على السلامة حتى يصح الدليل على ما تدعيه وكذلك نقول لمن ادعى ان فلانا العدل قد نسق اوان فلانا الفاسق قد تعدل، أو ان فلانا الحى قد مات أو ان فلانة قد تزوجها فلان أو ان فلانا طلق امراته أو ان فلانا قد زال ملكه عما كان يملك أو ان فلانا قد ملك ما لم يكن يمكله وهكذا كل شي اننا على ما كنا عليه حتى يثبت خلافه.
فانما جاء قوم الى هذه الحماقات في مواضع يسيرة اخطئوا فيها فنصروا
خطاهم بما يبطل كل عقل وكل معقول، وذلك نحو قولهم: ان الماء إذا حلته نجاسة فقد تنجس وان من شك بعد يقينة بالوضوء فعليه الوضوء واشباه هذا.
فقالوا: ان الماء الذى حكم الله بطهارة لم يكن حلته نجاسة.
فقلنا لم: وان الرجل الذى حرم الله دمه لم يكن شاب ولاحلق راسه ولا عليه صفرة مرض لم يكن فيه فبدلوا حكمه لتبدل بعض احواله.
وقالوا: عليه أن لا يصلى الا بيقين طهارة لم يتلها شك.
قلنا: فحرموا على من شك أباع امته ام لم يبعها ان يطاها أو يملكها، لشكه في انتقال ملكه ؟ وحدوا كل من شككتم أزنى ان لم يزن.
وقد ذكرنا اعتراضهم بمسالة قول اليهود: قد وافقتمونا على صحة نبوة موسى صلى الله عليه وسلم.
وبينا اننا لم ننتقل الى الاقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ببراهين

(5/591)


أظهر من براهين موسى لولاها لم نتبعه ونحن لا ننكر الانتقال من حكم أوجبه القرآن أو السنة إذا جاء نص آخر ينقلنا عنه وإنما أنكرنا الانتقال عنه بغير نص أوجب النقل عنه، لكن لتبدل حال من أحواله، أو لتبدل زمانه أو مكانه، فهذا هو الباطل الذي أنكرناه.
وقال المالكيون: من شك أطلق امرأته أم لم يطلقها فلا شئ عليه، فأصابوا، ثم قالوا: فإن أيقن أنه طلقها ثم شك أو واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فهي طالق ثلاثا.
وقالوا: من شك أطلق امرأة من نسائه أم لا فلا شئ عليه، فإن أيقن أنه طلق إحداهن، ثم لم يدر أيتهن هي فهن كلهن طلق، ففرقوا بين ما لا فرق بينه بدعوى عارية عن البرهان.
فإن قالوا: إن ههنا هو على يقين من الطلاق، فقلنا: نعم، وعلى شك من الزيادة على طلاقها واحدة، والشك باطل كسائر ما قدمنا قبل، وكذلك ليس من نسائه امرأة يوقن أنه طلقها، فقد دخلتم فما أنكرناه على المخالفين من نقل الحكم بالظنون، بل وقعوا في الباطل المتيقن، وتحريم يقين
الحلال من باقي نسائه اللواتي لم يطلقهن بلا شك، وفي تحليل الحرام المتيقن، إذ أباحوا الفروج اللواتي لم تطلق للناس، ولزمهم على هذا إذا وجدوا رجالا قد اختلط بينهم قاتل لا يعرفونه بعينه، أو زان محصن لا يعرفونه بعينه، أن يقتلوهم كلهم نعم وأن يحملوا السيف على أهل مدينة أيقنوا أن فيها قاتل عمد لا يعرفونه بعينه، وأن يقطعوا أيدي جميع أهلها إذا أيقنوا أن فيها سارقا لا يعرفونه بعينه، وأن يحرموا كل طعام بلد قد أيقنوا أن فيه طعاما حراما لا يعرفونه بعينه، وأن يرجموا كل محصنة ومحصن في الدنيا، لان فيهم من قد زنى بلا شك، ولزمهم فيمن تصدق بشئ من ماله، ثم جهل مقداره أن يتصدق بماله كله ومثل هذا كثير جدا فظهر فساد هذا القول وبطلانه بيقين لا شك فيه.
فإن قيل: وما الدليل على تمادي الحكم مع تبدل الازمان والامكنة ؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق: البرهان على ذلك صحة النقل من كل كافر ومؤمن على أن رسول الله (ص) أتانا بهذا الدين.
وذكر أنه آخر الانبياء وخاتم الرسل، وأن دينه هذا لازم لكل حي، ولكل من يولد إلى القيامة في جميع

(5/592)


الارض، فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان، ولا لتبدل المكان، ولا لتغير الاحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدا في كل زمان وفي كل مكان، وعلى كل حال، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر، أو مكان آخر، أو حال أخرى.
وكذلك إن جاء نص بوجوب حكم في زمان ما، أو في مكان، أو في حال ما وبين لنا ذلك في النص، وجب ألا يتعدى النص.
فلا يلزم ذلك الحكم حينئذ في غير ذلك الزمان، ولا في غير ذلك المكان ولا في غير تلك الحال قال تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * وأمر رسول الله (ص) من لم يدر كم صلى، أن يصلي حتى يكون على يقين من التمام، وعلى شك من الزيادة، لانه على يقين من أنه لم يصل ما لزمه، فعليه أن يصليه وهذا هو نص قولنا.
وأما إذا تبدل الاسم فقد تبدل الحكم بلا شك، كالخمر يتخلل أو يخلل لانه إنما حرمت الخمر، والخل ليس خمرا، وكالعذرة تصير ترابا، فقد سقط حكمها، وكلبن الخنزير والحمر والميتات يأكلها الدجاج ويرتضعه الجدي، فقد بطل التحريم إذا انتقل اسم الميتة واللبن والخمر، ومن حرم ما لا يقع عليه الاسم الذي به جاء التحريم، فلا فرق، بينه وبين من أحل بعض ما وقع عليه الاسم الذي به جاء التحريم، وكلاهما متعد لحدود الله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * وهذا حكم جامع لكل ما اختلف فيه، فمن التزمه فقد فاز ومن خالفه فقد هلك وأهلك، وبالله تعالى التوفيق.
وكل احتياط أدى إلى الزيادة في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، أو إلى النقص منه أو إلى تبديل شئ منه - فليس احتياطا، ولا هو خيرا، بل هو هلكة وضلال وشرع لم يأذن به الله تعالى والاحتياط كله لزوم القرآن والسنة.
وأما العقود والعهود والشروط والوعد، فإن أصل الاختلاف فيها على قولين لا يخرج الحق عن أحدهما: وما عداهما فتخليط ومناقضات لا يستقر لقائلها قول على حقيقة، فأحد القولين المذكورين: إما أنها كلها لازم حق إلا ما أبطله منها نص.
والثاني: أنها كلها باطل غير لازم إلا ما أوجبه منها نص، أما ما أباحه منها نص، فكان من حجة من قال: إنها كلها حق لازم إلا ما أبطله منها نص، أن قال: قال الله عز وجل:

(5/593)


* (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * وقال عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وقال عز وجل: * (والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون) *.
وقال تعالى: * (وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون) *
وقال تعالى: * (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) * وقال تعالى: * (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى قوله والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) * وقال تعالى: * (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) * وقال تعالى: * (ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) * وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم) * وقال تعالى: * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين) * وقال عز وجل: * (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) * وقال تعالى: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) * وقال تعالى: * (وبعهد الله أوفوا ذلكم) * وقال تعالى: * (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) * وقال تعالى: * (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) * وقال عز وجل: * (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) * وقال تعالى: * (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) *.
وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ني زهير بن حرب، ثنا وكيع، نا سفيان هو الثوري، عن الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (ص): أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث

(5/594)


كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر وبه إلى مسلم: نا عبد الاعلى بن حماد، ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) قال: من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وإن صام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان وبه إلى مسلم: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا أبي، ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): إذا جمع الله الاولين والآخرين يوم القيامة رفع لكل غادر لواء، فقيل هذه غدرة فلان ابن فلان.
وبه إلى مسلم: ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن خليد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي (ص) قال: لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة.
وبه إلى مسلم: ني زهير بن حرب، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا المستمر ابن الريان ثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله (ص): لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمر عامة وبه إلى مسلم، حدثني عبد الله بن هاشم، ني عبد الرحمن بن مهدي، ثنا سفيان هو الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله (ص) إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغفلوا ولا تغدروا وذكر باقي الحديث.
وبه إلى مسلم: نا محمد بن المثنى، نا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (ص): إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، نا ابن الاعرابي،
نا أبو داود، نا أحمد بن صالح، نا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الاشج، عن الحسن بن علي بن أبي رافع، أن أبا رافع أخبره قال: بعثتني قريش إلى رسول الله (ص)، فلما رأيت رسول الله (ص) ألقي في قلبي الاسلام فقلت: يا رسول الله إني والله لا أرجع إليهم أبدا، فقال

(5/595)


رسول الله (ص): إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع، قال: فذهبت ثم أتيت النبي (ص) فأسلمت.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، نا إبراهيم بن أحمد البلخي، نا الفربري ثنا البخاري، نا إسحاق، نا يعقوب، نا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة، فذكرا جميعا خبر النبي (ص) وفيه: إنه لما كاتب رسول الله (ص) سهيل بن عمرو يوم الحديبية على قضية المدة كان فيما اشترط سهيل بن عمرو: أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه وأبى سهيل أن يقاضي رسول الله (ص) إلا على ذلك، فرد رسول الله (ص) أبا جندل بن أبي سهل يومئذ إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأت رسول الله (ص) أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن إسحاق، نا ابن الاعرابي، نا أبو داود، نا محمد ابن عبيد، أن محمد بن ثور حدثهم، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة قال: خرج النبي (ص) زمن الحديبية (فذكر الحديث) وفيه ثم رجع إلى المدينة فجاءه أبو بصير برجل من قريش يعني أرسلوا في طلبه، فدفعه إلى رجلين فخرجا به، فلما بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكون من تمر لهم، فقال أبو بصير لاحد الرجلين: والله إني لارى سيفك يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال أجل قد جربت به فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمسكه منه، فضربه
حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي (ص): لقد رأى هذا ذعرا فقال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم، ثم قد نجاني الله منهم، فقال له رسول الله (ص): ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وتفلت أبو جندل فلحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن الفتح، نا عبد الوهاب، نا أحمد ابن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو أسامة عن الوليد بن جميع، نا أبو الطفيل، نا حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا

(5/596)


أني خرجت أنا وأبي حسيل، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله (ص) فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم.
حدثني محمد بن سعيد، نا نبات، ثنا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد ابن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر، نا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي، والحكم بن عتيبة: أن حذيفة بن الحسيل بن اليمان وأباه، أسرهما المشركون، فأخذوا عليهما ألا يشهدا بدرا، فسألا النبي (ص) فرخص لهما ألا يشهدا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا عمر بن عبد الملك الخولاني، نا محمد بن بكر، نا سليمان ابن الاشعث، نا قبيصة، نا الليث عن محمد بن عجلان، أن رجلا من موالي عبد الله ابن عامر بن ربيع العدوي، حدثه عن عبد الله بن عامر أنه قال: دعتني أمي يوما ورسول الله (ص) قاعد في بيتها، فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله (ص): ما أردت أن تعطيه ؟ قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله:
أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني، نا إبراهيم بن أحمد البلخي، نا الفربري، نا البخاري، نا بشر بن مرحوم، نا يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، نا إبراهيم بن أحمد، نا الفربري، نا البخاري، نا مسدد، نا يحيى بن سعيد هو القطان، نا شعبة، حدثني أبو حمزة، نا زهد بن مضرب، قال: سمعت عمران بن حصين يحدث عن النبي (ص) قال: خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم ينذرون ولا يفون، ويخونون ولا يؤتمنون وذكر باقي الخبر.
وبه إلى البخاري: نا محمد بن مقاتل، أنا عبد الله بن المبارك، أنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمر: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن

(5/597)


أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: أوف بنذرك.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن إسحاق، نا ابن الاعرابي، نا أبو داود السجستاني، نا سليمان بن داود المهري، ثنا ابن وهب حدثني سليمان بن بلال، ثنا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): المسلمون على شروطهم.
حدثنا المهلب الاسدي، نا ابن مناس، نا ابن مسرور، نا يونس بن عبد الاعلى، نا ابن وهب، نا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن رسول الله (ص) قال: وأي المؤمن واجب.
وبه إلى ابن وهب: أخبرني إسماعيل بن عياش، عن أبي إسحاق أن
رسول الله (ص) كان يقول: ولا تعد أخاك عدة وتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة وبه إلى ابن وهب: أخبرني الليث بن سعيد عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: من قال لصبي: تعال هاه لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة.
قالوا: فهذه نصوص توجب ما ذكرنا، إلا أن يأتي نص بتخصيص شئ من عمومها فيخرج ويبقى ما عداه على الجواز.
قال أبو محمد: ووجدنا من قال ببطلان كل عقد وكل شرط وكل عهد وكل وعد، إلا ما جاء نص بإجازته باسمه.
ويقولون: قال الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وقال تعالى ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) * وقال تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) *.
حدثنا عبد الرحمن بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني، ثنا أبو أسامة، أنبأنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: أخبرتني عائشة أم المؤمنين أن رسول الله (ص) خطب عشية، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق.

(5/598)


حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني، ثنا أبو إسحاق البلخي، حدثنا الفربري، ثنا البخاري، نا علي بن عبد الله، نا سفيان، عن يحيى هو ابن سعيد الانصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أم المؤمنين قالت: قام رسول الله (ص) على المنبر فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة شرط.
قالوا: فهذه الآيات وهذا الخبر، براهين قاطعة في إبطال كل عهد وكل عقد وكل وعد وكل شرط ليس في كتاب الله الامر به، أو النص على إباحة عقده، لان العقود والعهود والاوعاد شروط، واسم الشرط يقع على جميع ذلك.
قال أبو محمد: وأيضا فيقال لمن أوجب الوفاء بعقد أو عهد أو شرط أو وعد، ليس في نص القرآن أو السنة الثابتة إيجاب عقد وإنفاذه: إننا بالضرورة ندري أنه لا يخلو كل عقد وعهد وشرط ووعد التزمه أحد لاحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون في نص القرآن أو السنة إيجابه وإنفاذه، فإن كان كذلك فنحن لا نخالفكم في إنفاذ ذلك وإيجابه، وإنما أن يكون ليس في نص القرآن ولا في السنة إيجابه ولا إنفاذه، ففي هذا اختلفنا.
فنقول لكم الآن: فإن كان هكذا فإنه ضرورة لا ينفك من أحد أربعة أوجه لا خامس لها أصلا: إما أن يكون فيه إباحة ما حرم الله تعالى في القرآن، أو على لسان رسول الله (ص)، فهذا عظيم لا يحل، قال تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * ونسألهم حينئذ عمن التزم - في عهده وشرطه وعقده ووعده، إحلال الخنزير والامهات وقتل النفس، فإن أباح ذلك كفر، وإن فرق بين شئ من ذلك تناقض وسخف وتحكم في الدين بالباطل.
وإما أن يكون التزم فيه تحريم ما أباحه الله تعالى في القرآن أو على لسان رسوله (ص) فهذا عظيم لا يحل، قال تعالى: * (يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك ونسألهم حينئذ عمن حرم الماء والخبز والزواج وسائر المباحات، وقد صح أن محرم الحلال كمحلل الحرام ولا فرق.
وإما أن يكون التزم ما أوجبه الله تعالى في القرآن، أو على لسان رسوله

(5/599)


صلى الله (ص) فهذا عظيم لا يحل، ونسألهم حينئذ عمن التزم في عهده وعقده وشرطه إسقاط الصلوات، وإسقاط صوم شهر رمضان وسائر ذلك، فمن أجاز ذلك فقد كفر، وإما أن يكون أوجب على نفسه ما لم يوجبه الله تعالى عليه، فهذا عظيم لا يحل، ونسألهم عمن التزم صلاة سادسة أو حج إلى غير مكة، أو في غير أشهر الحج، وكل هذه الوجوه تعد لحدود الله، وخروج عن الدين، والمفرق بين شئ من ذلك قائل في الدين بالباطل، نعوذ بالله من ذلك.
فإن قد صح ما ذكرنا فلم يبق إلا الكلام على الآيات التي احتج بها أهل المقالة الاولى، وعلى الاحاديث التي شغبوا بإيرادها وبيان حكمها، حتى يتألف بعون الله تعالى ومنه مع هذه، فإن الدين كله واحد لا تخالف فيه، قال الله عز وجل: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.
فنقول وبالله تعالى نتأيد: إن كل ما ذكروا من ذلك فلا حجة لهم في شئ منه، أما قول الله عز وجل: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * و: * (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * * (والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون) *، * (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم) *، * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) *، و: * (بلى من أوفى بعهده واتقى) * و: * (ومن أوفى بما عاهد عليه الله) * و: * (وأوفوا بالعقود) * و: * (يوفون بالنذر) *، و: * (أو نذرتم من نذر) *، و: * (إنه كان صادق الوعد) *.
والحديثان اللذان فيهما: أوف بنذرك، وذم الذين ينذرون ولا يوفون، والخبر فيم: أعطى بي ثم غدر، فإنها جمل قد جاء نص آخر يبين أنها كلها ليست على عمومها، ولكنها في بعض العهود، وبعض العقود، وبعض النذور، وبعض الشروط، وهي قول رسول الله (ص): لا نذر في معصية الله تعالى، ولا فيما يملك العبد وقوله (ص): من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه مع ما ذكرنا من قوله (ص): كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل.
فصح بهذه النصوص أن تلك الآيات والخبرين إنما هي فيمن شرط أو نذر أو عقد أو عاهد على ما جاء القرآن أو السنة بإلزامه فقط.
وقد وافقنا المخالفون ههنا، على أن من نذر أو عقد أو عاهد أو شرط أن يزني أو يكفر أو يقتل مسلما ظلما، أو أن يأخذ مالا بغير حق أو أن يترك الصلاة فإنه لا يحل له الوفاء بشئ من

(5/600)


ذلك، لانه معصية، ولا فرق بين هذا وبين شرط وعاهد وعقد أن يضيع حدا، أو أن يبطل حقا أو أن يمنع مباحا، والمفرق بين ذلك مبطل متناقض متحكم في الدين بالباطل، فارتفع الاشكال في هذا الباب جملة والحمد لله رب العالمين.
وكذلك قول الله عز وجل: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم) * فهذا غاية البيان في صحة قولنا، والحمد لله رب العالمين.
وباليقين ندري أن من حرم على نفسه أن يتزوج على امرأته، أو أن يتسرى عليها، أو ألا يرحلها، أو ألا يغيب عنها، فقد حرم ما أحل الله تعالى له: وما أمره تعالى به إذ يقول: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * وقال تعالى: * (أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * وقال عز وجل * (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) * وقال تعالى * (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) * وقال تعالى: * (هو الذي يسيركم في البر والبحر) * وكذلك من عاهد على تأمين من لا يحل تأمينه.
وعلى إبقاء مال في مالك من لا يحل له تملكه، وعلى اسقاط حد الله تعالى أو قود، فإنه قد عقد على معصية، وسمى الحلال حراما، والقرآن قد جاء بتكذيب من فعل ذلك وبنهيه عن ذلك، وهكذا ما لم يذكر ما ليس في القرآن أو السنة إمضاؤه.
ومن عجائب الدنيا: احتجاج من احتج بالخبر الذي فيه أوف بنذرك،
وهو أو مخالف لهذا الخبر، لانه ورد في معنيين.
أحدهما: الوفاء بما نذره المرء في جاهليته وكفره وهم لا يقولون بإنفاذ ذلك.
والثاني: أنه ورد في اعتكاف ليلة، وهم لا يقولون بذلك.
فمن أعجب شأنا ممن يحتج بخبر عن النبي (ص) فيما ليس فيه منه شئ أصلا، وهو قد عصى ذلك الخبر في كل ما فيه، ونعوذ بالله من هذه الاحوال، فليس في عكس الحقائق أكثر من هذا، وأما نحن فنلزم من نذر في كفره طاعة الله عز وجل، ثم أسلم أن يفي بما نذر من ذلك، اتباعا لامر رسول الله (ص) بذلك، وكذلك من نذر اعتكاف ليلة فإنه يلزمه الوفاء به أيضا.
ومما قدمنا قبل من نذر الباطل وعقده: من شرط لامرأته إن نكح عليها

(5/601)


فالداخلة بنكاح طالق، وإن تسرى عليها فالسرية حرة، وإن غاب عنها مدة كذا أو أرحلها فأمرها بيدها تطلق نفسها أو تمسك، فكل هذا معاص وخلاف لامر الله تعالى، وتعد لحدود الله، لان الله تعالى لم يجعل قط أمر امرأة بيدها إلا المعتقة ولها زوج فقط، بل جعل أمر النساء إلى الرجال وبأيديهم، فقال تعالى: * (الرجال قوامون على النساء) * وجعل الطلاق إلى الرجال لا إلى النساء، فقال تعالى: * (يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) * ولم يجعل طلاقا قبل نكاح، ولا عتقا قبل ملك، فمسمى كل حكم مما ذكرنا حلالا، مفتر على الله تعالى، منهي عن كل ذلك، فصح أنها عقود باطل لا يصح شئ منها.
وكذلك بين الله تعالى حكم الطلاق، فجعله في كل حال واقعا إذا وقع حيث أطلق الله تعالى إيقاعه، وغير واقع حيث لم يطلق الله تعالى إيقاعه، فمن طلق إلى أجل أو أخرج طلاقه أو عتاقه مخرج اليمين فقد تعدى حدود الله تعالى، وليس شئ من ذلك طلاقا واقعا، ولا عتاقا واقعا أصلا، لا حين يوقعه مخالفا لامر الله تعالى، ولا حيث لا يوقعه أصلا، وهذا بيان لا يحيل على من نصح نفسه وبالله التوفيق.
قال أبو محمد: ثم نظرنا فيما احتجوا به من قوله عز وجل: * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون) * و: * (وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين) * * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * * (وبعهد الله أوفوا) * فوجدنا هذه الآيات في غاية البيان في صحة قولنا * (الحمد لله رب العالمين) * لان عهد الله إنما هو مضاف إلى الله تعالى، ولا يضاف إلى الله عز وجل إلا ما أمر به لا ما نهى عنه.
وما كان خلاف هذا فهو عهد إبليس لا عهد الله تعالى، ومن أضافه إلى الله تعالى فقد كذب عليه.
ثم نظرنا في احتجاجهم بقول الله تعالى: * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين) * فوجدنا حجة لنا عليهم، لان الله تعالى لم يأمره عليه السلام بالتمادي على عهد من خاف منه خيانة، بل ألزمه تعالى أن ينبذ إليهم عهدهم، فصح أن كل عهد أمر الله عز وجل بنبذه وطرحه، فهو عهد منقوض مرفوض لا يحل التمادي عليه.
ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول الله عز وجل: * (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ئ فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به

(5/602)


وتولوا وهم معرضون ئ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) * فوجدناه لا حجة لهم فيه، لان هؤلاء قوم عاهدوا الله عز وجل لئن رزقهم مالا ليصدقن وليكونن من الصالحين، وهذا فرض على كل أحد، لان الصدقة اسم يقع على الزكاة وعلى التطوع، فواجب حمله على عمومه ما لم يمنع من شئ منه نص، فدخل في ذلك مانع الزكاة وهذه كبيرة، وكذلك سائر فروض المال.
وخرج منه صدقة التطوع لانه نذر فيما لا يملك بعد، وكذلك كون المرء من الصالحين فرض عليه، نذره أو لم ينذره، وقد قال تعالى: * (ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل
هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والارض والله بما تعملون خبير) * فهذا حكم من بخل بفرائض المال من الزكاة وغيرها، مما جاءت بإيجابه النصوص.
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا زهير بن حرب، ثنا إسماعيل ابن إبراهيم - هو ابن علية - ثنا أيوب - هو السختياني - عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن الحصين أن رسول الله (ص) قال: لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، ثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بينما النبي (ص) يخطب، إذا برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي (ص): مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه.
وبه إلى البخاري، ثنا أبو عاصم وأبو نعيم كلاهما عن مالك، عن طلحة بن عبد الملك، عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال النبي (ص): من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه.
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد ابن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا ابن أبي عمر العدني، ثنا مروان بن معاوية الفزاري، ثنا حميد، حدثني ثابت عن أنس: أن نبي الله (ص) رأى

(5/603)


سخيا يتهادى بين ابنيه فقال: ما بال هذا ؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني وأمره أن يركب.
ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول رسول الله (ص): إن إخلاف الوعد
خصلة من خصال النفاق فوجدناهم لا حجة لهم فيه.
أول ذلك الحنفيين والمالكيين المخالفين لنا في كثير من هذا الباب - مع عظيم تناقضهم في ذلك - مجمعون على أن من قال لآخر: لاهبن لك غدا دينارا، أو سأهبك اليوم هذا الثوب، وما أشبه هذا، فإنه لا يقضي عليه بشئ من ذلك عندهم، فهم أول تارك لما احتجوا به، وأما نحن فإننا رأينا الله عز وجل قد أسقط الحكم عمن وعد آخر أن يعطيه شيئا سماه، وأكد ذلك باليمين بالله تعالى: ثم لم يفعل، فلم يلزمه الله عز وجل إلا كفارة اليمين فقط، لا الوفاء بما وعد، ولم يجعل عليه في ذلك ملامة، ثم وجدنا الله تعالى يقول: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشآء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) *.
فصح بهذا أن من وعد وعدا ولم يقل إن شاء الله، فهو عاص لله عز وجل، مخالف لامره، وإذا كان قوله ذلك معصية لله تعالى فهو مردود غير نافذ.
ثم إننا وجدناه إن وعد وقال: إن شاء الله، فقد استثنى مشيئة الله تعالى، وبالضرورة ندري أن كل ما شاء الله تعالى كونه فهو واقع لا محالة، قال الله عز وجل: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * وأن كل ما لم يكن فإن الله تعالى لم يشأ كونه، فإذا لم يفت هذا الواعد بما وعد ولو يوجبه إلا أن يشاءه الله تعالى، فقد أيقنا ضرورة أن الله تعالى لم يشأ كونه فلم يخالفه عقده، لانه لم يوجبه إلا بمشيئة الله تعالى لم يشأها عز وجل.
فصح بهذا يقينا أن الوعد الذي يكون إخلافه خصلة من خصال النفاق، إنما هو الوعد بما افترض الله تعالى الوفاء به، وألزم فعله وأوجب كونه، كالديون الواجبة، والامانات الواجب أداؤها، والحقوق المفترضة فقط، لا ما عدا ذلك، فإن هذه الوجوه قد أوجب الله تعالى الوعيد على العاصي في ترك أدائها، وأوقع الملامة على المانع منها، وأمر بأدائها، وإن كان عز وجل لم يرد كون ما لم يكن
منها، ولا حجة لنا على الله تعالى، بل لله الحجة البالغة، فلو شاء الله لهداكم أجمعين.

(5/604)


ووجدناهم أيضا قد أجمعوا على أن الوصايا أو عاد يعدها الموصي ثم يختلفوا أن له الرجوع عنها إن شاء إلا العتق، فإنهم قد اختلفوا في جواز الرجوع عنه.
وهذا كله رجوع منهم إلى قولنا، وتناقض في قولهم: وأما نحن فلم نجز الرجوع في العتق في الوصية، لانه عقد حض الله تعالى عليه وغبط به، وما كان هكذا فلا يجوز الرجوع فيه، لانه عقد قد لزم إذا التزمه فلا يسقط إلا بنص، ولا نص في جواز الرجوع فيه، والعتق المؤجل جائز بخلاف الهبات المؤجلة، وسائر العقود المؤجلة، لان التأجيل شرط فلا يجوز إلا ما في كتاب الله تعالى، فلما صح أن النبي (ص) باع المدبر ولم ينكر التدبير، صح أن العتق إلى أجل شرط في كتاب الله تعالى، فهو نافذ لازم لا رجوع فيه، بخلاف سائر العقود المؤجلة التي لا نص في إجازتها.
وأما الكلام في قوله (ص): كان منافقا خالصا و: كانت فيه خصلة من النفاق فإن رسول الله (ص) لم يقل فيه إنه يكون كافرا، والمنافق أصله من نافقاء اليربوع، وهو باب يعده اليربوع في جحره مخفيا مغطى بالتراب، فلما كان المسر للكفر، المظهر للايمان، يبطن غير ما يظهر، سمي منافقا لما ذكرناه، فليس كل منافق كافرا، إنما المنافق الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الايمان، وأما من أسر شيئا ما، وأظهر غيره ففعله نفاق وليس كفرا، وهو بذلك الفعل منافق كافر، فلما كان من إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، يسرون خلاف ما يظهرون، ويقولون ما لا يفعلون، كان فعلهم ذلك نفاقا، وكانوا بذلك منافقين، ومما يصح هذا: أن المرتد عن الاسلام إلى الكفر حكمه القتل، وهؤلاء المذكورون من المخاصم الفاجر، والواعد المخلف، والمعاهد الغادر، والمؤتمن
الخائن، والكذاب في حديثه، لا قتل عليهم، لانه لا نص في قتلهم، ولا قال به أحد فضلا عن أن يكون فيه إجماع.
فصح ما قلناه.
والحمد لله رب العالمين.
ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول رسول الله (ص): أن لكل غادر لواء يوم القيامة فهو داخل في هذا الخبر المتقدم، وكذلك قوله (ص) عن

(5/605)


الله تعالى: أنه خصم من أعطى به تعالى ثم غدر وإنما ذلك كله فيمن عاهد على حق واجب عهدا أمر الله تعالى به، نصا في القرآن، أو على لسان رسوله (ص) ثم غدر، فهذا عظيم جدا، وكذلك من وعد بأداء دين واجب عليه، وأداء أمانة قبله، ثم أخلف فهي معصية نعوذ بالله تعالى منها، وليس كذلك من عاهد أو وعد على معصية أو بمعصية، كمن عاهد آخر على الزنى، أو على هذم الكعبة، أو على قتل مسلم، أو على ترك الصلاة، أو على ما ذكرنا قبل من إيجاب ما لم يجب، أو اسقاط ما يجب أو تحريم ما أحل الله تعالى: أو إحلال ما حرم الله تعالى، أو وعد بشئ من ذلك، فهذا كله هو الحرام المفسوخ المردود، وبالله تعالى التوفيق.
وهكذا القول فيما احتجوا به من قول رسول الله (ص): أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج فإنما هذا بلا شك في الشروط التي أمر الله تعالى أن يستحل بها الفروج، من الصداق المباح ملكه الواجب إعطاؤه، والنفقة والكسوة والاسكان والمعاشرة بالمعروف، وتدك المضارة أو التسريح بإحسان لا بما نهى الله تعالى عن أن يستحل به الفروج من الشروط المفسدة من تحليل حرام أو تحريم حلال، أو إسقاط واجب أو إيجاب ساقط.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبيد الله بن موسى، عن زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة
عن النبي (ص) قال: لا يحل لامرأة أن تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قدر لها.
وبه إلى البخاري، ثنا محمد بن عرعرة، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله (ص): عن التلقي، وأن يبتاع المهاجر للاعرابي، وأن تشترط المرأة طلاق أختها وذكر باقي الحديث فصح أن اشتراط المرأة في نكاحها طلاق غيرها ممن هي في عصمة الناكح لها، أو طلاق من يتزوجها بعد أن تزوجها باطل وحرام منهي عنه، وشرط مفسوخ فاسد لا يحل عقده ولا إمضاؤه، وصح أن كل نكاح عقد على ما لا يحل فإنه لا يحل، وهو مفسوخ أبدا ولو ولدت فيه عشرات من الاولاد، لانه عقد بصحة ما لا صحة له، وعلى أنه لا يصح إلا بصحة

(5/606)


ما لا يصح فهو لا يصح، وهذا في غاية البيان، والحمد لله رب العالمين وقد صح عن رسول الله (ص): من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
ثم نظرنا فيما احتجوا به من حديث حذيفة، فوجدناه ساقطا لا يصح سنده، أما من طريق شعبة فهو مرسل، ولا حجة في مرسل، وأما الطريق الاخرى فمن رواية الوليد بن جميع، وهو ساقط مطرح.
وأيضا فإن الله تعالى يأبى إلا أن يفضح الكاذبين والكذب في هذا الخبر ظاهر متيقن، لان حذيفة مدني الدار هو وأبوه قبله حليف لبني عبد الاشهل من الانصار، ولم يكن له طريق إلى النبي (ص) يؤديه إلى قريش أصلا، لان طريق المدينة إلى رسول الله (ص) إذ خرج إلى بدر خلفه لطريق قريش من مكة إلى بدر، فوضع كذب ذلك الحديث يقينا وبالله تعالى التوفيق.
ثم لو صح، وهو لا يصح، لكان منسوخا بلا شك لما سنذكره إن شاء الله تعالى في خبر أبي جندل بعد هذا، وبالله تعالى نتأيد.
ثم نظرنا في الحديث الذي فيه: المسلمون عند شروطهم فوجدناه أيضا قد
ثناه أحمد بن محمد الطلمنكي، ثنا محمد بن يحيى بن مفرج، ثنا محمد بن أيوب الصموت الرقي، ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ثنا عمرو بن علي، ثنا محمد ابن خالد، ثنا كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله (ص): المسلمون عند شروطهم وبه إلى البزار، ثنا محمد بن المثنى، نا محمد بن الحارث، نا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): الناس على شروطهم ما وافقوا الحق.
قال علي: وكل هذا لا يصح منه شئ، أما الطريق الاول ففيها كثير بن زيد، وهو هالك تركه أحمد ويحيى، والثاني عن الوليد بن رباح، وهو مجهول، والاخرى

(5/607)


كثير بن عبد الله، وهو كثير بن زيد نفسه، مرة نسب إلى أبيه ومرة إلى جده، ثم أبوه أيضا نحوه والثالثة من طريق محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، وهو ضعيف، ثم لو صح، وهو لا يصح، لكان حجة لنا عليهم، لان فيه إضافة النبي (ص) الشروط إلى المسلمين، ولا شروط للمسلمين إلا الشروط التي أباح الله تعالى في القرآن أو السنة الثابتة عقدها، لا شروط للمسلمين غيرها، لان المسلمين لا يستجيزون إحداث شروط لم يأذن الله تعالى بها هذه شروط الشيطان، وأتباعه لا شروط المسلمين، لقول رسول الله (ص): كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة والضلالة في النار.
والعجب كله من احتجاج الحنفيين والمالكيين بهذه الاخبار، وهم أول مخالف لها.
فيقولون: كل شرط في نكاح فهو باطل ما لم يعقده بيمين، ثم يتناقضون في اليمين فيجعلون يمينا ما لم يجعل الله تعالى قط يمينا ولا رسول الله (ص)، فأي تناقض أكثر من هذا.
وأيضا ففي الخبر المذكور: الناس على شروطهم ما وافقوا الحق ولعمري لو صح هذا لكان من عظيم حجتنا عليهم، لانه أبطل كل شرط
لم يوافق الحق، ولا يوافق الحق شئ إلا أن يكون في القرآن، أو في حكم النبي (ص)، وهكذا القول فيما روي عن عمر: الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا فعاد كل ما شغبوا فيه - من صحيح ثابت أو باطل زائف - حجة لنا عليهم.
والحمد لله رب العالمين.
ثم نظرنا في حديث أبي جندل فوجدناه لا حجة لهم فيه، لوجوه ستة: أولها: أنه لم يكن عقد للنبي (ص) بعد رده من جاء من قريش إليه، إذ جاء أبو جندل كما ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، نا إبراهيم بن أحمد، حدثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن محمد هو المسندي - نا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أخبرني الزهري، أنا عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه - فذكر حديث الحديبية - وفيه: فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلما، فبينما هو كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال (ص): إنا لم نفض

(5/608)


الكتاب بعد قال: فوالله إذا لا أصالحك على شئ أبدا فقال النبي (ص): فأجزه لي فقال: ما أنا بمجيز ذلك لك، قال: بلى فافعل ما أنا بفاعل.
قال مكرز: بلى قد أجزناه لك، فهذا أمر لا يقول به المخالفون لنا أن يرد إليهم من جاء منهم قبل أن يتم التعاقد على ذلك، فكيف يحتجون بما لا يحل عندهم، أليس هذا من البلايا والفضائح ؟.
والوجه الثاني: أنه كما ترى لم يرده عليه السلام إلا حتى أجازه من لا تقدر قريش على معارضته، وهو من رهط سهيل بن عمرو، لانه سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، والذي أجار
أبا جندل هو مكرز بن حنفص بن الاخيف بن علقمة بن عبد الحارث بن منقذ ابن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي من سادات بني عامر بن لؤي، فبطل تعلقهم برد النبي (ص) أبا جندل، إذ لم يرده إلا بجوار وأمان.
والوجه الثالث: أن النبي (ص) لم يرد إلى الكفار أحدا من المسلمين في تلك المدة، إلا وقد أعلمه الله عز وجل أنهم لا يفتنون في دينهم، ولا في دنياهم، وأنهم سينجون ولا بد.
كما حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى، حدثنا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا عفان، نا حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس: أن قريشا صالحوا النبي (ص) فاشترطوا على النبي (ص) أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاء منا رددتموه علينا، قالوا: يا رسول الله: أتكتب هذا ؟ قال: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجا ومخرجا.
قال أبو محمد: قد قال الله عز وجل واصفا لنبيه (ص): * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فأيقنا أن إخبار النبي (ص) بأن من جاءه من عند كفار قريش مسلما فسيجعل الله له فرجا ومخرجا: وحي من عند الله صحيح لا داخلة فيه، فصحت العصمة بلا شك من مكروه الدنيا والآخرة لمن أتاه منهم حتى تتم نجاته من أيدي الكفار، لا يستريب في ذلك مسلم يحقق النظر.
وهذا أمر لا يعلمه أحد من الناس بعد النبي (ص)، ولا يحل لمسلم

(5/609)


أن يشترط هذا الشرط، ولا أن يفي به إن شرطه، إذ ليس عنده من علم الغيب ما أوحى الله تعالى به إلى رسوله، وبالله تعالى التوفيق.
والوجه الرابع: أن رسول الله (ص) لم يرد من رد المسلمين إلى المشركين،
إلا أحرارا إلى أهلهم وآبائهم وقومهم، والمخالفون في هذا لا يردون المسلمين الاحرار إلا عبيدا إلى الكفار الذين يعذبونهم أشد العذاب، ويأتون الفاحشة المحرمة في النساء وربما قتلوهم، فما ندري كيف يستسهل مثل هذا مسلم.
والوجه الخامس: أن أبا سعيد الجعفري حدثنا قال: نا محمد بن علي بن الادفوي، نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس، عن أحمد بن شعيب، عن سعيد بن عبد الرحمن، نا سفيان، عن الزهري - قال سفيان: وثبتني معمر بعد ذلك عن الزهري - عن عروة بن الزبير قال: إن المسور بن مخرمة ومروان أخبراه بخبر الحديبية - فذكر الحديث، وفي آخره خروج أبي بصير وهو عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني نوفل بن عبد مناف، إلى سيف البحر، وانفلات أبي جندل بن سهيل إليه - قال: فجعل لا يخرج رجل من قريش قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير لقريش تخرج إلى الشام إلا اعترضوا لهم فيقتلونهم ويأخذون أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي (ص) يناشدونه بالله وبالرحم إلا أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي (ص) إليهم.
قال أبو محمد: فهذا أبو بصير وأبو جندل ومن معهما من المسلمين، قد سفكوا دماء قريش المعاهدين لرسول الله (ص)، وأخذوا أموالهم، ولم يحرم ذلك عليهم ولا كانوا بذلك عصاة، ولا شك في أن رسول الله (ص) كان قادرا على منعهم من ذلك لو نهاهم، فلم يفعل، فصح يقينا أنه عهد منسوخ بخلاف ما يقوله المخالفون اليوم، وإنه إنما لزم من كان بالمدينة فقط دون من كان خارجا عنها.

(5/610)


والوجه السادس: وهو القاطع لكل شغب، والحاسم لكل علقة: وهو
صحة اليقين بأن ذلك العهد منسوخ ممنوع منه محرم عقده في الابد، مما في سورة براءة من قول الله تعالى: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) * وبقوله تعالى أيضا في سورة براءة: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * وبقوله تعالى أيضا في سورة براءة: * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) * وبقوله تعالى أيضا في سورة براءة: * (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) * وسورة براءة آخر سورة أنزلت، كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، نا أبو الوليد - هو الطيالسي، ثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب قال: آخر آية أنزلت: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) * وآخر سورة نزلت براءة.
قال أبو محمد: وبها عهد النبي (ص) آخر عهده إلى الكفار، عام حجة أبي بكر الصديق بالناس، وبعد الحديبية التي كانت فيها قصة أبي جندل بثلاثة أعوام وشهر لان الحديبية كانت في ذي القعدة عام ست من الهجرة قبل خيبر، فلما كان ذو القعدة المقبل بعد الحديبية بعام كامل اعتمر رسول الله (ص) عمرة القضاء سنة سبع من الهجرة، ثم كان فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة بعد عمرة القضاء بعام غير شهرين، وحج تلك السنة عتاب بن أسيد بالمسلمين ثم حج أبو بكر في ذي الحجة سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام وشهرين، كما ثنا حمام، ثنا الاصيلي، ثنا المروزي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا سعيد بن عفير،
نا الليث، نا عقيل عن ابن شهاب، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة.
وذكر الحديث، وفيه: ثم أردف النبي (ص) بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة.
قال أبو هريرة:

(5/611)


فأذن معنا علي رضي الله عنه يوم النحر في أهل منى ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
فصح باليقين أنه لا يحل أن يعاهد مشرك عهدا، ولا يعاقد عقدا إلا على الاسلام فقط، أو على غرم بالجزية والصغار إن كان كتابيا وصح يقينا أن كل عهد أو عقد أو شرط عقد معهم أو عوهدوا عليه أو شرط لهم بخلاف ما ذكرنا، فهو باطل مردود، لا يحل عقده ولا الوفاء به إن عقد، بل يفسخ ولا بد.
وأول ما نسخ الله عز وجل من العهد الذي كان يوم الحديبية، فرد النساء كما حدثنا حمام بن أحمد، ثنا الاصيلي، ثنا المروزي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله ابن محمد، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر قال: أخبرني الزهري، أخبرني عروة، عن المسور ابن مخرمة ومروان - فذكر حديث الحديبية وشرط سهيل الذي ذكرنا وفيه: ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل: * (يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) * إلى قوله: * (بعصم الكوافر) *.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا محمد بن أحمد بن مفرج، ثنا عبد الله بن جعفر ابن الورد، ثنا عمرو بن أحمد بن سرح، وأحمد بن زغبة قالا: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، ومروان بن الحكم، عن أصحاب رسول الله (ص): أن رسول الله (ص) لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ - يعني يوم الحديبية فذكر الحديث وفيه -: فرد يومئذ
أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما، وجاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله (ص) يومئذ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله (ص) أن يرجعها إليهم، فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله عز وجل فيهن: * (يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) *.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، نا أبو إسحاق البلخي، نا الفربري، نا البخاري، نا إسحاق، ثنا يعقوب، ثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: أخبرني عروة بن الزبير، أنه سمع

(5/612)


مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة يخبران خبر من رسول الله (ص) في الحديبية.
وذكر الحديث، وفيه أن سهيلا كاتب النبي (ص) على ألا يأتيه من المشركين أحد وإن كان على دين الاسلام إلا رده إلى المشركين - قالا: وجاءت المؤمنات مهاجرات فكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله (ص) وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله أن يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن إسحاق، ثنا ابن الاعرابي، ثنا أبو داود، ثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثهم، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة قال: خرج النبي (ص) من الحديبية.
فذكر الحديث وشرط قريش في رد من جاء مسلما إليهم وفيه: ثم جاء نسوة مهاجرات مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن وأمرهم أن يردوا الصداق.
قال أبو محمد: فإذا نسخ الله تعالى عهد نبيه عليه السلام وعقده وشرطه، فمن هذا الجاهل الذي يجيز هذا الشرط لاحد بعده، تبرأ إلى الله من ذلك.
قال أبو محمد: وهكذا القول في حديث أبي رافع أنه منسوخ ببراءة على أنه
حديث ننكره، وإن كنا لا نعلم في سنده علة، ولكنا نعجب منه، لان أبا رافع كان مولى النبي (ص) مولى عتاقة، فكيف صار مع مشركي قريش رسولا إلى النبي (ص) ونزول براءة كان بعد إسلام جميع قريش وبعد حديث أبي رافع بلا شك.
قال أبو محمد: فلما لاح بكل ما ذكرنا أنه لا حجة في شئ مما ذكرنا لمن أجاز النذور والعقود والشروط والعهود على الجملة إلا ما عين بنص أو إجماع، على أنه لا يجوز منها، رجعنا إلى القول الثاني فوجدناه صحيحا، ووجدنا النصوص التي احتجوا بها مبينة مفسرة قاضية على هذه الجملة التي احتج بها خصومهم، وجدنا النصوص شاهدة بصحة قولهم.
فمن ذلك نص النبي عليه السلام وهو الذي قال فيه الله تعالى: * (بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) * فقال عليه السلام: ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، شرط الله أوثق وكتاب الله أحق فصح بهذا النص.

