الإحكام في أصول الأحكام ط العاصمة

الاحكام - ابن حزم ج 7
الاحكام
ابن حزم ج 7

(7/)


الجزء السابع بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب قال أبو محمد: هذا مكان عظيم فيه خطأ كثير من الناس وفحش جدا، واضطربوا فيه اضطرابا شديدا، وذلك أن طائفة قالت: إذا ورد نص من الله تعالى أو من رسوله (ص) معلقا بصفة ما أو بزمان ما أو بعدد ما، فإن ما عدا تلك الصفة، وما عدا ذلك الزمان.
وما عدا ذلك العدد، فواجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص، وتعليق الحكم بالاحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها، وقالت طائفة أخرى، وهم جمهور أصحاب الظاهريين وطوائف من الشافعيين منهم أبو العباس بن سريج وطوائف من المالكيين، إن الخطاب إذا ورد كما ذكرنا لم يدل على أن ما عداه بخلافه، بل كان موقوفا على دليل.
قال أبو محمد: هذا القول هو الذي لا يجوز غيره، وتمام ذلك في قول أصحابنا الظاهريين، أن كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها، ولا تعطيك حكما في غيرها، لا أن ما عداها موافق لها، ولا أنه مخالف لها، لكن كل ما عداها موقوف على دليله.
وتحير في هذا بعض أصحاب القياس من الحنفيين والشافعيين والمالكيين، كأبي الحسين القطان الشافعي، وأبي الفرج القاضي المالكي، لما رأوا عظيم تناقضهم في هذا الباب فقالوا: دليل الخطاب على مراتب، فمنه ما يفهم منه أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها فحكمها كحكم هذه التي خوطبنا.
ومنه ما لا يفهم منه أن ما عدا القضية التي
خوطبنا بها فحكمها بخلاف حكم هذه التي خوطبنا.
ومنه ما لا يفهم أن ما عدا

(7/887)


القضية التي خوطبنا بها موافق لحكم هذه التي خوطبنا بها ولا مخالف.
ومثلوا القسم الاول بقوله تعالى: * (ولا تقل لهمآ أف) * قالوا: ففهمنا أن غير * (أف) * بمنزلة إف وبآيات كثيرة سنذكرها في باب القياس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، لان ذلك المكان أمكن بذكرها.
ومثلوا القسم الثاني بأمثلة اضطربوا فيها، فقال الشافعيون والحنفيون: من ذلك قول رسول الله (ص): في سائمة الغنم في كل أربعين شاة شاة قالوا: فدل ذلك على أن ما عدا السائمة لا زكاة فيها وأنها ليست بمنزلة السائمة وأدخل المالكيون هذا الحديث في القسم الاول وقالوا: بل مادل إلا أن غير السائمة بمنزلة السائمة، وقال الالوان: هذا بمنزلة من قال إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما فيعلم أن هذا شرط فيه، وإنه إن دخل أعطى درهما وإن لم يدخل لم يعط شيئا.
ومثل المالكيون هذا القسم الآخر بقوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) * قالوا: فدل ذكر الركوب والزينة على أن ما عداهما ممنوع كالاكل ونحوه.
قال أبو محمد: فأما هؤلاء المتحيرون الذين ذكرنا آخرا، يعني الذين قالوا: إن الخطاب قد يدل في مواضع على أن ما عداه بخلافه، ويدل في مواضع أخر على أن ما عداه ليس بخلافه، فإنهم لعبوا في هذا المكان بالخطاب كما يلعب بالمخراق، فمرة حكموا لغير المنصوص بأن المنصوص يدل على أن حكمه كحكمه، ومرة حكموا بأن المنصوص يدل على أن حكمه ليس كحكمه، فليت شعري كيف يمكن أن يكون خطابان يردان بالحكم في اسمين، فيفهم من أحدهم أن غير الذي ذكر مثل الذي ذكر، ويفهم من الآخر أن غير الذي ذكر بخلاف الذي ذكر ؟ وهذا ضد
ما فهم من الاول، وتالله ما خلق الله تعالى عقلا يقوم فيه هذا إلا عقل من غالط نفسه فتوهم ما لا يصح بدعوى لا يعجز عن مثلها أحد بلا دليل، وكل من لم يبال بما قال يقدر أن يدعي أنه فهم من هذا اللفظ غير ما يعطي ذلك اللفظ.
قال أبو محمد: وأما أكياسهم فإنهم سموا القسم الاول قياسا وسموا الثاني دليل الخطاب، فقد رأوا إذ فرقوا بين معنى واحد باسمين أنهم قد سلموا بذلك من التناقض، وهم من التورط فيه بمنزلة من سمى كل ذلك دليل الخطاب ولا فرق.

(7/888)


ونحن نسألهم من كلامهم فنقول لهم: ما الفرق بينكم إذ قالت طائفة منكم: إن ذكر السائمة يدل على أن غير السائمة بخلاف السائمة، وقالت طائفة أخرى، بل ذكر السائمة إلا على أن غير السائمة موافق لحكم السائمة ؟ ما الفرق بينكم وبين من عكس عليكم قولكم إن قول الله تعالى: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) *...إن ذكر القنطار يدل على أن ما عدا القنطار مثل القنطار، فقال: بل ما يدل ذكر القنطار إلا على أن ما عدا القنطار بخلاف القنطار فقد يفزع الخائن من خيانته إذا كانت كثيرة، وقد يحتقر اليسير فلا يخونه، فهلا جعلتم القنطار ههنا حدا للكثير كما جعلت طوائف منكم ذكره (ص) المائتي درهم في وجوب الزكاة فيها دليلا على أن العشرين دينارا كثير، فلا يحلف عند المنبر أحد في أقل منها، وأن ما دونها قليل فلا يحلف فيها إلا في مجلس الحاكم ؟ وجعلت طوائف أخر منكم ذكره (ص) ربع الدينار في قطع السارق دليلا على أن ربع الدينار كثير وأن ما عداه قليل، فلا يستباح فرج بأقل منه، ولا يحلف عند المنبر في أقل منه، وجعلت طوائف أخر ما رووا من ذكره (ص) عشرة دراهم في قطع السارق دليلا على أن العشرة دراهم كثيرة، وإن ما دونها قليل، فلا يستباح فرج بأقل منها، حتى جعلوا ذلك حدا فيما يسقط مما بين
قيمة العبد ودية الحر.
قال أبو محمد: ومما ادعوا فيه أنهم فهموا منه أن المسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه قوله تعالى: * (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) * قالوا: فهذا يدل على أن غير الحامل بخلاف الحامل.
قال أبو محمد: هذا خطأ، لان المطلقة لا تخلو من أن يكون طلاقها رجعيا أو غير رجعي، فإن كان رجعيا فلها النفقة إذا كانت ممسوسة، كانت حاملا أو كانت غير حامل، باتفاق من جميعنا، وإن كان غير رجعي، فلا نفقة لها بنص السنة سواء كانت حاملا أو غير حامل، وإنما جاء النص المذكور في الطلاق الرجعي وبنص الآيات في قوله تعالى في الآية التي ابتدأ فيها في هذه السورة بتعليم الطلاق.
ثم عطف سائر الآيات عليها: * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) * وهذا لا يكون إلا في رجعي، وأمسك تعالى عن ذكر غير الحامل في

(7/889)


هذه السورة، فبينت السنة أن التي هي موطوءة وليست حاملا بمنزلة الحامل ولا فرق، ولا يحل لاحد أن يقول: لم سكت عن ذكر غير الحامل ههنا ؟ فإن قال ذلك مقدم، قيل له: سكت عن ذلك كما سكت فيها عن ذكر الخلع وعن ذكر المتوفى عنها زوجها وعن الفسخ وغير ذلك.
فإن قالوا: قد ذكر الله تعالى ذلك في آيات أخر قيل: وكذلك أيضا قد ذكر وجوب النفقة لغير الحامل بسنة نبيه محمد (ص) ومن أراد أن يجد جميع الاحكام كلها في آية واحدة فهو عديم عقل متعلل في إفساد الشريعة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
وادعوا أن جماعة من أهل اللغة منهم المبرد وثعلب قالوا بذلك.
قال أبو محمد: أما إدخال هذا الباب في اللغة فتمويه ضعيف وإيهام ساقط، لان
اللغة إنما يحتاج فيها إلى أربابها في معرفة الحروف المجموعة التي تقوم منها الكلمات، وأن يخبرونا على ماذا تركبت من المسميات فقط.
وأما معرفة هل يدخل في حكم الخبر عن الاسم ما قد أقروا لنا أنه ليس يقع عليه ذلك الاسم أو لا يدخل في حكمه، فليس هذا في قوة علم اللغة ولا من شروطها، إنما يظن هذا من اختلطت عليه العلوم ولم تبلغ قوته أن يفرق بينها.
وهذا أمر موجود في طبائع العرب والعجم، وحتى لو صح ذلك عن ثعلب وعن المبرد وعن الاصمعي وخلف معهم - لكان قولهم مع قول جميع أهل اللغة أولهم عن آخرهم بلا خلاف منهم، بل قول أهل كل لغة للناس من عرب وعجم إن اسم حجر لا يفهم منه فرس، وإن اسم جمل لا يفهم منه كلب.
وإن من قال: ركبت اليوم سفينة أنه لا يفهم منه أنه ركب أيضا حمارا، أو أنه لم يركبه، وأن من قال أكلت خبزا أنه لا يفهم منه أكل لحما مع الخبز أم لم يأكله ؟ ولكان في شهادة العقول كلها باتفاقها على صحة ما ذكرنا كغاية في إبطال قول من قال بخلاف ذلك كائنا من كان ومبين صدق من قال إنما عدا الخبر المخبر به موقوف على دليله.
قال أبو محمد: واعترض بعضهم بما روي عن رسول الله (ص) من قوله في الاستغفار لمن مات من المنافقين: لازيدن على السبعين فقال هذا القائل: في هذا دليل على أن ما عدا السبعين يغفر لهم به ولا بد.

(7/890)


قال أبو محمد: وهذا خطأ من وجهين: أحدهما أن ذلك دعوى بلا دليل، ولو قطع (ص) بذلك لكان حقا، ولكنه لم يقطع على ذلك، وأنه لما يئس من المغفرة لهم بالسبعين رجا بالزيادة، وهذا الحديث من أعظم حجة عليهم في دعواهم التي نسوا أنفسهم فيها فقالوا: إن ما عدا القنطار في قوله تعالى: * (وآتيتم إحداهن قنطارا) *، وما عدا الاف من قوله تعالى: فلا تقل لهمآ أف) * بمنزلة القنطار والاف
فهلا قالوا: إن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين، كما قالوا: إن ما عدا القنطار بمنزلة القنطار أو هلا قالوا: إن ما عدا القنطار بخلاف القنطار.
كما قالوا: إن ما عدا السبعين بخلاف السبعين، بل قد أكذب الله تعالى قولهم بإنزاله: * (سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) * وبنهيه تعالى نبيه (ص) عن الصلاة عليهم جملة، فبين تعالى بهذه الآية العامة أن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين.
ولا يظن جاهل أننا بهذا القول يلزمنا أن ما عدا المنصوص عليه له حكم المنصوص، ومعاذ الله من ذلك، ولو ظننا ذلك كما ظنوا لكنا مخالفين لرسول الله (ص) إذ رجا أن يكون ما عدا السبعين بخلاف السبعين، فإننا لم نقل إن بذكر السبعين وجب أن يكون ما عدا السبعين موافقا للسبعين ولا مخالفا لها، بل قلنا: ممكن أن يكون ما عدا السبعين موافقا للسبعين في ألا يغفر لهم، وممكن أن يكون بخلاف السبعين في أن يغفر لهم.
وإنما ننتظر في ذلك ما يرد في البيان، كما فعل رسول الله (ص) ولا فرق، ثم ينزل الله تعالى ما شاء إما بموافقة لما قد ذكر وإما بمخالفة له، وكان الاصل إباحة الاستغفار جملة بقوله عزوجل: * (وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم) * والصلاة ههنا الدعاء بلا خلاف، والاستغفار دعاء، وهو نوع من أنواع الدعاء، فلما نص على خروج السبعين من جملة الدعاء لهم، كان ما بقي على ظاهر الاباحة المتقدمة، حتى نهى عن الاستغفار لهم جملة، وعن الصلاة عليهم البتة.
وقد جاء نص الحديث هكذا كما قلنا من أخباره (ص) أنه مخير في ذلك فأخذ بظاهر اللفظ، حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب ابن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا

(7/891)


أبو أسامة، نا عبيد الله بن عمير، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله (ص)
قال حين اعترضه عمر في الصلاة على عبد الله بن أبي: إنما خيرني الله فقال: * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) *، وسأزيد على السبعين فأخذ (ص) بظاهر اللفظ في التخيير، والاصل المتقدم في إباحة الاستغفار، حتى نهى عن ذلك جملة.
وقال بعضهم: ما عدا الاسم المذكور فبخلاف المذكور إلا أن تقترن إليه دلالة.
قال أبو محمد: فنقول له: ما الفرق بينك وبين من عارضك من أهل مذهبك ؟ أراد أن ينصر القياس نفسه، كما أردت أنت أن تنصر دليل الخطاب فنسيت نفسك، فقال لك: ما عدا الاسم المذكور فهو داخل في حكم المذكور ما لم تقترن إليه دلالة.
قال أبو محمد: وهكذا يعرض للحمل المائل المرتب على غير اعتدال، وبخلاف القوام إذا أراد صاحبه أن يعدل أحد شقيه مال عليه الآخر، ثم يقال لهم جميعا: ما هذه الدلالة المقترنة التي يشير كل واحد منكما إليها ؟ أهي كهانة منكم، أم هي طبيعية توجب ضرورة، فهم ما ذكر كل واحد منكما على تضادكما ؟، أم هي نص واحد فهم لا يدعون كهانة، فلم يبق إلا أن يقولوا هي ضرورة توجب فهم كل ما لم يذكر أو أن يقولوا هو نص يبين حكم ما لم يذكره في هذا النص الآخر، فأي ذلك قالوا فقد وافقونا في قولنا: إنه لا يدل شئ مذكور على شئ لم يذكر، وإن الذي لم يذكر في هذا النص فإنما ننتظر فيه نصا آخر، إلا أن توجب ضرورة ما أن نعرف حكمه كما أوجبت ضرورة الحس في قوله تعالى: * (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) * إننا لا نقدر أن نمشي في الهواء ولا في السماء ولا أن نأكل من غير رزقه.
واحتج بعضهم في قول أبي عبيد في قوله (ص): لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا وأنكر أبو عبيد قول من قال: إن ذلك إنما هي في الشعر الذي هجي به رسول الله (ص) فقال أبو عبيد:
لو كان ذلك لكان قد أباح القليل من الشعر الذي هجي به رسول الله (ص) وذلك لا يحل.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو على خلاف ما ظنوا، وهو أن

(7/892)


الاصل أن رواية الشعر حلال باستنشاد النبي (ص) للاشعار وسماعه إياها.
وأما رواية ماهجي به (ص) فحرام سماعه وقراءته وكتابته وحفظه بقول الله تعالى: * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) * وبقوله تعالى آمرا بتعزيره وتوقيره في غير ما آية.
فلما جاء النهي عن امتلاء الجوف من الشعر كان ذلك مخرجا لكثير منه من جمله كله المباح، وبقي ما دون الامتلاء مما سوى هجو النبي (ص) على الاباحة، وحد الامتلاء هو ألا يكون للانسان علم إلا الشعر فقط، وحدما دون الامتلاء أن يعلم المرء ما يلزمه ويروي مع ذلك من الشعر ما شاء.
واحتجوا أيضا بقول أبي عبيد فيما روي عن النبي (ص): لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أن ذلك مخرج لغير الواحد عن إحلال العرض والعقوبة.
قال أبو محمد: وليس هذا كما ظنوا، ولكن لما أخبر (ص) أن أعراضنا علينا حرام، وأن المسلم أخو المسلم لا يسلمه لا يظلمه.
كان كل أحد حرام العرض والعقوبة، فلما جاء النص بتغيير المنكر باليد وكان لي الواجد منكرا لانه منهي عنه، كان ذلك مدخلا لعقوبته في جملة تغيير المنكر المأمور به، ومخرجا له مما حرم من أعراض الناس جملة وعقوباتهم، هذا الذي لا يفهم ذو لب سواه، ولا ينفقه غيره، واحتجوا بأن الشافعي أحد أئمة أهل اللغة وقد قال: إن ذكره (ص) السائمة دليل على أن ما عدا السائمة بخلاف السائمة.
قال أبو محمد: أما إمامة الشافعي رحمه الله في اللغة والدين فنحن معترفون بذلك،
ولكنه رضي الله عنه بشر يخطئ ويصيب، وليت شعري أين كان الشافعي رحمه الله عن هذا الاستدلال، إذ قال جل ذكره في رقبة القتل أن تكون مؤمنة دليل على أن المسكوت عنه من دين الرقبة في الظهار، بمنزلة المنصوص في رقبة القتل أن تكون أيضا مؤمنة ؟ وليت شعري أي فرق بين ذكره تعالى الايمان فرقبة القتل وذكره (ص) السائمة في حديث أنس.
فبقول قائل: رقبة الظهار التي سكت عن ذكر دينها بمنزلة رقبة القتل التي ذكر دينها، وأما غير السائمة من الغنم، وإن كان السوم لم يذكر في حديث ابن عمر، فبخلاف السائمة، وما الفرق بين من عكس الحكم ؟ فقال: بل غير السائمة بمنزلة السائمة كما قال المالكيون.

(7/893)


وأما الرقبة المسكوت عن دينها فبخلاف الرقبة المنصوص على دينها، فتجزئ في الظهار كافرة كما قال الحنفيون ؟ وفي هذا كفاية.
وأما نحن فنقول: لو لم يرد في السائمة إلا حديث أنس لما أوجبنا زكاة في غير السائمة، لان الاصل أن لا زكاة على أحد إلا أن يوجبها نص، فلو لم يأت نص إلا في السائمة لما وجبت زكاة إلا فيها، لكن لما ورد حديث ابن عمر بإيجاب زكاة كل أربعين من الغنم، كان حديث السائمة بعض الحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة، فأوجبنا الزكاة في الغنم سائمة كانت أو غير سائمة، ولما نص تعالى في القتل على رقبة مؤمنة قلنا: لا يجزئ في القتل إلا مؤمنة، كما أمر الله تعالى، ولما لم يذكر الايمان في رقبة الظهار، قلنا: يجزي الظهار أي رقبة كانت كما قال تعالى سواء كانت كافرة أو مؤمنة، إلا أن المؤمنة أحب إلينا لقوله تعالى: * (ولعبد مؤمن خير من مشرك) *، * (ولامة مؤمنة خير من مشركة) * إلا أن الكافرة تجزئ لعموم ذكره تعالى الرقبة فقط.
واحتجوا أيضا بإجماع المسلمين على أن ما عدا المنصوص عليه من عدد
الزوجات أن يكون أربعا حرام.
قال أبو محمد: وليس هذا من الوجه الذي ظنوا، ولكنه لما أمر تعالى بحفظ الفروج جملة حرم النساء البتة إلا ما استثنى منهن فقط، أيضا فإن رسول الله (ص) قد فسخ نكاح الزائدة على أربع، فكفى حكمه (ص) من كل دليل سواه، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بقوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانه تعالى قد أباح لهن النكاح بالنص فقال عزوجل: * (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) *.
قال أبو محمد: والنكاح المباح من المعروف.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه.
لان الام إن أرادت أن ترضعه أقل من حولين أو أكثر من حولين فذلك مباح لها، ما لم يكن في الفطام قبل الحولين ضرر

(7/894)


على الرضيع.
وكنا نقول إنه لا يحرم إلا ما كان في الحولين من الرضاع، لان الاصل أن الرضاع لا يحرم شيئا، فلما حرم تعالى نكاح النساء بالرضاع ووجدناه تعالى قد جعل حكم الرضاع الذي أمر به حولين وما زاد عن الحولين فليس مأمورا، به ولكنه مباح، وجب أن يكون الرضاع المحرم هو الرضاع المأمور به لا ما سواه، إلا أن يقوم دليل على ما سواه من نص أو إجماع فيصار إليه.
ولكن المصير إلى قول الله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) * وحمل ذلك على عمومه.
وكلام رسول الله (ص) إذ أخبر أن سالما وهو رجل ذو لحية تحرم عليه التي أرضعته لا يجوز مخالفة شئ من ذلك وبالله تعالى التوفيق.
هذا على أن أكثر القائلين بدليل الخطاب المذكور قد جعلوا ما زاد على
الحولين، بشهر، وقال بعضهم: بستة أشهر، وقال بعضهم: بسنة كاملة، بمنزلة الحولين، وحرموا بكل ذلك، تناقضا لما أصلوه، وهدما لما أسسوه، وبيانا منهم أن حكمهم بذلك من عند غير الله تعالى.
واحتجوا فقالوا: قد أعطي رسول الله (ص) جوامع الكلم، فمحال أن يذكر الله عزوجل أو رسوله (ص) لفظة إلا لفائدة، وقد ذكر عليه السلام السائمة، فلو لم يكن لها فائدة لما ذكرها.
قال أبو محمد: وهذا سؤال أهل الالحاد، وهو مع ذلك غث وتمويه شديد، ونحن مقرون أن الله تعالى لم يذكر لفظه إلا لفائدة، وكذلك رسوله (ص) ولكنا نخالفهم في ماهية تلك الفائدة، فنحن نقول: إن الفائدة في كل لفظة هي الانقياد لمعناها والحكم بموجبها، والاجر الجزيل في الاقرار بأنها من عند الله عزوجل، وألا نسأل لاي شئ قبل هذا ؟ وألا نقول لم لم يقل تعالى كذا ؟ وأن لا نتعدى حدود ما أمرنا الله به فنضيف إلى ما ذكر ما لم يذكره، أو نحكم فيما لم يسم من أجل ما سمي بخلاف أو وفاق، وألا تخرج مما أمرنا به شيئا بآرائنا بل نقول: إن هذه كلها أقوال فاسدة واعتراضات كل جاهل زائغ عظيم الجرأة، فلا فائدة أعظم مما أدى إلى الجنة وأنقذ من النار.
وأما هم فهم أعرف بالفوائد التي يبطلونها من غير ما ذكرنا.
وقالوا: قد كان يغني ذكر الغنم جملة عن ذكر السائمة.

(7/895)


قال أبو محمد: فيقال لهم: هذا تعليم منكم لربكم عزوجل، كيف ينزل وحيه ولنبيه (ص) كيف يبلغ عن ربه تعالى، فمن أضل ممن ينزل نفسه في هذه المنزلة ويقال لهم: ما الفرق على مذهبكم الفاسد بين ذكره تعالى في الاستغفار سبعين مرة، ومراده تعالى بلا خوف منا ومنكم أن ما فوق السبعين بمنزلة السبعين بما بين
في الآية الاخرى، وبين ذكره (ص) السائمة ومراده أيضا مع السائمة غير السائمة بما بين في حديث آخر ؟ وهلا اكتفى بذكر النهي عن الاستغفار جملة عن السبعين مرة ؟.
ويقال لهم في سؤالهم: فما معنى ذكر السائمة، وقد كان يغني ذكر الغنم جملة ؟: ما معنى ذكره تعالى جبريل وميكائيل بعد ذكره الملائكة في قوله تعالى: * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) * وقد كان يغني ذكر الملائكة جملة ؟ وما معنى قوله تعالى: * (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) * أترى إسماعيل لم يكن حليما أواها ؟ وما معنى قوله تعالى في إسماعيل: * (إنه كان صادق الوعد) * أترى إبراهيم وموسى وعيسى لم يكن وعدهم صادقا ؟.
ويقال لهم: قد وجدنا الله تعالى يأتي في القرآن، وهو المعجز نظمه، بذكر قصة من خبر أو شريعة أو موعظة، فيذكر من كل ذلك بعض جملته في مكان، ثم يذكر تعالى ذلك الخبر بعينه، وتلك الشريعة بعينها، وتلك الموعظة بعينها في مكان آخر بأتم مما ذكرها به في غير ذلك الموضع، ولا يعترض في هذا إلا طاعن على خالقه عزوجل، لان الذي ذكرنا موجود في أكثر من مائة موضع في القرآن، في قصة موسى ونوح وإبراهيم وآدم، وصفة الجنة والنار، وأمر الصلاة والحج والصدقة والجهاد وغير ذلك.
وقد كان (ص) يكرر الكلام إذا تكلم به ثلاثا، ولا فرق بين تكرار جميعه، وبين تكرار بعضه، فكرر (ص) ذكر الغنم السائمة في مكان، وذكر في مكان آخر الغنم جملة، كما كرر قوله تعالى: * (ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) *.
وكما كرر تعالى ذكر موسى عليه السلام في القرآن في مائة وثلاثين موضعا، وإبراهيم عليه السلام في أربع وستين موضعا، ولم يذكر إدريس واليسع وإلياس وذا الكفل إلا في موضعين من القرآن فقط، وكما كرر تعالى: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * أكثر من آية) في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة فهل لاحد أن يعترض فيقول هلا بلغها أكثر ؟ أو هلا اقتصر على عدد منها أقل ؟

(7/896)


أو ما كان يكفي مرة واحدة ؟ كما قال هؤلاء المخطئون: هلا اكتفى بذكر الغنم عن ذكر السائمة ؟ وقد بينا أنه لا فائدة لله تعالى في شئ مما خلق ولا في تركه ما ترك، وأن الفائدة لنا في ذلك الاجر العظيم في الايمان بكل ذلك كما قاله تعالى: * (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) * وأخبر تعالى أن الكفار قالوا: * (ماذآ أراد الله بهذا مثلا) * فنحن نزداد إيمانا بما أوردنا، ولا نسأل ماذا أراد الله بهذا مثلا، فليختاروا لانفسهم أي السبيلين أحبوا، كما قال علي بن عباس: أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى: مستقيم وأعوج وقد يمكن أن تكون الفائدة في تكرار السائمة والاقتصار عليها في بعض المواضع فائدة زائدة على ما ذكرنا، وهي أننا قد علمنا أن بعض الفرائض أوكد من بعض، مثل الصلاة فإنها أوكد من الصيام.
وليس ذلك بمخرج صيام رمضان على أن يكون فرضا، ومثل القتل والشرك فإنهما أوكد في التحريم من لطمة المرء المسلم ظلما، وليس ذلك بمخرج للطمة ظلما من أن تكون حراما، وإنما المعنى فيما ذكرنا من التأكيد أن هذا أعظم أجرا، وهذا أعظم وزرا، وما استواء كل ذلك في الوجوب وفي التحريم فسواء، لا تفاضل في شئ من ذلك.
وكل ذلك سواء إن هذا حرام وهذا حرام، وإن هذا واجب وهذا واجب، فيكون على هذا أجر المزكي غير للسائمة أعظم من أجر المزكي غير السائمة، وكل مؤد فرضا ومأجور على ما أدى ويكون إثم مانع زكاة السائمة أعظم من إثم مانع زكاة غير السائمة، وكلاهما مانع فرض، ومحتقب إثم، فلتخصيص السائمة بالذكر في بعض المواضع على هذا فائدة عظيمة، كما أن الزاني بامرأة جاره أو امرأة المجاهد والحريمة أعظم إثما من الزاني بامرأة أجنبية، أو امرأة أجنبي ذمي أو حربي، وكل زان وآت كبيرة وآثم إلا أن الاثم يتفاضل.
ومثل هذا قوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * وكقوله تعالى:
* (فأما اليتيم فلا تقهر ئ وأما السائل فلا تنهر) * فهل في هذا إباحة قهر غير اليتيم ونهر غير المسكين، أو المنع من الاحسان إلى غير الآباء من ذوي القربى والجيران وسائر المسلمين ؟ ولكنه لما كان قهر اليتيم ونهر المسكين وترك الاحسان إلى الوالدين أعظم وزرا وأعظم أجرا، خصوا بالذكر في بعض المواضع، وعموا مع سائر الناس في مواضع أخر، فلعل السائمة مع غير السائمة كذلك، وكذلك

(7/897)


ذكره تعالى الصلوات إذ يقول عز من قائل: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فيسأل هؤلاء المقدمون كما سألوا: فيقال لهم: المعنى في تخصيص النبي (ص) السائمة بالذكر في بعض الاحاديث كالمعنى في تخصيصه تعالى الصلاة الوسطى بالمحافظة دون سائر الصلوات في لفظ مفرد، وقد عمهما تعالى في سائر الصلوات كما عم رسوله عليه السلام السائمة مع غير السائمة في حديث ابن عمر فبطل بما ذكرنا اعتراضهم بطلب الفائدة في تكرار السائمة، وبأن ذكر الغنم جملة كان يكفي، ولاح أن سؤالهم سؤال إلحاد وشر.
وبالله تعالى التوفيق.
وقد يكفي من هذا قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * وما روي عن رسول الله (ص): هلك المتنطعون ولا تنطع أعظم من قول قائل: لم قال الله تعالى أمرا كذا ولم يقل أمرا كذا ؟ وبالله تعالى نستعين.
وقالوا إن قول رسول الله (ص): إنما الولاء لمن أعتق دليل على أن لا ولاء لمن لم يعتق.
قال أبو محمد: وليس كما ظنوا، ولكن لما كان الاصل أن لاولاء لاحد على أحد بقوله تعالى: * (يا بني آدم) *.
وبقوله تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) * وبقوله عليه السلام: كل المسلم على المسلم حرام، ثم جاء الحديث المذكور وجب به الولاء لمن أعتق، وبقي من لم يعتق على ما كان عليه مذ خلق من أن لا ولاء لاحد عليه
إلا من أوجب عليه الاجماع، المنقول المتيقن إلى حكم النبي (ص)، ولولا، مثل من تناسل من المعتق من أصلاب أبنائه الذكور من كل من يرجع إليه نسبه، ممن حمل به بعد الولاء المنعقد على الذي ينتسب إليه، كأسامة بن زيد وغيره، ولولا قوله (ص): إنما الولاء لمن أعتق ما وجب المعتق ولاء على المعتق، لان ذلك إيجاب شريعة وشرط، والشرائع لا تكون إلا بإذن من الله تعالى على لسان رسوله (ص) وكل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ووجدنا هذا الحديث الذي احتجوا به لم يمنع من وجوب الولاء لغير من أعتق، مثل ما ذكرنا من وجوب ولاء ولد المعتق، ولم يعتقه أحد، ولا ولدته أمه، ولا حمل به إلا وهو حر، لولد معتق أبيه وهو لم يعتقه قط، ولا ملكه قط، ولا أعتق أباه ولا جده ولا ملكهما قط، ولا أعتقه أبو هذا الذي ولاؤه الآن، ولا جده ولا ملكاه قط، فبطل ما ادعوه من القول

(7/898)


بدليل الخطاب.
ومن اعجب الاشياء: أن هؤلاء المحتجين بهذا الحديث في تصحيح الحكم بدليل الخطاب أشد الناس نقضا لاصولهم في ذلك، وهدما لما احتجوا به لانهم قد حكموا بالولاء لغير المعتق على من لم يعتق قط بلا دليل، لا من نص ولا من إجماع لكن تحكما فاسدا، فأوجبت طوائف منهم أن الولاء يجزه العم والجد إذا أعتقا.
وأوجبوه ينتقل كانتقال الكرة في اللعب بها، وقد أكذبهم رسول الله (ص) بقوله: الولاء لحمة كلحمة النسب والنسب لا ينتقل، فوجب ضرورة أن الولاء كالنسب لا ينتقل.
وهم يقولون في العبد ينكح معتقة فتلد له: إن ولاء ولدها لسادتها.
قالوا: أعتق أبوهم يوما ما عاد ولاء والدها إلى معتق أبيهم.
قال أبو محمد: أفيكون أعجب من هذا بينما المرء من بني تميم، لكون أمه مولاة منهم، ويقول رسول الله (ص) الذي حملوه على غير وجهه: مولى القوم منهم.
إذ صار بلا واسطة من الازد بعتق رجل من الازد لابيه ؟ أفيكون في خلاف رسول الله (ص) المبلع عن ربه تعالى أكثر من هذا ؟ أو يكون في إكذابهم أنفسهم أن قالوا، قوله (ص): إنما الولاء لمن أعتق دليل على أن لا ولاء لمن لم يعتق ؟ وهذا الذي حروا ولاءه مرة من اليمانية إلى المضرية، ومرة من الفرس إلى قريش، لم يعتقه أحد ولا ملك قط، ولا حملته أمه إلا وهو حر.
وأوجبوا الولاء لموالي الام على ولدها من حربي، وعلى ولد الملاعنة بلا نص ولا إجماع، فأين احتجاجهم بدليل الخطاب ؟ ولكن غرض القوم إقامة الشغب في المسألة التي هم فيها فقط، ولا يبالون أن ينقضوا على أنفسهم ألف مسألة بما يريدون به تأييد هذه، حتى إذا صاروا إلى غيرها لم يبالوا بإبطال ما صححوا به هذه التي انقضى الكلام فيها في نصرهم للتي صاروا إليها، فهم دأبا ينقضون ما أبرموا، ويصححون ما أبطلوا، ويبطلون ما صححوا، فصح أن أقوالهم من عند غير الله عزوجل، لكثرة ما فيها من الاختلاف والتفاسد، وإنما هم قوم توغلوا فانتسبوا في التقليد لاقوال فاسدة يهدم بعضها بعضا، فألفوها ألفة كل ذي دين لدين أبيه، ودين من نشأ معه، فلا يبالون بما قالوا في إرادتهم نصر ما لم ينصره الله تعالى من تلك المذاهب الفاسدة.

(7/899)


وقالوا: قوله (ص): إنما الاعمال بالنيات دليل على أن لا عمل إلا بنية وأن: ما عمل بغير نية باطل.
قال أبو محمد: ليس ذلك كما ظنوا، ولكن لما قال الله تعالى: * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) * وقال تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * كان قد بطل كل أمر إلا تأدية ما أمرنا به من العبادة بإخلاص القصد بذلك إلى الله تعالى فبهذه الآية بطل أن يجزى عمل بغير نية إلا ما أوجبه نص أو
إجماع، فكان مستثنى من هذه الجملة، مثل ما ثبت بالاجماع المنقول إلى رسول الله (ص) من جواز لحاق دعاء الحي للميت بالميت، ومثل لحاق صيام الولي عن الميت بالميت وصدقته عنه، والحج عنه، وتأدية الديون إلى الله تعالى وللناس عنه، وإن لم يأمر هو بذلك ولا نواه، ولحاق الاجر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه، ولحاق الوزر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه.
وإنما وجب بالحديث الذي ذكروا أن من عمل شيئا بنية ما فله ما نوى، فإن نوى به الله تعالى وتأدية ما أمر به من كيفية ذلك العمل فله ذلك، وقد أدى ما لزمه، وإن نوى غير ذلك فله أيضا ما نوى، فإن لم ينو شيئا فلا ذكر له في هذا الحديث، لكن حكمه في سائر ما ذكرنا قبل.
والعجب ممن احتج بهذا الحديث من أصحاب القياس وهم أترك الناس له فأما الحنفيون فينبغي لهم التقنع عند ذكر هذا الحديث والاحتجاج به، فإنهم يجيزون تأدية صيام الفرض بلا نية أصلا بل بنية الفطر، وتأدية فرض الوضوء بغير نية الوضوء لكن بنية التبرد.
وقالوا كلهم وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك: إن كثيرا من فرائض الحج التي يبطل الحج بتركها تجزي بغير نية.
فأما الحنفيون فقالوا: من أحرم وحج ينوي التطوع أجزأه ذلك عن حج الاسلام.
وقال الشافعيون: أعمال الحج كلها، حاشا الاحرام، تجزيه بلا نية أداء الفرض.
وقال المالكيون: الوقوف بعرفة يجزي بلا نية، وأن الصيام لآخر يوم من رمضان يجزي بنية كانت قبله بنحو ثلاثين يوما، والصلاة تجزيه بلا نية مقترنة بها وقال بعضهم: غسل الجمعة يجزي من غسل الجنابة.
وقال بعضهم: دخول

(7/900)


الحمام بلا نية يجزي من غسل الجنابة.
فأبطلوا احتجاجهم بالحديث المذكور،
وأكذبوا قولهم في دليل الخطاب، وأوجبوا جواز أعمال بلا نية حيث أبطلها الله تعالى ورسوله (ص)، وأبطلوا صيام الولي عن الولي والحج عن الميت وأداء ديون الله تعالى عنه وقد أوجبها الله تعالى.
واحتجوا أن لا عمل إلا بنية العامل، ولا نية للمعمول عنه في ذلك فاستدركوا على ربهم ما لم يستدركوه على أنفسهم، وهذا غاية الخذلان.
واحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن يعلى بن منبه رحمة الله عليه إذ سأل عن قصر الصلاة وقد ارتفع الخوف، قالوا: فلما جاء القصر في القرآن في حال الخوف دل ذلك على أن الامر بخلاف الخوف.
قال أبو محمد: وقد غلط في ذلك من أكابر أصحابنا أبو الحسن، عن عبد الله بن أحمد ابن المغلس: فظن مثل ما ذكرنا، وهذا لا حجة لهم فيه، لان الاصل في الصلوات كلها على ظاهر الامر الاتمام، وقد نص رسول الله (ص) على عدد ركعات كل صلاة، ثم جاء النص بعد ذلك في القصر في حال السفر مع الخوف، فكان ذلك مستثنى من سائر الاحوال، فلما رأى عمر القصر متماديا مع ارتفاع الخوف، أنكر خروج الحال التي لم تستثن في علمه عن حكم النص الوارد في إتمام الصلاة في سائر الاحوال غير الخوف، فأخبر (ص) أن حال السفر فقط مستثناة أيضا من إيجاب الاتمام، وإن لم يكن هنالك خوف، فكان هذا نصا زائدا في استثناء حال السفر مع الامن، فإنما أنكر ذلك من جهل أن هذه الصدقة الواجب قبولها قد نزل بها الشرع، وهو عمر رضي الله عنه، ولسنا ننكر مغيب الواحد من الصحابة أو الاكثر منهم عن نزول حكم قد علمه غيره منهم.
وأما الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها فرضت الصلاة فلا حجة فيه علينا، بل هو حجة لنا، وقد يظن عمر إذا نقلت صلاة الحضر إلى أربع ركعات أن صلاة السفر أيضا منقولة، والغلط غير مرفوع عن أحد بعد رسول الله (ص).
قال أبو محمد: وتعلل بعض من غلط في هذا الباب من أصحابنا بأن قالوا: قوله عليه السلام: استنشق اثنتين بالغتين إلا أن تكون صائما في حديث لقيط بن صبرة الايادي، في ذلك مانع من مبالغة الصائم في الاستنشاق.

(7/901)


قال أبو محمد: وليس ذلك كما ظنوا، ولكن حديث لقيط فيه إيجاب المبالغة على غير الصائم فرضا لا بد له من ذلك، وفيه استثناء الصائم من إيجاب ذلك عليه، فسقط عن الصائم فرض المبالغة وليس في سقوط الفرض ما وجب المنع منها، فليس في الحديث المذكور منع الصائم منها، لكنه له مباحة لا واجبة ولا محظورة لان الاباحة واسطة بين الحظر والايجاب.
فإذا سقط الايجاب لم ينتقل إلى الحظر إلا بنهي وارد، لكن ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الاباحة أو الندب، وإذا سقط التحريم ولم ينتقل إلى الوجوب إلا بأمر وارد، لكنه ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الاباحة أو الكراهة وقد بينا هذا في باب النسخ من هذا الكتاب.
قال أبو محمد: وقال بعض من غلط في هذا الفصل أيضا من أصحابنا: إن أمر رسول الله (ص) في حديث صفوان بن عسال المرادي ألا ينزع المسافرون الخفاف ثلاثا، إيجاب لنزعها بعد الثلاث، وإيجاب على المقيم نزعها بعد يوم وليلة، فأوجبوا من ذلك أن يصلي الماسح بعد انقضاء الامدين المذكورين، حتى ينزع خفيه، ولم يوجبوا عليه بعد ذلك أن يجدد غسل رجليه، ولا إعادة وضوئه، وأنكر ذلك أبو بكر بن داود رحمهما الله وأصاب في إنكاره.
قال أبو محمد: وليس في الحديث المذكور إيجاب نزع الخفين ولا المنع من نزعهما وإنما فيه المنع من إحداث مسح زائد فقط، وهو الخيار بعد انقضاء أحد الامدين بين أن ينزع ويصلي دون تجديد وضوء ولا غسل رجليه، وبين ألا ينزعهما ويصلي بالمسح المتقدم ما لم ينتقض وضوءه، فإذا انتقض وضوءه فقد حرم
عليه المسح، وإذا حرم عليه المسح لزمه فرض الوضوء، فلا بد حينئذ من غسل الرجلين، وإذا لم يكن بد من غسل الرجلين فلا سبيل إلى ذلك إلا بإزالة الخفين فحينئذ لزم نزع الخفين، لا قبل أن يحدث.
وبلغنا عن بعض أصحابنا أنه يقول: إن قول رسول الله (ص): الماء لا ينجسه شئ دليل على أن ما عداه ينجس، فيقال له وبالله تعالى التوفيق: هذا ليس بشئ لوجوه: أولها أنها دعوة مجردة بلا دليل، ويقال: ما الفرق بينك وبين من قال: بل ما هو إلا دليل على أنه مثل الماء في أنه لا ينجس ؟ فإن قال: هذا قياس والقياس باطل، قيل له: هل كان القياس باطلا إلا لانه حكم بغير نص ؟

(7/902)


فلا بد له من: نعم، فنقول له: وهكذا حكمك لما عدا الماء أنه بخلاف الماء، حكم بغير نص ولا فرق، ومنها أننا نقول به: أرأيت قوله (ص): الطعام بالطعام مثلا بمثل، أفيه منع من بيع ما عدا الطعام مثل بمثل ؟ أرأيت قوله عليه السلام: نعم الادام الخل أفيه حكم على أن ما عداه بئس الادام ؟ أرأيت قوله عليه السلام: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث أو لم ينجس على أنه أصح من حديث بئر بضاعة - أيصح منه أن ما دون القلتين ينجس ؟ ومثل هذا كثير لو تتبع، فلو قال: قد جاء فيما عدا ما ذكر في هذه الاحاديث نصوص صح بها عندنا حكمها، قلنا له: وقد جاء فيما عدا الماء نص على إباحته بقوله تعالى: * (فكلوا مما في الارض حلالا طيبا) * فلا سبيل إلى تحريم شئ من ذلك إلا بنص وارد فيه، ولا إلى تنجيس شئ منه من أجل نجاسة حلته إلا بنص وارد فيه، ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واحتجوا بأن الناس مجمعون على أن من قال لآخر: لا تعط غلامي درهما حتى يعمل شغلا كذا، قالوا: فهذا يقتضي أنه إذا عمله وجب أن
يعطي الدرهم.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، وإن أعطاه المقول له هذا القول الدرهم بعد انقضاء ذلك الشغل، وكان ذلك الدرهم من مال السيد:، فعليه ضمانه إن تلف الدرهم ولم يوجد المدفوع إليه، ودليل ذلك إجماع الناس على أن المقول له ذلك يسأل الآمر فيقول له: إذا عمل ذلك الشغل أعطيه الدرهم أم لا ؟ فلو اقتضى هذا الكلام إعطاءه الدرهم بعمل الشغل المذكور ما كان للاستفهام المأمور به معنى، وأيضا فإن الامة مجمعة على أن الآمر لو قال للمأمور عند استفهامه إياه: لا تعطه إياه حتى أجد لك ما تعمل فيه، أن ذلك حسن في الخطاب ولازم للمأمور، وإنما في الكلام المذكور المنع من إعطاء الدرهم قبل عمل الشغل، وليس فيه بعد عمل الشغل لا إعطاؤه ولا منعه، وذلك موقوف على أمر له حادث إما بمنع وإما بإعطاء.
فإن قالوا: فقول الله تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * أليس إعطاؤهم الجزية مانعا من قتلهم ؟.

(7/903)


قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إنما في الآية الامر بقتلهم إلى وقت إعطاء الجزية، ثم ليس فيها إلا المنع من قلتهم بعد إعطائها، ولا إيجاب قتلهم، ولكن لما قال رسول الله (ص): ولا يقتل ذا عهد في عهده وقال (ص): لمن كان يبعث من قواده: فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم.
هذا نص كلامه (ص) لكل من يبعثه إلى كتابي حربي، حدثناه عبد الله ابن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن هاشم، قال أبو بكر: ثنا وكيع بن الجراح وقال إسحاق: ثنا يحيى بن آدم، وقال عبد الله، ثنا عبد الرحمن بن مهدي كلهم قالوا: ثنا سفيان الثوري، عن
علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي (ص).
قال أبو محمد: فلما قال (ص) ذلك مبينا أن دماءهم وأموالهم وأذاهم بالظلم، وسبي عيالهم وأطفالهم -، حرام بإعطائهم الجزية، بنص قوله عليه السلام: كف عنهم فالكف يقتضي كل هذا، وكثير ممن يحتج علينا بما ذكرنا قد نسوا أنفسهم، فقالوا في نهيه (ص) عن بيع الزرع حتى يشتد: إن ذلك غير مبيح لبيعه بعد اشتداده، ولكن حتى يضفى من تبنه ويداس.
قال أبو محمد: وبيع الزرع عندنا بعد اشتداده مباح، وإن لم يصف ولا ديس، لقوله تعالى: * (وأحل الله البيع) * فلا يخرج من هذه الجملة إلا ما جاء نص أو إجماع بتحريمه، ولهذه الجملة أجزنا بيع منخل بعد أن تزهى، والعنب بعد أن يسود، والثمر بعد أن يبدو فيه الطيب، وليس لان هذه النواهي توجب إباحة البيع بعد حلول الصفات المذكورة فيها.
وكذلك قلنا في قوله تعالى: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر) *، وإنما حرم الاكل من حين يتبين طلوع الفجر بالامر المتقدم لهذا النسخ، فإن الامر قد كان ورد بتحريم الاكل والشرب والوطئ مذ ينام المرء إلى غروب الشمس من غد، ثم نسخ ذلك وأبيح لنا الوطئ، والاكل والشرب إلى حين يتبين طلوع الفجر الثاني، فبقي ما بعده على الاصل المتقدم في التحريم، وبنصوص وردت في ذكر تحريم كل ذلك بطلوع الفجر الثاني، وبقوله

(7/904)


تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * ولو لم يكن ههنا إلا قوله تعالى: * (حتى يتبين لكم الخيط الابيض) * ما كان فيه إيجاب الصيام ولا المنع منه.
وكذلك قوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله إنما حرم القتال بقوله عليه السلام: فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وهكذا سائر
النصوص التي وردت على هذا الحسب، وبالله تعالى التوفيق.
وذكروا في ذلك قوله (ص): من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع أو كما قال (ص).
قالوا: فدل ذلك على أن التي لم تؤبر بخلاف التي أبرت وأنها للمبتاع.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لاننا لم نقض من هذا الحديث أن الثمرة التي تؤبر للمبتاع، لكن لما كانت التي تؤبر غائبة لم تظهر بعد كانت معدومة، وكانت بعض ما في عمق النخلة المبيعة كانت داخلة في المبيع لانها بعضه.
ثم نقول لهم: وبعد أن بينا بطلان ظنكم فنحن نريكم إن شاء الله تعالى تناقضكم في هذا المكان فنقول: إن كنتم إذا قضيتم بأن المسكوت عنه بخلاف المذكور، فما قولكم لمن قال لكم: بل ما المسكوت عنه ههنا إلا في حكم المذكور قياسا عليه ؟ فتكون الثمرة التي لم تؤبر للبائع أيضا قياسا على التي أبرت ؟ وقد قال أبو حنيفة: لا فرق بين الابار وعدمه، فنسي قوله، لم يذكر (ص) السائمة إلا لانها بخلاف غير السائمة، ولولا ذلك لما كان في زكاة السائمة فائدة، وجعل ههنا ذكره عليه السلام الابار لا لفائدة، وجعله كترك الابار فبان اضطراب هؤلاء القوم جملة وبالله تعالى التوفيق.
واحتج الطحاوي في إسقاط الزكاة عما أصيب في أرض الخراج بقول رسول الله (ص): منعت العراق قفيزها ودرهمها الحديث قال: فلو كان في أرض الخراج شئ غير الخراج لذكره (ص).
قال أبو محمد: فيقال للطحاوي: أرأيت إن قال لك قائل: إن قوله (ص): فيما سقت السماء العشر دليل على أن لا خراج على شئ من الارض لانه لو كان فيها خراج لذكره في هذا الحديث فإن قال: قد ذكر الخراج في الحديث

(7/905)


الذي قدمنا آنفا، قيل له: وقد ذكرالعشر ونصف العشر في الحديث الذي ذكر آنفا.
فإن قال قائل: ما تقولون فخطاب ورد من الله تعالى أو رسوله (ص) معلقا بشرط ؟ قيل له: ينظر، أتقدمت ذلك الخطاب جملة حاظرة لما أباح ذلك الخطاب، أو مبيحة لما حظر، أم لم يتقدمه جملة بشئ من ذلك، لكن تقدمت جملة تعمه وتعم معه غيره موافقة لما في ذلك النص.
ولا بد من أحد هذه الوجوه، لان الجملة التي نص عليها بقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الارض جميعا) * مبيحة عامة لا يشذ عنها إلا ما نص عليه، وفصل بالتحريم، فلا سبيل إلى خروج شئ من النصوص عن هذه الجملة.
ولا بد لكل نص ورد من أن يكون مذكورا فيه بعض ما فيها بموافقة أو يكون مستثنى منها بتحريم، فإن وجدنا النص الوارد، وقد تقدمته جملة مخالفة له، استثنيناه منها، وتركنا سائر تلك الجملة على حالها، ولم نحظر إلا ما حظر ذلك النص فقط.
ولم نبح إلا ما أباح فقط، ولم نتعده، وإن وجدناه موافقا لجملة تقدمته، أبحنا ما أباح ذلك الخطاب، وأبحنا أيضا ما أباحته الجملة الشاملة له ولغيره معه، أو حظرنا ما حظره لك الخطاب، وحظرنا أيضا ما حظرته الجملة الشاملة له ولغيره معه، ولم نسقط من أجل ذلك الشرط شيئا مما هو مذكور في الجملة الشاملة له ولغيره، وهذا هو مفهوم الكلام في الطبائع في كل لغة من لغات بني آدم - عربهم وعجمهم - ولا يجوز غير ذلك.
وقد ذكرنا في باب الاخبار من كتابنا هذا بيان هذا العمل، ونظرناه بمسائل جمة، ولكن لا بد لنا أيضا ههنا من تشخيص شئ من ذلك ليتم البيان بحول الله وقوته، فليس كل أحد يسهل عليه تمثيل مسائل تقضيها الجملة التي ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
وليس قولنا آنفا: تقدمته جملة بمعنى تقدم وقت النزول، فليس لذلك عندنا معنى إلا في النسخ وحده، وإلا فالقرآن والحديث كله عندنا ككلمة واحدة،
وكأن نزل معا، لوجوب طاعة جميع ذلك علينا، وإنما نعني بقولنا: تقدمته أي عمت ذلك الخطاب وغيره معه، ولكن لما كنا نجعل تلك الجملة مقدمة يستثنى منها ذلك النص أو نضيفه إليها على معنى البيان لها: سمينا ورودها من أجل ما ذكرنا تقدما.

