الإحكام في أصول الأحكام ط العاصمة الاحكام - ابن حزم ج 8
الاحكام
ابن حزم ج 8
(8/)
الجزء الثامن بسم الله الرحمن الرحيم وصلى
الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم فصل وهذا حين نأخذ في
إبطال القياس بالبراهين الضرورية إن شاء.
قال أبو محمد: ويقال للقائلين بالقياس: أليس قد بعث الله عزوجل
محمدا (ص) رسولا إلى الانس والجن، فأول ما دعاهم إليه فقول لا
إله إلا الله ورفض كل معبود دون الله تعالى، ومن وثن وغيره،
وأنه رسول الله فقط لم يكن في الدين شريعة غير هذا أصلا، لا
إيجاب حكم، ولا تحريم شئ ؟.
فمن قولهم وقول كل مسلم وكافر: نعم، هذا أمر لا شك فيه عند
أحد، فإذ هذا لا خلاف فيه ولا شك فيه، ولا ينكره أحد، فقد كان
الدين والاسلام لا تحريم فيه، ولا إيجاب، ثم أنزل الله تعالى
الشرائع، فما أمر به فهو واجب، وما نهى عنه فهو حرام، وما لم
يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق، حلال كما كان، هذا أمر
معروف ضرورة بفطرة العقول من كل أحد ففي ماذا يحتاج إلى القياس
أو إلى الرأي ؟.
أليس من أقر بما ذكرنا ثم أوجب ما لا نص بإيجابه، أو حرم ما لا
نص بالنهي عنه، قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى ؟
وقال ما لا يحل القول به ؟ وهذا برهان لائح واضح وكاف لا معترض
فيه.
ثم يقال لهم أيضا وبالله تعالى التوفيق: فماذا يحتاج إلى
القياس ؟ أفيما نص عليه الله تعالى ورسوله (ص) ؟ أم فيما لم
ينص عليه ؟ فإن قالوا: فيما نص عليه، فارقوا الاجماع، وقاربوا
الخروج عن الاسلام، لانه لم يقل بهذا أحد، وهو مع ذلك قول لا
يمكن أحد أن يقوله، لانه لا قياس إلا على أصل يرد ذلك الفرع
إليه، ولا أصل إلا نص أو إجماع، فصح على قولهم أن القياس إنما
هو مردود إلى النص.
وإن قالوا: فيما لم ينص عليه، فقلنا وبالله تعالى التوفيق: قال
الله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) *
وقال تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب
(8/1049)
من شئ) * وقال تعالى: * (لتبين للناس ما
نزل إليهم) * وقال (ص) في حجة الوداع: اللهم هل بلغت ؟ قالوا:
نعم.
قال: اللهم اشهد...حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن
عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا محمد بن المثنى،
ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن مرة
الهمداني قال: قال عبد الله بن مسعود: من أراد العلم فليثر
القرآن، فإن فيه علم الاولين والآخرين، هكذا رويناه عن مسروق
والزهري، أنه ليس شئ اختلف فيه إلا وهو في القرآن، فصح بنص
القرآن أنه لا شئ من الدين وجميع أحكامه إلا وقد نص عليه، فلا
حاجة بأحد إلى القياس.
فإن قالوا: إنما نقيس النوازل، من الفروع على الاصول.
قال أبو محمد: وهذا، لانه ليس في الدين إلا واجب أو حرام أو
مباح، ولا سبيل إلى قسم رابع البتة، فأي هذه أصل، وأي هذه فرع
فبطل قولهم، وصح أن أحكام الدين كلها أصول لا فرع فيها، وكلها
منصوص عليه، فلما اختلف الناس قط إلا في الاصول، كالوضوء
والصلاة والزكاة والحج، والحرام من البيوع والحلال منها، وعقود
النكاح والطلاق وما أشبه ذلك.
فإن قالوا: لسنا ننكر أن الله تعالى لم يفرط في الكتاب من شئ،
ولا أن النبي (ص) بين، ولكن النص والبيان ينقسم قسمين: أحدهما
نص على الشئ باسمه، والثاني نص عليها بالدلالة، وهذا هو الذي
نسميه قياسا، وهو التنبيه على علة الحكم، فحيثما وجدت تلك
العلة حكم بها.
قالوا: وهذا هو الاختصار وجوامع الكلم التي بعث بها رسول الله
(ص).
قيل لهم: وبالله تعالى التوفيق: هذا هو الباطل، لان الذي
تذكرون دعوى بلا دليل، وتلك الدلالة تخلو من أن تكون موضوعة في
اللغة، التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن، لذلك المعنى بعينه.
فهذا غير قولكم، وهذا هو القسم الاول من النص على الشئ باسمه،
فلا تموهوا فتجعلوا النص قسمين، أو تكون تلك الدلالة غير
موضوعة في اللغة، التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن، لذلك
المعنى، فإن كانت كذلك فهذا هو التلبيس والتخليط الذي تنزه
الله تعالى، ونزه رسوله (ص) عنه، ولا يحل لاحد أن ينسب هذا إلى
الله تعالى، ولا إلى رسوله (ص).
(8/1050)
وهذا برهان ضروري، ولا محيد عنه، بين لا
إشكال فيه على من له أقل فهم، وليس هذا طريق اختصار، ولا تنبيه
ولا بيان، ولكنه خبط وإشكال وإفساد وتدليس.
ولا تنبيه ولا بيان فيمن يريد أن يعلمنا حكم الصداق، فلا يذكر
صداقا ويدلنا على ذلك بما نقطع فيه اليد، أيريد الاكل فيذكر
الوطئ، أو يريد الجوز فيذكر الملح، أو يريد المخطئ فيذكر
المتعمد، وهذا تكليف ما لا يطاق، وإلزام لعلم الغيب والكهانة،
وإيجاب للحكم بالظن الكاذب، تعالى الله عن ذلك وتنزه رسول الله
(ص) عنه.
وإنما الاختصار وجوامع الكلم والتنبيه أن يأتي إلى المعنى الذي
يعبر عنه بألفاظ كثيرة فيبينه بألفاظ مختصرة جامعة يسيرة، لا
يشذ عنها شئ من المراد بها البتة، ولا تقتضي من غير المراد بها
شيئا أصلا، فهذا هو حقيقة الاختصار والبيان والتنبيه.
وذلك مثل قول الله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم) * فدخل تحت هذا اللفظ مالو تقصى لملئت
منه أسفار عظيمة، من ذكر قطع الاعضاء عضوا عضوا، وكسرها عضوا
عضوا، والجراحات جرحا جرحا، والضرب هيئة هيئة، وذكر أحد
الاحوال وسائر ما يقتضيه هذا المعنى
من تولي المجني عليه للاقتصاص، ونفاذ أمره في ذلك.
ومثل قوله (ص): جرح العجماء جبار وسائر كلامه (ص).
وأما من إسقاط معاني أرادها، فلم يذكرها بالاسم الموضوع لها في
اللغة التي بها خوطبنا، وطمع أن يدل عليها باسم غير موضوع لها
في اللغة:، فهذا فعل الشيطان المريد إفساد الدين والتخليط على
المسلمين، لا فعل رب العالمين، وخاتم النبيين.
وبالله تعالى نستعين.
فإن قالوا: لسنا نقول: إنه تنزل نازلة لا توجد في القرآن
والسنة، لكنا نقول إنه يوجد حكم بعض النوازل نصا وبعضها
بالدليل.
قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: إن هذا حق، ولكن إذا كان هذا
الدليل الذي تذكرون لا يحتمل إلا وجها واحدا.
فهذا قولنا لا قولكم، وأما إن كان ذلك الدليل يحتمل وجهين
فصاعدا فهذا ينقسم على قسمين: إما أن يكون هنالك نص آخر بين
مراد الله تعالى من ذينك الوجهين فصاعدا بيانا جليا أو إجماع
كذلك،
(8/1051)
فهذا هو قولنا، والنص بعينه لم نزل عنه،
وإما ألا يكون هنالك نص آخر ولا إجماع يبين بأحدهما مراد الله
عزوجل من ذلك - فهذا إشكال وتلبيس، تعالى الله عن ذلك، ولا يحل
لاحد أن ينسب هذا إلى شئ من دين الله تعالى، الذي قد بينه غاية
البيان رسوله (ص).
فإن قالوا: إن التشابه بين الادلة هو أحد الادلة على مراد الله
تعالى.
قيل لهم: هذه دعوى تحتاج إلى دليل يصححها، وما كان هكذا فهو
باطل بإجماع، ولا سبيل إلى وجود نص ولا إجماع يصحح هذه الدعوى،
ولا فرق بينها وبين من جعل قول إنسان من العلماء بعينه دليلا
على مراد الله تعالى في تلك المسألة، وكل هذا باطل وافتراء على
الله تعالى.
وأيضا فإنهم في التشابه الموجب للحكم مختلفون، فبعضهم يجعل صفة
ما علة لذلك الحكم، وبعضهم يمنع من ذلك ويأتي بعلة أخرى، وهذا
كله تحكم بلا دليل.
وقد صحح بعضهم العلة بطردها في معلولاتها، وهذا تخليط تام، لان
الطرد إنما يصح بعد صحة العلة، لان الطرد إنما هو فرع يوجبه
صحة العلة، وإلا فهو باطل ومن المحال ألا يصح الاصل إلا بصحة
الفروع.
وأيضا فإنهم إذا اختلفوا في طرد تلك العلة، فليس من طردها
ليصححها بأولى ممن لم يطردها ليبطلها وطرد غيرها، وهذا كله
تحكم في الدين لا يجوز، وذلك نحو طرد الشافعي علة الاكل في
الربا، ومنع أبي حنيفة ومالك من ذلك، وطرد أبي حنيفة علة الوزن
والكيل، ومنع مالك والشافعي من ذلك، وطرد مالك علة الادخار
والاكل، ومنع أبي حنيفة والشافعي من ذلك.
فإن قالوا: فأرونا جمع النوازل منصوصا عليها.
قلنا لو عجزنا عن ذلك لما كان عجزنا حجة على الله تعالى، ولا
على رسوله (ص) إذ لم ندع لكم - الواحد فالواحد منه - الاحاطة
بجميع السنن، لكن حسبنا أننا نقطع بأن الله تعالى بين لنا كل
ما يقع من أحكام الدين إلى يوم القيامة، فكيف ونحن نأتيكم بنص
واحد فيه كل نازلة وقعت أو تقع إلى يوم القيامة، وهو الخبر
الصحيح الذي ذكرناه قبل بإسناده وهو قوله (ص): دعوني ما تركتكم
فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على
(8/1052)
أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما
استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه فصح نصا أن ما لم يقل فيه
النبي (ص) فليس واجبا، لانه لم يأمر به، وليس حراما لانه لم
ينه عنه، فبقي ضرورة أنه مباح، فمن ادعى أنه حرام مكلف أن يأتي
فيه بنهي من النبي (ص)، فإن جاء سمعنا وأطعنا، وإلا فقوله
باطل، ومن ادعى
فيه إيجابا كلف أن يأتي فيه بأمر من النبي (ص) فإن جاء به
سمعنا وأطعنا، وإن لم يأت به فقوله باطل، وصح بهذا النص أن كل
ما أمر به (ص) فهو فرض علينا إلا ما لم نستطع من ذلك، وأن كل
ما نهانا عنه فحرام حاشا ما بينه (ص) أنه مكروه أو ندب فقط،
فلم يبق في الدين حكم إلا وهو ههنا منصوص جملة.
ثم نعكس عليهم هذا السؤال وهذا القول فنقول لهم: أنتم تقولون:
لا نازلة إلا ولها نظير في القرآن أو السنة، فنحن نعكس السؤال
عن تلك النوازل التي تريدون سؤالنا عنها، من دينار وقع في
محبرة وسائر تلك الحماقات، فأرونا نظائرها في القرآن والسنة،
وأنتم تقرون أنه لا نصوص فيها، فخبرونا كيف تصنعون فيها
أتحكمون فيها بقولكم ؟ فهذا دينكم لا دين الله ففي هذا ما فيه،
فظهر فساد كل سؤال لهم والحمد لله رب العالمين كثيرا.