(5/613)


وقد ذكرنا في هذا الباب بسنده: أن كل شرط اشترطه إنسان على نفسه أو لها على غيره فهو باطل، لا يلزم من التزمه أصلا، إلا أن يكون النص أو الاجماع قد ورد أحدهما بجواز التزام ذلك الشرط بعينه أو بإلزامه، وليس ذلك إلا في شروط يسيرة قد ذكرناها في كتابنا المرسوم بذي القواعد.
وأما النذور: فإن عبد الله بن يوسف حدثنا قال: حدثنا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر، نا شعبة بن منصور، عن عبد الله بن مرة، عن عبد الله ابن عمر، عن النبي (ص) أنه نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل قال ابن المثنى: وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري،
عن منصور، عن عبد الله بن مرة، عن ابن عمر، عن النبي (ص) به.
وبه إلى مسلم، نا قتية، نا عبد العزيز، يعني الدراوردي، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا، وإنما يستخرج به من البخيل.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا عمر بن عبد الملك، نا محمد بن بكر، نا أبو داود، ثنا مسلم بن إبراهيم، نا هشام هو الدستوائي، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله (ص) لما بلغه أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية قال: إن الله لغني عن نذرها مرها أن تركب.
فبطلت بهذين النصين النذور كلها، ولم يلزم منها شئ إلا ما أتى به النص إما بإيجابه وإما بإباحة التزامه، وليس ذلك إلا فيما كان طاعة لله عز وجل فقط، على ما بينه عليه السلام إذ يقول: من نذر أن يطيع الله فليطعه وقد ذكرناه بسنده في هذا الباب، وما عدا ذلك فلا يلزم من التزامه أصلا.
وأما العقود فإن عبد الله بن يوسف حدثنا قال: نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب ابن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم، نا إسحاق بن إبراهيم، وعبد ابن حميد كلاهما عن أبي عامر العقدي، نا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد

(5/614)


ابن إبراهيم، أن القاسم بن محمد قال له: أخبرتني عائشة أن رسول الله (ص) قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فصح بهذا النص بطلان كل عقد عقده الانسان والتزمه، إلا ما صح أن يكون عقدا جاء النص، أو الاجماع بإلزامه باسمه أو بإباحة التزامه بعينه، وكذلك حكم رسول الله (ص) بإبطال صلح الذين صالح الذي زنى ابنه بامرأته.
وأما: وأي المؤمن واجب فمرسل، وفيه أيضا هشام بن سعد، وهو
ضعيف، وكذلك: لا تعد أخاك وتخلفه مرسل أيضا، والمحتجون بذلك أشد الناس خلافا له، فلا يقضون على من وعد بإنجازه.
وأما إذا قلت لصبي: تعال هاه لك فمنقطع لان ابن شهاب لم يلق أبا هريرة ولو صح لم يكن لهم فيه حجة، لان ذلك اللفظ هبة صحيحة لازمة.
وأما العهود فإن الله عز وجل يقول في سورة براءة التي هي آخر سورة أنزلها، آخر عهد عهد به إلى المسلمين والمشركين، نسخ به جميع ما تقدم فقال تعالى: * (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) * فأبطل عز وجل كل عهد يعهده أحد لمشرك، إلا على ما نص في السورة المذكورة من غرم الجزية مع الصغار لاهل الكتاب خاصة، واستثنى تعالى الذين عاهد رسول الله (ص) عند المسجد الحرام خاصة، وهم الذين ذكروا في أول السورة، إذ يقول تعالى: * (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ئ فسيحوا في الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) * فلما انقضت تلك الاربعة الاشهر لم يبق لمشرك على مسلم عهد إلا السيف أو الاسلام، إلا أن يكون كتابيا فيرضى بغرم الجزية مع الصغار، فيجاب إلى ذلك، وإلا فالسيف، فصح بهذا النص أن كل عهد عاهده مسلم مشركا على غير الجزية مع الصغار، فهو عهد الشيطان مفسوخ مردود لا يحل الوفاء به، ولا فرق بين من أخذ بحديث أبي جندل، وبين من صلى إلى بيت المقدس وترك الكعبة، لان النبي (ص) فعل كلا الامرين ثم نسخا.

(5/615)


والعجب كل العجب ممن لا يراعي حدود الله تعالى، فيعقد عقودا بخلافها، ويراعي عهد كافر قد أمر الله ورسوله بفسخه.
والعجب كل العجب من المالكيين القائلين: إنه إن نزل عندنا كفار حربيون
بأمان، وعندهم أسارى رجال ونساء مسلمون ومسلمات أنهم لا ينتزعون منهم، ويتركون ويردونهم إلى بلادهم ولا يمنعون من الوطئ.
قال أبو محمد: ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من هذا القول الملعون الذي تقشعر أجساد المسلمين من سماعه، فكيف من اعتقاده، فليت شعري لو عاهدوهم على نبش قبر النبي (ص)، أو على قلب المساجد كنائس أو على تعليق النواقيس في المآذن، أتراهم كانوا يرون الوفاء لهم بهذه العهود ؟ مع ما يسمعون من قوله تعالى: * (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) * ثم يتعلقون بحديث أبي جندل وهو منسوخ، لما نص الله تعالى في براءة مما قد تلوناه في هذا الباب.
فإن تعلقوا بقول الله تعالى: * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) *.
فهذا حجة عليهم لا لهم، لان الله تعالى لم يبح في هذه الآية أن يطلقوا على مسلم ولا على ماله ولا على إذلاله، وإنما أباح حقن دمائهم فقط ولا مزيد، أما سمعوا قوله تعالى: * (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) * ومن أباح لكافر تملك مسلم فقد انقلبت صفتهم، فصاروا رحماء على الكافرين أشداء بينهم، نعوذ بالله من هذه الصفة القبيحة، وقوله تعالى: * (ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح) *.
حدثنا حمام، ثنا الاصيلي، نا المروزي، نا الفربري، نا البخاري، نا محمد بن العلاء، أنبأنا أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي (ص) قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، نا أبو إسحاق البلخي، نا الفربري، حدثنا البخاري، نا سعيد بن الربيع، نا شعبة عن الاشعث، سمعت معاوية بن سويد يقول: سمعت البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله (ص) بسبع، فذكر فيها

(5/616)


نصر المظلوم.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم، نا قتيبة، نا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله (ص) قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة.
وبه إلى مسلم، نا عبد الله بن مسلمة بن قعب، نا داود - بعني ابن قيس - عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله.
وبه إلى مسلم، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، نا أبي، نا زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله (ص): مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وبه إلى محمد بن عبد الله بن نمير، نا حميد بن عبد الرحمن، عن الاعمش، عن خيثمة، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله (ص): المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله.
قال أبو محمد: فأعرضوا عن هذا كله، وقد علمنا أنه لا ظلم للمسلم، ولا إسلام له ولا خذلان له، ولا تضييع لحاجته، ولا أتم لكربته، ولا فضيحة له، ولكل مسلم، ولا أشد خلافا على الله تعالى وعلى رسول (ص) من ترك المسلم والمسلمة عند المشرك يذلها ويطؤها، ووجب بهذا ضرورة أن الامام إذا تعاصى عليه خارج عن طاعته، ظالم طالب دنيا، فلم يراجع الطاعة إلا بأمان وعهود وعقود، على ألا يتعرض في شئ من حاله، ولا مما بيده، فإنه أمان فاسد، وعقد باطل، وعهود ساقطة، وشروط مفسوخة كلها، ولا يسقط عنه شئ إلا حد
المحاربة فقط بنص القرآن، إذ يقول تعالى: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) * ولا يسقط بذلك قود لمسلم في نفس فما دونها، ولا حد من حدود الله تعالى، ولا حق لمسلم في مال أخذه بغير حق، بل يقام عليه الحكم في كل ذلك بما أوجبه القرآن أو السنة، وإلا فالامام عاص لله تعالى إن أغفل ذلك.

(5/617)


قال أبو محمد: وهم يقولون فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها.
إنها تطلق عليه، ويحتجون ب * (أوفوا بالعقود) * ويرون في رسول أتى من دار الحرب فأسلم أنه يرد إلى الكفار، ثم يقولون في رجل كان له شريك مسلم في دار فعرض عليه شريكه أن يأخذ الشقص بما يعطى فيه، أو يترك فيبيعه ممن يريده، فأباح له شريكه أن يبيع، وعقد معه وأشهد الناس طائعا على ترك شفعته، وأنه لا يقوم بها، فباع الشريك - قالوا: فذلك العهد وذلك العقد - ساقطان لا يلزمان وله الاخذ بالشفعة.
قال أبو محمد: أفيكون في عكس الحقائق أشنع من هذا ؟ وهذا شرط قد جاء النص بإلزامه فأبطلوه، وهو حكم الله تعالى وحكم رسوله (ص)، وأجازوا شروطا منسوخة لا يحل عقدها الآن أصلا.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد ابن محمد، ثنا أحمد بن علي، نا مسلم، نا أبو الطاهر، نا ابن وهب، عن ابن جريج: أن أبا الزبير أخبره أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله (ص): الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه وبه إلى مسلم، نا محمد بن عبد الله بن نمير، نا عبد الله بن إدريس، نا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قضى رسول الله (ص) بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعه أو حائط
لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك.
فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به.
فهذا حديث قد صح سماع أبي الزبير من جابر، ولم يجعل النبي (ص) الاخذ أو الترك للشريك إلا قبل بيع شريكه، ولم يجعل له بعد البيع حقا إلا إن كان الشريك لم يؤذنه قبل البيع.
فعكس هؤلاء القوم الحقائق كما ترى، فيتركون احتجاجهم ب * (أوفوا بالعقود) * حيث شاؤوا فيبطلون العقود التي أمر الله تعالى بإمضائها ويحتجون ب * (أوفوا بالعقود) * حيث شاءوا فيمضون عقودا لا يحل لمسلم القرار على سماعها، فكيف إمضاؤها، مما قد جاء النص بإبطاله.
ويبطلون

(5/618)


من النذور ما قد أمر النبي (ص) بإنفاذه باسمه، كالنذر في الجاهلية الذي أمر عليه السلام عمر بالوفاء به، فعكس هؤلاء القوم في أقوالهم الحق عكسا، ويقولون من باع بيعا فاشترط شروطا تفسده.
فقال: أنا أسقط الشرط جاز ذلك وصح البيع.
قالوا: فإن باع بيعا إلى أجل مجهول فقال: أنا أعجل الثمن وأسقط الاجل، قالوا: فذلك لا يجوز والبيع فاسد.
قالوا: ومن اشترى عبدا بشرط أن يعتقه، فذلك جائز لازم له ولا يرده بعيب يجده فيه، لكن يأخذ أرش العيب، قالوا: فإن أعتقه بشرط ألا يفارقه لم يجز ذلك.
قالوا: ومن قال لآخر: بعني عبدك للعتق بأربعين دينارا.
فقال: لا بل بخمسين دينارا فأبى المشتري، فقال العبد لسيده: يعني منه بأربعين دينارا وأنا أعقد لك وأشرط لك على نفسي بالعشرة الدنانير الزائدة، وأشهد لك بذلك، فأجاب السيد إلى ذلك والتزم العبد العشرة الدنانير طائعا، وأشهد البينة على نفسه بذلك، فاشترى المشتري العبد فأعتقه، قالوا: لا يلزم العبد مما عقد على نفسه، وأشهد عليها به شئ أصلا، قالوا: فلو قال لعبده أنت حر وعليك خمسون دينارا -
جاز ذلك ولزم العبد أن يؤديها شاء أم أبى.
قالوا: ومن شارط عبده على أن يخدمه هذه السنة التي أولها شهر كذا ثم أنت حر والتزم العبد ذلك، فأبقى العبد تلك السنة كلها، قالوا: فهو حر ولا يلزمه من شرط الخدمة شئ، وقد ذكرنا قولهم في الشفعة.
وقالوا فيمن باع ثمر حائطه وشرط للمشتري على نفسه ألا يقوم بالجائحة إن أجيح فأجيح قالوا: لا يلزمه ذلك الشرط وله القيام بالجائحة، ثم قالوا في مريض شاور ورثته في أن يوصي بأكثر من ثلثه وهم في غير كفالته، فأجازوا له ذلك، فأوصى بأكثر من الثلث، ثم مات قالوا: يلزمهم ما التزموا ولا قيام لهم عليه.
قال أبو محمد: وهذا عكس الحقائق وإجازة ما لا يجوز، وتحليل ما حرم الله تعالى، وإبطال ما لا يجوز سواه وقالوا: لو تراضى المكاتب وسيده وتشارطا أن المكاتب متى فعل أمرا كذا فمحو كتابته بيد سيده، ففعل المكاتب ذلك الشئ، وأقر بفعله، أو قامت عليه بذلك بينة: قالوا: هذا شرط لا يلزم ولا يكون محو كتابته إلى سيده لكن إلى السلطان.

(5/619)


ثم قالوا: إن حكم خصمان بينهما رجلا من عرض المسلمين لا سلطان له، فحكم بينهما برضاهما، ثم امتنع أحد الخصمين، قالوا: ذلك الحكم لازم لهما ورضاهما به أو لا جائز عليهما.
وهذا كله ينقض بعضه بعضا، قالوا: فإن شرط على مكاتبه وصفاء غير موصوفين، قالوا: ذلك شرط جائز لازم، قالوا: فإن تشارطا برضا منهما أن ما ولد للمكاتب بل تمام أداء كتابته من ولد، فإنهم غير داخلين في الكتابة.
قالوا: هذا شرط لا يلزم ولا يجوز هذا هو قولهم إن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وأنه إن عجز عاد رقيقا، قالوا: فإن شرط على مكاتبه أضاحي مسماة،
وعملا معروفا.
وخدمة محدودة وكسوة، ثم أدى بالمكاتب نجومه مجموعة قبل حلول الاجل المشترط، أجبر السيد على قبضها وعجل العتق للمكاتب وبطلت شروطهما في الآجال التي اتفقت الامة على أنها شروط جائزة لازمة.
قالوا: وسقط شرط الخدمة والعمل والسفر بلا عوض يكلفه المكاتب، ولم يسقط شرط الاضحية والكسوة ولا يلزم أيضا، لكن يقول كل ذلك ويدفع قيمته مع ما عجل من نجوم كتابته، فأبطلوا شرط الآجال الذي صححه الله تعالى بلا دليل، وتكلموا في سائر الشروط، فأبطلوا بعضها وعوضوا من بعضها كل ذلك تحكم بلا دليل، ولكن تناقض لا معنى له.
فإن تعلقوا في إسقاط أجل المكاتب بعمر بن الخطاب - إذ أجبر أنسا على تعجيل عتق مكاتبه، إذ عجل له النجوم كلها - قيل لهم هذا: عجب من العجب، هذه قضيتان اختلف فيهما عمر وأنس، فخالفتم عمر حيث لا يحل خلافه، واتبعتم أنسا في إحدى القضيتين، ثم خالفتم أنسا حيث لا يحل خلافه في القضية الثانية وتعلقتم بعمر، وذلك أن عمر أجبر أنسا على مكاتبة سيرين فكان القرآن يشهد لعمر في هذه القضية بالصواب بقوله تعالى: * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * فخالفتم عمر وقلتم: لا يجوز أن يجبر السيد على مكاتبة عبده، وإن علم فيه كل خير ثم أجبر عمر أنسا على إسقاط الآجال في المكاتب، وتعجيل عتقه إذا عجل المكاتب كل ما عليه، وأنس يأبى ذلك، والنص يشهد لانس في هذه القضية بالصواب، لان هذا العقد في الآجال المشترطة في الكتابة داخلة في العقود التي اجتمعت الامة على جوازها،

(5/620)


فهي داخلة في عموم قوله تعالى: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * وكل عقد صح بنص أو إجماع فلا يجوز إبطاله إلا بنص آخر أو إجماع ولا نص ولا إجماع على إسقاط آجال المكاتب بتعجيل ما عليه، فخالفتم أنسا في هذه القضية، وخالفتم عمر في الاولى
فلو قيل لكم: اجتهدوا في الخطأ، ما أمكنكم أكثر من هذا.
قالوا: ومن وطئ مكاتبته فحملت، خيرت بين التمادي على المكاتبة وبين إسقاطها، ويذهب الشرط والعقد ضياعا.
قالوا: ومن كان له على آخر دين إلى أجل من طعام وذهب، إلى أجل مسمى فأتاه بهما قبل الاجل.
قالوا: يجبر على قبض الذهب قبل الاجل، ولا يجبر على قبض الطعام إلا حتى يحين الاجل.
فمرة يثبتون الشروط ويحتجون ب * (أوفوا بالعقود) * والمسلمون عند شروطهم ومرة يبطلون كل ذلك كيفما وافقهم.
قالوا: ومن كان له على آخر دين إلى أجل مسمى أو حال فقال له: أنا أنظرك بالدين الذي لي عليك إلى عشرة أيام بعد الاجل الذي هو إليه، وأهبك غدا دينارا، قالوا: يقضى عليه بالتأخير شاء أم أبى ولا يقضى عليه بالهبة الدينار الذي ذكر أصلا.
قالوا: ولو قال لغريمه: جئني بحقي قبلك، والحق حال لا مؤجل، وأنا أهبك نصفه فأتاه به، لزمه ما وعده أن يهبه وقضى عليه بذلك.
قالوا: ولو قال: مالي في المساكين صدقة.
لزمه ثلث ماله ولم يقض عليه به أن يتصدق بالثلث، فإن فرط حتى تلف الثلث، ولم يؤمر أن يتصدق منه بشئ، قالوا: فلو تصدق على إنسان معين بدار، قضي عليه بذلك، قالوا: فلو قال: داري هذه صدقة على زيد، أو قال على المساكين إن دخلت دار عمرو، فدخلها عامدا ذاكرا ليمينه، قالوا: لا يقضى عليه بشئ ولا يحكم عليه بإمضاء ما تصدق به لا للمعين ولا للمساكين، قالوا: ولو قال ذلك في غير يمين قضي عليه بإمضاء ما تصدق به على المعين.
قالوا: فلو قال عبدي حر إن دخلت دار عمرو، فدخلها قضي عليه بعتق العبد.
قالوا: ولو قال في نذر: إن جاء أبي سالما فعلي أن أعتق عبدي هذا حرا لله، فجاء أبوه سالما، لم يقض عليه بعتق ذلك العبد، فلو قال: إن اشتريت عبد فلان فهو حر، فاشتراه، قالوا يقضى عليه بعتقه، وهذا ضد النص، وضد حكم
النبي (ص) إذ يقول: من نذر أن يطيع الله فليطعه، وإذ يقول عليه السلام.

(5/621)


إنه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، فقضوا هم عليه بإمضاء النذر فيما لم يملك، إذ نذره ولم يقضوا عليه بالطاعة التي ألزمه الله تعالى إمضاءها والوفاء بها.
قالوا: فلو قال: أنا أهبك غدا درهما لم يقض عليه بذلك، قالوا: ولو قال له: إن ابتع هذا الثوب أنا أقويك بثمنه وبدرهم أهبه لك، قالوا: يقضى عليه بذلك، قالوا: ومن شرط لامرأته أن لا يرحلها، ولا يتسرى عليها، ولا يتزوج عليها، لم يلزمه شئ من ذلك، وجاز له النكاح، وله أن يرحلها ويتسرى عليها، ويتزوج، قالوا: فلو زاد في كل ذلك فإن فعل فأمرها بيدها، أو قال: فالسرية حرة والداخلة بنكاح طالق، فإن كل ذلك يلزمه ويقضى عليه به.
قال أبو محمد: وليس في التلاعب أكثر من هذا، قالوا: ومن شرط على نفسه نفقة امرأة ولده الناكح، ولم يلزمه في الكبير وثبت النكاح، واختلفوا في لزوم ذلك في امرأة الصغير.
قالوا: فإن تزوج امرأة على أنه إن جاء بصداقها المسمى إلى أجل مسمى فذلك وإلا فلا نكاح بينهما.
فسخ أبدا جاء بالصداق إلى ذلك الاجل أو لم يجئ، هذا مع قولهم إن من شرط في البيع شرطا يفسده فرضي بإسقاط الشرط صح البيع، وهم يقولون: إن البيوع تشبه النكاح، حتى إنهم أبطلوا النكاح حين النداء إلى الجمعة قياسا على بطلان البيع حينئذ، ثم قالوا: فإن تزوجها بصداق مسمى إلى الميسرة، فإن رضي بإسقاط الشرط عجل الصداق جاز النكاح، وإن أبى من إسقاط الشرط فسخ النكاح.
قالوا: ومن قال لآخر: إن جئتني بأمر كذا في وقت كذا فقد زوجتك ابنتي فلانة فأتى بذلك الشئ في ذلك الوقت، قالوا: لا يجوز له أن يفي بهذا الشرط، فإن أنكحه بذلك الشرط فسخ النكاح أبدا، قالوا: ومن زوج أمته عبد غيره
وتشارطا أن ما ولدت فهو حر، فسخ النكاح ولزم سيدها تحرير ما ولدت بالشرط، قالوا: فلو تشارطا أن ما ولدت فهو رقيق بينهما، قالوا: ينفذ النكاح ويثبت والولد رقيق لسيد الامة، ويبطل الشرط ففي الاول بطل النكاح وثبت الشرط، وفي الثانية عكس ذلك، وهو ثبات النكاح وبطلان الشرط، قالوا: فلو تزوج امرأة على أن لها من النفقة كذا وكذا، فدخل بها، قالوا: بطل الشرط وينفذ النكاح، ولها نفقة أمثالها.

(5/622)


قالوا: فلو تزوجها على أن أمرها بيدها إن تزوج عليها، قالوا: يثبت النكاح ويثبت الشرط ويكون أمرها بيدها إن تزوج.
قالوا: إن تزوجها على ألا ينفق عليها ورضيت بذلك، وأشهدت على نفسها، فدخل بها ثم بدا لها، قالوا: ذلك لها ولا يلزم ذلك الشرط، ويقضى لها عليه بالنفقة.
قالوا: فلو تزوج امرأة على مائة، فلما هموا بالفراغ قالوا: يضع لك خمسين على ألا تخرجها من دارها، أو قالوا: من ولدها، فقال: نعم، فزوجوه على ذلك الشرط، وهو راض وهي راضية وتشاهدوا، ثم بدا له فأراد إرحالها، قالوا: ذلك له، ويوفيها المائة الكاملة، ولا يلزم واحدا منهما ما تشارطاه، فلو قالت له: أتزوجك بمائة وأضع عنك خمسين على أن تخرجني.
فقال: نعم، وتشاهدا على ذلك، فلما تزوجها أراد أن يرحلها قالوا: فذلك له شرط على نفسه في ألا يرحلها مفسوخ، وشرطها على نفسها فيما أسقطت عنه من الخمسين لازم لها لا ترجع عليه بشئ، قالوا: فلو قال لها: إن رحلتك فأمرك بيدك، فذاك لازم له، قالوا: ولو قال لها: إن غبت عنك سنة فأمرك بيدك، فله أن يطأها قبل أن يغيب، ولا يسقط بذلك ما جعل لها من الشرط، قالوا: فلو قال لها وهي حامل: إذا وضعت حملك فأمرك بيدك، قالوا: فإن وطئها بعد هذا القول وقبل أن تضع حملها فقد سقط ما جعل من لها الشرط.
وقالوا: من خالع امرأته على أن عليها نفقة ولدها ست سنين، لم يلزمها من ذلك إلا رضاع سنتين فقط، ثم تعود النفقة على الاب، ويسقط عنها ما شرطت على نفسها، قالوا: فإن طلقها طلقة سنة فأعطته مالا على أن لا رجعة له عليها، قالوا: ذلك لازم لها وله، وكأنه خلع، قالوا: فلو تشارطا في الخلع: إنك إن خاصمتني فأنت امرأتي فخاصمته، فإن لها ذلك، والشرط باطل لا يلزم.
قال أبو محمد: فهلا قالوا: هو لازم، وكأنه رجعة، كما قالوا في التي قبلها وكأنه خلع، قالوا: ومن كان لامرأته عليه دين فخالعها على أن يجعل لها نصف الدين، وتبرئه من الباقي، قالوا: فالطلاق نافذ، والابراء جائز لازم وتجير على أن ترد إليه ما عجل فيبقى إلى أجله، هذا وهم يجبرون سيد المكاتب والغريم على قبض ما عجل لها، بضد ما فعلوه في المرأة قالوا: وإن قالت أمة تحت عبد: إن أعتقت فقد تخيرت نفسي أو قالت: فقد تخيرت زوجي، وأشهدت على نفسها بذلك،

(5/623)


قالوا: فليس ذلك بشئ، ولا يلزمها، ولها استئناف الخيار إن أعتقت، وهم يقولون في عبد أو حر قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، أو قال: كظهر أمي.
فتزوجها القائل ذلك، فهي طالق وكظهر أمه، ويقولون في قائل قال: إن وكلني زيد بطلاق امرأته فلانة فهي طالق، فوكله زيد بطلاق تلك المرأة، إنها لا تكون طالقا إلا أن يحدث لها الوكيل طلاقا إن شاء، وإلا فلا، ويقولون في قائل قال: متى طلقت زوجتي أو قال: إن طلقت زوجتي هذه فهي مراجعة مني، فطلقها، قالوا: لا تكون مراجعة بذلك، إلا أن يحدث لها رجعة إن شاء.
قالوا: ومن باع جارية على أن تعتق فذلك جائز لازم، قالوا: فإن باعها على أن لا تباع، قالوا: لا يجوز ويفسخ البيع إلا أن يرضى البائع إسقاط الشرط فيتم البيع ويسقط الشرط.
وقالوا: ومن باع بثمن مجهول فسخ البيع، فإن باع
نصف جارية له من زيد، واشترط على المشتري نفقتها سنة، قالوا: إن كان ذلك ثابتا في الحياة والموت جاز الشرط، وليس في الثمن المجهول أكثر من هذا لاختلاف الشبع، وتناول النفقة في الصحة والمرض، قالوا: ومن باع سلعة بثمن مسمى على أن يتجر له في ثمنها سنة، فلا بأس بذلك، إذا كان ذلك ثابتا عليه إن تلف الثمن أخلف مكانه غيره، وهم لا يجيزون القراض إلى أجل.
قالوا: من عرف كيل صبرة له من طعام، فابتاعها منه مبتاع جزافا وقال له المشتري: ما أبالي عرفت أنت أيها البائع كيلها أم لم تعرف، فتبايعنا على ذلك، قالوا: فلا يلزم هذا الشرط المشتري، وله أن يرد إن شاء، قالوا: فلو لم يعلم البائع كيلها فباعها جزافا قالوا: فذلك للمشتري لازم ولا رد له.
وتناقضهم فيما يلزمونه من العقود والشروط، وما لا يلزمونه منها، أكثر من أن يحصى أو يحاط به إلا في المدة الطويلة، وفيما ذكرنا كفاية لمن عقل، والحنفيون مثلهم في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فلما قام البرهان بكل ما ذكرنا، وجب أن كل عقد أو شرط أو عهد أو نذر التزمه المرء فإنه ساقط مردود، ولا يلزمه منه شئ أصلا، إلا أن يأتي نص أو إجماع على أن ذلك الشئ الذي التزمه بعينه واسمه لازم له، فإن جاء نص أو إجماع بذلك لزمه وإلا فلا، والاصل براءة الذمم من لزوم جميع الاشياء

(5/624)


إلا ما ألزمنا إياه نص أو إجماع، فإن حكم حاكم بخلاف ما قلنا فسخ حكمه، وورد بأمر النبي (ص)، إذ يقول: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
قال أبو محمد: فإذ قد ثبت كل ما ذكرنا بالبراهين الضرورية، فقد ثبت أن كل ما لا يصح بصفة ما وشرط ما، وعقد ما، ففسدت تلك الصفة وذلك الشرط وذلك العقد في حين التعاقد، فإن ذلك الشئ لا يصح أبدا، ويبطل ذلك العقد
ويفسخ أبدا لان ما تعلقت صحته بما لا يجوز فلا صحة له، إذ لم يصح ما لا تمام له إلا به، وهذا أمر يعم بالضرورة، وبذلك وجب إبطال كل نكاح انعقد بشرط فاسد أو بصفة فاسدة، وكذلك كل بيع انعقد على ما لا يجوز فإن كل ذلك يفسخ أبدا ووجب بذلك بطلان كل صلاة صليت في مكان مغصوب يعلم المصلي فيه أنه مغصوب وكل صلاة فعل فيها المرء ما لا يجوز له، وبذلك حرمت ذبيحة الغاصب والسارق والمعتدي وبسكين مغصوبة، وبالله تعالى التوفيق.
وصح بهذا كله أن كل عقد أو عهد أو نذر أو شرط أوجبها أو أباح إيجابها نص، فإنها نافذة لازمة، فمن ادعى سقوط شئ من ذلك فقوله باطل وكل ذلك باق بحسبه لازم كما كان، إلا أن يأتي مدعي بطلانه بنص على بطلانه، فيجب الوقوف حينئذ عند ما أوجبه النص، مثال ذلك: أن الاجارة عقد قد جاء النص بجوازه وإباحة التزامه، وصح الدليل من النص والاجماع، على أن الاجارة إلى غير أجل وعلى غير عمل محدود باطل مردودة لا تجوز، لانها أكل مال بالباطل، والاجارة على ما ذكرنا حرام مردودة بإجماع الامة كلها من مجيز لها ومن مانع منها وبالنص.
ولا بد أن تكون الاجارة إلى أجل معلوم، أو إلى غير أجل، ولا سبيل إلى قسم ثالث بوجه من الوجوه، وقد بطل أحد القسمين المذكورين، فوجب ضرورة - إذ قد جاء النص بإباحة الاجارة - أن يصح القسم الآخر فصح وجوب ذكر الاجل المسمى في الاجارة ضرورة بالنص، وبمقدمتي الاجماع اللتين، ذكرنا فإذ قد صح ذلك فذكر الاجل في عقد الاجارة شرط صحيح، وإذا كان ذلك فقد ثبت عقده وما ثبت عقده الآن، فلا يبطل في ثان إلا بنص، فصح أن لا رجوع للمؤاجر ولا للمستأجر فيما عقدوه، ما داموا أحياء، وما لم ينتقل ملك الشئ المستأجر عن المؤاجر له، وما كانت عين ذلك الشئ قائمة.
فإن انتقل الملك

(5/625)


أو مات أحدهما بطل عقد الاجارة، لقول الله عز وجل: * (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * وليس صحة عقد الاجارة مانعا من إخراج المؤاجر عن ملكه الشئ الذي أجر، وإن أدى ذلك إلى بطلان العقد، لان البيع مباح له بالنص، وليس بيعه ماله نقضا لعقده، وإنما ينقض ذلك العقد ملك غير العاقد للشئ المعقود فيه.
قال أبو محمد: وقال بعضهم: أنتم إذا منعتم من نقض عقد الاجارة والكتابة والتدبير والعتق بصفة ثم أجزتم للعاقدين أن يخرجوا عن ملكهم الاعيان التي عقدوا فيها هذه العقود، وذلك مبطل للعقود، فقد تناقضتم وأجزتم إبطالها، قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: لم نمنع قط من أن يفعل الانسان في ماله ما أبيح له قبل العقد الذي عقد فيه.
وليس ذلك العقد بمحرم عليه ما كان له حلالا من إخراج ذلك الشئ عن ملكه، ومدعي هذا متحكم في الدين، قائل بغير بيان من الله تعالى، وإذا منعنا أن يفسخ بقوله ما عقد بقوله مما أبيح له عقده، أو أمر به فقط، وإنما يلزم هذا التعقب القائلين بالقياس، الذي يحرمون به المسكوت عنه، لتحريم المأمور بتحريمه، والرهن وغيره سواء فيما ذكرنا، إذا لم يمنع من إخراجه من الرهن بالبيع والعتق نص.
وأما المنكرون لهذا فقد تناقضوا فيه أقبح تناقض وقالوا بما أنكروه علينا يعني أصحاب مالك.
فقالوا: لا تقبل شهادة النساء في عتق أصلا، ثم قالوا: إن شهدت امرأتان بدين على زيد لعمرو حلف عمرو معهما، ورد عتق زيد لعبده الذي أعتقه ودين عمرو محيط بماله، فقد أجازوا في رد العتق شهادة النساء، وكذلك قالوا: لو شهدت امرأتان بابتياع زيد وعمرو لامة كانت تحت زيد، قبلتا مع يمين البائع، وفسخ نكاح الامة ومثل هذا لهم كثير جدا.
قال أبو محمد: ومن استؤجر على عمل معلوم، فهو عقد قد جاء النص بإباحته، واتفق القائلون بالاجارة على لزومه في حين عقده، واختلفوا هل ينفسخ في ثانية
أم لا ؟ فوجب أن يبقى على ما جاء الدليل به من صحته ما لم يأت نص بفسخه، وهكذا القول في المدبر وفي الموصي بعتقه وفي المعتق بصفة، وفي المكاتب -: أنها عقود قد اتفق الناس على ما جاءت به النصوص من صحتها في حين عقدها، وعلى القضاء بها ما لم يرجع العاقد لها فيها، ثم اختلفوا هل لعاقدها فسخها في ثاني عقده

(5/626)


إياها أو لا: فوجب ألا يكون له في شئ منها رجوع إلا بنص، ولا نص ولا إجماع في إباحة الرجوع في ذلك، لا بتراضيها ولا بغيره، فلا يجوز أصلا بخلاف المؤاجرة، وكان إخراجه لكل ما ذكرنا عن ملكه جائزا، ويبطل بذلك العقد لانتقال الملك، كما قلنا في الشئ المؤاجر ولا فرق.
وأما المكاتب فإنما يخرج عن الملك منه ما لم يؤد خاصة، وفي ذلك المقدار يبطل العقد لا فيما أدى وهو قول علي وروايته عن النبي (ص) وقد جاء النص ببيع المدبر وبيع المكاتب ما لم يؤد، فوجب إباحة ذلك وممن رأى للمؤجر والمستأجر أن يفسخ الاجارة أيهما شاء متى شاء قبل الاجل، وإن كره الآخر - مسروق وشريح والشعبي، وممن رأى ألا رجوع لموصي في العتق خاصة الاوزاعي والثوري، وأما العارية فبخلاف ما ذكرنا، لان العارية المطلقة التي ليست إلى أجل هي التي صحت بالنصوص وبالاجماع، وأما شرط التأجيل فيها فهو باطل، لانه شرط ليس في كتاب الله تعالى، ولا جاء به نص ولا إجماع فهو باطل.
وجمهور الفقهاء يقولون: إن العارية التي يشترط التأجيل فيها ليست شيئا، وهو شرط لا يلزم، فلم يتفق على صحته فهو باطل، وكذلك الوعد بالعارية لا يلزم لما ذكرنا.
وهكذا القول في ضمان ما لم يلزم بعد من المال.
وفي ضمان الوجه: أن كل ذلك باطل، لانها شروط لم يأت بصحتها نص ولا إجماع، ويبطل بما ذكرنا ضمان النفقة على زيد، وعلى من لم يأت نص ولا إجماع بإيجاب النفقة عليه، وهكذا
ضمان الصداق عمن لم يتزوج بعد، ووجب بما ذكرنا الرجوع في الشركة والقراض لايهما شاء متى شاء، وإن كره الآخر، لان شرط التأجيل فيها باطل، إذ لم يأت بإباحته نص ولا إجماع.
وهكذا القول في كل شرط شرطه المحبس في الحبس من أجل محدود، أو من بيعه إن احتيج، كل ذلك باطل لما ذكرنا، وكذلك إن شرط في الهبة والعمرى والرقبى استرجاع شئ منها، فهو باطل كله لما ذكرنا، بخلاف وجوب ذكر الاجل في الاجارة، وبخلاف وجوب الرجوع في العارية.
وأما ضمان ما قد وجب من الاموال فهو عقد مجمع على صحته، وقد جاء النص به، وكذلك الحوالة وإذ هما كذلك فلا رجوع لاحد فيها لما ذكرنا من أن

(5/627)


ما صح في أول لم يبطل في ثان إلا بنص أو إجماع، وكذلك الحبس والهبات والصدقات والعمرى كل ذلك قد بان عن الملك، فالرجوع فيه كسب على غيره وقد جاء النص ببطلان ذلك، قال الله تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * وأما القرض المؤجل فقد صح النص فيه بالاجل، وإذا صح بالنص فهو ثابت فلا رجوع لاحد فيه إذا كان شرط الاجل في حين القرض لقوله تعالى: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فإن انعقد حالا، ثم شرط على نفسه أجلا فهو شرط فاسد لا يلزمه، والدين حال كما كان، لانه شرط ليس في كتاب الله، ولا أجمع على لزومه فهو باطل.
وأما المزارعة والمساقاة المعقودتان إلى أجل فقد ادعى قوم أن كل من أجازهما - وهم أهل الحق - قد أجازوهما إلى أجل مسمى، فالاجل فيهما شرط صحيح.
وإذا كان صحيحا في حين العقد فهو لازم، وإذا كان لازما في وقته لم يبطل في ثانية إلا بنص أو إجماع، ولا نص ولا إجماع في ذلك إلا بتراضيهما معا، للاجماع على
جواز ذلك.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، بل قد صح الاجماع على عقدهما بغير أجل، ولم يأت عن أحد من الصحابة، ولا من التابعين تجويزهما إلى أجل فعقدهما إلى أجل لا يجوز البتة، لانه لم يوجد نص ولا إجماع، فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل بحكم النبي (ص).
وليس تراضي المتعاقدين عقدا صحيحا، أو المتشارطين شرطا صحيحا، بنص أو إجماع ثم تراضيا معا على فسخه أو تأجيله، مجيزا لهما ذلك، بل رضاهما بفسخه أو تأجيله، باطل، والعقد والشرط باق كما كان، إلا أن يبيح لهما النص أن يتراضيا على فسخه، فيكون لهما ذلك حينئذ، وإلا فلا، لانه ليس لاحد أن يوجب، ولا أن يحرم، ولا أن يحلل إلا بنص، ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله، قال الله تعالى: * (أم للانسان ما تمنى) *، والكل عبيد لا أمر لهم ولا حكم إلا ما حكم به عليهم، ولهم خالقهم ومولاهم عز وجل.
وأما النكاح والبيع فقد جاء النص بصفة عقدهما، وبصفة فسخهما، فليس

(5/628)


لاحد أن يعقدها بغير تلك الصفة، فإن فعل فليس نكاحا ولا بيعا، وهو مردود مفسوخ أبدا.
ومن عقدهما كما أمر فليس له فسخهما إلا بالصفة التي أتى النص بفسخهما بها، وإلا كان فسخه باطلا مردودا، وثبت عقدهما كما كان، وقد حرم بيع أم الولد بالنص الوارد في ذلك مما قد ذكرناه في كتاب الايصال وفي المحلى، فلم يلتفت إلى الخلاف في ذلك.
وقد صح النص بجواز الهبة ووجوب قبولها، وتحريم الرجوع فيها، فلم يجز الرجوع في شئ من الهبة ولا الصدقة من ذلك حاشا العطية للولد فقط، للنص في ذلك، ولم يأت نص ولا إجماع على رد الحبس لا بتراض ولا بغير تراض فلم يجز أصلا.
قال أبو محمد: فإن قال قائل: أنتم لا تلزمون أحدا الوفاء بعهده ووعده إلا أن يوجب ذلك عليه نص، ومن مذهبكم أن وعد الله تعالى ووعيده نافذان لا سبيل إلى دخول خلف فيهما.
فالجواب: أن هذا الذي نقول هو الذي لا يجوز تعديه، لاننا متعبدون ليس لنا أن نلتزم شيئا إلا ما ألزمنا خالقنا تعالى، فإلزامنا فعل شئ لم يأتنا نص ولا إجماع بأن نفعله باطل، والله تعالى ليس كذلك، لانه ليس فوقه أمر فكل ما قضى به نافذ وكل ما قاله فحق.
وأيضا فوعدنا نحن ليس خبرا لانه لا علم لنا بما يكون في المستأنف، والله تعالى ليس كذلك، لانه عليم بما يكون قبل أن يكون، فكل ما أخبر تعالى أنه يفعله فلا بد أن يفعله، ومن أجاز غير ذلك أجاز على الله تعالى الكذب في خبره، تعالى الله عن ذلك قال الله عز وجل: * (قال فالحق والحق أقول) * ما خالف الحق فهو باطل تعالى الله عن الباطل، فوعد الله تعالى ووعيده خبر لا بد من كونه لانه حق وصدق وعلم منه تعالى بما يكون من ذلك، وعلمه صادق لا يخيس أصلا.
ولا يظن ظان أننا نقول بالوعيد كقول المعتزلة: من إبطال سيئة واحدة للحسنات، ومن الخلود على المصر على الكبائر، ومعاذ الله من ذلك.
ولكنا نقول بما جاء به النص من الموازنة، وذهاب السيئات بالحسنات، بمعنى أن الحسنات تذهب السيئات، وبأن من استوت حسناته وسيئاته، أو رجحت حسناته لم ير نار أصلا، ولكن من رجحت سيئاته وكبائره ممن مات مصرا فهؤلاء الذين يخرجون من النار بالشفاعة، ولا خلود على مسلم في النار، ولا يدخل الجنة كافر أبدا، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(5/629)


الباب الرابع والعشرون وهو باب الحكم بأقل ما قيل قال أبو محمد: رحمه الله: ادعى قوم أن هذا أيضا نوع من أنواع الاجماع
صحيح لا شك فيه.
وقالوا: لانه قد صح إلزام الله عز وجل لنا اتباع الاجماع والنص، وحرم علينا القول بلا برهان، فإذا اختلف الناس في شئ فأوجب قوم فيه مقدارا ما وذلك نحو النفقات والاروش والديات، وبعض الزكوات وما أشبه ذلك، وأوجب آخرون أكثر من ذلك المقدار فإنهم قد اتفقوا على وجوب اخراج المقدار الأقل كلهم بلا خلاف منهم، واختلفوا فيما زاد على ذلك، فالاجماع فرض علينا أن نأخذ به.
وأما الزيادة فدعوى من موجبها، إن أقام على وجوبها برهانا من النص أخذنا به والتزمناها، وإن لم يأت عليها بنص فقوله مطرح وهو مبطل عند الله عز وجل بيقين لا شك فيه، ونحن محقون في الاخذ بأقل ما قيل عند الله عز وجل بيقين، لانه أمر مجتمع عليه والاتفاق من عند الله عز وجل، ولزوم ما اجتمع عليه فرض لا شك فيه، والاختلاف ليس من عند الله عز وجل قال الله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.
قال أبو محمد: كان يكون هذا حقا صحيحا لو أمكن ضبط أقوال جميع أهل الاسلام في كل عصر، وإذ لا سبيل إلى هذا فتكلفه عناء لا معنى له، ولا بد من ورود النص في كل حكم من أحكام الشريعة، لكن إذا ورد نص بإيجاب عمل ما فبأقل ما يقع عليه اسم فاعل لما أمر به، يسقط عنه الفرض، كمن أمر بصدقة، فبأي شئ تصدق، فقد أدى ما أمر به، ولا يلزمه زيادة، لانها دعوى بلا نص ولا غاية لذلك فهو باطل.
ولا سبيل إلى أن يكون الله تعالى حكم في الشريعة آيلزمنا لم يجعل عليه دليلا من نص، وقال الله تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) * فما لم يكن في الكتاب فليس من الدين في شئ، وهو ساقط عنا بيقين، ومنهم من قال: بل نأخذ بأكثر ما قيل، لانه لا يخرج من لزمه فرض عما لزمه إلا بيقين، ولا يقين إلا بعد أن يستوعب كل ما قيل.

(5/630)


قال أبو محمد: وهذا باطل، لانه صار بهذا القول قافيا ما ليس له به علم، ومثبتا حكما بلا برهان، وهذا حرام بنص القرآن وإجماع الامة، وكل من خالفنا في هذا الاصل فإنه يتناقض ضرورة ويرجع إلى القول به.
ألا ترى أننا اتفقنا كلنا على إيجاب خمس صلوات وادعى قوم أن الوتر فرض فوجب الانقياد لما اجتمعوا عليه، وترك ما اختلفوا فيه، إلا أن يأتوا بدليل على ما زادوا.
وكذلك اتفقنا على أن في خمسين من البقر بقرة، وقال قوم: في كل خمس بقرات شاة، وقال قوم: في الثلاثين تبيع وفي الاربعين، وقال قوم: فيما زاد على الاربعين بحساب ذلك بجزء من بقرة، فوجب الاخذ بما اتفقوا عليه، وترك ما اختلفوا فيه، إذا لم يأتوا بدليل على ما ادعوا من ذلك.
ووجب أن يلزم أحدا إلا البقرة في خمسين، وهي المتفق عليه منهم ومن غيرهم، لا ما زاد في إيجاب الغرامة في ذلك.
ثم نقول لمن خالفنا في هذا الاصل: أرأيت إن اجتمع الناس على مقدار ما ؟ ثم قال قوم بأزيد منه، ولم يأتوا على صحة قولهم بدليل: هل لك بد من ثلاثة أوجه لا رابع لها، إما أن تقول بما أجمعوا عليه، وبترك ما اختلفوا فيه، وهو قولنا هذا الذي خالفتنا فيه، أو تأخذ بأكثر ما قيل بلا دليل فتصير قافيا ما ليس لك به علم ومثبتا حكما بلا برهان، فهذا حرام بنص القرآن، وبإجماع الامة، لم يقل به أحد، ويصير قائله منتهكا إما عرضا حراما، وإما مالا حراما، وإما موجبا شرعا لم يأذن به الله تعالى، وكل ذلك حرام لا يحل أصلا.
وإما أن يترك هذين القولين فيفارق الاجماع جملة، ويأتي أيضا بقول لم يقله أحد فإذ قد سقط هذان القولان بالضرورة البرهانية، صح القول الاول ضرورة بيقين لا بد منه، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: لا يجوز أن يخلو أحد القولين من دليل عليه، إما أن يقوم الدليل على صحة القول بالمقدار الاقل، وإما أن يقوم الدليل على صحة الزيادة عليه.
قال أبو محمد: لسنا نحتاج إلى التطويل معه ههنا، لكنا نقول، وبالله تعالى التوفيق، لسنا ننازعك فيما قام الدليل عليه، وإنما نسألك عن مسألة قال فيها قوم بمقدار ما، وقال آخرون بزيادة لا دليل عليها بأيديهم - شرط أن تكون المسألة من مسائل الاجماع المجرد التي قد أحال النص فيها على طاعة أولي الامر منا على اتباع سبيل المؤمنين.