(7/906)


قال أبو محمد: فمما ذكرنا قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * الجملة المتقدمة لهذا الشرط هي أمره تعالى باستعمال الماء فرضا على كل حال لمن أراد الصلاة الواجبة أو التطوع، فإن تيمم مع وجود الماء والصحة ولم يستعمل الماء كان عاصيا، لانه لم يأت بما أمر به، ولانه لم يستعمل ما أمر باستعماله في غسل أعضائه المذكورة في آية الوضوء والغسل، فإن تيمم مع وجود الماء والصحة واستعمل الماء أيضا، كان متكلفا لم يؤمر به، والمتكلف لذلك إن سلم من سلم من الاسم لم يسلم من الفضول وسوء الاختيار، وقد أمر الله تعالى فيه (ص) أن يقول * (وما أنا من المتكلفين) * فإن اعتقد وجوب التيمم مع استعمال الماء في حال الصحة ووجود الماء كان عاصيا كافرا، لاعتقاده ما لا خلاف أنه لم يؤمر به وزيادته في الدين وتعديه حدود الله تعالى، فلما بطلت هذه الوجوه كلها لم يبق إلا استعمال التيمم عند عدم الماء المقدور عليه في السفر وعند المرض.
وهكذا القول في قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * إلى منتهى قوله (لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم) * قال أبو محمد: فنظرنا هل نجد جملة متقدمة لاباحة نكاح الفتيات المؤمنات بالزواج، فوجدنا قبلها متصلا بها ذكر ما حرم الله تعالى من النساء من قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * إلى منتهى قوله: * (والمحصنات من النساء) * فحرم الله تعالى بهذا
النص كل محصنة، والاحصان يقع على معان، منها العفة، ومنها الزوجية، ومنها الحرية، فلم يجز لنا إيقاع لفظة * (ة على بعض ما يقع تحتها دون بعض، بالبراهين التي ذكرنا في باب العموم، فحرم بقوله تعالى: كل عفيفة من أمة أو حرة، وكل حرة، وكل ذات زوج، وقد حرم الزواني من الاماء والحرائر بقوله تعالى: * (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) * فحرمت كل امرأة في الارض بهذين النصين إلا ما استثنى من ذلك بنص أو إجماع.
ثم قال تعالى متصلا بالتحريم المذكور غير مؤخر لبيان مراده تعالى: * (الا ملكت

(7/907)


أيمانكم) * فأباح تعالى ما شاء مما ملكت أيماننا، وليس في هذا إباحة الزواج، ثم زادنا تعالى بيانا متصلا فقال: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) * فاستثنى تعالى الزواج أيضا بالاباحة المذكورة.
والعمل في هذا يكثر إلا أن اختصار القول والغاية في ذلك قول الله تعالى: * (خلق لكم ما في الارض جميعا) * فهذه آية لو تركنا وظاهرها، لكان كل ما خلق الله تعالى في الارض حلالا لنا، لكن حرم الله تعالى أشياء مما في الارض فكانت مستثناة من جملة التحليل، فمن ذلك قوله تعالى: * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظن فروجهن) * مع الآية التي تلونا آنفا من قوله تعالى في آية التحريم: * (والمحصنات من النساء) * فلو تركنا وهذين النصين لحرم النساء كلهن وكن مستثنيات من جملة التحليل.
ثم قال تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * فاستثنى الله عزوجل من جملة النساء المحرمات، الازواج وملك اليمين، فلو تركنا وهذه الآية
لحلت كل امرأة بالزواج خاصة، وبملك اليمين فقط، لا بالزنى من أم أو إبنة أو حريمة، لان المتزوجات والمملوكات بعض النساء وكانت هذه الآية موافقة لقوله تعالى: * (فأنكحوا ما طاب لكم من النساء) * ولقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * ولا فرق بين شئ من هذه الآيات، ثم قال تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) * إلى منتهى قوله: * (وأن تجمعوا بين الاختين) * وقال تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) * وقال تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * وقال تعالى: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) *.
وحرم النبي (ص) الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وحرم بالرضاعة ما يحرم من النسب، وحرم النص فعل قوم لوط، ونكاح الزواني ونكاح الزناة للمسلمات، وحرم بالاجماع والنص بقوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * إلى قوله تعالى: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * ووطئ البهائم، والمشركة، وبدليل النص أيضا، فكان كل ما ذكرنا مستثنى مما أبيح

(7/908)


من النساء بالزواج وملك اليمين، لان ما في هذه النصوص أقل مما ذكر في آية إباحة الازواج وملك اليمين.
وقال تعالى: * (اليوم أحل لكم الطيبات) * إلى قوله عزوجل: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) * فاستثنى تعالى الكتابيات بالنكاح خاصة، وهذا يقع على الاماء منهن والحرائر وبقيت الامة الكتابية حراما وطؤها بملك اليمين خاصة، وبقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * ولما يأت في شئ من النصوص ما يبيحها.
ثم نظرنا في قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * فوجدناه تعالى إنما ذكر في هذه الآية إباحة نكاح الامة لمن لم يجد طولا، وخشي العنت وبقي حكم واحد الطول الذي لا يخاف العنت فلم نجده تعالى ذكر في هذه الآية إباحة ولا تحريما عليه، فرجعنا إلى سائر الآي فوجدناه تعالى قد أباح نكاح الاماء المؤمنات لكل مسلم، ولم يخص فقيرا من غني، ولا من عنده حرة ممن ليست عنده حرة، بقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * فكان للعبد مباحا أن ينكح حرة وأمة، وللحر أيضا كذلك ولا فرق وكذلك الامة الكتابية نكاحها للمسلم حلال بقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) * وهذا قول عثمان البتي وغيره.
والعجب من الحنفيين في منعهم الزكاة عن غير السائمة بذكره (ص) السائمة في حديث أنس وإباحتهم ههنا نكاح الامة المسلمة لمن وجد طولا لحرة مسلمة فهلا سألوا أنفسهم عن الفائدة في ذكره تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) * كما سألوا هناك عن الفائدة في ذكر السائمة ؟ ولكن هكذا يكون من اتبع رأيه وقياسه وهواه المضل.
والعجب من المالكيين في عكسهم ذلك فقالوا: ليس في قوله (ص) (في السائمة) ما يوجب أن يسقط الزكاة من غير السائمة، وقالوا ههنا: ذكره تعالى عادم الطول والامة المؤمنة موجب التحريم الامة الكتابية ثم في الوقت أباحوا الامة المؤمنة لواجد الطول.

(7/909)


قال أبو محمد: فكلا الفريقين تناقض كما ترى، وحرم بعضهم نكاح الامة المؤمنة على واجد الطول بحرة كتابية وليس هذا في نص الآية أصلا، وإنما منع من منع من ذلك قياسا للكتابية على المسلمة، وقد أكذب الله تعالى هذا القياس الفاسد
بقوله: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ئ ما لكم كيف تحكمون) * فلو كان القياس حقا لكان ههنا باطلا، وإذا قاسوا واجد الطول للحرة الكتابية على واجد الطول للحرة المسلمة، ولم ينص تعالى إلا على واجد الطول للحرة المسلمة فقط، فهلا فعلوا مثل ذلك، فقاسوا إباحة الامة الكتابية بالنكاح لعادم الطول لحرة وخائف العنت على إباحة الامة المؤمنة لخائف العنت وعادم الطول كما فعلوا في التي ذكرنا قبل ؟.
قال أبو محمد: وهذا مما تركوا فيه القول بدليل الخطاب، لانه كان يلزمهم على أصلهم أن يقولوا: إن ذكره تعالى: المحصنات المؤمنات دليل على أن الكافرات بخلافهن، ولكن أكثرهم لم يفعلوا ذلك فنقضوا أصلهم في دليل الخطاب.
ونحن وإن وافقنا أبا حنيفة في بعض قوله ههنا، فلسنا ننكر اتفاقنا مع خصومنا في هذه المسائل، وقد يجتمع المصيب والمخطئ في طريقهما الذي يطلبانه، أحدهما بالجد والبحث والعلم بيقين ما يطلب، والثاني بالجد والبحث والاتفاق، وغير منكر أن يخرجهم الرؤوف الرحيم تعالى إلى الغرض المطلوب وإن تعسفوا الطريق نحوه، ولكنهم مع ذلك تحكموا بلا دليل أصلا فقالوا: من كانت عنده حرة فحرام عليه نكاح الامة، وهذا قول ليس في النص ما يوجبه أصلا، وقولنا في هذا هو قول عثمان البتي وغيره.
وقد روي عن مالك إجازة نكاح الامة على الحرة إذا رضيت بذلك الحرة، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه نكاح المسلمة والكتابية لواجد طول لحرة مسلمة، وإن لم يخش العنت إذا لم تكن عنده حرة، فيؤخذ من قول كل واجد ما أصاب فيه، فبان بما ذكرنا تحليل الله تعالى حرائر أهل الكتاب وإماءهم في الزواج، وبقي ما ملكت منهن على التحريم لبراهين ذكرناها في باب الاخبار من كتابنا هذا.
ويقال لهم: إنكم منعتم من نكاح الامة الكتابية، وقلتم: ليست كالامة المسلمة فنقيسها عليها، وقد تناقضتم فأبحتم نكاح الحرة الكتابية لواجد طول لحرة مسلمة
وإن لم يخف عنتا، وحرمتم عليه نكاح الامة المسلمة حتى أن بعضهم قال: إن

(7/910)


من وجد طولا لحرة كتابية لم يحل له نكاح الامة المسلمة وحتم أن بعضهم لم يقتل الحر الكتابي المسلم، ولا خلاف بين مسلمين أن الامة المسلمة خير عند الله عزوجل وعند كل مسلم من كل حرة كتابية كانت في الدنيا أو تكون إلى يوم البعث.
فإن قالوا: فأي معنى أو أي فائدة في قصد الله تعالى بالذكر في الآية المذكورة آنفا عادم الطول وخائف العنت والمحصنة المؤمنة والامة المؤمنة إذا كان واجد الطول وآمن العنت والامة الذمية والمحصنة والكافرة سواء في كل ذلك ؟.
قال أبو محمد: فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق: هذا سؤال إلحاد، وقد ذكر الله تعالى في بعض الآيات التي تلونا بعض ما ذكره في غيرهن، فلم يكن ذلك متعارضا، وقد قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله) * وليس تخصيصه الذين آمنوا بالذكر ههنا موجبا أن طاعة الله عزوجل لا تلزم الذين كفروا، بل هي لازمة للكفار كلزومها للمؤمنين ولا فرق وقد ذكرنا طرقا من هذا في باب الاخبار وفي باب العموم من كتابنا هذا.
قال أبو محمد: وكذلك قوله تعالى: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * وهم كلهم قد وافقونا على أن كل من لم يخف أيضا ألا يعدل فمباح له الاقتصار على واحدة وعلى ما ملكت يمينه، فتركوا ههنا مذهبهم في دليل الخطاب، وكان يلزمهم ألا يبيحوا الواحدة فقط إلا لمن خاف ألا يعدل.
فإن قالوا: إن ذلك إجماع، قيل لهم: قد أقررتم أن الاجماع قد صح بإسقاط قولكم في دليل الخطاب.
ويقال لهم: سلوا أنفسكم ههنا فقولوا: أي فائدة وأي معنى لقصد الله تعالى
بالذكر من خاف أن يعدل ؟ كما قلتم لنا: أي فائدة، وأي معنى لقصد الله تعالى بالذكر لمن خاف العنت وعدم الطول ؟ وهذا ما لا انفكاك منه، والحمد لله.
فإن قالوا: فهلا قلتم مثل هذا في قوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) * وقوله تعالى أيضا: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) * وقوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * فتوجبوا إباحة الصيام من وجد الرقبة والهدي ؟ قلنا: لا سواء، والاصل أنه لا يلزمنا صيام فرض أصلا إلا ما أوجبه نص، كما أن

(7/911)


الاصل إباحة نكاحة الاماء بقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * وقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * فلم نوجب الصوم فرضا إلا حيث أوجبه النص، وأحللنا النكاح في كلتا الآيتين لانهما معا نص واجب وطاعته.
وأيضا فإن حكم واجد الرقبة في كفارة الوطئ، وواجد النسك من الهدي في التمتع، وواجد الغنى في الاطعام والكسوة، والرقبة في كفارة اليمين، منصوص على لزوم كل ذلك لهم، فلو صام كان عاصيا لله عزوجل تاركا لما نص على وجوبه عليه، وليس كذلك واجد الطول وآمن العنت، لانه لا نص على منعه من نكاح الاماء أصلا، لا في نص ولا في إجماع فبين الامرين أعظم الفرق.
وقد ذهب بعضهم - وهو أبو يوسف - إلى المنع من صلاة الخوف على ما جاءت به الروايات، ولقوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * قال: فدل ذلك على أنه (ص) إذا لم يكن فينا لم نصل كذلك.
قال أبو محمد: فأول ما يدخل عليه أنه لا يلزمه ألا يأخذ الائمة زكاة من أحد، لان الله تعالى قال: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * فإنما خوطب بذلك
النبي (ص) كما خوطب بتعليمه كيفية صلاة الخوف ولا فرق فقد ظهر تناقضه.
وأيضا فإن قول النبي (ص): صلوا كما رأيتموني أصلي ملزم لنا أن نصلي صلاة الخوف وغير صلاة الخوف كما رئي (ص) يصليهما، وكذلك قوله (ص): أرضوا مصدقيكم وقوله (ص) في كتابه الزكاة: فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فرقها فلا يعط موجب لاخذ الائمة الزكاة بإرسال المصدقين، وبالله تعالى التوفيق.

(7/912)


فصل من هذا الباب قال أبو محمد: كل لفظ ورد بنفي ثم استثني منه بلفظة إلا أو لفظة حتى فهو غير جار إلا بما علق به، مثل قول رسول الله (ص): لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ.
ومثل: لا صلاة إلا بأم القرآن ولا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وهذا هو المفهوم من الخطاب بالضرورة، لانه نفى قبول الصلاة إلى أن يتوضأ، ووجب قبولها بعد الوضوء بالآية التي فيها: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * وبالحديث: من توضأ كما أمر ونفى الصلاة إلا بأم القرآن وأثبتها بأم القرآن، لانه لا بد لكل مصل من أن يقرأ أم القرآن أو لا يقرؤها.
ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلا بوجه من الوجوه، والصلاة فرض، فلما لم يكن بد من الصلاة ولم يكن فيها بد من قراءة أم القرآن أو ترك قراءتها، وكان من لم يقرأها ليس مصليا، فمن قرأها فيها فهو مصل بلا شك، وفرض على كل مسلم بالغ أن يصلي كما أمر، ففرض عليه أن يقرأ أم القرآن وهذا برهان ضروري قاطع.
وكذلك نفيه (ص) القطع جملة، ثم أوجبه مستثنى في ربع دينار فصاعدا إلا أن هذا لو لم يتقدم فيه نص أو إجماع لم قطعنا إلا في الذهب فقط.
ولكن لما قال تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * وقال رسول الله (ص): لعن
الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده وأجمعت الامة على أن حديث ربع دينار لم يقصد به (ص) إبطال القطع في غير الذهب وجب علينا أن نستعمل الآية على عمومها، فلا يخرج منها إلا سارق أقل من ربع دينار ذهب فقط.
فمن سرق أقل من ربع دينار ذهب فلا قطع عليه، ومن سرق من غير الذهب شيئا، قل أو كثر، أي شئ كان له قيمة وإن قلت، فعليه القطع بالآية والحديث الذي فيه: لعن الله السارق.
قال أبو محمد: ومن أبى هذا فإنما يلجأ أن يقول: المراد بقوله (ص) في ذكره ربع الدينار إنما عنى القيمة.
قال أبو محمد: وهذه دعوى لا دليل عليها، وأن من ظن النبي صلى الله عليه

(7/913)


وسلم سها عما تنبه له هذا المتعقب فقد عظم غلطه * (وما كان ربك نسيا) * وليت شعري أي شئ كان المانع لرسول الله (ص) أن يقول: لا قطع إلا في قيمة ربع الدينار فصاعدا، فيكشف عنا الاشكال، وقد أمره ربه تعالى بالبيان والذي نسبوه إلى رسول الله (ص) من أنه أراد القيمة ولم يبينها فإنما هو تلبيس لا بيان، وقد أعاذ الله تعالى من ذلك.
والحديث الذي فيه ذكر القيمة ليس فيه بيان بأن القطع من أجل القيمة، فليس لاحد أن يقول: إن التقويم كان من أجل القطع، إلا كان لآخر أن يقول: بل لتضمين السارق ما جنى في ذلك.
قال أبو محمد: ثم يقنعوا إلا بأن نسبوا إلى الذي وصفه ربه تعالى بأنه رؤوف بنا رحيم، وأنه عزيز عليه ما عنتنا، إنه زادنا تلبيسا بقوله (ص): لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده إنه إنما في بيضة الحديد التي يقاتل بها، وأنه (ص) عنى حبلا مزينا يساوي ربع دينار، هذا مع أنها دعاوى بارية
عارية من الادلة، فهي أيضا فاسدة، لانه (ص) لم يرد بهذا عذر السارق وكيف يريد عذره وهو يلعنه ؟ وإنما أراد (ص) شدة مهانة السارق ورذالته وأنه يبيح يده فيما لا خطب له من بيضة أو حبل، وهذا الذي لا يعقل سواه.
ولهم من مثل هذا، ما ينسبونه إلى مراد الله تعالى ومراد رسوله (ص) غثائث جمة يوقرون أنفسهم عن مثلها، فمن ذلك ما ينسبون إلى الآية التي في الوصية في السفر أن قول الله تعالى: * (وآخران من غيركم) * أي من غير قبيلتكم، وهذا من الهجنة بحيث لا يجوز أن ينسب إلى من له أدنى معرفة باللغة ومجاري الكلام، فكيف بخالق الكلام والبيان ؟ لا إله إلا هو.
ومن ذلك قول بعض المالكيين في قوله (ص): للذي خطب المرأة وهو لا شئ معه: التمس ولو خاتما من حديد قال هذا القائل: إنما كلفه عليه السلام خاتما مزينا مليحا يساوي ربع دينار.

(7/914)


وهذا وهم يسمعون كلام الرجل أنه لا يملك إلا إزاره فقط، وأنه لا يقدر على حيلة، فيقول له (ص): ولو خاتما من حديد أفيسوغ عن عقل من له مسكة أن يظن أن رسول الله (ص) يكلف من هذه صفته خاتما بديعا يساوي ربع مثقال ؟ وهذا مع ما فيه من الافتراء على رسول الله (ص) والكذب عليه، فقول مفضوح ظاهر العوار، لانه لم يكن بلغ عن غلاء الحديد بالمدينة، ومنه مساحيهم ومناحلهم لعمل النخل، ودروعهم للقتال، أن يساوي خاتم منه قريبا من وزنه من الذهب، ولو نطقت بهذا مخدرة غريرة لاضحكت بقولها، وبالله عزوجل نستعين.
قال أبو محمد: وقد اعترض بعض الحنفيين على قوله (ص): لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فقال: هذا اللفظ لا يوجب قطعا في الربع دينار.
قال أبو محمد: وهذه قحة ظاهرة، ومجاهرة لا يرضاها لنفسه من في وجهه حياء وهو بمنزلة من قال: * (حرمت عليكم الميتة) * أن هذا اللفظ لا يوجب نهيا ولا منعا ومن قال في مثل هذا أن هذا الخطاب لا يوجب القطع في ربع دينار وأن لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن ان لا يوجب القراءة ثم قال في الاوامر انها غير لازمة وانها على الندب ثم قال في الالفاظ انها على الخصوص ثم قال في الكلام أنه ليس على ظاهره ثم ترك النص فلم يحكم به ثم أتى إلى أشياء لم تنص فحرمها وأحلها برأيه فما نعلم أحدا ولا الحلاج ولا الغالية من الروافض أشد كيدا للاسلام منه وأما الجاهل فهو معذور وأما من قامت عليه الحجة فتمادى فهو فاسق بلا شك وسيرد فيعلم وما توفيقنا الا بالله.
فإن قال قائل ان هذا مثل قوله عليه السلام لا إيمان لمن لا أمانة له قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا على ظاهره ونعم لا إيمان اصلا لمن لا امانة له ولا يجوز ان نخص بذلك امانة دون امانة والاسلامك هو الامانة التى عرضها الله تعالى على السماوات والارض وقبول الشرائع فمن عدم هذه الامانة التى هي بعض

(7/915)


الامانات فلا إيمان له ومن قيل فيه لا أمانة له فهو محمول على كل أمانة لا على بعضها دون بعض.
وأما قوله (ص): لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه فكذلك نقول: إن الفعل المذموم منه ليس إيمانا، لان الايمان هو جميع الطاعات، والمعصية إذا فعلها فليس فعله إياها إيمانا، فإذا لم يفعل الايمان فلم يؤمن، يعني في تركه ذلك الفعل خاصة، وإن كان مؤمنا بفعله للطاعات في سائر أفعاله، وقد بينا هذا في كتاب الفصل والايمان هو الطاعات كلها، وليس التوحيد وحده إيمانا فقط، فمعنى: لا إيمان له أي لا طاعة، وكذلك إذا عصى فلم يطع، وإذا لم يطع فلم يؤمن،
وليس يلزمنا أنه إذا لم يؤمن في بعض أحواله أنه كفر، ولا أنه لا يؤمن في سائرها لكن فإن قال: أنه إذا لم يطع فلم يؤمن في الشئ الذي عصى به وآمن فيما أطاع فيه فإن قال يلزمكم بهذا أن تقولوا: إنه مؤمن لا مؤمن، قلنا نعم، هو مؤمن بما آمن به، غير مؤمن فيما لم يؤمن به، وهذا شئ يعلم ضرورة، ولم نقل إنه مؤمن لا مؤمن على الاطلاق، وهكذا يلزم خصومنا في مسئ ومحسن ولا فرق.
فإن قلتم: من أحسن في جهة وأساء في أخرى فهو مسئ عاص فيما أساء فيه، ومحسن طائع فيما أحسن فيه، أفترى يلزمكم من هذا أن تقولوا: هو عاص طائع ومحسن مسئ على الاطلاق ؟ ونحن لا نأبى هذا إذا كان من وجهين مختلفين ولا نعيب به أحدا.
وأما من قال: لا صلاة لمن لم يقرأ و: لا صيام لمن لن يبيته من الليل إنما معناه لا صلاة كاملة، فهذه دعوى لا دليل عليها، وأيضا فلو صح قولهم لكان عليهم لا لهم، لان الصلاة إذا لم تكن كاملة فهي بعض صلاة، وبعض الصلاة لا تقبل إذا لم تتم، كما أن صيام بعض يوم لا يقبل حتى يتم اليوم، فإن قال: إنما معناه أنها صلاة كاملة، إلا أن غيرها أكمل منها، فهذا تمويه، لان الصلاة إذا تمت بجميع فرائضها فليس غيرها أكمل منها في أنها صلاة، ولكن زادت قراءته وتطويله الذي لو تركه لم يضر، ولا سميت صلاته دون ذلك ناقصة، وقد أمر تعالى بإتمام الصيام وإقامة الصلاة، فمن لم يقمها ولا أتم صيامه فلم يصل ولا صام، لانه لم يأت بما أمر به، وإنما فعل غير ما أمر به، والناقص غير التام.
وقد قال (ص): من عمل

(7/916)


عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وليس هذا مما يكتفى به في إقامة الصلاة وإتمام الصيام فقط، لكن كل ما جاءت به الشريعة زائد أبدا ضم إلى هذا.
ومن العجب العجيب أن قوما لم يبطلوا الصلاة بما أبطلها به (ص)
من عدم القراءة لام القرآن، ومن ترك إقامة الاعضاء في الركوع والسجود، ومن فساد الصفوف، وأبطلوها بما لم يبطلها به الله تعالى ولا رسوله (ص) من وقوف الامام في موضع أرفع من المأمومين، ومن اختلاف نية الامام والمأموم.
ثم فعلوا مثل ذلك في الصيام، فلم يبطلوه بما أبطله به الله تعالى، من عدم النية في كل ليلة، ومن الغيبة والكذب، ثم أبطلوه بما لم يبطله به الله تعالى، من الاكل ناسيا، ومن الحقنة، ومن الكحل بالعقاقير، فقلبوا الديانة كما ترى، وحرموا الحلال، وأحلوا الحرام وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، وإياه نسأل التوفيق، لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: وكذلك نقول في حديث أبي ذر رضي الله عنه فيما يقطع الصلاة فذكر الكلب الاسود وأنه سأل النبي (ص): ما بال الاسود من الاحمر من الاصفر من الابيض ؟ فقال (ص): الكلب الاسود شيطان فليس في هذا الحديث أن سائر الكلاب لا تقطع الصلاة ولا أنها تقطع، فلما ورد حديث أبي هريرة عن النبي (ص): تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب كان هذا عموما لكل كلب، وهو قول أنس وابن عباس وغيرهما.
ومن أنكر هذا علينا من الشافعيين والمالكيين فليتفكروا في قولهم في قول النبي (ص): ومن تولى رجلا بغير إذن مواليه فيلزمهم أن يبيحوا له تولي غير مواليه بإذنهم وهذا قول عطاء وغيره وهم يأبون ذلك، ومثل هذا من تناقضهم كثير.

(7/917)


فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد: والمفهوم من الخطاب هو أن التأكيد إذا ورد فإنه رفع للشغب وحسم لظن من ظن أن الكلام ليس على عمومه، وقد ضل قوم في قوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * فقالوا: إن حملة العرش ومن غاب عن ذلك
المشهد لم يسجد.
قال أبو محمد: ويكفي من إبطال هذا الجنون قوله تعالى: * (مآ أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) * فليت شعري من أين استحلوا أن يقولوا إن أحدا من الملائكة لم يسجد مع قوله تعالى: * (كلهم أجمعون إلا إبليس) * ومثل هذا من الاقدام يسئ الظن بمعتقد قائله، إذ ليس فيه إلا رد قول الله تعالى بالميت.
وقد رام بعض الشافعيين أن يجعل قول الله تعالى: * (من استطاع إليه سبيلا) * بعد قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * من استطاع إليه على معنى أن ذلك ليس بيانا للذين ألزموا الحج، ولا على أنه موافق لقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وقال: إن هذا خطاب فائدة أخرى، موجب أن الاستطاعة من غير قوة.
قال أبو محمد: ولسنا نأبى أن تكون الاستطاعة أيضا شيئا غير القوة للجسم، لكنا نقول: إن الاستطاعة كل ما كان سببا إلى تأدية الحج، من زاد وراحلة أو قوة جسم، ولا نقول كما قال المالكيون: إن الاستطاعة هي قوة الجسم فقط، وإن من عدمها وقدر على زاد وراحلة فهو غير مستطيع، ولا كما قال الشافعيون: إنما الاستطاعة إنما هي الزاد والراحلة فقط، وأن قوة الجسم ليست استطاعة، بل نقول: إن قوة الجسم دون الراحلة استطاعة، وإن الزاد والراحلة وإن كان واجدهما مقعد الرجلين مبطل اليدين أعمى، أنه مستطيع بماله، حملا للآية على عمومها مع شهادة قول الله تعالى وحديث النبي (ص) لصحة قولنا يعني حديث الخثعمية، وقوله تعالى: * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) *.
قال أبو محمد: وقد ذكرنا فيما خلا أن النبي (ص) إذا سئل عن شئ فأجاب، أن ذلك الجواب محمول على عموم لفظه لا على ما سئل عنه عليه السلام فقط، لانه عليه السلام إنما بعث معلما، فلا فرق بين ابتدائه بأمر

(7/918)


وتعليم، وبين جوابه عما سئل، ومخبرا أيضا عما لم يسأل عنه.
فإن قال قائل: فاحملوا قوله (ص): الخراج بالضمان على عمومه فاجعلوا الخراج للغاصب بضمانه، قيل له وبالله تعالى التوفيق: الحديث في ذلك لا يقوم بمثله حجة، لانه عن مخلد بن خفاف، وعن مسلم بن خالد الزنجي وكلاهما ليس قويا في الحديث، وأيضا فلو صح لمنع من حمله على الغاصب قوله عليه السلام من الطريق المرضية: ليس لعرق ظالم حق.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن محمد بن إسحاق، عن ابن الاعرابي، عن سليمان ابن الاشعث، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، هو الثقفي، حدثنا أيوب، هو السختياني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد عن رسول الله (ص).
قال أبو محمد: فخص هذا الحديث الظالمين من جملة الضامنين، فنفى الخراج للمشتري بحق، وأيضا فقوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * مانع من أكل مال بغير حق جملة، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أمر (ص) بالبيان فلفظه كله، جوابا كان أو غير جواب، محمول على عمومه، فإن لم يعط الجواب عموما غير ما سئل عنه لم يحمل على ما سواه حينئذ، كما أفتى (ص) الواطئ في رمضان بالكفارة، فوجب ألا يجعل على غير الواطئ لانه ليس في لفظه (ص) ما يوجب مشاركة غير الواطئ للواطئ في ذلك، وكذلك أمره (ص) لمن أساء الصلاة، أو صلى خلف الصفوف منفردا بالاعادة، أمر لمن فعل مثل ذلك الفعل، وحكم في ذلك الفعل متى وجد، وأمره (ص) بغسل المحرم أمر في كل ميت في حال إحرام، وذكره (ص) أو ذكر ربه تعالى المسجد الحرام حكما في المسجد الحرام أنه لا يشركه فيه غيره، لانه ليس ههنا مسجد حرام غيره، وليس ولكل لفظ إلا
مقتضاه ومفهومه فقط، وكذلك قوله (ص): الائمة من قريش حكم في قريش لا يشاركهم فيه غيرهم، ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض، إلا من منع منه إجماع، من امرأة أو مجنون أو من لم يبلغ، وكذلك حب الانصار فضل في

(7/919)


جميع الانصار لا يعدوهم إلى غيرهم، ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض.
وكذلك ذو القربى وكذلك فضل أبي بكر لا يشركه فيه غيره، وكذلك فضل علي لا يشركه فيه غيره، لان الحكم على الاسماء، فكل اسم مسماه لا يعدي به إلى غيره، ولا يبدل منه غيره، ولا يقتصر به على بعض مسماه دون بعض ولا في الاحوال دون بعض.
فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد: قد أو عينا، بحول خالقنا تعالى لا بحولنا، الكلام في كل ما شغبوا به، وأبنا حل شكوكهم جملة، ثم نأتي بالبراهين المبطلة لدعواهم في ذلك إن شاء الله عزوجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يقال لهم: أرأيتم قول الله عزوجل: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * أفيه إباحة أن يقرب مال من ليس يتيما بغير التي هي أحسن ؟ فإن قالوا: لا، ما فيه إباحة لذلك تركوا قولهم الفاسد إن ذكر السائمة دليل على أن غير السائمة بخلاف السائمة، ولا فرق بين ذكره (ص) السائمة في موضع، والغنم جملة في موضع آخر، وبين قوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * في مكان ثم قال في آخر: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) *، وكذلك لا فرق بين من قال: إن الحديث الذي فيه ذكر السائمة بيان للحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة، وبين من قال: إن ذكر مال اليتيم في الآية بيان للاموال المحرمة، ويعلم أن المراد بها مال اليتيم خاصة.
ويقال لهم: أترون قول الله تعالى: * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والارض منهآ أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * مبيحا للظلم في سائر الاشهر غير الحرم ؟ أو ترون قوله تعالى: * (الملك يومئذ لله) * مانعا من أن يكون الملك في غير يومئذ لله ؟ وكذلك قوله تعالى: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء إن أردن تحصنا) * أتراه مبيحا للبغاء إن لم يردن تحصنا.
وكذلك قوله تعالى: * (ولكن لا تواعدوهن سرا) * أتراه مبيحا لمواعدتهن في العدة جهرا وكذلك قوله تعالى: * (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) * أتراه مانعا من لعن من كفر من غير بني إسرائيل، وكذلك قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر

(7/920)


وطعامه متاعا لكم) * أتراه مانعا من أكل الثمار والحبوب وما ليس من صيد البحر ولا طعامه كما قال المالكيون إن قوله تعالى: * (لتركبوها وزينة) * مانع من أكل الخيل إذ لم يذكر الاكل، وإذا عارضوا بهذه الآية الحديث الذي فيه إباحة للخيل فهلا عارضوا بالآية التي ذكرنا إباحة كل ما اختلف فيه فحرموه بها.
ويقال لهم أترون قوله (ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها مسقطا لقتلهم إن جحدوا نبوة موسى وعيسى عليهما السلام ؟.
ويقال لهم: لو كان قولكم حقا إن الشئ إذا علق بصفة ما، دل على أن ما عداه بخلافه، لكان قول القائل: مات زيد كذبا، لانه كان يوجب على حكمهم أن غير زيد لم يمت، وكذلك زيد كاتب، وكذلك محمد رسول الله (ص) إذا كان ذلك يوجب ألا يكون غيره رسول الله، ويلزمهم أيضا، إذ قالوا بما ذكرنا، أن يبيحوا قتل الاولاد لغير الاملاق، لان الله تعالى إنما قال: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * ويلزمهم في قوله تعالى: * (ولا تشتروا بآياتي
ثمنا قليلا) * إن ذلك مبيح لان يشترى بها ثمن كثير.
فلما تركوا مذهبهم في كل ما ذكرنا، وكان قول القائل: مات زيد وزيد كاتب ومحمد رسول الله (ص) ومسيلمة كذاب، حقا ولم يكن في ذلك منع من أن غير زيد قد مات، وأن غير زيد كتاب كثير، وأن موسى وعيسى وإبراهيم رسل الله، وأن الاسود العنسي والمغيرة الجلاح وبناتا كذابون، بطل قول هؤلاء القوم إن الخطاب إذا ورد بصفة ما وفي اسم ما أو في زمان ما أن ما عداه بخلاف.
ولا يغلط علينا من سمع كلامنا هذا، فيظن أننا إذ أنكرنا قولهم: إن غير المذكور بخلاف المذكور، إننا نقول: إن غير المذكور موافق للمذكور، بل كلا الامرين عندنا خطأ فاحش، وبدعة عظيمة، وافتراء بغير هدى.
ولكنا نقول: إن الخطاب لا يفهم منه إلا ما قضي لفظه فقط، وأن لكل قضية حكم اسمها فقط، وما عداه فغير محكوم له، لا بوفاقها ولا بخلافها لكنا نطلب دليل ما عداها من نص وارد اسمه، وحكم مسموع فيه، أو من إجماع، ولا بد من أحدهما، وبالله تعالى التوفيق.

(7/921)


فصل في عظيم تناقضهم في هذا الباب قال أبو محمد: وبالجملة فإن مذهبهم في القياس، ومذهبهم في دليل الخطاب ومذهبهم في الخصوص، مذاهب يبطل بعضها بعضا ويهدم بعضها بعضا، وذلك أنهم قالوا في القياس: إذا نص على حكم ما فنحن ندخل ما لا ينص عليه في حكم المنصوص عليه، ونتبع السنة ما لا سنة فيه، فإذا أوجب الربا في البر بالبر أوجبناه نحن في التبن بالتبن، وإذا وجبت الكفارة، على العامد في الصيد أوجبناه نحن على المخطئ، وقالوا في دليل الخطاب: إذا نص على حكم ما فنحن نخرج
ما لم ينص عليه من حكم المنصوص عليه، ولا نتبع السنة ما لا سنة فيه.
فقالت طوائف منهم لا نزكي غير السائمة، لانه ذكرت السائمة في بعض الاحاديث.
وقالت طائفة منهم: لا نأكل الخيل، لانه إنما ذكر في الآية الركوب والزينة.
وقالت طوائف منهم: لا نقضي بالمتعة إلا التي طلقت ولم تمس ولا فرض لها لان هذه قد ذكرت بصفتها في بعض الآيات.
قال أبو محمد: وهذا ضد قولهم في القياس وإبطاله.
وقالوا في الخصوص: لا نقضي لجميع ما اقتضاه النص، لكن نخرج منه بعض ما يقع عليه لفظ، فقالوا في قوله تعالى: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت) * إنما عنى الذكر من الاولاد دون الاناث.
وقالوا في قوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *: إنما عنى من الاحرار لا من العبيد، ومن الاباعد لا من الاخوة والآباء والابناء والازواج.
وقالوا في قوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * وفي قوله تعالى: * (والجروح قصاص) * لا قصاص من جرح إلا من الموضحة فقط ولا قصاص من متلف ولا من لطم ولا من نتف شعر.
قال أبو محمد: وهذا مذهب يبطل قولهم في القياس وفي دليل الخطاب معا ونحن نرى إن شاء الله تعالى تناقضهم في مذاهبهم هذه في مسألة واحدة.

(7/922)


روى المالكيون حديث القطع في ربع دينار، فقالوا: لا يستباح فرج زوجة بأقل من ربع دينار، قياسا على ما يقطع فيه يد السارق، وذكر ربع الدينار في القطع موجب ألا يكون الصداق أقل منه، ثم قالوا: لا يقطع المستعير لانه ليس سارقا، وذكر الله تعالى السارق موجب ألا يقطع من ليس سارقا.
ثم قالوا: من سرق شيئا فأكله قبل أن يخرج من حرزه، وإن كان يساوي دنانير، فلا قطع عليه، فخصوا بالقطع بعض السراق دون بعض.
وكذلك فعل الحنفيون سواء بسواء، إلا أنهم قالوا: لا يقطع سارق لحم ولا مصحف ولا فاكهة ولا زرنيخ.
وروى محمد بن المغيرة المخزومي عن مالك: أن الاناء يغسل من ولوغ الخنزير سبعا، قياسا على الحديث الوارد في الكلب، ثم قالوا: لا يغسل من لعاب الكلب ثوب ولا جسد، لانه إنما ذكر في الحديث الاناء ولم يذكر غيره، ثم روى ابن القاسم عنه أنه قال: لا يهرق الاناء إلا أن يكون فيه ماء وأما غير الماء فلا يضره ولوغ الكلب.
وأما الشافعيون فأتوا إلى آية الظهار فقاسوا على الام والاخت، وقالوا: ذكر الله تعالى الام دليلا على أن الاخت مثلها، ثم قالوا: ذكر الله تعالى المظاهر دليل على أن المرأة إذا ظاهرت من زوجها بخلاف ذلك، ثم قالوا: ومن ظاهر من أمته فلا كفارة عليه، فخصوا بعض النساء المذكورات في الآية بلا دليل، كل ذلك ومثل هذا في أقوالهم كثير، بل هو أكثر أقوالهم، وما سلم منها من التناقض إلا الاقل، وكلها يهدم بعضها بعضا، ويدل هذا دلالة قطع على أن أقوالهم من عند غير الله تعالى، إذا ما كان من عند الله تعالى فلا اختلاف فيه ولا تعارض، وبعضه يصدق بعضا.
فصل من تناقضهم في ذلك أيضا قال أبو محمد: نص الله تعالى على إيجاب الدية والكفارة في قتل المؤمن خطأ، فأوجبها القياسيون قتل المؤمن الذمي خطأ، ولا ذكر له في الآية أصلا، ثم اختلفوا: فطائفة أوجبت الكفارة في قتل العمد قياسا على قتل الخطأ، وطائفة

(7/923)


منعت من ذلك، وكان تناقض هذه الطائفة أعظم، لانهم أوجبوا الكفارة على قاتل الصيد خطأ: قياسا على قاتله عمدا، ومنعوا من الكفارة في قتل المؤمن عمدا، ولم يقيسوه على قتله خطأ، هذا وكلهم يسمع قول الله تعالى: * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * وقول رسول الله (ص): رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فوجب بهذين النصين أن لا يؤخذ أحد بخطأ من فعله، إلا ما جاء به النص من إيجاب الكفارة على المخطئ في قتل المؤمن، وما أجمعت الامة عليه من ضمان الخطأ في إتلاف الاموال، وأن الوضوء ينتقض بالاحداث الخارجة من المخرجين بالنسيان كالعمد فقط.
ومن تناقضهم أن قالت طوائف منهم في قول النبي (ص): من باع نخلا وفيها تمر قد أبر فهو للبائع إلا أن يشترط المبتاع فقال بعضهم: إذا ظهر، أبر أو لم يؤبر، فهو للبائع، وهذا قول أبي حنيفة، وقد كثر تناقض أصحابه في دليل الخطاب جدا.
وقالت طوائف منهم: واجب أن تكون الرقبة في الظهار إلا مؤمنة، لان الرقبة التي ذكرت في كفارة القتل لا تكون إلا مؤمنة، فوجب أن تكون الرقبة المسكوت عن ذكر دينها في الظهار مثل الرقبة المذكور دينها في القتل.
ثم قال بعض هذه الطائفة لما ذكر (ص) القلتين في قوله: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا وجب أن يكون لها ما دون القلتين بخلا ف القلتين.
قال أبو محمد: فهلا قالوا في الرقبة كذلك، وأوجبوا أن يكون المسكوت عنها بخلاف المذكور دينها، كما جعلوا المسكوت عنه فيما دون القلتين بخلاف المذكور من القلتين ؟ أو هلا جعلوا المسكوت عنه مما دون القلتين مثل القلتين، كما جعلوا المسكوت عن دينها في الظهار مثل المذكور دينها في القتل ؟.
وقالت طائفة أخرى منهم: لا يقول المأموم: سمع الله لمن حمده، لان ذلك
لم يذكر في بعض الاحاديث، ولا يقول الامام: آمين، لانه لم يذكر ذلك في بعض الاحاديث، وإن كان قد ذكر في غيرها، لكن يغلب المسكوت ههنا، فلا نقول إلا ما جاء في كلا الحديثين ذكره.
ثم قالت: الجزية من غير أهل الكتاب، وإن كان الله تعالى لم يأمر بأخذها إلا من أهل الكتاب، وادعوا

(7/924)


ذلك على عثمان رضي الله عنه.
قال أبو محمد: وهذا لا يصح عن عثمان أصلا، وأول من أخذ الجزية من غير أهل الكتاب، فالقاسم بن محمد الثقفي قائد الفاسق الحجاج أخذها من عباد البد من كفرة أهل السند، وأما عثمان رضي الله عنه فلم يتجاوز إفريقية وأهلها نصارى، ولا تجاوز في الشرق خراسان وفي الشمال أذربيجان وأهلها مجوس.
ومن عجائبهم التي تغيظ كل ذي عقل ودين، والتي كان يجب عليهم أن يراقبوا الله تعالى في القول بها، أو يستحيوا من تقليد من أخطأ فيها، إطباقهم على أن قول الله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * فليس يدخل فيه القاتل خطأ وأن القاتل خطأ بخلاف القاتل عمدا في ذلك، ثم أجمع الحنفيون والشافعيون والمالكيون على قول الله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا) * إلى منتهى قوله تعالى: * (ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه) * فقالوا كلهم: إن القاتل الصيد وهو محرم خطأ تحت هذا الحكم وهم يسمعون هذا الوعيد الشديد الذي لا يستحقه مخطئ بإجماع الامة، فيكون في عكس الحقائق والتحكم في دين الله تعالى أعظم من هذا التلاعب في حكمين وردا بلفظ العمد، ففرقوا بينهما كما ترى ؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقالوا: ذكر الله تعالى: * (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم) * فقالوا:
نقيس من يظاهر بجريمته أو بشئ محرم على الام، ونلحق المسكوت عنه بالمذكور.
ثم قالوا: لا نقيس تظاهر المرأة من زوجها بتظاهره منها، ولا نلحق عنه بالمذكور ثم قالوا: نوجب الكفارة على المرأة الموطوءة نهارا في رمضان قياسا على الرجل الواطئ في رمضان، فيلحق المسكوت عنه بالمذكور، وقد قالوا كما ذكرنا: نلحق الرقبة المسكوت عنها في الظهار بالرقبة المذكور دينها في القتل، ثم قالوا: نوجب في التعويض من الصيام في كفارة القتل إطعاما، وإن كان

(7/925)


قد عوض من الصيام بالاطعام في كفارة الظهار التي قسنا آنفا رقبتها على رقبة القتل، وقاس بعضهم التيمم على الوضوء، أن لا بد من بلوغ التيمم إلى المرفقين وأبوا أن يقيسوا مسح الرأس في التيمم على مسحه في الوضوء.
وقالوا: الحكم المسكوت عنه بحكم المذكور ههنا، ثم لم يقيسوا قوله تعالى في الرجعة: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * على قوله تعالى في الدين: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * فقالوا: هذا لا نحكم عنه للمسكوت عنه بحكم المذكور، وقالوا هنالك: نحكم للمسكوت عنه بحكم المذكور.
وأما الحنفيون فحكموا في آيتي الشهادة المسكوت عنه بحكم المذكور، فقبلوا النساء في الرجعة والطلاق والنكاح وفي آية التيمم، فأوجبوا إلى المرفقين، ولم يحكموا في رقب الظهار والقتل والكفارة للمسكوت عنه بحكم المذكور، ولا حكموا لغير السائمة بحكم السائمة، ففرقوا ههنا بين المسكوت عنه وبين المذكور، فكل طائفة منهم تحكمت في دين الله بعقولها وتقليدها الفاسد، بلا برهان.
وقد احتج بعضهم علي حيث وافق هواه، بأن البدل حكمه حكم المبدل منه فأعلمته بأن ذلك باطل بلغة العرب التي خوطبنا بها في القرآن والسنة، وبحكم الشريعة، أما اللغة فإن البدل على أربعة أضرب: بدل البعض من الكل، وبدل
البيان، وبدل الغلط، وبدل الصفة من الموصوف، فليس في هذه الوجوه بدل يكون حكمه حكم المبدل منه إلا بدل البيان وحده، كقولك: مررت بزيد رجل صالح على أن أحدهما نكرة الآخر معرفة، وأما القرآن فقد أبدل الله تعالى من عتق رقبة الكفارة، صيام ثلاثة أيام، ومن عتق رقبة الظهار صيام شهرين متتابعين، وأبدل من عتق رقبة الكفارة إطعام عشرة مساكين، ومن هؤلاء العشرة صيام ثلاثة أيام، وأبدل من صيام الشهرين إطعام ستين مسكينا، وأبدل تعالى من هدي المتعة صيام عشرة أيام، ومن هدي الاذى صيام ثلاثة أيام فبطل ما ادعوه.
وقالت طائفة منهم في قوله (ص): من مس فرجه فليتوضأ لا ينقض الوضوء إلا من مسة بباطن يده دون ظاهرها، فلم يحكموا في ذلك بكل ما يقع عليه اسم مس.