وقال من سلف من أصحابنا رحمهم الله: يقال لمن قال بالقياس قد
أجمعتم - أنتم وجميع المسلمين بلا خلاف من أحد منهم، على أن
الاحكام كلها في الديانة جائز أن تؤخذ نصا، واتفقوا كلهم - بلا
خلاف من واحد منهم لا من القائلين بالقياس ولا من غيرهم، على
أن أحكام الديانة كلها لا يجوز أن تؤخذ قياسا، ولا بد عندهم من
نص يقاس عليه، فيقال لاصحاب القياس، عندكم حقا فمن ههنا بدؤوا
به فقيسوا ما اختلفنا فيه من المسائل التي جوزتم القياس فيها،
ومنعنا نحن منها، على ما اتفقنا عليه من المسائل التي أقررتم
أنها لا يجوز أن تؤخذ قياسا، فإن لم تفعلوا فقد تركتم القياس،
وإن فعلتم تركتم القياس، ولسنا نقول إن هذا العمل صحيح عندنا
ولكن صحيح على أصولكم ولا أبطل من قول نقض بعضه بعضا.
(8/1053)
ويقال لهم وجدنا مسائل كثيرة قد أجمعتم
وأنتم وجميع الامة على ترك القياس
فيها، كقاتل تاب قبل أن يقدر عليه وندم، فلا يسقط عنه القصاص
عند أحد، ولم تقيسوا ذلك على محارب تاب قبل أن يقدر عليه،
فالحد في الحرابة عنه ساقط، وكذلك اتفقوا على ألا يقاس الغاصب
على السارق، وكلاهما أخذ مالا محرما عمدا، أو كترك قياس تعويض
الاطعام من الصيام في قتل الخطأ على تعويضه من الصيام في
الظهار، ومثل هذا كثير جدا، بل هو أكثر مما قاسوا فيه، فلو كان
القياس حقا ما جاز الاجماع على تركه، كما لا يجوز الاجماع على
ترك الحق الذي هو القرآن، أو كلام الرسول (ص) مما صح عنه، فإنه
لم يجمع قط على ترك شئ منه إلا لنص آخر ناسخ له فقط، وهذا يوجب
بطلان القياس ضرورة.
ويقال لهم أخبرونا عن القياس، أيخلو عندكم أن يحكم للشئ الذي
لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم الذي فيه نص أو إجماع، إما
لعلة فيهما معا، هي في المحكوم فيه علامة الحكم، وإما لنوع من
الشبه بينهما، وإما مطارفة لا لعلة ولا لشبه ولا سبيل إلى قسم
رابع أصلا ؟ فإن قالوا: مطارفة لا لعلة ولا لشبه كفونا مؤنتهم،
وصار قائل هذا ضحكة ومهزأة، ولم يكن أيضا أولى بما يحكم به من
غيره، يحكم في ذلك الامر بحكم آخر، وهذا ما لا يقوله أحد منهم.
فإن قالوا: بل لنوع من الشبه، قيل لهم: وما دليلكم على أن ذلك
النوع من الشبه يجب به ذلك الحكم، ولا سبيل إلى وجود ذلك
الدليل، وتعارضون أيضا بشبه آخر يوجب حكما آخر، وهذا أبدا.
فإن قالوا: بل لعلة جامعة بين الحكمين، سألناهم: ما الدليل على
أن الذي تجعلونه علة الحكم هي علة الحقيقة ؟ فإن ادعوا نصا
فالحكم حينئذ للنص، ونحن لا ننكر هذا إذا وجدناه.
فإن قالوا: غير النص قلنا: هذا الباطل والدعوى التي لا برهان
على صحتها وما كان هكذا فهو ساقط بنص القرآن، وبحكم الاجماع
والعقول، وإن قالوا: طرد حكم العلة دليل على صحتها، قيل لهم:
طردكم أنتم،
أو طرد أهل الاسلام.
فإن قالوا: طرد أهل الاسلام، قيل: هذا إجماع لا خلاف فيه،
ولسنا نخالفكم في صحة الاجماع إذا وجد يقينا، وإن قالوا: بل
طردنا نحن قيل لهم: ما طردكم
(8/1054)
أنتم حجة على أحد، فهاتوا برهانكم على صحة
دعواكم إن كنتم صادقين، وهذا ما لا مخلص منه أصلا.
والحمد الله رب العالمين.
قال أبو محمد وقال جاءت نصوص بإبطال القياس.
فمن ذلك قول الله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين
يدي الله ورسوله) * وقال تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * وقال
تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * وقال تعالى: * (وما كان
ربك نسيا) * وهذه نصوص مبطلة للقياس، وللقول في الدين بغير نص،
لان القياس على ما بينا قفو لما لا علم لهم به، وتقدم بين يدي
الله تعالى ورسوله (ص) واستدراك على الله تعالى ورسوله (ص) ما
لم يذكراه.
فإن قال أهل القياس: فلعل إنكاركم للقياس قول بغير علم، وقفو
لما لا علم لكم به، وتقدم بين يدي الله ورسوله.
قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: نحن نريكم إنكارنا للقياس أنه
قول بعلم وبنص وبيقين، وذلك أن الله عزوجل قال: * (والله
أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) * فصح يقينا لا شك فيه
أن الناس خرجوا إلى الدنيا لا يعلمون شيئا أصلا بنص كلام الله
عزوجل.
وقال تعالى: * (كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا
ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)
* فصح يقينا أن الله أرسل محمدا رسوله (ص) إلينا ليعلمنا ما لم
نعلم.
فصح ضرورة أن ما علمنا الرسول (ص) من أمور الدين فهو الحق، وما
لم يعلمنا منها فهو الباطل،
وحرام القول به وقال تعالى يعني به إبليس اللعين: * (إنما
يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *
وقال تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن
والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به
سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
فصح بنص القرآن أننا خرجنا إلى الدنيا لا نعلم شيئا ثم حرم
علينا القول على الله تعالى بما لا نعلم، وأخبرنا تعالى أن
إبليس يأمرنا بأن نقول على الله ما لا نعلم، فقد صح بهذه
النصوص، ضرورة أن القول بقياس وبغير القياس، كمن أثبت العنقاء
والغول والكيميا وكقول الروافض في الامام، وكقول من قال
بالالهام
(8/1055)
وكل هذا، فالقول به على الله تعالى في
الدين حرام.
مقرون بالشرك أمر من أمر إبليس.
إلا ما علمنا رسول الله (ص).
فهو الحق الذي نقوله على الله تعالى.
ولا يحل لنا أن نقول عليه غيره، فإذ لم يأمرنا عليه السلام
بالقياس فهو حرام من أمر الشيطان بلا شك، وقد بينا فيما خلا،
كل ما شغبوا مما أرادوا التمويه به فيه بالحديث فحرم القول
بالقياس البتة.
وبهذا بطل كل قول بلا برهان على صحته، حتى لو لم يقيم برهان
بإبطاله، فلو لم يكن لنا برهان على إبطال القياس لكان عدم
البرهان على إثباته برهانا في إبطاله، لان الفرض علينا ألا
نوجب في الدين شيئا إلا ببرهان، وإذ ذلك كذلك فالفرض علينا أن
نبطل كل قول قيل في الدين، حتى يقوم برهان بصحته، وهذا برهان
ضروري لا محيد عنه، وبالله تعالى التوفيق.
وقد اعترض بعضهم في قول الله تعالى * (اليوم أكملت لكم دينكم)
* بما روي عن رسول الله (ص) يوم الخميس قبل موته (ص) بأربعة
أيام: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعدي وبما روي
عن عائشة رضي الله
عنها قولها: لم يكن الوحي قط أكثر منه قبيل موت النبي (ص)
فقالوا: هذه أشياء زائدة على ما كان حين قوله تعالى في حجة
الوداع: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *.
واعترض آخرون من أهل الجهل على الحديث المذكور بالآية
المذكورة، وصوبوا فعل عمر وقوله في ذلك اليوم.
قال أبو محمد: وهذان الاعتراضان من هاتين الطائفتين لا يشبهان
اعتراض المسلمين، وإنما يشبهان اعتراض أهل الكفر والالحاد،
وبعيد عندنا أن يعترض بهما مسلم صحيح الباطن، لان الطائفة
الاولى مكذبة لله عزوجل في قوله إنه أكمل ديننا، مدعية أنه
كانت هنالك أشياء لم تكمل، والطائفة الثانية مجهلة لرسول الله
(ص) مدعية عليه الكذب في أمر الكتاب الذي أراد أن يكتبه، أو
التخطيط في كلامه، وأن قول عمر أصوب من قول رسول الله (ص) وكلا
هذين القولين كفر مجرد.
وكل هذه النصوص حق لا تعارض بين شئ منها بوجه من الوجوه، لان
(8/1056)
الآية المذكورة نزلت يوم عرفة في حجة
الوداع قبل موته (ص) بثلاثة أشهر، وحتى لو نزلت بعد ذلك شرائع
لما كان نزولها معارضا للآية المذكورة، لان الدين في كل وقت
تام كامل، ولله تعالى أن يمحو من الدين ما يشاء، وأن يزيد فيه،
وأن يثبت وليس ذلك لغيره، بل قد صح أمر النبي (ص) قبيل موته
بساعة بإخراج الكفار من جزيرة العرب، وألا يبقى فيها دينان،
ولمن يكن هذا الشرع ورد قبل ذلك.
ولو ورد لما أقرهم رسول الله (ص)، وإنما غرضنا من هذه الآية أن
الله تعالى تولى إكمال الدين، وما أكمله الله تعالى فليس لاحد
أن يزيد فيه رأيا ولا قياسا لم يزدهما الله تعالى في الدين،
وهذا بين.
وبالله تعالى التوفيق.
وأما أمر الكتاب الذي أراد رسول الله (ص) أن يكتبه يوم الخميس
قبل وفاته (ص) بأربعة أيام، فإنما كان في النص على أبي بكر رضي
الله عنه، ولقد وهل عمر وكل من ساعده على ذلك، وكان ذلك القول
منهم خطأ عظيما، ولكنهم الخير أرادوا، فهم معذورون مأجورون،
وإن كانوا قد عوقبوا على ذلك بأمر رسول الله (ص) إياهم بالخروج
عنه، وإنكاره عليهم التنازع بحضرته.
ولقد ولد الامتناع من ذلك الكتاب من فرقة الانصار يوم السقيفة
ما كاد يكون فيه بوار الاسلام، لولا أن الله تداركنا بمنه،
وولد من اختلاف الشيعة وخروج طوائف منهم عن الاسلام، أمرا يشجي
نفوس أهل الاسلام، فلو كتب ذلك الكتاب لانقطع الاختلاف في
الامامة، ولما ضل أحد فيها، لكن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وقد أبى ربك إلا ما ترى.
وهذه زلة عالم، نعني قول عمر رضي الله عنه يومئذ، قد حذرنا من
مثلها، وعلى كل حال فنحن نثبت ونقطع ونوقن، ونشهد بشهادة الله
تعالى، ونبرأ من كل من لم يشهد، بأن الذي أراد (ص) أن يمله في
ذلك اليوم، في الكتاب الذي أراد أن يكتبه، لو كان شرعا زائدا
من تحريم شئ لم يتقدم تحريمه، أو تحليل شئ تقدم تحريمه، أو
إيجاب شئ لم يتقدم إيجابه، إو إسقاط إيجاب شئ تقدم إيجابه، لما
ترك (ص) بيانه ولا كتابه لقول عمر، ولا لقول أحد
(8/1057)
من الناس.
فصح ضرورة أنه فيما قد علم بوحي الله تعالى إليه أنه سيتم من
ولاية أبي بكر، وذلك بين قوله (ص) في حديث عائشة الذي قد ذكرنا
قبل: ويأبى الله والمؤمنون وروي أيضا والنبيون إلا أبا بكر
فوضح البرهان بصحة قولنا يقينا.