(5/631)


فإن قلت: إن عدم الدليل على صحة الزيادة على أقل ما قيل هو دليل على صحة القول بأقل ما قيل، فهذا هو نفس قولنا شئت أم أبيت، وبالله تعالى التوفيق.
وقد احتج بعض من ضغط هذا الباب، ممن اضطر إلى الشغب بمثل ما نذكره وشبهه إلى أن قال: ما الفرق بينكم وبين من قال: هذه قصة قد لزم فيها حكم بإجماع، فلا يخرج المرء عما لزم بإجماع إلى سقوطه عنه إلا بإجماع آخر، فالواجب أن يقال بأكثر ما قيل.
فيقال له: هذا تمويه فاسد، لانهما أمران أردت مزجهما وتصييرهما أمرا واحدا.
ولا يصح ذلك، لان كون وجوب الحكم في مسألة ما هو شئ آخر غير وجوب مقدار ما في ذلك الحكم.
فليس اتفاق الامة على أن ههنا حكما واجبا مما يوجب في ذلك مقدارا محدودا، بل هذا هو باب آخر، فإذا وجب الحكم نظرنا حينئذ في قدر الحكم فيه بنص وارد، فإن لم يرد نص صرنا فيه إلى الاجماع، فالعدد المتفق عليه واجب قبوله بإجماع، ومن ادعى زيادة كلف الدليل، فإن أتى به لزم اتباعه، وإلا سقط قوله بقول الله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
ومن هذا النوع هو علمنا أن علينا دينا وشرائع، إلا أنه من ادعى وجوب شئ ما يدخله في الشرع، لم يلتفت إليه، ولم يجب قبوله إلا بنص أو إجماع، وهكذا علمنا بوجوب حكم ما علينا ليس يوجب قبولنا من كل من حد لنا ذلك الحكم بحد ما، إلا أن يأتي على حده بنص أو إجماع.
وهذا كله باب واحد،
والاصل أن لا حكم على أحد ولا شيئا حراما على أحد بقوله تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا) * وبقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ئ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) *.
وبقوله (ص): إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فلا يحل لاحد من مال أحد ولا من دمه ولا من عرضه ولا من بشرته إلا ما أباحه نص أو إجماع، وما عدا ذلك فباطل بالنصوص التي ذكرنا، فأقل ما قيل في كل ما ذكرنا: هو واجب بالاجماع على وجوبه، وكل زيادة على ذلك فباطل، إلا أن يأتينا مدعيها بنص يصحح قوله.

(5/632)


وصح بالنص المذكور أنه إن اتفق الناس أو جاء نص بإيجاب مقدار منا من عرض مسلم أو بشرته أو ماله فهو وجوبه، ثم إن ادعى مدع وجوب زيادة في ذلك ولم يأت على صحة دعواه بنص فهو باطل بيقين، لانه لا محل ما قد حرم الله تعالى، وكذلك القول فيمن حرم شيئا مما في الارض حاشا ما جاء في تحريمه نص أو إجماع.
وكذلك من فرض شيئا زائدا على ما أوجب أنه فرض نص أو إجماع وكفى بهذا بيانا.
ويلزم من قال بخلاف هذا إن كان مالكيا، أو شافعيا أن يوجب الزكاة في العسل، لان الامة مجمعة على أن في الاموال زكاة بقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * فيلزمهم ألا يسقط هذا الحق اللازم بإجماع إلا بإجماع آخر، ولزمه إن كان حنفيا أن يوجب الزكاة في الحلي والعوامل بما ذكرنا، ومثل هذا كثير جدا، مسقط أكثر مذاهبهم، ومفسد لجمهور أقوالهم في الصلاة والطهارة والحج وسائر أبواب الفقه كلها، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: إذا قلتم لو كان هذا القول الزائد واجبا لجاء به دليل، فماذا تقولون لمن قال لكم لو كان ساقطا لجاء بإسقاطه دليل، فالواجب: أن هذا قول صحيح وقد نصصنا على الدلائل الواردة بإسقاط كل قول بتحريم، أو بتحليل أو إيجاب حكم لم يأت بصحته نص أو إجماع، وهي الآيات التي تلوناها آنفا فوجب بها أن كل مقدار اتفق على وجوبه أو أخذه فهو واجب، ومن زاد على ذلك بدعواه شيئا فهو مفتر مبطل بتلك النصوص ما لم يأت على صحة دعواه بنص، وهذا أمر جلي لا إشكال فيه، ولا يذهب عنه إلا مخذول أو معاند، وإنما هذا فيما لم يرد فيه نص، وأما ما جاء فيه نص فلا نراعي فيه ما اتفق عليه منه، ولا نبالي بمن خالفنا حينئذ، ولا نراعي فيه استصحاب حال ولا أقل ما قيل فيه.
ولكن نأخذ بالنص زائدا كان على ما اتفق عليه، أو ناقصا عنه، أو موافقا له، لان الدليل قد قام حينئذ والبرهان صح على وجوب الانتقال إلى ما جاء به النص، وصح بذلك الاخذ بالزائد على أقل ولو لم ينفرد بالرواية للزائد إلا إنسان واحد ثقة، وخالفه جميع أهل الارض، لكان القول بما رواه ذلك الواحد واجبا، لانه محق ولكان فرضا علينا خلاف كل من خالف رواية ذلك الواحد، ولو أنهم جميع أهل الارض

(5/633)


سواء، لانهم كلهم حينئذ مبطلون يلزمهم قبول رواية ذلك الواحد، الحق أكثر من كل من خالفه، وأولى أن يتبع.
قال الله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) * فعم تعالى ولم يخص، وقال تعالى: * (لا تكلف إلا نفسك) *.
فإن قال قائل: فما تقولون في شاهدين شهد أحدهما لزيد على عمرو بدينار، وشهد له الآخر عليه بدينارين.
أتقولون بأقل ما اتفقنا عليه ؟.
قال أبو محمد: هذا قد قام البرهان من النص على وجوب القضاء له بالدينار
بشهادتهما، ومن نص آخر ثان يقضي له بالدينار الباقي إن حلف المدعى له ما شاهده، فهذا من باب ما قام الدليل على وجوب الحكم بالزيادة فيه، وقد قال بعض من خالفنا: إن القائل بما أخذتم به، من أقل ما قيل لم يقل به، لانه أقل ما قيل، وإنما قال به لدليل ما أوجبه عنده، فقولوا بدليله حتى نناظركم عليه.
قال أبو محمد: فيقال من قال بهذا، وبالله تعالى التوفيق: إنا لا نتعنى باستدلال المستدلين، لانه قد يستدل المرء بدليل غير واجب، فيخرجه البحث إلى قول صحيح كما عرض لابن مسعود، إذ سئل عن امرأة توفي عنها زوجها قبل أن يدخل بها وقبل أن يفرض لها صداقا، فقال: بعد شهر أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله تعالى، وإن كان خطأ فالله ورسوله بريئان، ثم أفتى بما وافق الحق من فعل رسول الله (ص) دون أن يكون علمه.
فنحن لا نبالي باستدلال ابن مسعود بل لا نقول به أصلا، لكنا نقول بما أخرجه إليه السعد، لانه وافق قضاء رسول الله (ص)، فإذا وجدنا القائل قد أوجب مقدارا ما، ووافقه على إيجابه جميع العلماء أولهم عن آخرهم، فقد أوجب الله تعالى علينا اتباع الاجماع وأن لا نخالف سبيل المؤمنين وأولي الامر منا.
ولا نبالي باستدلاله في ذلك، إذ لم يأمر الله تعالى باتباع استدلال الواحد أو الطائفة من العلماء، وإنما أمرنا تعالى باتباع ما اتفقوا عليه، وترك ما تنازعوا فيه حتى نرده فنحكم فيه القرآن والسنة، فقد فعلنا ذلك، فأخذنا بما أجمعوا عليه وهو أقل ما قيل: لقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * فلا يحل لمسلم خلاف هذا، وكلفنا من زاد على ذلك المقدار زيادة يتورع فيها أن يأتي ببرهان من النص إن

(5/634)


كان صادقا بقوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * فإن جاء ببرهان من القرآن والسنة قبلنا منه، وإلا تركنا قوله، لان من لم يأت ببرهان
فليس صادقا لقوله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
وقد علم كل ذي حس صحيح من الناس أن الاستدلال على القول شئ آخر غير القول المستدل عليه، فقد أدى التقليد أقواما إلى أقوال صحاح والتقليد فاسد، لكن البحث أوقعهم عليها فصادفوا أقوالا فيها أحاديث صحاح لم تبلغهم قط، ولا استدلوا بها.
ومن علم كيفية المقدمات علم أن من المقدمات الفاسدة تنتج إنتاجا صحيحا في بعض الاوقات، ولكن ذلك لا يصحب بل يخون كثيرا، وقد بينا هذا في كتابنا الموسوم، بكتاب التقريب بيانا كافيا، والحمد لله رب العالمين كثيرا.
فقد صح بما ذكرنا أنه قد يخطئ في كيفية الاستدلال من يصيب في القول المستدل عليه.
وقد صح أيضا أنه قد يصيب المرء في ابتداء الاستدلال، ثم لا يوفيه حقه فيخطئ في القول المستدل عليه، فقد استدل قوم بنصوص صحاح ثم تأولوا فيها ما ليس فيها، وقاسوا عليها ما لم يذكر فيها، وأصابوا في الاستدلال بالنص وأخطؤوا في الحكم به فيما ليس موجودا في ذلك النص.
وقد استدل سعد رضي الله عنه على تحريم البيضاء جملة بنهي النبي (ص) عن الرطب بالتمر، فصح بهذا أنه ليس علينا اتباع استدلال القائلين بالفتيا، وإنما علينا اتباع الفتيا إن أيدها نص أو إجماع، ولا نبالي أخطأ قائلها في استدلاله عليها أم أصاب.
وكذلك يلزمنا ترك الفتيا إذا لم يقم عليها برهان من النص أو الاجماع، وإن استدل قائلها بنص صحيح إلا أنه ظن أن ذلك النص يوجب ما أفتى به.
وذلك النص في الحقيقة غير موجب لتلك الفتيا، وأيضا فإن من المسائل مسائل ليس يروى فيها نص، وإنما هي إجماع مجرد على أمر أمره النبي (ص)، كإجماع الناس على القراض، وكإجماع طوائف من الناس على الايجاب في دية الذمي إذا قتله ذمي ثمانمائة درهم، أو ستة أبعرة وثلثي بعير، واختلف آخرون في الزيادة على ذلك إلى أن ساواه قوم بدية المسلم، وقال آخرون: نصف دية المسلم، وقال آخرون: ثلث دية المسلم، فاحتج الموجبون في ذلك
ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثي بعير، بأن قالوا: هذا مجمع على وجوبه، وما زاد

(5/635)


على ذلك فمختلف فيه، وذكروا ما رويناه من طريق يونس بن عبيد أن الحسن البصري قال: دية اليهودي والنصراني ثمانمائة درهم.
وقال بهذا المقدار في دية المجوسي خاصة مالك والشافعي.
ورووه عن عثمان رضي الله عنه.
واحتج من أوجب في ذلك نصف الدية بروايات عن بعض الصحابة، وآثار من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي صحيفة لا تصح، وقد اختلف الصحابة في هذا فبطل هذا القول، واحتج من أوجب في ذلك ثلث الدية وهم الشافعي وأصحابه، بأن رووا ذلك عن بعض الصحابة، وقد قلنا إن الصحابة مختلفون في ذلك، فليس بعضهم في ذلك حجة دون بعض.
واحتج في ذلك بعض أصحاب الشافعي بأن ادعى أنه أقل ما قيل، وهذا باطل لما أوردناه من قول الحسن آنفا، وقال بعضهم - ممن يعرف الاختلاف: لم نقل ذلك لشئ من هذا كله لكن لقوله تعالى: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون) * ؟.
فوجب ألا يساوى به المسلم ولا المسلمة، فوجب حطه إلى ثلث الدية.
وقال أبو محمد: وهذا احتجاج فاسد البتة، لانهم يساوون بينهما في أنه إن غصب المسلم مال ذمي أن يغرمه الذمي ما غصب، وفي قطعهما في السرقة، ويحلف كل واحد منهما للآخر في الدعوى.
وأيضا فقد جعلوا دية الذمي أكثر من دية يد المسلمة ومن دية عينها، وساووه بمأمومة الحر المسلم، ولا شك في أن حرمة شعرة من مسلم أعظم من حرمة كل ذمي في الارض، فكيف عضو من أعضاء المسلم، ونجدهم قد فضلوا على المسلم في بعض المواضع، فقالوا: لا يقتل الكافر الحر إذا قتل عبدا مسلما، فجعلوه ههنا أعظم حرمة من المسلم، وهذا قول سوء تقشعر منه الجلود.
ويلزمهم على
هذا أن أبا جهل وأبا لهب كانا أعظم حرمة من زيد بن حارثة وبلال بعد إسلامهما، وقبل عتقهما، ومعاذ الله من هذا.
وإنما يجب استعمال قوله عز وجل: * (أعنده علم الغيب فهو يرى) * في أن لا يساوى بينهما في القود أصلا، وأما في الحقوق الواجبة فيما دون الاجسام والكرامة والحرمة فليس التساوي فيها تساويا في القدر، لانه لا خلاف بين أحد من أن أحكام الاموال يستوي فيها أبو بكر والصحابة وأهل الذمة، وبالله

(5/636)


تعالى التوفيق، فكان الواجب ألا يكلف الذمي غرما بعد الجزية إلا ما أوجبه نص أو إجماع، وقد أوجب الاجماع المذكور عليه إما ثمانمائة درهم، وإما ستة أبعرة وثلثي بعير، ووقع التنازع في الزيادة فلما لم يأت بشئ من ذلك نص صحيح وجب أن يطرح ولا يلتفت إليه.
فإن قالوا بتقليد صاحب في ذلك، قيل لهم: ليس الصاحب الذي قلدتم بأولى من صاحب آخر خالفه في ذلك، مع أن التقليد كله باطل على ما سنبينه في بابه من ديواننا هذا إن شاء الله تعالى.
فإن قال قائل: أنتم متناقضون في قولكم بأقل ما قيل في المقادير اللازمة في الاموال والحدود وفي الاعداد كلها وترككم الزيادة إلا أن يوجبها نص مع قولكم إن من اتفق عليه من زمان ما ثم ادعى قوم ارتفاعه، فإن الواجب التمادي عليه والثبات على ما قد اتفق على وجوبه، حتى يأتي مدعي ارتفاعه ببرهان على ما ادعى من ذلك فهلا قلتم إنه لا يلزم هذا الحكم إلا مدة الزمان الذي اتفق على لزومه فيها دون الازمان والاعيان التي اختلف في لزوم ذلك فيها ولها، كما قلتم: لا نأخذ في المقادير اللازمة في الاموال والحدود والاعداد إلا بما اتفق عليه دون ما اختلف فيه.
قال أبو محمد: فيقال له وبالله تعالى التوفيق: إن هذا شغب ضعيف، وتمويه فاسد، ولا تناقض بين القولين أصلا، بل هما شئ واحد، وباب واحد، لان الاجماع على وجوب الحكم، وورود النص كالاجماع على أقل المقادير والاعداد، كلاهما قد صح فيه الاجماع، ثم إن الدعوى لانتقال الحكم عما كان علمه، وللزوم النص بعض ما يقتضيه لفظه دون بعض الدعوى للزيادة على أقل ما قيل من المقادير والاعداد ولا فرق، وكلا الامرين إيجاب شرع وحكم بلا نص، وذلك لا يحل اتباعه.
وثباتنا على ما اتفقنا على أنه واجب، أو أنه مباح، أو أنه حرام، وتركنا من فارق ما اتفقنا على وجوبه من المقادير والاعداد ولا فرق، ومسقط الحق بعد وجوبه كالزائد فيه، أو الناقص منه، وكالشارع غيره، ولا فرق بين كل ذلك أصلا، فهو كله باب واحد كما ترى.
ولا شغب من أراد التمويه بالفرق بين الامرين، وإنما موه من موه في ذلك، وغلط من غلط، لانه رأى أحد الامرين زيادة على

(5/637)


ما اتفق عليه، ورأى الآخر خروجا عما اتفق عليه، فظن أنهما بابان مختلفان، فأخطأ في ذلك بل هو كله باب واحد، لانه كله ممن خالفنا خروج عما اتفق عليه بلا دليل، ومفارقة ما أجمع عليه بلا برهان، وهو كله في مذهبنا نحن باب واحد، لانه كله منا ثبات على ما اتفق عليه، ولزوم لما صح الاجماع فيه، وامتناع من مفارقته، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإنه لم يقل قط مسلم أن النبي (ص) إذا حكم اليوم بحكم ما، أن هذا الحكم لا يلزم الناس غدا إلا باستئناف برهان مجدد، بل الامة كلها مجمعة على وجوب حكم النص وتماديه إلى يوم القيامة.
وكذلك حكمه عليه السلام على زان أو سارق، هو حكم منه على كل زان أو سارق إلى يوم القيامة.
وهكذا كل ما حكم به النص في عين ما هو حكم في نوع تلك العين أبدا، ولو كان خلاف
ذلك - ونعوذ بالله من هذا الظن - لبطلت لوازم نبوته (ص) في الزمان الآتي بعده، وهذا كفر من معتقده، فصح أن حكمه (ص) في زمانه حكم باق في كل زمان أبد الابد، ولم يقل قط مسلم إنه (ص) إذا حكم بأخذ درهم، أو ضرب عشرة أسواط، أو إيجاب ركعتين، أو صوم يوم إنه يجب بذلك أخذ درهمين، وضرب عشرين سوطا، أو إيجاب أربع ركعات وصوم يومين، بل هذه حدود الله تعالى التي حرم تعديها، وأخبر أن متعديها من الظالمين بقوله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * فهذا فرق أوضح من الشمس لا يراها العميان، وقد تغيب عن بعض الاماكن في بعض الاوقات.
وهذا برهان لا يغيب نوره أبدا، ويراه كل ذي عقل وحس سليم ممن خوطب بالديانة، وأيضا فإن أقل ما قيل حق ويقين، لانه إجماع وخصمنا موافق لنا على وجوبه والزيادة عليه شك، ودعوى وظن، ولا يحل رفع اليقين بالشك ولا ترك الحق بالظن، ومفارقة الواجب بالدعوى، وقد حرم الله تعالى ذلك، إذ يقول عز وجل: * (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) * وفيما ذكرنا كفاية لمن له عقل ونصح نفسه، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: أنتم تقولون إن الاجماع والنص أصلان، والعمل بهما فرض، وأنتم تأخذون في النص بالزائد أبدا، ولا تأخذون بالمتيقن عليه، وتأخذون في الاجماع بأقل ما قيل، وهو المتفق عليه، فكيف هذا ؟.

(5/638)


فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن الاجماع راجع إلى النص، وإلى التوقيف كما بينا في أول الكلام في الاجماع، وإنما أخذنا به، لانه نقل العمل أو إقرار على أمر معلوم علمه عليه السلام، فأقره ولم ينكره، وليس اختلاف الموجبين للمقادير المختلفة في الاحكام نقلا لشئ من ذلك، وإنما هو أن ما عدم أن يقوم عليه دليل نص، فإما رأى من قائله أو قياس أو تقليد، وكل ذلك باطل ودعوى
بلا دليل فلذلك لزم تركه.
وأما الزيادة في النص من أحد الرواة، فهو نقل صحيح، والاخذ بالنقل الصحيح واجب، والسبب الموجب لقبول الزيادة من العدل في الرواية هو السبب نفسه الموجب لقبول أقل ما قيل في الاجماع، إنما ذلك قبول ما صح من النقل فقط.
وأما ما اختلف فيه، ولم يأت أحد من المختلفين فيه بنص فليس نقلا، والسبب المانع من قبول التقليد هو السبب المانع من قبول ما زاده قائل على ما اتفق عليه هو وغيره من العلماء بأجمعهم دون دليل يأتي به يوجب زيادته ما زاد وهو كله تقليد.
وقد قال بعض الشافعيين: محتجا في أخذ الشافعي رحمه الله في دية اليهودي والنصراني، بأنها ثلث دية المسلم، بأن ذلك أقل ما قيل.
قال أبو محمد: وليس كذلك، وقد روينا عن يونس بن عبيد عن الحسن: أن دية النصراني واليهودي ثمانمائة درهم، وقد صح عن بعض المتقدمين أنه لا دية له، فليس ثلث الدية أقل ما قيل.
وأما نحن فإنا نقول: إنه لا دية لذمي أصلا، لا يهودي ولا نصراني، ولا مجوسي إذا قتله مسلم خطأ أو عمدا، وإن قتله عندنا يهوديا كان أو نصرانيا أو مجوسيا أقل ما قيل، وهو ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثا بعير.
وبرهاننا على ذلك أن الله تعالى إنما ذكر قبل الخطأ والدية فيه إن كان المقتول مؤمنا، هذا هو نص الآيات الواردات في ذلك، فلم يذكر الله تعالى لذمي دية.
وقال عليه السلام: من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يأخذوا الدية، وإما أن يستقيدوا، أو كما قال عليه السلام.
ونهى عليه السلام أن يقتل مؤمن بكافر فبطلت الدية إن قتله مسلم، لانه عليه السلام إنما جعل الدية في العمد حيث يكون الخيار فيها أو في القود، وليس ذلك بين المؤمن والكافر، لكنه بين الكفار فيما بينهم وبين المؤمنين فيما بينهم، فصح قولنا وبالله تعالى التوفيق.
وحرام أخذ شئ من مال مسلم إلا بنص أو إجماع، وأما إن قتل ذمي مسلما عمدا فقد بطلت

(5/639)


ذمته، ولا بد من قتله وأخذ ماله كله، ولا رأي في ذلك لولي المقتول ولا دية، وحديث عبد الله بن سهل ثابت العمل، وليس فيه ذكر أن الدية التي ذكر عليه السلام كانت في عمد، إذ قد يقتلونه خطأ، ولا في قوله عليه السلام في ذلك الحديث: أتقسمون على رجل فيسلم برمته أنه لو أسلم لكان فيه لولي المقتول خيار، فلا يجوز التزيد في الحديث ما ليس فيه، وسورة براءة مبينة لاحكام أهل الذمة التي لا يجوز تعديها وهي ناسخة لكل ما كان قبلها.
وقد احتج بعض الموافقين لنا في هذا الفصل بأن قال: يقال لمن قال قد اتفق على وجوب حكم ما في هذه المسألة، فلا تبرأ من ذلك الحكم إلا بإجماع آخر على البراءة منه.
قال فيقال له: لو شهد عدلان على أن زيدا غصب مالا من عمرو، ولم يثبت قدر ذلك المال، للزم على قولكم أن يقال للمشهود عليه قد ثبت عليك حق فلا تبرأ حتى يقر المغصوب منه ببرأتك من كل حق له عندك.
فلما أجمع الناس بلا خلاف، على أنه لا يقال لذلك.
لكن يقال له قد ثبت قبلك حق ما فأقر بما شئت، واحلف على ما أنكرت، ولا يلزمك غير ذلك، صح قولنا بأقل ما قيل، وبطل اعتراضكم وبالله تعالى التوفيق.
واحتج أيضا بأن قال - من الدليل على الاخذ بأقل ما قيل: إن شاهدين لو شهدا على زيد أنه سرق، وقال أحدهما: ربع دينار، وقال آخر: بل سدس دينار، فإنه يؤخذ بأقل ما اتفقا عليه فلا يقطع ولا يغرم إلا سدس دينار فقط.
قال أبو محمد: وهاتان حجتان تلزم أصحاب القياس، وليس مما نرضى أن نحتج به، وإنما اعتمادنا على البراهين الضرورية التي قدمنا وبالله تعالى نعتصم.
وقال هذا القائل أيضا: إن المقدرين إذا اختلفا في تقدير السلعة، فإننا نأخذ بما اتفقا عليه.
قال: فإن قال لنا قائل: فلم تأخذون بالزيادة في الخبر عن
النبي (ص) ؟ وتقولون عند هذا الزائد علم لم يكن عند من لم يأت بتلك الزيادة.
فهلا قلتم وعند هذا المقدار الزائد علم زائد بقيمة هذه السلعة فهلا أخذتم به ؟.
قال أبو محمد: وهذا الذي اعترض به على القائل بما ذكرنا اعتراض فاسد، لكنا نقول الجواب عن هذا: أن تقدير المقدار ليس من باب الخبر في الدين، لان الخبر نقل عن مشاهدة يوجب حكما على الناس كلهم، وتقدير المقدار إنما هو من

(5/640)


باب الشهادة التي لا يقبل فيها إلا اثنان، أو واحد مع يمين الطالب، فلو كان مع هذا المقدار الزائد آخر عدل يشهد بتلك الزيادة لاخذنا بها، وإن كان ذلك فيما يؤخذ فيه باليمين مع الشاهد حلف المشهود له مع ذلك المقدر الزائد، واستحق الزيادة، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق: إن الله تعالى قال: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) * ثم أوجب تعالى الدية في قتل المؤمن خطأ فهي لازمة للمؤمن والذمي بعموم الخطاب، ولزوم الدين، لكل إنسي وجني، ولم يأت نص بإيجاب دية لذمي إن قتل خطأ فهو معفو عنه جملة أصابه مسلم أو ذمي.
وصح عن النبي (ص) أنه قال: من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، وإما أن يودى وإما أن يقاد أو كلام هذا معناه.
وصح أنه عليه السلام قال: لا يقتل مسلم بكافر فصح أن الدية لا تجب في العمد إلا حيث يجب التخيير فيها بين الدية وبين القود.
وليس ذلك في قتل المسلم الذمي أصلا، فبطل أن يكون على المسلم دية في الذمي لا في عمد ولا في خطأ، فإن قتل الذمي ذميا فهو داخل في هذا الخطاب، والقود بينهما، أو الدية، وليس إلا أحد القولين إما ما اتفق على وجوبه كما قال الحسن، وإما الدية التي قضى بها رسول الله (ص) في المسلم، فنظرنا في قول الحسن فوجدناه لا ينسند أصلا ولا وجه له فسقط.
ولا ندري أيضا
هل أجمع على مقدار ذلك أو لا ؟ بل لعل من العلماء من قال لا دية لذمي أصلا، ولعل في العلماء من يقول بأقل مما قال الحسن، فسقط هذا القول، ووجدنا الله يقول: * (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله " فصح أن دية الذمي على الذمي كدية المسلم على المسلم، ولسنا في ذلك جاعلين لهم كالمسلمين حاشا لله من ذلك نحكم بينهم بالحكم بين المسلمين.
كما أمر الله تعالى، ونحن وهم نقتل الذمي بالذمي، كما نقتله بالمسلم، وليس هذا مساواة المسلم بالمجرم وبالله تعالى حسبنا.
الله ونعم الوكيل

(5/641)


الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف قال أبو محمد: قال قوم: هذا مما يسع فيه الاختلاف.
قال أبو محمد: وهذا باطل والاختلاف لا يسع البتة، ولا يجوز لما نذكره بعد هذا، وإنما الفرض علينا اتباع ما جاء به القرآن عن الله تعالى الذي شرع لنا دين الاسلام، وما صح عن رسول الله (ص) الذي أمره الله تعالى ببيان الدين فقال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * ولا مزيد.
وقال تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فما صح في النصين أو أحدهما فهو الحق، ولا يزيده قوة أن تجمع عليه أهل الارض، ولا يوهنه ترك من تركه، فصح أن الاختلاف لا يجب أن يراعى أصلا.
وقد غلط قوم فقالوا: الاختلاف رحمة، واحتجوا بما روي عن النبي (ص): أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.
قال أبو محمد: وهذا من أفسد قول يكون، لانه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا.
هذا ما لا يقوله مسلم، لانه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط، وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب من توليد أهل
الفسق لوجوه ضرورية: أحدها: أنه لم يصح من طريق النقل.
والثاني أنه (ص) لم يجز أن يأمر بما نهى عنه وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره، وكذب عمر في تأويل تأوله في الهجرة، وكذب أسيد بن حضير في تأويل تأوله فيمن رجع عليه سيفه وهو يقاتل، وخطأ أبا السنابل في فتيا أفتى بها في العدة، وقد ذكرنا هذا المعنى في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا، مستوعبا فأغنى عن إيراده ههنا، وفيما ذكرنا كفاية.
فمن المحال الممتنع الذي لا يجوز البتة، أن يكون عليه السلام يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ، فيكون حينئذ أمر بالخطأ، تعالى الله عن ذلك، وحاشا له (ص) من هذه الصفة، وهو عليه السلام قد أخبر أنهم يخطئون، فلا يجوز أن يأمرنا باتباع من يخطئ إلا أن يكون عليه السلام

(5/642)


أراد نقلهم لما رووا عنه فهذا صحيح، لانهم رضي الله عنهم كلهم ثقات، فعن أيهم نقل فقد اهتدى الناقل.
والثالث أن النبي (ص) لا يقول الباطل، بل قوله الحق وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد، وكذب ظاهر، لانه من أراد جهة مطلع الجدي قام (جهة) مطلع السرطان لم يهتد، بل قد ضل ضلالا بعيدا، وأخطأ خطأ فاحشا، وخسر خسرانا مبينا، وليس كل النجوم يهتدى بها في كل طريق، فبطل التشبيه المذكور، ووضح كذب ذلك الحديث وسقوطه وضوحا ضروريا.
قال أبو محمد: وقد ذم الله تعالى الاختلاف في غير ما موضع من كتابه قال الله عز وجل: (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) * وقال تعالى: * (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم
فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.
وقال تعالى مفترضا للاتفاق وموجبا رفض الاختلاف: * (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ئ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) * إلى قوله تعالى: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) * فصح أنه لا هدى في الدين إلا ببيان الله تعالى لآياته، وأن التفرق في الدين حرام لا يجوز، وقال تعالى: * (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) * وقال تعالى: * (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وقال تعالى: * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصم به لعلكم تتقون) * وقال تعالى: * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) * وقال تعالى * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدوي، نا حماد بن زيد، ثنا أبو عمران الجوني قال: كتب إلى عبد الله بن رباح الانصاري أن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله (ص) يوما فسمع

(5/643)


أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، نا أبو إسحاق البلخي، نا الفربري، نا البخاري، حدثنا أبو الوليد هو الطيالسي، نا شعبة، أخبرني عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت النزال بن سبرة قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت من رسول الله (ص) خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول الله
(ص) فقال: كلاكما محسن قال شعبة: أظنه قال: لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا.
حدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا بندار، نا غندر، نا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال، عن ابن مسعود، عن النبي (ص) بهذا الحديث.
وذكر شعبة في آخره قال: حدثني مسعر عنه فرفعه إلى ابن مسعود عن رسول الله (ص) قال: ولا تختلفوا.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد ابن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة، عن محمد بن زياد، سمع أبا هريرة عن النبي (ص) قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم.
وبه إلى مسلم، نا يحيى بن يحيى، وإسحاق بن منصور، وأحمد بن سعيد بن صخر الدارمي قال يحيى: أنا أبو قدامة الحارث بن عبيد، وقال إسحاق: نا عبد الصمد هو ابن عبد الوارث التنوري، ثنا همام، وقال أحمد: نا حبان، نا أبان، قالوا كلهم: نا أبو عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله البلخي، عن النبي (ص) أنه قال: اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا.
وبه إلى مسلم، حدثني زهير بن حرب، نا جرير عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن

(5/644)


تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
قال أبو محمد: ففي بعض ما ذكرنا كفاية، لان الله تعالى نص على أن الاختلاف شقاق، وأنه بغي ونهى عن التنازع والتفرق في الدين، وأوعد على الاختلاف بالعذاب العظيم، وبذهاب الريح، وأخبر أن الاختلاف تفريق عن سبيل الله، ومن عاج عن سبيل الله تعالى فقد وقع في سبيل الشيطان، قال تعالى: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى إرادة كون، كما أراد كون الكفر وسائر المعاصي.
فإن قال قائل: إن الصحابة قد اختلفوا وأفاضل الناس، أفيلحقهم هذا الذم ؟ قيل له، وبالله تعالى التوفيق: كلا، ما يلحق أولئك شئ من هذا، لان كل امرئ منهم تحرى سبيل الله ووجهة الحق، فالمخطئ منهم مأجور أجرا واحدا لنيته الجميلة في إرادة الخير، وقد رفع عنهم الاثم في خطئهم لانهم لم يتعمدوه ولا قصدوه ولا استهانوا بطلبهم والمصيب مأجور منهم أجرين.
وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه، وإنما الذم المذكور والوعيد الموصوف، لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى الذي هو القرآن وكلام النبي (ص) بعد بلوغ النص إليه، وقيام الحجة به عليه وتعلق بفلان وفلان مقلدا عامدا للاختلاف، داعيا إلى عصبية وحمية الجاهلية، قاصدا للفرقة، متحريا في دعواه برد القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النص أخذ به، وإن خالفها تعلق بجاهليته وترك القرآن وكلام النبي (ص) فهؤلاء هم المختلفون المذمومون.
وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين، وقلة التقوى، إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم، مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى، وعن رسوله (ص).
فإن قال قائل: فإذ لا بد من مواقعة الاختلاف فكيف التخلص من هذا الذم
الوارد في المختلفين، قيل له، وبالله تعالى التوفيق: قد علمنا الله تعالى الطريق في ذلك، ولم يدعنا في لبس وله الحمد، فقال تعالى: * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه

(5/645)


ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) * وقال تعالى: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فإذا وردت الاقوال، فاتبع كلام الله تعالى، وكلام نبيه (ص) الذي هو بيان عما أمرنا الله تعالى به، وما أجمع عليه جميع المسلمين، فهذا هو صراط الله تعالى وحبله الذي إذا تمسكت به أخرجك من الفرقة المذمومة ومن الاختلاف المكروه إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى، وهذا هو الذي أجمع عليه جميع أهل الاسلام قديما وحديثا، فإن لم يكن قط مسلم إلا ومن عقده وقوله: إن كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام فرض قبوله، وأنه لا يحل لاحد معارضته بشئ من ذلك ولا مخالفته، وبقيت سائر الاقوال المأخوذة من تقليد فلان وفلان، ومن القياس، ومن الاستحسان، وهي الاختلاف المذموم الذي لا يحل اتباعه، فمن تركها فقد ترك الاختلاف، وأصحاب أولئك الاقوال كلها مأمورون بتركها والرجوع إلى حبل الله تعالى وصراطه، فإذا تركوها فقد تركوا الاختلاف والفرقة، ورجعوا إلى الفرض عليهم من الاتفاق اللازم، ولهذا قلنا بفسخ قضاء كل قاضي قضى به بخلاف النص، وسواء قال به طوائف من العلماء أو لا، قال الله عز وجل: * (ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ئ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) * فاستثنى تعالى من رحم من جملة المختلفين، وأخرج المرحومين من جملة المختلفين وعديدهم، ومن ظن أن قوله تعالى: * (ولذلك خلقهم أنه يعني وللرحمة خلقهم، وأرادوا بذلك استباحة الاختلاف، فهو في غاية الفساد ببرهانين ضروريين.
أحدهما: أن الله تعالى استثنى من رحم فأخرجهم من جملة المختلفين، فلو أنه تعالى خلق المختلفين للرحمة لاستثنى المرحومين من أنفسهم، ولاخرجهم من جملة أنفسهم، وهذا باطل لا يجوز ومحال في الكلام لا يفهم.
والبرهان الثاني: أن المختلفين موجودون، وكل موجود عن حالة ما، فلا شك عند كل مسلم أنه تعالى إنما خلقه ليكون على تلك الحالة، وصح يقينا بلا مرية أنه الاختلاف الذي هم عليه بالعيان خلقهم، إلا أن يقول قائل: إن الضمير الذي في خلقهم وهو الهاء والميم راجع إلى من رحم، فيكون المراد حينئذ استثناء المرحومين

(5/646)


من جملة المختلفين، وأن أولئك الذين اعتصموا بحبل الله تعالى للرحمة فهذا صحيح لا شك فيه، وذم الاختلاف وخروجه من الرحمة باق بحسبه، وممن قال بهذا من السلف الصالح عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، كما كتب إلى المهلب، عن ابن مناس، عن ابن مسرور، عن يونس بن عبد الاعلى، أخبرني ابن وهب، أخبرني عبد الله بن يزيد، عن المسعودي قال: سمعت عمر بن عبد العزيز قرأ هذه الآية: * (ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) * قال: خلق أهل رحمته أن لا يختلفوا، قال ابن وهب: وسمعت مالكا يقول فيها: الذين رحمهم الله لم يختلفوا.
قال أبو محمد: معنى قولنا الاختلاف في الدين غير جائز، إنما هو أن طاعة أمر الله تعالى وأمر رسوله (ص) لا يجوز خلافها البتة، وليس فيما جاء من عند الله تعالى على لسان رسوله (ص) تخالف، إنما هو محكم أو خاص من جملة مخصوصة منها، أو ناسخ ومنسوخ فقط، وإذ لا حق إلا فيما جاء من عند الله على لسان رسول الله (ص) فخلاف الحق لا يحل، هذا أمر لا يخفى صوابه على أحد، كما أن الثلاثة أكثر من الاثنين، وبالله تعالى التوفيق.
الباب السادس والعشرون
في أن الحق في واحد وسائر الاقوال كلها باطل قال أبو محمد علي بن أحمد: ذهبت طائفة إلى أن كل مجتهد مصيب، وأن كل مفت محق في فتياه على تضاده، واحتجوا بما روي عن عثمان رضي الله عنه إذ سئل عن الجمع بين الاختين بملك اليمين فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية.
قال أبو محمد: ولا حجة لهم في ذلك لوجوه: أحدها: أن قول عثمان وقول كل أحد دون النبي (ص) لا يلزم قبوله إلا بموافقة نص قرآن أو سنة له أو إجماع.
والثاني: أن كل ما يأتي بعد هذا إن شاء الله عز وجل من البراهين في إثبات أن الحق في واحد مبطل لتأويلهم الفاسد، وهي دلائل كثيرة جمة.
والثالث أن عثمان لم يرد ما ذهبوا إليه من كون الشئ حراما حلالا معا في وقت واحد، على إنسان واحد، فهذا غاية المحال الممتنع، وإنما أراد أنه لم يلح له فيها حكم يقف عليه، لانه رأى قوله تعالى: * (أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ورأى قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الاختين) *.

(5/647)


فلم يبن له أي الامرين تغلب، فأخبر عن ظاهر الآية الواحدة أنها قد تحتمل أن تكون محللة لهما مخصوصة من الاخرى، وأن ظاهر الثانية قد يحتمل أن يكون محرما لهما، مخصصا من الاخرى فوقف في ذلك، واحتجوا بقوله عليه السلام: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر.
قال أبو محمد: وهذا من طريق ما احتج به من لا يعقل ولا يحل له الكلام في العلم، لان نص الحديث بكلامه (ص) أن المجتهد يخطئ، وإذا أخطأ فهذا قولنا لا قولهم، وليس مأجورا على خطأه، والخطأ لا يحل الاخذ به، ولكنه مأجور على اجتهاده الذي هو حق، لانه طلب للحق، وليس قول القائل برأيه اجتهادا، وأما خطأه فليس مأجورا عليه، لكنه مرفوع في الاثم بقوله تعالى: * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * واحتجوا بالصواب في
اختلاف القراءات وبالاشياء المباحات في الكفارات، وأنها كلها حق على اختلافها.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان القراءات المختلفة ليست متنافية، ونحن لم ننكر الصواب فيما لا يتنافى ولا فيما أمر به تعالى، وإنما أنكرنا أن يكون قول القائل لحم السبع على غير المضطر حلال حقا، ويكون قال القائل لحم السبع على غير المضطر حرام حقا، فيكون الشئ حراما حلالا، طاعة معصية، مأمورا به منهيا عنه في وقت واحد، لانسان واحد، من وجه واحد، فهذا الذي نفينا وأبطلنا، وهذا لا يسع في عقل من له مسكة من عقل، لانه غاية الامتناع الذي لا يتشكل في النفس فضلا عن أن يطلق استعماله.
واختلاف القراءات التي ذكروا مثل: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * يقرأ بها بعض القراء في أوائل السور، ويسقطها بعضهم، فكل ذلك مباح، من أسقطها فقد أبيح له، ومن قرأها فقد أبيح له، وكذلك المخبر في كفارة الايمان هي العتق والاطعام والكسوة، فليس شئ من ذلك متنافيا، وأيها فعل المرء فقد فعل ما أبيح له، ولم يقل أحد إنه لو فعل الوجه الذي ترك لكان مخطئا، وهذا غير ما اختلفنا فيه، لانه قد تكون أشياء كثيرة مباحة، وغير ممكن أن يكون شئ واجبا تركه، وواجبا فعله على إنسان واحد في وقت واحد، وهذا فرق لا يشكل إلا على جاهل.
واحتجوا أيضا بأن قالوا: قد روي أن النبي (ص) أمر أثر غزوة الخندق

(5/648)


لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم العصر إذ دخل وقتها قبل أن يبلغوا بني قريظة، وقالوا: لم يرد منا هذا، وأخرها آخرون حتى صلوها في بني قريظة مع الليل، فبلغ ذلك النبي (ص) فلم يعنف إحدى الطائفتين.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان المجتهد المخطئ لا يعنف، وكانت صلاة من صلى أمرا قد فات فلا وجه لتعنيفهم، ولكن الصواب بلا شك في
فعل إحدى الطائفتين، ولو كنا معه ما صلينا العصر إلا في بني قريظة معه ولو نصف الليل، وقد ذكرنا أيضا الكلام في هذا الحديث في باب الكلام في الاوامر الواردة في القرآن والحديث، وحملها على ظاهرها وعلى الوجوب والفور في قرب آخر ذلك الباب قبل فصل ترجمته (كيفية ورود الاوامر).
حدثنا النباتي، نا ابن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، نا بندار، ثنا ابن أبي عدي، ثنا شعبة عن طارق بن عبد الله، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل إلى النبي (ص) قال: إني أجنبت فلم أصل قال: أصبت، وأتاه رجل فقال: إني أجنبت فتيممت وصليت، فقال: أصبت.
قال أبو محمد: وهذا كالاول سواء بسواء، لان كل مجتهد معذور ومأجور، لان الذي سأل أولا لم يكن عنده أمر التيمم بلا شك، ومن هذه صفته فحكمه أن لا يصلي أصلا وهو جنب حتى يتطهر، والثاني كان عالما بالتيمم فأدى فرضه كما يلزمه، وكان حكمهما مختلفا لا متفقا، وكلاهما أصاب وجه العمل فيما عليه بقدر علمه، ولم ننكر هذا، إنما أنكرنا أن يكون الشئ حقا باطلا من وجه واحد في وقت واحد.
وقالوا: إن كان مخالفكم مخطئا ففسقوه كما يفسق الخوارج.
قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إننا لا نفسق الخوارج ولا غيرهم، ولكنا نقول: من قامت عليه الحجة بحديث لا معارض له، أو آية لا معارض لها، أو برهان ضروري فتمادى على قوله المخالف للحق، أو تناقض فاحتج في مكان مما لا يصح مثله في غير ذلك المكان، وبنى عليه ذلك فتمادى على قوله الفاسد في فتيا

(5/649)


في شئ من الفقه، أو في اعتقاد فهو فاسق وكل ذلك سواء، وهذا ابن عباس يقول بتخليد القائل، فمن فسق القائلين بإنفاذ الوعيد فليبدأ بتفسيق ابن عباس، ومن
فسق ابن عباس فهو والله الفاسق حقا، وابن عباس البر ابن البر، الفاضل ابن الفاضل، رضي الله عنهما.
واحتجوا بما روي عن النبي (ص): أصحابي كالنجوم.
قال أبو محمد: وقد تقدم إبطالنا لهذا الحديث، وبينا أنه كذب في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا فأغنى عن ترداده.
واحتجوا باختلاف الصحابة، وأنهم لم ينقض بعضهم أحكام بعض ولا منعوا مخالفهم من الحكم بخلافهم.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانهم قد أنكر بعضهم على بعض الاختلاف في الفتيا كإنكارهم غير ذلك، وقد قال ابن عباس: من شاء باهلته عند الحجر الاسود في العول في الفرائض، وفي تخليد القاتل.
وقال: أما تخافون أن يخسف الله بكم الارض أقول لكم: قال رسول الله (ص) وتقولون قال أبو بكر، وعمر.
وقال ابن عباس: أأنتم أعلم أم الله تعالى ؟ يقول: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) * فقلتم أنتم.
لها نصف ما ترك وإن كان له ولد، وهذا ابن عمر يقول إذ أمر بالمتعة في الحج، فقيل له: أبوك نهى عنها فقال: أيهما أولى أن يتبع، كلام الله أو كلام عمر ؟.
وهذا عمران بن الحصين يقول في نهي عمر عن المتعة في الحج: نزل بها القرآن وعملناها مع النبي (ص)، قال فيها رجل برأيه ما شاء.
وهذا ابن الزبير يقول لابن عباس في متعة النساء: لئن فعلتها لارجمنك فجرب إن شئت.
وهذا عمر قد فسخ بيع أمهات الاولاد وردهن حبالى من تستر، وفسخ فعل أبي بكر في استرقاق نساء المرتدين، وكان يضرب على الركعتين بعد العصر، وكان طلحة وأبو أيوب وعائشة يصلونهما، وتستر بها أبو أيوب وأبو طلحة مدة حياة عمر، فلما مات عاوداهما.
وقال ابن مسعود إذ سمع فتيا أبي موسى الاشعري في ابنة وابنة وابن أخت، ثم قال عن ابن مسعود إنه سيوافقني في هذا، فقال ابن مسعود: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
فجعل الفتيا بالخطأ ضلالا وخلافا للهدى، وهذا أكثر من أن يحاط به إلا
في سفر ضخم جدا، فبطل ما احتجوا به من ذلك، وبالله تعالى التوفيق.