(7/926)


ثم قالوا في ذلك بحديث لا يصح فيه من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ.
قال أبو محمد: ولو صح لما كان مانعا من إيجاب الوضوء في مسه بغير اليد، لانه إنما يكون في هذه الرواية التي احتجوا بها ذكر الافضاء باليد فقط، وكان يكون في الحديث الآخر المس جملة، كما لم يكن في قوله (ص): من مس فرجه فليتوضأ ما يوجب إسقاط الوضوء من الريح والغائط، بل كان مضافا إليه ومجموعا معه.
ثم نقضوا هذا فقالوا في حديثين وردا: أحدهما: إذا وقعت الحدود فلا شفعة والآخر: إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فاستعملوا كلا اللفظين ولم يجعلوهما حديثا واحدا، بل أوجبوا قطع الشفعة بتحديد الحدود وإن لم تصرف الطرق، وقالوا: نعم إذا حدث الحدود فلا شفعة وإذا زيد في ذلك
فصرفت الطرق فلا شفعة أيضا.
قال أبو محمد: ولم يفعل ذلك الحنفيون ههنا ولكنهم قد نقضوه فيما ذكرنا آنفا من مس الفرج، ونقضه بعضهم في حديثين رويا عن رسول الله (ص) في أحدهما: أنه عليه السلام مسح بناصيته، وفي الآخر: أنه مسح على العمامة فقالوا: هذا حديث واحد، ولا يجزئ المسح على العمامة دون الناصية.
قال أبو محمد: وهذا خلاف ما فعلوا في الشفعة مع أن كون الحديث الذي فيه ذكر الناصية غير الحديث الذي فيه ذكر العمامة، أبين من أن يحتاج فيه كلفة، لان راوي الناصية المغيرة بن شعبة، وراوي العمامة فقط بلال وعمرو بن أبي أمية الضمري معا، فمن ادعى أنهما حديث واحد فقد افترى وقفا ما ليس له به علم، وذلك لا يحل وقد كان ينبغي لهم أن يحكموا المسكوت عنه من المسح على الرأس المستور، بحكمهم على الرجلين المستورين كما حكموا بالمسح على الجرموقين قياسا على الخفين، وكما قاسوا المسح على الجبائر في الذراعين على المسح على الخفين في الرجلين، والجبائر لم يأت ذكرها في نص صحيح أصلا، وإذا جاز عندهم تعويض المسح عليها من غسل الذراعين فتعويض المسح على العمامة من مسح الرأس أولى، لان هذا مسح عوض من مسح، وذلك مسح عوض من غسل، وكان قياس الرأس على الرجلين، لانهما طرفا الجسد، ولانهما جميعا يسقطان في التيمم:

(7/927)


أولى من قياس الذراعين بالجبائر على الرجلين، ولكن القوم ليسوا في شئ، وإنما يقولون ما خرج إلى أفواههم دون تعقب، وقلدهم من تلاهم.
وأتوا إلى قوله تعالى: * (الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى) * فتناقضوا فقالوا: هذه الآية موجبة أنه لا يقتل الحر بالعبد وليست موجبة ألا يقتل الذكر بالانثى، أفيكون أقبح تحكما ممن يقول: إن قوله تعالى: * (الحر بالحر) *
موجب ألا يقتل حر بعبد ويقولون: إن قوله تعالى: * (والانثى بالانثى) * موجبا ألا تقتل الانثى بالذكر والذكر بالانثى ؟ وأما نحن فإن قوله (ص): المؤمنون تتكافأ دماؤهم عموم موجب عندنا قتل الحر بالعبد والعبد بالحر، والذكر بالانثى والانثى بالذكر، وكذلك قوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * موجب القصاص بين الحر والعبد، والذكر والانثى، فيما دون النفس، يقص فيه للحر من العبد، وللعبد من الحر، والاماء والحرائر فيما بينهن، ومع الرجال كذلك ولا قصاص لكافر من مؤمن أصلا، لنصوص أخر ليس هذا مكان ذكرها.
وقال بعضهم: قوله تعالى: * (قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس) * يدل على أن الدم الذي يكون مسفوحا ليس حراما.
قال أبو محمد: وهم قد نسوا أنفسهم في هذه الآية، لانه إذا كان ذكر المسفوح موجبا أن يكون غير المسفوح مباحا، فوجب أن يكون ذكر لحم الخنزير في الآية نفسها موجبا إباحة جلده، وشعره، وهم لا يقولون هذا، فقد تناقضوا، فإن ادعوا إجماعا كذبوا، لان كثيرا من الفقهاء يبيحون بيع جلده، والانتفاع به إذا دبغ والخرز بشعره، فهذا تناقض لم يبعد عنهم فينسوه.
وأيضا فإن قوله تعالى في سورة المائدة في آية منها من آخر ما نزل: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) * مبين أن كل دم فهو حرام ويدخل في ذلك المسفوح وغير المسفوح وهذا بين وبالله تعالى التوفيق.

(7/928)


الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس في أحكام الدين قال أبو محمد: علي بن أحمد رضوان الله عليه: ذهب طوائف من المتأخرين من أهل الفتيا إلى القول بالقياس في الدين، وذكروا أن مسائل ونوازل ترد لا ذكر لها في نص كلام الله تعالى، ولا في سنة رسول الله (ص) ولا أجمع الناس عليها قالوا: فننظر إلى ما يشبهها مما ذكر في القرآن، أو في سنة رسول الله (ص)، فنحكم فيما لا نص فيه ولا إجماع، بمثل الحكم الوارد في نظيره في النص والاجماع، فالقياس عندهم هو أن يحكم لما لا نص فيه ولا إجماع، بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع، لاتفاقهما في العلة التي هي علامة الحكم، هذا قول جميع حذاق أصحاب القياس وهم جميع أصحاب الشافعي وطوائف من الحنفيين والمالكيين، وقالت طوائف من الحنفيين والمالكيين: لاتفاقهما في نوع من الشبه فقط.
وقال بعض من لا يدري، ما القياس ولا الفقه من المتأخرين، وهو محمد بن الطيب الباقلاني: القياس هو حمل أحد المعلومين على الآخر في إيجاب بعض الاحكام لهما أو إسقاطه عنهما من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه.
قال علي: وهذا كلام لا يعقل، وهو أشبه بكلام المرورين منه بكلام غيرهم، وكله خبط وتخليط، ثم لو تحصل منه شئ، وهو لا يتحصل، لكان دعوى كاذبة بلا برهان، وأطرف شئ قوله: أحد المعلومين فليت شعري، ما هذان المعلومان ومن علمهما ؟ ثم ذكر إيجاب بعض الاحكام أو إسقاطه وهما ضدان، ثم قال: من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه وهذه لكنه وعي وتخليط ونسأل الله السلامة، وإنما أوردناه ليقف على تخليطه كل من له أدنى فهم، ثم نعود إلى ما يتحصل منه معنى يفهم، وإن كان باطلا من أقوال سائر أهل القياس وقال أبو حنيفة: الخبر المرسل والضعيف عن رسول الله (ص) أولى من القياس،
ولا يحل القياس مع وجوده قال: والرواية عن الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم، أولى القياس: قال: ولا يجوز الحكم بالقياس في الكفارات، ولا في الحدود، ولا في المقدرات.
وقال الشافعي: لا يجوز القياس مع نص قرآن، أو خبر

(7/929)


صحيح مسند فقط، وأما عند عدمهما فإن القياس واجب في كل حكم، وقال أبو الفرج القاضي، وأبو بكر الابهري المالكيان: القياس أولى من خبر الواحد المسند والمرسل، وما نعلم هذا القول عن مسلم، يرى قبول خبر الواحد قبلهما.
وقسموا القياس بثلاثة أقسام: فقسم هو قسم الاشبه والاولى، وهو إن قالوا: إذا حكم في أمر كذا بحكم كذا، فأمر كذا أولى بذلك الحكم، وذلك نحو قول أصحاب الشافعي: إذا كانت الكفارة واجبة في قتل الخطأ وفي اليمين التي ليست غموسا، فقاتل العمد وحالف اليمين الغموس أولى بذلك وأحوج إلى الكفارة، وكقول المالكي والشافعي: إذا فرق بين الرجل وامرأته لعدم الجماع، فالفرقة بينهم العدم النفقة التي هي أوكد من الجماع أولى وأوجب، وكقول الحنفي والشافعي والمالكي: إذا لزمت المظاهر بظهر الام الكفارة، فالمظاهر بفرج أمه أولى.
وقسم ثان وهو قسم المثل، وهو نحو قول أبي حنيفة ومالك: إذا كان الواطئ في نهار رمضان عمدا تلزمه الكفارة، فالمتعمد للاكل مثله في ذلك، وإذا كان الرجل يلزمه في ذلك الكفارة فالمرأة، الموطوءة باختيارها عامدة، في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل، وكقول من قال من التابعين ومن بعدهم: إذا كان ظهار الرجل من امرأته يوجب عليه الكفارة فالمرأة المظاهرة من زوجها في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل.
وكقول الشافعي: إذا وجب غسل الاناء من ولوغ الكلب فيه سبعا فهو من الخنزير كذلك.
وكقول المالكيين: إذا وجب على الزاني الذي ليس محصنا جلد مائة وتغريب عام، فقاتل العمد إذا عفي له عن دمه مثله،
وكقول الحسن: إذا ورثت المطلقة ثلاثا في المرض، فهو في وجوب الميراث له منها إن ماتت كذلك أيضا.
والقسم الثالث قسم الادنى، وهو نحو قول مالك وأبي حنيفة: إذا وجب القطع في مقدار ما في السرقة، وهو عضو يستباح، فالصداق في النكاح مثله، وكقول أبي حنيفة: إذا كان خروج البول والغائط وهما نجسان ينقض الوضوء فخروج الدم وهو نجس متى خرج من الجسد أيضا كذلك، وكقول الشافعي: إذا كان مس الذكر ينقض الوضوء فمس الدبر الذي هو عورة مثله كذلك، وكقول المالكي: إذا كان قول: أف عمدا في الصلاة يبطلها، فالنفخ فيها عمدا كذلك.

(7/930)


قال أبو محمد: فهذه أقسام القياس عند المتحذلقين القائلين به.
وذهب أصحاب الظاهر إلى إبطال القول بالقياس في الدين جملة، وقالوا: لا يجوز الحكم البتة في شئ من الاشياء كلها، إلا بنص كلام الله تعالى، أو نص كلام النبي (ص)، أو بما صح عنه (ص) من فعل أو إقرار، أو إجماع من جميع علماء الامة كلها، متيقن أنه قاله كل واحد منهم، دون مخالف من أحد منهم، أو بدليل من النص أو من الاجماع المذكور الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا، والاجماع عند هؤلاء راجع إلى توقيف من رسول الله (ص) ولابد، من لا يجوز غير ذلك أصلا، وهذا هو قولنا الذي ندين الله به، ونسأله عزوجل أن يثبتنا فيه، ويميتنا عليه بمنه ورحمته.
آمين.
وشغب أصحاب القول بالقياس بأشياء موهوا بها، ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما احتجوا به، ونحتج لهم بكل ما يمكن أن يعترضوا به، ونبين بحول الله تعالى وقوته بطلان تعلقهم بكل ما تعلقوا به في ذلك، ثم نبتدئ بعون الله عزوجل بإيراد البراهين الواضحة الضرورية على إبطال القياس،
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فما شغبوا به أن قالوا: قال الله عزوجل: * (ولا تقل لهمآ أف) * فوجب إذ منع من قول: * (لهمآ) * للوالدين أن يكون ضربهما أو قتلهما ممنوع، لانهما أولى من قول: * (أف) * وقال تعالى: * (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * قالوا: فوجب أن ما فوق القنطار وما دونه داخل كل ذلك في حكم القنطار في المنع من أخذه.
وقال تعالى: * (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها) * قالوا: فعلمنا أن ما دون مثقال حبة وما فوقها داخلان في حكم مثقال حبة الخردل، أنه تعالى يأتي بها، وقال تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا ير ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * قالوا: فعلمنا أن ما فوق مثقال الذرة وما دونها يرى أيضا.
وقال تعالى: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) * قالوا: فعلمنا أن ما فوق القنطار والدينار وما دونهما في حكم القنطار والدينار، وقال تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * قالوا:

(7/931)


فعلمنا أن ما عدا الاكل من اللباس وغيره حرام إذا كان بالباطل، وقال تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * فعلمنا أن قتلهم لغير الاملاق حرام، كما هو خشية الاملاق، قالوا: وقول الناس: لا تعط فلانا حبة، فإنه مفهوم منه أن ما فوق الحبة وما دونها داخل كل ذلك في حكم الحبة، قالوا: ومن ادعى من هذه الآي فهم ما عدا ما فيها من غيرها فهو خارج عن المعقول وعن اللغة.
قالوا: وأنتم توافقوننا في كل ما قلنا في هذه الآيات وهذا الفصل، وتقرون معنا بأن ما عدا هذه المنصوصات فإنه داخل في حكمها، قالوا: وهذا إقرار منكم بالقياس، وترك لمذهبكم في إبطاله.
قال أبو محمد: قال الله عزوجل: * (أم للانسان ما تمنى) * وكل ما ذكروا فلا
حجة لهم فيه أصلا، بل هو أعظم حجة عليهم، لانه ينعكس عليهم في القول بدليل الخطاب، فإنهم، على ما ذكرنا في بابه في هذا الديوان، يقولون: إن ما عدا المنصوص فهو مخالف للمنصوص، فيلزمهم على ذلك الاصل أن يقولوا ههنا: إن ما عدا * (أف) * فإنه مباح، وما عدا الدينار والقنطار، والاكل، ومثقال الخردلة والذرة، وخشية الاملاق، بخلاف حكم ذلك، فقد ظهر تناقضهم وهدم مذاهبهم بعضها لبعض، ثم نعود فنقول وبالله تعالى التوفيق: أما قول الله تعالى: * (ولا تقل لهمآ أف) * فلو لم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربهما ولا قتلهما.
ولما كان فيها إلا تحريم قول * (أف) * ؟ فقط.
ولكن لما قال الله تعالى في الآية نفسها: * (وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) *.
اقتضت هذه الالفاظ من الاحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل والرحمة لهما، والمنع من انتهارهما، وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق، فبهذه الالفاظ وبالاحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين بكل وجه وبكل معنى، والمنع من كل ضرر وعقوق بأي وجه كان، لا بالنهي عن قول: * (أف) * ؟ وبالالفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة

(7/932)


أن من سبهما أو تبرم عليهما أو منعهما رفده في أي شئ كان من غير الحرام، فلم يحسن إليهما ولاخفض لهما جناح الذل من الرحمة.
ولو كان النهي عن قول: * (أف) * ؟ مغنيا عما سواه من وجوه الاذى لما كان لذكر الله تعالى في الآية نفسها، مع النهي عن قول: * (أف) * ؟، النهي عن النهر والامر بالاحسان، وخفض الجناح والذل لهما معنى، فلما لم يقتصر تعالى على ذكر الاف وحده، بطل قول من ادعى أن بذكر الاف علم ما عداه.
وصح
ضرورة أن لكل لفظة من الآية معنى غير سائر ألفاظها، ولكنهم جروا على عادة لهم ذميمة من الاقتصار على بعض الآية والاضراب عن سائرها، تمويها على من اغتر بهم، ومجاهرة لله تعالى بما لا يحل من التدليس في دينه.
كما فعلوا في ذكرهم في الاستنباط قول الله تعالى: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وأضربوا عن أول الآية في قوله تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الامر منكم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وأول الآية مبطل للاستنباط.
وكما فعل من فعل منهم في قول الله تعالى: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) * وأضربوا عما بعدها من قوله تعالى: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) *.
قال أبو محمد: ومن البرهان الضروري على أن نهي الله تعالى عن أن يقول المرء لوالديه: (أف ليس نهيا عن الضرب ولا عن القتل ولا عما عدا الاف، أن من حدث عن إنسان قتل آخر أو ضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود، وبصق في وجهه فشهد عليه من شهد ذلك كله، فقال الشاهد: إن زيدا، يعني القاتل أو القاذف أو الضارب، قال لعمرو: يعني المقتول أو المضروب أو المقذوف، لكان بإجماع منا ومنهم كاذبا آفكا شاهد زور مفتريا مردود الشهادة فكيف يريد هؤلاء القوم بنا أن نحكم بما يقرون أنه كذب ؟.
فكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله تعالى الحكم بما يشهدون أنه كذب ؟ ونحن نعوذ بالله العظيم من أن نقول: إن نهي الله عزوجل عن قول: للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب لهما أو القتل أو القذف، فالذي لا شك فيه عند كل من له معرفة بشئ من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شئ من ذلك فبلا شك يعلم

(7/933)


كل ذي عقل أن النهي عن قول ليس نهيا عن القتل ولا عن الضرب
ولا عن القذف، وأنه إنما هو نهي عن قول: فقط.
وأما ذكره تعالى القنطار في آية الصداق وآية وفاء أهل الكتاب، فما فهمنا قط أن ما عدا القنطار فهو حكم القنطار من هاتين الآيتين، لكن لما قال تعالى: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) *.
قال أبو محمد: فبهذه الآية حرم على الزوج أن يأخذ مما أعطى زوجته شيئا، وسواء قل أو كثر، إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، أو تطيب نفسها كما قال تعالى: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * لولا هذه الآية، وما في معناها من سائر الآيات والاحاديث التي فيها تحريم الاموال جملة وتحريم العود في الهبات، لما كان في آية القنطار مانع مما عدا القنطار أصلا.
وبرهان عن ذلك أنه لو شهد شاهدان لزيد: أن له على عمرو قنطارا، وكان في علمهما الصحيح أنه له عليه قنطارين أو أكثر من قنطار أو أقل من قنطار، لكانا شاهدي زور كذابين آفكين، وما علمنا في طبيعة بشر أحدا يفهم من قول القائل أخذ لي عمرو قنطارا، أنه آخذ له أكثر من قنطار، ومدعي هذا مفتر على اللغة ومكابر للحس، داخل في نصاب الموسوسين مبطل للحقائق، ويقال له: لعله تعالى إذا ذكر سبع سموات، إنما أراد بها خمس عشرة أو أكثر من ذلك، وهذا هو بطلان الحقائق، وفساد العقل على الحقيقة.
وأما الآية التي فيها ذكر الدينار والقنطار في ائتمان أهل الكتاب فقد أخبرنا تعالى أنهم يقولون أو من قال منهم: * (ليس علينا في الاميين سبيل) * ففي هذا استجازة أهل الكتاب لخون أماناتنا، قلت أو كثرت، وقد علمنا بضرورة العقل
والمشاهدة، وعلم الناس قبل نزول هذه الآية المذكورة، أن في أهل الكتاب وفي المسلمين أوفياء، يفون بالقليل والكثير، وغدرة يغدرون بالقليل والكثير، لان هذا من صفات الناس، وإن في الناس من يفي بالقليل تصنعا ويخون الكثير

(7/934)


رغبة، وأن فيهم من يغدر بالقليل خسة نفس واستهانة، ويفي بالكثير مخافة الشهرة أو انقطاع رزقه إن كان لا يعيش في مكسبة إلا بائتمان الناس إياه وهذا كله موجود مشاهد، معلوم بالحس.
فإن قالوا: فما فائدة الآية إذن ؟ قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: الفائدة فيها عظيمة، فأول ذلك الاجر العظيم في تلاوتها في التصديق أنها من عند الله عز وجل.
وأيضا فالتنبيه لنا على التفكر في عظيم القدرة في ترتيبه لنا طبائع الناس، فمنهم الوفي الكافر، والخائن الكافر، وأيضا فائتمانهم على المال فإن ذلك مباح لنا إذا قدرنا فيهم الامانة، وإبطال قول من منع من الوصية إليهم بالمال وهذا مثل قوله تعالى: * (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت) * ومثل قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) * وقد علمنا ذلك قبل نزول القرآن ولكنه تنبيه ووعظ وتحريك إلى اكتساب الاجر بالاعتبار والفكرة في قدرة الله عزوجل وذكره تعالى القنطار ههنا كذكره السبعين استغفارة في قوله تعالى: * (إن تستغفر لهم سبعين مرة) * وقد سبق في علم الله تعالى أنه سيبين مراده من ذلك أنه تعالى لا يقبل استغفاره لهم أصلا، وقد قلنا غير مرة إن مثل هذا السؤال فاسد، وأنه تعالى لا يسأل عما يفعل، ونحن نسأل عن كل فعلنا وقولنا.
وأما قوله تعالى: * (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *، وقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * فإنما علمنا عموم ذلك كله فيما دون الذرة وما فوقها من قوله تعالى: * (ما لهذا الكتاب
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) * وبقوله تعالى: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) * وبقوله تعالى * (ووفيت كل نفس ما كسبت) * فهذه الآيات بينت أن ما فوق الذرة والخردلة وما دونها محسوب كل ذلك ومجازي به، وكذلك قوله تعالى: * (ان تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الارض يأت بها الله) * فإنما علمنا العموم في ذلك من قول الله تعالى: * (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها) * فشمل تعالى جميع أرزاق الحيوان في هذه الآية، فدخل في ذلك ما هو دون الخردلة وما فوقها.

(7/935)


وقد أجاب أبو بكر بن داود عن هذا السؤال أن قال: إن الذي هو فوق الذرة ذرة وذرة وهكذا ما زاد لانه زاد على الذرة بعض ذرة، فذاك البعض إذا أضيف إلى أبعاض الذرة جاء من ذلك مقدار الذرة، وأما ما دون مثقال الذرة فحكمه مأخوذ من غير هذا المكان.
قال علي: وهذا جواب صحيح ضروري والذي نعتمد عليه عموما في جميع هذا الباب، فهو الذي قلنا آنفا، وأن المرجوع إليه في كل ما جرى هذا المجرى نصوص أخر، أو إجماع متيقن أو ضرورة المشاهد بالحواس والعقل فقط، فإن لم نجد نصا ولا إجماعا ولا ضرورة اقتصرنا على ما جاء به النص، وقفنا حيث وقف ولا مزيد وإلا فإن ذكره تعالى لما ذكر من هذه المقادير، وهذه الاحوال في هذه الآيات كذكره تعالى أخبار بعض الانبياء عليهم السلام في مكان، وذكره تعالى لهم في مكان آخر بأكمل مما ذكرهم به في غيرها، ولا يسأل عما يفعل.
وأما قوله عزوجل: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * فإنما علمنا أن ما عدا الاكل حرام بقول رسول الله (ص) في حجة الوداع: دماؤكم وأموالكم
وأعراضكم عليكم حرام وبآيات أخر وأحاديث أخر، فبالحديث المذكور حرم التصرف في أموال الناس بغير ما أمر الله تعالى به بالاكل وغير الاكل، ولو تركنا والآية المذكورة ما حرم بها شئ غير الاكل، ولكان ما عدا الاكل موقوفا على طلب الدليل فيه إما بمنع وإما إباحة من غيرها، ولما وجب أن تحكم فيما عدا الاكل من الآية لا بتحريم ولا بتحليل كما يقولون معنا: إن الله حرم الاكل على الصائم ولم يحل عليه تملك الطعام، ولا ما عدا الاكل من بيه وهبة وغير ذلك فأي فرق بين الاكل المحرم على الصائم، وبين الاكل المحرم على الناس في أموالهم ؟ وكما أباحوا هم ونحن الاكل من بيت الاب والام والصديق والاقارب المنصوصين، فهلا أباحوا أخذ ما وجدوا للاقارب ما عدا الاكل قياسا على الاكل المباح أهلا حرموا على الصائم تملك الطعام وبيعه قياسا على ما صح من تحريم الاكل عليه ؟ كما زعموا أنهم إنما حرموا تملك الاموال بالظلم والباطل قياسا على تحريم الله تعالى أكلها بالباطل، فإذ لم يفعلوا

(7/936)


ذلك، فقد تركوا القياس الذي يقرون أنه حق، فظهر تناقضهم والحمد لله رب العالمين.
وحتى لو لم يرد نص جلي في تحريم الاموال جملة، لكان الاجماع على تحريمها كافيا، ولعلمنا حينئذ أن اسم الاكل موضوع على أخذ منقول عن موضوعه المختص له في اللغة كما تقول العرب، أكلتنا السنة أي أفنت أموالنا، وكما قال الشاعر: فإن قومي لم تأكلهم الضبع يريد لم تفنهم.
وأما قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * فإنما حرم قتلهم جملة لغير الاملاق من آيات أخر، وهي قول الله تعالى: * (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) * وبقوله تعالى: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * وبقوله تعالى: * (وإذا الموءودة سئلت ئ بأى ذنب قتلت) * وبقول رسول الله (ص): إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام.
وأما قوله تعالى: * (ما يملكون من قطمير) * فإنما أخبر عزوجل في موضع آخر على أنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، وما كان هذا فبالضرورة نعلم أنها لا تملك شيئا.
وهكذا الحكم في كل ما موهوا به، فإن الله تعالى قد بين لنا مراده، ولو لم يرد غير النصوص التي ذكرنا لوجب ألا نتعدى البتة إلى ما لم يذكر بها وللزم أن لا نحكم بها أصلا إلا فيما وردت فيه، ومن تعدى هذا فإنه متعد لحدود الله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * نعوذ بالله من ذلك.
وأما قول الناس: لا تعط فلانا حبة، فإنما يعلم مراد القائل في ذلك، أمجدا قال ذلك أم هازلا أم مقتصرا على الحبة أم لاكثر منها، بما يشهده من حال الامر في امتناعه وتسهله، وأكثر ذلك فهذا القول من قائله لا يتأتى مجردا البتة.
ولا بد ضرورة من أن يقول: لا تعطه البتة شيئا ولا حبة، وربما زاد لا قليلا ولا كثيرا، فهذا هو المعهود من تخاطب الناس فيما بينهم، ومن ادعى غير هذا فهو مجاهر مدع على العقل ما ليس فيه، بل هو مخالف لموجب العقل ولمقتضى اللغة على الحقيقة، وبالله تعالى نعتصم.
فإن ذكروا قول الله تعالى: * (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * فقد قال تعالى في آية أخرى * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق) * فنص

(7/937)


تعالى على الامساك، والامساك على عمومه يقتضي النقير وغير النقير، وأقل من النقير وأكثر منه.
واحتجوا في ذلك أيضا بقول الله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * وبقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قالوا: فلم يخص الله تعالى ما قال أولو الامر منا
بتوقيف من النبي (ص) مما قالوه بقياس.
قال أبو محمد: هذا الاحتجاج منهم جمع الشناعة والاثم لان الله تعالى لم يأمر قط أولي الامر منا أن يقولوا بآرائهم ولا بقياساتهم، ولا أن يقولوا ما شاؤوا، وإنما أمرهم الله تعالى أن يقولوا ما سمعوا، أو يتفقهوا في الدين الذي أنزله الله تعالى على نبيه (ص) وينذروا بذلك قومهم، وهذا بين في قوله تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) *، وفي قوله تعالى: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) *، وفي قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *، وفي قوله تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
قال أبو محمد: ومن قال بقياسه فقد تعدى حدود الله، وقفا ما لا علم به، وأخبر عن الله تعالى بما لا يعلم أحد ما عند الله تعالى إلا بإخبار من الله تعالى بذلك، وإلا فهو باطل، وقد بينا فيما خلا أن قول الله تعالى: * (أولي الامر منكم) * إنما هو جميع أولي الامر لا بعضهم ولم يجمعوا قط على القول بالقياس، فكيف نكون نحن مأمورين باتباعهم فيما افترقوا فيه ؟.
وهذا ضد أمر الله تعالى في القرآن وبرهان قاطع وهو أن الله تعالى قال: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * وحدود الله تعالى هي كل ما حد وبين فصح أنه ليس لاحد أن يتعدى في شئ من الدين ما حده الله تعالى في القرآن، وعلى لسان رسوله (ص) بالوحي فبطل أن يحمل أولوا الامر على تعدي حدود الله تعالى، لانه باطل فقد اتفقنا أنهم لا يجمعون على باطل، وكل ما لم يكن من حدود الله تعالى، ووحيه فهو من عند الله ضرورة لا بد من ذلك، وقد قال تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.

(7/938)


فصح بهذه الآية أنه لا يمكن أن يكون إجماع أبدا إلا على ما جاء من عند الله تعالى بالوحي الذي لا يعلم ما عند الله تعالى إلا به، والذي قد انقطع بعد رسول
الله (ص) فبطل بهذه النصوص يقينا أن يجمعوا على غير نص صحيح.
واحتجوا بقول الله تعالى في آية الكلالة: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لهآ ولد) * قالوا: فأنتم تقولون: إن الميراث ههنا إنما هو بعد الدين والوصية، قالوا: وليس هذا في الآية فإنما قلتموه قياسا على سائر آيات المواريث التي فيها أنها بعد الوصية والدين.
قال أبو محمد: وهذا خطأ عظيم، ونعوذ بالله تعالى من أن نثبت الميراث في مواريث الاخوة بعد الوصية والدين من طريق القياس، وما أثبتنا ذلك إلا بنص النبي (ص) إذ كان يقدم إلى الجنازة فيسأل (ص): أعليه دين ؟ فإن قيل له: لا صلى عليه، وإن قيل له: نعم سأل (ص): أعليه وفاء ؟ فإن قيل له: نعم صلى عليه، وإن قالوا: لا قال (ص): صلوا على صاحبكم ولم يصل هو عليه، وبقوله (ص): إن الشهيد يغفر له كل شئ إلا الدين أو كلاما هذا معناه، وقوله (ص): إن صاحبكم مرتهن بدينه وبأمره عليه السلام بالوصية جملة لمن عنده شئ يوصي فيه، وبأمره (ص) بالوصية بالثلث فدون.
وقال (ص) في الوصية بالثلث والنهي عن الوصية بأكثر: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة أو كما قال (ص) فعم صلى الله عليه وسلم الورثة كلهم، ولم يخص أخا ولا أختا من غيرهما، فصح ضرورة أن لا ميراث لاحد إلا بعد الدين ثم الوصية، فسقط تمويههم بذكر الآية المذكورة.
ثم نعكس عليهم هذا السؤال المذكور بعينه، فنقول لهم: إذا فعلتم أنتم ذلك في آية الكلالة قياسا على سائر المواريث، فيلزمكم أن توجبوا الاطعام في كفارة القتل لمن عجز عن الصيام والرقبة، قياسا على كفارة الظهار، وقياسا على كفارة الواطئ في نهار رمضان، ولا تفرقوا بين الامرين، فقد ذكر الله تعالى في كلتا
الآيتين عتق الرقبة ثم الصيام لشهرين متتابعين، ثم ذكر تعالى في أحدهما تعويض الاطعام من الصيام، فافعلوا ذلك في المسكوت عنه من الآية الاخرى، لا سيما وأنتم

(7/939)


قد قستم، أو بعضكم، المسكوت عنه من دين الرقبة في الظهار على المنصوص عليه من أن تكون مؤمنة في قتل الخطأ، فما الذي جعل قياس الرقبة في الظهار على التعويض في القتل حقا وجعل قياس التعويض بالاطعام من الصيام في كفارة قتل الخطأ على التعويض بالاطعام من الصيام في كفارة الظهار، باطلا ؟ ولولا التخليط والموق ونعوذ بالله من الخذلان.
واحتج بعضهم بأن قال: إن ثبات العشرين منا للمائتين من الكفار منسوخ بالقياس على نسخ ثبات المائة منا للالف من الكفار.
قال أبو محمد: وهذا تخليط وكذب، وعكس الخطأ على الخطأ، وما نسخ قط ثبات المائة للالف، ولا ثبات العشرين للمائتين، وقد بينا هذه المسألة في باب الكلام في النسخ من ديواننا هذا، وبالجملة لا يحل لمسلم أن يقول في آية ولا حديث بالنسخ إلا عن نص صحيح، لان طاعة الله وطاعة رسوله (ص) واجبة، فإذا كان كلامهما منسوخا فقد سقطت طاعته عنا، وهذا خطأ، ومن ادعى سقوط طاعة الله تعالى، وسقوط طاعة نبيه (ص) في مكان ما من الشريعة فقوله مطروح مردود، ما لم يأت على صحة دعواه بنص ثابت، فإن أتى به فسمعا وطاعة، وإن لم يأت به فهو كاذب مفتر، إلا أن يكون ممن لم تقم عليه الحجة، فهو مخطئ معذور باجتهاده، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) * وهذا عمدة ما موهوا به في إثبات القياس مع آية الاعتبار، ومع قوله تعالى: * (كذلك يحيي الله الموتى) *.
قال أبو محمد: وهذا من أطرف ما شغبوا به من الجرأة على التمويه بكلام الله تعالى، ووضعه في غير موضعه، فهذا عظيم جدا نعوذ بالله من الخذلان، وما فهم أحد قط له عقل أن للقياس في هذه الآية مدخلا أو طريقا، أو نسبة بوجه من الوجوه، وما هذه الآية إلا نص جلي، أمر تعالى ذوي عدل من المؤمنين أن يحكما في الصيد المقتول بما يشبهه من النعم، فهذا نص لا قياس، وإنما كان يكون قياسا

(7/940)


لو قالوا كما أمرنا تعالى إذا قتلنا الصيد المحرم علينا قتله أن نجزيه بمثله من النعم.
فكذلك إذا قتلنا شيئا من النعم حراما علينا لملك غيرنا له، فواجب علينا أن نجزيه بمثله من الصيد، وأيضا فكما قاسوا ملك الله تعالى الصيود فأوجبوا الجزاء على قاتلها مخطئا، وخالفوا القرآن في ذلك قياسا على ملك الناس، فواجب عليهم على أصلهم الفاسد أن يقيسوا ملك الناس من النعم، ومن الصيد إذا قتله فيلزموه أن يجزيه بمثله، إن كان صيدا فمن النعم، وإن كان من النعم فمثله من الصيد.
فهذا حقيقة القياس الذي إن قالوه كفروا، وإن تركوا القياس وتناقضوا ووفقوا في تركهم له، وأيضا فإن كانت هذه الآية متيحة للقياس، فينبغي ألا يكون إلا حتى يحكم فيه ذوا عدل منا، أو يكون عدل ذلك صياما.
فهكذا هو الحكم في الآية، وأما الآية المذكورة فلا نسبة بينها وبين القياس البتة، وإنما فيها أن الصيد يكون مثلا للنعم وهذا أمر لا ننكره، فالعالم كله متماثل في بعض أوصافه، وإنما أنكرنا أن نحكم في الديانة شئ لم يأت فيه ذلك الحكم من الله تعالى بمثل الحكم المنصوص فيما يشبهه، فهذا هو الباطل والخطأ والحرام الذي لا يحل وبالله تعالى نتأيد.
واحتج أيضا بعضهم بقول الله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * وبقوله تعالى: * (فتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * قالوا: فقستم واجد الثمن للماء والثمن للرقبة، وإن لم يكن عنده رقبة ولا ماء، على من عنده الرقبة والماء،
فلم تجيزوا لهما التيمم ولا الصيام.
قال أبو محمد: وهذا من ذلك التمويه المعهود، ويعيذنا الله تعالى أن نقول بالقياس في شئ من الدين، وليس ما ذكروا قياسا ولكنه نص جلي بلا تأويل فيه البتة، لان الله تعالى إنما قال في آية كفارة قتل الخطأ والعود للظهار بعد إيجاب الرقبة.
* (فمن لم يجد فصيام شهرين) * ولم يقل تعالى فمن لم يجد رقبة، ولكنه تعالى أطلق الوجود، فكل وجود يتوصل به إلى عتق الرقبة، فإنه مانع من الصيام، فالواجب اتباعه، لانه موافق لظاهر الآية الذي لا يجوز خلافه، وهكذا القول في كفارة الواطئ في نهار رمضان، وأما التيمم لمن لم يكن له ماء وعنده ثمن يبتاع به الماء، فإن أصحابنا قالوا ما ذكر هؤلاء، ورأوا واجبا على من وجد ماء للشراء أن يبتاعه بقيمته في الوقت لا بأكثر.
وقال غيرهم: بأكثر من قيمته ما لم يجحف به.

(7/941)


وقال الحسن البصري: يبتاعه بكل ما يملك إن لم يبع منه بأقل.
قال أبو محمد: ولعل من حجة أصحابنا أن يقولوا: إن قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء) * يقتضي بعموم هذا اللفظ واجده بالابتياع والاستيهاب كما يقول القائل: أمر كذا موجود في السوق، فيقولوا إن واجده بالابتياع والاستيهاب واجد للماء.
قال أبو محمد: وأما نحن فلا يجوز عندنا بيع الماء البتة بوجه من الوجوه، ولا بحال من الاحوال، لنهي النبي (ص) عن بيع الماء، فهذا عندنا على عمومه، وقولنا هذا هو قول إياس بن عبد الله المزني، صاحب رسول الله (ص) وغيره.
فلا يجوز ابتياع الماء للوضوء البتة ولا للغسل، لانه منهي عن ابتياعه، وهو غير واجد للماء، فحكمه التيمم إلا أن يتطوع عليه صاحب الماء بأن يهبه إياه، فذلك جائز، وهو حينئذ واجد للماء مالك له، ففرضه التطهر به، وأما من اضطر إلى شرب الماء، وخشي الهلاك من العطش، ولم يجد من يتطوع له بماء يحيي
به رمقه، ففرض عليه إحياء نفسه كيف أمكن، بغلبة أو بأخذه سرا مختفيا بذلك، أو بابتياعه، فإذا لم يقدر على غير البيع فابتاعه فهو حينئذ جائز له، والثمن حرام على البائع، وهو باق على ملك المبتاع المضطر، وهو بمنزلة من اضطر إلى ميتة أو لحم خنزير فلم يجده مع ذلك إلا بثمن، ففرض عليه أن يبتاعه لاحياء نفسه.
وكذلك ما يبذل من المال في فدى الاسرى، وفي الرشوة لدفع المظلمة، فهذا كله باب واحد، وهو مباح للمعطي وحرام على الآخذ، لان المعطي مضطر، والآخذ آكل مال بالباطل، عاص لله تعالى، نعوذ بالله.
ثم نعكس عليهم اعتراضهم هذا فنقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: إن كان هذا عندهم قياسا فيلزمهم أن يقولوا بقول الحسن في ابتياع الماء بكل ما يملك، لانه واجد له، فلا يسعه التيمم مع وجود الماء، كما يقولون فيمن لم يجد رقبة إلا بكل ما يملك، وهو قادر على اكتساب ما يقوم بقوته وقوت عياله بعد ذلك، فإنه لا يجزيه عندهم إلا ابتياع الرقبة بملكه كله، فإن لم يقولوا في الماء كذلك فقد تناقضوا وتركوا القياس الذي يزعمون أنه دين، وهذا ما لا انفكاك منه.
واحتجوا بقوله تعالى: * (أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبآئكم) *،

(7/942)


قالوا: ولم يذكر تعالى بيوت الاولاد، فوجب إباحة الاكل من بيوت الاولاد قياسا على الاباحة من بيوت الآباء.
قال أبو محمد: وهذا في غاية الفساد والكذب، ومعاذ الله أن تكون الاباحة للاكل من بيوت الاولاد قياسا على إباحة ذلك من بيوت الآباء والاقارب، وما أبحنا الاكل من بيوت الاولاد إلا بنص جلي وهو قول رسول الله (ص): إن أطيب ما أكل أحدهم من كسبه وإن ولد أحدكم من كسبه فبهذا أبحنا الاكل من بيوت الاولاد، ولكن يلزمهم إذا فعلوا ذلك قياسا بزعمهم على بيوت
الآباء، أن يسقطوا الحد على الابن الواطئ أمة أبيه.
كما أسقطوا الحد عن الاب إذا وطئ أمة ولده ولزمهم أن يسووا في جميع الاحكام بين الابناء والآباء وسائر القرابات، كما فعلوا ذلك قياسا على الاكل، وإلا فقد تناقضوا، وتركوا القياس واحتجوا بقول الله تعالى: * (لا جناح عليهن في آبآئهن ولا أبنائهن) * الآية بقوله تعالى * (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبآئهن أو آبآء بعولتهن) *، قالوا: فأدخلتم من لم يذكر في الآيتين المذكورتين من الاعمام والاخوال في حكم من ذكر فيهما.
قال أبو محمد: وهذا ليس قياسا بل هو نص جلي لان النبي (ص) قال لعائشة: إنه عمك فليلج عليك وقال (ص): لا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم فأباح لكل ذي محرم أن يسافر معها، وإذا سافر معها فلا بد له من رفعها ووضعها ورؤيتها فدخل ذو المحارم كلهم بهذا النص في إباحة رؤية المرأة فبطل ظنهم أن ذلك إنما هو قياس، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بقول الله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) * قالوا: فأدخلتم بنات البنين وإن سفلن، وبنات البنات وإن سفلن، والجدات وإن علون، وعمات الآباء والاجداد وخالاتهم وعمات الامهات والجدات وخالاتهن، وإن بعدن في التحريم، وإن لم يذكرن في آية التحريم.
قالوا: وهذا قياس، وكذلك أدخلتم تحريم ما نكح الاجداد وإن علوا وبنو البنين وإن سفلوا، قياسا على تحريم ما نص عليه من نكاح نساء الآباء وحلائل الابناء.
قال أبو محمد: وهذه دعوى فاسدة، بل هذا نص جلي، وبنو البنين وبنو البنات

(7/943)


وإن سفلوا، وبنات البنين وبنات البنات وإن سفلن، فإنه يقع عليهن في اللغة بنص القرآن اسم البنين والبنات وإن سفلن.
قال الله تعالى: * (يا بني آدم) * فجعلنا
بنين له وبنو البنين بنون بالنص، والجد والجدة وإن بعدا فاسم الاب والام يقع عليهما كما قال تعالى: * (كمآ أخرج أبويكم من الجنة) * يعني آدم وحواء، وهكذا القول فيمن سفل من أولاد الاخوة والاخوات، ومن علا من الاعمام والاخوال، والعمات والخالات، فمن كنت من ولد أخيه فهو عمك وعمتك، وأنت ابن أخيه وأخيها، ومن كنت من ولد أخته فهو خالك وخالتك، وأنت ابن أخته وأختها، وإنما فرقنا بين أحكام بعض من يقع عليه الاسم الواحد في المواضع التي فوق النص أو الاجماع المنقول المتيقن بينهم فيها، وهذا أيضا الذي ذكروا إجماع، والاجماع لا يجوز خلافه.
ثم نقول لهم: إذا فعلتم ذلك - بزعمكم - قياسا فيلزمكم أن تسووا أيضا قياسا بين كل من ذكرنا في الانكاح والمواريث، ووجوب الانفاق، وهم لا يفعلون ذلك، فقد نقضوا أصلهم، وأقروا بترك القياس، وهكذا تكون الاقوال الفاسدة، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بقول الله تعالى في المطلقة ثلاثا: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) * قالوا: فقستم وفاة هذا الزوج الثاني وفسخ نكاحه عنها على علاقة لها في كونها إذا مسها في ذلك حلالا المطلق ثلاثا، قالوا لنا: بل لم تقنعوا بذلك حتى قلتم إن كانت ذمية طلقها مسلم ثلاثا فتزوجها ذمي، فطلقها بعد أن وطئها لم تحل بذلك لمطلقها ثلاثا، ولا تحل إلا بموته عنها، أو بفسخ نكاحه منها.
قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: أننا أبحنا لها الرجوع إليه بالوفاة وبالفسخ لوجهين: أحدهما: الاجماع المتيقن، والثاني: النص الصحيح الذي عنه تم الاجماع، وهو قول رسول الله (ص) للقرظية المطلقة ثلاثا: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
قال علي: فهذا الحديث أعم من الآية، وزائد على ما فيها، فوجب الاخذ به، ووجب أن كل ما كان بعد ذوق العسيلة، مما يبطل به النكاح، فهي به حلال

(7/944)


رجوعها إلى الزوج المطلق ثلاثا، لانه (ص) إنما جعل الحكم الرافع للتحريم ذوق العسيلة في النكاح الصحيح، فإذا ارتفع بذلك التحريم فقد صارت كسائر النساء، فإذا خلت من ذلك الزوج بفسخ أو وفاة أو طلاق كان لها أن تنكح من شاءت من غير ذوي محارمها، ولم يشترط النبي (ص) بعد ذوق العسيلة طلاقا من فسخ من وفاة، وأيقنا أنه (ص) لم يبحها للزوج الاول، وهي بعد في عصمة الزوج الثاني، ولا خلاف بين أحد في ذلك.
وأما طلاق الذمي وسائر الكفار، فليس طلاقا، لان كل ما فعل الكافر، وقال غير اللفظ بالاسلام، فهو باطل مردود إلا ما أوجب إنفاذه النص أو الاجماع المتيقن المنقول، أو أباحه له النص أو الاجماع، كذلك فإذا لفظ بالطلاق فهو لغو لانه لا نص ولا إجماع في جواز طلاقه، فليس مطلقا وهو بعد في عصمته، لصحة نكاحهم بالنص من إقرار النبي (ص) للكفار، لما أسلموا مع نسائهم، على نكاحهم معهن، ولانه (ص) من ذلك النكاح خلق، وقد علمنا أنه (ص) مخلوق من أصح نكاح، ولا يحل لمسلم أن يمر بباله غير هذا، ولم يمنع تعالى في الآية من إباحة رجعتها بعد وفاة الزوج، أو فسخ نكاحه، وإنما ذكر تعالى الطلاق، فقط، وعم رسول الله (ص) بإجمال لفظه الطلاق وغيره، وقد كان يلزم من قال بذلك الخطاب منهم ألا يبيحها إلا بعد الطلاق لا بعد الفسخ والوفاة، فهذه الآية حجة عليهم لا لهم، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) * قالوا: فقستم الكافرات في ذلك على المؤمنات.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، وقد بينا، في باب مفرد من كتابنا هذا، لزوم شريعة الاسلام لكل كافر ومؤمن مستويا بقوله تعالى: * (وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله) * فهذا لازم في كل حكم، حاشا ما فرق النص والاجماع المتيقن فيه بين أحكامنا وأحكامهم، وما كان كرامة لنا، فإنه ليس لهم فيه حظ لقول الله تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * والصغار لا يجتمع مع الكرامة أصلا.
وأيضا فالامة كلها مجمعة على أن حكم العدة في الطلاق وسقوطها على الذمية

(7/945)


كحكمها على المسلمة، والاجماع لا يجوز خلافه.
وأيضا فإن الآيات التي أوجب الله تعالى فيها العدد على المطلقات معلومة محصورة، لا خلاف بين المسلمين أن المراد بها الممسوسات، وأصل الناس كلهم على البراءة من وجوب الاحكام عليهم، حتى يلزمهم الحكم نص أو إجماع، وإلا فلا يلزم أحدا حكم إلا أن يلزمه إياه نص أو إجماع، فبقيت الذمية المطلقة غير الممسوسة لم يأت قط بإيجاب عدة عليها، فلم يجز لاحد أن يلزمها عدة لم يأت بها نص ولا إجماع، ووجب المتعة لها، ونصف الصداق بإيجاب الله تعالى ذلك لكل مطلقة فرض لها صداق المتعة خاصة لكل مطلقة، وهي إحدى المطلقات فبطل ظن هؤلاء القوم، والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا بما في القرآن من الآيات التي فيها خطاب النبي (ص) وحده، مثل قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * ومثل قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * وما أشبه ذلك.
قالوا: فقلتم: هي لازمة لنا ومباحة، كلزومها النبي (ص) وإباحتها له.
قال أبو محمد: وهذا من التخليط ما هو، لان النص حكم علينا بذلك إذ يقول: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * وبقوله (ص): عليكم بسنتي
وبغضبه (ص) على من تنزه عن أن يفعل مثل فعله، فبطل تمويههم بأن هذا قياس، وصح وجوب كل شريعة خوطب بها (ص): علينا ما لم ننه عن ذلك، كقول النبي (ص) في الوصال: لست كهيئتكم.
فلو قال قائل: إن الذين تعلقوا به مما ذكروا هو حجة عليهم في إبطال القياس، لكان حقا، لنص النبي (ص) على أنه ليس كهيئتنا، ولا كأحدنا، ولا مثلنا، وإذ ليس مثلنا والقياس عند القائلين به إنما هو قياس الشئ على مثله لا على ما ليس مثله.
فقد بطل القياس ههنا فيلزمهم أيحكموا على الناس بشئ خوطب به النبي (ص) وحده، وإن فعلوا ذلك خرجوا من الاسلام، فصح أنه لا مدخل لهذه الآيات، ولا لهذا المعنى في القياس البتة، وبالله تعالى التوفيق.