والحمد لله كثيرا.
وأما تتابع الوحي فإنما كان بلا شك تأكيدا في التزام ما نزل من
القرآن قبل ذلك.
ومثل ما روي من: * (إذا جاء نصر الله والفتح ئ ورأيت الناس
يدخلون في دين الله أفواجا) * ونزول: * (واتقوا يوما ترجعون
فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * وآية
الكلالة التي قد تقدم حكمها.
فصح أنه لا تعارض بين شئ من هذه النصوص.
والحمد لله رب العالمين.
فإن قالوا: فأرونا كل نازلة تنزل على ما تقولون في نص القرآن
والسنة.
قلنا لهم: نعم، وبالله تعالى التوفيق، وهذا واجب علينا وأول
ذلك: أن نقرر ما الديانة ؟ وهي أن نقول: إن أحكام الشريعة كلها
- أولها عن آخرها - تنقسم ثلاثة أقسام لا رابع لها: وهي فرض لا
بد من اعتقاده، والعمل به مع ذلك، وحرام لا بد من اجتنابه قولا
وعقدا وعملا، وحلال مباح فعله ومباح تركه.
وأما المكروه والمندب إليه فداخلان تحت المباح على ما بينا
قبل، لان المكروه لا يأثم فاعله، ولو أثم لكان حراما، ولكن
يؤجر فاعله.
والمندوب إليه لا يأثم تاركه، ولو أثم لكان فرضا، ولكن يؤجر
فاعله.
فهذه أقسام الشريعة بإجماع من كل مسلم، وبضرورة وجود العقل في
القسمة الصحيحة، إلى ورود السمع بها، فإذ لا شك في هذا، فقد
قال الله عزوجل: * (خلق لكم ما في الارض جميعا) * وقال تعالى:
* (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) * فصح
بهاتين الآيتين أن كل شئ في الارض، وكمل عمل فمباح حلال، إلا
ما فصل الله تعالى لنا تحريمه اسمه نصا عليه في القرآن، وكلام
النبي (ص) المبلغ عن ربه عزوجل والمبين لما أنزل عليه.
وفي إجماع الامة كلها المنصوص على اتباعه في القرآن، وهو راجع
إلى النص على ما بينا قبل، فإن وجدنا شيئا حرمه النص بالنهي
عنه أو الاجماع باسمه حرمناه، وإن لم نجد شيئا منصوصا على
(8/1058)
النهي عنه باسمه ولا مجمعا عليه فهو حلال
بنص الآية الاولى.
وقد أكد الله تعالى هذا في غير ما موضع من كتابه فقال عزوجل: *
(يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم ولا
تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) * فبين الله تعالى أن كل شئ
حلال لنا إلا ما نص على تحريمه، ونهانا عن اعتداء ما أمرنا
تعالى به، فمن حرم شيئا لم ينص الله تعالى ولا رسوله (ص) على
تحريمه والنهي عنه، ولا أجمع على تحريمه، فقد اعتدى وعصى الله
تعالى، ثم زادنا تعالى بيانا فقال: * (هلم شهداءكم الذين
يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم) * فصح بنص
هذه الآية صحة لا مرية فيها أن كل ما لم يأت النهي فيه باسمه
من عند الله تعالى على لسان رسوله (ص) فهو حلال لا يحل لاحد أن
يشهد بتحريمه.
وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * وقال تعالى: *
(يأيها الذين آمنوا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن
تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور
حليم ئ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) * فبين
الله تعالى أن ما أمرنا به في القرآن أو على لسان نبيه (ص) فهو
واجب طاعته، وضد الطاعة المعصية فمن لم يطع فقد عصى، ومن لم
يفعل ما أمر به فلم يطع، ونهانا عن أن نسأل عن شئ جملة البتة
ولم يدعنا في لبس أن يقول قائل: إن هذه الآية نزلت في السؤال
عن مثل ما سأل عنه عبد الله بن حذافة: من أبى ؟ فأكذب الله
ظنونهم لكن قال الله تعالى: * (قد سألها قوم من قبلكم ثم
أصبحوا بها كافرين) * فصح أن ذلك في الشرائع التي يكفر في
جحدها، ويضل من تركها، فصح أن ما لم يأت به نص أو إجماع فليس
واجبا علينا.
فأي شئ بقي بعد هذا ؟ وهل في العالم نازلة تخرج من أن يقول
قائل: هذا واجب ؟ فنقول له: إن أتيت على إيجابه بنص من القرآن
أو بكلام صحيح عن رسول الله (ص) أو إجماع، فسمعا وطاعة، وهو
واجب، ومن أبى عن إيجابه حينئذ فهو كافر، وإن لم يأت على
إيجابه بنص ولا إجماع، فإنه كاذب وذلك القول ليس بواجب أو يقول
قال: هذا حرام، فنقول له: إن أتيت
(8/1059)
على النهي عنه بنص أو إجماع فهو حرام،
وسمعا وطاعة، ومن أراد استباحته حينئذ فهو آثم كاذب عاص، وإن
تأت على النهي عنه بنص ولا إجماع فأنت كاذب، وذلك الشئ ليس
حراما.
فهل في العالم حكم يخرج عن هذا ؟ فصح أن النص مستوعب لكل حكم
يقع أو وقع إلى يوم القيامة، ولا سبيل إلى نازلة تخرج عن هذه
الاحكام الثلاثة، وبالله تعالى التوفيق.
ثم قد جاءت الاحاديث عن رسول الله (ص) بمثل ما جاءت به هذه
الآيات، كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمذاني، ثنا أبو
إسحاق إبراهيم بن أحمد البلخي، ثنا محمد بن يوسف، ثنا محمد
باسماعيل، ثنا إسماعيل هو ابن أبي أويس، ثنا مالك ابن أنس، عن
أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) قال: دعوني
ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على
أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم.
قال أبو محمد: فهذا حديث جامع لكل ما ذكرنا، بين فيه (ص) أنه
إذا نهى عن شئ فواجب أن يجتنب، وأنه إذا أمر بأمر فواجب أن
يؤتى منه حيث بلغت الاستطاعة، وأن ما لم ينه عنه، ولا أمر به،
فواجب ألا يبحث عنه في حياته عليه السلام، وإذ هذه صفته ففرض
على كل مسلم ألا يحرمه ولا يوجبه، وإذا لم يكن حراما، ولا
واجبا، فهو مباح ضرورة، إذ لا قسم إلا هذه الاقسام
الثلاثة، فإذا بطل منها اثنان وجب الثالث، ولا بد ضرورة، وهذه
قضية النص، وقضية السمع، وقضية العقل التي لا يفهم العقل
غيرها، إلا الضلال والكهانة والسخافة التي يدعيها أصحاب القياس
أنهم يفهمون من الوطئ الاكل ومن الثمر الجلوز ومن قطع السرقة
مقدار الصداق، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم نعكس عليهم سؤالهم فنقول لهم: إذا جوزتم وجود نوازل لا حكم
لها في قرآن ولا سنة، فقولوا لنا: ماذا تصنعون فيها ؟ فهذا
لازم لكم وليس يلزمنا، لان هذا عندنا باطل معدوم لا سبيل إلى
وجوده أبدا، فأخبرونا إذا وجدتم تلك النوازل أتتركون الحكم
فيها ؟ فليس هذا قولكم، أم تحكمون فيها ؟ ولا سبيل
(8/1060)
إلى قسم ثالث، فإن حكمتم فيها فأخبرونا عن
حكمكم فيها أبحكم الله تعالى وحكم رسوله (ص) حكمتم فيها ؟ فإن
قلتم: نعم، قلنا: قد تناقضتم لانكم قلتم ليس فيها نص بحكم الله
تعالى ولا لرسوله (ص)، وقد كذب آخر قولكم أوله، وإن قلتم: بغير
حكم الله تعالى أو بغير حكم رسوله (ص)، نحن برآء إلى الله
تعالى من كل حكم في الدين لم يحكم به الله عزوجل، وفي هذا
كفاية لمن عقل فوضح لنا وبطل ما سواه، والحمد لله رب العالمين.
وبهذا جاءت الاحاديث كلها مؤكدة متناصرة، كما ثنا حمام بن
أحمد، ثنا عبد الله ابن إبراهيم، ثنا أبو زيد المروزي، ثنا
الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن زيد المقرئ، ثنا سعيد،
ثنا عقل، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه أن
النبي (ص) قال: إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم
فحرم من أجل مسألته فنص (ص) كما تسمع أن كل ما لم يأت به تحريم
من الله تعالى فهو غير محرم.
وهكذا أخبر (ص) في الواجب أيضا، كما ثنا عبد الله بن يوسف بن
نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن
محمد الفقيه الاشقر، ثنا أحمد بن علي القلانسي، ثنا مسلم بن
الحجاج، حدثني زهير بن حرب، ثنا يزيد بن هارون، ثنا الربيع بن
مسلم القرشي، عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول
الله (ص) فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا.
فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال
رسول الله (ص): لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني
ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على
أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم
عن شئ فدعوه.
قال أبو محمد: فنص رسول الله (ص) على أن ما لم يوجبه فهو غير
واجب، وما أوجبه بأمره فواجب ما أستطيع منه، وأن ما لم يحرمه
فهو حلال، وأن ما نهى عنه فهو حرام، فأين للقياس مدخل ؟
والنصوص قد استوعبت كل ما اختلف الناس فيه، وكل نازلة تنزل إلى
يوم القيامة باسمها وبالله تعالى التوفيق.
(8/1061)
وقال تعالى: * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من
الدين ما لم يأذن به الله) *.
قال أبو محمد: فصح بالنص أن كل ما لم ينص عليه، فهو شئ لم يأذن
به الله تعالى، وهذه صفة القياس، وهذا حرام.
وقال تعالى: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه
من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من
عند الله) *.
قال أبو محمد: فكل ما ليس في القرآن والسنة منصوصا باسمه،
واجبا مأمورا به أو منهيا عنه، فمن أوجبه أو جرمه، أو خالف لما
جاء به النص، فهو من عند غير الله تعالى، والقياس غير منصوص
على الامر به فيهما، فهو من عند غير
الله تعالى، وما كان من عند غير الله تعالى فهو باطل.
وقال تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * وقد علمنا
ضرورة أن الله تعالى إذا حرم بالنص شيئا فحرم إنسان شيئا غير
ذلك، قياسا على ما حرم الله تعالى، أو أحل بعض ما حرم الله
قياسا، أو أوجب غير ما أوجب الله تعالى قياسا، أو أسقط بعض ما
أوجب الله تعالى قياسا، فقد تعدى حدود الله تعالى، فهو ظالم
بشهادة الله تعالى عليه بذلك.
وقد قال تعالى: * (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) *.
قال أبو محمد: وهذه كالتي قبلها سواء بسواء.
وقال تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله) *.
قال أبو محمد: ومن استدرك برأيه وقياسه على ربه تعالى شيئا من
الحرام والواجب لم يأت بتحريمها ولا إيجابها نص فقد دخل تحت
هذه العظيمة المذكورة في هذه الآية، ونحمد الله تعالى على
توفيقه، لا إله إلا هو.
وقال تعالى يصف كلامه: * (تبيانا لكل شئ) * وقال تعالى: *
(فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) * وقال تعالى: *
(لتبين للناس ما نزل إليهم) *.
قال أبو محمد: فنص الله تعالى على أنه لم يكل بيان الشريعة إلى
أحد من الناس، ولا إلى رأي ولا إلى قياس، لكن إلى نص القرآن،
وإلى رسوله (ص) فقط، وما عداهما فضلال وباطل ومحال.
وقال تعالى: * (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن
افترى على الله كذبا
(8/1062)
ليضل الناس بغير علم) *.