(5/650)


واحتجوا بقوله عليه السلام: إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما سمع فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار أو كما قال عليه السلام.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو حجة عليهم، لان النبي (ص) فعل ما أمر به من الحكم الظاهر من البينة أو اليمين، وأخبر الناس أن ذلك لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، ولا يحيل شيئا عن وجهه، فلو كان حكم أحد من الحكام حقا، وإن كل ما خالفه حقا، لكان ذلك حكم النبي (ص) ولكان هذا بيان واضح في أن الحق في واحد، وأن ما خالفه خطأ، وحكم النبي (ص) في الظاهر بأن المال لزيد هو غير وجوب كون ذلك المال ملكا على الحقيقة لزيد، فهما شيئان متغايران.
وإذا كانا كذلك فمن الممكن أن يكون أحدهما حقا والآخر باطلا، فبطل احتجاجهم بذلك في قول الحق في وجهين مختلفين، بل قد أخبر عليه السلام أن الحق حق، وأن حكمه لا يحيله عن وجهه، ولا يوجب إحلال المقضي به لغير صاحبه، فإن قالوا مشاغبين: أحكم رسول الله (ص) في ظاهر الامر بما نهى عن أخذه في الباطن حكم بحق أو حكم بباطل، فإن قلتم بباطل كفرتم، وإن قلتم بحق فهو قولنا، قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق: لا يحل لمسلم أن يظن أن النبي (ص) يحكم بباطل وهو يعلم أنه باطل، ومن أجاز هذا أو ظن جوازه فهو كافر حلال الدم والمال.
ولكن القول أنه (ص) ما حكم بشهادة الشهود واليمين إلا بحق مقطوع على أنه حق كما أمره الله عز وجل، وأمر المحكوم له بخلاف ما هو في باطنه حق بألا يأخذه.
ثم نقول: إنه قد صح يقينا أنه عليه السلام يحكم بما هو عنده حق فيوافق خلاف ما أمره الله تعالى به وهذا لا يسمى باطلا، ومن سمى هذا باطلا فهو كافر، وذلك
نحو سلامه (ص) في الظهر أو العصر بالمدينة من ركعتين أو ثلاث، وإعراضه عن الاعمى فنزل في ذلك من القرآن ما نزل ورسول الله (ص) إنما قصد في كل ذلك ما هو حق عنده.
ولم يكن ذلك عند الله تعالى كذلك، فصح أن الحق في واحد ولا بد، فمن خالفه ناسيا أو هو يرى أنه حق، فليس آثما، ولكنه مأجور أجرا واحدا، ومن خالفه عامدا عالما فهو إما فاسق وإما كافر، إن كان خلافا للاسلام، وبالله تعالى التوفيق.

(5/651)


ويسألون عن فقيهين، رأى أحدهما إباحة دم إنسان، ورأى الآخر تحريمه، ورأى أحدهما تارك الصلاة كافرا، ولم يره الآخر كافرا، ورأى أحدهما الساحر كافرا، ولم يره الآخر كافرا، فإن أطلقوا أن كل ذلك حق عند الله عز وجل لحقوا بالمجانين، وجعلوا إنسانا واحدا كافرا في جهنم مخلدا أبد الابد، مؤمنا في الجنة مخلدا أبد الابد، وهذا غاية الجنون، وليس هذا الباب من نوع ما أمرنا بإعطائه وحرم على الآخذ أخذه، فهذان حكمان على إنسانين مختلفين، كسائل سأل وهو غني فأعطاه المسؤول، فالمعطي محسن مأجور، والآخذ فاسق عاص آكل سحتا، وكذلك فادي الاسير ومعطي الرشوة في دفع مظلمة.
وقد جاء النص بذلك في نهي النبي (ص) عن المسألة.
وقالوا أيضا: ما تقولون فيمن صلى أربعا وشك أصلى ثلاثا أم أربعا، فأنتم تأمرونه بأن يصلي حتى يكون على يقين من أنه صلى أربعا، فقد أمرتموه بركعة خامسة، فأنتم قد أمرتموه بالخطأ.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إننا لم نأمره قط بأن يصلي خامسة، وإنما أمرناه أن يصلي أربعا لا أكثر، والخامسة التي زاد فيها هو فيها مخطئ بلا شك عند الله عز وجل.
وما أمر بها قط وهو يدري أنها خامسة، ولكن أمر بها يقينا إذا لم يدر أنها خامسة والاثم عنه مرفوع فيها، ولسنا ننكر
رفع المأثم، وإنما ننكر رفع الخطأ في الباطن، فلو لم يصل الخامسة وهو غير موقن بأنه صلى أربعا لكان مفسدا لصلاته، لانه لم يصل الخامسة التي أمر بصلاتها، ومن باب إقدامه على ترك إتمام صلاته قبل أن يوقن بتمامها، فهما شيئان متغايران دخل الغلط على من أراد مزجهما.
وهكذا القول في الاجتهاد في القبلة إنما هو مأمور بمقابلة المسجد الحرام فقط، وغير مأمور بالصلاة إلى جهة غيرها، لكن الاثم عنه مرتفع إن وافق غيرها باجتهاده، وهو مخطئ وغير مأجور في ذلك، وإنما يؤجر على اجتهاده لا على ما أداه إليه الاجتهاد إلا أن يكون يؤديه إلى حق فحينئذ يؤجر أجرين أجرا على الطلب وأجرا على الاصابة، ولسنا نقول: إن كل مجتهد فهو مأمور بما أداه إليه اجتهاده بل هذا عين الخطأ، ولكنا نقول: كل مجتهد فهو مأمور بالاجتهاد

(5/652)


وبإصابة الحق والاجتهاد فعل المجتهد وهو غير الشئ المطلوب، فإذا أمرنا بالطلب لا بالشئ الذي وجد ما لم يكن عين الحق، والاجتهاد كله حق وهو طلب الحق وإرادته، وإنما غلط من غلط، لانه توهم أن الاجتهاد هو فعل المجتهد للشئ الذي أداه إليه اجتهاده، فسقطوا سقوطا فاحشا.
وقال تعالى: * (ليتفقهوا في الدين) * فأوجب تعالى التفقه وهو طلب الحقائق في واجبات الشريعة، وقال عليه السلام: أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا ففي هذا إيجاب إصابة الحق، وفي نهيه تعالى عن الكلام بغير علم إيجاب لاصابة الحق.
حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي، نا ابن مفرج، ثنا الصموت، ثنا البزار، وهو أحمد بن عمر بن عبد الخالق، نا الحسين بن مهدي، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن يحيى بن سعيد الانصاري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبي سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) أنه قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد
فأخطأ فله أجر وقد شغب بعضهم في قوله (ص) في هذا الخبر، إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فقال: معناه فتخطى صاحب الحق.
قال أبو محمد: وهذا عليهم لا لهم، لانه ليس إلا خطأ أو صواب، فإذا تخطى صاحب الحق فقد حصل في الخطأ ولم يأمر الله تعالى قط الحاكم بإصابة صاحب الحق لانه تكليف ما ليس في وسعه، إنما أمره بالحكم بالبينة العدلة عنده، أو اليمين أو بالاقرار أو بعلمه، فما حكم به من ذلك في موضعه فقد حكم بيقين الحق، أصاب صاحب الحق أو لم يصب، فإن قال قائل: بل تخطى الخطأ، قيل له هذا خروج عن المعقول، لانه إذا تخطى الخطأ، فقد أصاب، وإذا أصاب فمن الذي أعطي أجرا واحدا على صوابه، ومن الذي أعطي أجرين على صوابه، وهذا وسواس ورقة في الدين ودليل على فساد الاعتقاد، وقال بعضهم: لو كان الحق في واحد لكان ما خالفه ضلالا.
قال أبو محمد: ونعم هو ضلال، ولكن ليس كل ضلال كفرا ولا فسقا إلا إذا كان عمدا وأما إذا كان عن غير قصد فالاثم مرفوع فيه كسائر الخطأ ولا فرق، وقال بعضهم: لو كان الحق في واحد لنص الله على ذلك نصا لا يحتمل التأويل.

(5/653)


قال أبو محمد: فالجواب: أن الله تعالى قد فعل، والآيات التي تلونا في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا وهو قبل هذا الباب الذي نحن فيه، فإن تلك الآيات ناصة نصا جليا على أن الحق في واحد، وأن سائر الاقوال كلها فاسدة وخطأ، وأمره تعالى بالرد عند التنازع إلى القرآن والسنة بيان جلي أن القول الذي يشهد له النص هو الحق وهو من عند الله تعالى، وما عداه باطل ليس من عنده.
وقد أخبر تعالى أن الاختلاف ليس من عنده عز وجل، فصح أن ما لم يكن من عنده تعالى فهو باطل فصح أن الحق في واحد ضرورة وبالله تعالى التوفيق، واحتج بعضهم
في ذلك بأن الحاكم مأمور بإنفاذ ما يشهد به الشاهدان العدلان عنده، وقد يشهدان على باطل فهو مأمور بما هو في الباطن باطل.
قال أبو محمد: وهذا تمويه شديد، ونعم قد أمره الله بإنفاذه شهادة هذين الشاهدين اللذين يشهدان بالباطل، بل نهاه عن ردهما، لانه لا يدري أنهما فاسقان على الحقيقة أو مغفلان لا عدلان، ولكن لما لم يعلمهما كذلك رفع عنه الاثم في الباطن، وأمره بالحكم فهما في الظاهر، وليس يدخل بهذا في جملة المجتهدين، بل قد حكم بالحق المقطوع، على أن الله تعالى أمره بالحكم به، ولو رده لكان عاصيا لله تعالى، فهذا بمنزلة ما أمرنا به من فك الاسير ففكه بالمال فرض علينا، وأخذ العدو ذلك المال حرام عليه، وقد بين رسول الله (ص) هذا بقوله: فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فقد نهى النبي (ص) من علم الحقيق عن أن ينفذ بخلاف ما يدرك أنه حق، وسألت بعضهم فقلت له: ما تقول فيمن لقي أجنبية فظنها زوجته فوطئها أمصيب هو محق أم مخطئ ؟ فقال لي: ما حرمها الله قط عليه مع جهله بأنها أجنبية، فقلت له: لقد أقدمت على عظيمة في قولك، إن الله تعالى لم يحرم عليه الاجنبية مع بلوغ التحريم إليه وخرقت الاجماع والنص بكذبك في قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * وهذه ليست بزوجة له ولا ملك يمين فهو عاد مخطئ واطئ حرام إلا أن الاثم عنه ساقط لجهله فقط، وأيضا فإذا لم تكن حراما عليه فهي بلا شك حلال له إذ ليس في العالم إلا حلال أو حرام.

(5/654)


وقال ابن عباس: ما بعث محمد (ص) إلا محرما ومحللا.
قال ذلك لانسان سمعه يقول: إن النبي (ص) قال في الضب: لا أحله ولا أحرمه فقال له ابن عباس ما ذكرنا أو كلاما هذا معناه، فانقطع واحتج بعضهم باستخلاف أبي بكر
على القضاء زيد بن ثابت، وهو مخالفه في أقضية كثيرة.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لاننا لا نقلد أبا بكر ولا غيره، وهم يخالفون أبا بكر في عدة قضايا بلا دليل، فلا ينكروا علينا خلافه حيث قام الدليل على خلاف قوله، وقال بعضهم: لو كان الله تعالى كلفنا إصابة الحق وإدراك الصواب لكان تعالى قد كلفنا ما لا نطيق.
قال أبو محمد: وهذا تمويه ضعيف، وكذب القائل ما ذكرنا وما كلفنا عز وجل من ذلك إلا ما نطيق، لانه قد أدرك الصواب كثير من الناس ووجدوه وجودا صحيحا أيقنوا فيه أنهم محقون، وما أمكن بعضنا فهو لسائرنا ممكن وما توفيقنا إلا بالله تعالى، وقال بعضهم: لو كان الناس مكلفين عين الصواب لكان على من خالفه الاعادة لكل ما عمل بغير الحق.
قال أبو محمد: أما ما كان من الشرائع مرتبطا بوقت محدود الاول والآخر، فلا إعادة على من تركه أصلا، إلا حيث جاء النص بإعادته، لانه لا سبيل إلى رجوع وقت تلك الشريعة، وهي لم نؤمر بها إلا في ذلك الوقت، فلا سبيل إلى أدائها، إذ لا سبيل إلى الوقت الذي لا تؤدى إلا فيه كالصلاة وما أشبهها، والصيام ونحوه فلا يقضي شيئا من ذلك لا جاهل ولا عامد ولا متأول، حاشى الناسي والنائم للصلاة، وحاشا المريض والمسافر والمتقيئ عمدا للصوم فقط، وأما ما كان مرتبطا بوقت محدود الاول غير محدود الآخر، أو كان غير مرتبط بوقت فهو مؤدى أبدا، ومعاد، ولا بد كإنسان جهل الزكاة في البر فبقي سنين مسلما مالكا لمقدار تجب فيه الزكاة منه، ثم علم بعد ذلك فعليه الزكاة للسنين الخالية، وكإنسان لم يعلم أن السلم في غير المكيل والموزون لا يجوز، فسلم سنين جمة في حيوان، أو فيما لا يكال ولا يوزن، ثم علم فعليه فسخ كل ما أخذ من ذلك ورده إلى أربابه، والحكم فيه كحكم الغاصب فيما بيده إذا تاب ولا فرق، وكإنسان أداه اجتهاده إلى أنه لا نفقة لموروثه
وذي رحمه المحرمة عليه، فأقام كذلك عشرات سنين، ثم علم فهي دين عليه يؤديها

(5/655)


إليهم أبدا، ويخرج من رأس ماله إن مات، وهكذا في كل شئ، وبالله تعالى التوفيق.
وشغب بعضهم بأن العامي إذا اختلف عليه الفقهاء فإنه مخير في أقوالهم.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، ولسنا نقول به، وقد بينا هذه المسألة في باب التقليد من كتابنا هذا، فأغنى عن إعادته، وموه بعضهم بأن قال: الميتة عين واحدة وهي حلال للمضطر حرام على غير المضطر.
قال أبو محمد: وهذا عين الشغب والتمويه، لاننا لم ندفع نحن اختلاف حكم العين الواحدة على إنسانين متغايرين، أو في وقتين مختلفين، بل هذا لازم في كل عين، فمال زيد حلال لزيد حرام على عمرو، والاكل في شوال حلال للبالغين العقلاء وحرام عليهم في رمضان، وهكذا جميع الشرائع أولها عن آخرها.
وهكذا كل أحد مرة تلزمه الصلاة إذا دخل وقتها، ومرة تحرم عليه قبل دخول وقتها، ومرة يحرم دم زيد، ومرة يحل، وإنما أنكرنا أن تكون الميتة حلالا لزيد حراما عليه في وقت واحد، وأن يكون البيع تاما قبل التفرق بالابدان، غير تام قبل التفرق بالابدان، والقصاص من القاتل واجبا حراما في وقت واحد، فمثل هذا الجنون أنكرنا لانه لا يصدقه ذو عقل، ولا من به طباخ، ولانه شئ لا يقدر عليه أحد، لانه يؤدي إلى الوسواس، وإلى أن يقال لزيد: إن فعلت هذا الفعل فأنت مأجور عليه وفي الجنة، وأنت آثم عليه وفي النار وفي وقت واحد، ولا سبيل إلى أن يكون أحد في النار وفي الجنة في وقت واحد، ولا أن يكون بفعل واحد عاصيا لله عز وجل بذلك الفعل مطيعا له في وقت واحد.
فهذا الوسواس أبطلنا لا غيره مما يعقل، وقال بعضهم: لو كنا مكلفين إصابة الحق لكان تعالى قد نصب عليه دليلا من أصابه علم أنه أصابه، ومن أخطأه علم أنه أخطأه.
قال أبو محمد: والجواب عن هذا: أن أوائل مذاهبنا كلها نحن نقول فيها بذلك، وأصل مذهبنا أن الاخذ بظاهر القرآن والحديث الصحيح حق، ونحن على يقين من أننا مصيبون في ذلك، وفي كل قول أدانا إليه أخذنا بظاهر القرآن والحديث الصحيح، وأن من خالفنا مخطئ عند الله عز وجل، ونحن على يقين من ذلك، لا نشك

(5/656)


فيه ولا يكن خلافه، وإنما يخفى علينا الحق في بعض الجزئيات، مثل بناء حديثين بأعيانهما لا ندري أيهما الناسخ من المنسوخ، ولسنا ننكر خفاء الحق علينا في بعض هذه المواضع، وقد علم غيرنا بلا شك وجه الحق فيما خفي علينا كما علمناه نحن فيما خفي على غيرنا، ومن شاهد النبي (ص) وورود الاوامر منه علم اليقين فيما غاب عنا بلا شك.
وقال بعضهم: قد يكون الانسان على مذهب يعضده ويقاتل عنه، ويعتقد الحق فيه ثم ينتقل إلى غيره.
قال أبو محمد: لو قال هذا من يبطل الحقائق لكان أشبه بقوله، وهذا لا معنى له، لان كل من كان على مذهب ثم تركه لآخر فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما البتة، إما أن يكون على حق ثم دخلت عليه شبهة لم ينعم فيها النظر، ولا تقصي البرهان على شرائطه، فترك الحق للباطل، وأخطأ في ذلك، أو كان على مذهب لم يقم له على صحته برهان، وإنما اعتقده بشبهة لم يتقص فيها طرائق البرهان فتركه لشبهة أخرى دخلت عليه، فانتقل من باطل إلى مثله، أو تركه لشئ يقوم عليه برهان صحيح، فانتقل من باطل إلى حق فهو لا بد مغفل ضرورة ومخطئ بلا شك، ومضرب عن طلب البرهان الصحيح، إما أنه لم يبلغه، وإما لانه لم يتقصه ولا تأمله، فلا بد له من الخطأ كما قلنا إما في اعتقاده الاول الذي انتقل عنه، وإما في اعتقاده الثاني الذي انتقل إليه أو في كليهما.
ونحن لم ننف الخطأ عن الناس بل أثبتناه،
وإنما نفينا التضاد على الحق، وأن ينتقل من حق غير منسوخ إلى حق مضاد لذلك الحق الذي انتقل عنه، فهذا هو المحال الذي لا سبيل إليه البتة.
وقد بينا وجوه البراهين الصحاح الذي لا يصح شئ إلا بها، والبرهان الذي لا يكون أبدا إلا صحيحا، وبينا ما يظن أنه برهان وليس ببرهان في كتابنا الموسوم بالتقريب لحدود المنطق - وهو كتاب جليل المنفعة عظيم الفائدة، لا غنى لطالب الحقائق عنه - فمن أحب أثلج، وأن يقف على علم الحقائق فليقرأه.
ثم ليقرأ كلامنا في وجوه المعارف من كتابنا الموسم بكتاب الفصل، ثم ليقرأ كتابنا هذا فإنه يلوح له الحقائق دون إشكال، وبالله تعالى التوفيق، فإذا بطل كل ما شغبوا به بحمد الله، فلنقل في إقامة البرهان على إبطال قولهم الفاسد وبالله تعالى نعتصم.

(5/657)


فمن ذلك أن القائلين بهذه المقالة إنما يقولون بها باتفاق منهم، حيث لا يوجد نص من قرآن أو سنة صحيحة على حسب اختلافهم في صفة ما يجب قبوله من السنن، وأما حيث يوجد نص قرآن أو سنة فلا يسع أحدا عندهم اجتهد في خلافها، بل هو مخطئ مخالفها عندهم.
قال أبو محمد: فإذا كان هذا قولهم فقد كفينا بحمد الله تعالى مؤونتهم، لانه لا نازلة إلا وفيها نص موجود، ولو لم يكن كذلك لكان ذلك الحكم شرعا في الدين ليس من الدين، وهذا تناقض وموهوا أيضا بلفظه الاجتهاد فقالوا: هذا مما يسوغ فيه الاجتهاد، وهذا مما لا يسوغ فيه الاجتهاد.
قال أبو محمد: حقيقة الامر هي أنهم إن كانوا يعنون بالاجتهاد اجتهاد المرء نفسه في طلب حكم دينه في مظان وجوده - ولا مظان لوجود الدين إلا القرآن والسنن - فقد صدقوا، والاجتهاد المذكور فرض على كل أحد في كل شئ من الدين، فهو قولنا، وإن كانوا يعنون بالاجتهاد أن يقول برأيه ما أداه إليه ظنه،
فهذا باطل لا يحل أصلا في شئ من الدين، وإيقاع لفظه الاجتهاد على هذا المعنى باطل في الديانة وباطل في اللغة، وتحريف للكلم عن مواضعه، ونعوذ بالله من هذا ومما يبطل قولهم - وإن كان فيما أوردنا كفاية - أنهم يقولون: إن كل قائل مجتهد فهو حق محق مصيب، ونحن نقول: إنهم في قولهم هذا مخطئون عند الله عز وجل بلا شك، وإنهم فيه على باطل، فإذا حكموا لنا بالصواب والصدق في قولنا، فقد أقروا ببطلان قولهم، لاننا محقون في قولنا أنهم مخطئون بإقرارهم، وفي هذا كفاية لمن عقل، ويقال لهم أفي المتكلمين في الفتيا أحد أخطأ أم لا ؟ فإن قالوا لا، كابروا لان الحس يشهد بأن الخطأ موجود، وإن قالوا نعم، تركوا قولهم الفاسد إن كل مجتهد مصيب، ويسألون عن نهيه تعالى عن التفرق أنهي عن حق أم عن باطل ؟ فإن قالوا: عن حق كفروا.
وإن قالوا: نهي عن باطل، تركوا قولهم الفاسد، وكل آية تلوناها في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا فهي مبطلة لقولهم الفاسد في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق.
ومن ذلك قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) * فلم يطلق لنا تعالى البقاء على التنازع وأمرنا بالرد

(5/658)


إلى النص والاخذ به، وأيضا فإن الدين ليس موكولا إلى ما أراد القائلون أن يقولوه وقائل هذا كافر، وإنما الدين مردود إلى نص إجماع، فمن خالف الوجه في ذلك فهو مخطئ.
وأيضا فإن الله تعالى يقول: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها) * وليس في الوسع أن يعتقد أحد كون شئ واحد حراما حلالا في وقت واحد على إنسان واحد، ولا أن الدين ينتقل حكمه من تحليل إلى تحريم إذا حرم الشئ مفت ما وحلله مفت آخر.
وأيضا فإن المفتي ليس له أن يشرع، ولا أن يحلل ولا أن يحرم، وإنما عليه أن
يخبر عن الله تعالى بحكمه في هذه النازلة، ومن المحال أن يكون حكم الله تعالى فيها غير مستقر، إما بتحليل، وإما بتحريم، وإما بوجوب.
قوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * مبين أن الحكم قد استقر في كل نازلة، إما بتحريم، وإما بتحليل، وإما بإيجاب، ومن حلل وحرم باختلاف الفقهاء، فقد أقر أنهم يحرمون ويحللون ويوجبون، فهذا كفر ممن اعتقده، وقوله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) * مبطل لقول من قال: إن الشئ يكون حراما حلالا باختلاف الفقهاء فيه، ومخبر أن قائل ذلك كاذب، وأنه ما حرم الله تعالى فهو حرام لا حلال، وما أحله تعالى فهو حلال لا حرام، وكذلك القول فيما أوجب تعالى.
وقال (ص): إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فلو لم يكن علينا إصابة الحق، وكنا لا يلزمنا شئ إلا الاجتهاد فقط - لكان كل أحد من الناس عالما بحكم تلك المشتبهات، بل كانوا ناقلين بأقوالهم للحرام البين إلى التحليل، وللحلال البين إلى التحريم وهذا كفر وتكذيب للنبي (ص).
فصح لما ذكرنا أن من لم يعلم تلك المشتبهات فقد جهلها، ومن جهلها فقد أخطأها ولم يصب الحق فيها، وصح أن القائل في الحرام: أنه حلال أو في الحلال أنه حرام مخطئ بيقين لا شك فيه، وبالله تعالى التوفيق.
ويلزم من قال: إن كل قائل مجتهد مصيب - أن يقول: إن من قال: إن المتأولين كفار أن يكون محقا صادقا، وأن يقول: إن من قال إنهم مؤمنون فساق

(5/659)


أن يكون محقا صادقا، وأن يقول: إن من قال إنهم مؤمنون غير فساق أن يكون محقا صادقا، فيلزم من هذا أن يكون الرجل كافرا مؤمنا فاسقا فاضلا في وقت واحد، وهذا لا يقوله من يقذف بالحجارة.
ويلزم من هذا أن يكون المرء في الجنة مخلدا، وفي النار مخلدا في وقت واحد، لان الكافر مخلد في النار، والمؤمن مخلد في الجنة، فإذا كان المرء كافرا بقول من قال فيه إنه كافر، ومؤمنا بقول من قال فيه إنه مؤمن فهو في الجنة وفي النار في وقت واحد، وهذا ما لا يقوله إلا موسوس، وكل ذلك قد قال به فضلاء أئمة من أهل العلم يعني تكفير أهل الاهواء، وإبطال تكفيرهم من الصحابة والتابعين إلى هلم جرا، ويكفي من هذا أن تعالى قد نص على أن سبيله واحدة، وأن سائر السبل متفرقة عن سبيله.
وقد نص النبي (ص) على تخطئة جماعة من الصحابة رضي الله عنهم من المجتهدين كتخطئته عليه السلام أبا بكر في تفسيره للرؤيا، وعمر في قوله في هجرة المهاجرين إلى الحبشة، وأسيد بن الحضير في قوله: بطل جهاد عامر ابن الاكوع، وسائر الفتاوى التي أخطؤوا فيها، كأبي السنابل في وضعه على الحامل المتوفى عنها زوجها آخر الاجلين، ومثل هذا كثير: وبالله تعالى التوفيق.
حدثنا محمد بن سعيد، نا أحمد بن عبد البصير، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشتي، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن خالد بن سعد قال: دخل أبو مسعود على حذيفة فقال: اعهد إلي، قال: ألم يأتك اليقين ؟ قال: بلى فإن الضلالة كل الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر أو تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله أو في أمر الله، فإن دين الله واحد، فبين حذيفة ووافقه أبو مسعود رضي الله عنهما، وهذا نص قولنا، والذي لا يجوز غيره، وهو ما استقر عليه الامر إذا مات النبي (ص) وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(5/660)


الباب السابع والعشرون في الشذوذ
قال أبو محمد: الشذوذ في اللغة - التي خوطبنا بها - هو الخروج عن الجملة، وهذه اللفظة في الشريعة موضوعة باتفاق على معنى ما، واختلف الناس في ذلك المعنى.
فقالت طائفة: الشذوذ هو مفارقة الواحد من العلماء سائرهم، وهذا قول قد بينا بطلانه في باب الكلام في الاجماع من كتابنا هذا، والحمد لله رب العالمين، وذلك أن الواحد إذا خالف الجمهور إلى حق فهو محمود ممدوح، والشذوذ مذموم بإجماع، فمحال أن يكون المرء محمودا مذموما من وجه واحد، في وقت واحد، وممتنع أن يوجب شئ واحد الحمد والذم معا في وقت واحد، من وجه واحد، وهذا برهان ضروري، وقد خالف جميع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في حرب أهل الردة، فكانوا في حين خلافهم مخطئين كلهم، فكان هو وحده المصيب، فبطل القول المذكور.
وقالت طائفة: الشذوذ هو أن يجمع العلماء على أمر ما، ثم يخرج رجل منهم عن ذلك القول الذي جامعهم عليه، وهذا قول أبي سليمان وجمهور أصحابنا، وهذا المعنى لو وجد نوع من أنواع الشذوذ، وليس حدا للشذوذ ولا رسما له، وهذا الذي ذكروا - لو وجد - شذوذ وكفر معا لما قد بينا في باب الكلام في الاجماع، أن من فارق الاجماع وهو يوقن أنه إجماع فقد كفر، مع دخول ما ذكر في الامتناع والمحال، وليت شعري متى تيقنا إجماع جميع العلماء كلهم في مجلس واحد فيتفقون، ثم يخالفهم واحد منهم، والذي نقول به - وبالله تعالى التوفيق: إن حد الشذوذ هو مخالفة الحق، فكل من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ، وسواء كانوا أهل الارض كلهم بأسرهم أو بعضهم، والجماعة والجملة هم أهل الحق، ولو لم يكن في الارض منهم إلا واحد فهو الجماعة وهو الجملة، وقد أسلم أبو بكر

(5/661)


وخديجة رضي الله عنهما فقط، فكانا هم الجماعة، وكان سائر أهل الارض
- غيرهما وغير رسول الله (ص) - أهل الشذوذ، وفرقة وهذا الذي قلنا، لا خلاف فيه بين العلماء، وكل من خالف فهو راجع إليه ومقربه شاء أو أبى، والحق هو الاصل الذي قامت السموات والارض به قال الله تعالى: * (وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق) * فإذا كان الحق هو الاصل فالباطل خروج عنه، وشذوذ منه فلما لم يجز أن يكون الحق شذوذا.
وليس إلا حق أو باطل صح أن الشذوذ هو الباطل، وهذا تقسيم أوله ضروري وبرهان قاطع كاف ولله الحمد.
ويسأل من قال: إن الشذوذ هو مفارقة الواحد للجماعة: ما تقول في خلاف الاثنين للجماعة ؟ فإن قال: هو شذوذ، سئل عن خلاف الثلاثة للجماعة، ثم يزاد واحدا واحدا هكذا أبدا، فلا بد له من أحد أمرين: إما أن يجد عددا ما بأنه شذوذ، وإن ما زاد عليه ليس شذوذا، فيأتي بكلام فاسد لا دليل عليه، فيصير شاذا على الحقيقة، أو يتمادى حتى يخرج عن المعقول وعن إجماع الامة فيصير شاذا على الحقيقة أيضا، ولا بد له من ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
فكل من أداه البرهان من النص أو الاجماع المتيقن إلى قول ما، ولم يعرف أحد قبله قال بذلك القول، ففرض عليه القول بما أدى إليه البرهان، ومن خالفه فقد خالف الحق، ومن خالف الحق فقد عصى الله تعالى، قال تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * ولم يشترط تعالى في ذلك أن يقول به قائل قبل القائل به، بل أنكر تعالى ذلك على من قاله، إذ يقول عز وجل حاكيا عن الكفار منكرا عليهم أنهم قالوا: * (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) *.
قال أبو محمد: ومن خالف هذا فقد أنكر على جميع التابعين، وجميع الفقهاء بعدهم، لان المسائل التي تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم من الاعتقاد أو الفتيا فكلها محصور مضبوط، معروف عند أهل النقل من ثقات المحدثين وعلمائهم، فكل مسألة لم يرو فيها قول عن صاحب، لكن عن تابع فمن بعده، فإن ذلك التابع
قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله بلا شك، وكذلك كل مسألة لم يحفظ فيها قول عن صاحب ولا تابع، وتكلم فيها الفقهاء بعدهم فإن ذلك الفقيه قد قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله، ومن ثقف هذا الباب فإنه يجد لابي حنيفة

(5/662)


ومالك والشافعي أزيد من عشرة آلاف مسألة لم يقل فيها أحد قبلهم بما قالوه، فكيف يسوغ هؤلاء الجهال للتابعين، ثم لمن بعدهم أن يقولوا قولا لم يقله أحد قبلهم، ويحرم ذلك على من بعدهم إلينا، ثم إلى يوم القيامة فهذا من قائله دعوى بلا برهان وتخرص في الدين، وخلاف الاجماع على جواز ذلك لمن ذكرنا، فالامر كما ذكرنا، فمن أراد الوقوف على ما ذكرنا فليضبط كل مسألة جاءت عن أحد من الصحابة، فهم أول هذه الامة، ثم ليضرب بيده إلى كل مسألة خرجت عن تلك المسائل، فإن المفتي فيها قائل بقول لم يقله أحد قبله، إلا أن بيننا نحن وبين غيرنا فرقا، وهو أننا لا نقول في مسألة قولا أصلا إلا وقد قاله تعالى في القرآن أو رسوله عليه السلام فيما صح عنه، وكفى بذلك أنسا وحقا.
وأما من خالفنا فإن أكثر كلامه فيما لم يسبق إليه، فمن رأيه، وكفى بهذا وحشة.
والحمد لله رب العالمين كثيرا وصلى الله على محمد خاتم النبيين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الباب الثامن والعشرون في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا وتسمية الفقهاء المذكورين في الاختلاف بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم قال أبو محمد: أما الصحابة رضي الله عنهم فهو كل من جالس النبي (ص) ولو ساعة، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها، أو شاهد منه عليه السلام أمرا يعيه، ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم، واشتهر حتى ماتوا على ذلك، ولا مثل من نفاه عليه السلام باستحقاقه كهيت المخنث ومن جرى مجراه، فمن كان كما وصفنا
أولا فهو صاحب، وكلهم عدل إمام فاضل رضي، فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم، وأن نستغفر لهم ونحبهم، وتمرة يتصدق بها أحدهم أفضل من صدقة أحدنا بما يملك، وجلسة من الواحد منهم مع النبي (ص) أفضل من عبادة أحدنا دهره كله، وسواء كان من ذكرنا على عهده عليه السلام صغيرا أو بالغا، فقد كان النعمان بن بشير، وعبد الله بن الزبير، والحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم أجمعين من أبناء العشر فأقل إذ مات النبي (ص).
وأما الحسين فكان حينئذ

(5/663)


ابن ست سنين إذ مات الرسول (ص)، وكان محمود بن الربيع ابن خمس سنين إذ مات النبي (ص) وهو يعقل مجة مجها النبي (ص) في وجهه من ماء بئر دارهم وكلهم معدودون في خيار الصحابة، مقبولون فيما رووا عنه عليه السلام أتم القبول، وسواء في ذلك الرجال والنساء والعبيد والاحرار.
وأما من أدرك رسول الله (ص) بعقله وسنه، إلا أنه لم يلقه فليس من الصحابة ولكنه من التابعين، وكأبي عثمان النهدي، وأبي رجاء العطاردي، وشريح بن الحارث القاضي، وعلقمة، والاسود، ومسروق، وقيس بن أبي حازم، والرحيل الجعفي، ونباتة الجعفي، وعمرو بن ميمون، وسلمان بن ربيعة الباهلي، وزيد بن صوحان، وأبي مريم الحنفي، وكعب بن سور، وعمرو بن يثربي وغيرهم، وأعداد لا يحصهم إلا خالقهم عز وجل، ومن هؤلاء من أفتى أيام عمر بن الخطاب وقضى بين الناس زمن عمر وعثمان.
وأما من ارتد بعد النبي (ص) وبعد أن لقيه وأسلم، ثم راجع الاسلام وحسنت حاله كالاشعث بن قيس، وعمرو بن معدي كرب، وغيرهما، فصحبته له معدودة، وهو بلا شك من جملة الصحابة لقول رسول الله (ص): أسلمت على ما سلف لك من خير وكلهم عدول فاضل من أهل الجنة، قال الله تعالى: * (محمد رسول الله
والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) * وقال تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) * وقال تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ئ لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون ئ لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) *.
قال أبو محمد: هذه مواعيد الله تعالى، ووعد الله مضمون تمامه، وكلهم ممن مات مؤمنا قد آمن وعمل الصالحات، وقال رسول الله (ص): دعوا لي أصحابي،

(5/664)


فلو كان لاحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقد قال قوم: إنه لا يكون صاحبا من رأى النبي (ص) مرة واحدة لكن من تكررت صحبه.
قال أبو محمد: وهذا خطأ بيقين لانه قول بلا برهان، ثم نسأل قائله عن حد التكرار الذي ذكر، وعن مدة الزمان الذي اشترط، فإن حد في ذلك حدا كان زائدا في التحكم بالباطل، وإن لم يجد في ذلك حدا كان قائلا بما لا علم له به، وكفى بهذا ضلالا، وبرهان بطلان قوله أيضا، إن اسم الصحبة في اللغة إنما هو لمن ضمته مع آخر حالة ما، فإنه قد صحبه فيها، فلما كان من رأى النبي (ص) وهو غير منابذ له ولا جاحد لنبوته قد صحبه في ذلك الوقت، وجب أن يسمى صاحبا، وأما التابعون ومن بعدهم فإنما لنا ظواهر أحوالهم، إذ لا شهادة من الله تعالى لاحد
منهم بالنجاة، وليس كل التابعين فمن بعدهم عدلا، فإنما يراعى أحوالهم، فمن ظهر منه الفضل والعلم فهو مقبول النقل.
قال أبو محمد: وقد غزا رسول الله (ص) هوازن بحنين في اثني عشر ألف مقاتل كلهم يقع عليهم اسم الصحبة، ثم غزا تبوك في أكثر من ذلك، ووفد عليه جميع البطون من جميع قبائل العرب وكلهم صاحب، وعددهم بلا شك يبلغ أزيد من ثلاثين ألف إنسان ووفد عليه (ص) وفود الجن فأسلموا وصح لهم اسم الصحبة، وأخذوا عنه (ص) القرآن وشرائع الاسلام وكل من ذكرنا ممن لقي النبي (ص) وأخذ عنه، فكل امرئ منهم، إنسهم وجنهم، فلا شك أفتى أهله وجيرانه وقومه.
هذا أمر يعلم ضرورة ثم لم ترو الفتيا في العبادا ت والاحكام إلا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط من رجل وامرأة بعد التقصي الشديد، فكيف يسع من له رمق من عقل، أو مسكة من دين وشعبة من حياء أن يدعي عليهم الاجماع فيما لا يوقن أن جميعهم قال به وعلمه، لا سيما وإنما ننازعهم في دعوى الاجماع عليهم في الخطأ المخالف لكلام الله عز وجل في القرآن، والثابت عن رسول الله (ص) فهذا هو العجب وفيما ذكرنا يقين العلم بكذب من ادعى الاجماع على ما يمكن أن يخفى من أحكام القرآن والسنن فكيف على خلاف القرآن والسنن.
قال أبو محمد: وهذا حين نذكر إن شاء الله تعالى اسم كل من روى عن مسألة

(5/665)


فما فوقها من الفتيا من الصحابة رضي الله عنهم وما فات منهم إن كان فات إلا يسير جدا ممن لم يرو عنه أيضا إلا مسألة واحدة أو مسألتان وبالله تعالى التوفيق.
المكثرون من الصحابة رضي الله عنهم فيما روي عنهم من الفتيا عائشة أم المؤمنين، عمر بن الخطاب، ابنه عبد الله، علي بن أبي طالب، عبد الله ابن العباس، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، فهم سبعة يمكن أن يجمع من فتيا
كل واحد منهم سفر صخم، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن العباس في عشرين كتابا، وأبو بكر المذكور أحد أئمة الاسلام في العلم والحديث.
والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا رضي الله عنهم أم سلمة أم المؤمنين، أنس بن مالك، أبو سعيد الخدري، أبو هريرة، عثمان ابن عفان، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن الزبير، أبو موسى الاشعري، سعد بن أبي وقاص، سلمان الفارسي، جابر بن عبد الله، معاذ بن جبل، وأبو بكر الصديق.
فهم ثلاثة عشر فقط.
يمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جدا ويضاف أيضا إليهم طلحة، الزبير، عبد الرحمن بن عوف، عمران ابن الحصين، أبو بكرة، عبادة بن الصامت، معاوية بن أبي سفيان.
والباقون منهم رضي الله عنهم مقلون في الفتيا لا يروي الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك فقط يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث وهم رضي الله عنهم أبو الدرداء، أبو اليسر، أبو سلمة المخزومي، أبو عبيدة بن الجراح، سعيد بن زيد، الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب، النعمان بن بشير، أبو مسعود، أبي بن كعب، أبو أيوب، أبو طلحة، أبو ذر، أم عطية، صفية أم المؤمنين، حفصة أم المؤمنين، أم حبيبة أم المؤمنين، أسامة بن زيد، جعفر بن أبي طالب، البراء بن عازب، قرظة بن كعب، أبو عبد الله البصري، نافع أخو أبي بكرة لامه، المقداد بن الاسود، أبو السنابل بن بعكك، الجارود العبدي، ليلى بنت قائف، أبو محذورة، أبو شريح الكعبي، أبو برزة الاسلمي، أسماء بنت أبي بكر، أم شريك الحولاء بنت تويت، أسيد بن الحضير، الضحاك بن قيس، حبيب بن

(5/666)


مسلمة، عبد الله بن أنيس، حذيفة بن اليمان، ثمامة بن أثال.
عمار بن ياسر، عمرو ابن العاص، أبو الغادية الجهني السلمي، أم الدرداء الكبرى، الضحاك بن خليفة المازني، الحكم بن عمرو الغفاري، وابصة بن معبد الاسدي، عبد الله بن جعفر، عوف بن مالك، عدي بن حاتم، عبد الله بن أبي أوفى.
عبد الله بن سلام، عمرو ابن عبسة، عتاب بن أسيد، عثمان بن أبي العاص، عبد الله بن سرجس، عبد الله ابن رواحة، عقيل بن أبي طالب، عائذ بن عمرو، أبو قتادة، عبد الله بن معمر العدوي، عمير بن سعد، عبد الله بن أبي بكر الصديق، عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عاتكة بنت زيد بن عمرو، عبد الله بن عوف الزهري، سعد بن معاذ، أبو منيب، سعد بن عبادة، قيس بن سعد، عبد الرحمن بن سهل، سمرة بن جندب، سهل بن سعد الساعدي، معاوية بن مقرن، سويد بن مقرن، معاوية بن الحكم، سهلة بنت سهيل، أبو حذيفة بن عتبة، سلمة بن الاكوع، زيد بن أرقم، جرير بن عبد الله البجلي، جابر بن سمرة، جويرية أم المؤمنين، حسان بن ثابت، حبيب بن عدي، قدامة بن مظعون، عثمان بن مظعون، ميمونة أم المؤمنين، مالك بن الحويرث، أبو أمامة الباهلي، محمد بن مسلمة، خباب بن الارت، خالد بن الوليد، ضمرة بن العيص، طارق بن شهاب، ظهير بن رافع، رافع بن خديج، فاطمة بنت رسول الله (ص)، فاطمة بنت قيس، هشام بن حكيم بن حزام، أبوه حكم بن حزام، شرحبيل بن السمط، أم سليم دحية بن خليفة الكلبي، ثابت بن قيس بن الشماس، ثوبان مولى رسول الله (ص) سرق، المغيرة بن شعبة، بريدة بن الحصيب الاسلمي، رويفع بن ثابت، أو حميدة، أو أسيد، فضالة بن عبيد، رجل يعرف بأبي محمد روينا عنه وجوب الوتر (هو من الانصار اسمه مسعود بن أوس نجاري بدري) زينب بنت أم المؤمنين، أم سلمة، عتبة بن مسعود، بلال المؤذن، مكرز، عرفة بن الحارث، سيار بن روح أو روح بن سيار، أبو سعيد بن المعلى،
العباس بن عبد المطلب، بسر بن أبي أرطاة، ويقال بسرة بن أرطاة صهيب بن سنان، أم أيمن، أم يوسف، ماعز، الغامدية.
فهم ثناح 1 (2).