(7/946)


واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: * (فاعتبروا يأولي الابصار) *.
قال أبو محمد: وهذه هي قاعدتهم بظنهم في القياس، وما كانوا أبعد قط من القياس منهم في هذه الآية، وما فهم قط ذو عقل من قول الله تبارك وتعالى: * (فاعتبروا يأولي الابصار) * تحريم مد بلوط بمدي بلوط وما للقياس مجال على هذه الآية أصلا بوجه من الوجوه، ولا علم أحد قط في اللغة التي بها نزل القرآن أن الاعتبار هو القياس، وإنما أمرنا تعالى أن نتفكر في عظيم قدرته في خلق السموات والارض، وما أحل بالعصاة كما قال تعالى في قصة إخوة يوسف عليه السلام: * (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب) * فلم يستح هؤلاء القوم أن يسموا القياس اعتبارا وعبرة على جاري عادتهم في تسمية الباطل باسم الحق ليحققوا بذلك باطلهم.
وهذا تمويه ضعيف، وحيلة واهية، وقد قال تعالى: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للانسان ما تمنى) * فأبطل الله تعالى كل
تسمية إلا تسمية قام بصحتها برهان، إما من لغة مسموعة من أهل اللسان، وإما منصوصة في القرآن وكلام النبي (ص)، وما عدا ذلك فباطل.
وهل هذه الطريقة، التي سلكوا من التمويه والغش بقلع الاسماء عن مواضعها وتحريف الكلم عن مواضعه، إلا كمن سمى من النخاسين أواريهم بأسماء المدن، ثم يحلف بالله لقد جاءت هذه الدابة أمس من بلد كذا تدليسا وغشا ؟ وأهل القياس جارون على هذه الطريقة في تسميتهم القياس عبرة واعتبارا.
ونسألهم في أي لغة وجدوا ذلك ؟ وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: * (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب) * فليت شعري أي قياس في قصة يوسف عليه السلام أترى أنه أبيح لنا بيع إخوتنا كما باعه إخوته ؟ أو ترى أن من باعه إخوته يكون ملكا على مصر ويغلو الطعام في أيامه.
أو ترى إذ قال الله تعالى: * (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولي الابصار) * أنه أمرنا قياسا على ذلك أن نخرب بيوتنا بأيديهم وأيدينا قياسا

(7/947)


على ما أمرنا الله تعالى أن نعتبر به من هدم بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين أما سمعوا قول الله تعالى: * (وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون) *.
أفيجوز لذي مسكة عقل أن يقول: إن العبرة ههنا القياس وإن معنى هذه الآية: * (وإن لكم في الانعام) * لقياسا أما يرى كل ذي حس سليم أن هذه الآية مبطلة للقياس لما قص تعالى عليه أنه يخرج من بين فرث حرام ودم لبنا حلالا، وأننا نتخذ من تمر النخيل والاعناب مسكرا حراما خبيثا، ورزقا حلالا، وهما من شئ واحد، فظهر أن تساوي الاشياء لا يوجب تساوي حكمها، وصح أن معنى العبرة التعجب
فقط، هذا أمر يدريه النساء والصبيان والجهال، حتى حدث من كابر الحس، وادعى أن الاعتبار القياس مجاهرة بالباطل، تالله ما قدرنا أن عاقلا يرضى لنفسه بهذه الخساسة، وبهذا الكذب في الدين، وبعاجل هذه الفضيحة نعوذ بالله.
والقوم كالفريق يتعلق بما وجد، ولو لم يكن في إبطال القياس إلا هذه الآية لكفى، لان أولها قوله تعالى: * (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولي الابصار) * فنص الله تعالى كما نسمع على أنه أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وأن المؤمنين لم يظنوا قط ذلك، وأن الكفار لم يحتسبوا قط ذلك، فثبت يقينا بالنص في هذه الآية أن أحكام الله عز وجل جارية على خلاف ما يحتسب الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، والقياس إنما هو يحتسبه القائسون، لا نص فيه ولا إجماع كظن المالكي أن علة الربا الادخار في المأكولات في الجنس، وظن الحنفي أنها الوزن أو الكيل في الجنس، وظن الشافعي أنها الاكل في الجنس، وهذه كلها ظنون واحتسابات، فصح أن أحكام الله تعالى تأتي بخلاف ما يقع في النفوس، فهذه الآية أبين شئ في إبطال القياس والحمد لله رب العالمين.
وقد قوى بعضهم احتجاجهم بما ذكرنا في قوله: * (المؤمنين) * بما روي عن

(7/948)


ابن عباس من قوله في دية الاصابع، ألا اعتبرتم ذلك بالاسنان، عقلها سواء وإن اختلفت منافعها.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان ابن عباس إنما أراد بقوله: هلا اعتبرتم أي هلا تبينتم ذلك بالاصابع فاستبنتم، لان العبارة عن الشئ هوما يتبين
به الشئ، أي هلا تبينتم أن اختلاف المنافع لا يوجب اختلاف الدية، أو هلا فكرتم وعجبتم في الاصابع، ورأيتم أن اختلاف منافعها لا يوجب اختلاف دياتها ولا اختلاف أحكامها، كما أن الاسنان أيضا كذلك، وهذا نص جلي من ابن عباس على إبطال القياس، والعلل الموجبة عند القائلين بالقياس لاستواء الاحكام، لانهم يقولون: إن الدية إنما هي عوض عن الاعضاء المصابة، فيقيسون فقد السمع على فقد البصر في الدية، لان المنفعة بذلك متساوية فأبطل ابن عباس ذلك ورد إلى نص، ولم يجد الاصابع أصلا للاسنان يقاس عليه، ولا جعل الاسنان أصلا للاصابع يقاس عليه، بل سوى بين كل ذلك تسوية واحدة، وهذا هو ضد القياس، لان القياس عند القائلين به إنما هو رد الفرع إلى الاصل، وليس ههنا أصل وفرع، بل النص ورد أن الاصابع سواء وأن الاسنان سواء ورودا مستويا فبطل تمويههم الذي راموا به تصحيح أن القياس يسمى عبرة.
ولقد ناظرني كبيرهم في مجلس حافل بهذا الخبر فقلت له: إن القياس عند جميع القائلين به، وأنت منهم، إنما هو رد ما اختلف فيه إلى ما أجمع عليه أو رد ما لا نص فيه إلى ما فيه نص، وليس في الاصابع ولا في الاسنان إجماع، بل الخلاف موجود في كليهما، وقد جاء عن عمر المفاضلة بين دية الاصابع وبين دية الاضراس، وجاء عنه وعن غيره التسوية بين كل ذلك، فبطل ههنا رد المختلف فيه إلى المجمع عليه والنص في الاصابع والاسنان سواء، ثم من المحال الممتنع أن يكون عند ابن عباس نص ثابت عن النبي (ص) في التسوية بين الاصابع وبين الاضراس ثم يفتي هو بذلك قياسا.
فقال لي: وأين النص بذلك عن ابن عباس ؟ فذكرت له الخبر الذي حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي: ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني، ثنا محمد بن بكر، ثنا سليمان ابن الاشعث السجستاني، ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري، ثنا عبد الصمد بن

(7/949)


عبد الوارث، ثنا شعبة بن الحجاج، ثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): الاصابع سواء، الاسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء يعني الابهام والخنصر.
فانقطع وسكت.
وزاد بعضهم جنونا فاحتج في إثبات القياس بقول الله تعالى: * (إن كنتم للرؤيا تعبرون) *.
قال أبو محمد: وهذا من الجنون ما هو: لان العبارة إنما هي في اللغة البيان عن الشئ تقول: هذا الكلام عبارة عن كذا، وعبرت عن فلان إذا بينت عنه ولا مدخل للحكم في شئ من ذلك لشئ لم يذكر اسمه في الشريعة بالحكم في شئ ذكر فيها اسمه، فعارضوا بأن قالوا: العبور هو الجواز والتجاوز من شئ إلى شئ، تقول: عبرت النهر.
قالوا: والقياس تجاوز شئ منصوص إلى شئ لا نص فيه.
قال أبو محمد: هذا من المكابرة القبيحة، لان هذا من الاسماء المشتركة التي هي مثل ضرب من ضراب الجمل وهو سفادة الناقة وضرب بمعنى الايلام بإيقاع جسم على جسم المضروب بشدة والضرب العمل.
وهكذا عبرت الرؤيا فسرتها، وعبرت النهر أي تجاوزته، فهذان معنيان مختلفان، ليس أحدهما من الآخر في ورد ولا صدر، ومصدر عبرت النهر إنما هو العبور ومصدر عبرت الرؤيا إنما هو العبارة ومصدر اعتبرت في الشئ إذا فكرت فيه الاعتبار والعبرة الاسم والعبرة والاستعبار التأهب للبكاء والاخذ فيه، والعبرى نبات يكون على شطوط الانهار، والعبرانية لغة بني إسرائيل، والعبير ضرب من الطيب.
فإذا قلنا: إن معنى عبرت النهر إنما هو تجاوزته، ومعنى عبرت الرؤيا إنما هو فسرتها، فقد وضح أن هذا غير هذان ولو أن المعبر للرؤيا تجاوزها لما كان مبينا لها، بل يكون تاركا لها آخذا في غيرها، كما فعل عابر النهر إذا تجاوزه إلى البر،
والاعتبار أيضا معنى ثالث غير هذين بلا شك، فخلط هؤلاء القوم وأتوا بالسفسطة المجردة، وهو أن يأتي بألفاظ مشتركة تقع على معاني شتى، فيخلط بها على الناس ليوهم أهل العقل أشياء تخرجهم عن نور الحق إلى ظلمة الباطل، وقد حذر الاوائل من هذا الباب جدا، وأخبروا أنه أقوى الاسباب في دخول الآفات على الافهام، وفي إفساد الحقائق، وقد نبهنا نحن عليه في مواضع كثيرة من كتابنا هذا، ومن سائر

(7/950)


كتبنا، وقد بينا ذلك في كتاب التقريب، ولم نبق فيه غاية، وبالله تعالى التوفيق.
ثم مع ذلك لم يقنعوا بهذا الباب من الباطل، حتى زادوا عليه زيادة كثيرة، وهو أنهم سموا القياس عبرة جرأة وتمويها، والتسمية في اللغة والكلام المستعمل بيننا كله لا تخلو من وجهين لا ثالث لهما: أحدهما: اسم سمع من العرب، والعرب لا تعرف القياس في الاحكام في جاهليتها، لانهم لم يكن لهم شريعة كتابية قبل محمد (ص)، فبطل أن يكون للقياس عندهم اسم.
والقسم الثاني: اسم شرعي أوقعه الله تعالى ورسوله (ص) على بعض أحكام الشريعة، كالصلاة والزكاة والايمان والكفر والنفاق، وما أشبه ذلك، وتعالى الله ورسوله عن أن يقيسا، فبطل أن يكون الله تعالى ورسوله (ص) سميا القياس عبرة، فهذان القسمان من الاسماء لازمان لكل متكلم بهذه اللغة، ولكل مسلم، وأما الاسماء التي يتفق عليها أقوام من الناس التفاهم في مرادهم، فلذلك لهم مباح بإجماع، إلا أنهم ليس لهم أن يلبسوا بذلك على الناس.
وهم في أعظم إثم وحرج إن سموا ما يخالفهم فيه غيرهم باسم واقع على معنى حقيقي ليلزموا خصومهم قبول ما خالفهم فيه، تمويها على الضعفاء، وعدوانا كمن سمى الخمر عسلا يستحلها بذلك، لان العسل حلال، فبطل أن يسمي القياس عبرة
أو اعتبارا، وعلمنا أن أصحاب القياس الذي أحدثوا هذه البدعة هم الذين أحدثوا له هذا الاسم كما أنذر النبي (ص) بقوم يأتون في آخر الزمان يسمون الخمر بغير اسمها ليستحلوها بذلك، فقد فعل أصحاب القياس ذلك بعينه، وسموا الباطل عبرة واعتبارا لهم ليصبح لهم باطلا بذلك لان العبرة حق: * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) *، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بآبدة أنست ما قبلها، وهو أن بعضهم استدل على صحة القياس بقول الله تعالى واصفا لامر آدم عليه السلام، إذ تكشفت عورته عند أكل الشجرة فقال تعالى: * (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) *.
قال أبو محمد: إنما شرطنا أن نتكلم فيما يعقل، وأما الهذيان فلسنا منه في شئ

(7/951)


ولا ندري وجه القياس في تغطية آدم عورته بورق الجنة، وليت شعري لو قال لهم خصمهم، مجاوبا لهم بهذا الهذيان: إن هذه حجة في إبطال القياس بماذا كانوا ينفكون منه ؟ وهل كان يكون بينه وبينهم فرق.
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام إذ قال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) *.
قال أبو محمد: وهذه كالتي قبلها، وما يعقل أحد من إحياء الله عزوجل الطير قياسا، ولا أنه يوجب أن يكون الارز بالارز متفاضلا حراما، وأن الاحتجاج بمثل هذا مما ينبغي المسلم أن يخاف الله عزوجل فيه، وما بين هذا وبين من احتج في إثبات القياس وفي إبطاله بقول الله تعالى: * (قل أعوذ برب الناس) * فرق، ولكن من لم يبال بما تكلم سهلت عليه الفضائح، وليس العار عارا عند من يقلده، واحتجوا بقول الله تعالى: * (كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم) * وبقوله تعالى: * (كأنهن الياقوت والمرجان) *.
قال أبو محمد: وهذا من نحو ما أوردناه آنفا من العجائب المدهشة، بينما نحن في
تحريم شئ لم يذكر تحريمه في القرآن والسنة ولا في الاجماع، من أجل شبهه لشئ آخر حرم في النص، حتى خرجنا إلى تشبيه الحور العين بالياقوت والمرجان، فكل ذي عقل يدري أن الياقوت والمرجان يباع ويدق ويسرق، ويخرج من البحر الملح، وأنه لا يعقل ولا هو حيوان، أفترى الحور العين يفعل بهن هذا كله ؟ تعالى الله عن ذلك، وقد علم كل مسلم أن الحور العين عاقلات أحياء ناطقات، يوطأن ويأكلن ويشربن، فهل الياقوت والمرجان كذلك ؟ وإنما شبه الله تعالى الحور العين بالياقوت والمرجان في الصفاء فقط، ونحن لا ننكر تشابه الاشياء وإنما ننكر أن نحكم المتشابهات بحكم واحد في الشريعة بغير نص ولا إجماع، فهذا هو الزور والافك والضلال، وأما تشابه الاشياء فحق يقين.
وكذلك شبه الله تعالى بطلان أعمال الكفار ببطلان الزرع بالريح التي فيها الصر فأي مدخل للقياس ههنا ؟ أترى من بطل زرعه خالدا في جهنم كما يفعل بالكافر ؟ أو ترى الكافر إذا حبط عمله ذهب زرعه في فدانه، كما يذهب زرع من أصاب زرعه ريح فيها صر ؟ هذا ما لا يقوله أحد ممن له طباخ.

(7/952)


وأما الحقيقة فإن هاتين الآيتين تبطلان القياس إبطالا صحيحا، لان الله تعالى مثل الحور العين بالياقوت والمرجان، ومثل أعمال الكفار بزرع أصابته ريح فيها صر.
ولم يكن تشبيه الحور بالياقوت والمرجان يوجب للياقوت والمرجان الحكم أحكام الحور العين، ولا للحور العين الحكم بأحكام الياقوت والمرجان، ولا كان شبه عمل الكفار بالزرع الذاهب يوجب للزرع الحكم بأحكام أعمال الكفار، من اللعين والبراءة والوعيد، ولا لاعمال الكفار بأحكام الزرع من الانتفاع بتبنه في علف الدواب وغير ذلك.
فصح أن تشابه الاشياء لا يوجب لها التساوي في أحكام الديانة، ولا شئ
أقوى شبها من شيئين شبه الله عزوجل بعضها ببعض، فإذا كان الشبه الذي أخبرنا الله تعالى به لا يوجب لذينك المتشابهين حكما واحدا فيما لم ينص فيه، فبالضرورة تعلم أن الشبه المكذوب المفترى من دعاوى أصحاب القياس أبعد عن أن يوجب لما شبهوا بينهما حكما واحدا، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بقول الله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ئ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ئ الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون ئ أو ليس الذي خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) *.
قال أبو محمد: وهذا من عجائبهم وطوامهم، ليت شعري ما في هذه مما يوجب القياس أو أن يحكم في ألا يكون الصدق أقل مما يقطع فيه اليد، وأن يرجم اللوطي كما يرجم الزاني المحصن ؟ ولكاد احتجاجهم بهذه الآية أن يخرجهم إلى الكفر، لانه تعالى لم يوجب أنه يعيد العظام من أجل أنه أنشأها أول مرة، ولا أخبر تعالى أن إنشاءه لها أول مرة يوجب أن يعيدها، ومن ظن هذا فقد افترى.
ومع ذلك فلو كان إنشاء الله تعالى للعظام، أولا يوجب أن يحييها ثانية، لوجب ضرورة إذا أفناها أيضا بعد أن أنشأها أولا أن يفنيها ثانية بعد أن أنشأها ثانية، وهذا ما لا يقولونه، ولا يقول به أحد من المسلمين إلا جهم بن صفوان وحده.
ولو كان ذلك أيضا لوجب أن يعيدهم إلى الدنيا ثانية كما ابتدأهم ونشأهم فيها

(7/953)


أول مرة، وهذا كفر مجرد، لا يقول به إلا أصحا ب التناسخ، فقبح الله كل احتجاج يفر صاحبه من الانقطاع والاذعان للحق إلى ما يؤدي إلى الكفر، فبطل تمويههم بهذه الآية، وصح أن معناها هو اقتضاء ظاهرها فقط، وهو أن القادر على خلق الاشياء ابتداء قادر على إحياء الموتى.
وقد بين الله تعالى
نصا إذ يقول: * (ومن آياته أنك ترى الارض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحى الموتى إنه على كل شئ قدير) * فبين عزوجل أنه إنما بين ذلك قدرته على كل شئ.
وإنما عارض الله تعالى بهذا قوما شاهدوا إنشاء الله تعالى للعظام من مني الرجل والمرأة أقروا بذلك وأنكروا قدرته تعالى على إنشائها ثانية وإحيائها، فأراهم الله تعالى فساد تقسيمهم لقدرته كما قال في أخرى: * (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شئ قدير) * فهذه كتلك، وليس في شئ منها أن نحكم لما لا نص فيه بالحكم بما فيه نص من تحريم أو إيجاب أو إباحة أصلا وأن هذا كله باب واحد، ليس بعضه مقيسا على بعض، ولا أصلا والآخر فرعا، وإقدام أصحاب القياس وجرأتهم متناسبة في مذاهبهم وفيما يؤيدونها، نعوذ بالله من الخذلان.
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: * (حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) * وبقوله تعالى: * (فإذآ أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ان الذي أحياها لمحى الموتى) * وبقوله تعالى: * (فأحيينا به بلدة ميتا كذلك النشور) * وبقوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) * إلى قوله: * (كذلك الخروج) * وبقوله تعالى: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة) *.
قال أبو محمد: وهذا كله من جنس ما ذكرناه آنفا والمحتج بهذه الآيات في إثبات القياس في الاحكام، إما جاهل أعمى لا يدري ما القياس، وإما مموه لا يبالي ما قال: ولا ما أطلق به لسانه في استدامة حاله، ولو كان هذا قياسا لوجب أن يحيي الله الموتى كل سنة في أول الربيع، ثم يموتون في أول الشتاء كما تفعل الثمار

(7/954)


وجميع النبات، وهذا مما لا يقوله إلا ممرو، وإنما أخبر تعالى في كل هذه الآيات بأنه يحيي الارض ويحيي الموتى ويقدر على كل ذلك، لا على أن بعض ذلك مقيس على بعض البتة.
وذكروا أيضا في ذلك قول الله تعالى: * (ويقول الانسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر إلانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) *، وبقوله تعالى: * (يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم قال أبو محمد: هذا هو إبطال القياس على الحقيقة، لانه لا سبيل إلى أن يخلق ثانية من نطفة، ولا من علقة، ولا من مضغة، فإنما معنى هذه الآية: من الله تعالى علينا وتذكيره لنا بقدرته على ما يشاء لا إله إلا هو.
وكذلك الآية التي قبلها: أن الانسان لم يك شيئا، ثم خلق، ولا سبيل إلى أن يعود لا شئ أبدا، بل نفسه عائدة إلى حيث رآها النبي (ص) ليلة أسري به، ويعود الجسم ترابا، ثم يجمعان يوم القيامة فيخلد حيا باقيا أبد الابد بلا نهاية ولا فناء، في نعيم أو عذاب فبطل القياس ضرورة من حيث راموا إثباته تمويها على اغترابهم.
وهذه الآيات كلها هي بمنزلة قوله تعالى: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها) * فإنما بين قدرته على ما شاهدنا، وعلى ما أخبرنا به مما لم نشاهد وهذا إبطال للقياس ولظنون الجهال، لان الله تعالى نص على تشابه الاشياء كلها بعضها لبعض، ولم يوجب من أجل ذلك التشابه أن تستوي في أحكامها، وهذا هو نفس قولنا في إبطال القياس في تسوية الاحكام بين الاشياء المشتبهات، وبالله التوفيق.
ومثل ذلك قوله تعالى: * (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح) * وكقوله تعالى: * (إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون) * الآيات
إلى قوله تعالى: * (كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) *.
قال أبو محمد: ولا شبه أقوى من شبه شهد الله تعالى بصحبته، فإذا كان الله تعالى قد شبه الحياة الدنيا بالنبات النابت من الماء النازل من السماء، فهي أشبه الاشياء

(7/955)


به، وشبه تلف جثث أولئك العصاة بالعدل، وذلك لا يوجب استواءهما في شئ من الحكم في الشريعة غير الذي نص الله تعالى عليه من البلى بعد الجدة فقط، فبطل ظنهم الفاسد، والحمد لله رب العالمين.
وكذلك أيضا قوله تعالى: * (مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ) *.
قال أبو محمد: وذلك الزرع يرعى، وليس متعبدا ولا جزاء عليه، في الآخر والقوم الذين شبهوا به ولا شك أنهم خلاف ذلك، وأنهم متعبدون مجازون بالجزاء التام في الآخرة.
وأن العجب ليكثر من عظيم تمويههم في الدين، وتدليسهم فيه باحتجاجهم بهذه الآيات في القياس وما عقل قط ذو مسكة عقل أنه يجب في هذه الآيات تحريم بيع التبن بالتبن متفاضلا، إذا حرم بيع التمر بالتمر متفاضلا وما قائل هذا إلا قريب من الاستخفاف بالقرآن والشرائع، ونعوذ بالله من هذا.
واحتج بعضهم في إثبات القياس بآبدة أنست ما تقدم، وهو أنه قال من الدليل على صحة القياس قول الله تعالى: * (والمرسلات عرفا) * قال: فأشار إلى العرف.
قال أبو محمد: وهذا دليل على فساد عقل المحتج به في إثبات القياس وقلة حيائه ولا مزيد، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، ونسأله التوفيق، ولا عرف إلا ما بين الله تعالى نصا أنه عرف، وأما عرف الناس فيما بينهم فلا حكم له ولا معنى، وما عرف الناس مذ نشؤوا إلا الظلم والمكوس.
واحتجوا أيضا بأن قالوا: قال الله عزوجل: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * قالوا: فإنما جاء النص بجلد قاذف المحصنات، وأنتم تجلدون قاذف الرجال المحصنين كما تجلدون قاذف المحصنات من النساء، وهذا قياس.
قال أبو محمد: وهذا ظن فاسد منهم، وحاشا لله أن يكون قياسا، ونحن نبدأ فنبين، بحول الله وقوته، من أين أوجبنا جلد قاذف الرجال من نص القرآن والسنة، فإذا ظهر البرهان على ذلك لائحا، بحول الله وقوته، وأنه من النص عدنا

(7/956)


إلى بيان أنه لا يجوز أن يكون قياسا، وأنه لو استعمل ههنا القياس لكان حكمه غير ما قالوا، وبالله تعالى التوفيق، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إن قول الله عزوجل: * (والذين يرمون المحصنات) * عموم لا يجوز تخصيصا إلا بنص أو إجماع، فممكن أن يريد الله تعالى النساء المحصنات كما قلتم، وممكن أن يريد الفروج المحصنات، وهذا غير منكر في اللغة التي بها نزل القرآن، وخاطبنا بها الله تعالى، قال الله عزوجل: * (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا) * يريد من السحاب المعصرات، فقلنا نحن: إنه أراد الفروج المحصنات، وقلتم أنتم: إنه أراد النساء المحصنات، فوجب علينا ترجيع دعوانا بالبرهان الواضح، فقلنا: إن الفروج أعم من النساء، لان الاقتصار بمراد الله تعالى على النساء خاصة تخصيص لعموم اللفظ، وتخصيص العموم لا يجوز إلا بنص أو إجماع.
وأيضا فإن الفروج هي المرمية لا غير ذلك من الرجال والنساء، برهان ذلك ما قاله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون ئ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * وقال تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) * وقال
تعالى: * (والحافظين فروجهم والحافظات) * وقال تعالى: * (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) * فصح أن الفرج هو المحصن وصاحبه هو المحصن له بنص القرآن.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد ابن محمد نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ما رأيت أن شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة: أن النبي (ص) قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.
وبه إلى مسلم: ثنا إسحاق بن منصور، أنا هشام المخزومي، هو ابن سلمة، ثنا وهيب بن خالد، ثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي (ص)

(7/957)


قال: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والاذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه.
قال أبو محمد: فصح يقينا أن المرمية هي الفروج خاصة، وأن المحصنة على الحقيقة هي الفروج إلا ما عداها، وصح أن الزنى الواجب فيه الحد هو زنى الفروج خاصة لا زنا سائر الاعضاء، ولا زنى النفس دون الفرج، فلا حد في النص كما أوردنا، في زنى العينين، ولا في الرجلين، ولا في زنى اللسان، ولا في زنى الاذنين، ولا في زنى القلب الذي هو مبعث الاعمال، وصح أن من رمى العينين بالزنى أو رمى الرجلين بالزنا أو رمى القلب بالزنى، أو رمى الاذنين بالزنى، أو رمى اليدين بالزنى، أو رمى أي عضو كان بالزنى ما عدا الفرج - فليس راميا، ولا حد عليه بالنص، لان الفرج إن كذب فهو كله لغو.
فصح يقينا أن الرمي الذي يحد فيه الحدود ورد
الشهادة والتفسيق، إنما رمي الفروج بلا شك، بيقين لا مرية فيه، فإذ ذلك كذلك فقد صح أن مراد الله تعالى بالحدود ورد الشهادة في الآية المتلوة، إنما هي رمي الفروج فقط، فصح قولنا بيقين لا مجال للشك فيه، وهذا إذ هو كذلك ففروج الرجال والنساء داخلات في الآية دخولا مستويا.
ثم نسألهم فنقول لهم أخبرونا عن قول الله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) * إذ قلتم أنه تعالى أراد بهذه اللفظة ههنا النساء فقط، هل أراد الله أن يحد قاذف الرجل أم لا ؟ ولا بد من إحداهما، فإن قالوا: لم يرد بقوله تعالى فقد حكموا على أنفسهم أنهم يحكمون بخلاف ما أراد الله تعالى، وكفونا أنفسهم.
وإن قالوا: إن الله تعالى أراد أن يحد قاذف الرجل، قلنا لهم: إن هذا عجب أن يكون تعالى يريد في دينه وعلمه من عباده أن يحد قاذف الرجل، ثم لا يأمرنا إلا بحد قاذف النساء فقط، حاشا لله من ذلك، فإنه تلبيس لا بيان، فإن قالوا: اقتصر على النساء ونبهنا بذلك على حكم قاذف الرجال قلنا لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ولم تأتوا بأكثر من الدعوى الكاذبة التي فيها خالفناكم، فإن كانت عندكم حجة من نص جلي على صحة هذه الدعوى، وإلا فهي كذب بحت، ولستم بصادقين فيها بنص القرآن، قالوا: الاجماع قد صح على وجوب حد قاذف الرجل.

(7/958)


قلنا لهم: وأي دليل لكم في الاجماع ؟ والاجماع لنا لا لكم لان الاجماع إنما كان من هذا النص المذكور، فهاتوا دليلا على أنه كان عن قياس، ولا سبيل لهم إلى دليل ذلك أصلا، لا برهاني ولا إقناعي ولا شغبي، وظهر بطلان قولهم، والحمد لله رب العالمين.
ثم نعود إلى إبطال أن يكون حد قاذف الرجل قياسا جملة ولا بد، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إننا وجدنا أحكام الرجال والنساء تختلف في
مواضع، فالرجال عليهم الجمعات والجماعات فرضا، والنساء لا تلزمهن جمعة ولا جماعة فرضا، وقد استووا في حكم سائر الصلاة والزكاة، والمرأة لا تسافر في غير واجب إلا مع زوج أو ذي محرم، والرجل يسافر حيث شاء دون زوجة، ودون ذي محرم، والخوف عليه من أن يزني كالخوف عليها من أن تزني ولا فرق، لان زناها لا يكون إلا مع رجل، وحكمهن في اللباس مخالف لحكم الرجل.
فلا يجوز للرجال لباس القمص والعمائم والسراويل في الاحرام، وهذا مباح للنساء، واستووا في تحريم الطيب عليهم وعليهن في الاحرام، والرجال عليهم الصلاة مع الامام بمزدلفة صلاة الصبح، ومباح للنساء السفر قبل ذلك فاستووا فيما عدا ذلك، والجهاد على الرجال، ولا جهاد على النساء، وشهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل، وخصومنا ههنا لا يقبلون النساء أصلا إلا في الاموال مع رجل ولا بد، وفي عيوب النساء والولادات فقط.
ويقبلون الرجال فيما عدا ذلك، ولا يقيسون الرجال عليهن ولا يقيسوهن على الرجال، وليس هذا إجماعا، ودية المرأة نصف دية الرجل، وكثير من الحاضرين من خصومنا ههنا يسوون بينهن وبين الرجال في مقدور محدود من الديات، ويفرقون بين أحكامهم وأحكامهن في سائر ذلك، ولا يقيسون النساء على الرجال، ولا الرجال على النساء، وحد المرأة كحد الرجل في القذف والخمر والزنى والقتل والقطع في السرقة، وفرق بين الحاضرين من خصومنا في التغريب في الزنى بين الرجال والنساء، وفرق آخرون منهم في حد الردة، بين الرجال والنساء فرأوا قتل الرجل في الردة، ولم يروا قتل المرأة في الردة، وتركوا القياس ههنا، وللرجل أن ينكح أربعا ويتسرى، ولا يحل للمرأة

(7/959)


أن تنكح إلا واحدا ولا تتسرى، ولم يقيسوا عليهن، إلى كثير مثل هذا اكتفينا منه بهذا المقدار.
فلما وجدنا أحكام الرجال، وأحكام النساء تختلف كثيرا، وتتفق كثير، على حسب ورود النص في ذلك فقط، بطل أن يقاس حكم الرجال على النساء، إذا اقتصر النص عن ذكرهن، أو أن تقاس النساء على الرجال،: إذا اقتصر النص على ذكرهم.
إذ ليس الجمع بين أحكامهن وأحكام الرجال حيث لم يأت النص بالتفريق قياسا على ما جاء النص فيه متساويا بين أحكامهن وأحكامهم، أولى من التفريق بين أحكامهن وأحكام الرجال، حيث لم يأت النص بالجمع قياسا على ما جاء النص فيه مفرقا بين أحكامهن وأحكامهم، وهذا في غاية الوضوح.
والحقيقة بلا شك فيها، فلو كان القياس حقا لكان قياس قاذف الرجل في إيجاب الحد عليه على قاذف المرأة باطلا متيقنا لا يجوز الحكم به أصلا فارتفع توهمهم جملة، والحمد لله رب العالمين.
ومن أوضح برهان على أن حد قاذف الرجل ليس عن قياس على قاذف المرأة بالزنا أن بعد أمر الله بجلد قاذف المحصنات بسطر واحد فقط قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) * الآيات...فلا خلاف بين أحد من الامة أنه لا يقاس قاذفة زوجها أن تلاعن على قاذف زوجته أن يلاعن، فلو كان القياس حقا، لما كان قياس قاذف الرجل على قاذف المرأة أن يجلد الحد: أولى ولا أصح من قياس قاذفة زوجها على قاذف زوجته أن تلاعنه أيضا، ولا يجد أحد فرق بين الامرين أصلا، فصح أن القياس باطل إذ لو كان حقا لاستعمله الناس في الملاعنة، وصح أن جلد قاذف الرجل ليس عن قياس وأنه عن نص كما ذكرنا، وبالله التوفيق.
واحتج بعضهم بقول الله تعالى: * (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) *.
قال أبو محمد: وجمجم هذا المحتج ولم يصرح على ههنا أشياء من القرآن مفتقرة إلى القياس.
قال أبو محمد: وهذا كلام يسئ الظن بمعتقد، قائله، ولا قول أسوأ من قول من قال: إن الله تعالى شبه على عباده فيما أراد منهم وفيما كلفهم، وإن رسول الله

(7/960)


(ص) لم يبين تلك الاشياء وتركها مهملة، واحتاجوا فيها إلى قياسهم الفاسد.
وقد بينا الكلام في باب مفرد في ديواننا هذا، وأخبرنا أنه لا يحل لاحد أن يتبع متشابه القرآن، ولا أن يطلب معنى ذلك المتشابه، وليس إلا الاقرار به، وأنه من عند الله تعالى، كما قال عزوجل في آخر الآية المذكورة: * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) * وأخبر تعالى فيها فقال: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) * فنص تعالى على أن من طلب تأويل المتشابه فهو زائغ القلب، مبتغي فتنة.
ونحن نبرأ إلى الله من هذه الصفة، فثبت بالنصوص، ضرورة، أن تأويل المتشابه، لا يعلمه أحد إلا الله عزوجل وحده فقط، لان ابتغاء معرفته حرام، وما حرم ابتغاء معرفته فقد سد الباب دون معرفته ضرورة، إذ لا يوصل إلى شئ من العمل إلا بعد ابتغائه، فما حرم ابتغاؤه فلا سبيل إلى الوصول إليه، وهذا بين لا خفاء فيه، وطرق المعارف معروفة محصورة، وهي: الحواس والعقل اللذان ركبهما الله في المتعبدين من الحيوان، وهم الملائكة والجن، ومن وضع من ذلك فيه شئ من الانس، ثم ما أمر الله بتعرفه وتعرف حكمه فيه، مما جاء من عنده عزوجل، وهو القرآن والسنة فقط، وهذه كلها طرق أمرنا بسلوكها والاستدلال بها، وقد نهينا عن طلب معنى المتشابه، فصح أنه لا يوصل إلى معرفة معناه من جهة شم الحواس، ولا من المعقول ولا من القرآن ولا من السنة، فإذا كان الامر كذلك فلاسبيل لمخلوق إلى معرفته إلا أن الذي صح في الآي المحكمات التي أمرنا الله بتدبرها وبتعلمها، وبطلب تأويلها والتفقه فيها.
فطاعة القرآن فيما أمر الله تعالى فيه ونهى، وطاعة الرسول
(ص) في الذي أمر فيه ونهى وترك التعدي لهذه الحدود، وبطلان ما عداها، فبطل القياس ضرورة لانه غير هذه الحقائق، والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا فقالوا: حرم الله تعالى لحم الخنزير فحرمتم شحمه والانثى منه، وهذا قياس.
قال أبو محمد: وهذا ظن فاسد منهم، ومعاذ الله أن نحرم شحم الخنزير وأنثاه بقياس، بل بالاجماع الصحيح وبالنص في القرآن، ولو كان الشحم كحكم اللحم لوجب، إذ حرم على بني إسرائيل الشحم، أن يحرم عليهم اللحم، فإذا لم يكن ذلك فقد صح أن الشحم لم يحرم من الخنزير قياسا على اللحم.

(7/961)


ومن الطرائف أن المحتجين بهذا يقولون، أو أكثرهم، إن الشحم جنس غير اللحم ويجيزون رطل لحم برطلي شحم، حتى إن جمهورهم، وهم صحاب أبي حنيفة، يرون شحم الظهر غير شحم البطن، فيجيزون رطل شحم بطن برطلي شحم الظهر والمالكيون والشافعيون والحنفيون يجيزون رطل شحم الغنم برطلي شحم الاوز فأين هذيانهم، إنه إنما حرم شحم الخنزير قياسا على لحمه ؟.
والشافعيون والحنفيون والمالكيون يقولون: من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما فإنه لا يحنث، ولا خلاف بينهم أن من قال لآخر: ابتع لي بهذا الدرهم لحما فابتاع له به شحما فإنه ضامن.
فبطل قياسهم البارد إن الشحم من الخنزير مقيس على لحمه، ولا خلاف بينهم أن العظم لا نسبة بينه وبين اللحم، ولا يجوز أن يقاس عليه، ونحن وهم مجمعون على أن من سحق عظم الخنزير فاستفه فقد عصى الله تعالى، فصح ضرورة أنه لم يحرم شحمه قياسا على لحمه، ولا أنثاه قياسا على ذكره، وبطل تمويههم والحمد لله.
وإنما حرم شحم الخنزير وغضروفه ودماغه ومخه وعصبه، وعروقه وجلده وشعره وعظمه وعضله وسنه وظلفه، وملكه والانثى منه ولبنها، بقول الله تعالى: * (أو لحم خنزير فإنه رجس) * والضمير في لغة العرب راجع إلى أقرب مذكور.
وقد أفردنا لذلك بابا في كتابنا هذا وأقرب مذكور إلى الضمير الذي في
(فإنه) هو الخنزير لا اللحم، فالخنزير كله بالنص رجس والرجس كله خبيث محرم بقول الله تعالى: * (إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) * فرجع الضمير في قوله تعالى: إلى الرجس، لانه تعالى لو أراد الاربعة المذكورة في أول الآية لقال: فاجتنبوها، فلما لم يقل تعالى ذلك، ولم يجز أن يكون الضمير راجعا في قوله تعالى: * (فاجتنبوه) * إلى الشيطان.
لاننا غير قادرين على اجتنابه، صح ضرورة أنه راجع إلى الرجس وعمل الشيطان، فكان الرجس كله محرما، وهو من وعمل الشيطان محرم مأمور باجتنابه، فكل ما كان رجسا فهو باجتنابه، والخنزير رجس فكله محرم مأمور باجتنابه، وكذلك الخمر والميسر والانصاب، والازلام، وكل رجس بالنص المذكور، وبالله تعالى التوفيق.

(7/962)


وإنما قلنا هذا حسما للاقوال، وإنما فالضمير راجع إلى عمل الشيطان، والرجس، بنص الآية، من عمل الشيطان، فهو مأمور باجتنابه بيقين، والخنزير رجس بنص القرآن، والخنزير كله حرام، والخنزير في لغة العرب، التي بها خوطبنا، اسم للجنس يقع تحته الذكر والانثى والصغير والكبير، فبطل ما ظنوا أن تحريم الشحم إنما هو جهة القياس، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نقول لهم: أخبرونا عن قول الله تعالى: * (أو لحم خنزير فإنه رجس) * ماذا أراد به عندكم ؟ اللحم وحده دون الشحم ؟ فإن قلتم ذلك فقد أباح الشحم على قولكم، وهذا خلاف الاسلام، وخلاف قولكم، أ أراد به الشحم واللحم والعظم واللبن ؟ فهذا باطل، لان كل ذلك يقع عليه عند أحد اسم لحم، فقد حصل قولكم بين كذب وكفر، لا بد من إحداهما، فإن قالوا: حرم اللحم ودل بذلك على الشحم قلنا: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وفي هذا خالفناكم
وكذبنا دعواكم، فحصلوا في ضلال محض.
واحتج بعضهم بأن قال: يلزمكم ألا تبيحوا قتل الكفار إلا بضرب الرقاب فقط، لقول الله تعالى: * (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) *.
قال أبو محمد: والجواب بأن الله تعالى إنما قال هذا في المتمكن منهم من الكفار، وهذا فرض بلا شك، ولا يحل خلافه، فمن أراد الامام قتله من الاسارى لم يحل قتله إلا بضرب الرقبة خاصة، لا بالتوسيط ولا بالرماح ولا بالنبل ولا بالحجارة ولا بالخنق ولا بالسم ولا بقطع الاعضاء.
وأما من لا يتمكن منه فقد قال تعالى: * (فاضربوا منهم كل بنان) * وقال تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * فقتل هؤلاء واجب كيف ما أمكن بالنص المذكور، وهذا ما لا نعلم فيه خلافا، وهو ظاهر الآيات المذكورات ويبين أن المراد بالآية التي فيها ضرب رقاب الاسرى فقط قوله تعالى في تلك الآية بعينها: * (فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) * فاستثنى الاسرى من جملة قوله تعالى: * (واضربوا منهم كل بنان) * و: * (اقتلوا المشركين) *.
وقال بعضهم أيضا: يلزمكم ألا تجيزوا أن يبدأ في غسل الذراعين في الوضوء إلا من الانامل، لقول الله تعالى: * (إلى المرافق) *.

(7/963)


قال أبو محمد: وهذا خطأ وقول فاسد، لان الله تعالى لم ينص على أن يبدأ في ذلك من مكان من اليدين بعينه، وإنما جعل عزوجل المرافق نهاية موضع الغسل لا نهاية عمل الغسل، فكيف ما غسل الغاسل ما بين أطراف الانامل إلى نهاية المرافق فقد فعل ما أمر به في النص ولا مزيد.
واحتج بعضهم بقول الله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * قالوا: وإنما قال ذلك تعالى في الطلاق والرجعة، يعني اشتراط العدالة، واشترط تعالى
الرضا في الرجل والمرأتين في الديون فقط، فكان ذلك في سائر الاحكام قياسا على الطلاق والرجعة.
قال أبو محمد: وهذا الاحتجاج من غريب نوادرهم فأول ذلك أن المحتج بهذا إن كان مالكيا فقد نسي نفسه في إباحتهم شهادة الطبيب الفاسق، وفي شهادة الصبيان في الدماء والجراحات خاصة، وهم غير موصوفين بعدالة، ولم يقس على ذلك الصبايا ولا تحريق الثياب.
وإن كان حنفيا فقد نسي نفسه في قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض، ونقضهم كلهم هذا الاصل في رد شهادة العبيد العدول والاقارب العدول، وأما نحن فلم نأخذ قبول شهادة العدول فيما عدا الطلاق والرجعة والديون قياسا على ذلك، ونعوذ بالله من هذا، وإنما لزم قبول العدول في كل موضع حاشا ما استثناه النص من قبول شهادة الكفار في الوصية في السفر فقط، فمن قول الله تعالى: * (إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) * فنهانا الله تعالى عن قبول الفاسق، ليس في البالغين العقلاء، إلا فاسق أو عدل، فوجب علينا التبين في كل شاهد، وكل مخبر حتى نعلم أفاسق هو فلا نعمل بخبره ولا بشهادته إذا أنبأنا بها، أو نعلم أهو عدل ؟ فنعمل بخبره وشهادته فبطل ظن هذا الجاهل.
وأما قبول عدلين في سائر الاحكام، فقد كان يلزم هذا الجاهل، إن التزم القياس، أن يقيس جميع الشهادات في السرقة والقذف والخمر والقصاص والقتل على الشهادة في الزنى فلا يقبل في شئ مما ذكرنا إلا أربعة شهداء لا أقل، لان الحدود بالحدود أشبه من الحدود بالطلاق والرجعة والديون، والزنى حد، وكل ما ذكرناه في السرقة والقذف والخمر حد.