قال أبو محمد: فصح أن كل ما لم يأتنا به وصية من عند الله
عزوجل فهو افتراء على الله كذب، وناسبه إلى الله تعالى ظالم،
ولم تأتنا وصية قط من قبله تعالى بالحكم بالقياس، فهو افتراء
وباطل، وكذب، بل جاءتنا وصاياه
عزوجل بألا نتعدى كلامه وكلام رسوله (ص)، وألا نحرم ولا نوجب
إلا ما أوجبا وحرما ونهيا فقط، فبطل كل ما عدا ذلك، والقياس
مما عدا ذلك فهو باطل.
وقال تعالى: * (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم)
* فأوجب تعالى أن يكتفى بتلاوة الكتاب، وهذا هو الاخذ بظاهره،
وإبطال كل تأويل لم يأت به نص أو إجماع، وألا نطلب غير ما
يقتضيه لفظ القرآن فقط.
وقال تعالى: * (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) * وقال
تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر) * فلم يبح الله تعالى عند التنازع
والاختلاف أن يتحاكم أو يرد إلا إلى القرآن وكلام الرسول (ص)
فقط، لا إلى أحد دون النبي (ص)، ولا إلى رأي ولا قياس، فبطل كل
هذا بطلانا متيقنا، والحمد لله رب العالمين على توفيقه، هذا مع
شدة شرط الله تعالى بقوله: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر) * فلقد يجب على كل مسلم قامت عليه الحجة أن يهاب لحقوق
هذه الصفة به، وفرض عليه أن لا يقتدي بمن سلف ممن تأول فخطأ،
فليس من قامت عليه الحجة كمن لا ندري أقامت عليه الحجة أم لم
تقم ؟ إلا أننا نحسن الظن بهم، كما نحسنه بسائر المؤمنين والله
أعلم بحقيقة أمر كل أحد.
وقال تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال
وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) * فحرم تعالى الحكم في الشئ
من الدين بتحريم أو تحليل، وسمى من فعل ذلك كاذبا، وفعله كذبا
إلا أن يحرمه الله أو يحلله الله في النص أو الاجماع، وقال
تعالى: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما
وحلالا قل ء آلله أذن لكم أم على الله تفترون) * فسمى تعالى من
حرم بغير إذن من الله تعالى في تحريم ذلك الشئ، أو حلل بغير
إذن من الله في تحليله: مفتريا،
وهذه صفة القائسين المحرمين المحللين الموجبين بالقياس بغير
إذن من الله تعالى.
(8/1063)
وقال تعالى: * (فلا تضربوا لله الامثال إن
الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * فنص تعالى على ألا تضرب له
الامثال، وهذا نص جلي على إبطال القياس وتحريمه، لان القياس
ضرب أمثال للقرآن، وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه النص، ومن مثل
ما لم ينص الله تعالى على تحريمه أو إيجابه بما حرمه الله
تعالى وأوجبه، فقد ضرب له الامثال، وواقع المعصية، نعوذ بالله
من ذلك، ونص تعالى على أنه يعلم ونحن لا نعلم، فلو علم تعالى
أن الذي لم ينص عليه مثل الذي نص عليه لاعلمنا بذلك وما أغفله
وما ضيعه، قال تعالى: * (وما كان ربك نسيا) * وقال تعالى: *
(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من
يشآء ويهدي من يشآء) * فصح أن العربية بها أرسل الله تعالى
رسوله (ص)، فبهذا بين لنا، وقال تعالى: * (وما ينطق عن الهوى
إن هو إلا وحي يوحى) * فكل ما بينه رسول الله (ص) فعن الله
تعالى بينه، وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه
فيها وأن البر لا يسمى تبنا، وأن الملح لا يسمى زبيبا، وأن
التمر لا يسمى أرزا، وأن الشعير لا يسمى بلوطا، ولا الواطئ
آكلا، ولا الآكل واطئا، ولا القاتل مظاهرا، ولا المظاهر قاتلا،
ولا المعرض قاذفا.
فإذ قد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره، ولم يبعث
محمدا (ص) بالعربية التي ندريها.
فقد علمنا يقينا أنه (ص) إذا نص في القرآن أو كلامه على اسم ما
بحكم ما، فواجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك
الاسم فقط، ولا نتعدى به الموضع الذي وضعه رسول الله (ص) فيه،
وألا يخرج عن ذلك الحكم شئ مما يقتضيه الاسم ويقع عليه
فالزيادة على ذلك في الدين وهو القياس، والنقص منه نقص من
الدين، وهو التخصيص، وكل ذلك حرام بالنصوص التي ذكرنا، فسبحان
من خص
أصحاب القياس بكلا الامرين فمرة يزيدون إلى النص ما ليس فيه،
ويقولون هذا قياس، ومرة يخرجون من النص بعض ما يقتضيه ويقولون:
هذا خصوص، ومرة يتركونه كله ويقولون: ليس عليه العمل، والعبرة
معترضة عليه كما فعل الحنفيون في حديث المصراة والاقراع بين
الاعبد، وكما فعل المالكيون في حديث تمام الصوم لمن أكل ناسيا،
وحديث الحج على المريض البائس والميت
(8/1064)
وغير ذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال
الله تعالى: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مآ أنزل
الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن) *.
قال أبو محمد: والقياس اسم في الدين لم يأذن به الله تعالى،
ولا أنزل به سلطانا، وهو ظن منهم بلا شك، لتجاذبهم علل
القياسات بينهم، كتعليلهم الربا بالاكل، وقال آخرون منهم:
بالكيل والوزن، وقال آخرون: بالادخار، وهذه كلها ظنون فاسدة،
وتخاليط وأسماء لم يأذن تعالى بها، ولا أنزل بها سلطانا.
وقال تعالى: * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على
الله إلا الحق *، وقال تعالى: * (ويحق الله الحق بكلماته) *
فنص تعالى على ألا يقال عليه إلا الحق، وأخبر تعالى أنه يحق
الحق بكلماته، فما لم يأتنا كلام الله تعالى بأنه حق من الدين
فهو باطل، لا حق.
وقال تعالى حكاية عن رسله صلى الله عليهم وسلم: * (إن نحن إلا
بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن
نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله) *.
قال أبو محمد: فنص الله تعالى عن الانبياء الصادقين أنه ليس
لهم أن يأتوا بسلطان إلا بإذن الله تعالى، والسلطان الحجة بلا
شك، فكل حجة لم يأذن الله تعالى بها في كلامه فهو باطل، ولم
يأذن قط تعالى في القياس فهو باطل.
وقال تعالى: * (ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم
وما جعل
أدعياءكم أبنائكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو
يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) * وقال تعالى: *
(إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول
وزورا) *.
فأنكر تعالى غاية الانكار أن يجعل أحد أمه غير التي ولدته، ولا
أن يجعل ابنه إلا ولده، وهو تعالى قد جعل أمهاتنا من لم تلدنا،
كنساء النبي (ص) واللواتي أرضعتنا، وجعل أبناءنا من لم تلده،
كنحن لنساء النبي (ص)، وكمن أرضعه نساءنا بألباننا.
فصح بالنص أن الشئ إذا حكم الله تعالى به فقد لزم دون تعليل،
وأن من أراد أن يحكم بمثل ذلك بما لا نص فيه فقد قال منكرا من
القول وزورا، وأنه
(8/1065)
ليس لاحد أن يقول بغير ما لم يقل الله
تعالى به.
وفي هذا كفاية لمن وجعلنا - نحن وهم - نساء النبي (ص) أمهاتنا
في التحريم كما جاء النص فقط.
ثم لم نقس على ذلك رؤيتهن كما نرى أمهاتنا، بل حرم ذلك علينا،
ولا قسنا إخوتهم وبنيهم على أخوال الولادة وإخوة الولادة.
بل حل لهم نكاح نساء المسلمين، وحل لرجال المسلمين نكاح
إخواتهن وبناتهن، فبطل حكم القياس يقينا وصح لزوم النص فقط،
وألا يتعدى أصلا.
وفي آية واحدة مما ذكرنا كفاية لمن اتقى الله عزوجل ونصح نفسه،
فكيف، وقد تظاهرت الآيات بإبطال ما يدعونه من القياس في دين
الله تعالى.
وكذلك أيضا جاءت الاحاديث الصحاح عن رسول الله (ص) بإبطال
القياس كما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح،
ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد ابن محمد، ثنا أحمد بن علي،
ثنا مسلم، ثنا ابن نمير، ثنا روح بن عبادة، ثنا شعبة، مسلم:
وحدثني زهير بن حرب، ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال: أخبرني
أبو بكر بن حفص عن سالم بن عمر قال: إن عمر رأى على رجل من آل
عطارد قباء من ديباج أو حرير، فقال لرسول الله (ص): لو اشتريته
فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له، فأهدي لرسول الله (ص) حلة
سيراء فأرسل بها إلي فقلت: أرسلت بها إلي وقد سمعتك قلت فيها
ما قلت ؟ قال: إنما بعثتها إليك لتستمتع بها.
وقال ابن نمير في حديثه: إنما بعثتها إليك لتنتفع بها، ولم
أبعث بها إليك لتلبسها.
وبالسند المذكور إلى مسلم قال: حدثنا شيبان بن فروخ، ثنا جرير
بن حازم، ثنا نافع عن ابن عمر قال: رأى عمر عطاردا اليمني يقيم
بالسوق حلة سيراء، فقال عمر: يا رسول الله، إني رأيت عطاردا
يقيم في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذ
قد مرا عليك ؟ فقال رسول الله (ص): إنما يلبس الحرير في الدنيا
من لا خلاق له في الآخرة فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله (ص)
بحلل سيراء، فبعث إلى عمر بحلة، وإلى ابن زيد بحلة، وأعطى علي
بن أبي طالب حلة، وقال: اشققها خمرا بين نسائك فذكر
(8/1066)
أمر عمر قال: وأما أسامة فراح في حلته،
فنظر إليه رسول الله (ص عرف أن رسول الله (ص) قد أنكر ما صنع،
فقال: يا رسول الله: ما تنظر إلي، فأنت بعثت بها إلي ؟ فقال:
إني لم أبعثها إليك لتلبسها، ولكن بعثت بها لتشققها خمرا بين
نسائك.
فأنكر رسول الله (ص) على عمر تسويته بين الملك والبيع
والانتفاع، وبين اللباس المنهي، وأنكر على أسامة تسويته بين
الملك واللباس أيضا، وكل واحد منهما قياس، فأحدهما حرم قياسا،
والآخر أحلى قياسا، فأنكر عليه السلام القياسين معا، وهذا هو
إبطال القياس نفسه.
ولا بد في هذين الحديثين من أحد مذهبين: إما أن يقول قائل: إن
النبي
(ص) إذ نهى عن لباس الحرير، ثم وهبهما حلل الحرير، أن يكون لبس
عليهما وهذا كفر من قائله، أو أنه (ص) بين عليهم المحرم من
الحرير وهو اللباس المنصوص عليه فقط، وبقي ما لم يذكر على أصل
الاباحة، فأخطأ رضي الله عنهما إذا قاسا، وهذا هو الحق الذي لا
يحل لاحد أن يعتقد غيره.
وبالله تعالى التوفيق.
حدثنا أحمد بن قاسم، ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، ثنا جدي
قاسم بن أصبغ، ثنا بكر بن حماد، نا حفص بن غياث، عن داود بن
أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله
(ص): إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها،
ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان لها -
رحمة لكم - فلا تبحثوا عنها.
كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله، نا أحمد بن عبد الله بن محمد
علي الباجي، ثنا الحسين بن إسماعيل، نا عبد الملك بن يحيى، نا
محمد بن إسماعيل، ثنا سنيد بن داود، نا محمد بن فضيل، عن داود
بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله
(ص): إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا
تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها.
وعفا عن أشياء - رحمة لكم لا عن نسيان - فلا تبحثوا عنها.