(5/667)


وأما فقهاء التابعين الذين روي عنهم الفتيا فمن بعدهم فنحن إن شاء الله تعالى نذكر من عرف منهم على البلاد المشهورة في صدر الاسلام خاصة، وأما بعد ذلك فلا يحصيهم إلا الله عز وجل.
مكة أعزها الله عطاء بن رباح مولى أم كرز الخزاعية، طاوس بن كيسان الفارسي، والاسود والد عثمان بن الاسود، مجاهد بن جبر، عبيد بن عمر الليثي، ابنه عبد الله بن عبيد، عمرو بن دينار، عبد الله بن أبي مليكة، عبد الله بن سابط، عكرمة مولى ابن عباس وهؤلاء من أصحاب ابن عباس رضي الله عنهم، وقد أخذوا أيضا عن ابن عمر، وأم المؤمنين عائشة، وعلي جابر، ثم أبو الزبير المكي، وعبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وعبد الله بن طاوس، ثم بعدهم عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح، سفيان بن عيينة وكان أكثر فتياه في المناسك، وكان يتوقف في الطلاق وبعدهم مسلم بن خالد الزنجي، سعيد بن سالم القداح، وبعدهما محمد بن إدريس الشافعي، ثم ابن عمه إبراهيم بن محمد الشافعي، أبو بكر عبد الله، ابن الزبير الحميدي، أبو الوليد موسى بن أبي الجارود، ثم أبو بكر بن أبي مسرة، ثم غلب عليهم تقليد الشافعي إلا من لا نقف الآن على اسمه منهم.
المدينة أعزها الله وحرسها سعيد بن المسيب المخزومي، وكان على بنت أبي هريرة وأخذ عنه كثيرا وعن سعد بن أبي وقاص وغيره، عروة بن الزبير بن العوام، القسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وأخذ عن عائشة أم المؤمنين، عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود
الهذلي وأخذ عن ابن عباس، خارجة بن زيد بن ثابت وأخذ عن أبيه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، سليمان بن يسار، أخذ عن أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة وعن غيرهما من الصحابة، وهؤلاء هم الفقهاء السبعة المشهورون في المدينة.
وكان من أهل الفتيا أيضا فيها أبان بن عثمان بن عفان، وأخذ عن أبيه، عبد الله، وسالم ابنا عبد الله بن عمر، أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،

(5/668)


ابنه محمد وأخذ عن جابر أبو بكر بن سليمان أبي خيثمة العدوي عدي قريش، نافع مولى ابن عمر، روينا عنه نحو عشر مسائل من فتياه، عمرة بنت عبد الرحمن ابن سعد بن زرارة أخي أبي أمامة، أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وذكر سفيان أنها كانت تستفتى في البيوع وأخذت عن عائشة وعن الصواحب الانصاريات، ومروان بن الحكم قبل أن يقوم بالشام، وكان دون هؤلاء، وبعدهم أبو بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم وابناه محمد وعبد الله، عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وابنه محمد، عبد الله والحسن ابنا محمد بن الحنفية وهو محمد بن علي بن أبي طالب، جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عبد الرحمن بن القاسم، بن محمد بن أبي بكر الصديق، مصعب بن محمد بن شرحبيل العبدري، محمد بن المنكدر التيمي، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
وقد جمع محمد بن أحمد بن مفرج فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه - عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، يحيى بن سعيد بن قيس الانصاري، أبو الزناد عبد الله بن يزيد بن هرمز، عمر بن حسين، سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - ربيعة بن أبي عبد الرحمن مولى بن تميم من قريش - وهو ربيعة الرأي - العباس بن عبد الله
ابن معبد بن العباس بن عبد المطلب، عبد الرحمن بن حرملة الاسلمي، زيد بن أسلم، عثمان بن عروة بن الزبير، صفوان بن سليم، إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد ابن العاص الاموي.
ثم كان بعد هؤلاء عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ابن الخطاب، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب القرشي العامري، محمد بن إسحاق، مالك بن أنس، عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ولي قضاء المدينة، وبفتياه ضرب جعفر بن سليمان بن علي ابن عبد الله بن العباس مالك بن أنس، وبعدهم أصحاب مالك: كعبد العزيز بن أبي حازم والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة، المخزومي، ومحمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل بن الوليد بن المغيرة وله ديوان كبير جدا سماعه من مالك، وعبد الله بن نافع الاعور الصائغ، وعبد الملك ابن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان ابن يسار، وأبو مصعب أحمد بن بكر الحارث بن أبي زرارة بن المصعب بن عبد الرحمن

(5/669)


ابن عوف الزهري، وهو آخر من بقي من الفقهاء المشاهير بالمدينة، ومات سنة اثنتين وأربعين ومائتين أيام المتوكل، وولي قضاء المدينة، وقل العلم بها بعد ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فقهاء البصرة بعد الصحابة رضي الله عنهم عمرو بن سلمة الجرمي، وأدرك النبي (ص) ولابيه صحبة، أبو مريم الحنفي، كعب بن سور، عمرو بن يثربي، والحسن بن أبي الحسن وأدرك خمسمائة من الصحابة.
وقد جمع بعض الفقهاء فتياه في سبعة أسفار ضخمة، جابر بن زيد أبو الشعثاء، أخذ عن ابن عباس، محمد بن سيرين، يحيى بن يعمر أبو قلابة عبد الله ابن زيد الجرمي، مسلم بن يسار، أبو العالية الرياحي مولى بكر بن عبد الله المزني،
صليبة حميد بن عبد الرحمن، مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي، زرارة ابن أوفى، أبو بردة بن أبي موسى الاشعري، معبد بن عبد الله، عكيم الجهني، عبد الملك بن يعلى الليثي القاضي، بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري، وهؤلاء لقوا أكابر الصحابة رضي الله عنهم.
ثم كان بعدهم: أيوب بن كيسان السختياني، سليمان بن طرخان التيمي مولى يونس بن عبيد، عبد الله بن عون، خالد بن أبي عمران، القاسم بن ربيعة، أشعث بن عبد الملك الحمراني، حفص بن سليمان المنقري، قتادة بن دعامة السدوسي، إياس بن معاوية القاضي.
وبعدهم: سوار بن عبد الملك القاضي العنبري، أبو بكر العتكي، عثمان بن مسلم البتي، طلحة بن إياس القاضي، عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي، أشعث بن جابر، عمرو بن عبيد، ثم كان بعد هؤلاء: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، سعيد بن أبي عروبة، حماد بن سلمة، حماد بن زيد، عبد الله بن داود الخريبي، إسماعيل بن علية، بشر بن المفضل بن لاحق، معاذ بن معاذ العنبري، أبو عاصم الضحاك بن مخلد، معمر بن راشد، قريش بن أنس، عبيد الله بن معاذ، محمد بن عبد الله الانصاري، كلثوم بن كلثوم.

(5/670)


ثم دخل عندهم رأي أبي حنيفة بيوسف بن خالد وغيره، ورأى مالك بأحمد بن المعذل إلا قليلا ممن لم يبلغنا أمره.
وممن بلغنا ذكره كسليمان بن حرب الواشجي فإنه كان جاريا على السنن الاولى في فتياه، وإبراهيم بن علية، ويحيى بن أكثم القاضي، وعبد السلام بن عمر، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وخالد بن الحارث الهجيمي، وعبد الوارث بن سعيد التنوري، وشعبة بن الحجاج.
ونظرائهم من أئمة المحدثين ممن لا شك في سعة علمه بالسنن والآثار عن الصحابة وفي أنه كان لا يقلد أحدا في دينه.
فهم معدودون فيمن ذكرنا ولكن فتاويهم قليلة جدا، وإنما كانوا يعولون في فتياهم على ما رووا من فتاوى الصحابة والتابعين ولا يكادون في كثير ممن ذكرنا لا يحفظ عنه إلا المسألة والمسألتين ونحو ذلك وكثير منهم أكثر من الفتيا جدا.
فقهاء الكوفة بعد الصحابة رضي الله عنهم علقمة بن قيس النخعي الاسود بن يزيد النخعي وهو عم علقمة أخو أبيه، أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني، مسروق بن الاجدع الهمداني، عبيدة السلماني، شريح بن الحارث الكندي القاضي، سلمان بن ربيعة الباهلي، زيد بن صوحان، سويد بن غفلة، الحارث بن قيس الجعفي، عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي، أخو الاسود بن يزيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود القاضي، خيثمة بن عبد الرحمن أبو حذيفة، سلمة بن صهيب، أبو عطية مالك بن عامر أبو الاخوص، عبد الله بن سخيرة، رزبن حبيش الاسدي، خلاس بن عمرو وهو من أصحاب علي رضي الله عنه.
عمرو بن ميمون الاودي من أصحاب معاذ بن جبل، همام بن الحارث، نباتة الجعفي، الحارث بن سويد، زيد بن معاوية النخعي، معضد الشيباني، الربيع بن خيثم الثوري، عتبة بن فرقد السلمي ابنه عمرو، صلة بن زفر العبسي، شريك بن حنبل، أبو وائل شقيق بن سلمة الاسدي، عبيد بن نضلة.
وهؤلاء أصحاب ابن مسعود وعلي وأكابر التابعين كانوا يفتون في الدين ويستفتيهم الناس وأكابر الصحابة أحياء حاضرون يجوزون لهم ذلك وأكثرهم قد أخذ عن عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين وعلي وغيرهم ولقي عمر بن ميمون معاذ بن جبل وصحبه وأخذ عنه ففعل ذلك وأوصاه معاذ عند موته أن يلحق بابن مسعود فيصحبه ويطلب

(5/671)


العلم عنده، ويضاف إلى هؤلاء أبو عبيدة وعبد الرحمن ابنا عبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن أبي ليلى الانصاري.
وأخذ عن مائة وعشرين من الصحابة
وميسرة وزاذان والضحاك المسرفي.
ثم كان بعدهم: إبراهيم النخعي وعامر الشعبي، وسعيد بن جبير مولى بني أسد صاحب ابن عباس، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي، وأبو بكر بن أبي موسى الاشعري وكان سائر إخوته بالبصرة ومحارب بن دثار سدوسي، والحكم بن عتيبة، وجبلة بن سحيم الشيباني وصحب ابن عمر.
ثم كان بعد هؤلاء حماد بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر السلمي والمغيرة بن مقسم الضبي وسليمان الاعمش مولى بني أسد ومصعر بن كدام الهلالي.
ثم كان بعد هؤلاء: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي وعبد الله بن شبرمة القاضي الضبي، وسعيد بن أشوع القاضي وشريك القاضي النخعي والقاسم بن معن وسفيان بن سعيد الثوري، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت والحسن بن صالح بن حي.
ثم كان بعدهم: حفص بن غياث القاضي ووكيع بن الجراح وأصحاب أبي حنيفة، كأبي يوسف القاضي وزفر بن الهزيل بصري سكن الكوفة وحماد بن أبي حنيفة والحسن بن زياد اللؤلؤي القاضي، ومحمد بن الحسن قاضي الرقة وعافية القاضي وأسد بن عمرو ونوح بن دراج القاضي وأصحاب سفيان الثوري كالاشجعي والمعافى بن عمران وصاحبي الحسن بن حي حميد الرؤاسي ويحيى بن آدم وقوم من أصحاب الحديث لم يشتهروا بالفتيا.
ثم غلب عليهم تقليد أبي حنيفة وإنما ذكرنا من ذكرنا من أصحاب أبي حنيفة دون سائرهم، لانهم لم يستهلكوا في التقليد، بل خالفوه باختيارهم في كثير من الفقه، فدخلوا من أجل ذلك في جملة الفقهاء.
وكذلك من ذكرنا في فقهاء المدينة من أصحاب مالك ومن نذكره منهم في فقهاء أهل مصر.
وأما من استهلك في التقليد فلم يخالف صاحبه في شئ فليس أهلا أن يذكر في أهل الفقه ولا يستحق أن يلحق اسمه في أهل العلم لانه ليس منهم، ولكنه
كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(5/672)


فقهاء أهل الشام بعد الصحابة رضي الله عنهم أبو إدريس الخولاني ولقي معاذا وأخذ عنه شرحبيل بن الصمت عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وطلب بالمدينة.
وجنادة بن أبي أمية، وسليمان بن حبيب المحاربي والحارث بن عميرة الزبيدي وخالد بن معدان وعبد الرحمن بن غنم الاشعري وجبير بن نفير، ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير ومكحول وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة، وكان عبد الملك بن مروان يعد في الفقهاء قبل أن يلي ما ولي، وحدير بن كريب.
ثم كان بعد هؤلاء: يحيى بن حمزة القاضي وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الاوزاعي وإسماعيل بن أبي المهاجر وسليمان - هو مولى - ابن موسى الاموي وسعيد ابن عبد العزيز ثم مخلد بن الحسين والوليد بن مسلم والعباس بن يزيد صاحب الاوزاعي، وشعيب بن إسحاق صاحب أبي حنيفة وأبو إسحاق الفزاري صاحب ابن المبارك.
ثم لم يكن بعد هؤلاء في الشام فقيه مشهور.
فقهاء مصر بعد الصحابة رضي الله عنهم يزيد بن أبي حبيب وبكير بن عبد الله بن الاشج وبعدهما عمرو بن الحارث، وقد روي عن ابن وهب أنه قال: لو عاش لنا عمرو بن الحارث ما احتجنا معه إلى مالك ولا إلى غيره، وهو أنصاري، والليث بن سعد، وعبيد الله بن أبي جعفر، وبعدهم أصحاب مالك كعبد الله بن وهب وعثمان بن كنانة وأشهب وابن القاسم على غلبة تقليد مالك عليه إلا في الاقل.
ثم أصحاب الشافعي كأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم.
ثم غاب عليهم تقليد مالك وتقليد الشافعي إلا قوما قليلا لهم
اختيارات كمحمد بن يوسف وأبي جعفر أحمد بن محمد الصحاوي وغيرهما.
وكان بالقيروان سحنون بن سعيد، وله كثير من الاختيار، وسعيد بن محمد بن الحداد.
وكان بالاندلس ممن له أيضا شئ من الاختيار يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب وبقي بن مخلد وقاسم بن محمد صاحب الوثائق، يحفظ لهم فتاوى يسيرة.
وكذلك أسلم بن عبد العزيز القاضي ومنذر بن سعيد.

(5/673)


وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف: مسعود بن سليمان بن مفلت، ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري.
وكان باليمن مطرف بن مازن قاضي صنعاء وعبد الرزاق بن همام، وهشام بن يوسف، ومحمد بن ثور، وسماك بن الفضل.
والائمة المتقدمين من أهل الثبات على السنن الاول، ولكنهم ليسوا في أعداد أهل الامصار، منهم خراسانيون، ومنهم من سكن بغداد.
قال أبو محمد: عبد الله بن المبارك الخراساني، ونعيم بن حماد، وأبو ثور إبراهيم ابن خالد الكلبي صاحب الشافعي بغدادي وأحمد بن محمد بن حنبل مروزي سكن بغداد، وإسحاق بن راهويه نيسابوري سكن بغداد، وأبو عبيد القاسم بن سلام اللغوي كوفي سكن بغداد، وسليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وحسين بن علي الكرابيسي بغدادي، وكان أبو خيثمة زهير بن حرب يجري مجراهم، ولم يكن له اتساعهم، وأبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي صليبة، وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازيان، وكان هشيم بن بشير له اختيارات.
وكان بعد هؤلاء: داود بن علي، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ثم محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، وأصحاب داود كمحمد ابنه، وعبد الله بن أحمد بن المغلس، وعبد الله بن محمد رويم وعبد الله بن محمد الرضيع، وأبي بكر بن النجار، وأبي بكر أحمد بن محمد الاواني، والخلال، وأبي الطيب محمد بن أحمد الدياجي، بغداديون كلهم.
ومن نظرائهم ولكنهم من أصحاب القياس: أبو عبيد علي بن حرب قاضي مصر وأبو إسحاق إبراهيم بن جعفر بن جابر قاضي حلب، وكانا مائلين إلى الشافعي، ومن هؤلاء أيضا: محمد بن شجاع البلخي، وأحمد بن أبي عمران، وبكار بن قتيبة بصري ولي قضاء مصر وبها مات.
فهؤلاء أيضا لهم اختيارات وإن كانوا في الاغلب لا يفارقون أبا حنيفة وأصحابه زفر وأبا يوسف ومحمد بن الحسن.
قال أبو محمد: وهذا الباب له منفعة عظيمة في تكذيب دعوى الاجماع في مسائل

(5/674)


الفقه التي لا تعم أقوال الناس فيها إلا بالرواية فهؤلاء - الذين ذكرناهم الذين يعتد خصومنا بأقوالهم في الخلاف وبإجماعهم في الاجماع بعد إجماع الصحابة وهؤلاء الذين رويت عنهم الاقوال في مسائل الفقه.
وكثير من هؤلاء لا يحفظ عنهم إلا المسألتان والثلاث وربما فاتنا من لم نذكر إلا أنهم بشك يسير، وممن لا يحفظ عنه إلا اليسير جدا، ونحن بشر والكمال من الناس للنبيين عليهم السلام ولمن وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بالكمال، وبالله تعالى التوفيق.
فإذا لم يضبط من التابعين إلا من سمينا، وكل من يدري شيئا من الاخبار يوقن قطعا بأنهم ملؤوا الارض من أقصى السند وأقصى خراسان إلى أرمينية وأذربيجان إلى الموصل وديار ربيعة وديار مضر إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا إلى أقصى الاندلس إلى أقاصي بلاد البربر إلى الحجاز واليمن وجميع جزيرة
العرب إلى العراق إلى الاهواز إلى فارس إلى كرمان إلى سجستان إلى كابل إلى السند وأصبهان وطبرستان وجرجان والجبال، وأن جميع هذه البلاد فشا فيها الاسلام وغلب عليها، ولله تعالى الحمد.
وإنه لم يكن للمسلمين في جميع ما ذكرنا من البلاد ولا قرية ضخمة إلا كان فيها المفتي والمقرئ وربما أكثر من واحد، فكيف يسوغ لدى عقل - له حظ من دين يخاف الله تعالى في الكذب، ويتقي العار والشهرة والافتضاح بالافك على كل مفت كان في البلاد المذكورة - في دعواه الاجماع على ما لا يتيقن أن كل واحد من مفتي جميع تلك البلاد قال به وإذا كان ممن سميناهم جزءا يسيرا ممن لم يبلغنا اسمه لا يوجد لاكثرهم إلا مسائل يسيرة جدا وهم عدد يسير فأين فتاويهم في سائر ما لم يرد عنهم فكيف بمن لم يسم منهم ؟.
فصح يقينا أنه لا يحصي جميع أقوال التابعين.
ثم أقوال أهل عصر بعدهم في كل نازلة إلا الله تعالى خالقهم الذي لا يخفى عليه شئ من خلقه.
ووالله ما أحصت الملائكة ذلك، لان كل ملك إنما يحصي أقوال من جعل عليه حفيظا ورقيبا عتيدا لا قول من سواه، فكيف أن يتعاطى الاحصاء لذلك كله من لم يؤت العلم إلا قليلا ؟.
فوضح وضوحا كالشمس في يوم صحو أن كل من ادعى الاجماع على ما عدا

(5/675)


ما قد جاء اليقين بأن من لم يقله لم يكن مسلما - فهو كاذب آفك مفتر ونعوذ بالله من الكذب على كافر واحد فكيف على ناس كثير، فكيف على مؤمن فكيف على جميع علماء أهل الاسلام، أولهم عن آخرهم.
قديما وحديثا هذا أمر تقشعر منه الجلود ونعوذ بالله العظيم من الخذلان، ثم إنه لا سبيل أن يوجد في مسألة ذكر قول لكل من سمينا على قلتهم فيمن لم نسم وإنما يوجد في المسألة رواية عن
بضع عشر رجلا فأقل مختلفين أيضا.
ومن عنى بروايات المصنفات والاحاديث المنثورة وقف على ما قلنا يقينا.
وكل هذا مبين كذب من ادعى الاجماع على غير ما ذكرنا.
وبالله تعالى التوفيق.
الباب التاسع والعشرون في الدليل قال أبو محمد: ظن قوم بجهلهم أن قولنا بالدليل خروج منا عن النص والاجماع وظن آخرون أن القياس والدليل واحد، فأخطؤوا في ظنهم أفحش خطأ.
ونحن إن شاء الله عز وجل نبين الدليل الذي نقول به بيانا يرفع الاشكال جملة فنقول وبالله تعالى التوفيق: الدليل مأخوذ من النص ومن الاجماع.
فأما الدليل المأخوذ من الاجماع فهو ينقسم أربعة أقسام كلها أنواع من أنواع الاجماع وداخلة تحت الاجماع وغير خارجة عنه، وهي استصحاب الحال، وأقل مقيل وإجماعهم على ترك قولة ما، وإجماعهم على أن حكم المسلمين سواء وإن اختلفوا في حكم كل واحدة منها وهذه الوجوه قد بيناها كلها في كلامنا في الاجماع فأغنى عن تردادها.
وبالله تعالى التوفيق.
وأما الدليل المأخوذ من النص، فهو ينقسم أقساما سبعة كلها واقع تحت النص: أحدها: مقدمتان تنتج نتيجة ليست منصوصة في إحداهما كقوله (ص): كل مسكر خمر وكل خمر حرام النتيجة: كل مسكر حرام، فهاتان المقدمتان دليل برهاني على أن كل مسكر حرام.

(5/676)


وثانيها: شرط معلق بصفة فحيث وجد فواجب ما علق بذلك الشرط، مثل قوله تعالى: " إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " فقد صح بهذا أن من انتهى غفر له.
وثالثها:
لفظ يفهم منه معنى فيؤدى بلفظ آخر وهذا نوع من تسميه أهل الاهتبال بحدود الكلام المتلائمات مثل قوله تعالى: * (إن إبراهيم لاواه حليم) * فقد فهم من هذا فهما ضروريا أنه ليس بسفيه وهذا هو معنى واحد يعبر عنه بألفاظ شتى كقولك الضيغم والاسد والليث والضرغام وعنبسة، فهذه كلها أسماء معناها واحد وهو الاسد.
رابعها: أقسام تبطل كلها إلا واحدا فيصح ذلك الواحد مثل أن يكون هذا الشئ إما حرام فله حكم كذا، وإما فرض له حكم كذا وإما مباح فله حكم كذا، فليس فرضا ولا حراما فهو مباح له حكم كذا أو يكون قوله يقتضي أقساما كلها فاسد فهو قول فاسد.
وخامسها: قضايا واردة مدرجة فيقتضي ذلك أن الدرجة العليا فوق التالية لها بعدها وإن كان لم ينص على أنها فوق التالية، مثل قولك: أبو بكر أفضل من عمر، وعمر أفضل من عثمان، فأبو بكر بلا شك أفضل من عثمان.
وسادسها: أن نقول: كل مسكر حرام، فقد صح بهذا أن بعض المحرمات مسكر وهذا هو الذي تسميه أهل الاهتبال بحدود الكلام، عكس القضايا، وذلك أن الكلية الموجبة تنعكس جزئية أبدا.
وسابعها: لفظ ينطوي فيه معان جمة مثل قولك: زيد يكتب، فقد صح من هذا اللفظ أنه حي، وأنه ذو جارحة سليمة يكتب بها وأنه ذو آلات يصرفها، ومثل قوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) * فصح من ذلك أن زيدا يموت وأن هندا تموت وأن عمرا يموت وهكذا كل ذي نفس، وإن لم يذكر نص اسمه.
فهذه هي الادلة التي نستعملها وهي معاني النصوص ومفهومها وهي كلها واقعة تحت النص وغير خارجة عنه أصلا، وقد بيناها وأنعمنا الكلام عليها في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب واقتصرنا ههنا على هذا المقدار من ذكرها فقط، وجميع هذه الانواع كلها لا تخرج من أحد قسمين، إما تفصيل لجملة، وإما عبارة عن معنى واحد بألفاظ شتى، كلغة يعبر عنها بلغة أخرى.
وأما ما أدرك بالحس فقط جاء النص بقبوله عز وجل: * (أم لهم أعين يبصرون بها) * وسائر النصوص المستشهد فيها بالحواس وبالعقل، مع أن الحواس

(5/677)


والعقل أصل لكل شئ وبهما عرفنا صحة القرآن والربوبية والنبوة فلم نحتج في إثباتها بالنص، لانه لولا النص لم يصح ما يدرك بالعقل والحواس لكن حسما لشغب أهل الضعف العاكسين للاستدلال القائلين لا نأخذ إلا ما في النصوص.
وقد مضى الكلام في هذا في (باب إثبات حجة العقل) من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق، والاستدلال هو غير الدليل، لانه قد يستدل من لا يقع على الدليل، وقد يوجد الاستدلال وهو طلب الدليل ممن لا يجد ما يطلب وقد يرد الدليل مهاجمة على من لا يطلبه، إما بأن يطالعه في كتاب، أو يخبره به مخبر أو يثوب إلى ذهنه دفعه، فصح أن الاستدلال غير الدليل، وصح أن دليلنا غير خارج عن النص أو الاجماع أصلا، وأنه إنما هو مفهوم اللفظ فقط، والعلة لا تسمى دليلا، والدليل لا يسمى علة، فالعلة هي كل ما أوجب حكما لم يوجد قط أحدهما خاليا من الآخر كتصعيد النار للرطوبات واستجلابها الناريات فذلك من طبعها.
وههنا خلط أصحاب القياس فسموا الدليل علة والعلة دليلا ففحش غلطهم وسموا حكمهم في شئ لم ينص عليه بحكم قد نص عليه شئ آخر دليلا وهذا خطأ بل هذا هو القياس الذي ننكره ونبطله فمزجوا المعاني وأوقعوا على الباطل اسم معنى صحيح وعلى معنى صحيح اسم معنى باطل، فمزجوا الاشياء وخلطوا ما شاؤوا.
ولم يصفوا بعض المعاني من بعض فاختلط الامر عليهم وتاهوا ما شاؤوا والحمد لله على هدايته وتوفيقه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وبالله تعالى التوفيق والحول والقوة به عز وجل.
الباب الثلاثون في لزوم الشريعة الاسلامية لكل مؤمن وكافر في الارض ووقت لزوم الشرائع للانسان
قال أبو محمد: قال الله تعالى: * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) * فأمر تعالى بني آدم جملة كما ترى وقال عز وجل: * (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث وقال تعالى: * (في جنات يتساءلون عن

(5/678)


المجرمين ئ ما سلككم في سقر ئ قالوا لم نك من المصلين ئ ولم نك نطعم المسكين ئ وكنا نخوض مع الخائضين ئ وكنا نكذب بيوم الدين ئ حتى أتانا اليقين) * فنص تعالى كما ترى أنه يعذب المكذبين بيوم الدين - وهم الكفار بلا شك - على تركهم الصلاة، وترك إطعام المسكين، وقال عز وجل: * (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ئ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ئ ولا يحض على طعام المسكين) * فنص تعالى كما ترى أيضا على أن نوع الكفار معذبون لانهم لم يطعمون المساكين، وقال: * (وما أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * وأمره تعالى أن يقول: * (قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) * هو نص جلي على لزوم شرائع الاسلام كلها للكفار كلزومها للمؤمنين، إلا أن منها ما لا يقبل منهم إلا بعد الاسلام، كالصلاة والصيام والحج، وهم في ذلك كالجنب وتارك النية والمحدث لا تقبل منه صلاة حتى يطهر، ولا صيام ولا حج إلا بإحداث النية في ذلك وقال تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) * فنص تعالى على أنهم عصاة، إذ لا يحرمون ما حرم الله ورسوله (ص) وقال تعالى: * (وطعامكم حل لهم " فصح أن طعامنا حل لهم شاؤوا أو أبوا، وقال تعالى: * (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله) * وروينا عن ابن عباس بسند جيد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: * (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم.
وإذا قد صح كل هذا بيقين فواجب أن يحدوا على الخمر والزنى، وأن تراق خمورهم، وتقتل خنازيرهم، ويبطل رباهم، ويلزمون من الاحكام كلها في النكاح والمواريث والبيوع والحدود كلها وسائر الاحكام، مثل ما يلزم المسلمون، ولا فرق، ولا يجوز غير هذا، وأن يؤكل ما ذبحوا من الارانب، وما نحروا من الجمال،
ومن كل ما لا يعتقدون تحليله، لان كل ذلك حلال لهم بلا شك، ومن خالف قولنا فهو مخطئ عند الله عز وجل بيقين، وقد أنكر تعالى ذلك عليهم فقال تعالى: * (أفحكم الجاهلية يبغون) * وكل من أباح لهم الخمر ثم لم يرض حتى أغرمها المسلم إذا أراقها

(5/679)


عليهم، فقد حكم بحكم الجاهلية، وترك حكم الله ورسوله (ص) لحكم الطاغوت والشيطان الرجيم، نعوذ بالله من ذلك، مع أن خصومنا في هذا يتناقضون أقبح تناقض، فيحدونهم في القذف والسرقة كما يحدون المسلمين، ولا يحدونهم في الزنى والخمر، ويأكلون بعض الشاة التي يذكيها اليهودي، ولا يأكلون بعضها، إنفاذا لافك اليهود.
وتركا لنص الله تعالى على أن طعامنا حل لهم، وطعامهم حل لنا، وبالله تعالى نعوذ من مثل هذه الاقوال الفاحشة الخطأ، وقال تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) * وقال تعالى: * (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به وقال تعالى: * (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة وقال تعالى: * (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها وحدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا أبو غسان المسمعي، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن بشار بن عثمان، واللفظ لابي غسان، وابن المثنى قالا: ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله (ص) قال ذات يوم في خطبته: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما تجهلون مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم.
قال أبو محمد: عياض بن حمار هذا من بني تميم فكان صديق النبي (ص) في الجاهلية وحرميه، ومعنى حرميه أن عياضا كان من الحلة، وكان النبي (ص) من الحمس، وكان لكثير من رجال الحلة إخوان من الحمس يطوفون في ثيابهم فكان كل صديق منهم يقال له: هذا حرمي فلان، فكان عياض يطوف إذا طاف بالكعبة في ثياب النبي (ص).
وبالسند المذكور إلى مسلم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو معاوية، عن الاعمش،

(5/680)


عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): ما من مولود يولد إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه.
قال أبو محمد: هذه الآيات التي تلونا، والحديثان اللذان ذكرنا، يبينان مراد النبي (ص) بقوله: ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ورواه عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي (ص): من يولد يولد على هذه الفطرة وفيه: حتى تكونوا أنتم تجدعونها فصح بهذا كله ضرورة أن الناس كلهم مولودون على الاسلام، وهذا تأويل قوله تعالى: * (إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا) * فقبول الملة الاسلامية هي الامانة، وأن الله تعالى خلق الانفس كلها جملة، وهي الحساسة العاقلة المميزة، ثم واثقها بالاسلام فقبلته، ثم أقرها حتى نقل كل نفس منها إلى جسدها فأقامت فيه ما أقامت، ثم تعود إلى مقرها عند سماء الدنيا حيث رآها النبي (ص) ليلة الاسراء، فأهل السعادة في محل اليمين في سرور وخير، وأهل الشقاء في محل الشمال في نكد ومشقة إلى يوم القيامة، فينزلون منازلهم من الجنة والنار بعد أن تكسي أجسادا على العظام المخرجة من القبور بعد أن أرمت وهذا نص قوله
تعالى: * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ونص قوله تعالى: * (وأمآ إن كان من أصحاب اليمين ئ فسلام لك من أصحاب اليمين) * وقال تعالى: * (فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة ئ وأصحاب المشأمة مآ أصحاب المشأمة) * وقوله تعالى: * (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) * بيان جلي أن النفوس إذا حلت الاجساد الكدرة الارضية في الدنيا، فإنها ينتقص تمييزها، ويذهب ذكرها لما سلف، وأنها إذا فارقتها صح حسها، وذكا تمييزها، وصفا إدراكها، قال تعالى: * (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) * وأخبر تعالى أن الدنيا غرور، فسبحان مخترع الكل ومدبره، لا إله إلا هو.
فبهذا وبغيره قلنا: ألا يترك أحد على غير دين الاسلام إلا من صح النص

(5/681)


على إقراره، وأن النبي عليه السلام أقرهم، فأوجبنا ألا نقبل جزية ولا نقر على غير الاسلام من خرج من دين كتابي إلى دين كتابي آخر، ولا من دان آباؤه بعد مبعث النبي (ص) بدين كتابي انتقلوا إليه عن كفرهم، ولا من كان في أجداده أو جداته من أي جهة كان مسلم أو مسلمة وإن بعد وبعدت، ولا من سبي وهو بالغ، وسواء سبي مع أبويه أو مع أحدهما، ولا يترك كافر بتباعه أصلا، ولا يقبل من كل من ذكرنا إلا الاسلام أو السيف، لان الاسلام دين كل مولود، وقد قال عليه السلام: من غير دينه فاقتلوه وقال تعالى: * (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) * فحرم القبول من أحد غير الاسلام إلا من جاء النص بتركه عليه، وأنه مخصوص من هذه الآية، والدلائل على هذا تكثر جدا.
وقوله تعالى: * (لا إكراه في الدين) * مخصوص بالنصوص الثابتة أن رسول الله (ص) أكره غير أهل الكتاب على الاسلام أو السيف، وأيضا فإن الامة كلها مجمعة على إكراه المرتد على الاسلام، والقوم الذين أخبر عز وجل أنهم أوتوا الكتاب، ثم أمر تعالى بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد، قد ماتوا وحدث
غيرهم، والحس يشهد بأن هؤلاء الذين هم أبناء أولئك ليسوا الذين أوتوا التوراة والانجيل والصحف والزبور، بل هم غيرهم بلا شك، فإنما أقروا بإقرار النبي (ص) لمن تناسل منهم، وأمر بذلك فيمن توالد منهم فقط، لا نص فيه فهو داخل في قوله تعالى: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) * وهذا بين والله تعالى الموفق لا إله إلا هو، وقد نص تعالى على أنه لا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى.
وروينا بالسند المتقدم إلى مسلم قال: ثنا عثمان بن أبي شيبة، نجرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال أناس لرسول الله (ص): يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال: من أحسن منكم في الاسلام فلا يؤاخذ به، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والاسلام.
وبه إلى مسلم ثنا حسن الحلواني، وعبد بن حميد، قال: حسن، نا وقال عبد: ثني يعقوب ابن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي عن صالح - هو ابن كيسان - عن ابن شهاب قال:

(5/682)


أنبأ عروة بن الزبير: أن حكيم بن حزام أخبره، أنه قال لرسول الله (ص): أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم، أفيها أجر ؟ فقال رسول الله (ص): أسلمت على ما أسلفت من خير.
وبه إلى مسلم: ثنا ابن أبي عمر، ثنا سفيان هو ابن عيينة، عن عبد الله بن عمير، عن عبد الله ابن الحارث - هو ابن نوفل - قال: سمعت العباس بن عبد المطلب يقول: قلت يا رسول الله: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك ؟ قال: نعم، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح.
وقد رواه أيضا وكيع، ويحيى ابن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن عبد الملك بن عمير بالسند المذكور،
ورواه أيضا عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) في أبي طالب قال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه.
قال أبو محمد: قال الله تعالى: * (ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الاكبر) * وقال تعالى: * (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * وقال تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) * فصح بالضرورة أنه لا أشد إلا بالاضافة إلى ما هو أقل منه، وأن الدرك الاسفل له درك أعلى، لان كل ذلك من باب الاضافة.
وصح يقينا بقوله تعالى: * (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) * أن الناس في الجنة يتفاضلون على مقدار أعمالهم، وأنهم في النار أشد عذابا من بعض، والنصوص التي ذكرناها تشهد بذلك، وصح أن من عمل خيرا وهو كافر ثم أسلم، فإن ذلك الخير محسوب له، مكتوب، وهو مثاب عليه ومأجور، وأن من عمل سوءا في كفره، ثم أسلم ولم يقلع عن تلك السيئات فإنها كلها مكتوبة عليه محسوبة، وهو معاقب عليها، وهذا نص كلام الله تعالى الذي تلونا، ونص فتيا النبي (ص) إذ سئل عن ذلك، وهذا ما لا يحل لاحد خلافه.
وقد اعترض قوم في مخالفة ذلك بقوله تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الاولين) *.
قاله أبو محمد: وهذا لا حجة فيه بل هو حجة لنا، لانه إنما نص أنه إنما يغفر ما انتهى عنه، ومن تمادى على إساءته في إسلامه فلم ينته فلم يستحق أن يغفر له ما قد سلف، وإنما يغفر له الشرك الذي انتهى عنه فقط، ولو انتهى عن سائر إساءاته لغفرت له أيضا، وهذا نص الآية التي احتجوا بها.

(5/683)


واعترضوا أيضا بما رويناه بالسند المتقدم إلى مسلم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص بن غياث، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل
ذلك نافعه ؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
قال أبو محمد: وهذا حجة لنا عليهم قوية جدا، لان النبي (ص) إنما جعل السبب في أن ما فعل لا ينفعه أنه لم يسلم، فصح أنه لو أسلم لنفعه ذلك كما نفع حكيما.
وهذا نص قولنا، ونحن لم نقل قط إن الله تعالى يأجر كافرا مات على كفره، وعلى ما عمل من خير، وإنما قلنا: من أسلم بعد كفره أجر على كل خير عمل في كفره.
واعترضوا بقول الله تعالى: * (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) *.
قال أبو محمد: وهذا حجة لنا، لان الشرك يحبط الاعمال، والاسلام يزكيها، ويبين ذلك قوله تعالى: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم) * وإنما شرطنا أنه ينتفع بما عمل في كفره من خير إن أسلم لا إن لم يسلم.
واعترضوا أيضا بما رويناه عن مسلم بالسند المذكور قال: ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، نا حيوة بن شريح، ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فحدثنا أنه سمع رسول الله (ص) يقول: إن الاسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله.
قال أبو محمد: وإنما يهدم الاسلام الكفر الذي هو مضاده، وحديث ابن مسعود زائد على ما في حديث عمرو غير مضاد له، بل هو مبين بيانا زائدا، وكلام رسول الله (ص) لا يضاد بعضه بعضا، ففي حديث ابن مسعود زيادة حكم على ما في حديث عمرو، من أنه من أساء في الاسلام أخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أحسن في الاسلام سقط عنه ما عمل في الجاهلية، فإنما معنى حديث عمرو أن الاسلام يهدم ما كان قبله بشرط الاحسان فيه، وبالله تعالى التوفيق.
واعترضوا أيضا بما حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب
ابن عيسى، عن محمد بن عيسى، عن عمرويه، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن

(5/684)


مسلم، ثنا زهير بن حرب، ثنا يزيد بن هرون، أنبأ همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الاخرى، وأما الكافر فيعطى بحساب ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لاننا لم نقل إن الكافر ينعم في الآخرة إذا مات على كفره، وإنما قلنا: إن بعض أهل النار أشد عذابا من بعض وهذا إجماع الامة، ونص القرآن والسنة الذي من خالفه كفر، وهذا الحديث حجة لنا عليهم، لان الكافر إذا أسلم فهو مؤمن، فقد نص النبي (ص) أنه لا يظلمه حسنة مما عمل من حسنة في حال كفره ثم أسلم، فهي داخلة تحت هذا الوعد الصادق المضمون إنجازه، فصح أنه يجازى بها في الآخرة، فصح قولنا يقينا وبالله تعالى التوفيق.
وكذلك قوله تعالى: * (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) * قال أبو محمد: وهذا بيان جلي على أن السبب المانع من قبول نفقاتهم هو الكفر، فإذا ارتفع ذلك ارتفع السبب المانع من قبول نفقاتهم، فإذا ارتفع ذلك السبب فقد وجب قبول النفقات، وهذا نص القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق.
وأما وقت لزوم الشريعة فإنها تنقسم قسمين: شريعة تعتقد ويلفظ بها، وشريعة تعمل، وتنقسم هذه الشريعة قسمين: قسم في المال، وقسم على الابدان، فأما شريعة الاموال فهي لازمة لكل صغير وكبير وجاهل بها، وعارف ومجنون وعاقل، لدلائل من النص وردت على العموم في الزكاة والاجماع على وجوب النفقات عليهم، وأما شرائع الابدان والاعتقاد، فإنها تجب بوجهين: أحدهما: البلوغ مبلغ
الرجال والنساء، وهو البلوغ المخرج عن حد الصبا.
والثاني: بلوغ الشريعة إلى المرء.
وأما الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام وسواء علم أن فيه حدا أم لا.
وهذا لا خلاف فيه وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه، وبرهان ذلك قول الله تعالى: * (وأوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ) * فإنما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء وقال تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *، فأمر أن يهدر فعل الجاهل، وقال تعالى: * (لا تخونوا الله والرسول

(5/685)


وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) * فإنما نهى الله تعالى عن وجوب ذلك عليه.
وحدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد ابن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا يونس بن الاعلى، ثنا ابن وهب، أنا عمرو بن الحارث، أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة، عن النبي (ص) أنه قال: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الامة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار.
قال أبو محمد: فإنما أوجب النبي (ص) الايمان به على من سمع بأمره عليه السلام، فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال والمشرق وجزائر البحور والمغرب وأغفال الارض من أهل الشرك، فسمع بذكره (ص)، ففرض عليه البحث عن حاله وإعلامه والايمان به.
أما من لم يبلغه ذكره (ص) فإن كان موحدا فهو مؤمن على الفطرة الاولى صحيح الايمان، لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار، فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجا، ومن أبى هلك.
قال الله عز وجل: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * فصح أنه لا عذاب على كافر أصلا حتى يبلغه نذارة الرسول (ص).
وأما من بلغه ذكر النبي محمد (ص)، وما جاء به، ثم لا يجد في بلاده من يخبره عنه، ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرئ فيها الحقائق، ولولا إخباره عليه السلام أنه لا نبي بعده، للزمنا ذلك في كل من نسمع عنه أنه ادعى النبوة، ولكنا قد أمنا ذلك والحمد لله.
وأخبرنا الصادق: إن كل من يدعي النبوة بعده كذاب، ولا سبيل إلى أن يأتي بآية معجزة، فإن ظهر من أحد منهم ذلك فهي نيرنجات، وحيل وجوهها معروفة لمن بحث عنها، ومن أهل هذه الصفة كان مسيلمة والجلاح، ومن أهلها الدجال لا حقيقة لكل ما ظهر من هؤلاء وأشباههم، وإنما هي حيل كما ذكرنا يبين ذلك حديث المغيرة بن شعبة في الدجال، وكل من كان منا في بادية لا يجد فيها من يعلمه شرائع دينه، ففرض على جميعهم، من رجل أو امرأة أن يرحلوا إلى مكان

(5/686)


يجدون فيها فقيها يعلمهم دينهم، أو أن يرحلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم، وإن كان الامام يعلم ذلك فليرحل إليهم فقيها يعلمهم، قال الله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.
وبعث (ص) معاذا، وأبا موسى إلى اليمن، وأبا عبيدة إلى البحرين، معلمين للناس أمور دينهم، ففرض ذلك على الائمة، وقال تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *.
قال أبو محمد: والبلوغ عندنا ينقسم أقساما: فهو في الرجل والمرأة الاحتلام بنص ما روي عنه (ص) من ذلك، حدثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن إسحاق القاضي، عن ابن الاعرابي، عن سليمان بن الاشعث، ثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، عن خالد الحذاء، عن أبي الضحى، عن علي، عن النبي (ص) قال: رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن
المجنون حتى يفيق.
قال أبو محمد: الصبي يقع على الجنس، ويدخل فيه الذكر والانثى، وقد أخبر عليه السلام في حديث عائشة: أن المرأة تحتلم، فصار الاحتلام بلوغا صحيحا في المرأة والرجل، وسواء احتلما من أحد عشر عاما أو أقل أو أكثر، ويكون البلوغ أيضا في المرأة بالحيض.
كما حدثنا عبد الله بن ربيع، عن عمر بن عبد الملك الخولاني، عن محمد بن بكر البصري، ثنا سليمان بن الاشعث، ثنا محمد بن عبيد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، أن عائشة نزلت على صفية أم طلحة الطلحات فرأت بنات لها فقالت: إن رسول الله (ص) دخل وفي حجرتي جارية فألقى لي حقوه، فقال: شقيه شقتين فأعط هذه نصفا والفتاة التي عند أم سلمة نصفا وإني لا أراها إلا قد حاضت أو لا أراهما إلا قد حاضتا.
وبه إلى أبي داود، ثنا المثنى، ثنا حجاج بن المنهال، ثنا حماد - هو ابن زيد - عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة عن النبي (ص) أنه قال: لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار.
قال أبو محمد: والانبات بلوغ صحيح كما روينا عن عبد الله بن ربيع، عن محمد بن

(5/687)


إسحاق، عن ابن الاعرابي، عن أبي داود، ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان، ثنا عبد الملك ابن عمير، ثنا عطية القرظي قال: كنت فيمن سبي من قريظة فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت فيمن لم ينبت.
قال أبو محمد: ومن المحال الممتنع أن تقتل الناس بحضرة النبي (ص) وهو لا يعلم أبحق أم بباطل، هذا ما لا يظنه مسلم البتة، وقتلى قريظة قتلوا بحضرة النبي (ص) وبأمره، وقال لسعد بن معاذ: حكمت فيهم بحكم الملك كما حدثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن معاوية، عن أحمد بن شعيب، عن محمود بن
غيلان، ثنا وكيع، ثنا سفيان الثوري، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عطية القرظي يقول: عرضنا على النبي (ص) يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي.
قال أبو محمد: فمن لم ينبت ولا احتلم من رجل أو امرأة أو لم تحض المرأة، فإذا تجاوزا تسعة عشر عاما قمرية بساعة فقط، لزمهم حكم البلوغ، لانه إجماع، وأما من جعل إكمال خمسة عشر عاما بلوغا، وإن لم يكن هناك حيض ولا احتلام ولا إنبات فقول لا دليل عليه.
وأما حجتهم بحديث ابن عمر: عرضت على رسول الله (ص) يوم أحد وأنا ابن أربعة عشر عاما فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشر عاما فأجازني، فلا حجة لهم في ذلك لان النبي (ص) لم يقل: إني أجزته لسنه.
وكان عام الخندق بالمدينة لا خروج عليهم فيه، فالله أعلم لماذا أجازه، إما لانهم لم يسافروا عن موضعهم، أو لانه قد بلغ، فلا حجة في ذلك أصلا وبالله تعالى التوفيق.
ولا نهى عليه السلام عن غزو الاشداء من الصبيان، فتكون إجازته دليلا على أنه قد كان بلغ.
ومما يدل على أن الشرائع لا تلزم إلا من عرفها ما صح عن النبي (ص) من أنه لم يزجر عدي بن حاتم، عما تأوله في العاقلين، لكن علمه، وسقط اللوم عن عدي، لانه تأول جاهلا، وأنه (ص) لم يأمر معاوية بن الحكم بإعادة الصلاة إذ تكلم فيها عامدا.
وأنه (ص) أمر الذي لم يتم صلاته مطمئنا في ركوعه وسجوده بالاعادة مرارا.
فلما أعلمه أنه لا يدري أكثر، علمه.
ولم يذكر الراوي أنه أمره بإعادة، إلا أن أمره (ص) بأن يعمل ما علمه أمر له بعمله.