(7/964)


وكان يلزمه أيضا أن يقيس على الديون فيقبل في سائر الاشياء رجلا وامرأتين
كما جاء النص في الاموال، وإلا فلاي معنى وجب أن يقاس على الرجعة والطلاق دون أن يقاس على الديون ؟ فإن ادعى الاجماع، قيل له: كذبت وجهلت فالحسن البصري لا يقبل في القتل إلا أربعة شهداء عدول، وهذا عمر بن الخطاب وعطاء بن ابن أبي رباح يقبلان في الطلاق النساء دون الرجال، وعطاء يقبل في الزنى ثماني النسوة، وأبو حنيفة يقبل في الطلاق والرجعة والنكاح رجلا وامرأتين، ولا يقبل ذلك في الحدود، وقول الحسن أدخل في القياس، لان القتل أشبه بالزنى الذي يكون فيه القتل في الاحصان، فهو قتل وقتل، فالقتل بالقتل أشبه من القتل بالطلاق.
وقول عمر وعطاء أشبه بالقياس، لانهما جعلا مكان كل رجل امرأتين، وجلد الزنا جلد، وجلد القذف والخمر جلد، فالجلد بالجلد أشبه من الجلد بالرجعة في النكاح.
وهذا ما لا يحل يخيل على من له أدنى حس سليم، لا سيما المالكيين الذين يقولون بقياس القتل على الزنى: أنه إن عبر عن القاتل أن يجلد مائة سوط ويغرب سنة، قياسا على الزاني غير المحصن، فهلا قلدوه عليه فيما يقبل عليه من عدد الشهود ولكن هكذا يكون من سلك السبل فتفرقت به عن سبيل الله تعالى.
والعجب أن مالكا أجاز في القتل شاهدا واحدا وأيمان الاولياء، وهذا قياس على الشاهد واليمين في الاموال، فلا أجاز ذلك في الطلاق والنكاح والعتق وغير ذلك وأي فرق بين هذه الوجوه نعوذ بالله من التخليط والآراء والمقاييس الفاسدة في دين الله تعالى.
واحتج بعضهم في ذلك بالآية الواردة في تعبير الرؤيا، وهذا تخليط ما شئت والرؤيا قتل كل كلام لا يقطع بصحتها، وقد تكون أضغاثا، والحكم في الدين استباحة للدماء، والفروج، والاموال وإيجاب العبادات، وإسقاط لكل ذلك، ولا يجوز الحكم في شئ من ذلك برؤيا أحد دون رؤيا النبي (ص)، وإذا كانت هذه الرؤيا التي جعلها هذا المحتج أصلا لتصحيح القياس لا يجوز القطع بها في
دين الله تعالى.
فالقياس الذي هو فرعها أبعد من ذلك على قضيته الفاسدة التي رضيها لنفسه، وأيضا فإن كثيرا من الرؤيا يفسر فيها الشئ بضده ؟ فيحمد القيد والسواد، ويذم العرس، وليس هذا من القياس في ورود ولا صدر، ولو كان

(7/965)


ذلك في القياس لوجب إذا جاء النص بالامر أن يفهم منه النهي، أو بالنهي أن يفهم منه ضده، وهذا عكس الحقائق، وبالجملة فهذا شغب فاسد ضعيف، لان الحكم بالقياس عندهم إنما هو أن يحكم المسكوت عنه بحكم المنصوص عليه، وهذا هو غير العمل في الرؤيا جملة، ومن شبه دينه بالرؤيا، وفيها الاضغاث وما تتحدث به النفس، فقد كفى خصمه مؤنته، وبالله تعالى التوفيق.
وذكروا أيضا قول الله تعالى: * (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * وقوله تعالى: * (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) *.
قال أبو محمد: صدق الله تعالى وكذب أصحاب القياس، وما أنكر ضرب الله تعالى الامثال إلا كافر، بل قد ضرب الله عزوجل الامثال في إدبار الدنيا بالزرع، وفي أعمال الكفار بسراب بقيعة، وفي الظالمين بالامم السالفين فهذا لا يعقله فيغبط به إلا العالمون.
ولعمري إن من صرف هذا الامثال عما وضعها الله تعالى له، إلى تحريم القديد بالقديد، إلا مثل بمثل، أو البتة وإلى أن على المرأة الموطوءة في نهار رمضان عتق رقبة، وإلى أن الصداق لا يكون إلا عشرة دراهم أو ربع دينار، وإلى أن من لاط حد حد الزنى، لجرئ على القول على الله تعالى بغير علم.
وليت شعري لو ادعى خصمهم عليهم واستحل ما يستحلونه، فادعى في هذه الآيات أنها تقتضي ضد مذاهبهم فيما ذكرنا، أكان بينه وبينهم فرق ؟
ونعوذ بالله من الخذلان.
وكما نقول: إن الله تعالى ضرب لنا الامثال، وإن أمثاله المضروبة كلها حق، لانه تعالى قال ذلك فيها.
فكذلك نقول: لا يحل لنا ضرب الامثال لله تعالى، لانه قال تعالى: * (فلا تضربوا لله الامثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * والقياس ضرب أمثال الله تعالى بيقين منا ومنهم، فهو حرام وباطل، لنهي الله تعالى عنا نصا، وبالله تعالى التوفيق.
فهذا كل ما شغبوا به من القرآن، ووضعهوه في غير مواضعه، وقد أوردناه وبينا ذلك لكل ذي حس سليم أنه لا حجة لهم في شئ منه، وأن أكثره مانع من القول

(7/966)


في الدين بغير نص من الله تعالى.
واحتجوا من الحديث بما كتب به إلي يوسف ابن عبد الله النمري، حدثنا سعيد ابن نصر، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن وضاح، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شبابة بن سوار المدائني، عن الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الاشج، عن عبد الملك بن سعيد الانصاري، عن جابر بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب قال: هششت إلى المرأة فقبلتها وأنا صائم، فأتيت النبي (ص) فقلت: يا رسول الله أتيت أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم، فقال رسول الله (ص): أرأيت لو مضمضت بماء وأنت صائم ؟ قلت: لا بأس.
قال: ففيم ؟.
قال أبو محمد: لو لم يكن في إبطال القياس إلا هذا الحديث لكفى، لان عمر ظن أن القبلة تفطر الصائم قياسا على الجماع، فأخبره (ص) أن الاشياء المماثلة والمتقاربة لا تستوي أحكامها، وأن المضمضة لا تفطر، ولو تجاوز الماء الحلق عمدا لافطر، وأن الجماع يفطر، والقبلة لا تفطر، وهذا هو إبطال القياس حقا.
ولا شبه بين القبلة والمضمضة فيمكنهم أن يقولوا: إنه (ص) قاس القبلة على المضمضة، لانهم لا يرون القياس إلا بين شيئين مشتبهين، وبضرورة
العقل والحس نعلم أن القبلة من الجماع أقرب شيئا، لانهما من باب اللذة، فهما أقرب شبها من القبلة إلى المضمضة.
ثم إن الحديث عائد للمالكيين، لانهم يستحبون المضمضة للصائم في الوضوء، ويكرهون له القبلة، فقد فرقوا بإقرارهم بين ما زعموا أنه عليه السلام سوى بينهما، وفي هذا ما فيه، فبطل شغبهم بهذا الحديث، وعاد عليهم حجة، والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا بما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي، ثنا ابن مفرج، ثنا محمد بن أيوب الصموت، ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ثنا إبرهيم بن نصر، ثنا الفضل ابن دكين، ثنا طلحة بن عمر، عن عطاء، عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: إذا كنت إماما فقس الناس بأضعفهم.
قال أبو محمد: طلحة بن عمرو ركن من أركان الكذب متروك الحديث، قاله أحمد ويحيى وغيرهما، وهذا حديث مشهور من طريق أبي هرير وعثمان بن

(7/967)


أبي العاص، ليس في شئ منه هذه اللفظة البتة إلا من هذه الطريق الساقطة.
ولو صحت ما كانت لهم فيه حجة أصلا، لانه ليس هنا شئ مسكوت قيس بمنصوص عليه، وإنما أمر (ص) الامام أن يخفف الصلاة على قدر احتمال أضعف من خلفه، وليس يخرج من هذا تحريم البلوط بالبلوط متفاضلا، والنص قد جاء بإيجاب أن يخفف الامام الصلاة رفقا بالناس كلهم.
فكيف وإنما جاء هذا الخبر بلفظين: اقتد بأضعفهم واقدر الناس بأضعفهم كما حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا أحمد بن سليمان، ثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، ثنا سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف ابن الشخير، عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، نا قتيبة، نا مالك، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) قال: إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء.
وهكذا رواه أيضا أبو سلمة عن أبي هريرة.
واحتجوا أيضا بما حدثناه عبد الله بن ربيع، نا عمر بن عبد الملك، ثنا محمد بن بكر، نا أبو داود، نا قتيبة، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
قال أبو محمد: وقد قلنا مرارا إننا لا ننكر نقل لفظ إلى معنى آخر، إذا صح ذلك بنص آخر أو إجماع، ولكن إذا كان عندهم هذا قياسا فإنه يلزمهم أنه متى سمعوا ذكر جحر في أي شئ ذكر، أن يقيسوا عليه كل ما في العالم، كما جاء النهي عن البول في الجحر فلم يقيسوا عليه غيره.
فإذا لم يفعلوا فلا شك أنه إنما انتقل إلى ههنا لفظ الجحر إلى كل ما عداه بالاجماع، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بقوله (ص) للخثعمية وللمستفتية التي ماتت وعليها صوم.
وهو

(7/968)


حديث مشهور رويناه من طرق، ومن بعضها ما حدثناه عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، حدثني أحمد بن عمر الوكيعي ثنا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن سليمان الاعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟.
قال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى قال الاعمش: فقال الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل
جميعا ونحن جلوس حين حدث مسلم هذا الحديث فقال: سمعنا مجاهدا يذكر هذا الحديث عن ابن عباس.
ومنها ما حدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية: ثنا أحمد بن شعيب، حدثنا خشيش بن أصرم النسائي، عن عبد الرزاق، أنا معمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل: يا نبي الله إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه ؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين كنت قاضيه ؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق.
أخبرني محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر غندر، نا شعبة، عن أبي بشر، هو جعفر بن أبي وحشية، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس: أن امرأة نذرت أن تحج فماتت ؟ فأتى أخوها النبي (ص) فسأله عن ذلك، فقال: أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه ؟ قال: نعم.
قال: فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء.
قال أبو محمد: وهذا من أعجب ما احتجوا به وأشده فضيحة لاقوالهم، وهتكا لمذاهبهم الفاسدة.
أما الشافعيون والحنفيون والمالكيون فينبغي لهم أن يستحوا من ذكر حديث الصوم الذي صدرنا به، لانهم عاصون له، مخالفون لما فيه من قضاء الصيام عن الميت.
فكيف يسوغ لهم أو تواتيهم ألسنتهم بإيجاب القياس من هذا الحديث ؟ وليس فيه للقياس أثر البتة ؟ ويقدمون على خلافه، فيقولون:

(7/969)


لا يصوم أحد عن أحد.
وأما المالكيون والحنفيون فإنهم زادوا إقداما، فلا يقولون بقضاء ديون الله تعالى من الزكاة والنذور والكفارات من رأس مال أحد.
ويقولون: ديون الناس أحق بالقضاء من ديون الله تعالى، واقضوا الناس فهم أحق بالوفاء، وإن ديون الناس من رأس المال، وديون الله تعالى من الثلث،
إن أوصى بها، وإلا فلا تؤدى البتة، لا من الثلث ولا من غيره، والله إن الجلود لتقشعر من أن يكون الرسول (ص) يقول: اقضوا الله فهو أحق بالوفاء و: دين الله أحق أن يقضى فيقول هؤلاء المساكين بآرائهم المخذولة، تقليدا لمن لم يعصم من الخطأ، ولا أتته براءة من الله تعالى بالصواب، من أبي حنيفة ومالك وأصحابهما، دعوا كلام نبيكم (ص)، ولا تلتفتوه وخذوا قولنا: فاقضوا ديون الناس، فدينهم أحق من دين الله تعالى.
قال أبو محمد: ما نعلم في البدع أقبح من هذا ولا أشنع منه، لان أهل البدع لم يصححوا الاحاديث فهم أعذر في تركها، وهؤلاء يقولون بزعمهم بخبر الواحد العدل، وأنه حق لا يجوز خلافه، وليس لهم في هذه الاسانيد مطعن البتة ثم يقدمون على المجاهرة بخلافها.
والذي لا يشك فيه، أن من بلغته هذه الآثار.
وصحت عنده، ثم استجاز خلاف ما صح عن رسول الله (ص) إتباعا لقول أبي حنيفة ومالك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال، لاحق باليهود النصارى.
وأما من صحح مثل هذا الاسناد وحكم به في الدين، ثم قال في هذه لا يصح، فهو فاسق وقاح قليل الحياء بادي المجاهرة، نعوذ بالله من كلتي الخطتين فهما خطتا خسف.
ثم تركهم كلهم أن يقيسوا الصوم عن الميت، وإن أوصى به على الحج عنه إذا أوصى به، وهم يدعون أنهم أصحاب قياس، فهم أول من ترك القياس، في الحديث الذي احتجوا به مع تركهم لحديث الصوم، وقياسهم عليه وهم لا يأخذون به.

(7/970)


ثم نقول وبالله تعالى التوفيق: إنه ليس في هذا الحديث قياس أصلا، ولا دلالة على القياس، ولكنه نص من الله تعالى أخبر في آية المواريث
فقال: * (بعد وصية يوصى بها أو دين) * فعم الله عزوجل الديون كلها.
وبضرورة العقل علمنا أن ما أوجبه الله علينا في أموالنا فإنه يقع عليه اسم دين بلا شك، ثم بالنصوص علمنا، وبضرورة العقل.
أن أمر الله أولى بالانقياد له، وأحق بالتنفيذ، وأوجب علينا من أمر الناس.
وكان السائل والسائلة للنبي (ص) مكتفين بهذا النص لو حضرهما ذكره، فأعلمها للنبي (ص) بأن كل ذلك دين، وزادهم علما بأن دين الله تعالى أحق بالقضاء من ديون الناس، وهذا نص جلي فأين للقياس ههنا أثر أو طريق لو أن هؤلاء القوم أنصفوا أنفسهم ونظروا لها ؟.
ولكن ما في المصائب أشنع من قول من قال: إذا أمر النبي (ص) بأن يصام عن الميت ويحج عنه، وأخبر أنه دين الله تعالى وهو أحق بالقضاء من سائر ديون الناس، فترك ذلك واجب، فلا يجوز أن يصام عن ميت، ولا يستعمل هذا الحديث فيما جاء فيه، لكن منه استدللنا على أن بيع العسل في قيره بعسل في قيره لا يجوز، أو أن بيع رطل لحم تيس برطلي لحم أرنب لا يجوز، أو أن رطل قطن برطلي قطن لا يجوز تبارك الله ما أقبح هذا وأشنعه لمن نظر بعين الحقيقة ونعوذ بالله من الخذلان.
واحتجوا بما روى الحديث المشهور: أن رجلا قال لرسول الله (ص): يا رسول الله، إن امرأتي ولدت ولدا أسود، وهو يعرض لنفيه، فقال رسول الله (ص): هل لك من إبل ؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها ؟ قال: حمر.
قال: هل فيها من أورق ؟ قال: إن فيها لورقا، فقال رسول الله (ص): أنى ترى ذلك أتاه ؟ - أو كلاما هذا معناه - فقال له الرجل: لعل عرقا نزعه، فقال عليه السلام: لعل هذا عرقا نزعه قالوا: وهذا قياس وتعليم للقياس.
قال أبو محمد: وهذا من أقوى الحجج عليهم في إبطال القياس، وذلك لان الرجل جعل خلاف ولده في شبه اللون علة لنفيه عن نفسه، فأبطل رسول
الله (ص) حكم الشبه، وأخبره أن الابل الورق قد تلدها الابل الحمر، فأبطل (ص) أن تتساوى المتشابهات في الحكم، ومن المحال الممتنع أن يكون

(7/971)


من له مسكة عقل يقيس ولادات الناس على ولادات الابل، والقياس عندهم إنما هو رد فرع إلى أصله، وتشبيه ما لم ينص بمنصوص، وبالضرورة نعلم أنه ليس الابل أولى الولادة من الناس ولا الناس أولى من الابل، وأن كلا النوعين في الايلاء والالقاح سواء، فأين ههنا مجال للقياس وهل من قال: إن توالد الناس مقيس على توالد الابل، إلا بمنزلة من قال: إن صلاة المغرب إنما وجبت فرضا لانها قيست على صلاة الظهر ؟ وإن الزكاة إنما وجبت قياسا على الصلاة ؟.
وهذه حماقة لا تأتي بها عضاريط أصحاب القياس، لا يرضون بها لانفسهم، فكيف أن يضاف هذا إلى رسول الله (ص)، الذي آتاه الله الحكمة والعلم دون معلم من الناس، وجعل كلامه على لسانه ما أخوفنا أن يكون هذا استخفافا بقدر النبوة وكذبا عليه (ص).
ولقد كنا نعجب من إقدام أصحاب القياس في نسبتهم إلى عمر وعلي وعبد الرحمن رضي الله عنهم قياس حد الشارب على حد القاذف، ونقول إن هذا استنقاص للصحابة، إذ ينسب مثل هذا الكلام السخيف إليهم.
حتى أتونا بالثالثة الاثافي والتي لا شوى لها فنسبوا إلى رسول الله (ص) أنه قاس ولادة الناس على ولادة الابل فأذكرنا هذا الفعل منهم قول بشر بن أبي حازم الاسدي.
غضبت تميم أن تقتل عامر * * يوم النسار فأعقبوا بالصيلم هذا مع أن بعضهم لا يأخذ بهذا الحديث فيما ورد فيه ويروى في التعريض الحد وهو يسمع فيه أن الاعرابي كان يعرض بنفي ولده، فلم يزده النبي (ص) على أن أراد بطلان ظنه، ووجوب الحكم بظاهر المولد والفراش، ولم ير عليه حدا،
أفيكون أعجب ممن يترك الحديث فيما ورد فيه، ويطلب فيه ما لا يجده أبدا، ومن أن القاتل إذا عفي عنه ضرب مائة سوط ونفي سنة، قياسا على الزاني، إن هذا العجب ونسأل الله العصمة والتوفيق.
واحتجوا أيضا بقول النبي (ص) إذ سئل عن الابل تكون في

(7/972)


الرمل كأنها الظباء فيدخل فيها البعير الاجرب فتجرب كلها، فقال (ص) ومن أعدى الاول ؟.
قال أبو محمد: وهذا كما قبله وأطم، وما فهم قط أحد أن هذا القياس وجها، بل فيه إبطال القياس حقا، لانهم أرادوا أن يجعلوا الابل إنما جربت من قبل الاجرب الذي انتقل حكمه إليها، فأبطل رسول الله (ص) هذا الظن الفاسد، وأخبر أن كل ذلك وارد من قبل الله عزوجل، وأنه فعل ذلك بالابل والنعم ولافرق.
وذكروا ما حدثناه أحمد بن قاسم، ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، ثنا جدي قاسم بن أصبغ، ثنا إسماعيل - هو ابن إسحاق، ثنا علي - هو ابن المديني - ثنا عبد الاعلى بن عبد الاعلى، ثنا هشام - هو ابن حسان - عن الحسن، عن عمران ابن الحسن قال: أسرينا مع رسول الله (ص) في غزاة، فلما كان من آخر السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل يثب دهشا فزعا فقال رسول الله (ص).
اركبوا.
فركب وركبنا، فسار حتى ارتفعت الشمس، ثم نزل فأمر بلال فأذن، قضى حاجاتهم، وتوضؤوا فصلينا ركعتين قبل الغداة، ثم أقام فصلى بنا فقلنا: يا رسول الله ألا نقضيها لوقتها من الغد ؟ فقال: لا ينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم قالوا: فقاس (ص) حكم قضاء صلاتين مكان صلاة على الربا.
قال أبو محمد: وهذا باطل من وجوه أحدها: أنه قد تكلم في سماع الحسن
من عمران بن الحصين، فقيل: سمع منه، وقيل لم يسمع منه، وأيضا فإنه قد صح من طريق جابر عن النبي (ص)، قال جابر: كان على رسول الله (ص) دين فقضاني وزادني فهذا أشبه بالربا من صلاتين مكان صلاة، إلا أن هذا حلال والربا حرام، وأيضا فقد صح عن النبي (ص) فيمن جامع عامدا في يوم رمضان أن يصوم مكانه ستين يوما أو ثمانية وخمسين يوما أو تسعة وخمسين يوما، فلو كان القياس كما ذكروا لكان هذا عين الربا على أصلهم، وأيضا

(7/973)


فإن هذا الحديث لا يقول به المالكيون والشافعيون، لانهم لا يرون تأخير القضاء في الصلاة الفائتة إلى ارتفاع الشمس والمالكيون لا يرون أن يؤذن للصلاة الفائتة، ولا يصلي ركعتا الظهر قبل صلاة الصبح إذا فاتت، ولا أقبح من قول من يحتج بخبر ثم هو أول مخالف لنصه وحكمه.
والقول الصحيح هو أن هذا الخبر حجة في إبطال القياس، لانهم رضي الله عنهم أرادوا أن يصلوا مكان صلاة صلاتين، وقد نهاهم الله تعالى عن تعدي حدوده ومن تعدي الحدود أن يزيد أحد شرعا لم يأمر الله تعالى به، والربا في لغة العرب الزيادة، فصح بهذا الخبر نهي النبي (ص) عن ربه تعالى عن الزيادة على ما أمر به فقط.
وبيقين يدري كل ذي حس أن القول بالقياس زيادة في الشرع على ما أمر الله تعالى به، فلما حرم الله تعالى الاصناف الستة متفاضلة في ذاتها، زادوا هم ذلك في المأكولات أو المكيلات أو الموزونات أو المدخرات، فزيادتهم هذه هي الربا حقا، والله تعالى قد نهى عنه، فهذا الخبر حجة، لو صح، في إبطال القياس، وإلا فلا نسبة بين الصلاة والبيع، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن هذا الخبر نص جلي، لا مدخل للقياس فيه أصلا، ولا بينه وبين
شئ من القياس نسبة، لانه اسم الربا يجمع الزيادة في الدين، والزيادة في الصلاة بنص هذا الخبر، فتحريم الربا مقتضى لتحريم الامرين وكل ما جاء به النص فصحيح، وكل ما أرادوا هم أن يريده مما ليس منصوصا عليه فهو باطل، فظهر أن من احتج بهذا الخبر فمموه بما ليس مما يريد في شئ، بل هو حجة عليه، والحمد لله رب العالمين.
ثم لو صح لهم نصوصا من القرآن والسنن ووردت باسم القياس وحكمه، وهذا لا يوجد أبدا، لما كان لهم في شئ من ذلك حجة، لانه كان يكون الحكم حينئذ أن ما قاله الله تعالى ورسوله (ص) فهو الحق، وإنما ما يقولونه هم، مما لم يقله الله تعالى ولا رسوله (ص) فهو الباطل الذي لا يحل القول به.
وفي هذا كفاية لمن عقل.
وقد أوجب الله تعالى وحرم على لسان رسوله (ص) وفي كتابه، ولم يحل لاحد أن يحرم ولا أن يوجب ولا أن يحل ما لم يحله الله تعالى ولا أوجبه ولا

(7/974)


حرمه، لان الله تعالى حرم وأوجب وأحل، وكل ذلك تعد لحدود الله تعالى.
وموهوا أيضا بأن قالوا: لو كان العلم كله جلي لاستوى العالم والجاهل في البيان، ولو كان العلم كله خفيا لاستوى العالم والجاهل في الجهل به، فصح أن بعضه جلي وبعضه خفي، فوجب أن يقاس الخفي على الجلي.
قال أبو محمد: وهذا كلام في غاية الفساد، لانه إذا كان بعضه جليا وبعضه خفيا، فالواجب على أصلهم هذا الفاسد أن يستوي العالم والجاهل في تبين الجلي منه، وأن يستوي الجاهل والعالم في خفاء الخفي منه عليهما أيضا، فبطل العلم على أصلهم الخبيث الظاهر الفساد.
وأما نحن فنقول إن العلم كله جلي بين، نعني علم الديانة، قال تعالى: * (تبيانا لكل شئ) * وقال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فصح أن رسول الله (ص)
قد بين للناس ما نزل إليه، ومن قال غير هذا فهو كافر بإجماع الامة فإذا قد صح أنه عليه السلام قد بين ما نزل إليه والمبين بين، والحمد لله رب العالمين، لمن يعلم اللغة التي بها خوطبنا.
وإنما خفي ما خفي من علم الشريعة على من خفي عليه، لاعراضه عنه وتركه النظر فيه وإقباله على وجود الباطل، التي ليست طريقة إلى فهم الشريعة، أو لنظره في ذلك بفهم كليل، إما لشغل بال أو مرض أو غفلة، ولو لم يكن علم الدين جليا كله ما أمكن الجهل فهم شئ منه أبدا، نعني مما يدعون أنه خفي، فلما صح أن العالم ممكن له إقامة البرهان وإيضاح ما خفي على الجاهل حتى يفهمه ويتبين له، صح أن العلم كله جلي بين نعني علم الديانة، والحمد لله رب العالمين.
وموهوا أيضا بما روي من قول نسب إلى رسول الله (ص) وهو ما حدثناه عن عبد الله بن ربيعة التميمي، ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، ثنا ابن الاعرابي، ثنا سليمان بن الاشعري، ثنا حفص بن عمر العوضي، عن شعبة، عن أبي عون، عن الحارث ابن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ، أن رسول الله (ص) لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال: أقضي بكتاب الله عزوجل، قال: فإن لم تجد في كتاب الله عزوجل ؟ قال: فبسنة رسول الله (ص)، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟ قال: اجتهد رأيي ولو آلو: قال: فضرب

(7/975)


رسول الله (ص) في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.
قال أبو محمد: وحدثنا أيضا عبد الله بن ربيع، ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني، ثنا محمد بن بكر، ثنا داود، ثنا مسدد، ثنا يحيى - هو القطان - عن شعبة بن أبي عون، عن الحارث بن عمر، عن ناس من أصحاب معاذ، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله (ص) بعثه إلى اليمن فذكر معناه.
قال أبو محمد: هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا، فلا حجة فيمن لا يعرف من هو، وفيه الحارث بن عمر وهو مجهول لا يعرف من هو، ولم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه.
أخبرني أحمد بن عمر العذري، ثنا أبو ذر الهروي، ثنا زهر بن أحمد الفقيه زنجويه بن النيسابوري، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري، هو جامع الصحيح، قال فذكر سند هذا الحديث، وقال رفعه في اجتهاد الرأي، قال البخاري: ولا يعرف الحارث إلا بهذا، ولا يصح.
هذا كلام البخاري رحمه الله.
وأيضا فإن هذا الحديث ظاهر الكذب والوضع، لان من المحال البين أن يكون الله تعالى يقول: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *، و * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) *، و * (تبيانا لكل شئ) * ثم يقول رسول الله (ص): إنه ينزل في الديانة ما لا يوجد في القرآن.
ومن المحال البين أن يقول الله تعالى مخاطبا لرسوله (ص): * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * ثم يقول رسول الله (ص): إنه يقع في الدين ما لم يبينه عليه السلام، ثم من المحال الممتنع أن يقول رسول الله (ص): فاتخذ الناس رؤوسا جهالا، فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا جاء هذا بالسند الصحيح الذي لا اعتراض فيه، وقد ذكرنا في باب الكلام في الرأي.
ثم يطلق الحكم في الدين بالرأي فهذا كله كذب ظاهر لا شك فيه.
وقد كان في التابعين الراوين عن الصحابة رضي الله عنهم خبث كثير وكذب ظاهر، كالحارث

(7/976)


الاعور وغيره ممن شهد عليه بالكذب، فلا يجوز أن تؤخذ رواية عن مجهول لم يعرف من هو ولا ما حاله.
ولقد لجأ بعضهم إلى أن ادعى في هذا الحديث أنه منقول نقل الكافة قال أبو محمد: ولا يعجز أحد عن أن يدعي في كل حديث مثل هذا، ولو قيل
له: بل الحديث الذي جاء من طريق ابن المبارك: إن أشد الفرق فتنة على أمتي قوم يقيسون الامور برأيهم فيحرمون الحلال ويحلون الحرام هو من نقل الكافة أكان يكون بينه وبين فرق ؟.
ولكن من لم يستح قال ما شاء، ولكن الذي لا شك فيه أنه من نقل الكواف كلها نقل تواتر يوجب العلم الضروري، فقول الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) *.
فهذا هو الذي لا شك في صحته، وليس فيه الرد عند التنازع إلا إلى الله تعالى، وهو القرآن، وإلى الرسول، وهو كلامه (ص) ولا أذكر القياس في ذلك، فصح أن ما عدا القرآن والحديث لا يحل الرد إليه عند التنازع، والقياس أصلا ليس قرآنا ولا حديثا، فلا يحل الرد إليه أصلا، وبالله تعالى التوفيق.
مع أن هذا الحديث الذي ذكرنا من طريق معاذ لا ذكر للقياس فيه البتة بوجه من الوجوه، ولا بنص ولا بدليل، وإنما فيه الرأي، والرأي غير القياس، لان الرأي إنما هو الحكم بالاصلح والاحوط والاسلم في العاقبة، والقياس هو الحكم بشئ لا نص فيه بمثل الحكم في شئ منصوص عليه، وسواء كان أحوط أو لم يكن أصلح، أو لم يكن كان أسلم أو أقتل، استحسنه القاتل له أو استشنعه.
وهكذا القول في قوله (ص): إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ليس فيه للقياس أثر، لا بدليل ولا بنص ولا للرأي أيضا لا يذكر ولا بدليل بوجه من الوجوه، وإنما فيه إباحة الاجتهاد فقط.
والاجتهاد ليس قياسا ولا رأيا، وإنما الاجتهاد: إجهاد النفس، واستفراغ الوسع في طلب حكم طلب النازلة في القول والسنة، فمن طلب القرآن وتقرأ آياته، وطلب في السنن وتقرأ الاحاديث في طلب ما نزل به، فقد اجتهد، فإن وجدها منصوصة فقد أصاب فله أجران أجر الطلب وأجر الاصابة، وإن طلبها في القرآن

(7/977)


والسنة فلم يفهم موضعا منهما، ولا وقف عليه، وفاتت إدراكه، فقد اجتهد فأخطأ فله أجر.
ولا شك أنها هنالك إلا أنه قد يجدها من وفقه الله لها، ولا يجدها من لم يوفقه الله تعالى لها، كما فهم جابر وسعد وغيرهما آية الكلالة ولم يفهمها عمر، وكما قال عثمان في الاختين بملك اليمين: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فأخبر أنه لم يقف على موضع حقيقة حكمهما، ووقف غيره على ذلك بلا شك، ومحال أن يغيب حكم الله تعالى عن جميع المسلمين، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بما حدثناه أحمد بن قاسم، ثنا أبي قاسم بن محمد، ثنا جدي قاسم ابن أصبغ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا سعيد بن أبي مريم، أنا سلمة بن علي حدثني الاوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة قال: حض رسول الله (ص) على تعلم العلم قبل ذهابه.
قال صفوان بن عسال: وكيف وفينا كتاب الله ونعلمه أولادنا ؟ فغضب رسول الله (ص) حتى عرف ذلك فيه، ثم قال: أليست التوراة والانجيل في أيدي اليهود والنصارى ؟ فما أغنت عنهم حين تركوا ما فيهما.
قال أبو محمد: هذا الحديث من أعظم الحجج عليهم في وجوب إبطال القياس، لانه (ص) أخبر أن من ترك القرآن والعمل به فقد ترك العلم، أو سلك سبيل اليهود والنصارى وأصحاب القياس أهل هذه الصفة، لانهم تركوا القرآن والعمل به، وأقبلوا على قياساتهم الفاسدة، ونعوذ بالله من الخذلان.
ثم يقال لهم: إنما تعلقتم بتشبيه النبي (ص) فعل من حرم التوفيق من أمته في ذلك، بفعل اليهود والنصارى، إذ نبذوا كتابهم، ونحن نقر بصحة هذا التشبيه، وإنما ننكر أن يكون حكم من فعل ذلك من المسملين كحكم من أشبه فعله من اليهود والنصارى.
وأما أهل القياس فيلزمهم لزوما ضروريا، إذ حكموا للمشتبهين بحكم واحد، أن يحكموا فيمن ترك أحكام القرآن منا بما نحكم به في اليهود والنصارى، من القتل والسبي للذراري والنساء، وأخذ الجزية إن سالموا، فإن تمادوا على قياسهم لحقوا بالصفرية الازارقة، وعاد هذا من الحكم عليهم في تركهم لاحكام القرآن، والعمل بالقياس وإن جحدوا عن ذلك تناقضوا وتركوا القياس، وبالله تعالى التوفيق.

(7/978)


فهذا كل ما موهوا به من إيراد الحديث الذي قد أوضحنا، بحول الله تعالى وقوته، أنه كله حجة عليهم، وموجب لابطال القياس، وكل من له أدنى حس يرى أن إيرادهم ما أوردوا لا طريق للقياس فيه، ولانهم يوهمون الضعفاء أننا ننكر تشابه الاسماء ونحن، ولله الحمد، أعلم بتشابه الاسماء منهم وأشد إقرارا به منهم.
وإنما ننكر أن نحكم في الدين للمتشابهين في بعض الصفات بحكم واحد من إيجاب أو تحريم أو تحليل بغير إذن من الله تعالى، أو من رسوله (ص)، فهذا أنكرنا، وفي هذا خالفنا، لا في تشابه الاشياء، فلو تركوا التمويه الضعيف لكان أولى بهم.
وادعى بعضهم، دون مراقبة، إجماع الصحابة رضي الله عنهم على القول بالقياس، وهذه مجاهرة لا يعدلها في القبح شئ أصلا، وباليقين نعلم أن ما روي قط عن أحد من الصحابة القول بأن القياس حق بوجه من الوجوه، لا من طريق تصح، ولا من طريق ضعيفة، إلا حديثا واحدا، نذكره إن شاء الله تعالى بعد فراغنا من ذكر تمويههم بدلائل الاجماع، وهو لا يصح البتة.
ولو أن معارضا يعارضهم، فقال: قد صح إجماع الصحابة على إبطال القياس، أكان يكون بينه وبينهم فرق في أنها دعوى ودعوى ؟ بل إن قائل هذا، من إجماعهم على إبطال القياس، يصح قوله ببرهان نذكره إن شاء الله تعالى.
وهو أنه قد صح بلا شك عند كل أحد من ولد آدم يدري الاسلام والمسلمين، من مؤمن أو كافر، أن جميع الصحابة مجمعون على إيجاب ما قال الله تعالى في القرآن مما لم يصح نسخه، وعلى إيجاب ما قال رسول الله (ص) وعلى أنه لا يحل لاحد أن يحرم ولا يحلل، ولا أن يوجب حكما لم يأت به الله تعالى، ولا رسوله (ص) في الديانة، وعلى أن رسول الله لم يلبس على أمته أمر دينها، وأنه (ص) قد بينه كله للناس، وهذا كله مجمع عليه من جميع الصحابة أولهم عن آخرهم بلا شك.
ولولا ذلك ما كانوا مسلمين، فإن هذا مجمع عليه بلا شك، فهذه المقدمات مبطلة للقياس، لانه عند القائلين به حوادث في الدين لم ينزل الله تعالى فيها حكما في القرآن بينا، ولا بين رسول الله (ص) ما حكمها بنصه عليها، وهذا ما لا يشك مسلم أن الصحابة لو سمعوا قائلا يقول بهذا لبرئوا منه.

(7/979)


وأيضا فالصحابة عشرات ألوف، روى الحديث منهم ألف وثلاثمائة ونيف مذكورون بأسمائهم، وروى الفقه والفتيا منهم عن نحو مائة ونيف وأربعين، مسمين بأسمائهم، حاشا الجمل المنقول عن أكثرهم أو جميعهم، كإقامة الصلاة وأداء الزكاة، والسجود فيما سجد بهم إمامهم فيه من سجود القرآن، والاشتراك في الهدى، والصلاة الفريضة خلف التطوع، ومثل هذا كثير، وإنما أوردنا بنقل الفتيا من ذكر عنه باسمه أنه أجاز أمر كذا أو نهى عن أمر كذا، أو أوجب كذا، أو عمل كذا، فما منهم أحد روي عنه إباحة القياس، ولا أمر به البتة بوجه من الوجوه، حاشا الحديث الواحد الذي ذكرنا آنفا، وسنذكره إن شاء الله تعالى بإسناده، ونبين وهيه وسقوطه.
وروي أيضا نحو عشر قضايا، فيها العمل بما يظن أنه قياس، فإذا حقق لم يصح أنه قياس، منها صحيح السند، ومنها ساقط السند، ويروى عنهم أكثر
من ذلك وأصح في إبطال القياس نصا.
وأما القول بالعمل التي يقول بها حذاق القياسيين عند أنفسهم، ولا يرون القياس جائزا إلا عليها، فباليقين ضرورة تعلم، أنه لم يقل قط بها أحد من الصحابة بوجه من الوجوه، ولا أحد من التابعين، ولا أحد تابعي التابعين، وإنما هو أمر حدث في أصحاب الشافعي، واتبعهم عليه أصحاب أبي حنيفة، ثم تلاهم فيه أصحاب مالك.
وهذا أمر متيقن عندهم وعندنا، وما جاء قط في شئ من الروايات عن أحد من كل من ذكرنا أصلا، لا في رواية ضعيفة ولا سقيمة، أن أحدا من تلك الاعصار علل حكما بعلة مستخرجة يجعلها علامة للحكم، ثم يقيس عليها ما وجد تلك العلة فيه، مما لم يأت في حكمه نص، وإذا لا يجوز القياس عند جمهور أصحاب القياس إلا على علة جامعة بين الامرين هي سبب الحكم وعلامته، وإلا فالقياس باطل، ثم أيقنوا هم ونحن على أن ليس أحد من الصحابة ولا من تابعيهم، ولا من تابعي تابعيهم نطق بهذا اللفظ، ولا نبه على هذا المعنى، ولا دل عليه ولا علمه، ولا عرفه، ولو عرفوه ما كتموه فقد صح إجماعهم على إبطال القياس بلا شك.
وقد اضطر هذا الامر وهذا البرهان طائفة من أصحاب القياس إلى الفرار من ذكر العلل وتعليل الاحكام جملة، وعن لفظ القياس، ولجؤوا إلى التشبيه

(7/980)


والتمثيل والتنظير، وهو المعنى الذي فروا منه بعينه، لانه لا بد لهم من التعريف بالشبه بين الامرين الموجب تسوية حكم ما لم ينص عليه مع ما نص عليه منهما، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وكمحلل الخمر باسم النبيذ وأكثر ما هي هذه الطائفة فمن أصحاب مالك وأحمد، ومن لم يقلد أحدا من علماء أصحاب الحديث، ومنهم نبذ من أصحاب مالك، ويسير من أصحاب أبي حنيفة، فكيف يستحل من له علم وورع وفرار عن الكذب أن يدعي الاجماع فيما هذه صفته وفي
أمر قد روي عن أصحابه أزيد من عشرين ألف قضية، ليس فيها ما يدل على القياس، إلا قضية واحدة لا تصح، ونحو عشر قضايا يظن أنها قياس، وليست عند التحقيق قياسا، وهم مجمعون معنا على أنه لم يحفظ قط عن أحد من الصحابة قياس في حياة النبي (ص).
فإذ ذلك كذلك فنحن نبرأ إلى الله تعالى من كل دين حدث بعده (ص) ولو كان القياس حقا لما أغفل رسول الله (ص) بيانه العمل به، ثم من الباطل المتيقن أن يكون القياس مباحا في الدين ثم لا يعلمنا رسول الله (ص): أي شئ نقيس ؟ ولا على ما نقيس ؟ ولا أين نقيس ؟ ولا كيف نقيس ؟ فصح أن القياس باطل لا شك فيه.
وأما القول والرأي والاستحسان والاختيار فكثير عنهم رضي الله عنهم جدا، ولكنه لا سبيل إلى أن يوجد لاحد منهم أن جعل رأيه دينا أوجبه حكما، وإنما قالوا إخبارا منهم بأن هذا الذي يسبق إلى قلوبهم، وهكذا يظنون على سبيل الصلح بين المختصمين، ونحو هذا، مع أن أصحاب القياس قد كفونا، ولله الحمد، التعلق بهذا الباب لانهم، نعني حذاقهم ومتكلميهم، مبطلون للرأي والاستحسان إلا أن يكون قياسا على علة جامعة.
وقد أصفق على هذا أكابر المتأخرين من الحنفيين المالكيين وسلكوا في ذلك مسلك الشافعيين، وتركوا طرائق أسلافهم في الاعتماد على الرأي والاستحسان، وقياس التمثيل المطلوب والتشبيه، ولو لم يفعلوا لكان أمرهم أهون مما يظن، لانه لم يبق إلا بالرأي وحده مجردا، والاستحسان المطلق، فليس رأي زيد أولى من رأي عمرو، ولا استحسان زيد أولى من استحسان عمرو.
فحصل الدين - وأعوذ بالله لو كان ذلك - هملا غير حقيقة

(7/981)


وحراما حلالا معا وحقا باطلا معا، وتخليطا فاسدا.
وهذا أبين من أن
يغلط فيه من له حس، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بإجماع الامة على تقديم أبي بكر إلى الخلافة، وأن ذلك قياس على تقديم النبي (ص) له إلى الصلاة، وأن عمر قال للانصار: ارضوا لامامتكم من رضيه رسول الله (ص) لصلاتكم وهي عظم دينكم.
قال أبو محمد: وهذا من الباطل الذي لا يحل، ولو لم يكن في تقديم أبي بكر حجة إلا أن رسول الله (ص) قد استخلف عليا على المدينة في غزوة تبوك.
وهي آخر غزواته عليه السلام.
فقياس الاستخلاف على الاستخلاف اللذين يدخل فيهما الصلاة والاحكام أولى من قياس الاستخلاف على الصلاة وحدها.
فإن قالوا: إن استخلاف النبي (ص) أبا بكر هو آخر فعله.
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق، إن عليا لم ينحط فضله بعد أن استخلفه رسول الله (ص) على المدينة في غزوة تبوك.
بل زاد خيرا بلا شك.
فلم يكن استخلاف النبي (ص) أبا بكر على الصلاة لاجل نقيصة حدثت في علي، لم تكن فيه إذ استخلفه على تبوك.
كما لم يكن استخلافه عليه السلام عليا على المدينة في عام تبوك لانه كان أفضل من أبي بكر، فليس استخلاف أبي بكر على الصلاة حاطا لعلي.
وإنما العلماء في خلافة أبي بكر على قولين: أحدهما أن النبي (ص) نص عليه، وولاه خلافته على الامة وأقامه بعد موته مقامه (ص) في النظر عليه ولها، وجعله أميرا على جميع المؤمنين بعد وفاته (ص).
وهذا هو قولنا الذي ندين الله تعالى به.
ونلقاه إن شاء الله تعالى - عليه مقرونا منا بشهادة التوحيد.
وحجتنا الواضحة في ذلك إجماع الامة حينئذ جميعا على أن سموه خليفة

(7/982)


رسول الله (ص)، ولو كانوا أرادوا ذلك أنه خليفة على الصلاة، لكان أبو بكر مستحقا لهذا الاسم في حياة النبي (ص)، والامة كلها مجمعة على أنه لم يستحق أبو بكر هذا الاسم في حياة النبي (ص) وأنه إنما استحقه بعد موت النبي (ص)، إذ ولي خلافته على الحقيقة.
وأيضا: فلو كان المراد بتسميتهم إياه خليفة رسول الله (ص) على الصلاة، لا على الامة لما كان بهذا الاسم في ذلك الوقت أولى من أبي زهم وابن أم مكتوم وعلي، فكل هؤلاء فقد استخلفه النبي (ص) على المدينة، ولا من عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، وقد استخلفه (ص) على مكة، ولا من عثمان بن أبي العاص الثقفي، فقد استخلفه (ص) على الطائف، ولا من خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس فقد استخلفه عليه السلام على صنعاء.
فلما اتفقت الامة كلها على أنه لا يسمى أحد ممن ذكرنا خليفة رسول الله لا في حياة النبي (ص) ولا بعد موته يسمى بذلك علي إذ ولي الخلافة، علمنا ضرورة أنه سمي أبو بكر خليفة رسول الله (ص) لانه استخلفه على الخلافة التامة بعد موته في ولاية جميع أمور الامة وهذا بين.
وبالله تعالى التوفيق.
ومعنى خليفة فعيلة من مخلوف وهذا الهاء للمبالغة، كقولك عقير وعقيرة منقول عن معقورة، فهذا قول.
والقول الثاني: أنه إنما قدمه المسلمون لانه كان أفضلهم، وحكم الامامة أن يكون في الافضل.
واحتجوا بامتناع الانصار في أول الامر، وبقول عمر: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني النبي (ص).