(8/1067)
حدثنا أحمد بن قاسم قال: نا أبي القاسم بن
محمد بن قاسم، قال: نا جدي قاسم بن أصبغ، نا محمد بن إسماعيل
الترمذي، نا نعيم بن حماد، نا عبد الله بن المبارك، ثنا عيسى
ابن يونس، عن جرير - هو ابن عثمان - عن عبد الرحمن بن جبير بن
نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الاشجعي قال: قال رسول الله
(ص): تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي
قوم يقيسون الامور برأيهم،
فيحلون الحرام ويحرمون الحلال.
قال أبو محمد: حريز بن عثمان ثقة، وقد روينا عنه أنه تبرأ مما
أنسب إليه من الانحراف، عن علي رضي الله عنه، ونعيم بن حماد قد
روى عن البخاري في الصحيح، وفي الاحاديث التي ذكرنا في هذا
الفصل، وفيما قبل هذا، من أمره عليه السلام بأن يتركوا ما
تركهم، وأن ينتهوا عما نهاهم، وأن يفعلوا ما أمرهم به ما
استطاعوا كفاية في إبطال القياس لمن نصح نفسه.
وقد قال بعض أصحاب القياس: إنما أنكر في هذه الاحاديث من يقيس
برأيه، وأما من يقيس على تشابه المنصوص فلم يذم.
قال أبو محمد: فقلنا لهم: من أين فرقتم هذا الفرق ؟ وهل
رددتموها على الدعوى المفتراة الكاذبة شيئا ؟ وقولكم هذا من
أشد المجاهرة بالباطل.
وقد وجدنا للصحابة فتاوى كثيرة بالرأي يتبرؤون فيها من خطأ، إن
كان إلى الله تعالى، ولا يوجدون شيئا منها دينا، ولا يقولون
إنه الحق، بل يذمون القول بالرأي في خلال ذلك، خوف أن يظن ظان
أنه منهم على سبيل الايجاب والقطع بأنه حق، فمن تعلق بالرأي
هكذا فله متعلق.
وأما القياس الذي ذكر هذا القائل على التعديل، واستخراج، علة
الشبه، فما نطق بذلك قط أحد من الصحابة، ولا قال به، فالذي فر
إليه أشد مما فر عنه.
وبالله تعالى التوفيق.
وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، وعمن بعدهم إبطال القياس
نصا.
كالذي ذكرنا عن أبي هريرة من قوله لابن عباس: إذ أتاك الحديث
عن رسول الله (ص) فلا تضرب له الامثال.
وهذا نص من أبي هريرة على إبطال القياس.
(8/1068)
حدثنا عبد الله بن يوسف نامي، نا أحمد بن
فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي،
نا مسلم بن الحجاج، نا أحمد بن عبد الله بن
يونس، ثنا زهير، ثنا منصور، عن هلال بن يساف، عن ربيع بن
عميلة، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله (ص): أحب الكلام
إلى الله عزوجل أربع فذكر الحديث وفي آخره: لا تسمين غلامك
يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح، فإنك تقول أثم هو ؟ فيقول
لا: إنما هن أربع، فلا تزيدوا علي.
قال أبو محمد: فهذا سمرة بن جندب لم يستجز القياس، وأخبر أنه
زيادة في السنة، ولم يستجز أن يقول: ومثل هذا يلزم في خيرة
وسعد وفرج، فتقول: أثم سعد أثم فرج، أثم خيرة ؟ فيقول: لا.
هذا وقد نص على السبب المانع من التسمية بالاسماء المذكورة
التي يسمون مثلها التي يكذبون في استخراجها علة يقيسون عليها،
فقد كان ينبغي، لو اتقوا الله عزوجل، أن يقولوا: إن التي نص
عليها رسول الله (ص) أولى أن يقاس عليها ما يشبهها لكن لم
يفعلوا ذلك، ولا فعل ذلك رسول الله (ص)، إذ خص هذه الاسماء،
ولا سمرة بعده، وهذا إبطال صحيح للقياس.
فإن قالوا: لعل هذا الكلام: إنما هن أربع، فلا تزيدون علي هو
من لفظ النبي (ص) قيل لهم: فذلك أشد عليهم وأبطل، لقولكم أن
يكون رسول الله (ص) نهى عن القياس والتعليل، وأمر بالاقتصار
على ما نص عليه فقط.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، نا محمد بن معاوية المرواني،
نا أحمد بن شعيب النسائي، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر،
وأبو داود الطيالسي، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد
القطان، وأبو الوليد الطيالسي، ومحمد بن أبي عدي قالوا: ثنا
شعبة قال: سمعت سليمان بن عبد الرحمن قال: سمعت عبيد بن فيروز
قال: قلت للبراء بن عازب: حدثني ما كره أن نهى عنه رسول الله
(ص) من الاضاحي، فقال هكذا بيده، ويده أقصر من يد رسول الله
(ص) أربع لا تجزئ في الاضاحي وذكر الحديث قال: فإني أكره أن
يكون نقص في القرن والاذن
قال: فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد.
وروينا نحو ذلك عن عتبة ابن عبد السلمي ألا يتعدى ما نهى عنه
رسول الله (ص).
(8/1069)
حدثنا أحمد بن عمر العذري، ثنا عبد الله بن
حسين بن عقال الفريسي، نا إبراهيم ابن محمد الدينوري، نا محمد
بن أحمد بن الجهم، نا أحمد بن الهيثم، نا محمد بن شريك عن عمرو
بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية
يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله نبيه (ص) وأنزل
كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو
حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وذكر الحديث.
وقال محمد بن أحمد بن الجهم: ثنا أحمد بن الهيثم، ثنا سليمان
بن حرب، ثنا حماد ابن زيد، نا المعلى بن زياد، عن الحسن قال:
بينما عمر بن الخطاب يمشي في بعض طرق المدينة، إذ وطئ رجل من
القوم عقبه فقطع نعله، فأهوى له ضربة.
فقال: يا أمير المؤمنين، لطمتني وظلمتني، لا والله ما هذا
أردت، فألقى إليه الدرة.
فقال: دونك فاقتص، فقال بعضهم: اغفرها لامير المؤمنين، فقال:
لا والله ما أريد مغفرتها، لقد كتبت وحفظت، ولكن إن شئت دللتك
على خير من ذلك، * (فمن تصدق به فهو كفارة له) * قال: فإني قد
تصدقت، فجاء عمر رقيق فأعطاه خادما وذكر الحديث.
قال أبو محمد: فهذا عمر لم يستجز قياس المغفرة على الصدقة،
والعلة عند القائسين واحدة، ولا أرى أن يفارق ظاهر النص.
حدثنا يوسف بن عبد الله النمري، نا عبد الوارث بن جبرون، نا
قاسم بن أصبغ، ثنا أبو بكر بن أبي خيثمة، نا أبي - هو زهير بن
حرب - نا جرير، عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد: أن عمر بن الخطاب
نهى عن المكايلة، قال مجاهد:
يعني المقايسة.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا إسماعيل بن إسحاق البصري، ثنا
عيسى بن حبيب، نا عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقرئ، نا
جدي محمد ابن عبد الله بن يزيد، نا سفيان بن عيينة، عن خلف بن
حوشب، عن سلمة بن كهيل قال: قال عمر بن الخطاب: وقد وضحت
الامور، وسنت السنن، ولم يترك لاحد متكلم إلا أن يضل عبد عن
عمد.
(8/1070)
حدثنا ابن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا
قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار،
نا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال
بن سبرة: أن رجلا وامرأته أتيا ابن مسعود في تحريم فقال: إن
الله تعالى بين فمن أتى الامر من قبل وجهه فقد بين له، ومن
خالف فوالله ما نطيق خلافه، وربما قال: خلافكم.
قال أبو محمد: فهذا ابن مسعود يجعل كل ما ليس في النص خلافا
لله تعالى، ويخبر أن البيان قد تم، وهذا إبطال القياس.
أخبرنا المهلب التميمي، نا بن مناس، نا محمد بن مسرور
القيرواني، أنا يونس بن عبد الاعلى، نا عبد الله بن وهب قال:
سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن المجالد بن سعيد عن الشعبي، عن
مسروق، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ليس عام إلا والذي بعده
شر منه لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا
أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم
يقيسون الامور برأيهم فينهدم الاسلام وينثلم.
وكتب إلي النمري أحمد بن فتح الرسان، نا أحمد بن الحسن بن عتبة
الرازي، ثنا عبيدالله بن محمد بن عبد العزيز العمري، نا الزبير
بن بكار، حدثني سعيد بن داود ابن أبي زببر عن مالك بن أنس، عن
داود بن الحصين، عن طاوس، عن عبد الله بن
عمر قال: العلم ثلاثة أشياء: كتاب ناطق وسنة ماضية، ولا أدري.
حدثنا أحمد بن عمر، حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، حدثنا
أحمد بن عبدان بن محمد الحافظ النيسابوري بالاهواز، نا محمد بن
سهل بن عبد الله المقرئ نزيل فسا، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري
مؤلف الصحيح قال: قال لي صدقة، عن الفضل ابن موسى، عن ابن
عقبة، عن الضحاك، عن جابر بن زيد قال: لقيني ابن عمر قال: يا
جابر إنك من فقهاء البصرة، وستستفتى، فلا تفتين إلا بكتاب ناطق
أو سنة ماضية.
قال أبو محمد: وهذا نص المنع من القياس والرأي والتقليد.
حدثنا عبد الرحمن بن سلمة الكتاني، نا أحمد بن خليل، نا خالد
ابن سعد
(8/1071)
، نا طاهر بن عبد العزيز، نا أبو القاسم
مسعدة العطار بمكة - وكان طاهر وأحمد بن خالد يحسنان الثناء
عليه - قال: أنا الخزامي - يعني إبراهيم بن المنذر، حدثنا طاهر
بن عصام - كان طاهرا وكان ثقة - عن مالك بن أنس، عن نافع، عن
ابن عمر أنه قال: العلم ثلاثة: كتاب الله الناطق، وسنة ماضية،
ولا أدري.
حدثنا محمد بن سعيد، نا أحمد بن عبد البصير، نا قاسم بن أصبغ،
نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا المثنى، نا عبد الرحمن بن
مهدي، نا سفيان الثوري، عن سليمان الشيباني - هو أبو إسحاق -
سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: نهى رسول الله (ص) عن نبيذ
الجر الاخضر، قلت: فالابيض ؟ قال: لا أدري.
قال أبو محمد: فلو جاز القياس عند ابن أبي أوفى لقال: ما الفرق
بين الاخضر والابيض كما يقول هؤلاء: الفرق بين الزيت والسمن ؟
وبين الفأر الميت والسنور الميت، وبين الارز والبر، وسائر ما
قاسوا فيه لكنه وقف عند النص، وهذا الذي لا يجوز غيره.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، نا إبراهيم بن أحمد، نا
الفريري، حدثنا البخاري، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أنا
شعيب - هو ابن حمرة - عن الزهري، قال: كان محمد بن جبير بن
مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش، فقام فحمد الله
وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنه بلغني أن رجالا
منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله تعالى، ولا تؤثر عن
رسول الله (ص)، فأولئك جهالكم، وذكر باقي الكلام والخبر.
حدثنا عبد الله بن ربيع بن محمد بن عثمان، نا أحمد بن خالد، نا
علي بن عبد العزيز، نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة،
أنا أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن زيد بن عميرة، عن معاذ
بن جبل قال: تكون فتن يكثر فيها الملل، ويفتح فيها القرآن حتى
يقرؤه الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والمؤمن والمنافق،
فيقرؤه الرجل فلا يتبع، فيقول: والله لاقرأنه علانية، فيقرؤه
علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا، ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله
ولا من سنة رسوله (ص) فإياكم وإياه، فإنها بدعة ضلالة، قالها
ثلاث مرات.