(5/688)


وكذلك ما نص من صلاة أهل قباء إلى بيت المقدس، وقد كان نسخ ذلك، وأنه عليه السلام لم يقد من أسامة إذ قتل الرجل بعد قوله لا إله إلا الله، وأعلمه عليه
السلام أنه قد فعل في ذلك ما لا يحل، وكذلك لم يقد (ص) بني جذيمة ممن قتلهم مع خالد بن الوليد، فهذا يبطل قول من أوجب إعادة صلاة، أو إقامة حد، أو قضاء صوم على جاهل متأول.
وبذلك قضى عمر وعثمان إذ درء الحد عن السوداء المعترفة بالزنى، لجهلها بتحريمه، وهذا بين، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الحادي والثلاثون في صفة التفقه في الدين، وما يلزم كل امرئ طلبه من دينه، وصفة المفتى الذي لم يفت في الدين، وصفة الاجتهاد الواجب على أهل الاسلام قال أبو محمد: قال الله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * فبين الله عز وجل في هذه الآية وجه التفقه كله، وأنه ينقسم قسمين: أحدهما: يخص المرء في نفسه وذلك مبين في قوله تعالى: * (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) * فهذا معناه تعليم أهل العلم لمن جهل حكم ما يلزمه.
والثاني: تفقه من أراد وجه الله تعالى، بأن يكون منذرا لقومه وطبقته قال تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * ففرض على كل أحد طلب ما يلزمه، على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه في تعرف ما ألزمه الله تعالى إياه، وقد بينا أن الاجتهاد هو افتعال من الجهد، فهو في الدين إجهاد المرء نفسه في طلب ما تعبده الله تعالى به في القرآن، وفيما صح عن النبي (ص) لانه لا دين غيرهما، فأقلهم في ذلك درجة من هو في غمار العامة، ومن حدث عهده بالجلب من بلاد الكفر وأسلم من الرجال والنساء.
وقد ذكرنا كيف يطلب هؤلاء علم ما يلزمهم من شرائع الاسلام، في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا، فأغنى عن ترداده، ونذكر منه ههنا ما لا بد من ذكره، وهو أن كل مسلم عاقل
بالغ من ذكر أو أنثى، حر أو عبد، يلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضا بلا خلاف من أحد من المسلمين، وتلزمه الطهارة والصلاة المرضى والاصحاء،

(5/689)


ففرض على كل من ذكرنا أن يعرف فرائض صلاته وصيامه وطهارته وكيف يؤدي كل ذلك.
وكذلك يلزم كل من ذكرنا أن يعرف ما يح له ويحرم، من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والاقوال والاعمال، فهذا كله لا يسع جهله أحدا من الناس، ذكورهم وإناثهم، أحرارهم وعبيدهم وإمائهم، وفرض عليهم أن يأخذوا في تعلم ذلك من حين يبلغون الحلم وهم مسلمون، أو من حين يسلمون بعد بلوغهم الحلم، ويجبر الامام أزواج النساء وسادات الارقاء على تعليمهم ما ذكرنا، إما بأنفسهم، وإما بالاباحة لهم لقاء من يعلمهم، وفرض على الامام أن يأخذ الناس بذلك، وأن يراتب أقواما لتعليم الجهال.
ثم فرض على كل ذي مال تعلم حكم ما يلزمه من الزكاة، وسواء الرجال والنساء والعبيد والاحرار، فمن لم يكن له مال أصلا فليس تعلم أحكام الزكاة عليه فرضا.
ثم من لزمه فرض الحج، ففرض عليه تعلم أعمال الحج والعمرة.
ولا يلزم ذلك من لا صحة لجسمه ولا مال له، ثم فرض على قواد العساكر معرفة السير وأحكام الجهاد، وقسم الغنائم والفئ، ثم فرض على الامراء والقضاة تعلم الاحكام والاقضية والحدود، وليس تعلم ذلك فرضا على غيرهم، ثم فرض على التجار وكل من يبيع غلته تعلم أحكام البيوع، وما يحل منها وما يحرم، وليس ذلك فرضا على من لا يبيع ولا يشتري ثم فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة - وهي المجشرة عندنا - أو حلة أعراب أحصن أن ينتدب منهم لطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ولتعلم القرآن كله، ولكتاب
كل ما صح عن النبي (ص) من أحاديث الاحكام أولها عن آخرها وضبطها بنصوص ألفاظها، وضبط كل ما أجمع المسلمون عليه ما اختلفوا فيه من يقوم بتعليمهم وتفقيههم من القرآن والحديث والاجماع.
يكتفي بذلك على قدر قلتهم أو كثرتهم بالآية التي تلونا في أول هذا الكتاب، بحسب ما يقدر أن يعمهم بالتعليم، ولا يشق على المستفتي قصده، فإذا انتدب لذلك من يقوم بما ذكرنا فقط سقط عن باقيهم إلا ما يلزمه خاصة نفسه فقط على ما ذكرنا آنفا، ولا يحل للمفقه أن يقتصر على آراء الرجال دون ما ذكرنا.

(5/690)


فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله كما ذكرنا ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم، ولو أنهم بالصين لقوله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * والنفار والرجوع لا يكون إلا برحيل.
ومن وجد في محلته من يفقهه في صنوف العلم كما ذكرنا فالامة مجمعة على أنه لا يلزمه رحيل في ذلك، إلا القصد إلى مسجد الفقيه أو منزله فقط، كما كان الصحابة يفعلون مع النبي (ص) وهكذا القول في حفظ القرآن كله وتعليمه، ففرض على كل مسلم حفظ أم القرآن وقرآن ما، وفرض على جميع المسلمين أن يكون في كل قرية أو مدينة أو حصن من يحفظ القرآن كله ويعلمه الناس ويقرئه إياهم، لامر رسول الله (ص) بقراءاته.
فصح بكل ما ذكرنا أن النفار المذكور فرض على الجماعة كلها حتى يقوم بها بعضهم فيسقط عن الباقين.
وأما من قال: إنه ليس فرضا على الجماعة، لكنه فرض على بعضهم بغير أعيانهم، فنكتفي من إبطال قوله بأنه يحمل خطاب الله تعالى واقعا على لا أحد، لانه إذا لم يعين تعالى من يخاطب، ولا خاطب الجميع، فلم يخاطب أحدا عز وجل عن ذلك،
وفي هذا سقوط الفرض عن كل من لم يخاطب، فهو ساقط على كل أحد، إذ كل أحد لم يخاطب، وفي هذا بطلان الدين، وبالله تعالى التوفيق.
فالناس في ذلك على مراتب، فمن ارتفع فهمه عن فهمهم أغتام المجلوبين من بلاد العجم منذ قريب، وعن فهم أغتام العامة، فإنه لا يجزيه في ذلك ما يجزي من ذكرنا، لكن يجتهد هذا على حسب ما يطيق في البحث عما نابه من نص الكتاب والسنة ودلائلهما، ومن الاجماع ودلائله، ويلزم هذا إذا سأل الفقيه فأفتاه أن يقول له: من أين قلت هذا ؟ فيتعلم من ذلك مقدار ما انتهت إليه طاقته وبلغه فهمه.
وأما المنتصبون لطلب الفقه، وهم النافرون للتفقه، الحاملون لفرض النفار عن جماعتهم، المتأهبون لنذارة قومهم، ولتعلم المتعلم، وفتيا المستفتي، وربما للحكم بين الناس، ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم، ومن أحكام القرآن، وحديث النبي (ص) ورتب النقل، وصفات النقلة، ومعرفة السند الصحيح مما عداه من مرسل ضعيف، هذا فرضه اللازم له، فإن زاد إلى ذلك معرفة الاجماع

(5/691)


والاختلاف، ومن أين قال كل قائل، وكيف يرد أقاويل المختلفين المتنازعين إلى الكتاب والسنة، فحسن، وفرض عليه تعلم كيفية البراهين التي يتميز بها الحق من الباطل، وكيف يعمل فيما ظاهره التعارض من النصوص، وكل هذا منصوص في القرآن.
قال تعالى: * (ليتفقهوا في الدين) * فهذا إيجاب لتعلم أحكام القرآن، وأحكام أوامر النبي (ص)، لان هذين أصل الدين، وقال تعالى: * (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " فوجب بذلك تعرف عدول النقلة من فساقهم، وفقهائهم ممن لم يتفقه منهم.
وأما معرفة الاجماع والاختلاف، فقد زعم أن هذا يجب بقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قال: ففرض علينا معرفة
ما اتفق عليه أولو الامر منا، لاننا مأمورون بطاعتهم، ولا يمكننا طاعتهم إلا بعد معرفة إجماعهم الذي يلزمنا طاعتهم فيه.
وأما معرفة الاختلاف، ومعرفة ما يتنازعون فيه، ومعرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة فبقوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * ففرض علينا معرفة ما يتنازعون فيه، ومعرفة كيف يرد ذلك إلى الكتاب والسنة، لاننا إن لم نعرف الاختلاف ظننا أن القول الذي نسمعه من بعض العلماء لا خلاف فيه، فنتبعه دون أن نعرضه على القرآن والسنة، فنخطئ ونعصي الله تعالى، إذ أخذنا قولا نهينا عن اتباعه.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، لاننا إنما أمرنا تعالى بطاعة أولي الامر فيما نقلوه إلينا عن رسول الله (ص)، فأما أن يقولوا من عند أنفسهم بحكم لا نص فيه فما جاز هذا قط لاحد أن يفعله، ولا حل لاحد قط أن يطيع من فعله.
وقد توعد الله تعالى ورسوله (ص) على هذا أشد الوعيد، فكيف على من دونه قال تعالى: * (ولو تقول علينا بعض الاقاويل ئ لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ئ فما منكم من أحد عنه حاجزين) * فصح أن من قال في الدين بقول أضافه إلى الله تعالى فقد كذب، وتقول على الله تعالى الاقاويل.
وأن من لم يضفه إلى الله تعالى، فليس من الدين أصلا، لكن معرفة الاختلاف علم زائد، قال سعيد بن جبير: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف، وصدق سعيد، لانه علم زائد، وكذلك معرفة من أين

(5/692)


قال كل قائل، فأما معرفة كيفية إقامة البرهان فبقوله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * فلم نقل شيئا إلا ما قاله ربنا عز وجل وأوجبه علينا، والحمد لله رب العالمين.
وإنما نحن منبهون على ما أمرنا الله تعالى، وموقفون على مواضع الاوامر التي مر عليها من يمر غافلا أو معرضا، ومنذرون قومنا فيما تفقهنا فيه،
ونفرنا لتعلمه - بمن الله عز وجل علينا، كما أمرنا تعالى، إذ يقول: * (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * ولا نقول من عند أنفسنا شيئا ونعوذ بالله من ذلك، ولم يبح الله تعالى ذلك لاحد لا قديما ولا حديثا، وبالله تعالى نتأيد، وقال تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) * ففرض علينا معرفة الناسخ من المنسوخ، وفرض على من قصد التفقه في الدين، كما ذكرنا أن يستعين على ذلك من سائر العلوم بما تقتضيه حاجته إليه في فهم كلام ربه تعالى، وكلام نبيه (ص) قال تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) * ففرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب، ليفهم عن الله عز وجل وعن النبي (ص)، ويكون عالما بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن، وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات، وبناء الالفاظ، فمن جهل اللغة وهي الالفاظ الواقعة على المسميات، وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني، فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبينا (ص)، ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يحل له الفتيا فيه، لانه يفتي بما لا يدري، وقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * وبقوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) * وبقوله تعالى: * (هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) * وقال تعالى: * (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) *.
وفرض على الفقيه أن يكون عالما بسير النبي (ص)، ليعلم آخر أوامره وأولها، وحربه (ص) لمن حارب، وسلمه لمن سالم، وليعرف على ماذا حارب، ولماذا وضع الحرب، وحرم الدم بعد تحليله، وأحكامه (ص) التي حكم بها، فمن كانت هذه صفته، وكان ورعا في فتياه، مشفقا على دينه صليبا في الحق، حلت

(5/693)


له الفتيا وإلا فحرام عليه أن يفتي بين اثنين، أو أن يحكم بين اثنين، وحرام على الامام أن يقلده حكما أو يتيح له فتيا، وحرام على الناس أن يستفتوه لانه إن لم يكن عالما بما ذكرنا، فلم يتفقه في الدين، وإن لم يكن مشفقا على دينه فهو فاسق، وإن لم يكن صليبا لم يأمر بمعروف، ولا نهى عن منكر، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان على الناس قال تعالى: * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) *.
وهذا متوجه إلى العلماء بالمعروف وبالمنكر، لانه لا يجوز أن يدعو إلى الخير إلا من علمه، ولا يمكن أن يأمر بالمعروف إلا من عرفه، ولا يقدر على إنكار المنكر إلا من يميزه.
فإن كان مع ما ذكرنا قويا على إنفاذ الامور حسن السياسة حل له القضاء والامارة، وإلا فلا.
قال رسول الله (ص): المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وقال (ص) لابي ذر: يا أبا ذر إني أحب إليك ما أحب لنفسي، إنك ضعيف فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم، وكان أبو ذر رضي الله عنه ممن له أن يفتي ولم يكن ممن له أن يقضي، لانه لم يكن له حسن التأتي في تناول ما يريد، بل كانت فيه عجرفة ومهاجمة، ربما صار بها منذرا وقد أمر عليه السلام معاذا وأبا موسى - إذ بعثهما قاضيين على اليمن، ومعلمين للدين، وأميرين بأن ييسرا ولا ينفرا، هذا على عظيم فضل أبي ذر وكريم سوابقه في الاسلام، وزهده وورعه ورفضه للدنيا، وثباته على ما فارق عليه نبيه (ص)، وصدعه بالحق، وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم، وتقدمه على أكثر الصحابة.
فحد الفقه هو المعرفة بأحكام الشريعة من القرآن، ومن كلام المرسل بها، الذي لا تؤخذ إلا عنه، وتفسير هذا الحد - كما ذكرنا - المعرفة بأحكام القرآن وناسخها ومنسوخها، والمعرفة بأحكام كلام رسول الله (ص) ناسخه ومنسوخه،
وما صح نقله مما لو يصح، ومعرفة ما أجمع العلماء عليه، وما اختلفوا فيه، وكيف يرد الاختلاف إلى القرآن وكلام الرسول (ص)، فهذا تفسير العلم بأحكام الشريعة.
وكل من علم مسألة واحدة من دينه على الرتبة التي ذكرنا، جاز له أن يفتي بها،

(5/694)


وليس جهله بما جهل بمانع من أن يفتي بما علم، ولا علمه بما علم بمبيح له أن يفتي فيما جهل، وليس أحد بعد النبي (ص) إلا وقد غاب عنه من العلم كثير هو موجود عند غيره، فلو لم يفت إلا من أحاط بجميع العلم.
لما حل لاحد من الناس بعد رسول الله (ص) أن يفتي أصلا وهذا لا يقوله مسلم، وهو إبطال للدين، وكفر من قائله.
وفي بعثه النبي (ص) الامراء إلى البلاد، ليعلموا الناس القرآن وحكم الدين، ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك، لانه قد كان تنزل بعدهم الآيات والاحكام بيان صحيح بأن العلماء، وإن فاتهم كثير من العلم، فإن لهم أن يفتوا ويقضوا بما عرفوا.
وفي هذا الباب أيضا بيان جلي على أن من علم شيئا من الدين علما صحيحا فله أن يفتي به، وعليه أن يطلب علم ما جهل مما سوى ذلك، ومن علم أن في المسألة التي نزلت حديثا قد فاته، لم يحل له أن يفتي في ذلك حتى يقع على ذلك الحديث.
ومن لم يعلم الاحكام على الصفة التي ذكرنا قبل، لكن إنما أخذ المسائل تقليدا، فإنه لا يحل لمسلم أن يستفتيه، ولا يحل له أن يفتي بين اثنين، ولا يحل للامام أن يوليه قضاء ولا حكما أصلا، ولا يحل له إن قلد ذلك أن يحكم بين اثنين، وليس أحد بعد النبي (ص) إلا وهو يخطئ ويصيب، فليس خطأه بمانع من قبول صوابه، وبالله تعالى التوفيق، فلا يوجد مفت في الديانة وفي الطب أبدا، إلا أحد ثلاثة أناسي: إما عالم يفتي بما بلغه من النصوص بعد البحث والتقصي، كما يلزمه،
فهذا مأجور أخطأ وأصاب، وواجب عليه أن يفتي بما علم، وإما فاسق يفتي بما يتفق له، مستديما لرياسة أو لكسب مال، وهو يدري أنه يفتي بغير واجب، وإما جاهل ضعيف العقل، ويفتي بغير يقين علم، وهو يظن أنه مصيب، ولم يبحث حق البحث، ولو كان عاقلا لعرف أنه جاهل، فلم يتعرض لما لا يحسن.
حدثني أبو الزناد سراج بن سراج، وخلف بن عثمان البحام، وأبو عثمان سعيد ابن محمد الضراب كلهم يقولون: سمعت عبد الله بن إبراهيم الاصيلي يقول: قال لي الابهري أبو بكر محمد بن صالح: كيف صفة الفقيه عندكم بالاندلس ؟ فقلت له: يقرأ المدونة، وربما المستخرجة، فإذا حفظ مسائلهما أفتى.
فقال لي: هذا ما هو ؟ فقلت له: نعم، فقال لي: أجمعت الامة على أن من هذه صفته لا يحل له أن يفتي.

(5/695)


قال أبو محمد: علي بن أحمد، وحدثني أبو مروان عبد الملك بن أحمد المرواني قال: سمعت أحمد بن عبد الملك الاشبيلي المعروف بابن المكري، ونحن مقبلون من جنازة من الربض بعدوة نهر قرطبة، وقد سأله سائل فقال له: ما المقدار الذي إذا بلغه المرء حل له أن يفتي ؟ فقال له إذا عرف موضع المسألة في الكتاب الذي، يقرأ حل له أن يفتي.
ثم أخبرني أحمد بن الليث الانسري، أنه حمل إليه وإلى القاضي أبي بكر يحيى بن عبد الرحمن بن واقد كتاب الاختلاف الاوسط لابن المنذر فلما طالعاه قالا له: هذا كتاب من لم يكن عنده في بيته لم يشم رائحة العلم، قال: وزادني ابن واقد أن قال: ونحن ليس في بيوتنا، فلم نشم رائحة العلم.
قال أبو محمد: لم نأت بما ذكرنا احتجاجا لقولنا، ولكن إلزاما لهم ما يلتزمونه، فإن قول أكابر أهل بلادنا عندهم أثبت من العيان، وأولى بالطاعة مما رووا في حديث النبي (ص)، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
قد بينا صفة الطلب والمفتي والاجتهاد الذي نأمر به، ونصوب من فعله، وهو
طلب الحكم في المسألة من نص القرآن، وصحيح الحديث، وطلب الناسخ من المنسوخ، وبناء الحديث بعضه مع بعض ومع القرآن، وبناء الآي بعضها مع بعض على ما بينا فيما سلف من كتابنا هذا ليس عليه غير هذا البتة، وإن طالع أقوال الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم عصرا عصرا، ففرض عليه أن ينظر من أقوال العلماء كلها نظرا واحدا، ويحكم فيها القرآن والسنة، فلايها حكم اعتقده وأفتى به واطرح سائرها، وإن لم يجد شيئا مما بلغه منها، في نص القرآن ولا في نص السنة لم يحل له أن يأخذ بشئ منها بل عليه أن يأخذ بالنص وإن لم يبلغه أن قائلا قال به، لما قد بيناه في كلامنا في الاجماع من امتناع الاحاطة بأقوال العلماء السالفين، ومن قيام البرهان على أنه لا يخلو عصر من قائل الحق، فهذا هو الاجتهاد الصحيح الذي يؤجر من فعله على كل حال، فإن وافق الحق عند الله عز وجل أجر أجرا ثانيا على الاصابة، فحصل له أجران، وإن لم يوافق لادراك الحق لم يأثم، وقد حصل له أجر الطلب للحق وإرادته كما قال الشاعر: وما كل موصوف له الحق يهتدي ولا كل من أم الصوى يستبينها

(5/696)


وكل ما سمي اجتهادا من غير ما ذكرنا فهو باطل وإفك، وزين بأن سمي اجتهادا كما سمي اللديغ سليما، والمهلكة مفازة، والاسود السخامي أبا البيضاء والاعمى بصيرا، وكما سمى قوم المسكر نبيذا، وطلاء وهو الخمر بعينها، ويبين ما قلنا قوله (ص): إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران أو كما قال (ص).
واعتراضها ههنا أمر نحتاج إلى تفسيره لغلط أكثر الناس فيه، وهو إيقاع اسم الحفظ واسم العلم واسم الفقه، على كل ما يستحق شيئا من هذه الاسماء، لانها أسماء واقعة على صفات متغايرة، فوجب بيانها، فنفسر ذلك في علم الشريعة
التي عرضنا في ديواننا هذا الكلام فيها، وبالله تعالى التوفيق، وبه عز وجل نتأيد لا إله إلا هو، فنقول وبالله تعالى نستعين: الحفظ: اسم واقع على وصفه المرء، وهي ذكره لاكثر سواد ما صنف وجمع، وذكر في علمه وغرضه الذي قصد كحافظ سواد القرآن، وحافظ سواد الحديث ونصوصه، أو حافظ نصوص مسائل مذهبه الذي يقصد وينتحل.
فهذا معنى الحفظ.
وأما اسم العلم: فهو واقع على صفة في المرء، وهو اتساعه على الاشراف على أحكام القرآن، وروى الحديث صحيحه وسقيمه فقط، فإن أضاف إلى ذلك الوقوف على أقوال الناس، كان ذلك حسنا، كلما اتسع باع المرء في هذه المعاني زاد استحقاقه لاسم العلم، وهكذا في كل علم من العلوم، ويكون مع ذلك ذاكرا لاكثر ما عنده، وليس هذا حقيقة معنى لفظة العلم في اللغة، لكنه معناه في قولهم: فلان عالم، وفلان أعلم من فلان.
وأما تفسير لفظة العلم في اللغة فقد فسرناه في كتابنا هذا، وفي كتابنا الموسوم بالفصل.
وأما اسم الفقه: فهو واقع على صفة في المرء، وهي فهمه لما عنده، وتنبهه على حقيقة معاني ألفاظ القرآن والحديث، ووقوفه عليها، وحضور كل ذلك في ذكره متى أراده، ويزيد القياسيون علينا ههنا زيادة وهي: معرفته بالنظائر في

(5/697)


الاحكام والمسائل وتمييزه لها، فهذه معاني الاسماء المذكورة في قولهم: فلان حافظ، وفلان عالم، وفلان فقيه.
فإن قال قائل: أيجوز الاجتهاد بحضرة النبي (ص) ؟ فالجواب: أنه فيما لم يؤمروا به ولا نهوا عنه، ولكنه مباح لهم، جائز كاجتهادهم فيما يجعلونه
علما للدعاء إلى الصلاة، ولم يكن ذلك على إيجاب شريعة تلزم، وإنما كان إنذارا من بعضهم لبعض، كقول أحدنا لجاره إذا نهض للصلاة: قم بنا إلى الصلاة، حتى إذا نزل الوحي على النبي (ص) بما وافق رؤيا عبد الله بن زيد الانصاري أبطل كل ما كانوا تراضوا به، وقد اجتهد قوم بحضرته (ص) فيمن هم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر، فأخطؤوا في ذلك حتى بين لهم النبي (ص) من هم، ولم يعنفهم في اجتهادهم، وقد أخطؤوا فيه، ولكن بين عليه السلام أنهم لم يصيبوا، وأن الحق في خلاف ما قالوا كلهم.
فإنما يجوز الاجتهاد في تأويل مثل هذا، وفيما يعرف به بعضهم بعضا بحضور الصلاة وما أشبه ذلك، وأما في إيجاب فرض أو تحريم شئ أو ضرب حد، فحرام أن يجوز فيه لاحد اجتهاد برأيه فقط، أو قول بوجه من الوجوه، لانهم كانوا يكونون بذلك شارعين ما لم يأذن به الله، ومفترين على الله تعالى، وقد نزههم الله تعالى عن ذلك وكل ما جاز لهم رضوان الله عليهم أن يجتهدوا فيه فهو جائز لنا، ولكل إلى يوم القيامة، وما حرم علينا من ذلك وغيره فقد كان حراما عليهم ولا فرق.
وقد أفتى أبو السنابل باجتهاده في المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فأخذ بآية الاربعة أشهر وعشرا فأخطأ، وهو مجتهد فله أجر واحد لانه لم يصب حكم الله تعالى.
وأما حديث معاذ فيما روي من قوله: أجتهد رأيي، وحديث عبد الله بن عمر وفي قوله: أجتهد بحضرتك يا رسول الله، فحديثان ساقطان.
أما حديث معاذ فإنما روي عن رجال من أهل حمص لم يسموا، وحديث عبد الله منقطع أيضا لا يتصل.
فإن قال قائل: أيجوز للانبياء عليهم السلام الاجتهاد ؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق.

(5/698)


إن من ظن أن الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها فهو كفر عظيم، ويكفي من إبطال ذلك أمره تعالى نبيه (ص) أن يقول: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * وقوله: * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) * وقوله تعالى: * (ولو تقول علينا بعض الاقاويل ئ لاخذنا منه باليمين ئ ثم لقطعنا منه الوتين) * وأنه عليه السلام كان يسأل عن الشئ فينتظر الوحي ويقول: ما أنزل علي في هذا شئ ذكر ذلك في حديث في زكاة الحمير وميراث البنتين مع العم والزوجة وفي أحاديث جملة وإن كان السائل عن هذا يعني أيجوز عليه الاجتهاد في قبول شاهدين لعلهما مغفلان ؟ فهذا جائز والحكم بيمين لعلها كاذبة ؟ فهذا جائز، لانه (ص) بهذا أمر نصا، وهو (ص) لم يؤت علم الغيب في كل موضوع، وإنما أمر بقبول الشاهدين العدلين عنده من المسلمين أو العدل كذلك مع يمين الطالب أو المرأة الواحدة في الرضاع، أو الكافرين في الوصية في السفر، أو الواحد على رؤية الهلال، أو الاربعة العدول في الزنى، أو المرأتين مكان الرجل، أو يمين المدعى عليه - إن مبطلا وإن محقا - ما لم يعلم هو ببطلان الشهادة، أو قوله: ويسلط الله من يشاء على ظلم من يشاء حتى ينصف كل مظلوم يوم الحشر * (ويوم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ولا مثقال ذرة إلا جازى عليها إلا ما أسقط من ذلك بالتوبة أو باجتناب الكبائر.
وهذا الذي قلنا هو نص جلي، وقد بين ذلك (ص) بقوله: فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار وبقوله عليه السلام: من حلف على منبري هذا بيمين كاذبة حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار وبقوله عليه السلام: إذا قال له الحضرمي في خصمه: يا رسول الله إنه فاجر لا يرع عن شئ - وكان عليه السلام قد أوجب عليه اليمين - فقال
السلام للحضرمي: ليس لك إلا ذلك وإذ قال له أصحابه حين قتل عبد الله بن سهل: يا رسول الله أتقبل أيمان يهودي ؟ فلم يجعل لهم (ص) غير ذلك: وبقوله (ص) للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب فهل منكم تائب.
فبين عليه السلام أنه إنما يفعل ما أمره به ربه تعالى، ولم يكلف قط أن يعطي الحق صاحبه بيقين، ولا أن يعلم عيب الشهود، ولا كلفنا نحن شيئا من ذلك

(5/699)


أيضا، وإنما أمر أن يقضي بالبينة العدلة عنده، ولا يقدر على أكثر من أن يحكم بالعدالة الظاهرة إليه، وبظاهر العلم عنده، وكما أمر بقبول اليمين من المنكر، وهما شيئان متغايران: أحدهما: بما شهدت به البينة، وألا يقضي على من حلف في قضية ألزم فيها اليمين، فهذا هو الذي ألزم النبي (ص) وألزمنا نحن بعده السلام.
والثاني: أن يمكن صاحب الحق في علم الله تعالى من حقه، وهذا لا سبيل إلى علمه في كل موضع، فإن حرمنا هذا وحرمنا وفاق العدل عند الله عز وجل.
فلا إثم ولا حرج، لانه لا سبيل إلى علم ذلك بيقين، ولا كلفناه، وهذا لا يسمى اجتهادا على الاطلاق، ولكنه يقين اتباع ما أمر به عليه السلام من الحكم بالعدول على حسب ما يطيق على معرفته، وهو الظاهر، وبقبول يمين المنكر، ولا سبيل إلى اجتهاد النبي (ص) في شرع الشرائع، والاوامر عنده واردة متيقنة، ولا إشكال فيها.
يعمل خاصها من عامها، وناسخها من منسوخها، ومستثناها من المستثنى منه، علم يقين ومشاهدة في جميع ما أنزل عليه.
وأما الاجتهاد الذي كلفناه نحن، فهو طلب هذه المعاني، ولم نشاهدها كلها فنعلمها لكن نقبلها من الثقات الذين أمرنا الله تعالى بقبول نذارتهم إلى أن يبلغونا إلى الذين شهدوها، وهم ونحن لا نعلم كل ذلك علم يقين.
فإن اعترض معترض بفعله عليه السلام في أخذ الفداء، فنزل من عتابه على
ذلك ما نزل.
فالجواب: أننا لا ننكر أن يفعل عليه السلام ما لم يتقدم نهي من ربه تعالى له عنه، إلا أنه لا يترك وذلك، ولا بدمن أن ينبه عليه.
وأما الوهم من النبي (ص) وهو يقصد بذلك فعل الخير، فلسنا ننكره إلا أنه لا يقر عليه البتة، وهذا لا يجوز أن يكون في شرع شريعة، ولا إيجاب فرض، ولا تحريم، وإنما هو فيما قدره مباحا له، إذ لم ينه عنه قبل ذلك، لكن كفعله بابن أم مكتوم إذ نزلت: * (عبس وتولى) *.
وقد احتج بعضهم ممن أجاز الاجتهاد بالرأي في الدين، بأمر سليمان وداود عليهم السلام: * (إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم) *.
قال أبو محمد: وهذه مسألة اختلف الناس فيها على وجوه، فقوم قالوا: نسخ الله حكم داود بحكم سليمان عليهما السلام.

(5/700)


قال أبو محمد: وهذا باطل، لانه لو كان كذلك لكان داود مفهما لها، لانه كان يكون حاكما بأمر أمر به قبل أن ينسخ، ولما كان سليمان أولى بالافهام منه.
وقال بعضهم: حكم بدليل منصوب لم يوافق فيه الحقيقة وحكم سليمان فوافق الحقيقة.
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق: إن داود عليه السلام حكم بظاهر الامر، مثل ما لو حكمنا نحن بشهادة شاهدين عدلين عندنا، وهما في علم الله عز وجل المغيب عنا مغفلان، فأطلع الله تعالى على غيب تلك المسألة سليمان عليه السلام.
فأوحى إليه بيقين من هو صاحب الحق فيها، بخلاف شهادة الشهود أو نحو ذلك مما أفهم الله تعالى سليمان فيه بيقين عين صاحب الحق، فهذا وجه تلك الآية الذي لا يجوز خلافه، لبطلان كل تأويل غيره، ولقوله تعالى في الآية نفسها: * (وكلا آتينا حكما وعلما) * فصح أن داود بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى في تلك المسألة، وأن سليمان - عليهما جميعا السلام - حكم
فيها بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى فيها بالفهم الزائد لحقيقتها.
وأما ادعاء المرأتين في الولد، ودعاء سليمان عليه السلام بالسكين ليشقه بينهما، فإن سليمان عليه السلام إنما أراد اختبار صبرهما، ولم يهم قط وبشق الصبي، وإنما دعا بالسكين موهما لهما بذلك، وقد يكون الله تعالى أمره بذلك كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل عليه السلام، ولم يرد قط تعالى ذبحه، وإنما أراد اختبار صبر إبراهيم عليه السلام، واختبار صبر المرأتين فقط، ثم نهاه عن شقه، إذ لاح أيتهما أمه.
كما نهى إبراهيم عن ذبح إسماعيل فهذا أيضا وجه ظاهر حسن، والله أعلم.
وأما أمر موسى والخضر عليهما السلام، فإن الخضر نبي موحى إليه، ولم يفعل شيئا من كل ما فعل باجتهاد، كما يظن من لا عقل له، وإنما فعل كل ذلك بوحي أوحاه الله إليه.
وبيان ذلك نص الله تعالى بأن حكى عنه أنه قال لموسى: * (وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) * وأما سؤال موسى عليه السلام له عن ذلك فإنما فعله ناسيا لعهده، ولسنا ننكر أن تنسى الانبياء عليهم السلام، وقد صلى نبينا (ص) خامسة ناسيا وسلم من ثلاث ومن اثنين ناسيا.
وهذا الذي قلنا هو نص القرآن في قوله تعالى حاكيا عن موسى أنه قال للخضر: * (لا تؤاخذني بما نسيت) *.

(5/701)


قال أبو محمد: فإن احتجوا بما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي، عن عمر بن عبد الملك الخولاني، عن محمد بن بكر البصري، عن سليمان بن الاشعث، نا إبراهيم ابن موسى، ثنا عيسى، نا أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال سمعت أم سلمة تقول: قال رسول الله (ص): إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه فهذا حديث ساقط مكذوب، لان أسامة بن زيد هذا ضعيف لا يحتج بحديثه، متفق على أنه كذلك ويبين كذبه ما ذكرنا في أول هذا الباب من الاحاديث التي فيها تركه عليه السلام الحكم فيما لم ينزل عليه فيه شئ، وانتظاره
الوحى في كل ذلك، ويكفي من ذلك قول الله تعالى آمرا له أن يقول: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * وقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) * وأمر الله تعالى له أن يقول: * (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) *.
فلو أنه (ص) شرع شيئا لم يوح إليه به، لكان مبدلا للدين من تلقاء نفسه، وكل من أجاز هذا فقد كفر وخرج عن الاسلام، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان فإن احتج فيها معترض بقوله تعالى: * (لتحكم بين الناس بمآ أراك الله) * فإن الذي أراه الله تعالى هو الذكر والوحي بنص الآية، لان أولها: * (إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله) * وقال تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره) * ثم توعده على ذلك فقال: * (إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا) * فبين تعالى أنه عليه السلام

(5/702)


لو أوجب شيئا في الدين بغير وحي، لكان مفتريا على ربه تعالى، وقد عصمه الله عز وجل من ذلك، وكفر من أجازه عليه، فصح أنه (ص) لا يفعل شيئا إلا بوحي، فسقط الاجتهاد الذي يدعيه أهل الرأي أو القياس جملة.
وقال تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) فصح بهذه الآية أن كل نبي كان قبله، فهكذا كانوا أيضا، إنما اتبع كل نبي شرعته التي أوحي إليه بها فقط.
وأما أمور الدنيا ومكايد الحروب - ما لم يتقدم نهي عن شئ من ذلك - وأباح الله تعالى له التصرف فيه كيف شاء، فلسنا ننكر أن يدبر عليه السلام كل ذلك على حسب ما يراه صلاحا، فإن شاء الله تعالى إقراره عليه أقره، وإن شاء إحداث منع له من ذلك في المستأنف منع، إلا أن كل ذلك مما تقدم الوحي إليه بإباحته إياه ولا بد.
وأما في التحريم والايجاب فلا سبيل إلى ذلك البتة، وذلك مثل ما أراد النبي (ص أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة فهذا مباح، لان لهم أن
يهبوا من أموالهم ما أحبوا ما لم ينهوا على ذلك، ولهم أن يمنعوه ما لم يؤمروا بإعطائه، وكذلك منازله (ص) في حروبه، له أن ينزل من الارض حيث شاء، ما لم ينه عن مكان بعينه، أو يؤمر بمكان بعينه، وكذلك قوله السلام في تلقيح ثمار أهل المدينة، لانه مباح للمرء أن يلقح نخله ويذكر تينه، ومباح أن يترك فلا يفعل شيئا من ذلك.
وقد أخبرني محمد بن عبد الله الهمداني عن أبيه: أنه ترك تينه سنين دون تذكير فاستغنى عن التذكير، فلعل النخل كذلك، لو توبع عليه ترك التلقيح سنة بعد سنة لاستغنى عن ذلك.
وهذا كله ليس من أمور الدين الواجبة والمحرمة في شئ، إنما هي أشياء مباحة من أمور المعاش، من شاء فعل ومن شاء ترك، وإنما الاجتهاد الممنوع منه ما كان في التحريم والايجاب فقط بغير نص، وقد نص النبي عليه السلام في حديث التلقيح على قولنا.
وقال (ص): أنتم أعلم بأمور دنياكم.
وقد حدثنا بهذا الحديث عبد الله بن يوسف بن ناهي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وعمر والناقد، وكلاهما عن أسود بن عامر، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام

(5/703)


ابن عروة وثابت وهشام، عن أبيه عن عائشة، وثابت عن أنس: أن رسول الله (ص) مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصا، فمر بهم فقال: ما لنخلكم ؟ فقالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
قال أبو محمد: فهذا بيان جلي - مع صحة سنده - في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين، وأنه (ص) لا يقول الدين إلا من عند الله تعالى، وأن سائر ما يقول فيه برأيه ممكن فيه أن يشار عليه بغيره فيأخذ عليه السلام به، لان كل ذلك مباح مطلق له، وإننا أبصر منه بأمور الدنيا التي لا خير معها
إلا في الاقل، وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي، وهذا نص قولنا.
وبالله تعالى التوفيق.
وفي هذا كفاية والحمد.
ومن ذلك ما قال أبو بكر يوم الحديبية لرسول الله (ص) إذ قال له بعض من حضر: أرى أن نميل على عيال هؤلاء - فقال أبو بكر: نرى أن نمضي لوجهنا فهذا كله مباح للامام أن يغزو، وله أن يؤخر الغزو ويومه ذلك وشهره ذلك، ويغزو بعد ذلك.
فاعلم الآن أن الاجتهاد إنما هو طلب الحقيقة من الوجوه المؤدية إليها، لا من حيث لا يؤدي إليها والطلب، كما ذكرنا هو الاستدلال، فالاستدلال والاجتهاد شئ واحد، وقد يستدل من لا يقع على حقيقة الدليل.
وكون الشئ في نفسه حقا هو شئ آخر.
لانه قد يكون الشئ حقا ولا يوافق له طالبه، ولا يضر ذلك الحق، كما أن في منازلنا أشياء لا يعلمها غيرنا من الناس، وليس جهل من جهلها أو ظن فيها غير ما فيها مما يحيل الحق عن وجهه، كما لا نريده علم من علمه درجة في أنه حق، والحق المعلوم والحق المجهول سواء في أنهما حق، واقعان تحت جنس الحق، وكل شيئين وقعا تحت نوع واحد أو تحت جنس واحد، فإنهما متساويان في ذلك النوع وذلك الجنس مساواة صحيحة، نعني فيما أوجبه لهما تلك الجنسية، أو تلك النوعية وكل من بلغه عن النبي (ص) خبر فقد لزمه البحث عنه، فإن لم يفعل فقد عصى الله تعالى.
وكل من قامت عليه حجة من أصول صححها.
وأقر بأنها حق، فلاحت له وفهمها، ثم لم يرجع إلى موجبها لتقليد، أو لانه ظن أن ههنا حجة أخرى لا يعلمها فهو فاسق، وذلك نحو من أقر بخبر الواحد، فأتاه حديث صحيح مسند، فتركه

(5/704)


لقياس أو لهوى، أو تقليدا لمالك أو للشافعي أو لابي حنيفة أو لاحمد أو لداود، أو لصاحب من الصحابة أو تابع، أو فقيه قديم أو حديث معتقدا
أن ذلك الفقيه أو الصاحب كان عنده فضل علم جهله هو، أو أن النص الذي قاس عليه أحق أن يتبع، فهو فاسق ساقط العدالة عاص لله عز وجل.
وأما من تعلق بحديث آخر معارض للحديث الذي بلغه، فما دام لا يحقق أصلا في بناء الاحاديث بعضها على بعض، فهو مأجور على اجتهاده - وإن كان مخطئا - ولا إثم عليه في خطئه، وهكذا القول في الآي، وفي الاحاديث والآي، ولا فرق.
وأما من ذكرنا قبل فبخلاف ذلك، لانه ترك الحق وهو يعلمه، فدخل فيمن شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى.
وأما إذا حقق أصلا في بناء الاحاديث أو الآي، أو الاحاديث مع الآي فالتزمه، ثم لم يعتقد موجبه فهو فاسق كما قدمنا للآية التي قال تعالى فيها: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) * وهذا الذي فعل ما ذكرنا، فقد ترك ما أقبلسانه أنه هدى وأنه أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام، وصار فيمن شهد على نفسه.
وكذلك من أبى قبول خبر الواحد، أو أبى قبول وجه العمل في البناء الصحيح في النصوص، فأقيمت الحجة عليه في ذلك كله، من براهين راجعة إلى النصوص وفهمها ولاحت له فلم يرجع إلى الحق في ذلك، وإنما يعذر من لم تقم عليه حجة بجهله فقط، وكذلك من قامت عليه البراهين في إبطال القياس فتمادى عليه.
وأما من أجاز أن يكون صاحب فمن دونه ينسخ أمرا أمر به رسول الله (ص) أو يحدث شريعة، فهذا كافر مشرك حلال الدم والمال، بمنزلة اليهود والنصارى، وعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، ونحن برآء منه وهو برئ منا، فإن لم تقم عليه الحجة فهو مخطئ مأجور مرة لقصده إلى الخير، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(5/705)


الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في جميع الاعمال والفرق بين الخطأ الذي تعمد فعله ولم يقصد به خلاف ما أمر وبين الخطأ الذي لم يتعمد فعله وبين العمل المصحوب بالقصد إليه، وحيث يلحق عمل المرء غيره بأجر أو إثم وحيث لا يلحق قال أبو محمد: قال الله عز وجل: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * وقال تعالى: * (ومن يفعل ذلك ابتغآء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *، وقال: * (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم) *، وقال تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) *، وقال تعالى: * (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) *، وقال تعالى: * (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) *.
حدثنا حمام بن أحمد، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا أبو زيد المروزي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا أبو نعيم، ثنا زكريا، عن عامر - هو الشعبي - سمعت النعمان بن بشير، سمعت النبي (ص) يقول - فذكر الحديث، وفيه: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد ابن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، نا داود - يعني ابن قيس - عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص) - فذكر الحديث وفيه: التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات.
حدثنا القاضي حمام بن أحمد، ثنا عبد الله بن إبراهيم الاصيلي، ثنا أبو زيد
المروزي، نا محمد ابن يوسف الفربري، نا محمد بن إسماعيل البخاري، نا الحميدي، ثنا سفيان، نا يحيى بن سعيد الانصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر: سمعت رسول الله (ص) يقول: إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.