(7/983)


قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، بل بعضه عائد عليهم، لان الانصار لم يكونوا ليتركوا رأيهم، وهم أهل الدار والمنعة السابقة، الذين لم يبالوا بمخالفة أهل المشرق والمغرب، وحاربوا جميع العرب حتى أدخلوهم في الاسلام طوعا وكرها، إلا لنص من النبي (ص) لا لرأي أضافهم النزاع إليهم من المهاجرين.
وأما قول عمر فظن منه، وقد قال رضي الله عنه، إذ بشره ابن عباس عند موته بالجنة: والله إن علمك بذلك يا ابن عباس لقليل فخفي عليه شهادة النبي (ص) بالجنة، مع ما في القرآن من ذلك لاهل الحديبية، وهم منهم فهكذا خفي عليه نص النبي (ص) على أبي بكر، وهذا من عمر مضاف إلى ما قلنا آنفا، ومضاف إلى قول يوم مات النبي (ص).
والله ما مات رسول الله، وإلى قوله يوم أراد رسول الله (ص) أن يكتب في مرضه الذي مات فيه.
كما حدثنا حمام بن أحمد، ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا أبو زيد المروزي، ثنا محمد بن يوسف، ثنا البخاري، ثنا يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: لما اشتد برسول الله (ص) وجعه قال: ائتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي، فقال عمر: إن النبي (ص) غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، فقال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع.
فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه.
وحدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، أنا محمد بن منصور، عن سفيان الثوري، سمعت سليمان - هو الاحول - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكر الحديث وفيه: إن قوما قالوا عن النبي (ص) في ذلك اليوم، ما شأنه ؟ هجر.
قال أبو محمد: هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديما، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف، وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى.
فلذلك

(7/984)


نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به، مما كان سببا إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده، ولم يزل أمر هذا الحديث مهما لنا وشجى في نفوسنا، وغصة نألم لها، وكنا على يقين من أن الله تعالى لا يدع الكتاب الذي أراد نبيه (ص) أن يكتبه، فلن يضل بعده دون بيان، ليحيا من حي عن بينة، إلى أن من الله تعالى بأن أوجدناه فانجلت الكربة، والله المحمود.
وهو ما حدثناه عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا عبيد الله بن سعيد، ثنا يزيد بن هارون، ثنا إبراهيم بن سعد، ثنا صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله (ص) في مرضه: ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر.
قال أبو محمد: هكذا في كتابي عن عبد الله بن يوسف، وفي أم أخرى، ويأبى الله والمؤمنون.
وهكذا حدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام الطرسوسي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة عن النبي (ص) بمثله، وفيه: إن ذلك كان في اليوم الذي بدئ فيه عليه السلام بوجعه الذي مات فيه بأبي هو وأمي.
قال أبو محمد: فعلمنا أن الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته (ص) بأربعة
أيام، كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا، إنما كان في معنى الكتاب الذي أراد (ص) أن يكتبه في أول مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال.
لانه (ص) ابتدأه وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين، وأراد الكتاب الذى قال فيه عمر ما قال يوم الخميس بعد ان اشتد به المرض ومات عليه السلام يوم الاثنين، وكانت مدة علته (ص) اثني عشر يوما، فصح أن ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلال في الامة

(7/985)


بعده (ص)، فإن ذكر ذاكر معنى ما روي عن عائشة إذ سئلت من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف ؟ فإنما معناه: لو كتب الكتاب في ذلك.
قال أبو محمد: فهذا قول ثان، وقالت الزيدية: إنما استخلف أبو بكر استيلانا للناس كلهم، لانه كان هنالك قوم ينافرون عليا، فرأى علي أن قطع الشغب أن يسلم الامر إلى أبي بكر، وإن كان دونه في الفضل.
قال أبو محمد: وأما أن يقول أحد من الامة: إن أبا بكر إنما قدم قياسا على تقديمه إلى الصلاة فيأبى الله ذلك، وما قاله أحد قط يومئذ، وإنما تشبث بهذا القول الساقط المتأخرون من أصحاب القياس، الذين لا يبالون بما نصروا به أقوالهم، مع أنه أيضا في القياس فاسد، لو كان القياس حقا، لما بينا قبل، ولان الخلافة ليست علتها علة الصلاة، لان الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد، والذي لا يحسن سياسة الجيوش والاموال والاحكام والسير الفاضلة، وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها، إلا قرشي صليبة، عالم بالسياسة ووجوهها.
وإن لم يكن محكما للقراءة.
وإنما الصلاة تبع للامامة، وليست الامامة تبعا للصلاة، فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الامامة التي هي أصل، على الصلاة التي هي فرع من فروع الامامة ؟ هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس.
وقد كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم أكابر المهاجرين، وفيهم عمرو وغيره أيام النبي (ص) ولم يكن ممن تجوز له الخلافة، فكان أحقهم بالصلاة، لانه كان أقرأهم، وقد كان أبو ذر، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وابن مسعود أولى الناس بالصلاة إذا حضرت، إذا لم يكونوا بحضرة أمير أو صاحب منزل، لفضل أبي ذر وزهده وورعه وسابقته، وفضل سائر من ذكرنا وقراءتهم ولم يكونوا من أهل الخلافة، ولا كان أبو ذر من أهل الخلافة، ولا كان أبو ذر من أهل الولايات ولا من أهل الاضطلاع بها.
وقد قال له رسول الله (ص): يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي وإنك ضعيف، فلا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم

(7/986)


وقد أمر رسول الله (ص) خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأسامة بن زيد على من هو أفضل منهم وأقرأ، وأقدم هجرة وأفقه وأسن، وهذه هي شروط الاستحقاق للامامة في الصلاة، وليست هذه شروط الامارة.
وإنما شروط الامارة حسن السياسة، ونجدة النفس، والرفق في غير مهانة، والشدة في غير عنف، والعدل والجود بغير إسراف، وتمييز صفات الناس في أخلاقهم وسعة الصدر، مع البراءة من المعاصي، والمعرفة بما يخصه في نفسه في دينه، وإن لم يكن صاحب عبارة، ولا واسع العلم، ولو حضر عمرو وخالد وأسامة مع أبي ذر - وهم غير أمراء - ما ساغ لهم أن يؤموا تلك الجماعة، ولا أن يتقدموا أبا ذر ولا أبي بن كعب.
ولو حضروا في مواضع يحتاج فيها إلى السياسة في السلم والحرب لكان عمرو وخالد وأسامة أحق بذلك من أبي ذر وأبي ولما كان لابي ذر وأبي من ذلك حق مع عمرو وخالد وأسامة.
وبرهان ذلك استعمال رسول الله (ص) خالدا وأسامة وعمرا دون أبي ذر وأبي، وأبو ذر وأبي أفضل من عمرو وأسامة وخالد بدرج عظيمة جدا.
وقد حضر الصحابة يوم غزوة مؤتة فقتل الامراء وأشرف المسلمون على الهلكة، فما قام منهم أحد مقام خالد بن الوليد، كلهم، إلا الاقل، أقدم إسلاما وهجرة ونصرا، وهو حديث الاسلام يومئذ، فما ثبت أحد ثباته، وأخذ الراية ودبر الامر، حتى انحاز بالناس أجمل انحياز، فليست الامامة والخلافة من باب الصلاة في ورد ولا صدر، فبطل تمويههم بأن خلافة أبي بكر كانت قياسا على الصلاة أصلا.
فإن قالوا: لو كانت خلافة أبي بكر منصوصا عليه من النبي صلى الله عليه وسلم ما اختلفوا فيها ؟.
قال أبو محمد: فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق: هذا تمويه ضعيف لا يجوز إلا على جاهل بما اختلف فيه الناس، وهل اختلف الناس إلا في المنصوصات.
والله العظيم - قسما برا - ما اختلف اثنان قط فصاعدا في شئ من الدين إلا في

(7/987)


منصوص بين في القرآن والسنة، فمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا تلقى بخلاف ظاهره، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا منسوخ.
ومن قائل: هذا تأويل، وكل هذا منهم بلا دليل في أكثر دعواهم كاختلافهم في وجوب الوصية لمن لا يرث من الاقارب والاشهاد في البيع، وإيجاب الكتابة، وقسمة الخمس، وقسمة الصدقات وممن تؤخذ الجزية، والقراءات في الصلوات والتكبير فيها، والاعتدال، والنيات في الاعمال والصوم، ومقدار الزكاة وما يؤخذ فيها المتعة في الحج، والقرآن والفسخ، وسائر ما اختلف الناس فيه، وكل ذلك منصوص في القرآن والصحيح عن رسول الله (ص).
فعلى هذا وعلى النسيان للنص كان اختلاف من اختلف في خلافة أبي بكر.
وأما الانصار فإنهم لما ذكروا، وكان قبل ذلك قد نسوا، حتى قال
قائلهم: منا أمير ومنكم أمير، ودعا بعضهم إلى المداولة، وبرهان ما قلنا أن عبادة بن الصامت الانصاري روى عن رسول الله (ص): أن الانصار بايعوه على ألا ينازعوا الامر أهله، وأنس بن مالك الانصاري روى عن رسول الله (ص)، أن الائمة من قريش.
فبهذا ونحوه رجعت الانصار عن رأيهم، ولا ذلك ما رجعوا إلى رأي غيرهم، ومعاذ الله أن يكون رأي المهاجرين أولى من رأي الانصار، بل النظر والتدبير بينهم سواء، وكلهم فاضل سابق.
وقد قال عمر يوم مات النبي (ص): والله ما مات رسول الله، وهو يحفظ قول الله عزوجل: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * فلما ذكر بها خر مغشيا عليه، وهكذا عرض للانصار.
وقد روينا ذلك نصا.
كما حدثنا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله بن محمد بن عثمان الاسدي، نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز، نا الحجاج بن المنهال، ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الاودي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري - فذكر حديث وفاة رسول الله (ص) - قال: فقال رجال أدركناهم - فذكر باقي الحديث - وفيه، أن أبا بكر قال: وقد علمت يا سعد أن رسول الله (ص) قال وأنت قاعد: إن الائمة من قريش، والناس برهم تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم قال: صدقت أو قال: نعم.

(7/988)


قال أبو محمد: ومن أعاجيب أهل القياس: أنهم في هذا المكان يحتجون بأن إمامة أبي بكر كانت قياسا لا نصا، ثم نسوا أنفسهم - أو تناسوا عمدا ؟ فإذا أرادوا إثبات التقليد للمصاحب قالوا: قال رسول الله (ص) اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر.
قال أبو محمد: وهذا اعجب ما شئت منه فإن كان هذا الحديث صحيحا فقد
صح النص من رسول الله (ص) على خلافة أبي بكر بعده، ثم على خلافة عمر بعد أبي بكر، وبطل قولهم: إن بيعة أبي بكر كانت قياسا على صلاته بالناس، وإن كان هذا الحديث لا يصح فلم احتجوا به في تقليد الامام من الصحابة ؟ أفيكون أقبح من هذه المناقضات بما يبطل بعضه بعضا ؟ ولكن إنما شأن القوم نصر المسألة التي يتكلمون فيها بما أمكن، من حق أو باطل أو ضحكة، أو بما يهدم عليهم سائر مذاهبهم، ليوهموا من بحضرتهم من المغرورين بهم أنهم غالبون فقط، فإذا تركوها وأخذوا في غيرها، لم يبالوا أن ينصروها أيضا بما يبطل قولهم في المسألة التي تركوا، وهكذا أبدا ونعوذ بالله من الخذلان.
واحتجوا بأن أبا بكر قاتل أهل الردة مع جميع الصحابة قياسا على منع الصلاة، واحتجوا في ذلك بما روي من قوله: لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، حتى إن بعض أصحاب القياس قال: على هذا عول أبو بكر، لا على الآية التي في براءة.
قال أبو محمد: وهذا من الجرأة واستحلال الكذب، ونسب الضلال إلى أبي بكر بحيث لا مرمى وراءه، ومن نسب هذا إلى أبي بكر فقد نسب إليه الضلالة، وقد أعاذه الله من ذلك، وبيان كذبهم في هذا الاعتراض أوضح من كل واضح لان أبا بكر لم يقل لاقاتلنهم لانهم فرقوا بين الصلاة والزكاة وإنما قال: لاقاتلن المفرقين بين الصلاة والزكاة، وإنما فعل ذلك - بلا شك - وقوفا عند إلزام الله تعالى لنا وللمسلمين قديما وحديثا إذ يقول تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) * فلم يبح الله تعالى لنا ترك سبيلهم إلا بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فهذا الذي حمل أبا بكر على قتالهم لا ما يدعونه من الكذب المفضوح من القياس الذي لا طريق له ههنا.

(7/989)


وصدق أبو بكر في إيجابه قتال من فرق بين الصلاة والزكاة، لان نص الله تعالى عليهما سواء، وليست إحداهما أصلا والاخرى فرعا فيجب قياس الفرع على الاصل.
وهذا تخليط ما شئت منه ولو اتعظوا بهذا القول من أبي بكر، فلم يفرقوا ما ساوى النص بينه، لكان أولى بهم، لكنهم لم يفعلوا، بل قالت طائفة منهم، الزكاة تجزئ إلا بنية، والصلاة لا تجزئ الا بنية والصلاة تلزم العبد، والزكاة لا تلزمه وإن كان ذا مال.
وأما في سائر النصوص فلا يبالون أن يقولوا في بعض النص: هذا مخصوص، وفي بعضه: هذا عموم، وفي بعضه: هذا واجب، وفي بعضه هذا ندب، ومثل هذا لهم كثير.
وقد عارض الصحابة أبا بكر بقول النبي (ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
قال أبو محمد: ونسبوا - رضي الله عنهم - الآية التي ذكرنا آنفا في براءة، وكلهم قد سمعها لانها في سورة براءة التي قرئت على الناس كلهم في الموسم في حجة أبي بكر سنة تسع.
وفي الجملة أيضا أبو هريرة وابن عمر، وكلاهما قد روى عن رسول الله (ص) الامر بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، كما حدثنا ابن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو غسان مالك بن عبد الواحد المسمعي، ثنا عبد الملك ابن الصباح، عن شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله.
قال مسلم: وحدثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن زريع، نا روح، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله (ص) قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا

(7/990)


فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
قال أبو محمد: فلولا هذه النصوص من القرآن وكلام النبي (ص) ما ترك الصحابة الحديث الذي تعلقوا به، ولكن ليس كل أحد يحضره في كل حين ذكر كل ما عنده، واحتجوا بإجماع الامة على استخلاف إمام إذا مات إمام ولا نص على المستخلف.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان النص قد صح بطاعة أولي الامر منا، وجاءت الآثار الصحاح عن النبي (ص) بوجوب الطاعة للائمة ولزوم البيعة، وهذا ما يوجب استخلاف إمام إذا مات الامام، فهو نص صحيح على وجوب الاستخلاف لمن يوثق بدينه ويقوم بأمور المسلمين من قريش، نصوصا بينة على وجوب العدل على الامام، والرفق بالرعية، والنصح لهم، فصفات الامام منصوصة عن رسول الله (ص) بينة واضحة.
فمن كانت فيه تلك الصفات فقد نص على تقديمه وإفراده بالامر ما عدل.
كالامر بالعتق، ولا حاجة بنا إلى تسمية المعتق، وإيجاب الاضحية والنسك، ولا حاجة بنا إلى صفة لونها، وهكذا جمع الشريعة، وليت شعري أي مدخل للقياس في هذا ؟ إن هذا الامر كان ينبغي لكل ذي عقل أن يستحي من الاحتجاج بمثله.
واحتجوا بقول رسول الله (ص): لا نبي بعدي قالوا لنا فقولوا إنه يكون بعده رسول، لانه أخبر بأنه لا يكون بعده نبي، ولم يقل لا رسول بعدي.
قال أبو محمد: وهذا جهل مظلم ممكن أتى بهذا، لان هذا من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله (ص)، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، فلو قال عليه السلام: لا رسول بعدي، لامكن أن يقول بعده نبي، لكن إذ قال: لا نبي بعدي فقد صح أنه لا رسول بعده، لان كل رسول فهو نبي بلا شك.
ولا سبيل إلى وجود رسول ليس نبيا، فبطل هذا التمويه الضعيف على أن هذا كله لو صح لهم كما ادعوه، ومعاذ الله من ذلك، لما كان من شئ منه دليل على قياس التين على البر، ولا على وجوب القياس في الشرائع، فكيف وكل ما أوتوا به عليهم هو لا لهم، والحمد لله رب العالمين.
وقد حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن، ثنا وهب بن مسرة، ثنا ابن وضاح، حدثنا

(7/991)


أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس الاودي، عن المختار بن فلفل، عن أنس قال: قال النبي (ص): إن النبوة والرسالة قد انقطعت فجزع الناس، فقال: قد بقيت مبشرات، وهن جزء من النبوة.
قال أبو محمد: واحتجوا بأن الحائض إنما أمرت بالتيمم إذ عدمت الماء في السفر قياسا على الجنب.
قال أبو محمد: هذا تمويه ضعيف، ومعاذ الله أن نأمر الحائض بذلك قياسا، بل بالنص، وهو قوله تعالى إذ أمر باعتزال الحيض حتى يطهرن: * (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله) * فأمرهن الله تعالى بالطهور جملة، وقال رسول الله (ص): جعلت لي الارض مسجدا وطهورا فالتراب طهور، والماء طهور بالنص، وفسر الاجماع أن التراب لا يستعمل ما دام يوجد الماء لغير المريض، أو من أوجبه له النص، فدخلت الحائض في هذا النص، ولقد كان ينبغي لمن فرق بين الحائض والجنب فيما أباح لها من قراءة القرآن، ومنعه الجنب من ذلك،
أن يعلم أنه ترك القياس.
واحتجوا أيضا بإيجاب الزكاة في الجواميس، وأنه إنما وجب ذلك قياسا على البقر.
قال أبو محمد: وهذا شغب فاسد، لان الجواميس نوع من أنواع البقر، وقد جاء النص بإيجاب الزكاة في البقر، والزكاة في الجواميس، لانها بقر، واسم البقر يقع عليها.
ولولا ذلك ما وجدت فيها زكاة، وكذلك البخت والمهاري والفوالج، هي أنواع من الابل، وكذا الضأن والماعز يقع عليها اسم الغنم.
وقد قال بعض الناس: البخت ضأن الابل، والجواميس ضأن البقر، وقد رأينا الحمر المريسية، وحمر الفجالين، وحمر الاعراب المصامدة نوعا واحدا وبينها من الاختلاف أكثر مما بين الجواميس وسائر البقر، وكذلك جميع الانواع.
واحتجوا بأن الناس قاسوا على ذي الحليفة، وأنهم قاسوا ذات عرق على قرن.
قال أبو محمد: وهذا كذب وباطل، لان الحديث في توقيت ذات عرق لاهل العراق مشهور ثابت مسند لا يجهله من له بصر بالحديث.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن إسحاق بن السليم القاضي، ومحمد بن معاوية، قال ابن إسحاق، ثنا أبو سعيد الاعرابي، ثنا سليمان بن الاشعث، ثنا هشام بن بهرام،

(7/992)


وقال ابن معاوية: ثنا أحمد بن شعيب، أخبرني محمد بن عبد الله عمار، ثنا أبو هاشم محمد بن علي، قال بهرام: ثنا المعافى بن عمران، وقال أبو هاشم: عن المعافى بن عمران، ثم اتفقا: عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة أن رسول الله (ص) وقت لاهل العراق ذات عرق.
قال أبو محمد: هشام بن بهرام ثقة، والمعافى ثقة جليل، وأفلح بن حميد كذلك، وأما قياسهم على ذي الحليفة فهذيان لا يدرى ما هو ؟ ولا ماذا قيس عليه ؟ والمواقيت مختلفة، فمنها ذو الحليفة على عشر ليال، ومنها الجحفة على ثلاث ليال،
ومنها قرن على أكثر من ليلة، ومنها يلملم على ليلة، فعلى أي هذا يقاس ؟ إن هذا لامر لا يفهمه إلا ذو لب ؟.
واحتجوا بما روي من قول ابن عمر: فعدل الناس بصاع من شعير مدين من بر.
قال أبو محمد: وهذا من طرائف ما احتجوا به لان المحتج بهذا إن كان مالكيا أو شافعيا فهو مخالف لهذا الاجماع عنده، ومن أقر على نفسه بأنه مخالف للاجماع فأقل ما عليه اعترافه بأنه مخالف للحق، ثابت على الباطل غير تائب عنه، وهذا فسق مجرد.
ومن أعجب العجب احتجاج المرء بما لا يراه حجة ولكن هذا غير بديع منهم فهذا أبو حنيفة يحتج أن الخيار لا يكون إلا ثلاثة أيام لا أكثر، بحديث المصراة، فإذا قيل له فهذا الذي تحتج به أتأخذ به ؟ قال: لا.
وهذا مالك احتج في تضمين القائد والسائق ما تجنيه الدابة المسوقة والمقودة، بأن عمر غرم بني سعد بن ليث نصف دية رجل من جهينة، أصاب أصبعه رجل من بني سعد بن ليث، كان يجري فرسه فمات الجهني، فإذا سئل أتبدي المدعى عليهم في هذا المكان كما فعل عمر ؟ قال: لا يجوز ذلك، وإذا قيل له: أتغرم المدعى عليهم بغير أن يحلف المدعون كما فعل عمر في هذا المكان ؟ قال: لا يجوز ذلك، وإذا قيل له: أتقتصر في هذا المكان على نصف الدية كما فعل عمر ؟ قال: لا يجوز ذلك، وإذا قيل له: أتجعل ما جنى الذي يجري فرسه على عاقلته في هذا المكان كما فعل عمر ؟

(7/993)


قال: لا يجوز ذلك، ثم يجعل هذا الحديث نفسه حجة في تضمين القائد والسائق قياسا على الراكب وهذا عجب عجيب.
ثم تلاه في ذلك ابن الجهم، فاحتج أنه لا يجزئه من ذبح الهدي أو الاضحية ليلا بالنهي عن حصاد الليل وجذاذه، فإذا قيل له: أتمنع من حصاد الليل
وجداده ؟ قال: لا، فهو يخالف ما أقر أنه حجة فيما ورد فيه، ويحتج به فيما ليس منه في ورد ولا صدر.
ثم تلاه في ذلك ابن أبي زيد، فاحتج في مخالفته نهي النبي (ص) عن الصلاة على القبر بصلاته (ص) على قبر المسكينة السوداء رضي الله عنها.
فإذا سئل: أتأخذ بصلاته (ص) على قبر المسكينة السوداء ؟ قال: لا.
قال أبو محمد: وهذا كثير منهم جدا، كاحتجاج المالكيين في شق زقاق الخمر، وكسر أوانيها بالحديث الوارد في إحراق رجل الغال، فإذا قيل لهم: أتحرقون رجل الغال ؟ قالوا: لا.
وقد رأيت لرجل منهم يدعى الابهر، ويكنى بأبي جعفر احتجاجا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم بحديث رواه: إن الصداق لا يكون أقل من عشرة دراهم.
ومثل هذا من نوادرهم كثير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم نرجع إلى ما احتجوا به من قول ابن عمر: فعدل الناس بصاع من شعير نصف صاع بر فأول ذلك أن ابن عمر الذي يروون عنه هذا القول لا يرضى به ولا يقول به.
حدثنا أحمد بن محمد الجسور، ثنا أحمد بن مطرف، نا عبد الله بن يحيى، نا أبي، ثنا مالك عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر مرة واحدة، فإنه أخرج شعيرا.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا عبد الله بن نصر الزاهد، نا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح، نا موسى بن معاوية، نا وكيع بن عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله تعالى قد أوسع والبر أفضل من التمر، قال: إن أصحابي

(7/994)


سلكوا طريقا فأنا أحب أن أسلكه.
حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، نا عبد الله بن حسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا ابن اجهم، نا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا إسماعيل بن إبراهيم، نا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، عن عياض ابن سعد قال: ذكرت لابي سعيد الخدري صدقة الفطر، فقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله (ص): صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاع زبيب أو صاع أقط، فقلت له: أو مدين من قمح ؟ قال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها، ولا أعمل بها.
قال أبو محمد: أفيكون أعجب ممن يدعى الاجماع على قول يقول به ابن عمر أن الصحابة على خلاف ذلك الاجماع كما ذكرنا، وإنه لا يخرج البر أصلا اتباعا لطريق أصحابه ثم يقول أبو سعيد: تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها فأين الاجماع لولا الجنون وقلة الدين.
ومن طرائف الدهر قول الطحاوي ههنا: إنما أنكر أبو سعيد المقوم لا القيمة فيكون أعجب من هذه المهاجرة وهو يذكر أنه قال أبو سعيد - وقد ذكر القيمة - لا أقبلها ولا أعمل بها، فهل ضمير المؤنث راجع إلى القيمة ؟ وهذا ما لا يشك فيه ذو بصر بشئ من مخاطبات الناس، ولكن الهوى يعمي ويصم.
حدثنا أحمد بن عمر العذري، ثنا عبد الله بن حسين بن عقال، ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري، ثنا محمد بن أحمد بن الجهم، ثنا موسى بن إسحاق الانصاري، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الاسود، عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان الناس يعطون زكاة رمضان نصف صاع، فأما إذا وسع الله تعالى على الناس فإني أرى أن يتصدق بصاع.
فصح بما ذكرنا أن قول ابن عمر وعائشة فعدل الناس بذلك مدين من بر إنما هو على الانكار لفعل من فعل ذلك وبرهان هذا ثبات ابن عمر وعائشة
على صاع صاع، لا على ما ذكروا من عمل الناس، فلو كان عمل الناس عندهما حقا لما وسعهما خلافه، فبطل تمويههم، وبالله تعالى التوفيق.
مع أن عائشة لم تقل نصف صاع من بر، ولعلها عنت من لا يجد أكثر من

(7/995)


نصف صاع شعير، إلا أنه لا شك أن ما حكته من فعل الناس في ذلك لم يكن عندها حجة، ولا عملا مرضيا، ولكن كقولها، إذا أمرت هي وأمهات المؤمنين أن يخطر على حجرهن بجنازة سعد، فأنكر الناس ذلك، فقالت: ما أسرع الناس إلى إنكار ما لاعلم لهم به.
وقالوا: وقد وجدنا مسائل مجمع عليها ولا نص فيها، فصح أنها قياس.
قال أبو محمد: قد ذكرنا هذه المسألة في باب الاجماع من ديواننا هذا وتكلمنا عليها، وبيناها - بعون الله تعالى - غاية البيان، وأرينا البراهين الضرورية، على أن ذلك لا يجوز البتة، وأنها إنما هي أحوال كانت على عهد رسول الله (ص) فأقر بها وقد علمها.
ومن ذلك القراض، وليس ههنا شئ يقاس عليه جواز القراض، بل القياس يمنع من جوازه، لانه إجازة إلى غير أجل، وعلى غير عمل موصوف، وبأجرة فاسدة، وربما لم يأخذ شيئا فضاع عمله، وربما أخذ قليلا أو كثيرا، وهكذا القول في سائر الاجماعيات من المسائل.
مع أن قولهم: إنها عن قياس، خبر كاذب، ودعوى بلا دليل، والبرهان قد قام على أن الرسول (ص) قد بين جميع واجبات الاسلام وحلاله وحرامه، فكل ما أجمع عليه فعن الرسول وبيانه بلا شك، هذا هو اليقين، إذ لا يجوز إجماع الناس على شريعة لم يأت بها نص، فبطل أن يكون قياس وبالله تعالى التوفيق.
واعترضوا ههنا على من أجاب من أصحابنا في هذه المسألة بأن قال: الناس مختلفون في القياس بلا شك، فكيف يجوز أن يجمعوا على ما اختلفوا فيه ؟ وهذا تخليط ظاهر.
قال أبو محمد: وهذا جواب صحيح عياني، لا مجال للشك فيه، فاعترض بعض أصحاب القياس فيه بأن قال لنا: إنكم تجيزون الاجماع عن سنن كثيرة أتت في أخبار الآحاد، وقد علمتم أن أخبار الآحاد مختلف في قبولها، وهذا هو الذي أنكرتم.
قال أبو محمد: وهذا تمويه ضعيف منحل ظاهر الانحلال، لاننا لم ندع إجماع الناس على ما اختلفوا عليه من قبول خبر الواحد وإنما قلنا ونقول: إن

(7/996)


الامة كلها مجمعة على قبول ما قاله رسول الله (ص) لا خلاف بين أحد ممن ينتمي إلى الاسلام في ذلك من جميع الفرق أولها عن آخرها، ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى معرفة صحة ما قاله رسول الله (ص)، فقلنا نحن: خبر الواحد العدل من جملة ذلك.
وقال آخرون: ليس من جملة ذلك، ثم تأتي سنن قلنا نحن: صحت عندنا من طريق من الآحاد، وقال من خالفنا، إنما صحت عندنا من طريق التواتر، ولو لم تأت إلا من طريق الآحاد فقط ما أخذنا بها.
فهذه الصفة النقل هو الذي اتفق الناس كلهم من المسلمين على قبوله، وأجمعوا على الاخذ به، كإجماع الناس على أن في خمس من الابل شاة، وعلى أن فيما سقي بالنضح من القمح والشعير نصف العشر، وسائر ما أجمعوا عليه من آيات النبوة التي جاءت من طريق الكافة، وجاءت أيضا من طريق الآحاد، وليس هكذا أمر القياس الذي ادعوه.
ولكنا لا ننكر أن تأتي مسائل تستوي في حكم القياس على أصولهم، وقد صح بها نص أو إجماع أيضا، فأخذنا نحن بها، لان النص أتى بها، أو لانها إجماع ولم
نبال وافقت القياس أو خالفته.
وأيضا فإن من ينكر القياس ينكره على كل حال، وبكل وجه، وفي كل وقت، وليس في فرقة من فرق المسلمين أحد ينكر الخبر جملة، بوجه من الوجوه، بل كلها مجمعة - بلا خلاف - عن أن الديانة لا تعرف إلا بالخبر، وإنما أنكرت طوائف خبر الواحد وقالت بخبر التواتر.
وقال آخرون بالخبر المشتهر، وقال آخرون بخبر الواحد العدل، فالفرق بين ما أنكرنا وبين ما نظروه به بين واضح، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بإيجاب التحرير على المسئ قالوا: وهذا قياس.
قال أبو محمد: وهذا من ذلك المرار، ليت شعري على أي شئ قيس التعزير إن كانوا إنما قالوا به قياسا ؟ وأما نحن فإنما قلنا به للنص الوارد في ذلك عن رسول الله (ص): ألا يجلد أحد في غير حد أكثر من عشر جلدات، وأما السجن فإنما هو منع المسجون من الاذى للناس، أو من الفرار بحق لزمه، وهو قادر على أدائه فقط، وهذا وقع تحت قوله تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) * وله حد لا يتجاوز، وهو توبة المسجون وإقلاعه

(7/997)


أو خروجه عما لزمه من الحق، أو موته إن فعل به ذلك قصاصا.
واحتجوا أيضا بالتوجه إلى القبلة عند المعاينة، فإذا غبنا عنها فبالاجتهاد.
قال أبو محمد: وهذا من ذلك التخليط، وليس ههنا شئ قيس عليه ذلك بوجه من الوجوه، ولا هو أيضا موكول إلى الرأي، ولا إلى الاستحسان، ولكنه نص من الله تعالى إذ يقول * (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * فأما وصولنا إلى معرفة جهة القبلة فبالدليل الذي أنكروه علينا، ولم يعرفوا ما هو وظنوه قياسا، وهذه مسألة يلوح فيها، لمن له أدنى حس، الفرق بين الدليل والقياس، لان جهة طلب القبلة ليس قياسا أصلا، ولا ههنا شئ يقاس عليه، ولا هو موكول
إلى رأي كل إنسان، فيستقبل أي جهة شاء، ولا إلى استحسانه، فصح أنه يتوصل إلى ذلك بدليل ليس رأيا ولا قياسا ولا استحسانا، وإنما كان يكون قياسا إذا خفيت عنا الكعبة توجهنا إلى بيت المقدس قياسا عليها، لانها قد كانت أيضا قبلة، أو إلى المدينة، وهذا كفر من قائله، وهذا نحو قولكم لما حرم البر بالبر نسيئة حرمنا التبن بالتبن نسيئة، وإنما الدليل على جهتها مطالع الكواكب والشمس ومعرفة نسبة العرض من الطول.
وقالوا أيضا: قد أسقطتم الزكاة عن الثياب، قياسا على سقوطها عن الحمير وتركتم أخذ الزكاة من الثياب بعموم قول الله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * وقوله تعالى: * (وآتوا الزكاة) *.
قال أبو محمد: وكذبوا في ذلك ما شاؤوا، ومعاذ الله أن نترك أخذ الزكاة من الثياب قياسا على الحمير، ولكن لما كانت الآيتان المذكورتان لم ينص عزوجل فيهما على مقدار ما يؤخذ في الزكاة، ولا متى يؤخذ، لم يحل لاحد العمل بما لم يبين له، إذ لا يدري أيأخذ الاقل أو الاكثر، أو كل يوم أو كل شهر أو كل سنة أو مرة من الدهر، ووجب عليه طلب بيان الزكاة في نص آخر، فوجدناه (ص) قد قال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام قال هذا في حجة الوداع، بعد نزول: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * بيقين وبعد نزول * (خذ من أموالهم صدقة) * بيقين لا شك فيه عند أحد من المسلمين، لان هاتين الآيتين نزلتا في صدر الهجرة، فوجب بهذا النص أن لا يؤخذ من مال أحد شئ إلا بنص على ما أخذه

(7/998)


باسمه، فما نص (ص) في واجب أخذه في الزكاة وجب قبوله، وما لم ينص على وجوبه فلا يحل أخذه لاحد، فهكذا سقطت الزكاة عن الثياب والعروض كلها على كل حال.
وأيضا فقد قال (ص): ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر
صدقة ودون في لغة العرب بمعنى: غير، وبمعنى أقل، قال تعالى: * (من دون الله أولياء) * يريد من غير الله، فوجب بهذا الحديث أن لا يؤخذ شئ من غير التمر والحب إلا ما جاء النص على وجوب أخذه بعينه واسمه وليس حمل لفظه دون على بعض ما تقتضيه أولى من حملها على كل ما تقتضيه.
وأيضا: فإن سقوط الزكاة عن الثياب المتخذة لغير التجارة إجماع لا خلاف فيه من أحد، والاجماع الانقياد وكان يلزمهم، وهو الموجبون لاستعمال القياس والتدين به، أن يوجبوا الزكاة في الثياب، قياسا على وجوبها في القمح والتمر والذهب والفضة، لان هذا كله موات لا حيوان، فالثياب بالذهب والفضة والقمح والتمر أشبه منها بالحمير، وليت شعري ما الذي أوجب عندهم قياس الثياب على الحمير، دون أن يقيسوها على الغنم والابل، فيوجبوا فيها الزكاة ؟ لان الثياب لا تكون إلا من جلود أو نبات، إلا من شذ كالحرير، وهو أيضا من حيوان، فقياسها على ما هي مأخوذة منه أولى من قياسها على ما لا شبه بينها وبينه.
هذا إن كان القياس حقا بل ههنا قياس هو أقرب وأشبه على أصولهم، وهو قياس المنتقاة على الثياب المتخذة للتجارة، وكما أوجب المالكيون الزكاة في غير السائمة قياسا على السائمة، وكما قالوا: يجمع بين الذهب والفضة في غير التجارة، كما يجمع بينهما في التجارة وبين سائر العروض المتخذة للتجارة، فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا أيضا بوجوب الزكاة في الذهب، وقالوا: هو قياس على الفضة.
قال أبو محمد: وهذا في الفساد كالذي قبله، لان الخبر في زكاة الذهب ووجوب

(7/999)


حق الله تعالى فيه، أشهر من أن يجهله ذو علم بالآثار، ثم اختلف العلماء فقالت طائفة: بيان المأخوذ منه مرجوع فيه إلى الاجماع، إذ لم يصح فيه أثر فما أجمع المسلمون على وجوب تزكيته من الذهب قلنا به، وما اختلفوا فيه لم نوجبه إلا بنص،
وما اتفقوا فيه ثم اختلفوا لم نزل عن إجماعهم إلا بنص وبالله التوفيق.
وقالت طائفة: بل في المقدار الذي يجب فيه الزكاة من المذهب نص صحيح، فالواجب الوقوف عنده بهذا نقول: واحتجوا أيضا بتسويتنا في حديث عتق الشقص واشتراط مال العبد، بأننا سوينا بين العبد والامة في ذلك، وهذا خطأ، بل النص قد جاء في ذلك بلفظ مملوك، وهذا اسم يقع على الامة كوقوعه على العبد.
وأيضا: فإن لفظة العبد واقعة على الجنس، وقولنا عبيد يقع على الذكور والاناث، لانك تقول: عبد وعبدة بلا خوف من أهل اللغة، ولهم علينا في خاصتنا اعتراض ننبه عليه، وهو: أن أصحابنا لا يجوزون المزارعة، ونحن نجيزها، وهذا الاعتراض علينا على أصحابنا في المساقاة، فإنهم يقولون إن الشروط فاسدة بقوله (ص): كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فأنتم إذا أجزتم المساقاة والمزارعة على النصف فكلم مقال.
لفعله (ص) في خيبر، فلم أجتموها بالثلث والربع ؟ وقد جاء النهي نصا عن ذلك، فهل هذا إلا قياس الثلث والربع على النصف ؟.
قال أبو محمد: ومعاذ الله أن نقول قياسا، وما قلنا ذلك اتباعا للاجماع، فإن الامة كلها، بلا خلاف من أحد منها، مساوية بين النصف وبين سائر الاجزاء يقينا، فمن مانع من كل ذلك، قاطع على أن حكم كل ذلك سواء، مبيح لكل ذلك، قاطع على أن كل ذلك سواء، فقد صح الاجماع يقينا على أن حكم النصف وسائر الاجزاء سواء، ثم وجدنا النص قد جاء بالمساقاة والمزارع على النصف، فوجب القول به، وصح بالاجماع أن حكم سائر الاجزاء كحكم النصف، والنصف حلال، فسائر الاجزاء حلال، وهذا برهان متيقن، لا يجوز خلافه.
وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا: فإن المتعاقدين على النصف والنصف، فقد تعاقدا على ما دون النصف

(7/1000)


بدخول ذلك في النصف، فإذا اقتصر أحدهما على بعض ماله أن يعاقد عليه مع سائره فذلك جائز له بالنص المجيز له أن يعاقد على ما دون النصف مع قوله تعالى: * (ولا تنسوا الفضل بينكم) * فتجافيه عن بعض ماله أن يشترطه فضل منه.
واحتجوا بقيم المتلفات ومهر المثل، ومقدار المتعة والنفقات، وإن كل ذلك لا نص فيه، قالوا: فوجب الرجوع إلى القياس.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه البتة، ولا للقياس هنا مدخل أصلا لانه ليس ههنا شئ آخر منصوص عليه يقيسون عليه هذه الاشياء، وهذا هو القياس عندهم، فبطل تمويههم، إن هذا القياس، وما هو إلا نص جلي، لا داخلة فيه، وهو قول الله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * فهل في البيان أكثر من هذا ؟ وهل هذا إلا نص على كل قصة وجب فيها ضمان المثل ؟.
فأي معنى للقياس فيمن أتلف الآخر ثوبا قيمته دينار فقضى عليه بثوب مثله، فإن لم يوجد فمثله من القيمة في سوق البلد الذي وقع فيه الغصب، أو الذي وقع فيه الحكم ؟.
وكذلك امرأة وجب لها مهر مثلها بالنص، فعلم مقدار ما تطيب به نفس مثلها في المعهود الذي أحالنا الله تعالى عليه على لسان نبيه (ص).
وكذلك نص الرسول (ص) على أن للازواج والاقارب والمماليك النفقة والكسوة بالمعروف، وساوى في ذلك بين الاقارب وبين من ذكرنا وأحالنا على المعروف، والمعروف هو غير المنكر، فهو ما تعارفه الناس في نفقات من ذكرنا، وما فيه مصالحهم من كسوة معروفة لامثالهم، وإسكان وغير ذلك، مما لا قوام للمعاش إلا به، مما لا جوع فيه ولا عري ولا عطش ولا برد، ولا شهرة
ولا اتضاع، ولا إسراف ولا تبذير، ولا تقصير ولا تقتير، فهذا هو المنكر، وضده هو المعروف، فأين القياس ههنا ؟ وعلى أي شئ قاسوا ما ذكرنا فإذ ليس ههنا شئ يقاس عليه ما ذكرنا البتة فقد بطل أن يكون قياسا، وبطل تمويههم في ذلك.
واحتجوا أيضا بأروش الجراحات والجنايات والديات.
قال أبو محمد: وهذا في التمويه كالذي قبله، وقولنا في ذلك: إن كل ما أوجبه من ذلك نص وقف عنده، وما لم يوجبه نص فهو ساقط لا يقضى به للنص الوارد:

(7/1001)


إن دماءنا وأموالنا علينا حرام، وما تيقن أنه أجمع عليه واختلف في مقداره: وجب من ذلك أقل ما قيل فقط، وما عدا ذلك فتحكم في الدين لا يحل.
وأي شئ في معرفة مقدار شبع الناس في الجمهور في أقواتهم في ذلك البلد، مما يكون فيه للقياس معنى، وكذلك ما اتفقوا على وجوبه في المتعة، وهل شئ من هذا يوجب تحريم البلوط بالبلوط متفاضلا، إن انطلاق اللسان بمثل هذا لعظيم، ونعوذ بالله من نصر الباطل والتمادي عليه.
فهذا كل ما احتجوا به من دلائل الاجماع، فقد بينا بحول الله وقوته أنه عائد عليهم، ومبطل للقياس، والحمد لله كثيرا كما هو أهله.
واحتجوا أيضا بأحاديث وردت عن الصحابة رضي الله عنهم، كرسالة منسوبة إلى عمر رضي الله عنه، ذكروا أنه كتب بها إلى أبي موسى، وكقول ابن عباس: ولا أرى كل شئ إلا مثله، ولو لم يعتبروا ذلك إلا بالاصابع، أرأيت من ادهن، وعن سعد: أينقض الرطب إذا يبس، وعن معمر بن عبد الله أخشى أن يضارع، وعن أبي سعيد، فأيما أولى، التمر أو الورق، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا سكر هذى، وعن علي وزيد في الجد، وعن علي: لو كان هذا كان رسول الله (ص) قاتل حمزة.
وعن ابن عباس: قد أمر الله بالتحكيم بين الزوجين،
وفي أرنب قيمتها ربع درهم، وعن علي في احتجاجه بمحو اسمه من الصحيفة، بمحو النبي (ص) اسمه يوم الحديبية من الصحابة، وعن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد، وبالقطع في السرقة.
قال أبو محمد: هذا كل ما يحضرنا ذكره مما يمكنهم أن يتعلقوا به، ونحن إن شاء الله تعالى، نذكر كل ما يحضرنا ذكر كل ذلك بأسانيده، ونبين، بعون الله عزوجل، أنه لا حجة لهم في شئ منه لو صح، فكيف وأكثر ذلك لا يصح.
فأما رسالة عمر، فحدثنا بها أحمد بن عمر العذري، نا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، ثنا أبو سعيد الخليل بن أحمد القاضي السجستاني، نا يحيى بن محمد بن صاعد، نا يوسف

(7/1002)


بن موسى القطان، نا عبيد الله بن موسى، نا عبيد الله بن موسى، نا عبد الملك بن الوليد بن معدان، عن أبيه قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الاشعري - فذكر الرسالة وفيها: الفهم الفهم، يعني فيما يتلجلج في صدرك، مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الامثال والاشكال، فقس الامور عند ذلك، ثم اعمد إلى أشبهها بالحق، وأقربها إلى الله عزوجل، وذكر باقي الرسالة.
وحدثناها أحمد بن عمر، نا عبد الرحمن بن الحسن الشافعي، نا القاضي أحمد بن محمد الكرخي، نا محمد بن عبد الله العلاف، نا أحمد بن علي بن محمد الوراق، نا عبد الله بن سعد، نا أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، نا سفيان، عن إدريس بن يزيد الاودي، عن سعيد بن أبي موسى الاشعري بن أبي بردى عن أبيه قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى، فذكر الرسالة وفيها، الفهم فيما يتلجلج في نفسك مما ليس في الكتاب ولا السنة، ثم قس الامور بعضها ببعض، ثم انظر أشبهها بالحق وأحبها إلى الله تعالى فاعمل به.
وفيها أيضا: المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجريا عليه شهادة زور، أو ظنينا
في ولاء أو قرابة وذكر باقيها.
قال أبو محمد: وهذا لا يصح، لان السند الاول فيه عبد الملك بن الوليد بن معدان، وهو كوفي متروك الحديث ساقط بلا خلاف، وأبوه مجهول، وأما السند الثاني فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهولون، وهو أيضا منقطع، فبطل القول به جملة.
ويكفي من هذا أنه لا حجة في قول أحد دون النبي (ص)، وكم قصة خالفوا فيها عمر.
وأيضا: فلا يخلو من أن تكون صحيحة أو غير صحيحة، فإن كانت غير صحيحة، فهو قولنا ولا حجة علينا فيها، وإن كانت صحيحة تقوم بها الحجة، فقد خالف أبو حنيفة ومالك والشافعي والحاضرون من خصومنا المحتجين بها، ما فيها،

(7/1003)


فأجازوا شهادة المجلود في الخمر والزنى إذا تاب.
وأجاز مالك والشافعي شهادة المجلود في حد القذف إذا تاب، وهذا خلاف ما في رسالة عمر، وإن ادعوا إجماعا كذبهم الاوزاعي، فإنه لا يجيز شهادة مجلود في شئ من الحدود أصلا، كما في رسالة عمر التي صححوا.
وأجازوا شهادة الاخ لاخيه، والمولى لذي ولائه، ولم يجعلوهما ظنينين في ولاء وقرابة، وردوا شهادة الاب العدل لابنه، وجعلوه ظنين في قرابة، وليس إجماعا، لان عثمان البتي وغيره يجيز شهادته له، وردوا شهادة العبد وهو مسلم.
وكل هذا خلاف ما في رسالة عمر، ومن الباطل المحال أن تكون حجة علينا في القياس، ولا تكون حجة عليهم فيما خالفوها فيه، ويكفي في هذا إقرارهم بأنها حق وحجة، ثم خلافهم ما فيها، فقد أقروا بأنهم خالفوا الجن والحجة، ونحن لا نقر بها.
ولله الحمد.
والصحيح عن عمر غير هذا من إنكار القياس، مما سنذكره في هذا الباب
إن شاء الله تعالى.
وأما الرسالة التي تصح عن عمر فهي غير هذه، وهي التي حدثنا بها عبد الله بن ربيع التميمي، نا محمد بن معاوية المرواني، نا أحمد بن شعيب النسائي، نا محمد بن بشار، نا أبو عامر العقدي، نا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي، عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله، فكتب إليه عمر: أن اقض بما في كتاب الله تعالى، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة رسول الله (ص) فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله (ص) فاقض بما قضى الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، ولم يقض به الصالحون، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك، والسلام.
قال أبو محمد: وهذا ترك الحكم بالقياس جملة، واختيار عمر لترك الحكم إذا لم يجد المرء تلك النازلة في كتاب ولا سنة ولا إجماع، فسقطت الرواية عن عمر في الامر بالقياس، لسقوط راويها.
ولوجه ثان ضروري مبين لكذب تلك الرسالة، وأنها موضوعة بلا شك، وهو اللفظ الذي فيها، ثم اعمد لاشبهها بالحق

(7/1004)


وأقربها إلى الله عزوجل، وأحبها إليه تعالى فاقض به.
قال أبو محمد: وهذا باطل موضوع: وما يدري القايس إذا شبهت الوجوه أيها أحب إلى الله عزوجل، أو أيها أقرب إليه ؟ وهذا ما يقطعون به، ولا يقطع به أحد له حظ من علم.
ثم قوله: اعمد إلى أشبهها بالحق، ولا نعلم إلا حقا أو باطلا، فما أشبه الحق فلا يخلو من أن يكون حقا أو باطلا، فالباطل لا يحل الحكم به، وإن كان حقا فلا يجوز أن يقال في الحق إنه أشبه طبقته ونظرائه بالحق، ولكن يقال في الحق إنه حق بلا شك، ولا يجوز أن يقال فيه يشبه الحق، فصح أن
القياس باطل بلا شك، وبطلت تلك الرسالة بلا شك.
وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: افتقطعون في خبر الواحد العدل أنه حق إذا قضيتم به أم تقولون: إنه باطل، أم تقولون: إنه يشبه الحق، وهذا نفس ما دخلتم علينا ؟.
قال أبو محمد: والجواب، وبالله التوفيق: إن خبر الواحد العدل المتصل، وشهادة العدلين حق عند الله عزوجل، مقطوع به، إلا أننا نحن نقول: إن كل خبر صح مسندا بنقل من اتفق على عدالته، فهو حق عند الله، بخلاف الشهادات، وقال غيرنا: إن كل شخص من أشخاص الاخبار وأشخاص الشهادات، إما حق عند الله فهو حق مطلق، وإما باطل عند الله فهو باطل مطلق.
ولا يجوز أن يقال: إنه يشبه الحق، ولا إنه أشبه بالحق من غيره، ولسنا نوقفهم في هذه المراجعة على مذهبهم في أشخاص القياس، وإنما نتكلم على ما رووا عن عمر من لفظ، أشبهها بالحق، فعلى هذه اللفظة تكلمنا، وفسادها بينا لنرى بعون الله كذب الرواية في ذلك عن عمر.
وأما: ولا أحسب كل شئ إلا مثله فحدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد الاشقر، ثنا أحمد بن علي القلانسي، ثنا مسلم، ثنا قتيبة، ثنا حماد - وهو ابن زيد - عن عمر بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس ان رسول الله (ص) قال: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه قال ابن عباس: واحسب كل شئ مثله.

(7/1005)


قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذا، لان كثيرا من أصحاب القياس لا يقولون بهذا، ولا يرون غير الطعام داخلا في حكم الطعام في ذلك، بل يرون ما عدا الطعام جائز بيعه قبل أن يستوفى، وهذا قول المالكيين، فمن المحال أن يحتج امرؤ وأيضا فإن ابن عباس لم يقطع بصحة ظنه بشئ يقر أنه خطأ لا يجوز أن يؤخذ به.
وأيضا فإن ابن عباس لم يقطع بصحة ظنه في ذلك، وانما أخبر أنه يحسب كل شئ مثل الطعام في ذلك، وهذا هو الذي قلنا
عنهم رضي الله عنهم: إنهم لا يقطعون برأيهم فيما رأوه، وإنما هو ظن لا يثبتونه دينا، وليس حكم القياس عند القائلين به من باب الحسبان الذي ذكره ابن عباس في هذا الحديث، فصح يقينا أنه لا مدخل للقياس في هذا الحديث، فاحتجاجهم به باطل، وبالله تعالى التوفيق.
وأما: لو لم تعتبروا ذلك إلا بالاصابع فحدثناه حمام بن أحمد، ثنا محمد بن أبن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، ثنا أبو يعقوب الدبري، ثنا عبد الرزاق، ثنا مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان، أن مروان أرسله إلى ابن عباس يسأله: ماذا جعل في الضرس، قال: فيه خمس من الابل، قال: فردني إلى ابن عباس: فقال: أتجعل مقدم الفم مثل الاضراس، فقال ابن عباس: لو أنك لا تعتبر ذلك إلا بالاصابع عقلها سواء.
قال أبو محمد وهذا لا مدخل للقياس فيه البتة، بل هو إبطال للتعليل جملة، لان مروان علل الدية بأنها عرض من العضو المصاب، فينبغي أن تكون دية العضو الافضل أكثر، وهذه هي علل أصحاب القياس على الحقيقة، فأراه ابن عباس بطلان هذا، وتناقضه في قوله: بأن الاصابع منافعها متفاضلة، وديتها سواء.
وهذا إبطال العلل على الحقيقة وفي إبطال العلل إبطال للقياس، إذ لا قياس إلا على علة جامعة عند حذاق القائلين به، فهذا الحديث مبطل للقياس كما ذكرنا، وراد إلى النص، وألا يتعقب بتعليل، وبالله تعالى التوفيق، وبرهان واضح فيما ذكرنا هو أن القياس بلا خلاف، إنما هو أن يحكم لما نص فيه بالحكم فيما نص، أو فيما اختلف فيه بالحكم فيما اجتمع عليه، وليس في الاصابع إجماع، فيقاس عليه الاضراس، بل الخلاف موجود فيها كما هو في الاضراس، وليس في الاصابع نص دون الاضراس، بل النص فيهما جميعا، فبطل أن تكون الاصابع أصلا يقاس عليه الاضراس.