(8/1072)
فهؤلاء عمر وابن عمر، وابن مسعود وأبو
هريرة، ومعاذ بن جبل، وسمرة بن جندب، وابن عباس والبراء بن
عازب، وعبد الله بن أبي أوفى ومعاوية، كلهم يبطل القياس، وما
ليس موجودا في القرآن، ولا في السنة عن رسول الله (ص)، وهذه
صفة الرأي والقياس والتعليل، وقد قدمنا أنه لا يصح خلاف هذا عن
أحد من الصحابة بوجه من الوجوه، وبالله تعالى التوفيق.
وأما التابعون ومن بعدهم، فحدثنا يونس بن عبد الله القاضي، نا
يحيى بن مالك ابن عائذ، نا هشام بن محمد بن قرة المعروف بابن
أبي حنيفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، نا ابن
غليب، حدثني عمران بن أبي عمران، ثنا يحيى بن
سليمان الطائفي، حدثني داود بن أبي هند قال: سمعت محمد ين
سيرين يقول: القياس شؤم، وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عبدت
الشمس والقمر بالقياس.
حدثنا المهلب، نا ابن مناس، نا محمد بن مسرور القيرواني، نا
يونس بن عبد الاعلى، نا ابن وهب قال: أخبرني مسلمة بن علي أن
شريحا الكندي، هو القاضي، قال: إن السنة سبقت قياسكم.
كتب إلى النمري قال: قال أبو ذر الهروي: نا أبو نعيم أحمد بن
عبد الله الاصبهاني بالري، نا عبد الرحمن بن أبي حاتم، نا محمد
بن إسماعيل الاحمسي، نا وهب ابن إسماعيل، عن داود الاودي قال:
قال لي الشعبي: احفظ عني ثلاثا لهما شأن: إذا سئلت عن مسألة
فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك: أرأيت فإن الله تعالى قال في
كتابه: * (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) * حتى فرغ من الآية.
والثانية: إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشئ، فربما حرمت
حلالا أو حللت حراما.
والثالثة: إذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم، وأنا شريكك.
كتب إلى يوسف بن عبد الله: نا خلف بن قاسم، نا ابن شعبان، نا
محمد بن محمد، نا أبو همام، نا الاشجعي، عن جابر، عن الشعبي،
عن مسروق قال: لا أقيس شيئا بشئ.
قلت: لم ؟ قال: أخاف أن تزل رجلي.
كتب إلى النمري: نا عبد الرحمن بن يحيى بن محمد العطار، نا علي
بن محمد بن مسرور، حدثنا أحمد، نا سحنون، نا ابن وهب، أخبرني
يحيى بن أيوب، عن عيسى بن أبي عيسى، عن الشعبي أنه سمعه يقول:
إياكم والمقايسة، فوالذي نفسي بيده لئن
(8/1073)
أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام، ولتحرمن
الحلال، ولكن ما بلغكم عن أصحاب رسول الله (ص) فاحفظوه.
حدثنا يونس بن عبد الله القاضي، نا يحيى بن مالك بن عائذ، نا
أبو عبد الله ابن
أبى حنيفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا يوسف بن يزيد
القراطيسي، ثنا سعيد بن منصور، نا جرير بن عبد الحميد، عن
المغيرة بن مقسم، عن الشعبي قال: السنة لم توضع بالمقاييس.
وحدثنا أيضا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي، نا محمد بن
أحمد بن يحيى، نا ابن مفرج، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس
العبقسي، نا محمد بن علي بن زيد الصائغ، ثنا سعيد بن منصور، نا
جرير - هو عبد الحميد - عن المغيرة، عن الشعبي قال: السنة لم
توضع بالمقاييس.
حدثنا يونس بن عبد الله القاضي، نا أحمد بن عبد الله بن عبد
الرحيم بن العنان - ثقة - ثنا أحمد بن خالد، نا أحمد بن عبد
السلام الخشني محمد بن بشار، ثنا يحيى بن سعيد القطان نا صالح
بن مسلم قال: قال لي عامر الشعبي يوما وهو آخذ بيدي: إنما
هلكتم حين تركتم الآثار، وأخذتم بالمقاييس، لقد بغض إلي هذا
المسجد - فلهو أبغض إلي من كناسة داري، هؤلاء الصفافقة.
كتب إلي النمري: نا محمد بن خليفة - شيخ فاضل جدا واسع الرواية
- ثنا محمد بن الحسين الآجري، ثنا أحمد بن سهل الاشناني، نا
الحسين بن علي بن الاسود، نا يحيى بن آدم، نا المبارك، عن عبد
الملك بن أبي سليمان، عن عطاء ابن أبي رباح، في قول الله
تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * قال:
كتاب الله تعالى وإلى سنة رسول الله (ص).
كتب إلي النمري: أخبرنا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ،
ثنا ابن وضاح، ثنا موسى بن معاوية، ثنا وكيع، ثنا جعفر بن
برقان، عن ميمون بن مهران في قول الله تعالى: * (فردوه إلى
الله والرسول) * قال: إلى الله، إلى كتاب الله تعالى، وإلى
الرسول ما دام حيا، فإذا قبض قال: سنته.
(8/1074)
حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث، نا محمد
بن الحسن الزبيدي، نا أحمد - هو
ابن سعيد بن حزم الصدفي - نا أحمد - هو ابن خالد - نا مروان -
هو ابن عبد الملك الفحار - نا العباس بن الفرج الرياشي، عن
الاصمعي: أنه قيل له: إن الخليل بن أحمد يبطل القياس، فقال
الاصمعي: أخذ هذا عن إياس بن معاوية.
حدثني أبو العباس العذري، نا الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن
فراس، أنا عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أبي
سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي، نا علي
بن عبد العزيز، نا أبو الوليد القرضي، نا محمد بن عبد الله بن
بكار القرشي، نا سليمان بن جعفر، نا محمد بن يحيى الربعي، عن
ابن شبرمة، أن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن قال لابي حنيفة:
اتق الله ولا تقس، فإنا نقف غدا نحن ومن خالفنا بين يدي الله
تعالى، فنقول، قال رسول الله (ص)، قال الله تبارك وتعالى،
وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا، فيفعل الله بنا وبكم ما
يشاء.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عبد البصير، نا قاسم
بن أصبغ، ثنا ابن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا
عبد الرحمن بن مهدي، نا سفيان الثوري، عن هارون بن إبراهيم
البربري قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال أبي:
الله لا يدع شيئا أن يبينه أن يكون نسبه، فما قال الله عزوجل
فهو كما قال الله وما قال رسول الله (ص) فهو كما قال رسول الله
(ص)، وما لم يقل الله ورسوله فبعفو الله ورحمته فلا تبحثوا
عنه.
حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، نا علي بن الحسن بن فهر، ثنا محمد
بن علي، نا محمد ابن عبد الله الحفاظ إجازة، نا أبو العباس
محمد بن يعقوب، نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنا وهب
سمعت مالك بن أنس يقول: ألزم ما قاله رسول الله (ص) في حجة
الوداع: أمران تركتهما فيكم لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب
الله تعالى وسنة نبيه (ص).
حدثنا أحمد بن عمر، نا علي بن الحسن بن فهر، أنا الحسن بن علي
بن شعبان،
وأبو حفص عمر بن محمد بن عراك نا أبو بكر أحمد بن مروان
المالكي، نا علي بن عبد العزيز: نا الزبير بن بكار قال: سمعت
سفيان بن عيينة يقول: سألت مالك بن أنس عن رجل أحرم من
المدينة، أو من وراء الميقات ؟ فقال مالك: هذا رجل
(8/1075)
مخالف لله تعالى ولرسوله (ص) أخشى عليه
الفتنة في الدنيا، والعذاب الاليم في الآخرة، أما سمعت قوله
تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو
يصيبهم عذاب أليم) * ثم ذكر حديث المواقيت.
حدثنا عبد الرحمن بن سلمة، نا أحمد بن خليل، نا خالد بن سعد،
نا أحمد بن خالد، نا يحيى بن عمر، نا الحارث بن مسكين، أنا ابن
وهب قال: قال لي مالك: كان رسول الله (ص) - إمام المرسلين وسيد
المرسلين - يسأل عن الشئ فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء.
قال أبو محمد: فإذا كان رسول الله (ص) لا يجيب إلا بالوحي وإلا
لم يجب، فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب في الدين برأي أو
قياس، أو استحسان أو احتياط أو تقليد، إلا بالوحي وحده، وبالله
تعالى التوفيق.
حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، نا أحمد بن عيسى غندر، نا خلف
القاسم، نا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد
البجلي، حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر، نا يزيد بن عبد ربه
قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي: يا أبا
زكريا احذر الرأي فإني سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد
أحسن من بعض قياسهم.
حدثنا القاضي حمام بن أحمد، نا عبد الله بن علي الباجي اللخمي،
حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا عبيد بن محمد الكشوري، ثنا محمد بن
يوسف الحذافي، حدثنا عبد الرزاق قال: قال لي حماد بن أبي حنيفة
قال: أخبرني أبي: من لم يدع
القياس في مجلس القضاء لم يفقه.
قال أبو محمد: فهذا أبو حنيفة يقول: إنه لا يفقه من لم يترك
القياس في موضع الحاجة إلى تصريف الفقه، وهو مجلس القضاء، فتبا
لكل شئ لا يفقه المرء إلا بتركه، وقد ذكرنا أيضا قول مالك آنفا
في إبطال القياس، فإن وجد لهذين الرجلين بعد هذا القول منهما
قياس، فهو اختلاف من قولهما، وواجب عرض القولين على القرآن
والسنة، فلايهما شهد النص أخذ به، والنص شاهد لقول من أبطل
القياس على ما قدمنا، لا سيما وهذان الرجلان لم يعرفا قط
القياس الذي ينصره أصحاب القياس، ومن استخراج العلل، ولكن
قياسهما
(8/1076)
كان بمعنى الرأي الذي لم يقطعا على صحته،
وكذا صدر الطحاوي في اختلاف العلماء بأن أبا حنيفة قال: علمنا
هذا رأي، فمن أتانا بخير منه أخذناه، أو نحو هذا القول.
والمتحققون بالقياس لا يقرون بهذا ولا يرضوه، ولا يقولون به،
وهكذا جميع أهل عصرها، وبالله تعالى التوفيق.
ولا معنى لفشو القول بالقياس وغلبته على أكثر الناس، فهذا
برهان بطلانه وفساده، وقد أنذر رسول الله (ص) بغلبة الباطل
وظهوره، وخفاء الحق ودثوره.
كما حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب
بن عيسى، حدثنا أحمد بن محمد الفقيه الاشقر، ثنا أحمد بن علي،
ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن عياد، وابن أبي عمر جميعا، عن
مروان الفزاري، عن يزيد - يعني بن كيسان - عن أبي حازم، عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله (ص): بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا
كما بدأ، فطوبى للغرباء.
وقال مسلم: ثنا محمد بن رافع، والفضل بن سهيل الاعرج قال: ثنا
شبابة بن سوار، ثنا عاصم - هو ابن محمد العمري - عن أبيه، عن
ابن عمر، عن النبي (ص) قال:
إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأزر بين
المسجدين تأرز الحية إلى حجرها.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، ثنا ابن أبي دليم، ووهب بن
مسرة، حدثنا ابن وضاح، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص عن
غياث، عن الاعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الاحوص، عن عبد
الله بن مسعود، قال رسول الله (ص): إن الاسلام بدأ غريبا
وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء ؟ قال:
نزاع القبائل.
قال أبو محمد: وأما الاجماع فقد بيناه على ترك القياس من وجوه
كثيرة، وهي إجماع الامة كلها على وجوب الاخذ بالقرآن، وبما صح
عن رسول الله (ص) وبما أجمعت الامة كلها على وجوبه أو تحريمه
من الشرائع، وأجمعت على أنه ليس لاحد أن يحدث شريعة من غير نص
أو إجماع، وأجمعت على تصديق قول الله تعالى: * (ما فرطنا في
الكتاب من شئ) * وعلى قوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *
(8/1077)
وهذا إجماع على ترك القياس، وأن لا حجة
لاحد إليه حتى نقص من نقص بالغفلة المركبة في البشرية في
التفصيل، والخطأ لم يعصم منه أحد بعد النبيين صلى الله عليهم
وسلم، فإنما يوجد القياس ممن وجد منه على سبيل الخطأ والغفلة
عن الواجب عليه، هي زلات علماء، كمن قال بالتقليد وما أشبه
ذلك.