(5/706)


حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا عمرو الناقد، نا كثير بن هشام، ثنا جعفر بن برفان، عن يزيد الاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
قال أبو محمد: فصح بكل ما ذكرنا أن النفس هي المأمورة بالاعمال، وأن الجسد آلة لها، فإن نوت النفس بالعمل الذي تصرف فيه الجسد وجها ما، فليس لها غيره، وصح أن الله تعالى يقبل إلا ما أمر به، بالاخلاص له، فكل عمل لم يقصد به الوجه الذي أمر الله تعالى به فليس ينوب عما أمر الله تعالى به، فبطل قول من قال: إن من توضأ تبردا أو تعليما، أو تيمم بغير نية، أو لم يأكل ولا شرب ولا وطأ بغير نية، أو مشى في المناسك بغير نية: إنه يجزيه عن الوضوء المأمور به للصلاة.
وعن التيمم المأمور به للصلاة، وعن الصيام المأمور به، أو المتطوع به لله عز وجل، وعن الحج المأمور به، أو المتطوع به لله عز وجل، لانه لم يخلص في كل ذلك لله عز وجل، ولا فعله ابتغاء مرضاته تعالى، ولا نوى به ما أمر به.
وقد أخبر الله تعالى على لسان نبيه عليه السلام أنه لا ينظر إلى الصور، فإذا لم ينظر إلى الصور فقد بطل أن يجزي عمل الصورة المنفرد على عمل القلب الذي هو النية، وصح أنه تعالى إنما ينظر إلى القلب وما قصد به فقط، ولا بيان أكثر من تكذيب الله عز وجل لمنافقين في شهادتهم أن محمدا رسول الله.
وهذا عين
الحق وعنصره الذي لا يتم حق إلا به، فلما كانوا غير ناوين لذلك القول بقلوبهم صاروا كاذبين فيه، وهذا بيان جلي في بطلان كل قول وعمل لم ينو بالقلب، ونحن نحكي أقوال الكفار ونتلوها في القرآن، ولكنا لم ننوها بقلوبنا لم يضرنا ذلك شيئا، وصح بنص الحديث على رسول الله (ص) أن التقوى في القلب، فكل عمل لم يقصده القلب فليس تقوى، وكل عمل لم يقصد بالمضغة التي بها يصلح الجسد فهو باطل، وإن عمله الجسد، وفي هذا كفاية.
على أن القائلين بخلاف قولنا يتناقضون أقبح تناقض، فمن مفرق بين التيمم والوضوء ومن مفرق في النية في الصوم بين أول النهار وآخره، ومن مفرق في الحج بين الاحرام وبين سائر فرائضه، كل ذلك استطالة في الدين بالآراء الفاسدة

(5/707)


والاهواء المضلة بلا دليل من الله تعالى، فإن قال قائل منهم: إنما أمر الله تعالى بغسل أعضاء الوضوء فغاسلها، وإن لم تكن له نية قد غسلها، قيل له وبالله تعالى التوفيق: ما أمر الله تعالى قط بغسلها مجردا عن النية بذلك للصلاة وبيان ذلك في الآيتين اللتين ذكرنا.
وفي الحديثين اللذين نصصنا وأيضا: فإن الصلاة حركات من وقوف وانحناء ووضع رأس بالارض، فإن فعل ذلك إنسان متمددا ومتأملا شيئا بين يديه ومستريحا، حتى أتم بذلك ركعتين في وقت صلاة الصبح لا ينوي بذلك صلاة الصبح أتروه يجزيه ذلك من صلاة الصبح المفترضة عليه ؟ وهذا ما لا يقولونه فقد حصلوا على التناقض.
فإن احتجوا في الصيام بما روي أنه (ص) كان يدخل على عائشة فيقول: أعندكم طعام فإن قالت: لا.
قال: إني صائم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق.
لا حجة لكم في ذلك لانه ليس فيه نص على أنه (ص) استأنف الصوم من حينئذ وجائز أن يكون (ص) سأل: هل عندكم طعام وهو قد نوى الصيام، فلو وجد طعاما أفطر عليه وترك الصوم، كما روى من طريق عائشة أنها قربت إليه
طعاما فأكل وقال (ص): إني كنت أصبحت صائما وهذا جائز لنا نحن أيضا، وأما عمل بلا نية فلا سبيل إليه، لما قدمنا قبل.
فإن قالوا: فإنكم تجيزون غسل النجاسة بلا نية ؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن كل نجاسة أمر رسول الله (ص) بإزالتها بعمل موصوف وبعدد محدود بلا بد في إزالتها من النية، ولا تجزى إلا بالقصد إليه تأدية العمل المأمور به فيها، وإلا فلا، وأما كل نجاسة أمرنا باجتنابها فقط، دون أن يجد لنا فيها عمل أو عدد فكيف ما زالت فقد زالت وقد اجتنبناها، وأيضا فإنه لولا الاجماع ما أجزنا ذلك ههنا.
وأيضا فإن لباس الثوب النجس حلال إلا في الصلاة وفرض الصلاة، أن يصلي قاصدا بنيته إلى لباس وثياب طاهرة عنده لا نجاسة فيه، فإذا صلى في ثوب هذه صفته، ناويا لذلك فقد أدى فرضه كما أمر بالنية التي أمر بها، وليس غسلها فرضا، لا يجزي سواه، بل لو قطعها أو انقطع موضعها من ثوبه، أو لبس ثوبا آخر أجزأه، فحسبنا أن يكون الثوب طاهرا لا نجاسة فيه، ولا نبالي كيف زالت النجاسة عنه، ولا فرق بين إجازة مالك النية للصوم لرمضان في أول ليلة منه،

(5/708)


ويجزي ذلك عنده من تحديد النية كل ليلة، وبين إجازة أبي حنيفة إحداث النية لصيام كل يوم من رمضان قبل زوال الشمس وإن لم ينوه من الليل، ولا فرق بين تقديم النية قبل وقت العمل، وبين تأخيرها عن وقت العمل، وفي كلا الوجهين يحصل العمل المأمور به مؤدى بلا نية مصاحبة له، ولا يجوز أن يؤدى عمل إلا بنية متقدمة، يتصل بها ومعها الدخول فيه بلا مهلة، ولا يعرى الابتداء به منها.
ولو أمكن ذلك في الصوم حتى تكون النية متصلة بطلوع الفجر لما أجزأ غير ذلك، ولكن لما كان ذلك غير ممكن في كل وقت، أجزأ ذلك على قدر الطاقة هذا مع الحديث الوارد في هذا المعنى من طريق حفصة: لا صيام لمن لم يبيته
من الليل وبالله تعالى التوفيق.
ولا بد لكل عمل من نية، وكل شئ يتصرف فيه المرء فلا يخلو من أحد وجهين: إما حركة، وإما إمساك عن حركة، وإنما يفرق بين الطاعة من هذين الوجهين وبين المعصية منهما وبين اللغو منهما النيات فقط، ولا فرق بين الطاعة والمعصية واللغو في الحركات والامساك عن الحركات إلا بالنيات فقط، وإلا فكل واحد فهو إما واقع تحت جنس الحركة وإما واقع تحت جنس الامساك عن الحركة.
فوجب بالضرورة أن لا يتم عمل، ولا يصح أن يكون حركة أو إمساك متوجهين إلى الطاعة المأمور بها.
خارجين عن المعصية وعن اللغو إلا بنية.
هذا أمر لا محيد عنه أصلا إلا لجاهل لا معرفة له بحقائق الامور.
فمن صلى بنية رياء ففاسق عاص، ومن صلى بنية الطاعة التي أمر بها فمطيع فاضل، ومن ركع وسجد وقام وقعد لا بنية رياء ولا بنية الطاعة فذلك لغو، وليس مطيعا ولا عاصيا، ومن توضأ بنية الرياء ففاسق عاص، ومن توضأ بنية الطاعة كما أمر فمطيع فاضل، ومن غسل أعضاءه تبردا بلا نية طاعة ولا بنية رياء فليس مطيعا ولا عاصيا، وإذا لم يكن مطيعا فلم توضأ الوضوء الذي هو طاعة الله عز وجل مأمور به.
وكذلك الصوم والحج والجهاد والزكاة، لان الصوم إنما هو إمساك عن الاكل والشرب، والوطئ، والقئ، والكذب والغيبة، ومباشرة من لا يحل للمرء مباشرته، فإن أمسك عن كل ذلك بنية الرياء فهو عاص لله عز وجل فاسق غير صائم، وإن أمسك عن كل ذلك بنية الطاعة في تركه كما أمر فهو مطيع فاضل صائم.

(5/709)


وإن أمسك عن كل ذلك لا بنية الرياء ولا بنية الطاعة كما أمر، فليس مطيعا ولا عاصيا، وإذا لم يكن كذلك فليس صائما، وإذا لم يمسك بنية الطاعة عن ذلك في صوم الفرض في الوقت الذي أمر فيه بالامساك عن كل ما ذكرنا فهو عاص، لانه
خالف ما أمر به وهكذا القول في رمي الجمار والوقوف بعرفة والمزدلفة والطواف والسعي.
وكذلك سائر الاشياء كلها.
فمن أكل الشعير مؤثرا بالبر المساكين، ناويا للبر في ذلك، ففاضل محمود، ومن أكله لؤما وبخلا وخزن البر مستكثرا للمال.
فمذموم آثم، ومن مشى راجلا وحمل متاعه بيده، تواضعا لله تعالى لا بخلا ولا دناءة، وتصاون عن الخسائس مع ذلك، وتصدق ناويا بكل ذلك ما ذكرنا، فهو فاضل محمود، ومن فعل ذلك بخلا ودناءة فمذموم، وإن فعل بنية رياء ففاسق، ومن أنكح بنته عبده أو علجا - كما فعل ضرار بن عمرو - تواضعا ونيته التسوية بين المسلمين، وهو مع ذلك عزيز النفس غير طمع ولا جشع ففاضل محمود عند أهل العقول، رائض لنفسه الغضبية، ومن فعل ذلك طمعا أو مهانة نفس فمذموم ساقط، ومن لبس الوشي المرتفع الذي ليس حريرا بنية الاقتداء بالنبي (ص) فمأجور فاضل، ومن لبسه بنية التخنث والاشر والاعجاب ففاسق مذموم، وهكذا جميع الاعمال، أولها عن آخرها، فصح أن لا عمل أصلا إلا بنية كما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: أنتم تقولون فيمن أعتق في نفسه أمته أو عبده، ونوى عتقهما وأمضاه نية صحيحة، إلا أنه لم يلفظ بعتقهما أنهما لا يكونان بذلك حرين، ولا يكون هو معتقا لا عند الله ولا في الحكم، فإن العبد والامة باقيان مملوكين له كما كانا.
وتقولون فيمن طلق في نفسه، ونوى الطلاق إلا أنه لم يلفظ بلفظ من ألفاظ الطلاق: إنه لا يكون مطلقا بذلك لا عند الله ولا في الحكم، وإنما امرأته حلال له كما كانت، حتى أنكم تقولون: إنه إن لفظ بلفظ ليس من ألفاظ الطلاق ونوى به الطلاق، إنه لا يلزمه بذلك طلاق وإنها امرأته كما كانت حلال له في الحكم والفتيا معا.
وتقولون: إن من وهب نيته أو تصدق بنيته بشئ من ماله مسمى، ولكنه
لم يلفظ بلفظ من ألفاظ الهبة أو الصدقة إنه بذلك غير واهب ولا متصدق،

(5/710)


ولا يلزمه شئ، لا في الفتيا ولا في القضاء، وإن اعترف بذلك وأقر بأنه نواه.
ثم تقولون: إن من نوى في حال صيامه أنه تارك للصوم عامدا بذلك، ذاكرا لصومه، إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ولا وطئ ولا فعل فعلا ينقض الصوم، فإن صومه قد بطل، وأنه قد أفطر، وتقولون فيمن نوى في حال صلاته: إنه تارك الصلاة خارج عنها، إلا أنه لم يفارق ما هو فيه من هيئتها أنه قد بطلت صلاته إذا تعمد ذلك وهو ذاكر أنه في صلاة، وتقولون فيمن نوى في حال إعطائه زكاة ماله أنه ليس ذلك عن زكاته المفترضة عليه، إنه كذلك غير مؤد فرض زكاته وأن عليه أداءها ثانية.
وتقولون فيمن نوى في حال تذكيته ما يذكي: أنه عابث غير قاصد إلى التذكية المأمور بها، إنها ميتة لا يحل أكلها، وتقولون فيمن نوى في حال عمرته وحجه إنه رافض لهما، وهو مع ذلك متماد في عملهما، فإن حجه وعمرته قد بطلا، وتقولون فيمن نوى في حال وضوئه وغسله، إن بعض عمله لهما لا ينوي به أداء الغسل الوضوء المفترضين عليه: إن ذلك الغسل والوضوء ناقصان، لا بد من إعادة ما عمل بغير نية.
وتقولون فيمن أتم كل هذه الاعمال بنية لها فلما أتمها نوى بطلانها: إنه لا يبطل شئ منها بذلك، وأنها ماضية جازية جائزة، فما الفرق بين ما جوزتموه وبين ما أبطلتموه من ذلك ؟ وهل كل ذلك إلا سواء ؟ وما الفرق بين استغناء النية في بعض هذه الوجوه عن مضامة العمل إليها، وبين افتقارها إلى مضامة العمل إليها في بعضها ؟.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن جميع الاعمال المأمور بها هي مفتقرة إلى
نية تصحبها كما قدمنا لما ذكرنا في أول هذا الباب من وجوب القصد إلى الله تعالى والاخلاص له بالعمل، فمتى قصد المرء إلى إبطال تلك النية فقد بطل ذلك العمل، إذ لم يأت به كما أمر من إصحاب النية إياه، فلذلك بطل ما ذكرنا من الوضوء والغسل والصوم والحج، لانه ليس إلا صائم أو غير صائم، أو مصل، أو غير مصل، ومتوضئ أو غير متوضئ.
وهكذا في الزكاة والحج وغير ذلك، فإذا لم يكن صائما.
ولا مصليا ومتوضئا كما أمر، فهو غير صائم ولا متوضئ ولا مصل

(5/711)


وهكذا، سائر الاعمال.
وهكذا القول عندنا، فيمن طلق أو عتق أو تصدق بغير نية، إن كل ذلك لا يلزمه عند الله تعالى، وإن كنا نقضي عليه بإمضائه، لانا لا نعلم نيته في ذلك، ولو علمنا أنه بغير نية لما حكمنا عليه بشئ من ذلك أصلا، فلو وصل قوله كله فقال: عبدي حر بغير نية مني لعتقه، أو قال ذلك في الطلاق والنكاح والصدقة والهبة، لما أنفذنا عليه شيئا من ذلك أصلا.
وكل ما ذكرنا وما لم نذكر من سائر الاعمال، فلا تجزئ فيه النية دون العمل ولا العمل دون النية، ولا بد من اقترانهما معا، لانه مأمور من الله تعالى بهما معا، فلا بد في الصلاة من حركات محدودة معمولة مع النية، ولا بد في الوضوء من مثل ذلك أيضا، ولا بد في الحج من مثل ذلك، ولا بد في الصوم من إمساك عن كل ما أمر بالامساك عنه، مع النية أيضا، ولا بد في العتق والطلاق، والنكاح والهبة والصدقة، من نطق ولفظ مع النية في كل ذلك، لانه لا يعلم شئ من ذلك إلا بالالفاظ المعبرة عنه، وإن انفرد في كل ما ذكرنا عمل دون نية فهو باطل، وإن انفرد نية فيه دون عمل فهي باطل أيضا.
فمن نوى أن يصلي أو يتوضأ، أو يحج أو يصوم ولم يصل ولا توضأ ولا حج ولا صام فلا شئ له، فلا يظن الظان أن قولنا اختلف في شئ مما ذكرنا، بل هو كله باب واحد، وهو أنه لا بد من
عمل ونية، لا حكم لاحدهما دون الآخر، ومن خالفنا في هذا فإنه يتناقض، فمرة يقول بقولنا في بعض المواضع، ومنها الصلاة، ومرة لا يقول بقولنا دون دليل، لكن اتباعا للهوى والتقليد الذي لا يحل.
فإن قال: فإنكم تقولون فيمن أفطر ناسيا غير ذاكر لصومه، أو تكلم أو عمل أو أكل ناسيا في صلاته غير ذاكر أنه في صلاة، أو قتل صيدا وهو محرم غير معتمد لقتله - إنه لا شئ عليه في كل ذلك.
ثم تقولون: من أحدث بشئ يخرج من مخرجيه من غائط أو بول أو ريح أو مذي أو ودي أو مني ناسيا، أو نام مغلوبا فقد بطلت طهارته وتقولون إن من ذبح أو نحر أو تصيد، فلم يسم الله تعالى فالجواب وبالله تعالى ناسيا أو عامدا، فكلاهما سواء لا يحل أكل شئ من ذلك فالجواب وبالله التوفيق: أن الاصل الذي تجري عليه الفتيا أنه لا شئ

(5/712)


على الناس لقوله تعالى: * ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * فلا يخرج عن هذا النص إلا ما أخرجه نص أو إجماع، فلهذا النص ولما أخبرنيه أبو العباس أحمد بن عمر العذري، أنا الحسين بن عبد الله الجرجاني، ثنا عبد الرزاق ابن أحمد بن عبد الحميد الشيرازي، أخبرتنا فاطمة بنت الحسن بن الريان المخزومي وراق القاضي أبي بكار بن قتيبة قالت: ثنا الربيع بن سليمان المؤذن، ثنا بشر بن بكر عن الاوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
ففي هذا الحديث نص التسوية بين العمل المقصود نسيانا بغير نية، وبين الخطأ الذي لم يقصد، فلهذا ولنصوص أخر لم يبطل الصوم بفطر نسيان، ولا بطلت الصلاة لعمل نسيان، وهكذا كل نسيان، إلا نسيانا استثناه من هذا النص نص
آخر أو إجماع، كما صح من الاجماع المتيقن المقطوع به في الاحداث المذكورة أنها تنقض الطهارة على كل حال بالنسيان والعمد.
وبالضرورة ندري أنه لم يزل الناس يحدثون في كل يوم من عهد رسول الله (ص)، وكلهم يوجب الوضوء من ذلك، فصح أنه إجماع منقول إلى رسول الله (ص)، وكذلك النوم لانه لا يكون إلا بغلبة أبدا لا بقصد، ولو قصد المرء دهره كله أن ينام لم يقدر إلا أن يغلبه النوم، وأما سائر الاحداث التي لا إجماع فيها فإنها لا تنقض الطهارة عندنا إلا بالقصد والعمد لا بالنسيان، كاللمس للنساء وكمس الفرج.
وأما الذكاة فإن النص ورد بألا نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، قال تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * وقال تعالى: * (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) * فلما كان ما ذكاه الناس للتسمية مما لم يذكر اسم الله عليه بلا شك كان مما نهينا عن أكله بالنص، وأما الاثم فساقط عن الناسي جملة.
وقد رام قوم أن يتوصلوا إلى إباحة ما نسي ذكر اسم الله عليه بقوله عز وجل في الآية المذكورة: * (وإنه لفسق) * وقالوا: الفسق لا يقع إلا على النسيان.
قال أبو محمد: وهذا تمويه ضعيف، لاننا لم نقل إن الله تعالى أوقع اسم الفسق على نسيان الناسي للتسمية، وإنما قلنا ما في نص الآية: إن ذلك الشئ المذبوح أو

(5/713)


المنحور أو المتصيد الذي لم يسم الله تعالى عليه عمدا أو نسيانا هو نفسه المسمى فسقا، كما سمى الله تعالى الخمر والميسر رجسا من عمل الشيطان، فبطل تمويههم، وكان الناس لذكر اسم الله تعالى على التذكية غير مذك، وغير المذكى لا يحل أكله، وكذلك من نسي أن يذكي ففك الرقبة، وكذلك من نسي النية في مدخل صلاته ومدخل صومه ومدفع زكاته، فهؤلاء كلهم غير مصل ولا صائم ولا مزك، إلا أن الزكاة ليست مرتبطة بوقت محدود الطرفين فهي تقضى أبدا.
وقد جاء
النص بوجوب قضاء الصلاة على الناسي، وأما الصيام فهو مرتبط بوقت محدود الطرفين، فلا سبيل إلى نقله إلا بنص آخر، وكذلك المذكي إنما هو عمل في شئ بعينه، لا يقدر على استرجاعه بعد موته، فلما لم يسم الله عليه بنسيان أو عمد فهو ميتة لا يحل أكله، والتسمية في اللغة لا تقع إلا على ما ذكرنا باللسان لا على ما استقر في القلب دون ذكر باللسان.
والعجب كل العجب ممن يرى على المفطر ناسيا القضاء ولا يعذره، وقد جاء النص بأنه صائم تام الصوم، ثم يرى أكل ما نسي ذكر اسم الله تعالى عليه من المذبوحات وغيرها، ويعذر ههنا بالنسيان حيث عم النص بالمنع منه، وهذا كما ترى، وبالله تعالى التوفيق.
وكذلك من افتتح العمل الذي أمر به بنية قصد إليه كما أمر، ثم نسي النية في درج ذلك العمل، وكان العمل متصلا غير منقطع، فهذا لا يبطل عمله بالنسيان للنص الذي ذكرنا، فبطل بكل ما ذكرنا ما ظنه الظان من أن قولنا: إن كون الفطر بنية الفطر عمدا في الصوم دون الاكل واقع أنه مخالف لقولنا: إن العتق والطلاق بالنية دون النطق غير واقعين، بل هو كله باب واحد، وذلك أن الامساك عما ينقض الصوم بغير نية، قصد بذلك إلى أداء الصوم فاسد باطل.
وكذلك نية الصوم دون الامساك عما ينقض الصوم عمدا باطل فاسد.
وكذلك العتق والطلاق دون نية لهما باطل، وكذلك النية لهما دون إظهارهما بما لا يكونان إلا به فاسدة باطل، ولاح أن الشك إنما وقع لمن وقع في هذا لاختلاف الاجوبة.
وبيان تحقيق رفع الاشكال في هذا الباب هو أن يسأل السائل فيقول: ما تقولون فيمن طلق في نيته دون قول ؟ وفيمن أعتق في نيته دون قول ؟ وفيمن

(5/714)


أفطر في نيته دون عمل يفسد به الصوم ؟ وفيمن نوى إبطال صلاته التي هو فيها
بنيته دون عمل مضاد للصلاة، أو نوى تبردا في خلال وضوئه وليحدث حدثا ينقض الوضوء، وفعل كل ذلك عامدا ذاكرا لما هو فيه ؟.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن نقول له: كل من ذكرت لا عتق له ولا طلاق له ولا صوم له، ولا وضوء له، ولا صلاة له، ومثل هذا الايمان فإنه قول ونية فمن عدم النية ولفظ بالايمان فهو إيمان له، ومن عدم القول ونوى بالايمان فلا إيمان له، وإذا كان لا إيمان له فهو كافر، لانه ليس إلا مؤمن أو كافر، وأما من أتم العمل الذي أمر به كما أمر به، من عمل ونية ثم نوى بعد انقضائه نقضه وإبطاله، لم يكن ذلك العمل منتقضا، لانه قد كمل وتأدى كما أمر الله تعالى، وانقضى وقته فلا ينقضه نية مستأنفة.
وكذلك لا تصلح العمل الفاسد نية غير مضامة له، إما متقدمة وإما متأخرة، وقد أقمنا البراهين على أن كل ما صح في وقت لم يبطل في ثان إلا بنص أو إجماع وما بطل في وقت لم يصح في ثان إلا بنص أو إجماع، وهذا القول فيمن طلق بنية وأعتق بنيته دون لفظ: إن الملك والنكاح قد صحا في أول فلا يبطلان في ثان إلا بنص، ولا نص ولا إجماع في بطلانهما بالنية دون الالفاظ الموضوعة لنقضهما، وبطل بما ذكرنا قول من أراد أن يحقق جواز العمل بنية متقدمة له غير متصلة به، لانه لو جاز أن يكون بين النية والعمل دقيقة لجاز أن يكون بينهما مائة عام ولا فرق.
وقد قال المالكيون: إن في أول ليلة من شهر رمضان تجزئ النية لصيام باقيه، وهذا باطل، لانه لو جاز ذلك لاجزت نية واحدة في أول رمضان يصومه المرء عن إحداث نية لكل رمضان يأتي، وهم لا يقولون ذلك، فإن قالوا: إنه يحول بين رمضان ورمضان شهور لا صيام فيها، قيل لهم: وكذلك يحول بين كل يومين من أيام رمضان ليل لا صيام فيه، ولكل يوم حكمه، وقد يمرض ويسافر فيفطر ولا يبطل لذلك صيام ما سلف.
ومن قولهم: إن انتقاض صيام يوم من رمضان
بطاعة أو بمعصية لا ينقض صيام ما سلف فيه، وهذا هدم لقولهم، فإن ادعوا في ذلك إجماعا أكذبهم سعيد بن المسيب عميد أهل المدينة، لانه يقول: من أفطر في رمضان يوما عمدا فعليه قضاء الشهر كله، لانه عنده كيوم واحد وكصلاة

(5/715)


واحدة، إن انتقضت منها ركعة تعمدا انتقضت كلها فاستبان بكل ما ذكرنا أن كل هذا نوع واحد لا خلاف بين شئ منه، ولم نقل هذا على أننا حاكمون لبعض ما ذكرنا بمثل حكمنا لسائره، قياسا، ومعاذ الله من ذلك.
ولكنا أرينا أصحاب القياس تناقضهم في ذلك، حيث يرتضونه ويصححونه ويحكمون به من القياس الفاسد.
وأما نحن فإنما معتمدنا في كل ما ذكرنا على ما قد بيناه من أن كل عمل خلا من نية، أو كل نية خلت من عمل، فكل ذلك فاسد لقوله تعالى: * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * فأمرنا بشيئين كما ترى، العبادة وهي العمل، والاخلاص وهو النية، فلا يجزئ أحدهما دون الآخر، وبقوله عليه السلام: إنما الاعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فصح بهذا النص أنه لا عمل إلا بنية مقترنة معه، غير متقدمة ولا متأخرة، وقوله تعالى: * (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) * إلا أن يأتي نص باستثناء شئ من هذه النصوص فنصير إليه وإلا فلا.
وقد سألني بعضهم فقال: ما تقول فيمن أفطر ناسيا لصومه ؟ فقلت له: صومه تام.
قال: فما تقول فيمن ترك ركعة من صلاته ناسيا ؟ فقلت: يصليها ما لم ينتقض وضوءه، أو يعيد الصلاة كلها إن انتقض وضوءه، فقال لي: لم فرقت بين الامرين ؟ وهلا أجزت الصلاة مع نسيان بعضها، كما أجزت الصيام مع نسيان بعضه بإفطار في بعض نهاره ؟.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إننا لسنا من أصحاب القياس فيلزمنا هذا السؤال، وإنما اتبعنا النص الوارد فيمن أفطر ناسيا أنه يتم صومه، واتبعنا فيمن نسي صلاته
أو بعضها أن يصليها، لاننا مأمورون بالصلاة بالنص، وبعض الصلاة صلاة، فمن لم يصل ناسيا، قيل له بالنص: أقم الصلاة التي نسيت إذا ذكرتها ولا مزيد، ولكنا نتطوع ونريه فساد ما أراد إلزامنا إياه من طريق القياس الذي يدعونه، وهم أترك الناس لطرده.
فنقول وبالله تعالى التوفيق: ليس يشبه تارك ركعة ناسيا من أفطر ناسيا، وإنما يشبه من أفطر ناسيا من تكلم في صلاته ناسيا، ويشبه تارك الركعة ناسيا من نسي أنه صائم، فنوى الفطر في باقي نهاره إلا أن النص فرق بين حكميهما، وذلك أن النبي (ص) يقول: من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها ولم يأمر في نسيان الصوم بذلك والصوم له وقت محدود

(5/716)


حده الله تعالى فلا سبيل إلى نقله إلى وقت آخر أصلا إلا حيث جاء النص بنقله فقط، ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى، قال الله عز وجل: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * نعوذ بالله من الظلم والظلم حرام.
وأما من نوى أن يفطر ولو بعد ساعة ولم ينو أنه مفطر في وقته ذلك فلا يكون بذلك مفطرا أصلا، فإن جازت تلك الساعة ولم يحدث فيها نية للفطر مجددة لم يضر صومه تلك شيئا وصومه تام.
وهكذا من نوى أيزني ولم يزن أو أن يشرب ولم يشرب أو أن يتصدق ولم يتصدق، لا يكتب له ولا عليه ما لم يفعل من كل ذلك شيئا، وهو كله باب واحد ولا عمل إلا بنية مصحبة للدخول فيه يكون أول الدخول فيه بعد إحداثها.
والخطأ يكون على ضربين: أحدهما فعل لم يقصده الانسان أصلا، وذلك كرجل رمى غرضا فأصاب إنسانا لم يقصده، وكإنسان جر نفسه فاستجر ذبابا، فدخل حلقه وهو صائم، أو أراد حك فخذه فمس ذكره فهذا وجه، وهو الذي يسميه أهل الكلام التولد، لانه تولد عن فعله ولم يقصد هو فعله.
والوجه الثاني:
فعل قصد الانسان عمله إلا أنه لم ينو بذلك طاعة ولا معصية، ولا نوى بذلك ما حدث من فعله، ولا قصد إلى بعض ما أمر به، ولا إلى خلاف ما أمر به كإنسان لطم آخر فوافق منية الملطوم، أو كإنسان صائم عمد الاكل وهو غير ذاكر لصومه، ولا قاصد إفساد صومه، أو نسي أنه في صلاة فقصد إلى الاكل أو إلى الكلام أو إلى المشي غير عامد لافساد صلاته، أو نسي أنه على طهارة فقصد إلى مس ذكره غير قاصد بذلك إلى نقض وضوئه، أو سقاه إنسان بحضرة عدول من إناء أخبره أن فيه نبيذا غير مسكر، فلما جرع منه قاصدا إلى شربه علم أنه خمر، فأزاله عن فيه بعد أن شرب منه، أو وطئ امرأة لقيها في فراشه عامدا لوطئها وهو يظنها امرأته فإذا بها أجنبية أدخلت عليه، أو قرأ آية قاصدا إلى الالفاظ التي قرأ يظنها من القرآن وهي بخلاف ذلك في القرآن، أو قتل صيدا عامدا لقتله غير ذاكر لاحرامه وهو محرم.
فهذا وجه ثان وكلاهما مرفوع لا ينقض شئ من ذلك عملا ولا إيمانا، ولا يوجب إثما ولا حكما إلا حيث جاء النص بأنه يوجب حكما مما ذكرنا، فيوقف عنده ويكون مستثنى من الجملة التي ذكرنا منها طرفا، كالنص

(5/717)


الوارد في إيجاب الدية على العاقلة، لانه في كلا الوجهين المذكورين لم ينو معصية.
وكذلك من فعل أي فعل كان ولم ينو به الطاعة لله تعالى فهو غير موجب له أجرا ولا أدى ما أمر به.
وأما العمد المرتبط بالقصد إلى ما يحدث من ذلك العمد، أو إلى بعض ما هو فيه كقصد الصائم إلى الاكل، وهو ذاكر لانه صائم فرض، وكضربه إنسانا بما يمات منه قاصدا لضربه به، عالما بأنه قد يمات من مثله، وكتبديله القرآن عامدا عالما بأنه ليس كذلك في المصحف، وكشربه الخمر، وهو يعلمها خمرا، وكوطئه أجنبية، وهو يعلم أنها ليست له زوجا، ولا ملك يمين.
فهذا كله يوجب الحكم بالاثم، وبما
أتى به النص.
وإنما قلنا في قاتل الصيد عامدا لقتله غير ذاكر لاحرامه: إنه لا جزاء عليه لقوله تعالى في آخر الآية: * (ومن عاد فينتقم الله منه) * والنقمة لا تقع إلا على عاص ولا يكون عاصيا بقتل الصيد أصلا إلا حتى يعمد قتله، وهو مع ذلك ذاكر لاحرامه، عالم بأنه منهي عن قتله في تلك الحال، هذا ما لا خلاف فيه، أعني أنه لا يأثم إلا في هذه الحال.
وكذلك من قصد بنيته إلى فعل الطاعة فهو مؤد لما أمر به من ذاك والنفس هي الفعالة، وفعلها المعرفة بما نفعله وغرضها فيه، وهي المحركة للجسد فلا بد من توفيتها فعلها الذي أمرت به بتمامه.
ومما ذكرنا: من لقي رجلا في صف المشركين فظنه مشركا فقتله عمدا، وهو لا يعلم أنه مسلم، فإذا هو مسلم، فلا خلاف في أنه لا قود عليه ولا إثم.
وكذلك سقط الاثم والقود عن المتأول من الحكام، وإن كان عامدا، ليس ذلك إلا لانه لم يقصد خلاف ما أمر به وهو يعلمه معصية.
وكذلك من أكل لحم خنزير وهو يظنه لحم كبش أو حنث غير ذاكر ليمينه فكل هذا لا شئ عليه فيه ولا قضاء ولا إثم ولا تعزير ولا حد.
فإن جاء نص في شئ ما من ذلك كان مستثنى، كمن صلى وهو يظن أنه متوضئ، فإذا به غير متوضئ فذكر بعد ذلك، فهذا لم يصل فليصل، لقوله عليه السلام: لا صلاة إلا بطهور وهذا لم يصل كما أمر وأما من صلى وفي ثوبه شئ فرض اجتنابه على من بلغه، أو صلى إلى غير القبلة، فإن كان ممن لم يبلغه فرض اجتناب ذلك الشئ، ولا فرض القبلة، فصلاته تامة، لانه لم يكلف ما لم يبلغه، فإن كان ممن بلغه كل ذلك فعليه أن يعيد الصلاة ما دام وقتها،

(5/718)


لانه علم ووقتها قائم، إذ لم يصل تلك الصلاة كما أمر، ففرض عليه أن يصليها كما أمر.
وأما بعد الوقت فلا، لانه لا يصلي صلاة إلا في وقتها حاشا النائم والناسي والسكران، فإنهم خصوا بالنص فيهم، وكالدية وعتق الكفارة في قتل
الخطأ، فهذا مستثنى بالنص من سائر ما لم يقصده المرء.
واعلم أن خصومنا يتناقضون في كل ما ذكرنا تناقضا لا يرجعون فيه إلى أصل، لكن مرة يلزمونه ومرة لا يلزمونه دون برهان من الله تعالى في كل ذلك.
ومما يؤيد ما قلنا ما حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا محمد بن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل.
- هو شقيق بن سلمة - يقول: ثنا أبو موسى الاشعري، أن رجلا أعرابيا أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟ فقال له رسول الله (ص): من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
وقد روى الاعمش هذا الحديث فذكر فيه: الذي يقاتل شجاعة وحمية وغضبا ورياء وأنه (ص) لم يجعل في سبيل الله إلا من قاتل لتكون كلمة الله عز وجل العليا، فلو أجزأ عمل بغير نية لاجزأ الجهاد الذي هو أفضل الاعمال بعد الايمان، ولكن لا سبيل إلى أن يجزئ عمل بغير نية.
ومن هذا الباب أيضا المكره على الكفر، فإن عبد بلسانه ولم يعبد بقلبه فلم يخرج بذلك عن الايمان، قال الله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) * فإنما راعى تعالى عمل القلب فقط، وقد بين ذلك النبي (ص) إذ سئل عمن أكل ناسيا، فأخبر عليه السلام أنه لم ينتقض صومه بذلك، ولا شك في أن هذا الصائم عمد الاكل، ولكنه كان ذاكرا لصيامه، فصح ما قلنا نصا، وبالله تعالى التوفيق.
وقال تعالى: * (لا تكلف إلا نفسك) * احتج بهذا قوم في إبطال أن يحج أحد عن غيره أو يصلي أحد عن غيره أو يصوم أحد عن غيره، وقد أخطؤوا في ذلك خطأ فاحشا، وليس في هذه الآية معارضة لامر النبي (ص) بالحج عن الشيخ الكبير، وبالصيام عن الولي الميت، وبقضاء النذر عن الميت، لان كل ما ذكرنا فالحي المؤدي هو المكلف ذلك في نفسه، وهي شريعة ألزمه الله تعالى

(5/719)


إياها وافترضها عليه، كالصلوات الخمس وسائر صيامه في رمضان، فقد تعين في ذلك فرضا على الولي زائدا، كلفه في نفسه، هو مأجور على أدائه، لانه أدى فرضا كلفه.
والله تعالى متفضل على الميت والمحجوج عنه بأجر آخر زائد، وخزائن الله لا تنفد، وفضله تعالى لا ينقطع، فبطل ظن من جهل ولم يفهم، وقدر أن بين الآية التي ذكرنا، والاحاديث التي وصفنا (تعارضا) وقد تناقضوا فأجازوا أن يؤدي المرء الدين عن غيره، وجعلوا له أجرا بذلك.
وللميت المؤدى عنه حطيطة الدين الذي عليه، وهكذا قلنا نحن في سائر ما أمرنا بأدائه من الصوم والحج والصلاة المنذورة ولا فرق،، وأوجبوا غرم بني عم المرء الدية عن القاتل خطأ فنقضوا قولهم، فإن قالوا: الاجماع أوجب ذلك كذبوا، لان عثمان البتي لا يرى ذلك، يعني غرم العاقلة الدية عن قاتل الخطأ.
قال أبو محمد رحمه الله: واحتج مخالفنا أيضا في ذلك بقوله تعالى: * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) *.
قال أبو محمد: وقد بينا فيما خلا أن يضاف كل ما قاله (ص) إلى ما قال ربه تعالى.
فصح أنه تعالى قد يتفضل على المرء بأن يلحقه دعاء ولده بعد موته وليس بما سعى، وأنه تلحقه صدقة وليه عنه وليس مما سعى، وكذلك سائر ما نص عليه السلام على أنه يلحقه، وقال تعالى: * (وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون ئ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * وقال تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) *.
وأخبر عليه السلام أن من سن في الاسلام سنة حسنة كان له أجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا.
قال أبو محمد: وكل هذا متفق لا تعارض فيه أصلا، لان معنى قوله تعالى: * (وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ) * أي أنهم لا يسقطون عنهم بتقليدهم إياهم إثما، ولكن للعامل إثمه، وللسان مثل ذلك أيضا، وهذا بين، وبالله تعالى التوفيق.
وكذلك ما أمر به رسول الله (ص) من ألا يحنط الميت المحرم، ولا يمس طيبا، ولا يغطى وجهه ولا رأسه، وأن يكفن في ثوبه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا، وما

(5/720)


أمر به (ص) في الشهيد ألا يغسل ولا يكفن، وأن يدفن في ثيابه، وأخبر (ص) أنه يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون دم والريح ريح مسك فكلا الامرين عمل كلفناه نحن وألزمناه، فمن فعله أطاع الله تعالى، ومن لم يفعله عصى الله عز وجل.
فتخيل أهل الجهل والاستخفاف بأوامر الله تعالى، وأوامر رسوله (ص) فقالوا: إن عمل الميت قد انقطع، فيا ليت شعري من قال لهم: إن هذا عمل أمر به الميت وإنما قيل لهم: إنه عمل أمرنا نحن به في الميت، كما أمرنا بغسل سائر موتانا وتحنيطهم بالسدر والكافور والصلاة عليهم، فهذا كله سواء ولا فرق.
وتلبية المحرم يوم القيامة فضل له حينئذ وجزاء كثعب جرح الشهيد، ولا فرق فبطل تمويه أهل الجهل والحمد لله.
وكذلك قوله: * (إن احسنتم احسنتم لإنفسكم وإن أسأتم فلها) * وقوله تعالى: * (يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) *، وقوله تعالى: * (يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * وقوله تعالى: * (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى وقوله تعالى: * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) * وقوله تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) *.
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا كله لا يعارض ما ذكرنا البتة، وإنما معناه أن أحدا لا يحمل إثم غيره ولا وزره، إلا أن يكون سن ذلك العمل السوء فله مثل
إثم صانعيه أبدا، لان الآي مضاف بعضها إلى بعض، وقد قال تعالى: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكله كفل منها وكان الله على كل شئ مقيتا) *.
وأخبر عليه السلام أن كل قتيل يقتل فعلى ابن آدم الاول كفل منه، لانه أول من سن القتل.
فمعنى الآي الاول أن الله لا يلقي إثم أحد على برئ منه، وأما من استن الشر ورتبه فله حظ من كل فعل يوافق ما سبق، وكذلك من سن الخير أبدا، فلا يلحق عمل أحد أحدا أبدا إلا ما جاء به النص، فيصير حينئذ فعلا مأمورا به من كلف أداه، يؤجر على فعله ويأثم بتركه كسائر ما أمر به ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(5/721)


الباب الثالث والثلاثون في شرائع الانبياء عليهم السلام قبل محمد (ص) أيلزمنا اتباعها ما لم ننه عنها أم لا يجوز لنا اتباع شئ منها أصلا إلا ما كان منها في شريعتنا وأمرنا نحن به نصا باسمه فقط ؟ قال أبو محمد رحمه الله: قد ذكرنا الوجوه التي تعبدنا الله تعالى بها، والتي لا حكم في شئ من الدين إلا منها.
وهذا حين نذكر إن شاء الله تعالى الوجوه التي غلط بها قوم في الديانة، فحكموا بها وجعلوها أدلة وبراهين، وليست كذلك، والصحيح أنه لا يحل الحكم بشئ منها في الدين وهي سبعة أشياء: شرائع الانبياء السالفين قبل نبينا محمد (ص) والاحتياط والاستحسان والتقليد.
والرأي، ودليل الخطاب.
والقياس.
وفيه العلل.
ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون هذه الاوجه بابا بابا.
ومبينون وجه سقوطها وتحريم الحكم بها.
وبالله تعالى نتأيد.
فأما شرائع الانبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل نبينا محمد (ص) فالناس فيها على قولين: فقوم قالوا: هي لازمة لنا ما لم ننه عنها، وقال آخرون: هي
ساقطة عنا، ولا يجوز العمل بشئ منها، إلا أن نخاطب في ملتنا بشئ موافق لبعضها فنقف عنده، ائتمارا لنبينا (ص): لا اتباعا للشرائع الخالية.
قال أبو محمد: وبهذا نقول، وقد زاد قوم بيانا فقالوا: إلا شريعة إبراهيم (ص).
قال أبو محمد: أما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي هذه الشريعة التي نحن عليها نفسها: والبراهين على ذلك قائمة سنذكرها إن شاء الله تعالى، وإنما الاختلاف الذي ذكرنا في ما كان من شرائع الانبياء عليهم السلام موجودا نصه في القرآن أو عن النبي (ص).
وأما ما ليس في القرآن ولا صح عن النبي (ص) فما نعلم من يطلق إجازة العمل بذلك إلا أن قوما أفتوا بها في بعض مذاهبهم، فمذلك تحريم بعض المالكيين لما وجد في ذبائح اليهود ملتصق الرئة بالجنب، وهذا مما لا نص في القرآن ولا في السنة على أنه حرم على اليهود، نعم ولا هو أيضا متفق عليه عند اليهود، وإنما هو شئ انفردت به الربانية منهم.