(7/1006)


فأما الخلاف في كل ذلك فكما حدثنا حمام بن أحمد، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، ثنا الديري، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أخبرني يحيى بن سعيد - هو الانصاري - قال: قال ابن المسيب قضى عمر بن الخطاب فيما أقبل من الفم أعلى الفم وأسفله خمس قلانص، وفي الاضراس بعير بعير.
وقال عبد الرزاق أيضا: عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب جعل في الابهام خمس عشرة، وفي السبابة والوسطى عشرا عشرا، وفي البنصر تسعا، وفي الخنصر سبعا.
فبطل أن يكون ههنا إجماع في الاصابع يقاس عليه أمر الاسنان والاضراس.
وأما النص فإن عبد الله بن ربيع ثنا قال: حدثنا عمر بن عبد الملك، ثنا محمد بن بكر، ثنا أبو داود السجستاني، ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري، ثنا شعبة، حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله (ص) قال: الاصابع سواء والاسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء.
فصح أن النص عند ابن عباس في الاضراس، كما هو في الاصابع، بأصح إسناد وأجوده، وشعبة لم يسمع قتادة حديثا إلا فقه على سماعه، إلا حديثا واحدا في الصلاة، فبطل أن يكون ابن عباس أراد بقوله: ولو لم تعتبروا ذلك، بالاصابع، قياسا البتة، وبالله تعالى التوفيق.
نعم: قد روى التسوية أيضا بين الاضراس والاسنان، وبين الاصابع، عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده مسندا: وفي كتاب عمرو بن حزم أيضا فبطل ما ظنوه بيقين، والحمد لله رب العالمين.
وأما: أرأيت لو ادهن فحدثناه حمام بن أحمد، حدثنا ابن مفرج، حدثنا ابن الاعرابي، حدثنا الديري، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن جعفر بن يرقان

(7/1007)


قال: كان أبو هريرة يتوضأ مما مست النار، فبلغ ذلك ابن عباس، فأرسل إليه: أرأيت لو أخذت دهنة طيبة فدهنت بها لحيتي أكنت متوضئا ؟ قال أبو هريرة: يا ابن أخي، إذا حدثت بالحديث عن النبي (ص) فلا تضرب له الامثال جدلا.
قال أبو محمد: وليس ههنا للقياس مدخل البتة بوجه من الوجوه، وابن عباس قد روى عن النبي (ص) أنه شاهده أكل شيئا مما مست النار فلم يتوضأ، وهذا الحديث عنه مشهور، فلم يترك ابن عباس الوضوء مما مست النار قياسا، لكن اتباعا للنص، وإنما عارض أبا هريرة بأمر الدهن في هذا الحديث ليعلم: أيطرد أبو هريرة قوله، أم لا يرى الوضوء من الدهن فقط، فإنما هو استفهام عن مذهب أبي هريرة في الدهن: أيوجب الوضوء أم لا ؟ ليس في هذا الحديث شئ غير هذا البتة، ولكن في قول أبي هريرة: إذا حدثت بالحديث عن النبي (ص) فلا تضرب له الامثال جدلا، إبطال صحيح للقياس، لان القياس ضرب أمثال في الدين لم يأذن بها الله تعالى.
وقد نهى أبو هريرة عن ذلك، وأمره باتباع الحديث والتسليم له، فهذا الحديث عليهم لا لهم، والصحيح عن ابن عباس إبطال القياس، على ما ذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما: أينقص الرطب إذا يبس فحدثناه أحمد بن محمد الجسور، نا أحمد ابن سعيد بن حزم، نا عبيد الله بن يحيى، نا أبي عن مالك بن أنس، عن عبد الله ابن زيد، أن زيدا أبا عياش أخبره: أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت.
قال له سعد: أيتهما أفضل ؟ فقال: البيضاء، فنهاه عن ذلك، وقال: سمعت رسول الله (ص) يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال (ص): أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا: نعم فنهاه عن ذلك.

(7/1008)


قال أبو محمد: فأول هذا إن هذا خبر لا يصح، لان زيدا أبا عياش مجهول، فارتفع الكلام فيه، وأيضا فلو صح لما كانت لهم فيه حجة، لان جميع أصحاب القياس، أولهم عن آخرهم، لا يرون هذا قياسا ولا يمنعون من البيضاء بالسلت فمحال أن يحتج قوم بما لا يقولون به.
وأيضا فإن هذا ليس قياسا عند القائلين به، لانه تنظير للافضل بما ينقص إذا يبس، وهذا ليس شبها البتة، عند من يقول بالقياس، فسقط تعلقهم بهذا الاثر، والحمد لله رب العالمين.
وأما: أخاف أن يضارع فحدثناه عبد الله بن يوسف بن نامي، نا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم، حدثني أبو الطاهر، أخبرني ابن وهب، عن عمرو بن الحارث أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله: أنه أرسل غلامه بصاع قمح، فقال: بعه ثم اشتر به شعيرا، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرا أخبره بذلك.
فقال له معمر: لم فعلت ذلك ؟ انطلق فرده، ولا تأخذ إلا مثلا بمثل، فإني كنت أسمع رسول الله (ص) يقول: الطعام بالطعام مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير، فقيل: إنه ليس بمثله ؟ قال: إني أخاف أن يضارع.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه أصلا، وإنما هو تورع من معمر بن عبد الله، لا إيجاب، ولا أنه قطع بذلك.
وبيان ذلك: إخبار معمر بأنه يخاف أن يضارع، ولم يقطع بأنه يضارع، وأيضا فإن الحنفيين والشافعيين لا يقولون بهذا، وهم يجيزون القمح بالشعير متفاضلا، فلا وجه لاحتجاج المرء بما لا يراه صحيحا، ولا ممن يخطئ ويصيب ممن لا يلزم اتباعه.
ولعل من جهل يظن أن احتجاجنا بمن دون النبي (ص) هو أننا نرى من دونه (ص) حجة لازمة، فليعلم من ظن ذلك أن ظنه كذب، وأننا لا نورد قولا عمن دون النبي (ص) إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما: إما
خوف جاهل يدعي علينا خلاف الاجماع، فنريه كذبه، وفساد ظنونه، وأنه

(7/1009)


لا إجماع فيما ظن فيه إجماعا، وإما لنرى من يحتج بمن دون النبي (ص) أن الذي يحتج به مخالف له، فنوقفه على تناقضا في أنه يخالف من يراه حجة.
حاشا موضعا واحدا، وهو حكم الحكمين بجزاء الصيد، فإننا نورده احتجاجا به، لقول الله تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * فألزمنا الله عزوجل قبول العدلين ههنا، فنحن نورد قول العدلين من السلف رضي الله عنهم، احتجاجا بقولهما، لان الله تعالى أوجب ذلك.
وأما حديث: أيما أولى ؟ فحدثناها بن نامي، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب ابن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الاعلى، أنا داود، عن أبي نضر قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري، إذ جاءه رجل فسأله عن الصرف فقال: مزاد فهو ربا.
فأنكرت ذلك لقولهما.
فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله (ص): جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر جنيب، وكان تمر النبي (ص) غير هذا اللون، فقال النبي (ص): أنى لك هذا ؟ قال: انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع، فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا، فقال رسول الله (ص): ويلك أرأيت إذا أردت ذلك فبع تمرا بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أما الفضة بالفضة ؟.
قال أبو محمد: وهذا ليس قياسا، لان النهي عن التفاضل في الفضة بالفضة عند أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص)، كما روينا وبالسند المذكور إلى مسلم: حدثنا محمد بن رمح: ثنا الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر قال: ذهب ابن عمر وأنا معه حتى دخل على أبي سعيد الخدري، فذكر سؤال ابن عمر لابي سعيد عن
الصرف، فقال - أبو سعيد - وأشار بأصبعه إلى عينيه وأذنيه - فقال: أبصرت عيناي، وسمعت أذناي، رسول الله (ص) يقول: لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تفشوا بعضه على بعض وذكر الحديث.

(7/1010)


وبه إلى مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا وكيع، نا إسماعيل بن مسلم العبدي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح - مثلا بمثل فمن زاد واستزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء.
قال أبو محمد: فمن المحال البين أن يكون نهى النبي (ص) عن الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل عند أبي سعيد سماعا من لفظ النبي (ص)، ويعول في تحريمه على القياس.
فصح أن هذا الاثر لا مدخل للقياس فيه أصلا، لان القياس عند القائلين به، إنما هو: حكم في شئ ولا نص فيه، على نحو الحكم في نظيره، مما جاء فيه النص، والنص عند أبي سعيد مسموع في الفضة بالفضة، كما هو في التمر بالتمر، فبطل ضرورة إقرار أصحاب القياس أن يكون أحد الامرين عنده قياسا على الآخر.
فإن قيل: فما وجه قول أبي سعيد إذن هو القول، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا لا نشك أن أبا نضرة مسخ لفظ أبي سعيد، وحذف منه ما لا يقوم المعنى إلا به.
كما فعل في صدر هذا الحديث نفسه، من قوله: سألت ابن عباس وابن عمر عن الصرف فلم يريا به بأسا، وهذا كلام مطموس، لان الصرف لا بأس به عند كل أحد من الامة، إذا كان على ما جاء به النص، من التماثل والتعاقد في الفضة بالفضة وفي الذهب بالذهب، ومن التفاضل والتناقد في الذهب بالفضة، فطمس أبو نضرة كل هذا.
وكذلك فعل بلا شك في كلام أبي سعيد، ويجوز
غير هذا أصلا، إذ من الباطل أن يروي من هو أوثق من أبي نضرة، عن أبي سعيد أنه سمع النبي (ص) يوجب أن التفاضل في الفضة بالفضة ربا، ثم لا يعول أبو سعيد في تحريم ذلك إلا على تحريم التمر بالتمر متفاضلا، هذا ما لا يدخل في عقل أحد.
وجميع أصحاب القياس لا يجوزون هذا القياس، ولا يدخلون الصفر بالصفر، قياسا على الربا في التمر بالتمر، فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة والحمد لله رب العالمين، وبالله تعالى نعتصم.
وأما: سكر هذى فحدثناه حمام بن أحمد، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، ثنا الدبري، نا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، أن عمر بن

(7/1011)


الخطاب شاور الناس في حد الخمر، وقال: إن الناس قد شربوها واجترؤوا عليها، فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى، وهذى افترى، فاجعله حد الفرية فجعله عمر حد الفرية ثمانين.
وحدثناه أيضا أحمد بن محمد بن الجسور، ثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى، ثنا أبي، ثنا مالك، عن ثور بن زيد الديلي: أن عمر ابن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن نجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، أو كما قال، فجلد عمر في الخمر ثمانين.
حدثناه محمد بن سعيد بن نبات، ثنا عبد الله بن نصر، نا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح، نا موسى بن معاوية، نا وكيع، نا ابن أبي خالد، عن عامر الشعبي قال: استشارهم عمر في الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: هذا رجل افترى على القرآن رأى أن تجلده ثمانين.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، نا عبد الله بن محمد بن عثمان الاسدي، ثنا أحمد
ابن خالد، نا عبد الله بن عبد العزيز، نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثا: إن ناسا من أصحاب رسول الله (ص) شربوا الخمر بالشام، وإن يزيد بن أبى سفيان كتب فيهم إلى عمر، فذكر الحديث، وفيه: إنهم احتجوا على عمر بقول الله تعالى: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) *.
فشاور فيهم الناس، فقال لعلي: ماذا ترى ؟ فقال: أرى قد شرعوا في دين الله تعالى ما لم يأذن به الله تعالى، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، فإنهم قد أحلوا ما حرم الله، وإن

(7/1012)


زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين، فقد افتروا على الله الكذب، وقد أخبر الله تعالى بحد ما يفتري به بعضنا على بعض.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، نا محمد بن عبد الله ابن عبد الرحيم البرقي، ثنا سعيد بن عفير، ثنا يحيى بن فليح بن سليمان المدني، عن ثور ابن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله (ص) بالايدي والنعال والعصي، حتى توفي رسول الله (ص) فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله (ص) فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدا، فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد رسول الله (ص)، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر فجلدهم كذلك أربعين، حتى أتي برجل من المهاجرين الاولين قد شرب، فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدني، بيني وبينك كتاب الله ؟ فقال عمر: وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك ؟ قال له: إن الله تعالى يقول في كتابه: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) *، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله (ص) بدرا وأحدا والخندق والمشاهد.
فقال عمر:
ألا تردون عليه ما يقول ؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين، وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن يحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين، لان الله تعالى يقول: * (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) *، ثم قرأ الاخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) * فإن الله نهاه أن يشرب الخمر.
فقال عمر: صدقت فما ترون ؟ فقال علي: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر فجلد ثمانين.

(7/1013)


قال محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، وحدثنا سعيد بن أبي مريم، أنا يحيى ابن فليح بن سليمان، حدثني ثور بن زيد الديلمي، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر هذا الحديث، وفي آخر: ثم سأل من عنده عن الحد فيها ؟ فقال علي بن أبي طالب: إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، فاجلده ثمانين فجلده عمر ثمانين.
حدثنا حمام، نا عباس بن أصبغ، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا يوسف بن سليمان، نا حاتم بن إسماعيل، نا أسامة ابن زيد، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال: رأيت رسول الله (ص)، يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، فأمر من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم، وحث رسول الله (ص) التراب عليه، ثم إن أبا بكر أتي بسكران فتوخى الذي كان يومئذ من ضربهم: فضرب أربعين، ثم ضرب عمر أربعين.
قال ابن شهاب: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن وبرة الكلبي قال: بعثني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، متكئون معه في المسجد، فقلت له: إن خالد
ابن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الناس انتهكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة، فما ترى ؟ فقال عمر: هم هؤلاء عندك، قال: فقال علي: أراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فأجمعوا على ذلك.
فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا، فضرب خالد ثمانين، وضرب عمر ثمانين.
قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب ضربه ثمانين، وإذا أتي بالرجل الذي كان منه زلة الضعيف ضربه أربعين، وفعل ذلك عثمان أربعين وثمانين.
قال أبو محمد: فهذا كل ما ورد في ذلك قد تقصيناه وكله ساقط لا حجة فيه مضطرب ينقض بعضه بعضا.
أما الآثار التي صدرنا بها من طريق الثقات: أيوب ومالك والشعبي ومحارب ابن دثار فمرسلات كلها، لا يدري عمن هي في أصلها، فسقط الاحتجاج بها.
وأما المتصلان فمن طريق يحيى بن فليح بن سليمان، وهو مجهول البتة، والحجة

(7/1014)


لا تقوم بمجهول، وأبو فليج متكلم فيه مضعف، والثاني عن أسامة بن زيد وهو ضعيف بالجملة، فسقط كل ما في هذا الباب، مع أنه لو صح هذان الاثران المتصلان لكان حجة عليهم قاطعة، لان في رواية يحيى بن فليح أن أبا بكر فرض الحد في الخمر أربعين، فلو جاز لعمر أن يزيد على ما فرض أبو بكر، لمن بعد عمر أن يزيد ويحيل الحد الذي فرض عمر، أو يسقط منه، ولا فرق، فإن لم يكن فرض أبي بكر بحضرة جميع الصحابة حجة، وعمر وغيره بالحضرة، وفي أقل من هذا يزعمون أنه إجماع، ففرض عمر، وقد مات كثير من الصحابة قبل ذلك الفرض، أحرى ألا يكون حجة، وهذا على أقوالهم إجازة لمخالفة.
وفي هذا ما فيه، وأن من يرى ما في هذا الخبر من فعل أبي بكر بحضرة الصحابة إجماعا، ثم يرى رسالة مكذوبة من عمر إلى الاشعري إجماع، لمنحرف عن الحق.
وأما الذي من طريق أسامة بن زيد، ففيه بيان جلي، على أن عمر لم يجعل ذلك فرضا واجبا، وأنه إنما كان منه تعزيرا، وذلك أنه ذكر فيه إذا أتي بالمنهمك في الشراب جلده ثمانين جلدة، وإذا أتي بالذي كانت منفي ذلك زلة الضعيف جلده أربعين، وأن عثمان أيضا جلد أربعين وثمانين فباليقين يعلم كل ذي عقل أنه لو كانت الثمانون فرضا لما جاز أن يحال في بعض الاوقات، فسقط احتجاجهم بالجملة، وعاد عليهم مسقطا لقولهم، فكيف ولا يصح من ذلك كله شئ.
وقد نزه الله عزوجل عليا رضي الله عنه عن هذا الكلام الساقط الغث الذي ليس وراءه مرمى في السقوط والهجنة، لوجوه: أحدها أنه لا يحل لمسلم أن يظن أن عمر وعليا يضعان شريعة في الاسلام لم يأت بها النبي (ص)، ولكانا في ذلك كالذين أنكرا عليهم في الحديث نفسه أنهم شرعوا ما لم يأذن به الله تعالى، فمن المحال أن ينكر على علي من شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، ويشرع هو في الحين نفسه شريعة لم يأذن بها الله تعالى، وهذا ما لا يظنه بعلي ذو عقل ودين، ولا فرق بين وضع حد في الخمر، وبين إسقاط حد الزنى أو الزيادة فيه، أو إسقاط ركعة من الظهر، أو زيادة فيها، أو فرض صلاة غير الصلوات

(7/1015)


المعهودة، أو وضع حد مفترض في أكل الربا، وكل هذا كفر ممن أجازه.
ثم المشهور عن علي: رضي الله عنه بالسند الصحيح، أنه جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، في أيام عثمان رضي الله عنه، فبطل يقينا أن يكون يرى الحد ثمانين، ويجلد هو أربعين فقط، وهذا الحديث يكذب كل ما عن علي بخلافه.
وأيضا فليس كل من يشرب الخمر يسكر، وشارب الجرعة لا يسكر، والحد عليه، ولا كل من يسكر يهذي، ففي الناس كثير يغلب عليهم السكون حينئذ، نعم وذكر الله تعالى الآخرة والبكاء والدعاء والتأدب الزائد، ولا كل من
يهذي يفتري، فالمبرسم يهذي ولا يفتري، ولا كل من يفتري يلزمه الحد، فقد يفتري المجنون والنائم، فلا يحدان، فوضح أن هذا الكلام المنسوب إلى علي، وقد نزهه الله تعالى عنه، من الكذب في منزله ينزه عنها كل ذي عقل فكيف مثله رحمة الله عليه.
وأيضا، فإن كان يجلد لفرية لم يفترها بعد، فهذا ظلم بإجماع الامة، ولا خلاف بين اثنين أنه لا يحل لاحد أن يؤاخذ مسلما أو ذميا بما لم يفعل، ولا أن يقدم إليه عقوبة معجلة لذنب لم يفعله، عسى أن يفعله، أو عسى ألا يفعله، وإنما عندنا هذا من فعل ظلمة الملوك ذوي الاعياث، المشتهرين بأتباعهم من السخفاء المتطايبين بمثل هذا، وشبه من السخف، ومثل هذا الجنون لا يضيفه إلى عمر وعلي إلا جاهل بهما وبمحلهما من الفضل والعلم رضي الله عنهما.
وعهدنا بهؤلاء القوم يقولون ادرؤوا الحدود بالشبهات، فصاروا ههنا يقيمون الحدود وينسبون إلى عمر، وعلى إقامتها بأضعف الشبهات، لان لا شبهة أحمق من

(7/1016)


شبهة من يقيم حد القذف على شارب الخمر.
خوف أن يفتري، وهو لم يفتر بعد.
وأيضا: فإن كان حد الشارب إنما هو للفرية فأين حد الخمر ؟ وإن كان للخمر فأين حد الفرية ؟ ولا يحل سقوط حد لاقامة آخر.
وأيضا، فإنه إذا سكر هذى، وإذا هذى كفر، فينبغي لهم أن يضربوا عنقه، وإذا شرب سكر.
وإذا سكر زنى، فينبغي لهم أن يرجموه ويجلدوه، وإذا شرب سكر، وإذا سكر سرق فينبغي لهم أن يقطعوا يده، وإذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى خرج فأفسد أموال الناس، وأقر في ماله لغيره، فينبغي لهم أن يلزموه كل هذه الاحكام، فإن لم يفعلوا فقد أبطلوا حدهم إياه ثمانين، لانه إذا هذى افترى، وهذا كله جنون، نبرأ إلى الله تعالى منه، ونقطع
يقينا بلا شك أنه كذب موضوع مفترى على علي رضي الله عنه: لم يقله قط.
وكذلك الرواية التي ذكرنا أيضا عن عبد الرحمن بن عوف فهالكة جدا، ومبعد عن مثله أن يقول: افترى على القرآن اجلده ثمانين.
وهذا محال ظاهرا وكيف يمكن أن يفتري أحد على الله تعالى، أو على القرآن فرية توجب ثمانين جلدة والفرية الموجبة لذلك إنما هي في القذف بالزنى فقط، وهذا ما لا سبيل إلى إضافته إلى القرآن، لانه ليس إنسانا.
فإن صحح أهل القياس هذه القضية، فليوجبوا ثمانين جلدة حدا واجبا لا يتعد على كل من افترى على أحد بكذبة، مثل أن يرميه بكفر، أو بتهمة أو بسرقة، أو كذب على القرآن، أو على الله تعالى، وهذا ما لا يقولونه، فقد أقروا بضعف هذا القياس الذي جعلوه أصلهم وبنوا عليه، أو أنهم تركوا القياس في سائر ما ذكرنا.
ولا بد لهم من أحد الوجهين ضرورة، وأول من كان يلزمهم هذا فهم، لانهم مفترون فيما يدعونه من القياس، وبالله تعالى التوفيق.
والصحيح في هذا الباب: هو ما حدثناه عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح،

(7/1017)


ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس: أن النبي (ص) أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين وفعله أبو بكر.
فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر.
قال أبو محمد: فصح أنه تعزير لا حد، نعني الاربعين الزائدة.
وقد حدثنا حمام، ثنا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي، ثنا الدبري، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، ثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبيد بن عمير يقول: كان الذي
يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه، فكان ذلك على عهد النبي (ص) وأبي بكر وبعض إمارة عمر، حتى خشي أن يغتال الرجال فجعله أربعين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين، ثم قال: هذا أدنى الحدود.
حدثنا أحمد بن عمر العذري، نا عبد الله بن حسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، ثنا ابن الجهم، نا موسى بن إسحاق، نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد، عن حجاج، عن الاسود بن هلال، عن عبد الله - هو ابن مسعود - أنه أتي برجل قد شرب خمرا في رمضان، فضربه ثمانين، وعزره عشرين.
وقد فعل ذلك أيضا علي بالنجاشي.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، أنا خالد بن الحارث، ثنا سفيان الثوري، ثنا أبو حصين قال: سمعت عمير بن سعد النخعي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كنت لاقيم حدا على أحد فيموت، فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله (ص) لم يسنه هكذا رويناه من طريق الهمداني وغيره عمير بن سعد والصواب سعيد كما رويناه من طريق يزيد بن زريع.

(7/1018)


حدثنا عبد الله بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا إسحاق بن راهويه، ثنا يحيى بن حماد، ثنا عبد العزيز ابن المختار، ثنا عبد الله بن فيروز الديباج مولى ابن عامر، نا حصين بن المنذر أبو ساسان قال: شهدت عثمان أتي بالوليد، صلى الصبح ركعتين فقال: أزيدكم ؟ فشهد عليه رجلان: أحدهما حمران: أنه شرب الخمر، والثاني أنه قاءها.
فقال
عثمان: يا علي فاجلده.
فقال علي للحسن: قم فاجلده، فقال الحسن ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه علي، فقال علي: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده، وعلي يعد، حتى بلغ أربعين، فقال أمسك، جلد النبي (ص) أربعين وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكل سنة.
قال أبو محمد: فهذه الاحاديث مبينة ما قلنا، من أن زيادة عمر على الاربعين التي هي حد الخمر، إنما هي تعزير، فمرة زاد عشرين فقط، ومرة زاد أربعين ومرة زاد علي وابن مسعود ستين، وأخبر علي أن النبي (ص) لم يسن ذلك، يعني الزيادة على الاربعين فقط، ومن ظن غير هذا فإنه يكذب النقل الصحيح، ويصدق الواهي الضعيف الساقط.
وهذا علي يجلد في أيام عثمان، بحضرة الحسن وعبد الله بن جعفر وسائر من هنالك من الصحابة وغيرهم، أربعين فقط.
وقال عمر وعبد الرحمن: بأخف الحدود، فصح يقينا أن تلك الزيادة على الاربعين لم يوجبوها فرضا ولا حدا البتة، ونعيذهم بالله تعالى من ذلك.
ولو أخبار مرسلة وردت بأن النبي (ص) جلد في الخمر ثمانين، لكفر من يقول: إن حد الخمر ثمانون، ولكن من تعلق بخبر عن النبي (ص) فقد اجتهد، فإن وفق لخبر صحيح فله أجران، وإن يسر لخبر غير صحيح - وهو لا يدري وهيه - فهو معذور، وله أجر واحد وهو مخطئ، وإنما الشأن والبلية في اثنين هالكين: وهو من قامت عليه حجة صحيحة فتمادى، فهو ضال فاسق، أو مقلد بغير علم متجاسر في دين الله عزوجل، فهو أيضا ضال فاسق، ونعوذ بالله من الخذلان.
وأما القياس في الجد: فحدثنا حمام بن أحمد القاضي بالغرب، ثنا ابن مفرج

(7/1019)


القاضي برية، نا عبد الاعلى بن محمد بن الحسن البوسي قاضي صنعاء، نا أبو يعقوب الدبري، نا عبد الرزاق، نا سفيان الثوري، عن عيسى - هو ابن أبي عيسى الخياط - عن الشعبي قال: كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا فقال: إنه كان من أبي بكر أن الجد أولى من الاخ، وذكر الحديث، وفيه، فسأل عنه زيد ابن ثابت فضرب له مثلا: شجرة خرجت لها أغصان، قال: فذكر شيئا لا أحفظه، فجعل له الثلث.
قال الثوري: وبلغني أنه قال: يا أمير المؤمنين، شجرة نبتت فانشعب منها غصن، فانشعب من الغصن غصنان، فما جعل الغصن الاول أولى من الغصن الثاني، وقد خرج الغصنان من الغصن الاول ؟ قال: ثم سأل عليا، فضرب له مثلا، واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة، فأعطاه السدس، وبلغني عنه أن عليا حين سأله عمر جعله سيلا.
قال: فانشعب منه شعبة، ثم انشعبت شعبتان، فقال: أرأيت لو أن ماء هذه الشعبة الوسطى يبس ؟ أما كان يرجع إلى الشعبتين جميعا ؟ قال الشعبي: فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة وهو ثالثهم، فإن زادوا على ذلك أعطاه الثلث، وكان علي يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم، ويعطيه السدس، فإن زادوا على ستة أعطاه السدس، وصار ما بقي بينهم.
وحدثناه أيضا أحمد بن عمر العذري، عن عبد الرحمن بن الحسن العباسي، عن أحمد بن محمد الكرجي، أنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاف النصيبي، ثنا إسماعيل ابن إسحاق القاضي، نا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث بين الجد والاخوة، قال زيد: وكان رأيي يومئذ أن الاخوة أحق بميراث أخيهم من الجد وعمر بن الخطاب يرى يومئذ، الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته.
فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة، فضرب له في ذلك مثلا فقلت:
لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان، ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الاصل ويغدوهما، ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد

(7/1020)


الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الاصل ؟.
قال زيد: فأنا أعبر له وأضرب له هذه الامثال، وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الاخوة ويقول: والله لولا إني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله.
ولكن لعلي لا أخيب سهم أحد، ولعلهم أن يكونوا كلهم ذي حق، وضرب علي وابن عباس يومئذ لعمر مثلا معناه: لو أن سيلا سال فخلج من خليج، ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان.
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين: أحدهما: أن كلا من هذين الاسنادين ضعيف، في الاول عيسى بن أبي عيسى الخياط وهو ضعيف، ومع ذلك منقطع لان الشعبي لم يدرك عمر.
والثاني: فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف البتة، فهذا وجه.
والثاني أنهما صحا لما كان فيهما للقياس مدخل بوجه من الوجوه، ولا بمعنى من المعاني، لان السيل لا يستحق ميراثا أصلا، لا سدسا ولا ثلثا وكذلك الغصن، ولا فرق، ومن أنوك النوك أن يظن أحد بمثل علي وزيد رضي الله عنهما.
إن أحدهما قاسم الجد مع الاخوة إلى خمسة وهو سادسهم، ثم له السدس وإن كثروا، وإن الثاني قاسم بالجد الاخوة إلى اثنين هو ثالثهما.
لا ينقضه من الثلث ما بقي أو السدس من رأس المال - قياسا على غصنين تفرعا من غصن شجرة، وأن إدخال أصحاب القياس لهذا في القياس في القحة الظاهرة والاستخفاف البادي.
فإن قال قائل: فما وجه هذين الصاحبين لهذين المثلين في هذه المسألة ؟ فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن هذا باطل، بلا شك ونحن نبت أنهم رضي الله عنهم ما قالوا قط شيئا من هذا.
ولقد كانوا أرجح عقولا، وأثقب نظرا، وأضبط
لكلامهم في الدين، من أن يقولوا شيئا من هذا الاختلاط، ولكن عيسى الخياط وعبد الرحمن بن أبي الزناد غير موثوق بهما، ولعل الشعبي سمعه ممن لا خير فيه، كالحارث الاعور وأمثاله.
ثم لو قال قائل: إن وجه ذلك لو صح بين ظاهر لا خفاء به، وهو أن زيدا وعليا رضي الله عنهما يذهبان من رأيهما، الذي لم يوجباه حتما على أحد، إلى

(7/1021)


أن الميراث يستحق بالدنو في القرابة، فإذا كان ذلك والاخوة عندهما أقرب من الجد، فإذ هم أقرب من الجد، فلا يجوز أن يمنعوا من الميراث معه، وللجد فرض بإجماع، فلم يجز أن يمنع أيضا من أجلهم، وخالفهما غيرهما في قولهما إن الاخ أقرب من الجد.
فههنا ضربا هذين المثلين، ليريا أن قربى الاخ من الاخ المتولدين من الاب، كقربى الغصن والغصن المتفرعين من غصن واحد ومن شجرة، أو كقربى جدول من جدول تفرعا جميعا من خليج من واد، لكان قولا، وهذا تشبيه حسي عياني ضروري لا شك فيه، إلا أنه ليس من قبل التشبيه بقرب الولادة تستحق الميراث فالعم وابن الاخ أقرب من الجد، ولا خلاف بيننا وبين خصومنا أنهما لا يرثان معه شيئا، وابن البنت أقرب، ابن العم، الذي يلتقي مع المرء إلى الجد العاشر وأكثر، ولا يرث معه شيئا بإجماع الامة.
ونحن لم ننكر الاشتباه، وإنما أنكرنا أن نوجب أحكاما لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله (ص) من أجل الاشتباه في الصفات، فبطل أن يكون لهذا الخبر مدخل في القياس، أو تعلق به بوجه من الوجوه، ولكن تمويه أصحاب القياس في قياسهم وفيما يحتجون به لقياسهم، متقارب كله في الضعف والسقوط والتمويه على الضعفاء المغترين بهم.
نسأل الله أن يفئ بهم إلى الهدى والتوفيق بمنه.
وأما قول علي، إذ بلغه أن معاوية قال إذ قتل عمار فذكر له قول رسول الله (ص): تقتل عمارا الفئة الباغية فقال معاوية: إنما قتله من أخرجه فبلغ ذلك عليا فقال - فرسول الله (ص) إذن هو قتل حمزة فلا أعجب من تجليح من أدخل هذا القياس وهل هذا إلا الائتساء بالنبي (ص) في قتل الصالحين بين يديه، ناصرين له ؟ ومن استجاز أن يقول، إن هذا قياس فليقل: إن قول لا إله إلا الله قياس، لانه إذا قيل لنا: لم تقولون ذلك ؟ قلنا: لان رسول الله (ص) قالها.

(7/1022)


وأن الاشتغال بمثل هذا لعناء لولا الرجاء في الاجر الجزيل في بيان تمويه هؤلاء القوم الذين اختدعوا الاغمار بمثل هذه الدعاوى، وإنما هذا من علي رضي الله عنه ليري معاوية تناقض قوله إنه إنما قتل عمارا من أخرجه.
وهذا مثل قول المالكي والحنفي: إن نكاح من اعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها، نكاح فاسد، فيقول لهم أصحابنا والشافعيون: فنكاح رسول الله (ص) إذن صفية فاسد فإن أقدموا على ذلك كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا، وكقول الحنفي: إن الحكم باليمين مع الشاهد مخالف للقرآن، فنقول لهم، نحن والشافعيون والمالكيون، فحكم النبي (ص) بذلك إذن مخالف للقرآن فإن قالوا بذلك كفروا وإن كعوا تناقضوا.
وكقول المالكيين: إن صلاة الصحيح المؤتم بإمام مريض قاعدة فاسدة، فنقول لهم، نحن والشافعيون والحنفيون: فصلاة الناس خلف رسول الله (ص) في مرضه الذي مات فيه كذلك وأمره (ص) الناس إذا صلى إمامهم قاعدا أن يصلوا قعودا فاسد كل ذلك باطل فإن قالوه كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا، وإن من ظن أن هذا قياس لمخذول أعمى القلب.
ومن هذا الباب هو قول علي: فرسول الله (ص) إذن هو قتل حمزة إذ أخرجه، وأي قياس ههنا لو عقل هؤلاء القوم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكذلك قصة علي رضي الله عنه يوم القضية بينه وبين أهل الشام إذ أراد أن يكتب علي أمير المؤمنين فأنكر ذلك عمرو، ومن حضر من أهل الشام وقالوا: اكتب اسمك واسم أبيك، ففعل.
فقالت الخوارج لما محا أمير المؤمنين: قد خلعت نفسك، فاحتج عليهم بأن رسول الله (ص) فعل ذلك، إذ أنكر سهيل بن عمرو حين القضية يوم الحديبية أن يكتب في الكتاب محمد رسول الله فمحا رسول الله (ص) وكتب محمد بن عبد الله فقال علي: أترون رسول الله (ص) محا نفسه من النبوة إذ محا رسول الله من الصحيفة ؟.
قال أبو محمد: وهذا كالذي في قصة عمار سواء بسواء، ولا مدخل للقياس

(7/1023)


ههنا، وإنما هو إئتساء بالنبي (ص)، وكلا الامرين محو من رق، ليس أحدهما مقيسا على الآخر، وهكذا الامر حديثا وقديما وإلى يوم القيامة، وليس إذا كتبت نار ثم محى امحت النار من الدنيا.
وهذا من جنون الخوارج، وضعف عقولهم، إذ كانوا أعرابا جهالا، بل قولهم في هذا هو القياس المحقق، لانهم قاسوا محو الخلافة عن علي، على محو اسمه من الصحيفة وهذا قياس يشبه عقولهم، وقد علم كل ذي مسكة عقل أنه إذا محيت سورة من لوح فإنها لا تمحى بذلك من الصدور.
ومن ظن أن بين القياس وبين قول علي نسبة، فإنما هو مكابر للعيان، لان القياس إنما هو، تحريم أو إيجاب أو إباحة في شئ غير منصوص تشبيها له بشئ منصوص، وليس في هذه القضية تحريم ولا إيجاب ولا تحليل وبالله تعالى التوفيق.
وأما قول ابن عباس للخوارج، إذ أنكروا تحكيم الحكمين يوم صفين:
إن الله تعالى أمر بالتحكيم بين الزوجين، وفي أرنب قيمتها ربع درهم، فإن هذا الخبر حدثناه أحمد بن محمد الجسور، ثنا وهب بن مسرة، ثنا محمد بن وضاح، ثنا عبد السلام بن سعيد التنوخي، ثنا سحنون، ثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو ابن الحارث، عن بكير بن الاشج، عمن حدثه، عن ابن عباس قال: أرسلني علي إلى الحرورية لاكلمهم، فلما قالوا: لا حكم إلا لله، قلت: أجل صدقتم، لا حكم إلا لله، وإن الله قد حكم في رجل وامرأته، وحكم في قتل الصيد، فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل، أو الحكم في الامة يرجع بها ويحقن دماؤها ولم شعثها ؟.
قال أبو محمد: وهذا لا يصح البتة،: لانه عمن لم يسم ولا يدري من هو ؟ ثم هبك أنه أصح من كل صحيح، وأننا شهدنا ابن عباس يقول ذلك، فإنه ليس من القياس من ورد ولا صدر بل هو نص جلي.
ومعاذ الله أن يظن ذو عقل بأن عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة حكموا في النظر للمسلمين قياسا على التحكيم في الارنب، وبين الزوجين فما يظن هذا إلا مجنون البتة وهل تحكيم الحكمين إلا نص قول الله عزوجل: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * فنص تعالى

(7/1024)


على أن كل تنازع في شئ من الدين، فإن الواجب فيه تحكيم كتاب الله عزوجل، وكلام رسوله (ص)، والتنازع بين علي ومعاوية لا يجهله من له أقل معرفة في بالاخبار، ففرض عليهما تحكيم القرآن كما فعلا، فأي قياس ههنا لو أنصف هؤلاء القوم عقولهم ؟.
فإن كان هذا عندهم قياسا فقد ضيعوه وتركوه، ويلزمهم إن تحاكم إليهم اثنان في بيع أو دين أو غير ذلك، فليبعثوا من أهل كل واحد منهما حكما، وإلا فقد تركوا القياس بزعمهم.
فإن قالوا: فهلا كفاهم حكم واحد حتى احتجوا إلى اثنين، قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: إن أهل العراق لم يرضوا حكما من أهل الشام، ولا رضي أهل الشام حكما من أهل العراق، فلذلك اضطروا إلى حكم من كلتا الطائفتين.
وأما الرواية عن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد فكما حدثنا حمام، نا ابن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، نا الدبري، نا عبد الرزاق، نا ابن جريج، أخبرني عمرو قال: قال أخبرني حيي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يعلى يقول: وذكر قصة الذي قتله امرأة أبيه وخليلها، أن عمر بن الخطاب كتب إلي: اقتلهما فلو اشترك في دمه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم، قال ابن جريج: فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا: إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي: يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضوا، وأخذ هذا عضوا، كنت قاطعهم ؟ قال: نعم، قال: فذلك حين ليس أحدهما أصلا للآخر، لان النص قد ورد بقتل من قتل، وكما ورد بقطع من سرق ليس أحد النصين في القرآن بأقوى من الآخر، قال تعالى: * (ولكم في القصاص حياة) * وقال تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * وقال تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * ولم يخص تعالى من كلا الامرين منفرد من مشارك، فلو صح لكان علي إنما أنكر على عمر اختلاف حكمه فقط، وتركه أحد النصين وأخذه بالآخر.
وهذا هو الذي ننكره نحن سواء بسواء، فخرج هذا الخبر، لو صح، من أن يكون له في القياس مدخل أو أثر أو معنى، والحمد لله رب العالمين.

(7/1025)


ثم قد روينا عن علي: أنه كان لا يرى قتل اثنين بواحد، فلو قاله لكان قد تركه ورجع عنه، ورآه باطلا من الحكم.
فهذا كل ما ذكروه مما روي عن الصحابة، قد بيناه بأوضح بيان، بحول الله
تعالى وقوته، أنه ليس لهم في شئ منه متعلق، وهو أنه إما شئ بين الكذب لم يصح، وإما شئ لا مدخل للقياس فيه البتة.
فإذا الامر كما ترون، ولم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس، وأيقنا أنهم لم يعرفوا قط العلل التي لا يصح القياس إلا عليها عند القائل به، فقد صح الاجماع منهم رضي الله عنهم على أنهم لم يعرفوا ما القياس، وبأنه بدعة حدثت في القرن الثاني، ثم فشا وظهر في القرن الثالث، كما ابتدأ التقليد والتعليل للقياس في القرن الرابع، وفشا وظهر في القرن الخامس.
فليتق الله امرؤ على نفسه وليتداركها بالتوبة والنزوع عمن هذه صفته، فحجة الله تعالى قد قامت باتباع القرآن والسنة، وترك ما عدا ذلك من القياس والرأي والتقليد.
ولقد كان من بعض الصحابة نزعات إلى القياس، أبطلها رسول الله (ص) نذكرها إن شاء الله تعالى في الدلائل على إبطال القياس إذا استوعبنا بحول الله تعالى وقوته كل ما اعترضوا به.
وبقيت أشياء من طريق النظر موهوا بها، ونوردها إن شاء الله تعالى، ونبين بعونه عزوجل بطلان تعلقهم، وأنه لا حجة لهم في شئ منها، كما بينا، بتأييد الله تبارك وتعالى، ما شغبوا به من القرآن، وما موهوا به من كلام النبي (ص)، وما لبسوا به من الاجماع وما أوهموا به من آثار الصحابة، وبالله تعالى التوفيق.
فمن ذلك: أنهم قالوا: إن القياس هو من باب الاستشهاد على الغائب بالحاضر، فإن لم يستشهد بالحاضر على الغائب فلعل فيما غاب عنا نارا باردة.

(7/1026)


قال أبو محمد: هذه شغبية فاسدة، فأول تمويههم ذكرهم الغائب والحاضر في
باب الشرائع، وقد علم كل مسلم أنه ليس في شئ من الديانة شئ غائب عن المسلمين، وإنما بعث رسول الله (ص) ليبين للناس دينهم اللازم لهم، قال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فلا يخلو رسول الله (ص) من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون لم يبلغ ولا بين للناس، فهذا كفر ممن قاله بإجماع الامة بلا خلاف.
وإما أن يكون (ص) بلغ كما أمر به، وبين للناس جميعهم دينهم وهذا هو الذي لا شك فيه، فأين الغائب من الدين ههنا لو عقل هؤلاء القوم ؟ إلا أن يكون هؤلاء القوم، وفقنا الله وإياهم، يتعاطون استخراج أحكام في الشريعة لم ينزلها الله تعالى على رسوله (ص)، فهي غائبة عنا، فهذا كفر ممن أطلقه واعتقده، وتكذيب لقول الله عزوجل: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * ولقول رسول الله (ص): ألا هل بلغت قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد.
وأما تمويههم بذكر النار، ولعل في الغائب نارا باردة، فكلام غث في غاية الغثاثة، لان لفظة نار إنما وقعت في اللغة على كل حار مضئ صعاد، فإن كنتم تريدون أن ههنا مضيئا باردا غير صعاد فنعم وهو البلور وإن كنتم تريدون أن شيئا حارا يكون باردا، فهذا تخليط وعين المحال.
وأما لفظة نار فقد وقعت أيضا في اللغة على ما لا يحرق، فالنار عند العرب اسم الميسم الذي توسم به الابل، فيقولون: ما نارها، بمعنى ما وسمها، فليس الاسم مضطرا إلى وجوده كما هو ولا بد، ولكنه اتفاق أهل اللغة، وليس من قبل أننا شاهدنا النار محرقة صعادة مضيئة، وجب ضرورة أن تسمى نارا ولابد، بل لو سموها باسم آخر ما ضر ذلك شيئا.
وليس أيضا من قبل أننا شاهدنا النار على هذه الهيئة، عرفنا أن ما غاب عنا منها كذلك أيضا، بل قد علمنا أن أهل اللغة لم يوقعوا اسم نار في الغائب والحاضر إلا على الحار المضئ المحرق الصعاد.
فإن قلتم: فلعل في الغائب جسما مضيئا باردا صعادا قلنا لكم: هذا ما لا
دليل عليه، والقول بما لا دليل عليه غير مباح، وقد عرفنا صفات العناصر كلها إلا إن قلتم: لعل الله تعالى عالم بهذه الصفة، فالله تعالى قادر على ذلك، ولكنه

(7/1027)


تعالى لم يخلق في هذا العالم، مما شاهدنا بالحواس أو بالعقل أو بالمقدمات الراجعة إلى الحواس والعقل، غير ما شاهدنا بذلك، ولعله تعالى قد خلق عوالم بخلاف صفة عالمنا هذا، إلا أن هذا أمر لا نحققه ولا نبطله، ولكنه ممكن والله أعلم، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا فقالوا: إن في النصوص جليا وخفيا، فلو كانت كلها جلية لاستوى العالم والجاهل في فهمها، ولو كانت كلها خفية لم يكن لاحد سبيل إلى فهمها، ولا إلى علم شئ منها، قالوا: فوجب بذلك ضرورة أن نستعمل القياس من الجلي على معرفة الخفي.
قال أبو محمد: وهذه مقدمة فاسدة، والاحكام كلها جلية في ذاتها، لان الله تعالى قال لنبيه (ص): * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * ولا يحل لمسلم أن يعتقد أن الله تعالى أمر رسوله (ص) بالبيان في جميع الدين فلم يفعل ولا بين، وهذا ما لا يجوز لمسلم أن يخطره بباله، فإذ لا شك في هذا، ونوقن أنه (ص) قد بين الدين كله.
فالدين كله بين، وجميع أحكام الشريعة الاسلامية كلها جلية، واضحة، وقد قال عمر رضي الله عنه: تركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا، وقال أيضا رضي الله عنه: سننت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، إلا أن يضل رجل عن عمد.
قال أبو محمد: إلا أن من الناس من لا يفهم بعض الالفاظ الواردة في القرآن وكلام النبي (ص)، لشغل بال أو غفلة أو نحو ذلك، وليس عدم هذا الانسان فهم ما خفي عليه بمانع أن يفهمه غيره من الناس، وهذا أمر مشاهد يقينا، وهكذا
عرض لعمر رضي الله عنه إذا لم يفهم آية الكلالة وفهمها غيره، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم من فهمته إياها فلم يفهمها عمر.
وقال: ما راجعت رسول الله (ص) في شئ ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي بشئ ما أغلظ لي فيها، إلى أن طعن بأصبعه في صدري وقال لحفصة: ما أراه يفهمها أبدا أو كما قال (ص)، فصح ما قلناه يقينا، وأخبر (ص) أن آية الصيف كافية الفهم وأن عمر لم يفهمها، ليس لانها غير كافية، بل هي كافية بينة، ولكن لم ييسر لفهمها.