وأيضا فقد قلنا وبينا أنه لم يصح قط عن أحد من الصحابة القول
بالقياس، يعني باسمه وباليقين، فإنه يتكلم قط أحد منهم بلا شك
ولا من التابعين بلا شك باستخراج علة يكون القياس عليها، ولا
بأن القياس لا يصح إلا على جامعة بين الحكمين، فهذا أمر مجمع
عليه، ولا شك فيه البتة، إلا عند من أراد أن يطمس عين الشمس،
وهذا أمر إنما ظهر في القرن الرابع فقط مع ظهور التقليد، وإنما
ظهر القياس في التابعين على سبيل الرأي والاحتياط والظن، لا
على إيجاب حكم به، ولا أنه حق مقطوع به، ولا كانوا يبيحون
كتابه عنهم.
وأيضا فقد وجدنا مسائل كثيرة جدا اتفقوا هم فيها، ونحن وجميع
المسلمين على خلاف جميع وجوه القياس، وعلى ترك القياس كله
فيها، ومسائل كثيرة جاء النص بخلاف القياس كله فيها، ولم نجد
قط مسألة جاء النص بالامر بالقياس فيها، ولا مسألة اتفق الناس
على الحكم فيها قياسا، فلو كان القياس حقا لما جاز الاجماع على
تركه في شئ من المسائل، ولا جاء النص بخلافه البتة، فالاجماع
لا يجوز على ترك الحق، ولا يأتي النص بخلاف الحق، وهذا إجماع
صحيح على ترك القياس، وسنبين طرفا من المسائل التي ذكرنا.
ولعل قياس الورع يعارض هذا القول بأن يقول: قد جاء الاجماع على
ترك بعض النصوص.
فليعلم الناس أن من قال ذلك كاذب آفك، وما جاء قط نص صحيح
بخلاف نص صحيح السند متصل، وهو الحق عندنا لا ما عداه، وما جاء
قط نص صحيح بخلاف الاجماع، فإن قال سوفسطائي: فقد جاء نص بخلاف
نص قلنا، نعم، ينسخ له وهو نص على كل حال، ولم نذكر لكم قياسا
خلاف قياسا، وإنما قلنا بأنه قد وجد إجماع على ترك جميع وجوه
القياس، وورود نص مخالف لجميع وجوه القياس، وهكذا هي جميع
الشرائع، ككون الظهر أربعا والصبح ركعتين، والمغرب ثلاثا،
(8/1078)
وكصوم رمضان دون شعبان، وكالحدث من أسفل،
فيغسل له الانواع، وكأنواع الزكاة وسائر الشرائع كلها، وليس
أحد من القائلين بالقياس إلا وقد تركه في أكثر مسائله وسنبين
من هذا إن شاء الله تعالى في آخر هذا الباب طرفا يدل على
المراد.
وأما من براهين العقول فإنه يقال لهم: أخبرونا، أو شئ هو
القياس الذي
تحكمون به في دين الله تعالى ؟.
فإن قالوا: لا ندري، أو تلجلجوا، فلم يأتوا فيه بحد حاصر:
أقروا بأنهم قائلون بما لا يدرون، ومن قال بما لا يدري فهو
قائل بالباطل وعاص لله عزوجل إذ يقول: * (وأن تقولوا على الله
ما لا تعلمون) * مع الرضا لنفسه بهذه الصفة الخسيسة التي لا
تكون إلا في النوكي، وإن قالوا: حكم جامع بين شيئين بعلة
يستخرجه، أو قالوا بكثرة التشابه، كانوا قائلين بما لا دليل
على صحته، وبما لم يقل به قط صاحب ولا تابع، وإن قالوا: بما
يقع في النفس كانوا شارعين بالظن، وفي هذا ما فيه.
وقد أقروا كلهم، بلا خلاف منهم، أنه جائز أن توجد الشريعة كلها
أولها عن آخرها نصا، وأقروا كلهم، بلا خلاف من أحد منهم، أنه
لا يجوز أن توجد الشريعة كلها قياسا البتة، ومن البراهين
الضرورية عند كل ذي حس وعقل أن ما لزم الكل لزم البعض،
فالشرائع كلها لا يمكن البتة، ولا يجوز أن توجد قياسا من أحد
فبعضها لا يجوز أن يوجد قياسا، وليس هذا قياسا، ولكنه برهان
ضروري كقول القائل: إن كان الناس كلهم أحياء ناطقين فكل واحد
منهم حي ناطق، ولا يموه مموه فيقول: بعض الناس أعور وليس كلهم
أعور، فليس هذا مما ألزمناهم في صفة لكن كل الناس ممكن أن
يوجدوا عورا وليس ذلك بممتنع في البقية.
وأما أخذ الشرائع كلها قياسا فممتنع في البتة إذ لا بد عندهم
من نص يقاس عليه، ولا هذا أيضا من قول القائل: لا يجوز أن يكذب
الناس كلهم، وجائز أن يكذب بعضهم، بل كل أحد على حدته، فالكذب
عليه ممكن، وليس كل شريعة على حدتها جائز أن توجد قياسا، وهذا
بيان يوضح كل ما أرادوا أن يموهوا به في هذا المكان، وبرهان
آخر وهو أنه يقال لاصحاب القياس: إذا قلتم لما حرم الله تعالى
(8/1079)
القطع في أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم
حرم أن يكون الصداق أقل من
ثلاثة دراهم.
ولما وجبت الكفارة على الوطئ عمدا في نهار رمضان، وجبت على
الاكل عمدا في نهار رمضان، ولما حرم حلق الشعر في الرأس بغير
ضرورة في الاحرام، حرم حلق العانة في الاحرام كما حرم مد بر
بمدي بر نقدا، حرم مد شعير بمد سلت نقدا، وقال آخرون منكم: لا،
ولكن حرم رطل حديد برطل حديد نقدا.
وقال آخرون: لا، ولكن حرم أصل كرنب بأصل كرنب نقدا، ولما أبيح
اتخاذ كلب الصيد والغنم بعد تحريمه أبيح ثمنه بعد تحريمه.
ولما أبيح الثلث في الوصية للموصي أبيح بيع الثمر قبل صلاحه
إذا كان أقل من ثلث كراء الدار وسائر ما أوجبتموه قياسا،
وحرمتموه قياسا، وأبحتموه من هذا الموجب لهذا كله ؟ ومن هو
المحرم لهذا كله ؟ إذ لا بد لكل فعل من فاعل، ولكل تحريم من
محرم، ولكل إيجاب من موجب، ولكل إباحة من مبيح.
فإن قالوا: الله تعالى ورسوله أباحا ذلك وحرماه وأوجباه كذبوا
على الله تعالى وعلى رسوله (ص)، وجاهروا بالفرية عليهما، وهم
لا يقدمون على أن ينسبوا ما حكموا فيه بقياسهم إلى الله تعالى
ورسوله (ص) مع أنه إن أقدم منهم قليل الدين على ذلك أكذبه
سائرهم، لانه إنما سألناهم عن مسائل يخالف فيها بعضهم بعضا،
ووقع حينئذ بأسهم بينهم، وكفونا مؤنتهم، فلم يبق بالضرورة إلا
أن يحيلوا في التحريم والايجاب والاباحة على أنفسهم، أو على
أحد دون الله تعالى، ودون رسوله (ص)، وهذا كما تراه بلا مؤنة
ولا تكلف تأويل، إقرار بإحداث دين وشريعة لم يأت بها الرسول
(ص) ولا أذن بها الله تعالى.
فإن سألونا عن مثل هذا فيما أوجبناه أو حرمناه أو أبحناه بخبر
الواحد العدل المسند ؟ فلسنا نقنع بأن نقول لهم: إن هذا السؤال
لازم لكم كلزومه لنا لاننا لا نتكثر بهم، ولا نبالي وافقونا في
ذلك، أو خالفونا لكن نقول وبالله تعالى التوفيق: إن الله تعالى
حرم وأوجب وأباح كل ما صح به الخبر عن رسول الله
(ص) لا شك في ذلك كما نقول فيما أمر الله تعالى به من قبول
شهادة العدول في الاحكام وبالله تعالى التوفيق.
(8/1080)
ويقال لهم أيضا: أخبرونا أكل قياس قاسه
قائس من أصحاب القياس حق وصواب ؟ أم من القياس خطأ وصواب ؟ ولا
بد من أحد الوجهين، فإن قالوا: كل قياس في الارض فهو صواب،
تركوا مذهبهم وأوجبوا المحال، وكون الشئ حراما حلالا فرضا
مباحا على إنسان واحد في وقت واحد، وإن قالوا: من القياس خطأ
ومنه صواب، قلنا لهم: بأي شئ تعرفون الحق من الباطل في القياس
؟ فإن تلجلجوا وقالوا: لا نأتي بذلك إلا في كل مسألة.
قلنا: هذا لو إذ عما لزمكم مما لا سبيل لكم إلى وجوده، كمن قاس
أن يقبل امرأتان حيث تجوز عنده شهادة النساء مفردات على قبول
رجلين، حيث يقبل الرجال، وكمن قاس وجود أربع في ذلك على تعويش
امرأتين بدل رجل، حيث يقبل النساء مع الرجال، وقلما تخلو لهم
مسألة من مثل هذا.
فإذا بطل وجود برهان يصحح الصحيح من القياس ويبطل الباطل منه
فقد صح أن ما لا سبيل إلى الفرق بين باطله وبين ما يدعي قوم
أنه منه حق، فهو باطل كله.
فإن قالوا لنا: فكل الاخبار عندكم حق أو فيها باطل وحق.
قلنا: بل كل ما اتصل برواية الثقات إلى النبي (ص) حق لا يحل
تركه إلا بيقين نسخ أو بيقين تخصيص.
ولا نسخ في القياس أصلا.
فصل قال أبو محمد: ونحن نرتب إن شاء الله تعالى ولا حول ولا
قوة إلا به، طريقة لا يتعدى بها على أحد من أهل الحق إفساد كل
قياس يعارض به أحد من أصحاب القياس، أو يحتج منهم، وذلك أنه
إذا احتج محتج ممن يقول بالقياس
بأن هذه المسألة تشبه مسألة كذا، فواجب أن نحكم لها بمثل
حكمها، فليطلب من يعارضه من أصحابنا صفة في المسألة التي شبهها
خصمه بالمسألة الاخرى، مما يشبه فيه مسألة ثالثة، ثم يلزمه أن
يحكم لها أيضا بمثل ذلك الحكم، وهذا أمر موجود في جميع مسائلهم
أولها عن آخرها، وهذا وجه يفسد مسائلهم في القياس، وسنذكر من
هذا طرفا كافيا في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى،
ونذكر ههنا مسألة واحدة تدل على المراد إن شاء الله تعالى،
وبالله تعالى التوفيق.
(8/1081)
قالوا: لا يكون صداق إلا ما تقطع فيه اليد،
لانه عضو يستباح كعضو يستباح فيقال لهم: وهلا قسمتموه على
استباحة الظهر في جرعة خمر لا تساوي فلسا ؟ فهو أيضا عضو
يستباح، فما الذي جعل قياس الفرج على اليد أولى من قياسه على
الظهر ؟ وهو إلى الظهر أقرب منه إلى اليد، وليس يقطع الفرج كما
لا يقطع الظهر ؟.
وأما تعليلهم في الربا، فكل طائفة منهم قد كفتنا الاخرى إذ كل
واحد منهم يبطل علة صاحبه التي قاس عليها، وهكذا في كل ما
قاسوا فيه وبالله تعالى التوفيق.
وقال بعضهم: إنما نقيس في النصين المتعارضين فننظر أشبههما بما
اتفق عليه في النصوص فنأخذ به.