(5/722)


وأما العانانية والعيسوية والسامرية فإنهم متفقون على إباحة أكله لهم.
فتحرى هؤلاء القوم - وفقنا الله وإياهم - ألا يأكلوا شيئا من ذبائح اليهود فيه بين أشياخ اليهود لعنهم الله اختلاف، وأشفقوا من مخالفة هلال وشماي شيخي الربانية وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ومن طريف ما وقع لبعضهم في هذا الباب، وسمجه وشنعه الذي ينبغي لاهل العقول أن يستجيروا بالله عز وجل من مثله أن إسماعيل بن إسحاق قال في رجم النبي ص) اليهوديين الزانيين، إنما فعل ذلك (ص) تنفيذا لما في التوراة، ورأى هو من رأيه الفاسد أن يرفع نفسه عن تنفيذ ما فيها من الرجم على اليهود الزناة المحصنين إذا زنوا، فصان نفسه عما وصف به نبيه (ص).
ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول الفاسد، ومن هذا الاعتقاد، فلو كفر جاهل بجهله لكان قائل هذا القول أحق الناس بالكفر لعظيم ما فيه.
واحتج أيضا في ألا يقول الامام آمين إذا قال: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * بأن موسى عليه السلام إذا دعا لم يؤمن وأمن هارون عليهما السلام فسماهما تعالى داعيين بقوله تعالى: * (قد أجيبت دعوتكما) *.
قال أبو محمد: وفي هذا الاحتجاج من الغثاثة والبرد والسقوط والمجاهرة بالقبيح ما فيه، لانه يقال له قبل كل شئ، من أخبرك أن موسى عليه السلام دعا ولم يؤمن ؟ وأن هارون أمن ولم يدع، وهذا شئ إنما قاله بعض المفسرين بغير إسناد إلى النبي (ص)، ومثل هذا لا يؤخذ إلا عن النبي (ص) أو عن كافة تنقل عن مثلها إلى ما هنالك.
فمن فاته هذان الوجهان فقد فاته الحق، ولم يبق بيده إلا المجاهرة بالكذب وأن يقفو ما ليس له به علم، أو أن يروى ذلك عن إبليس الملعون، فإنه قد أدرك لا محالة تلك المشاهد كلها إلا أنه غير ثقة، ثم يقال له: هذا لو صح لك ما ادعيت من أن موسى دعا ولم يؤمن، وأن هارون أمن ولم يدع، فأي شئ في هذا مما يبطل قول النبي (ص) عن الامام: وإذا أمن فأمنوا وقول الراوي: أن النبي (ص) وهو الامام كان يقول إذا فرغ من أم القرآن في الصلاة آمين هذا ولعل موسى قد أمن إذ دعا، ولعل هارون دعا إذ دعا موسى وأمنا، أو أمن أحدهما، أو لم يؤمن واحد منهما، ونص القرآن يوجب أنهما دعوا معا بقوله

(5/723)


تعالى: * (قد أجيبت دعوتكما) * وليس في القرآن دليل على تأمين وقع منهما ولا من أحدهما، فهل سمع بأغث من هذا الاحتجاج أو أسقط منه، أو أقل حيلة أو أبرد تمويها ممن يحتج بمثله في إبطال السنن الثابتة ثم قال له: من عجائب الدنيا أنك جعلت فعل موسى وهارون الذي لم يصح قط ناسخا لقول محمد (ص)
الصحيح في التأمين، وهذا عكس الحقائق.
وقد كنا نعجب من قول شيخ من شيوخهم أدركناه مقدما في مشاورة القضاة له على جميع مفتيهم، فإن ذلك الشيخ قال في كتاب ألفه وقد رأيناه ووقفنا عليه وناولناه بيده، وهو مكتوب كله بخطه، وأقر لنا بتألفه وقرأه غيرنا عليه، فكان في بعض ما أورد فيه أن قال: روينا بأسانيد صحاح إلى التوراة أن السماء والارض بكتا على عمر بن عبد العزيز أربعين سنة.
قال أبو محمد: هذا نص لفظه، فلا أعجب من الشيخ المذكور في أن يروي عن التوراة شيئا من أخبار عمر بن عبد العزيز وهذا إسماعيل يبطل قول النبي (ص): إذا أمن - يعني الامام فأمنوا وتأمينه عليه السلام وهو الامام بما لم يصح من ترك موسى للتأمين وترك هارون للدعاء.
واحتجوا أيضا في إباحة قتل المسلمين وسفك الدماء المحرمة بدعوى المريض أن فلانا قتله، ورسول الله (ص) يقول: لو أعطي قوم بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم فأباحوا ذلك بدعوى المريض.
واحتجوا بما ذكر بعض المفسرين من أن المقتول من بني إسرائيل لما ضرب ببعض البقرة حيي وقال: فلان قتلني.
قال أبو محمد: وهذا ليس في نص القرآن، وإنما فيه ذكر قتل النفس والتدارئ فيها، وذبح البقرة وضربه ببعضها، وكذلك يحيي الله الموتى فمن زاد على ما ذكرنا في تفسير هذه الآية، فقد كذب وادعى ما لا علم لديه، فكيف أن يستبيح بذلك دما حراما ويعطي مدعيا بدعواه، وقد حرم الله تعالى ذلك، فمن أعجب ممن يحتج بخرافات بني إسرائيل التي لم تأت في نص ولا في نقل كافة، ولا في خبر مسند إلى رسول الله (ص) في مثل هذه العظائم هذا مع أن تلك الخرافة ليس

(5/724)


فيها ذكر قسامة أصلا، ولا أنه لا يحلف في القسامة إلا اثنان فصاعدا، فهذه الزوائد من أين خرجت ؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم أتى إلى قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * فقال: لا نأخذ بها ولا نقتل مؤمنا بكافر ولا حرا بعبد، لان هذا من شرائع من كان قبلنا، ونسي أخذه في القسامة بخرافة مروية عن بني إسرائيل، وترك لها فعل النبي (ص) في القسامة، ثم ترك ههنا نص الله تعالى في أنه كتب عليهم أن النفس بالنفس.
وأعلى ما روي في حديث بقرة بني إسرائيل فحديث حدثناه أحمد بن عمر، ثنا عبد الله بن حسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا محمد بن الجهم، ثنا أبو بكر الوراق، نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - وعياش بن الوليد قال علي: ثنا يحيى بن سعيد، وسفيان بن عيينة، قال يحيى: نا ربيعة بن كلثوم، حدثني أبي عن سعيد ابن جبير، أن ابن عباس قال: أهل المدينة من بني إسرائيل وجدوا شيخا قتيلا في أصل مدينتهم، فأقبل أهل مدينة أخرى فقالوا: قتلتم صاحبنا وابن أخ له شاب يبكي، فأتوا موسى عليه السلام، فأوحى الله إليه: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة (* - فذكر حديث البقرة بطوله وفي آخره - فأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ وابن أخيه قائم عند قبره، فذبحوها فضرب ببضعة من لحمها القبر، فقام الشيخ ينفض رأسه ويقول: قتلني ابن أخي، طال عليه عمري وأراد أكل مالي ومات.
وقال سفيان: ثنا ابن سوقة، سمعت عكرمة يقول: كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا، فوجدوا قتيلا قد قتل على باب، فجروه إلى باب آخر، فتحاكموا إلى موسى عليه السلام فقال: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * فذبحوها فضربوه بفخذها فقام فقال: قتلني فلان، وكان رجلا له مال كثير، وكان ابن أخيه قتله، وقال عياش ابن الوليد، نا يزيد بن زريع، نا سعيد، عن قتادة قال: كان قتيل في بني إسرائيل فأوحى الله عز وجل إلى موسى، أن اذبح بقرة فاضربوه ببعضها، فذكر لنا أنهم
ضربوه بفخذها، فأحياه الله عز وجل، فأنبأ بقاتله وتكلم ثم مات.
وذكر لنا أنهم وليه الذي كان يطلب بدمه هو قتله من أجل ميراث كان بينهم، فلا يورث قاتل بعده.
وبه إلى ابن الجهم، ثنا محمد بن مسلمة، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ هشام عن محمد ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا يولد له،

(5/725)


وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله، ثم احتمله ليلا حتى أتى به في آخرين فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم، فأتوا موسى عليه السلام فقال: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) *، فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك ؟ فقال: هذا، لابن أخيه، ثم مال ميتا فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئا، ولم يورث قاتل بعده.
وبه إلى ابن الجهم.
حدثنا محمد الفرج، وإبراهيم بن إسحاق الحربي قال محمد: واللفظ له: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل قتله رجل ثم ذكر معناه.
وقال الحربي: نا حسين بن الاسود، نا عمرو بن محمد، نا أسباط، عن السدي نحوه.
وروينا أيضا نحوه مطريق إسماعيل بن إسحاق، عن عبد الله ابن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قال أبو محمد: وهذه مرسلات وموقوف لو أتت فيما أنزل علينا ما جاز الاحتجاج بها أصلا، فكيف فيما أنزل في غيرنا ؟ وليس في القرآن نص بشئ مما ذكر في هذه الاخبار أكثر من أنهم تدارؤوا في نفس مقتولة منهم، فأمرهم عز وجل أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها: * (كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) * ولم يقل تعالى في القرآن إن الميت قال: فلان قتلني، ولا أنه صدق في ذلك، ولا أنه أقيد به، وكل من زاد على ما في القرآن شيئا بغير نص من الرسول (ص) فقد أتى عظيمة.
وحتى لو صح كل هذا لما كانت فيه حجة
أصلا، لان ذلك كان يكون معجزة، وإحياء ميت، ومن عاد من الآخرة فلا شك في أنه لا يقول إلا الحق، وأما الاحياء فيما بيننا فالكذب غير مأمون عليهم، ودعوى الباطل وهم لا يصدقونه، في درهم يدعيه ولا في درهم يقر به لوارث، ويصدقونه في الدم الذي يوجب قتل عدوه عندهم، أو أخذ ماله في الدية.
ونحن الآن إن شاء الله تعالى نذكر كل ما في القرآن من شرائع النبيين عليهم السلام قبلنا، ونبين ما اتفق على تركه منها، وما اختلف في الاخذ منها، ثم نذكر إن شاء الله تعالى حجج الآخذين بها، والمانعين منها، وبالله تعالى التوفيق.
فمن شرائع سليمان عليه السلام قول الله تعالى: * (وتفقد الطير فقال مالى لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين).

(5/726)


قال أبو محمد: وهذا لا خلاف بيننا في سقوط عقاب الطير وإن أفسدت علينا، ومنها قوله تعالى: * (وداود وسليمان إذ في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان) *.
قال أبو محمد: هذا مما اختلف فيه، فادعى قوم فيها دعاوى من أن سليمان عليه السلام كلف أصحاب الغنم جبر ما أفسدت من الزرع أو الكرم ليلا وهذا باطل لانه ليس ذلك في الآية، ولا صح عن النبي (ص)، وإنما ذكر في بعض التفاسير التي لا تصح، وذلك من نحو ما ذكر فيها أن ملكين زنيا وقتلا النفس التي حرم الله تعالى وشربا الخمر.
وقد نزه الله تعالى الملائكة عن ذلك، وأن الزهرة كانت زانية فمسخت كوكبا مضيئا يهتدى به في البر والبحر، حتى أدت هذه الروايات الفاسدة بعض أهل الالحاد إلى أن قال: لو كان هذا لما بقيت محصنة إلا زنت لتمسخ كوكبا، والتي ذكر فيها أن يوسف عليه السلام قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من امرأته، وقد نزه الله تعالى أنبياءه عن ذلك، وهذا
كثير جدا.
وقد أخبر رسول الله (ص) أن جرح العجماء جبار، ولا ينسند حديث ناقة البراء أصلا وإنما هو منقطع من جميع جهاته.
ومن شريعة زكريا عليه السلام قوله تعالى: * (قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) * وهذا ساقط بما روي عن النبي (ص) من قوله: لاصمت يوما إلى الليل وبالجملة فلم نؤمر بالصمت، ومن صمت عن غير الواجب من الكلام والمستحب من الذكر فقد أحسن.
ومنها قوله تعالى: * () * فاحتج بهذا قوم في الحكم بالقرعة، ثم جعلوا ذلك حكما في المستلحق من الاولاد، وفي المشكوك في طلاقها من النساء وفي غير ذلك، وهذا لا يلزم بل يبطل من وجهين: أحدهما: أن هذا قياس والقياس باطل.
والثاني: أنه غير مأمور به في شريعتنا.

(5/727)


ومن شرائع موسى عليه السلام قوله تعالى: * (اخلع نعليك انك بالوادي المقدس طوى) * ونحن لا نخلع نعالنا في الارض المقدسة.
ومنها قوله تعالى: * (حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) *.
قال أبو محمد: وهذا لا خلاف في أنه منسوخ، وأن الله تعالى قد أحل لهم كل ذلك على لسان محمد (ص) بقوله: * () * وهذه الشحوم من طعامنا، فهن حل لهم، وإن رغمت أنوفهم وأنوف المجتنبين لها اتباعا لدعوى اليهود في تحريم ذلك.
ومنها قوله تعالى: * (والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) *.
قال أبو محمد: أما نحن فلانأخذ بهذا لاننا لم نؤمر به، وإنما أمر به غيرنا،
وإنما أوجبنا القود في كل هذ، وفيما دونه بين المسلمين فيما بينهم، وساوينا في كل ذلك بين الحر والعبد، والذكر والانثى بقوله تعالى مخاطبا لنا: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * وبقوله تعالى مخاطبا لنا، * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * وبقوله تعالى: * () * ويقول رسول الله (ص): المؤمنون تتكافأ دماؤهم فأقدنا في كل ذلك من الحر للحر، والعبد للحرة والامة وأقدنا من العبد للعبد، وللحر وللحرة، وللامة وكذلك من الحرة والامة ولا فرق، وأقدنا لكل من ذكرنا من الكافر، ولم نقد كافرا من مؤمن أصلا لقول الله تعالى: * () * وبقوله (ص): ولا يقتل مؤمن بكافر.
ومنها قوله تعالى: * () * وهذا منسوخ بإجماع.
ومنها قوله تعالى: * () *.
قال أبو محمد: وهذا منسوخ بإجماع.
ومنها الامر بذبح بقرة صفراء فاقع لونها، وهذا لا يلزم في شئ من الاحكام بإجماع.
ومن شريعة لوط عليه السلام: * (كذبت قوم لوط بالنذر) *: (إنا أرسلنا عليهم

(5/728)


حاصبا) ولا يحل في شريعتنا رجم المكذب بالنذر، وقد احتج قوم في رجم من فعل فعل لوط بهذه الآية.
قال أبو علي: ونسوا أن فاعل ذلك من قوم لوط كان كافر، وذلك منصوص في القرآن في الآية نفسها إذ أخبر تعالى أنهم كذبوا بالنذر، وأن صبيانهم ونساءهم رجموا معهم، ولم يكونوا ممن فعل ذلك الفعل، ونسوا أيضا قوله تعالى: * () * فكان يلزمهم إذا طردوا أصلهم
الفاسد أن يسلموا عينهم كل من راود ذكرا عن نفسه، لان الله تعالى طمس أعين قوم لوط إذ راودوا ضيفه، كما رجمهم لما أتوا الذكور وكفروا، فمن فرق بين شئ من ذلك فقد تحكم في دين الله عز وجل بلا برهان ولا هدى من الله تعالى.
ومن شريعة يوسف عليه السلام: * (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قدمن دبر فكذبت وهو من الصادقين) *.
قال أبو محمد: وهذا مما لا خلاف فيه أنه لا يجوز أن نحكم به الآن بين الناس تداعيهم الزنى.
ومنها: * () *.
قال أبو محمد: فاحتج قوم بهذا في إثبات الجعل، وهذا لا يلزم، لان قول رسول الله (ص): أموالكم عليكم حرام مبطل للجعل، إلا أن يوجبه نص في شريعتنا أو تطيب به نفس الجاعل.
ومنها قوله تعالى: * () *.
قال أبو محمد: وهذا لا خلاف بيننا وبين خصومنا في أنه لا يحكم به بيننا، وأنه لا يسترق السارق لاجل سرقته، وكان يلزمهم القول به لانه ليس مجمعا على تركه، بل قد روينا عن زرارة بن أوفى القاضي أنه باع حرا في دين، وروينا أيضا عن الشافعي من طريق غريبة، وقد كان ذلك في صدر الاسلام ثم نسخ بقوله تعالى: * () *.
ومن شريعة أيوب عليه السلام: * () * فاحتج بهذا قوم في إباحة جلد الزاني والقاذف والشارب إذا كانوا مرضى، يعرجون

(5/729)


فيه مائة أو ثمانون أو أربعون شمراخا، وفي بر يمين من حلف ليجلدن غلامه
كذا وكذا جلدة.
قال أبو محمد: والذين احتجوا بدعواهم في كلام الميت في أمر بقرة بني إسرائيل أن فلانا قتلني، يأبون ههنا من أن يبرأ الحالف إذا ضرب بضغث، ويكفي هذا من قبيح التناقض وفاحشة، ونحن وإن كنا نرى الجلد بالضغث للمريض فإنما نجيزه من غير هذه الآية، لكن من الحديث المأثور عن رسول الله (ص) أنه أمر أن يجلد المريض الذي زنى بعثكول فيه مائة شمراخ، ونرى البر يقع بما يقع عليه اسم جلد واسم ضرب.
ومن شريعة موسى وصهره عليهما السلام: * (اني اريد ان انكحك احدى ابنتي هاتين على ان تأجرني ثماني حجج فان اتممت عشرا فمن عندك وما اريد ان اشق عليك ستجدني ان شاء الله من الصالحين.
قال ذلك بيني وبينك ايما الاجلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل) *.
قال أبو محمد: وبهذا يحتج من يبيح النكاح على إجار إلى أحد أجلين لم يوقت أحدهما بعينه، وهذا عندنا وعند خصومنا لا يجوز، لان الاجارة المجهولة الاجل فاسدة، لانها أكل مال بالباطل، والنكاح على شئ فاسد، لان كل ما لا يصح إلا بصحة ما لا يصح فلا شك في أنه لا يصح، لا سيما وتلك الاجارة للمنكح لا حظ فيها للمنكحة، والصداق في ديننا إنما هو للمنكحة بنص قول الله تعالى: * () * ولا حظ فيها للاب ولا للولي.
ومن عجائب الدنيا ما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، ثنا وهب بن مسرة، ثنا ابن وضاح، ثنا سحنون، ثنا ابن القاسم قال: احتج مالك في جواز فعل الرجل بإنكاح ابنته البكر بغير رضاها بقول الله تعالى عن صهر موسى: * (اني اريد ان انكحك احدى ابنتي هاتين على ان تأجرني ثماني حجج فام اتممت عشرا فمن عندك) *.
قال علي: فأي عجب أعجب من احتجاجه بهذه الآية فيما لا يوجد في الآية
أصلا، وفي الممكن أنها رضيت فلم يذكر، ثم يخالف الآية نفسها في أربعة مواضع: أحدهما: إنكاح إحدى ابنتي بغير عينها.
والثاني: إنكاحه بإجارة.
الثالث: الاجارة إلى أحد أجلين أيهما أوفى فالنكاح ثابت.
والرابع: إنكاح امرأة بخدمة أبيها.

(5/730)


ثم بعد هذا كله: من له بأنها كانت بكرا ؟ ولعلها ثيب، أليس في هذا الاحتجاج عبرة لمن اعتبر، ولعلها بكر عانس وهو لا يرى إنكاح هذه إلا بإذنها ورضاها، فكيف والاحتجاج بالآية لا يصح لما قدمنا من أن شرائع الانبياء عليهم السلام لا تلزمنا، ومن شرائع الخضر عليه السلام قوله تعالى: * () * ثم قال: * () *.
قال أبو محمد: ولا خلاف في شريعتنا أنه لا يحل قتل غلام خوف أن يرهقهما طغيانا وكفرا، ومن شريعة نوح عليه السلام: * (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا) *.
قال أبو محمد: فأخذ بهذا الازارقة واستباحوا قتل الاطفال وغاب عنهم أن قول نوح عليه السلام إنما كان فيمن كان في عصره من الكفار فقط، الذين أهلكهم الله تعالى، ولم يبق لهم نسلا بقوله تعالى: * () * وبقوله تعالى (ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا) * ولم يحمل نوح مع نفسه عليه السلام إلا المؤمنين فقط من قومه وولده، وغاب عنهم بجهلهم أن رسول الله (ص) سيد ولد آدم هو ولد كافر وكافرة، وأن عمر كذلك، وقد قال عليه السلام: أو ليس خياركم أولاد المشركين، ونحن نترك الكفار ولا نقتلهم، بل نأخذ منهم الجزية، وننكح إليهم ونعاملهم، ونأكل ذبائحهم، ولا نستحل قتل طفل من أطفال أهل الحرب عمدا، بل يهديهم الله بنا، ولا يضلوننا والحمد لله رب العالمين، وقد نقل كافة بني إسرائيل أن موسى عليه السلام قتل صبيان أهل مدين، وقتل يوشع
صبيان أهل أريحا الاطفال بأمر الله تعالى بذلك، وهذا في شريعتنا غير جائز.
ومن شريعة يونس عليه السلام قوله تعالى: * (إذ ابق الى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين) *.
قال أبو محمد: فاحتج بهذا قوم في الحكم بالقرعة وقد مضى الكلام في ذلك ولا خلاف بين أحد منا أنه لا يجوز أن يلقى أحد في البحر بالقرعة.
ومن شريعة مريم عليها السلام: * (اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم انسيا) * وليس هذا من شرط الصوم عندنا.

(5/731)


ومن شرائع الله تعالى في بني إسرائيل قوله تعالى: * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * ونحن نعتدي كثيرا فلا نمسخ ولله الحمد.
ومن شريعة أهل زمان زكريا عليه السلام قول أم مريم: * (اني نذرت لك ما في بطني محررا) *.
قال أبو محمد: وهذا غير جائز عندنا أصلا.
ومن شريعة يعقوب عليه السلام: * (كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة) *.
قال أبو محمد: وهذا لا يحل عندنا، وليس لاحد أن يحرم على نفسه ما لم يحرم الله عز وجل عليه إلا أن طوائف من علمائنا اختلفوا في تحريم الزوجة والامة فقال به قوم: ومنع منه آخرون وبالمنع منه نقول ولا يحل لاحد أن يحرم زوجة ولا غيرها، ولا تكون بذلك حراما، ولا طلاقا ولا كفارة في ذلك وهي حلال له كما كانت وكذلك سائر ماله.
ومن شرائع بني إسرائيل: * () *.
قال أبو محمد: وهذا لا يلزمنا.
ومن شريعة آدم عليه السلام: قوله: * (واتل عليهم نبا ابني ادم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الاخر) *.
قال أبو محمد: ولا خلاف في أنه لا يجوز عندنا التحاكم بالقرابين، ولا يحل عندنا الاستسلام للقتل ظلما، بل المقتول دون نفسه شهيد.
ومن شريعة الكتابيين في زمان أصحاب الكهف: * (قال الذين علبوا على امرهم لنتخذن عليهم مسجدا) *.
قال أبو محمد: وهذ حرام في شريعتنا.
وقد قال عليه السلام: إن أولئك كانوا مات فيهم رجل صالح بنوا على قبره مسجدا أولئك شرار الخلق.
قال أبو محمد: فهذه شرائع يلزم من قال باتباع شرائع الانبياء عليهم السلام أن يقول بها، وإلا فقد نقضوا أصلهم.
واحتج الموجبون للاخذ بشرائع الانبياء عليهم السلام بقوله تعالى: * (وليحكم اهل النجيل بما انزل الله فيه ومن لم يحكم بما انزل الله فالئك هم الفاسقون) *.

(5/732)


قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن هذا منسوخ، وأن من حكم بحكم الانجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الاسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الاسلام.
واحتجوا بقوله تعالى: * (انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) *.
قال أبو محمد: وهذا إنما عني الله تعالى به أنبياء بني إسرائيل لا محمدا عليه السلام لانه تعالى يقول: * (ومن يبتغ غير السلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين) * وبيان ذلك قوله تعالى: * (يحكم بها النبيون
الذين اسلموا للذين هادوا) * ونحن ليس لنا نبيون إنما لنا نبي واحد والانبياء كلهم مسلمون وقد حكى الله تعالى عن أنبياء سالفين أنهم قالوا أمرنا بأن نكون من المسلمين.
وأيضا فقد قال تعالى حاكيا عن أهل الكتاب أنهم قالوا لنا: * (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة ابراهيم حنيفا) * فصح أن الله تعالى نهى عن دين اليهود والنصارى، وأمرنا بدين إبراهيم عليه السلام، وقال تعالى: * (لم تحاجون في ابراهيم وما انزلت التوراة والانجيل الا من بعده) * فصح يقينا أن إبراهيم كانت شريعته قبل التوراة، وأن شريعته لازمة لنا فمن المحال الممتنع أن نؤمر باتباع شئ نزل بعد شريعتنا، وهذا متناقض فبطل تأويل من ظن الخطأ في قوله تعالى: * (يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا) * وصح أنهم أنبياء بني إسرائيل فقط.
فإن قالوا: لا خلاف بين التوراة وبين شريعة إبراهيم عليه السلام، ولا بين شريعتنا، واحتجوا بما حدثناه عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب ابن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا محمد بن رافع، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) أنه قال: الانبياء إخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد قلنا لهم: هذا حجة عليكم لا لكم، إن تأولتم فيه اتفاق أحكام شرائعهم أكذبهم القرآن في قوله تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * وأكذبهم قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: * (ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * وأكذبهم أمر السبت، وتحريم كل ذي ظفر وما حرم إسرائيل على نفسه، ولكن معنى قوله (ص): ودينهم واحد

(5/733)


إنما يعني التوحيد الذي لم يختلفوا فيه أصلا.
واحتجوا بقوله تعالى: * (فبهداهم اقتده) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان الذي أمرنا أن نقتدي بهم فيه هو ما اتفقت فيه شريعتنا وشريعتهم مثل قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاق بني
إسرائيل لا تعبدون إلا الله فأما باقي الآية في قوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * فلم نأخذه من هذه الآية، لكن من أمر الله تعالى لنا بذلك في آية أخرى.
ومثل قوله عز وجل: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) *.
فنص تعالى على أنهم كلهم أمروا ألا يتفرقوا في الدين، وهذا هو نفس إخباره عليه السلام أن دين الانبياء عليهم السلام واحد، وقد نص الله تعالى على أنه أمر بعضهم بترك العمل في السبت، ولم يأمرنا نحن بذلك، وأحل الخمر مدة وحرمها بعد ذلك، فصح يقينا أن الذي نهوا عن التفرق فيه.
وأن الذي شرع لجميعهم من الدين الواحد إنما هو التوحيد، وأن الذي فرق فيه بينهم هي الشرائع والاعمال الواجبات والمحرمات وهذا هو نفس قولنا.
وقد قال تعالى: * (ولو شآء الله لجمعهم على الهدى) * وقال: * (ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) * قال تعالى: * (ولكل وجهة هو موليها) * فصح بالنص أنه تعالى فرق بين الشرائع، وبين منهاج كل واحد منهم، وبين وجهة كل واحد منهم، وقد قال تعالى: * (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم) *.
فصح أن الله تعالى لا يتناقض كلامه، وصح أن الذي أمرنا أن نتبع فيه سننهم هو غير الشرائع التي فرق بيننا وبينهم فيها، فصح أنه التوحيد الذي سوى فيه بينهم كلهم في التزامه، فصح أنه هو الهدى الذي أمر (ص) بأن يقتدي بهم، ويبين ذلك أيضا قوله تعالى حاكيا عن رسوله يوسف عليه السلام أنه قال: * (واتبعت ملة آبآئي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ أن نشرك بالله من شئ) *.
قال أبو محمد: فبين نصا أنهم اتفقوا في التوحيد خاصة، وإلا فقد نص تعالى
على أن إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام حرم على نفسه أشياء كانت له حلالا،

(5/734)


وليس هذا في شريعة إبراهيم عليه السلام، فصح يقينا أنه كان مباحا لاسرائيل أن يحرم على نفسه بعض الطعام.
وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا نفسها على ما نبين في آخر هذا الباب إن شاء الله عز وجل، وليس في شريعتنا أن يحرم أحد على نفسه طعاما أحله الله له، وقد جمع يعقوب بين الاختين.
وهذا لا يحل في شريعتنا التي هي شريعة إبراهيم، فلما سوى يوسف عليه السلام بين ملة إبراهيم ويعقوب وشرائعهما مفترقة علمنا أن ذلك في التوحيد وحده لا فيما سواه.
فاعترض بعض خصومنا بأن قال: إذا حملتم قوله تعالى على أن ذلك في التوحيد وحده لا فيما سواه عريتم الآية من الفائدة.
التوحيد مأخوذ بالعقل.
قال أبو محمد: هذا من أغث احتجاج يورده مشغب، ويلزم من قال بهذا أن يحذف من القرآن كل آية مكررة، مثل: * (وغيرها.
والتوحيد عرف بالعقل ضرورة، ولكن ما يجب الاقراء به فرضا، ولا صح الوعيد على جاحده بالقتل والنار في الآخرة بالعقل، وإنما وجب ذلك كله بإنذار الرسل فقط.
فالآية المذكورة أوجبت اعتقاد التوحيد، وأوجبت الاقرار به، ولم يجب ذلك قط بالعقل، لان العقل لا يشرع ولا يخبر بمن يعذب الله تعالى في الآخرة، ولا بمن ينعم، وإنما العقل مميز بين الممتنع والواجب، والممكن ومميز بين الاشياء الموجودات وبين الحق الموجود المعقول والباطل المعدوم المعقول فهذا ما في العقل ولا مزيد.
وقال بعضهم: نحمل قوله تعالى: * (فبهداهم اقتده) * على ما لم يأتنا فيه نص أنه نسخ من شرائعهم، ونحمل قوله: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *
على ما نسخ من شرائعهم.
قال أبو محمد: هذا تأويل منهم مجرد من الدليل، وما تجرد عن الدليل فهو دعوى ساقطة.
وقد بينا الدلائل على أن الذي أمرنا بالاقتداء بهم فيه إنما هو التوحيد وحده فقط.
واحتجوا بقول الله تعالى: * (فاحكم بينهم بمآ أنزل الله) *.
قال أبو محمد: وقد بين الله تعالى في آية أخرى غير هذه الآية بقوله تعالى: * (وأنزلنا

(5/735)


إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *.
* (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه) *.
واحتجوا بقول رسول الله (ص) في أمر ثنية الربيع أو الجرح الذي جرحت على حسب اختلاف الروايات في ذلك كتاب الله القصاص.
قال أبو محمد: إنما عنى رسول الله (ص) قوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * وهذا الذي خوطبنا به نحن هو اللازم لنا ولم يأت نص عن أنه عليه السلام عنى غير هذه الآية أصلا.
فإن قال قائل: فلعله عليه السلام إنما عنى بذلك قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية وما علمكم بأنه عنى عليه السلام الآية التي تلوتم دون هذه ؟.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن البرهان على أنه (ص) لم يعن بقوله: كتاب الله القصاص قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * أنه ليس في سورة التوراة قبول أرش، وإنما الارش في حكم الاسلام، وفي الحديث المذكور أنهم قبلوا الارش، فصح أنه (ص) لم يعن قوله تعالى: * (وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس) *.
واحتجوا بقوله (ص) إذا رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء: نحن أولى بموسى منهم.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانه (ص) قد أمر بصيامه، ولولا أن الله تعالى أمره بصيامه ما اتبع اليهود في ذلك، وقد صح أنه كان يوما تصومه قريش في الجاهلية فصامه (ص) تبررا.
واحتجوا أيضا بأن قالوا: لما كانت شريعة الانبياء عليهم السلام حقا وجب اتباع الحق حتى يأتي ما ينقلنا عنه.
قال أبو محمد: والجواب وبالله تعالى التوفيق: إن تلك الشرائع وإن كانت حقا على الذين خوطبوا بها فلم تكتب قط علينا، ولي س ما كان حقا على واحد كان حقا على غيره، إلا أن يوجبه الله تعالى عليه، وإنما كتب

(5/736)


علينا الاقرار بالانبياء السالفين، وبأنهم بعثوا إلى قومهم بالحق لا إلى كل أحد ولم يكتب علينا العمل بشرائعهم.
واحتجوا بدعائه (ص) بالتوراة يوم رجم اليهوديين، وأنه عليه السلام سألهم: ما تجدون في التوراة ؟ فلما أخبروه بالرجم وأنهم تركوه قال عليه السلام: أنا أول من أحيا أمر الله تعالى.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو تأويل سوء ممن تأوله، لانه عليه السلام بلا شك في شريعته المنزلة عليه قد أمر برجم من أحصن من الزناة، وإنما دعا (ص) بالتوراة حسما لشغب اليهود، وتبكيتا لهم في تركهم العمل بما أمروا به، وإعلاما لهم بأنهم خالفوا كتابهم الذي يقرون أنه أنزل عليهم.
ومن قال: إنه (ص) رجم اليهوديين اتباعا للتوراة، لا لامر الله تعالى له
برجم كل من أحصن من الزناة في شريعته المنزلة عليه، فقد كفر وفارق الاسلام وحل دمه، لانه ينسب إلى النبي (ص) عصيان ربه فيما أمره به في شريعته المنزلة عليه، إذ تركها واتبع ما أنزل في التوراة.
وقد أخبر تعالى أن اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه، فمن الكفر العظيم أن يقول من يدعي أنه مسلم: إن النبي (ص) حكم بكتاب قد أخبر أنه محرف.
ووالله إن العجب ليعظم ممن ينسب إلى رسول الله (ص) الحكم بما في التوراة في رجم يهوديين زنيا، وهو يرفع نفسه الخسيسة عن هذا، فيقول: إن قدم إلي يهوديان زنيا لم أقم عليهما الحد، ورددتهما إلى أهل دينهما، فهو يترفع عما يصف به نبيه ص)، نبرأ إلى الله تعالى من نصر كل مذهب يؤدي إلى مثل هذه البوائق والكبائر، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
واحتجوا بما روي: أنه (ص) سدل ناصيته كما يفعل أهل الكتاب، ثم فرقها بعده، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شئ.
قال أبو محمد: وهذا الحديث من أقوى الحجج عليهم، لانه نص فيه على أنه (ص) إنما كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شئ، فصح أنه عليه السلام إنما كان يفعل ذلك في المباح له فعله، وتركه مما لم ينه عنه ولا

(5/737)


أمر به، وهذا غير ما نحن فيه، وإنما كلامنا في وجوب شرائعهم ما لم ننه عنها وفي سقوطها حتى نؤمر بها، وأما الزي المباح وفرق الشعر وسدله فكل ذلك مباح حتى الآن فعله وتركه.
هذا كل ما احتجوا به قد أبطلنا شغبهم فيه وبالله تعالى التوفيق.
ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون البراهين المبينة قولنا المبطلة قولهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد ابن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ويحيى بن يحيى واللفظ له قال أبو بكر: نا هشيم، ثنا سيار، ثنا يزيد الفقير، ثنا جابر وقال يحيى، أنا هشيم، عن سيار، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله الانصاري أن رسول الله (ص) قال: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وذكر باقي الحديث.
وبه إلى مسلم، ثنا قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر قالا: ثنا إسماعيل - وهو ابن جعفر - عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص) قال: فضلت على الانبياء بست فذكرهن، وفيها أرسلت إلى الخلق كافة.
قال أبو محمد: هذا الحديث يكفي من كل شغب موه به المبطلون، ويبين أن كل نبي قبل نبينا (ص) إنما بعث إلى قومه خاصة، وإذا كان ذلك صح بيقين أن غير قومه لم يلزموا بشريعة نبي غير نبيهم، فصح بهذا يقينا أنه لم يبعث إلينا أحد من الانبياء غير محمد (ص).
وإذ قد صح ذلك فقد قال تعالى: * (وإلى ثمود أخاهم صالحا) * * (وإلى عاد أخاهم هودا) * * (وإلى مدين أخاهم شعيبا) * وقال تعالى في نبينا (ص): * (وما أرسلناك إلا كآفة للناس) *، وقال تعالى آمرا له أن يقول: * (إني رسول الله إليكم جميعا) * مخاطبا للناس كلهم، وأمره تعالى أن يدعو الانس والجن إلى الايمان، وقال تعالى: * (لتنذر قوما مآ أنذر آبآؤهم فهم غافلون) * فصح أنهم لم يكونوا ملزمين شريعة أحد من الانبياء، وقال تعالى: * (أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) *.

(5/738)


فعلمنا أن الشرائع التي بعث بها موسى عليه السلام لم تلزم غير بني إسرائيل
حاشا التوحيد وحده على ما بينا قبل، وعلى ما بينه تعالى إذ يقول: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *، * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل مآ آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق) *.
قال أبو محمد: فصح بهذه الآية أيضا أن الذي تساوى فيه كل من ذكر الله من النبيين هو اللازم لنا وليس ذلك إلا التوحيد وحده، وإلا فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أن شرائعهم كانت مختلفة فسقط عنا بذلك جميع شرائعهم إلا الذي سوى بينهم فيه وهو التوحيد فقط.
ومن ألزمنا شرائع الانبياء قبلنا، فقد أبطل فضيلة النبي (ص) وأكذبه في إخباره أنه لم يبعث نبي إلا إلى قومه خاصة حاشا، لان خصومنا يريدون منا اتباع شرائع من قبلنا فيوجبون بذلك أنهم مبعوثون إلينا، وهذا الباطل والكذب.
ويبين هذا أيضا قوله تعالى: * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) * وهذه صفة فعل الله تعالى الذي لم يزل حكمه موصوفا بها في خلقه في علمه وقال تعالى: * (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ئ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) *.
قال أبو محمد: هذه كافية في هذا الباب لانه تعالى ما سوى بينهم فيه وهو عبادة الله تعالى وحده والاقرار بأنه الاله وحده ثم أخبرنا تعالى أنه لا يسألنا عما كان أولئك الانبياء يعملون، وإذا لم نسأل عن عملهم فقد تيقن كل ذي حس سليم أن ما لا نسأل عنه، فإنه غير لازم لنا، ولو كان لنا لازما لسئلنا عنه.
فصح بهذا كله ما ذكرنا وهي براهين ضرورية لا محيد عنها وأعمالهم هي شرائعهم التي بعثوا بها فقد سقط عنا بالنص طلبها، وإذ سقط عنا طلبها فقد سقط عنا حكمها، إذ لا سبيل إلى التزام حكم شئ إلا بعد معرفته، ولا سبيل إلى معرفته إلا بعد طلبه، وبالله تعالى التوفيق.

(5/739)


وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا هذه بعينها، ولسنا نقول: إن إبراهيم بعث إلى الناس كافة، وإنما نقول: إن الله تعالى بعث محمدا (ص) إلى الناس كافة بالشريعة التي بعث تعالى بها إبراهيم عليه السلام إلى قومه خاصة دون سائر أهل عصره، وإنما لزمتنا ملة إبراهيم، لان محمدا (ص) بعث بها إلينا، لا لان إبراهيم عليه السلام بعث بها قال تعالى: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * وقال تعالى: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *.
قال أبو محمد: فانبلجت المسألة والحمد لله رب العالمين.
ونسخ الله تعالى عنا بعض شريعة إبراهيم كما نسخ أيضا عنا بعض ما كان يلزمنا من شريعة محمد (ص).
فمن ذلك ذبح الاولاد نسخ عنه عليه السلام كما نسخ عنا أيضا بقوله تعالى: * (ولا تقتلوا اولادكم) * وبقوله تعالى: * (وإذا الموءودة سئلت ئ بأى ذنب قتلت) * وبقوله تعالى: * (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) * ونسخ الاستغفار للمشركين بقوله تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه) * وبقوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * وقد وعد النبي (ص) عمه أبا طالب بالاستغفار، كما وعد إبراهيم عليه السلام أباه بالاستغفار حتى نهى الله تعالى كليهما عن ذلك.
وأما قول إبراهيم عليه السلام لقومه إذ رأى الكوكب * (هذا ربي) * فإنما
كان تقريرا لهم تبكيتا لا استدلالا ومعاذ الله أن يقول إبراهيم بالعبودية لاحد دون الله تعالى، ومن كان مثل إبراهيم سبقت له من الله تعالى سابقة علم في انتخابه للرساله والخلة لا يستدل بكبر الشمس على ربوبيتها وهو يرى الفلك أكبر منها، فصح أن ذلك توبيخ لهم على فساد استدلالهم في عبادتهم للنجوم، وأن هذا إنما هو كما قال: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * أي عند نفسك في الدنيا وعند قومك المغرورين وإلا فهو في تلك الحال الدليل المهان وقال قوم متكلفون

(5/740)


متنطعون: ماذا كانت شريعة النبي (ص) قبل أن ينبأ ؟.
قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: أن يقال لهم في نفس سؤالكم جوابكم وهو قولكم أن ينبأ وأن لم يكن نبيا، فلم يكن مكلفا شيئا من الشرائع التي لم يؤمر بها ومن الهذيان أن يكون مأمورا بما لم يؤمر به، فصح أنه لم يكن ألزم شيئا من الشريعة حاشا التوحيد اللازم لقومه من عهد إبراهيم عليه السلام لولده ونسله حتى غيره عمرو ابن لحي، وحاشا ما صانه الله تعالى عنه من الزنى، وكشف العورة والكذب والظلم، وسائر الفواحش والرذائل التي سبق في علم الله تعالى أنه سيحرمها عليه وعلى الناس، لا إله إلا هو.
وقد قال قوم: إن نوحا بعث إلى أهل الارض كلهم.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لانه تكذيب لقوله (ص): إن كل نبي حاشاه إنما بعث إلى قومه خاصة فصح أن نوحا عليه السلام كذلك ولا فرق وإنما غرق تعالى من غرق من غير قومه كما غرق الاطفال حينئذ وسائر الحيوان، ويفعل ربنا تعالى ما شاء لا معقب لحكمه، وقد قيل للنبي (ص): أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: نعم إذا كثر الخبث وذكر (ص) جيشا يخسف بهم فقيل له: يارسول الله (ص) وفيهم المكره وغيره ؟.
فأخبر (ص) أنهم وإن عمهم
العذاب في الدنيا فكل أحد يبعث على نيته يوم القيامة أو كلاما هذا معناه، فليس في إهلاك الله تعالى من أهلك بالطوفان دليل على أن جميعهم بعث إليهم نوح، بل نص القرآن مثبت أن نوحا عليه السلام لم يبعث إلى غير قومه البتة بقو له تعالى: * (إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه) * فمن ادعى أن قومه كانوا جميع أهل الارض فقد كذب وقفا ما ليس له به علم.
وقد حرم ذلك بقوله: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * ولا في النص أيضا أن جميع أهل الارض هلكوا بالطوفان لا في القرآن ولا في الحديث الصحيح والله أعلم، ولا علم لنا إلا ما علمنا، والكذب، والقول بغير علم يستسهله فاضل، نعوذ بالله من الخذلان.
فإن تعلق متعلق بما حدثناه، عن عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا أبو إسحاق المستملي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا إسحاق بن نضر، ثنا محمد بن عبيد، ثنا أبو حيان

(5/741)


عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كنا مع النبي (ص) في دعوة فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة وقال: أنا سيد الناس يوم القيامة ثم ذكر عليه السلام صفة القيامة، وفيه أن الناس يأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الارض وذكر باقي الحديث، قيل له وبالله تعالى التوفيق.
ليس لك في هذا حجة لانه لم يقل إلى جميع أهل الارض، وبعض أهل الارض يقع عليه اسم أهل الارض، وما كنا لنستجيز تخصيص هذا العموم لولا ما ذكرنا قبل من رواية جابر وأبي هريرة وشهادتهما على رسول الله (ص) بأن كل نبي قبله إنما بعث إلى قومه خاصة حاشاه عليه السلام، فإنه بعث إلى الناس كافة، وفضل على جميع الانبياء بذلك.
وقد قال قوم: إن آدم عليه السلام بعث إلى ولده، وهم أهل الارض قاطبة في وقتهم بلا شك.
قال أبو محمد: وهذا شغب لا يصح، لان الحديث الذي ذكرنا آنفا يبطل هذه الدعوى، وقد أخبر عليه السلام في هذا الحديث أن نوحا أول من بعث إلى أهل الارض، وقد روى أن شيثا كان نبيا، وإذا كان ذلك فليس آدم مبعوثا إليه.
فإن قال قائل: ومن أين استجزت الاحتجاج في دفع بعث آدم إلى أهل الارض بنبوة شيث، ولم يأت في نص صحيح ولا في إجماع، وأنت تنكر مثل هذا على غيرك.
قال أبو محمد: فنقول له وبالله تعالى التوفيق: وإنما قلنا ذلك لانه قد صح عندنا بيقين أنه لم يبعث قطنبي إلى جميع الناس حاشا محمدا (ص)، فمن قال: إن آدم ونوحا أو غيرهما بعث إلى جميع الناس في زمانه فهو كاذب بلا شك، مخالف لمحمد (ص) مبطل لفضيلته، فلما صح ذلك عندنا علمنا أن آدم لا يخلو من أحد وجهين ضرورة لا ثالث لهما: إما أن يكون معه نبي آخر لم يبعث آدم إليه، أو يكون ولده لم يلزموا شريعة أبيهم آدم، وقد ينبأ المرء في مهده كما نبئ عيسى عليه السلام، فلعله قد ولد لآدم ولد نبئ في حين خروجه إلى الدنيا.
فلا يكون آدم مبعوثا إليه والله أعلم، إلا أن اليقين الذي لا شك فيه أن آدم لم يبعث إلى جميع ناس عصره، ولا ناس هنالك إلا هو وامرأته حواء وولده فقط، وبالله تعالى التوفيق.

(5/742)


وأما قوله (ص) في الحديث الذي ذكرنا آنفا: إن نوحا أول الرسل إلى أهل الارض ولا شك في ان آدم رسول الله عز وجل، فإن معناه عندنا والله أعلم أن رسالة آدم عليه السلام إنما كانت لاهل السماء قائلا لهم عن الله عز وجل: * (أنبئوني بأسمآء هؤلاء) * ومنبئا لهم بأسمائهم، ومسلما عليهم على ما جاء في القرآن والحديث الصحيح، وإنه لم يبعث إلى أهل الارض أصلا، وأن

(5/743)


وأما قوله (ص) في الحديث الذي ذكرنا آنفا: إن نوحا أول الرسل إلى أهل الارض ولا شك في ان آدم رسول الله عز وجل، فإن معناه عندنا والله أعلم أن رسالة آدم عليه السلام إنما كانت لاهل السماء قائلا لهم عن الله عز وجل: * (أنبئوني بأسمآء هؤلاء) * ومنبئا لهم بأسمائهم، ومسلما عليهم على ما جاء في القرآن والحديث الصحيح، وإنه لم يبعث إلى أهل الارض أصلا، وأن أولاده وامرأته أوحي إليهم التوحيد، ثم بعث إلى كل طائفة نبي منها، ثم بعث نوح إلى قومه خاصة بشريعة، كما أخبر رسول الله (ص) وأرسل إلى أهل الارض بالعذاب العام لهم ولجميع الحيوان بلا شك، لا شريعة ألزموها فهذا موافق لما صح في القرآن من خبره عليه السلام.
وكل ما أرسله تعالى فبلا شك أنه إنما أرسله بأمر ما، هذا ما لا بد منه، فوجب أن يعرف بماذا أرسل إلى أهل الارض ؟ فلم نجده إلا العذاب العام لكل من في الارض، ووجدنا النص قد جاء بإرساله إلى قومه خاصة بشريعته فصح الامر ولله الحمد.
وبهذا تتألف الاحاديث كلها والقرآن، وقد روينا في هذا الحديث تأويلا آخر: عن قتادة والحكم، وهو ما حدثناه أحمد بن عمر العذري، ثنا أبو ذر ابن احمد السرخسي، قال: ثنا إبراهيم بن خزيم قال: ثنا عبد بن حميد، قال: حدثني يونس، عن شيبان، عن قتادة قال: بعث نوح حين بعث الشريعة بتحليل الحلال وتحريم الحرام، وبه إلى عبد قال: حدثنا أبو نعيم، ثنا ابن أبي غنية، عن الحكم قال: جاء نوح بالشريعة بتحريم الاخوات والامهات والبنات.
قال أبو محمد: فتأول هذان الامامان أن نوحا أول من بعث بالتحريم والتحليل والذي يظهر إلينا، فالذي قدمنا أولا، والله أعلم.

(5/743)