(7/1028)


وكذلك أخبر (ص): أن الحلال بين، وأن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فلم يقل (ص): إنها مشتبهات على جميع الناس، وإنما هي مشتبهة على من لا يعلمها، وإذ هذا كذلك فحكم من لا يعلم أن يسأل من يعلم.
كما قال تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * ولم يقل فارجعوا إلى القياس، فوضع دعوى هؤلاء القوم وصح أن الدين كله بين واضح، وسواء كله في أنه جلي مفهوم إلا أن من الناس من يخفى عليه الشئ منه بعد الشئ لاعراضه عنه، وتركه النظر فيه فقط.
وقد يخفى على العالم الفهم أيضا، إذا نظر في مقدماته وقضاياه بفهم كليل إما لشغل بال، وإما لطلبه في اللفظ ما لا يقتضيه فقط حتى يعلمه إياه العلماء الذين هو عندهم بين جلي، ولو لم يكن الامر هكذا لما عرف الجاهل صحة قول مدعي الفهم أبدا.
فصح أنه لما أمكن العالم إقامة البرهان حتى يفهم الجاهل من القضايا كالذي فهم العالم فإن العلم كله جلي، ممكن فهمه لكل أحد، ولولا ذلك ما فهم الجاهل شيئا، ولا لزم من لا يفهم، العمل بما لا يفهم.
وأيضا فيلزم فيما كان منه خفيا ما ألزموه لو كان كله خفيا، وفي الجلي منه ما يلزم لو كان كله جليا ولا فرق، وليس للقياس ههنا طريق
البتة، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا فقالوا: لما رأينا البيضتين إذا تصادمتا تكسرتا، علمنا أن ذلك حكم كل بيضة لم تنكسر، قالوا وهذا قياس.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، ولم نعلم ذلك قياسا، ولكن علمنا بأول العقل وضرورة الحس أن كل رخص الملمس فإنه إذا صدمه ما هو أشد اكتنازا منه أثر فيه، إما بتفريق أجزائه، وإما بتبديل شكله، ولم نقل قط، إن البيضة لما أشبهت البيضة وجب أن تنكسر إذا لاقت جرما صليبا، بل هذا خطأ فاحش.
وفي هذا القول إبطال القياس حقا، فبيضة الحنش وبيضة الوزعة وبيضة صغار العصافير لا تشبه بيضة النعام البتة في أغلب صفاتها، إلا أنهما جميعا واقعان تحت

(7/1029)


نوع البيض وكلاهما ينكسر إذا لاقا جسما صليبا مكتنزا.
ونحن لو خرطنا صفة بيضة من عاج أو من عود البقس حتى تكون أشبه ببيضة النعامة من الماء بالماء، ولم تشبه بيضة الحجلة إلا في الجسمية فقط ثم ضربنا بها الحجر لما انكسرت.
فصح أن الشبه لا معنى له في إيجاب استواء الاحكام البتة، وبطل قولهم: إننا علمنا انكسار ما بأيدينا من البيض لشبهها بما شاهدنا انكساره منها، وصح أنه من أجل الشبه بينهما وجب انكسار هذه كانكسار تلك.
وإنما الذي يصح بهذا فهو قولنا: إن كل ما كان تحت نوع واحد فحكمه مستو وسواء اشتبها أو لم يشتبها.
فقد علمنا أن العنب الاسود الضخم المستطيل أو المستدير أشبه بصغار عيون البقر الاسود منه بالعنب الابيض الصغير، لكن ليس شبهه به موجبا لتساويهما في الطبيعة، ولا بعده عن مشابهة العنب بموجب لاختلافهما في الطبيعة، فبطل حكم التشابه جملة، وصح أن الحكم للاسم الواقع على النوع الجامع لما تحته.
وهكذا قلنا نحن: إن حكمه (ص) في واحد من النوع حكم منه في جميع النوع، وأما القياس الذي ننكر فهو: أن يحكم لنوع لا نص فيه بمثل الحكم في نوع آخر قد نص فيه، كالحكم في الزيت تقع فيه النجاسة بالحكم في السمن يقع فيه الفأر، وما أشبه هذا، فهذا هو الباطل الذي ننكره، وبالله التوفيق.
ومعرفة المرء بأول طبيعته لا ينكرها إلا جاهل أو مجنون، فنحن نجد الصغير يفر عن الموت، وعن كل شئ ينكره وعن النار، وإن كان لم يحترق قط، ولا رأى محترقا، وعن الاشراف على المهواة ونجده يضرب بيده إذا غضب، وهو لا يعلم أن الضرب يؤلم، ويعض بفمه قبل نبات أسنانه وهو لم يعضه قط أحد فيدري ألم العض.
نعم حتى نجد ذلك في الحيوان غير الناطق، فنجد الصغير من الثيران ينطح برأسه قبل نبات قرنيه، والصغير من الخنازير يشتر بفمه قبل كبر ضرسه، والصغير من الدواب يرمح قبل اشتداد حافره، وهذا كثير جدا.

(7/1030)


فبمثل هذا الطبع علمنا أن كل رخص المجسمة فإنه يتغير بانكسار أو تبدل شكل إذا لاقى جسما صليبا، وبه علمنا أن كل نار في الارض وفيما تحت الفلك فهي محرقة، لا بالقياس البارد الفاسد، وليس هذا في شئ من الشرائع البتة بوجه من الوجوه، لانه لم تكن النار قط منذ خلقها الله تعالى إلا محرقة، حاشا نار إبراهيم لابراهيم عليه السلام وحده، لا لغيره بالنص الوارد فيها، ولم يجز أن يقاس عليها غيرها، ولا كانت البيضة قط إلا متهيئة للانكسار إذا لاقت شيئا صلبا، وقد كان البر بالبر حلالا متفاضلا برهة من الدهر، وكذلك كل شئ من الشريعة واجب فقد كان غير واجب، حتى أوجبه النص، وغير حرام حتى حرمه النص، فليست ههنا شئ أن يجب أن يقاس عليه ما لم يأت بإيجابه نص ولا تحريم أصلا، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بأن قالوا: إن علمنا بما في داخل هذه الجوزة والرمانة على صفة ما إنما هو قياس على ما شاهدنا من ذلك، وإلا فلعل داخلهما جوهر أو شئ مخالف لما عهدناه، وكذلك أن في رؤوسنا أدمغة، وفي أجوافنا مصرانا، وأن هذا الصبي لم تلده حمارة، وأن الاحياء يموتون، إنما علمنا ذلك قياسا على ما شاهدنا.
قال أبو محمد: وهذا من أبرد ما موهوا به وما علم قط ذو عقل أن من أجل علمنا بأن ما في داخل هذه الرمانة كالذي في داخل هذه وأن في أجوافنا مصرانا، وفي رؤوسنا أدمغة، وأن الناس لم تلدهم الاتن، وأن الاحياء يموتون، علمنا أن الزيت ينجس إذا مات فيه عصفور، ولا ينجس إذا مات فيه مائة عقرب وأن التمرة بالتمرة حرام والتفاحة بالتفاحة حلال.
وأن البئر إذ مات فيها سنور نزح منها أربعون دلوا فإن سقط فيها نقطة بول نزحت كلها.
وأن من مس دبره انتقض وضوءه، وأن من مس أنثييه لم ينتقض وضوءه وهل بين هذه الوجوه والتي قبلها تشبيه ؟.
وإن المشبه بين هاتين الطريقتين لضعيف التمييز، وتلك أمور طبيعية ضرورية تولى الله عزوجل إيقاعها في القلوب.
لا يدري أحد كيف وقع له علمها.
وهذه الاخر: إما دعاوى لا دليل عليها، وإما سمعية لم تكن لازمة ثم ألزم الله منها بالنص لا بالكهانة ولا بالدعوى.

(7/1031)


ونحن نجد الصغير الذي لم يحب بعد، وإنما هو حين هم أن يجلس، إذا رأى رمانة قلق وشره إلى استخراج ما فيها وأكلها.
وكذلك الجوز وسائر ما يأكله الناس، فليت شعري متى تعلم هذا الصبي القياس، بأن ما في هذه الرمانة كالتي أطعمناه عام أول، أو قبل هذا بشهر.
ولقد كان ينبغي لهم أن يعرفوا على هذا أحكام القياس بطبائعهم، دون أن
يأخذوها تقليدا عن أسلافهم.
ولو أنهم تدبروا العالم وتفكروا في طبائعه وأجناسه وأنواعه وفصوله وخواصه وأعراضه، لما نطقوا بهذا الهذيان، فإن كانوا يريدون أن يسموا جري الطبائع على ما هي عليه: قياسا، فهذه لغة جديدة، ولم يقصدوا بها وجه الله تعالى، لكن قصدوا الشغب والتخليط، كمن سمى الخنزير أيلا ليستحله، والايل خنزيرا ليحرمه.
وكل هذه حيل ضعيفة لا يتخلصون بها مما نشبوا فيه من الباطل، وإنما تكلمهم عن المعنى، لا على ما بدلوه برأيهم من الاسماء فإذ حققوا معنا المعنى الذي يرمون إثباته ونحن نبطله، فحينئذ يكلف البرهان من ادعى أمرا منا ومنهم، فمن أتى به ظفر، ومن لم يأت به سقط، وليسموه حينئذ بما شاؤوا.
ويكفي من سخف هذا الاحتجاج منهم أن يقال لكل ذي حس: هل نسبة التين من البر كنسبة الجوزة من الجوزة ؟ وكنسبة الرمانة من الرمانة ؟ وكنسبة الانسان من الانسان ؟ فإن وجد في العالم أحمق يقول: نعم، لزمه إخراج البلوط والتين عن زكاة البر كيلا بكيل، وهذا ما لا يقوله مسلم، ولزمه أن يقول فيمن حلف لا يأكل برا فأكل تينا: أن يحنث، ولزمه أكثر من هذا كله، وهو الكذب، إن التين بر، وإن قالوا: لا، تركوا قولهم في تشبيه القياس في الشرائع لمعرفتنا بأن ما في هذه الرمانة كهذه.
والذي لا نشك فيه فهذا الاحتجاج منهم مبطل لقولهم، ومثبت لقولنا، لان الرمانة من الرمانة، والجوزة من الجوزة، والانسان من الانسان،

(7/1032)


كالسمن من السمن والفأر من الفأر وكل نوع من نوعه والجوز مخالف للرمان كخلاف السنور من الفأر، وخلاف الزيت للسمن.
وهذا هو الذي ينكره ذو عقل، وأنه إذا حكم النبي (ص) بتحريم البر بالبر متفاضلا لزم ذلك في
كل بر، ولم يجب فيما ليس ببر إلا بنص آخر، وإذا أمر بهرق السمن المائع الذي مات فيه الفأر، وجب ذلك في كل سمن مات فيه فأر، ولم يجب ذلك في غير السمن الذي مات فيه الفأر، وهذا هو الذي لا تعرف العقول غيره وبالله تعالى التوفيق.
وأما تحريم البلوط قياسا على البر وهرقهم الزيت قياسا على السمن، فهو كمن قال: الذي داخل اللوز كالذي داخل الرمان ولا فرق، فبطل قولهم بالبرهان الضروري.
وصح أن القياس إنما هو قياس نوع على نوع آخر وهذا باطل بنفس احتجاجهم وبالله تعالى التوفيق.
ويقال لهم: أمعرفتكم بأنكم تموتون، وهو شئ يستوي في الاقرار به كل ذي حس، هو مثل معرفتكم بالشرائع كالصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك مما يحرم في البيوع والنكاح وما يحل ؟ فإن قالوا: لا، كفونا أنفسهم، وأبطلوا ما استدلوا به ههنا، وإن قالوا: نعم كابروا ولزمهم أن يكونوا مستغنين عن النبي (ص)، وأنهم كانوا يدرون الشريعة بطبائعهم قبل أن يعلموها، وهذا ما لا يقوله ذو عقل.
ويقال لهم هل كان على قشر الرمان قط على لوز: فإن قالوا: نعم، لحقوا بسكان المارستان، وإن قالوا: لا، سألناهم، أكانت الخمر قط حلالا، وكان بيع البر بالبر متفاضلا غير محرم في صدر الاسلام أو لم يزل ذلك والخمر حلالا مذ خلق الله الخمر وللبر بينة الطبع ؟ فإن قالوا كانت الخمر وبيع البر متفاضلا غير حرام برهة من الاسلام، ثم حرم ذلك أقروا بأن ذلك ليس من باب ما في قشر اللوز والرمان في ورد ولا صدر، لان الطبائع قد استقرت مذ خلق الله تعالى العالم على رتبة واحدة، هذا معلوم بأول العقل والحس اللذين يدرك بهما علم الحقائق، وأما الشرائع فغير مستقرة ولم يزل تعالى مذ خلق الخلق ينسخ شريعة بعد شريعة، فيحرم في هذه ما أحل في تلك ويسقط في هذه ما أوجب
في تلك ويوجب في هذه ويحل فيها ما أسقط في تلك، وما حرم إلى أن نص الله

(7/1033)


تعالى أنه لا تبدل هذه الملة أبدا.
فصح أن من شبه الطبائع التي تعلم بالحس والعقل بالشرائع التي لا تعلم إلا بالنص، لا مدخل للعقل ولا للحس في تحريم شئ منها، ولا في إيجاب فرض منها إلا بعد ورود النص بذلك، فهو غافل جاهل، ولو احتج بهذا يهودي لا يرى النسخ، لكان هذا الاحتجاج أشبه بقوله، منه بقول أصحاب القياس.
وأما الموت فهو حكم كل جسم مركب من العناصر إلى نفس حية فقد رتب الله تعالى في العالم هذا اصطحابهما مدة، ثم افتراقهما، ورجوع كل عنصر إلى عنصره، وليس هذا قياسا يوجب موت أهل الجنة والنار فبطل تمويههم، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: القياس فائدة زائدة على النص.
قال أبو محمد: لا فائدة في الزيادة على ما أمر الله تعالى به، ولا في النقص، منه، بل كل ذلك بلية ومهلكة، وتعد لحدود الله تعالى، وظلم وافتراء، وبالله تعالى نعوذ من ذلك، ولا أعظم جرما ممن يقر على نفسه أنه يزيد على النص الذي أذن الله به، ولم يأذن في تعديه.
وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
واحتج بعضهم فقال لمن سلف من أصحابنا فقهكم في اتباع الظاهر يشبه فعل الغلام الذي قال له سيده: هات الطست والابريق، فأتاه بهما ؟ ولا ماء في الابريق، فقال له: وأين الماء ؟ لم تأمرني، وإنما أمرتني بطست وإبريق فهاهما، وأنا لا أفعل إلا ما أمرتني.
قال أبو محمد: فقال لهم، وبالله تعالى التوفيق: بل فقهكم أنتم يشبه فعل المذكور على الحقيقة إذ قال له سيده، إذا أمرتك بأمر فافعله وما يشبهه، فعلمه سيده القياس حقا على وجهه، وحفظ الغلام ذلك، وقبله قبولا حسنا، فوجد
سيده حرارة فقال: سق إلي الطبيب، فإني أجد التياثا، فلم ينشب أن أتاه، بعض إخوانه فزعا، فقال له: يا فلان، من مات لك ؟ فقال: ما مات لي أحد، فقال له: فإن الغاسل والمغتسل والنعش وحفار القبور عند الباب، فدعا غلامه فقال له: ما هذا بالباب ؟ فقال له ألم تأمرني إذا أمرتني بأمر أن أفعله وما

(7/1034)


يشبهه ؟ قال: نعم، قال: فإنك أمرتني بسوق الطبيب لالتياثك، وليس يشبه العلة وإحضار الطبيب إلا الموت، والموت يوجب حضور الغاسل والنعش والحفار لحفر القبر، فأحضرت كل ذلك، وفعلت ما أمرتني وما يشبهه.
فنحن نقول: إن هذا الغلام أعذر في الائتمار لامر مولاه في الابريق الفارغ، إذ لعله يريد أن يعرضه على جليسه أو يبيعه أو يقبله لمذهب له فيه: منه في جلب الحفار والغاسل والنعش، قياسا على العلة والطبيب، ولقد كان الغلام قوي الفهم في القياس، إذ لا قياس بأيديكم إلا مثل هذا.
وهو أن تشبهوا حالا بحال في الاغلب، فتحكمون لهما بحكم واحد، وهو باب يؤدي إلى الكهانة الكاذبة، والتخرص في علم الغيب، والتحذلق في الاستدراء على الله تعالى، وعلى رسوله (ص) فيما لم يأذن به عزوجل، وبالله تعالى نعوذ من ذلك.
واحتجوا فقالوا: أنتم تقولون: إذا حكم رسول الله (ص) في عين ما، فهو حكم واحد في جميع نوع تلك العين التي يقع عليها اسم نوعها.
وهذا قياس.
قال أبو محمد: هذا تمويه زائف، وقد بينا وجه هذه المسألة وهو أنه عليه السلام بعث إلى كل من يخلق إلى يوم القيامة، من الانس والجن، وليحكم كل نوع من أنواع العالم بحكم ما أمره به ربه تعالى، ولا سبيل إلى أن يخاطب عليه السلام من لم يخلق بعد بأكثر من أن يأمر بالامر، فيلزم النوع كله، إلا أن يخص عليه السلام كما خص أبا بردة بن نيار بقوله: يجزيك ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك.
قالوا: فهلا قلتم في أمره (ص) فاطمة بنت حبيش بما أمرها به إذا استحيضت - إنه لازم لكل امرأة تسمى فاطمة.
فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق: لم ينص عليه السلام على أن ذلك حكم كل امرأة تسمى فاطمة، وإنما نص (ص) على أن دم الحيض أسود يعرف، فإذا أقبل فافعلي كذا.
وإذا أدبر فافعلي كذا، فنص (ص) على صفة الحيض والطهر والاستحاضة، وعلى حكم كل ذلك متى ظهر، فوجب التزام ذلك متى وجد الحيض أو الطهر أو الاستحاضة.

(7/1035)


ثم ينعكس هذا السؤال عليهم بعد أن أريناه أنه حجة لنا فنقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: أنتم، أهل القياس وتفتيش العلل في الديانة، وتعدي القضايا عما نص الله تعالى ورسوله (ص) إلى ما لم ينصا عليه، وأنتم أهل الكهانة والاستدراك في الديانة ما لم يذكر الله تعالى ولا رسوله (ص) فاستعملوا مذهبكم في هذا الحديث.
فقد قال عليه السلام في دم الاستحاضة عندكم إنما هو عرق وبين أن دم الحيض أسود يعرف، فكما قستم الحمرة والصفرة والكدرة على الدم الاسود فجعلتموه كله حيضا، فكذلك قيسوا كل عرق يسيل من بدن المرأة من رعاف أو جرح على عرق الاستحاضة، وأحكموا لها حينئذ بحكم الاستحاضة وإلا كنتم متناقضين وتاركين للقياس.
ولا شك عند كل ذي حس - إن كان القياس حقا - إن قياس عرق يدمي عن عرق يدمي أشبه وأولى من قياس الدلاع أو الشاه بلوط على البر والتمر، على أن بعضهم قد فعل ذلك وهم الحنفيون، وأوجبوا أن الوضوء ينتقض بكل عرق دمي، قياسا على عرق المستحاضة عندهم، فيلزمهم أن يوجبوا من ذلك الغسل، كما جاء النص على المستحاضة، وهذا ما لا انفكاك لهم منه، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: لم نعلم أن أجسام أهل الصين كأجسامنا إلا قياسا منا بالشاهد على الغائب.
قال أبو محمد: وهذا من الجنون المكرر.
وقد بينا آنفا أن علمنا بهذا علم ضروري أولي، يعرف ببديهة العقل، ولم يكن المميز قط من الناس إلا وهو عالم بطبعه أن كل من مضى أو يأتي أو غاب عنه من الناس فعلى هيئتنا بلا شك ولا يتشكل في عقل أحد سوى هذا.
وبالضرورة يعلم كل ذي عقل أن علمنا أن المطلقة ثلاثا لا تحل لمطلقها إلا بعد زواج يطؤها، ليس من علمنا بأن أهل الصين من الناس هم على هيئاتنا، بل كان جائزا أن تحل له بعد ألف طلقة دون زوج ولولا النص.

(7/1036)


وهكذا القول في البئر وسائر ما وردت به النصوص، لانه قد كانت هذه الاعيان موجودة آلافا من السنين ليس فيها شئ من هذا التحريم، ولا هذا الايجاب ولم تكن الاجسام قط خالية من حركة أو سكون، ولا كانت أجسام الناس على خلاف هذا الشكل الذي هم عليه والمشبه للشرائع بالطبائع مجنون أو في أسوأ حالا من الجنون لان من سلك سبيل المجانين وهو مميز فالمجنون أعذر منه.
ولو أنصفوا أنفسهم لعلموا أن الذي قالوا حجة عليهم، لان علمنا بأن أجسام الناس في الصين، وفيما يأتي إلى يوم القيامة، على هيئة أجسامنا هو كعلمنا بعد ورود النص، بأن كل بر في الصين والهند وكل بر يحدثه الله تعالى إلى يوم القيامة فحرام بيع بعضه ببعض متفاضلا.
وأما هم فإنه يلزمهم، إذ نقلوا حكم البر المذكور إلى التين والارز، أن ينقلوا حكم أجسام الناس إلى أجسام البغال، فيقولوا: إن بغال الصين على هيئة أجسام الناس، لان نسبة الارز إلى البر، كنسبة البغال إلى الناس ولا فرق وكل ذلك
أنواع مختلفة.
ويلزمهم أيضا، إذا قاسوا الغائب على غير نوعه من الشاهد - أن يقولوا: إن الملائكة والحور العين لحم ودم، قياسا على الناس، وأنهم يمرضون ويفيقون ويموتون، وأن فيهم حاكة وملاحين وفلاحين وحجامين وكرباسيين، قياسا على الشاهد، وإلا فقد نقضوا وبطلوا قياسهم للغائب على الشاهد.
والحق من هذا أن لا غائب عن العقل من قسمة العالم التي تدرك بالعقل، ولا غائب عن السمع من الشريعة وبالله تعالى نعتصم وكل ذلك ثابت حاضر معلوم والحمد لله رب العالمين.
وقالوا: إن كل مشتبهين فوجب أن يحكم لهما بحكم واحد من حيث اشتبها.
قال أبو محمد: وهذا تحكم بلا دليل ودعوى موضوعة وضعها غير مستقيم والحقيقة في هذا أن الشيئين إذا اشتبها في صفة ما، فهما جميعا فيها مستويان استواء واحدا، ليس أحدهما أولى بتلك الصفة من الآخر، ولا أحدهما أصل

(7/1037)


والثاني فرع، ولا أحدهما مردود إلى الآخر، ولا أحدهما أولى بأن يكون قياسا على الآخر، من أن يكون الآخر قياسا كزيد ليس أولى بالآدمية من عمرو، ولا حمار خالد أولى بالحمارية من حمار محمد، والغراب الاسود والسح ليس أحدهما أولى بالسواد من الآخر، وهذا كله باب واحد في جميع ما في العالم.
وكذلك الشرائع ليس بر بغداد بأولى بالتحريم في بيع بعضه ببعض متفاضلا من بر الاندلس، ولا سمن المدينة إذا مات فيه الفأر وهو مائع بأولى أن يهراق من سمن مصر، فهذا هو الذي لا شك فيه.
وأما ما يريدون من دس الباطل ومالا يحل جملة الواجب فلا يجوز لهم بعون الله تعالى إلا على جاهل مغتر بهم، أهلكوه إذ أحسن الظن بهم، وذلك أنهم
يريدون أن يأتوا إلى ما ساوى نوعا آخر في بعض صفاته فيلحقونه به فيما لم يستو معه، وهذا هو الباطل المحض الذي لا يجوز البتة.
أول ذلك، أنه تحكم بلا دليل، وما كان هكذا فقط سقط، وقد صح عن رسول الله (ص): لعن المؤمن كقتله وكل مسلم يعلم أنه لا تشابه أقوى من تشابه أخبر به (ص)، فإذا لا شك في هذا، وصح يقينا أن لعن المؤمن كقتله وأجمعت الامة، بلا خلاف، أن لعن المؤمن لا يبيح دم اللاعن كما يبيح القتل دم القاتل، ولا يوجب دية كما يوجب القتل دية فبطل قول من قال إن الاشتباه بين الشيئين يوجب لهما في الشريعة حكما واحدا فيما لم على اشتباههما فيه.
وبعد، فإن البرهان يبطل قولهم من نفس هذه المقدمة التي رتبوا وذلك أنه ليس في العالم شيئان أصلا، بوجه من الوجوه، إلا وهما مشتبهان من بعض الوجوه، وفي بعض الصفات، وفي بعض الحدود لا بد من ذلك، لانهما في محدثان أو مؤلفات، أو جسمان أو عرضان، ثم يكثر وجود التشابه على قدر استواء الشيئين تحت جنس أعلى، ثم تحت نوع فنوع، إلى أن تبلغ نوع الانواع الذي يلي الاشخاص، كقولنا: الناس، أو الجن، أو الخيل، أو البر، أو التمر، وما أشبه ذلك،

(7/1038)


ذلك فواجب على هذه المقدمة الفاسدة التي قدموا، إذا كانت عين ما مما في العالم حراما، إما أن يكون ما في العالم أوله عن آخره حراما، قياسا عليه، لانه يشبهه ولا بد في بعض الوجوه، إن تمادوا على هذا سخطوا وكفروا، وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الانواع على ما نص عليه منها.
ثم نلزمهم إلزاما آخر وهو: أننا نجد أيضا شيئا آخر حلالا فيلزم أن يكون كل ما في العالم حلالا، قياسا على هذا، لانه أيضا يشبهه من بعض الوجوه،
وهذا إن قالوه، حمقوا وخرجوا عن الاسلام، وإن أبوا منه، تركوا مذهبهم الفاسد، في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الانواع على ما نص عليه منها.
ثم تجمع عليهم هذين الالزامين معا، فيلزمهم أن يجعلوا الاشياء كلها حراما حلالا معا، قياسا على ما حرم وما حلل، وهذا تخليط، ولا شك في فساد كل قول أدى إلى مثل هذا السخف، فإذ لا شك في بطلان هذا الهذيان، فالواجب ضرورة أن يحكم بالتحريم فيما جاء فيه النص بالتحريم، وأن يحكم بالتحليل فيما جاء فيه النص بالتحليل، وأن يحكم بالايجاب فيما جاء فيه النص بالايجاب ولا يتعدى حدود الله تعالى، فلم يبق لهم إلا أن يقولوا: إن النص لا تستوعب كل شئ.
قال أبو محمد: وهذا قول يؤول إلى الكفر، لانه قول بأن الله تعالى لم يكمل لنا ديننا، وأنه أهم أشياء من الشريعة، تعالى الله عن هذا، والله تعالى أصدق منهم حيث يقول: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * و: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *، و: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فبطل قولهم بالقياس، والحمد لله رب العالمين.
وما نعلم في الارض، بدع السوفسطائية، أشد إبطالا لاحكام العقول من أصحاب القياس، فإنهم يدعون على العقل ما لا يعرفه العقل، من أن الشئ إذا حرم في الشريعة وجب أن يحرم من أجله شئ آخر، ليس من نوعه ولا نص الله تعالى ولا رسوله (ص) على تحريمه، وهذا ما لا يعرفه العقل ولا أوجب العقل قط تحريم شئ ولا إيجابه، إلا بعد ورود النص، ولا خلاف في شئ من العقول، أنه لا فرق بين الكبش والخنزير.
ولولا أن الله حرم هذا وأحل هذا، فهم يبطلون حجج العقول جهارا، ويضادون حكم العقل صراحا، ثم

(7/1039)


لا يستحبون أن يصفوا بذلك خصومهم، فهم كما قال الشاعر: ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه مراد لعمري ما أراد قريب
وأيضا: فإنه يقال لهم: إذا قلتم: إن كل شيئين اشتبها في صفة ما، فإنه يجب التسوية بين أحكامهما في الايجاب والتحليل وبالتحريم في الدين، فما الفرق بينكم وبين عكس من عليكم هذا القول بعينه، فقال: بل كل شيئين في العالم إذا افترقا في صفة ما، فإنه يجب أن يفرق أحكامهما في الايجاب والتحليل والتحريم في الدين ؟.
فأجاب بعضهم بأن قال: هذا لا يجب دون أن يأتي بفرق.
قال أبو محمد: وهذا تحكم عاجز عن الفرق، ويقال له: بل قولك هو الذي لا يجب، فما الفرق ؟.
وقال بعضهم: هذا قياس منكم، فإنكم ترومون إبطال القياس بالقياس، فأنتم كالذين يرومون إبطال حجة العقل بحجة العقل.
قال أبو محمد: فيقال لهم، وبالله تعالى التوفيق، لم نحتج عليكم بهذا تصويبا منا له ولا للقياس، لكن أريناكم أن قولكم بالقياس ينهدم بالقياس، ويبطل بعضه بعضا وليس في العالم أفسد من قول من يفسد بعضه بعضا، فأنتم إذا أقررتم بصحة القياس فنحن نلزمكم ما التزمتم به ونحجكم به، لانكم مصوبون له، مصدقون لشهادته، وهو قولكم بالفساد وعلى مذاهبكم بالتناقض، أقررتم به أو أنكرتموه، وأما نحن فلم نصوبه قط، ولا قلنا به، فهو يلزمكم ولا يلزمنا، وكل أحد فإنما يلزمه ما التزم، ولا يلزم خصمه، كما أن أخبار الآحاد المتصلة بنقل الثقات لازم لنا للاحتجاج بها علينا في المناظرة، ولا نلزم من أنكر ها، فمن ناظرنا بها لم ندفعه عما يلزمنا بها، وهذا هو فعلنا بكم في القياس.
وأما تشبيهكم إيانا في ذلك بمن جنح في إبطال حجة العقل بحجة العقل، فتشبيه فاسد، لان المحتج علينا في إبطال حجة العقل لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يصوب ما يحتج به ويحققه فقد تناقض، أو يبطل ما يأتي به فقد كفانا مؤنته، ولسنا نحن كذلك في احتجاجنا عليكم بالقياس، لكنا نقول لكم: إن كان
القياس حقا عندكم فإنه يلزمكم منه كذا وكذا، وليس يقول لنا المبطلون لحجج العقول هكذا، لكنهم محققون لما يحتجون به، فيتناقضون إذا حققوا ما أبطلوا، كما

(7/1040)


تناقضتم أنتم في إبطالكم ما حققتموه من نتائج القياس، فطريقكم هي طريقهم.
ونحن نقول: إن هذا الذي نعارضكم به من القياس أنتم التزمتم حكمه، وهو عندنا باطل، كقولكم سواء بسواء، فإن التزمتموه أفسد قولكم، وإن أبيتموه فكذلك لانكم تقرون حينئذ بإبطال ما قد صوبتموه، ولا فساد أشد من فساد قول أدى إلى التزام الباطل، وليس من يبطل قضايا العقل كذلك، لانه لا يصح شئ أصلا إلا بالعقل أو بالحواس مع العقل، أو ما أنتج من ذلك، فمن أبطل حجة العقل ثم ناظر في ذلك بحجة العقل، فإن صححها رجع إلى الحق ودخل معنا، وإن أبطلها سقط القول معه، لانه يقر أنه يتكلم بلا عقل، وليس القياس هكذا بإقراركم.
ويكفي من هذا: أن من رام إبطال حجة العقل بحجة فقد رام ما لا يجده أبدا، وحجة العقل لا تبطل حجة العقل أصلا، بل توجبها وتصححها، وكذلك من رام إبطال خبر الواحد بخبر الواحد، فإنه لا يجد أبدا خبرا صحيحا يبطل خبر الواحد.
وهكذا كل شئ صحيح، فإنه لا يوجد شئ صحيح يعارضه أبدا، هذا يعلم ضرورة، ولو كان ذلك لكان الحق يبطل الحق، وهذا محال في البنية، وليس كذلك القياس لانه يبطل بالقياس جهارا وبأسهل عمل، فصح أنه باطل، وهكذا كل باطل في العالم فإنه يبطل بعضه بعضا بلا شك.
وقال بعضهم: من الدليل على أن حكم المماثلين حكم واحد أن الله عز وجل قد تحدى العرب بأن يأتوا بمثل هذا القرآن وأعلم أنهم لو أتوا بمثله لكان باطلا، لان مثل الباطل لا يكون إلا باطلا، ومثل الحق لا يكون إلا حقا.
قال أبو محمد: هذا قول صحيح، وهو حجة عليهم، لان المشبه للباطل في أنه باطل
هو بلا شك باطل، وبهذا أبطلنا القياس بالقياس، ورأينا أنه كله باطل، وليس ما أشبه الباطل في أنه مخلوق مثله، وأنه كلام مثله، يكون باطلا بل هذا حكم يؤدي إلى الكفر، لان الكفر كلام، والكذب كلام، والقرآن كلام، والحق كلام.
وليس ذلك بموجب اشتباه كل ذلك في غير ما اشتبه فيه يرومون.
وأيضا فهذا من ذلك التمويه الذي إذا كشف عاد مبطلا لقولهم بعون الله عزوجل، وذلك أننا لم ننكر قط أن ما وقع عليه مع غيره اسم يجمع تلك الاشخاص، فإنها كلها مستحقة لذلك الاسم، بل نحن أهل هذا القول.

(7/1041)


ونقول: إن كل ما يوضع من الكلام في غير مواضعه التي وضعها الله تعالى فيها في الشرائع أو في غير المواضع التي وضعه فيها أهل اللغات للتفاهم فهو باطل وتحريف للكلم عن مواضعه، وتبديل له، وهذا محرم بالنص وتدليس بضرورة العقل، وكل ما كان من الكلام موضوعا في مواضعه التي ذكرنا فهو حق.
فإذ لا شك في هذا، فلم نحكم لشئ من الباطل بأنه باطل من أجل شبهه بباطل آخر، بل ليس أحد الباطلين أولى أن يكون باطلا من سائر الاباطيل، بل كل الاباطيل في وقوعها تحت الباطل سواء، ولا أحد الحقين أولى أن يكون حقا من حق آخر، بل كل حق فهو، في أنه حق، سواء مع سائر الحقوق كلها، وليس شئ من ذلك مقيسا على غيره.
والقول مطرد هكذا بضرورة العقل في كل ما في العالم من الشرائع وغيرها فكذلك كل بر فهو بر، وكل تمر فهو تمر، وكل ما أشبه البر مما ليس برا، فليس برا، وكل ما أشبه الذهب مما ليس ذهبا فليس ذهبا، وكل ما أشبه الحرام مما لم ينه النص عنه فليس حراما، وهكذا جميع الاشياء أولها عن آخرها، فهذا الذي أتوا به مبطل للقياس لو عقلوا وأنصفوا أنفسهم، وبالله تعالى التوفيق.
وإنما عول القوم على التمويه والكذب والتلبيس على من اغتر بهم، فقالوا: إن أصحاب الظاهر ينكرون تماثل الاشياء، ثم جعلوا يأتون بآيات وأحاديث ومشاهدات فيها تماثل أشياء.
وهذا خداع منهم لعقولهم وما أنكرنا قط تماثل الاشياء، بل نحن أعرف بوجوه التماثل منهم، لاننا حققنا النظر فيها، فأبانها الله تعالى لنا، وهم خلطوا وجه نظرهم، فاختلط الامر عليهم، وإنما أنكرنا أن نحكم للمتماثلات في صفاتهما من أجل ذلك في الديانة بتحريم أو إيجاب أو تحليل، دون نص من الله تعالى أو رسوله (ص)، أو إجماع من الامة، فهذا الذي أبطلنا، وهو الباطل المحض، والتحكم في دين الله تعالى بغير هدى من الله، نعوذ بالله من ذلك، وقالوا أيضا: إن أصحاب الظاهر يبطلون حجج العقول.
قال أبو محمد: وكذبوا بل نحن المثبتون لحجج العقول على الحقيقة، وهم المبطلون لها حقا، لان العقل يشهد أنه يحرم دون الله تعالى، ولا يوجب دون الله تعالى شريعة، وأنه إنما يفهم ما خطب الله تعالى به حامله، ويعرف الاشياء

(7/1042)


على ما خلقها الله تعالى عليه فقط، وهم يحرمون بعقولهم ويشرعون الشرائع بعقولهم، بغير نص من الله تعالى، ولا من رسوله (ص)، ولا إجماع من الامة، فهذا هو إبطال حجج العقول على الحقيقة، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بالموازنة يوم القيامة.
قال أبو محمد: وهذا من أغرب ما أبدوا فيه عن جهلهم، وهل هذا إلا نص جلي ؟ وأي شئ من موازنة أعمال العباد ؟ وجزاء المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته، والعفو عن التائب بعد أن أجرم، والعفو عن الصغائر باجتناب الكبائر، والمؤاخذة بها لمن فعل كبيرة وأصر عليها، مما يحتج به في إيجاب تحريم الارز
بالارز متفاضلا، وهل يعقل وجوب هذا من موازنة الاعمال يوم القيامة، وجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، وجزاء السيئة بمثلها، إلا مجنون مصاب.
وقالوا: أخبرونا عن قولكم بالدليل: أبنص قلتموه، أم بغير نص ؟ فإن قلتم: قلناه بنص، فأروناه، وإن قلتم: بغير نص، دخلتم فيما عبتم من القياس.
قال أبو محمد: وقد أفردنا فيما خلا من كتابنا هذا بابا لبيان الدليل الذي نقول به فأغني عن ترداده، إلا أننا نقول ههنا جوابا لهم، وبالله تعالى التوفيق، ما لا يستغني هذا المكان عن إيراده وهو أن الدليل نقول: هو المقصود بالنص نفسه وإن كان بغير لفظه، كقول الله تعالى: * (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) * فبالضرورة نعلم أنه ليس بسفيه، ومثل قول رسول الله (ص): كل مسكر خمر وكل خمر حرام فصح ضرورة من هذا اللفظ أن كل مسكر حرام.
فدليلنا هو النص والاجماع نفسه، لا ما سواهما، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: لا نص في ميراث من بعض حر وبعضه عبد، ولا في حده، ولا في ديته، فما تقولون في ذلك ؟ وكذلك نكاحه وطلاقه والجناية عليه ومنه.
قال أبو محمد: وصاحب هذا الكلام كان أولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم، وذلك أن النص ورد بعموم ميراث الابناء والبنات والآباء والامهات، والاخوة والاخوات، والعصبة والازواج، فواجب ألا يخرج عن النص أحد فيمنع الميراث إلا بنص، والنص قد صح من حديث علي، وابن عباس: إن المكاتب إذا

(7/1043)


أصاب حدا أو دية أو ميراثا، ورث وورث منه، وأقيم عليه الحد، وودي بمقدار ما أدى دية وميراث حر، وبمقدار ما لم يؤده دية عبد وميراث عبد، فصح أن العبد لا يرث.
وقد قال قوم من العلماء: إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية، وقال
آخرون: لا شئ لهما من الميراث فكان قول هؤلاء مساقطا لمخالفته النص، ولانه دعوى بلا دليل، فلم يبق قول من قال: إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية فقلنا به.
فهكذا القول في حده وديته إذ قد بطل قول من قال: إن حده كحد الحر بحديث ابن عباس في المكاتب، إذا في نص ذلك الحديث الفرق بين حد الحر وحد العبد.
وأما نكاحه فإن النص جاء بأن كل عبد نكح بغير إذن مواليه فنكاحه عهر، والمعتق بعضه ليس عبدا كله ولا حرا كله، ولا ينتقل عن حكمه المجمع عليه، والثابت عليه بالنص إلا بنص آخر أو إجماع، فهو غير خارج عن هذا النص فليس له أن ينكح كسائر المسلمين إلا بإذن من له فيه ملك، وطلاقه جائز على عموم النص في المطلقين.
وأما جنايته والجناية عليه وشهادته فكالاحرار، ولا فرق إذ لم يمنع من ذلك نص ولا إجماع هذا مع صحة حديث ابن عباس في ميراث المكاتب وديته وحدوده، وإن ذلك بمقدار ما فيه من الحرية والرق.
وقسموا أنواع القياس فقال بعضهم: من القياس قياس المفهوم، مثل قياس رقبة الظهار على رقبة القتل، قالوا: ومنه قياس العلة، كالعلة الجامعة بين النبيذ والخمر وهي الاسكار والشدة، ومنه قياس الشبه، ثم اختلفوا في هذا النوع من القياس، فقالوا: هو على الصفات الموجودة في العلة، وذلك مثل أن يكون في الشئ خمسة أوصاف من التحليل وأربعة من التحريم، فيغلب الذي فيه خمسة أوصاف على الذي فيه أربعة أوصاف، وقال آخرون منهم: وهو على الصور، كالعبد يشبه البهائم في أنه سلعة متملكة، ويشبه الاحرار في الصور الآدمية، وأنه مأمور منهي بالشريعة.

(7/1044)


قال أبو محمد: وكل هذا فاسد باطل متناقض لانه كله دعاوى باردة بلا دليل على صحة شئ منها ثم تسميتهم قياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل أنه مفهوم، وليت شعري بماذا فهموه حتى علموا أنها لا تجزئ إلا مؤمنة ؟ هذا وقد خالفهم إخوانهم من القائسين في ذلك من أصحاب أبي حنيفة، فلم يفهموا من هذا القياس العجيب ما فهم الشافعي والمالكي، وكل ما فهم من كلام فأهل اللغة متساوون في فهمه بلا شك، فصار دعواهم للفهم كذبا، ثم هلا إذا فهموا أن كلتا الرقبتين سواء، مشوا في قياسهم ففهموا أنه يجب التعويض من الصيام في القتل إطعام ستين مسكينا كالتعويض لذلك من صيام الظهار، كما تساوى التعويض من رقبتي الظهار والقتل، صيام شهرين متتابعين، فما هذا التباين في فهم ما لا تقضيه الآية ولا اللغة ؟.
وأما قولهم: قياس العلة، وأن النبيذ مقيس على الخمر - فكذب مجرد بارد سمج، وجرأة على الله تعالى، وقد قال رسول الله (ص): كل مسكر خمر وكل مسكر حرام فساوى (ص) بين كل مسكر، ولم يخص من عنب ولا تمر ولا تين ولا عسل ولا غير ذلك، ثم أخبر أن كل مسكر حرام، فليست خمر العنب في ذلك بأولى من خمر التين، ولا خمر العنب أصلا وغيرها فرعا، بل كل ذلك سواء بالنص فظهر برد قولهم وفساده.
فإن قالوا: فهلا كفرتم من استحل نبيذ التين المسكر، كما تكفرون مستحل عصير العنب المسكر ؟.
قيل له، وبالله تعالى التوفيق: إنما كفرنا من استحل عصير العنب المسكر لقيام الحجة بالاجماع، ولو استحله جاهل لم يعرف الاجماع في ذلك ما كفرناه حتى يعرفه بالاجماع، وكذلك لم نكفر مستحل نبيذ التين لجهله بالحجة في ذلك، ولو
أنه يصح عنه قول النبي (ص) في تحريم كل مسكر على عمومه، ثم يستجيز مخالفة النبي (ص)، لكان كافرا بلا شك وقد أفردنا بعد هذا بابا ضخما في إبطال قولهم في العلل، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم في موازنة صفات التحليل وصفات التحريم، فإنا نقول لهم: هبكم، لو سامحناكم في هذا الهذيان المفترى، وماذا تصنعون إذا تساوت عندكم صفات

(7/1045)


التحريم وصفات التحليل ؟ فإن قالوا: نغلب التحريم احتياطا.
قلنا لهم: ولم لا تغلبوا التحليل تيسيرا ؟ لقول الله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر) * وإن قالوا: نغلب التحليل، قيل لهم: وهلا غلبتم التحريم ؟.
ولقول الله تعالى: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * فظهر بطلان قولهم وفساده، وبالجملة فليس تغليب أحد الوجهين أولى من الآخر، وقد قال تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) * فنص تعالى على أن كل محرم ومحلل بغير نص من الله تعالى فهو كاذب ومفتر، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا: فلو كانت صفة شبه التحريم توجب التحريم، وصفة شبه التحليل توجب التحليل، لما وجد كلا الامرين في شئ واحد البتة، لانه كان يجب من ذلك أن يكون الشئ حراما حلالا معا، وهذا حمق محال.
فصح أن الشبه لا يوجب تحريما ولا تحليلا، كثرت الاوصاف بذلك أو قلت.
وقد أقدم بعضهم فقال: إن الله تعالى قال: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) * قالوا: غلب تعالى الاثم فحرمها.
قال أبو محمد: هذا من الجرأة على القول على الله تعالى بغير علم، وهذا يوجب إن الله تعالى اعترضه في الخمر والميسر أصلان: أحدهما المنافع، والثاني الاثم، فغلب الاثم، هذا هو نص كلامهم وظاهره ومقتضاه، وليت شعري، من رتب
هذا الاثم في الخمر والميسر ؟ وقد كانا برهة قبل التحريم حلالين لا إثم فيهما، وقد شربها أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وأهديت إلى النبي (ص) وتنادم الصالحون عليها أزيد من ستة عشر عاما، في الاصل صح ذلك عن عبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وحمزة، وأبي عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وأبي بن كعب، وأبي دجانة، وأبي طلحة، وأبي أيوب، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وغيرهم كلهم شربوا الخمر بعد الهجرة، واصطحبها جماعة يوم أحد ممن أكرمهم الله تعالى في ذلك اليوم بالشهادة، فهل أحدث الاثم فيها بعد أن لم يكن إلا الله تعالى ؟ فأين قول هؤلاء النوكى: إن الله تعالى حرمها لاجل الاثم الذي فيها، أو لاجل الشدة والاسكار ؟ وهل هذا إلا كذب بحت ؟ وهل حدث الاثم إلا بعد حدوث التحريم بلا فصل ؟ وهل خلط قط

(7/1046)


عن الشدة والاسكار مذ خلقها الله تعالى، فبطل قولهم بتجاذب الاوصاف، والحمد لله كثيرا.
وأما قولهم في تغليب الصورة الآدمية في العبيد على شبهة البهائم، إنه سلعة مملوكة، فقول بارد وهلا، إذ فعلوا ذلك، قبلوا شهادته إذ غلبوا شبهة الاحرار على شبهة البهائم ؟ وهل هذا كله إلا لهو ولعب، وشبيه بالخرا فات ؟ نعوذ بالله من الخذلان، ومن تعدي حدوده، ومن القول في الدين بغير نص من الله تعالى أو رسوله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا أبطلوا حكم الشبه من أجل شبه آخر أقوى منه، فقد صاروا إلى قولنا في إبطال حكم التشابه في إيجاب حكم له في الدين لم يأت به نص، ثم تناقضوا في إثباته مرة وإبطاله أخرى بلا برهان.
وشنع بعضهم بأن قال: إن إبطال القياس مذهب النظام، ومحمد بن عبد الله
فقول بارد وهلا، إذ فعلوا ذلك، قبلوا شهادته إذ غلبوا شبهة الاحرار على شبهة البهائم ؟ وهل هذا كله إلا لهو ولعب، وشبيه بالخرا فات ؟ نعوذ بالله من الخذلان، ومن تعدي حدوده، ومن القول في الدين بغير نص من الله تعالى أو رسوله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا أبطلوا حكم الشبه من أجل شبه آخر أقوى منه، فقد صاروا إلى قولنا في إبطال حكم التشابه في إيجاب حكم له في الدين لم يأت به نص، ثم تناقضوا في إثباته مرة وإبطاله أخرى بلا برهان.
وشنع بعضهم بأن قال: إن إبطال القياس مذهب النظام، ومحمد بن عبد الله الاسكافي، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وعيسى المراد، وأبي عفار، وبعض الخوارج، وإن من هؤلاء من يقول: إن بنات البنين حلال، وكذلك الجدات، وكذلك دماغ الخنزير.
قال أبو محمد: ولسنا ننكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله، ونقولها أيضا نحن، ولكن إذا ذكروا هؤلاء فلا تنسوا القائلين بقولهم القياس، أبا الهذيل العلاف، وأبا بكر بن كيسان الاصم، وجهم بن صفوان، وبشر بن المعتمر، ومعمرا وبشرا المريسي، والازارقة، وأحمد بن حائط، ومن هؤلاء من يقول بقياس الاطفال على الكبار، وأنهم نسخت أرواحهم في الاطفال، وبالقياس على قوم نوح، فأباحوا قتل الاطفال، وقاسوا فناء الجنة والنار على فناء الدنيا، وغير ذلك من شنيع الاقوال.
فهذا كل ما موهوا به في نص القياس قد تقصيناه والحمد لله، ولم ندع منه بقية، وبينا - بعون الله - أنه لا حجة لهم بوجه من الوجوه، ولا متعلق في شئ منه البتة، وأنه كله عائد عليهم، ومبطل لقولهم في إثبات القياس، وقد كان هذا يكفي من تكلف إبطال القياس، لان كل قول لا يقوم بصحته برهان فهو دعوى ساقطة ولكنا لا نقطع بذلك حتى نورد - بحول الله - البراهين القاطعة على إبطال القياس والقول به.

(7/1047)