قال أبو محمد: وهذا أمر قد تقدم إفسادنا له في باب الكلام في
الاخبار وأحكمناه وبالله تعالى التوفيق.
ولكننا نذكر ههنا من بعض قولهم ما لا غنى بهذا المكان عنه: وهو
أنا نقول، هذا عمل فاسد، ولا مدخل للقياس ههنا، لان كل حديثين
تعارضا، أو آيتين تعارضتا، أو كل حديث عارض آية، فليس أحد هذين
النصين أولى بالطاعة من الآخر، ولا الذي يردون إليه حكم هذين
النصين أولى بالطاعة له من كل واحد من هذين، وكل من عند الله
تعالى، ولا
يقوي النص إجماع الناس عليه، ولا يضعفه، اختلاف الناس فيه فقد
أجمع على بعض الاخبار واختلف في آيات كثيرة.
والنص إذا صح فالاخذ به واجب ولا يضره من خالفه، فسقط ما
أرادوا في ذلك من رد النصين المتعارضين إلى نص ثالث، ووجب
استعمال كل ذلك ما دام يمكن، فإن لم يمكن أخذ بالزائد لانه شرع
متيقن رافع لما قبله، ولم نتيقن أنه رفعه غيره.
مع أنهم لم يفعلوا ما ذكروا بل جاء: لا قطع إلا في ربع دينار
فصاعدا وجاء: لعن السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل
فتقطع يده فلم يردوهما إلى الآية المتفق على ورودها من الله
تعالى وهي: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا
نكالا من الله) * بل غلبوا: لا قطع إلا في ربع دينار وهو نص
مختلف في الاخذ به، على الآية وعلى الحديث الآخر، ثم تناقضوا
في حديث: لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، فتركوه وأخذوا بظاهر
الآية، وهذا خلاف ما فعلوا في آية القطع
(8/1082)
وكلا الحديثين صحيح وكلاهما مختلف فيه مع
صحته، فإن عللوا أحدهما بأنه اختلف فيه الرواة فالآخر كذلك ولا
فرق وأما حديث الحنفيين فيما تقطع فيه اليد فساقط جدا.
وقد قال بعضهم: إذا سألناهم عن معارضة قياسهم بقياس آخر،
وتعليلهم بتعليل آخر، فما الذي جعل أحد القياسين أولى من الآخر
؟ أو أحد التعليلين أولى من الآخر ؟ ولا سبيل إلى وجود قياس
لهم أو تعليل لهم تتعذر معارضتهما بقياس آخر أو تعليل آخر كما
وصفنا فقال هذا القائل: العمل حينئذ في هذا كالعمل في الحديثين
المتعارضين.
قال أبو محمد: فقلنا هذا باطل لان النصين أو الحديثين
المتعارضين لا بد من جمعهما واستعمالهما معا، لان كليهما حق
وواجب الطاعة إذا صحا من طريق السند،
ولا يمكن هذا في القياسين المتعارضين، ولا في التعليلين
المتعارضين بوجه من الوجوه، فإن تعذر هذا في الحديثين أو
الآيتين أو الآية والحديث فالواجب الاخذ بالناسخ أو بالزائد إن
لم يأت تاريخ يبين الناسخ منهما، لان الوارد بالزيادة شريعة من
الله تعالى، لا يحل تركها، وليس يمكن هذا في القياسين
المتعارضين، ولا في التعليلين المتعارضين بوجه من الوجوه، لانه
ليس فيهما نسخ أصلا.
ولا يوجد في القياسين زيادة من أحدهما على الآخر في أكثر
الامر، لان التعارض فيهما إنما هو يتعلق أحد القياسين بصفة،
ويتعلق آخر إلا بأخرى، فبطل تمويه هذا القائل، وبقي الالزام
يحسبه لا مخلص منه البتة.
وبالله تعالى التوفيق.
وقد زاد بعض مقدميهم، ممن لم يتق الله عزوجل، ولا أبالي
الفضيحة في كلامه، فقال: إن القياس أقوى من خبر الواحد ورأيت
هذا لابي الفرج المالكي، والمعروف بالابهري واحتجا في ذلك بأن
الخبر الواحد يدخله السهو وتعمد الكذب، وأما القياس فلا يدخله
إلا خوف الخطأ في التشبيه فقط قالا: فما يدخله عيب واحد أولى
مما يدخله عيبان.
قال أبو محمد: وما يعلم في البدع أشنع من هذا القول ثم هو مع
شناعته بارد سخيف متناقض.
(8/1083)
ويقال لهذا الجاهل المقدم: أخبرنا عنك
أتقيس على خبر الواحد أم لا ؟ فإن قال: لا، كذب وأفصح،
وأريناهم خزيهم في قياسهم صداق النكاح على القطع في عشرة دراهم
وهو خبر واهي ساقط، والآخرون منهم قاسوا على خبر في ذلك، وإن
كان صحيح السند فهو خبر واحد، وأريناهم قولهم في تقويم
الملتفات بالقيمة لا بالمثل على الخبر في عتق الشقص، ومدة
الخيار في البيع على حديث المصراة، والاستطهار في المستحاضة
على حديث المصراة، وهذا أكثر قياساتهم.
وإن قال: أقيس على خبر الواحد فضح نفسه وأبان عن جهله، وقلة
ورعه في إقراره بأنه يقيس على ما هو أضعف من القياس وفي هذا
غاية الجنون والتناقض، وهم يقولون إن الاصل أقوى من الفرع،
والمقيس عندهم فرع، والمقيس عليه أصل، هذا ما لا يختلفون فيه،
فإذا كان خبر الواحد هو المقيس عليه عندهم فهو الاصل، والقياس
هو الفرع، فعلى قول هذين المذكورين إذا كان القياس أقوى من خبر
الواحد فالفرع أقوى من الاصل وقد قالوا: إن الاصل أقوى من
الفرع، وهذا تناقض فاحش وبناء وهدم ونعوذ بالله من الخذلان.
وأيضا فإنهم يتركون في أكثر أقوالهم ظاهر القرآن بخبر الواحد،
ثم يتركون خبر الواحد للقياس، فقد حصل من كلامهم وعملهم أنهم
غلبوا القياس على الحديث، وغلبوا الحديث على القرآن فقد صار
القياس على هذا أقوى من القرآن ولا قياس البتة إلا على قرآن أو
حديث وهذا كله تخليط، وسخنة عين وغباوة جهل وإقدام واستحلال
لما لا يحل ولا يخفى على ذي بصر، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا: فهم كثيرا ما يقولون، فيما يرد عليهم من أقوال موقوفة
على بعض الصحابة مما يوافق مما قلدوا فيه مالكا وأبا حنيفة،
مثل هذا لا يقال بالقياس فيغلبونه على ما يوجبه القياس عندهم
كقولهم فيمن باع شيئا إلى أجل، ثم ابتاعه بأقل إلى أقل من ذلك
الاجل، وفي البناء في الصلاة على الرعاف والحدث، وفي مواضع
كثيرة جمة، وهذا ترك منهم للقياس وتغليب للظن أنه خبر واحد على
القياس، لانهم لا يقطعون على أن هذه الاقوال توقيف، وإنما
يظنون ذلك ظنا،
(8/1084)
فقد صار الظن أنه خبر واحد عندهم أقوى من
القياس الذي هو عندهم أقوى من يقين أنه خبر واحد، فقد صار الظن
أقوى من اليقين وفي هذا عجب عجيب ونعوذ بالله من الخذلان.
وأما الحقيقة فإن الظن باطل.
بنص حكم النبي (ص) بأنه أكذب الحديث، وبنص قول الله تعالى: *
(إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * فالظن بنص القرآن ليس حقا،
فإذ ليس حقا فهو باطل، فإذا كان الظن الذي هو الباطل أقوى من
القياس، فالقياس بحكمهم أبطل من كل باطل.
وبالله تعالى التوفيق.
وجملة القول: أن قولهم: إن خبر الواحد يدخله السهو والغلط،
والكذب، إنما هو من اعتراضات من لا يقول بخبر الواحد من
المعتزلة.
والخوارج وقد مضى الكلام في إيجاب خبر الواحد العدل، وقد وجب
قبوله بالبرهان، فاعتراض المعترض بأنه قد يدخله السهو، وتعمد
الكذب اعتراض بالظن، وبعض الظن إثم والظن أكذب الحديث.
وقولهم: إن القياس يدخله خوف خطأ التشبيه إقرار منهم بأنهم لا
يثقون بجملته، وهذا هو الحكم بالظن، وهو محرم بنص القرآن
ويسألون عن إنسان مشهور بالباطل، معروف بادعائه قد كثر ذلك منه
وفشا فتقدم إلى قاضي يخاصم عنده ؟.
فإن الامة كلها مجمعة عن ألا يقاس أمره الآن على ما عهد منه،
فإذا خرم أن يقاس حكم المرء اليوم على حكمه بنفس أمس، فهو أبعد
من أن تقاس على غيره وهذا هدم من القياس للقياس، وتفاسد منه
بعضه لبعض، وما كان هكذا فهو فاسد كله، وبالله تعالى التوفيق.
وقال قائل منهم: هل يجوز أن يتعبدنا الله تعالى بالقياس ؟.
قال أبو محمد: فالجواب إن كان جائزا قبل نزول قول الله تعالى:
* (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * وقوله تعالى: * (لا يكلف
الله نفسا إلا وسعها) * وكان يكون ذلك لو كان حمل إصر كما حمله
على الذين من قبلنا، وتحميلا لما لا طاقة لنا به، وكما قال
تعالى: * (ولو شآء الله لاعنتكم) * وأما بعد نزول الآيتين
اللتين ذكرنا، وبعد أن أمننا الله تعالى من أن يكلفنا الحكم
بالتكهن وبالظنون، وبعد أن نهانا عن أن نقول عليه تعالى ما لم
نعلم، فلا يجوز البتة أن يتعبدنا بالقياس،
لان وعد الله تعالى حق لا يخلف البتة، وقوله الحق.
وبالله تعالى التوفيق.
(8/1085)
فصل في ذكر طرق يسير من تناقض أصحاب القياس
في القياس، يدل على فساد مذهبهم في ذلك إن شاء الله تعالى قال
أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه: أكثرهم لم يقس الماء
الوارد على النجاسة على الماء الذي ترد عليه النجاسة، وفرقوا
بينهما بغير دليل.
وبعضهم لم يقس وجوب إراقة ما ولغ فيه الكلب على وجوب غسل
الاناء من ولوغ الكلب فيما ولغ فيه، ولم يقيسوا الماء في ذلك
على غير الماء.
وأكثرهم فرق بين الماء الذي تقع فيه النجاسة، وبين المائعات
التي تقع فيها النجاسات، فيجدوا مقدارا إذا بلغه الماء لم
ينجس، ولم يجدوا في سائر المائعات شيئا البتة وإن كثرا.
وبعضهم قاس سائر المائعات في ذلك على الماء في حد المقدار وهو
أبو ثور.
وبعضهم فرق بين حكم الماء في البئر، وبين الماء في غير البئر،
ولم يقس أحدهما على الآخر اتباعا، زعم، لقول بعض العلماء في
ذلك.
وهو قد عصى قول رسول الله (ص) وجماعة من الفقهاء، في المصراة
والمسح على العمامة، وفي أزيد من ألف قضية، نعم وحكم القرآن،
وفرق أيضا بين أحكام الجيف الواقعة في التيار، وبين أحكامها
وأحكام سائر النجاسات ولم يقس بعضها على بعض.
وبعضهم قاس الخنزير على الكلب في حكم الغسل مما ولغ فيه كلاهما
في الواحد أو السبع، وبعضهم لم يقس أحدهما على الآخر، وبعضهم
قاس الماء بحكم الوالغ فيه مما يحرم أكله أو يحل أو يكره،
وبعضهم لم يقس ذلك، وبعضهم قاس ما لا دم له من الميتات على
ماله دم.
فرأى كل ذلك ينجس ما مات فيه، وبعضهم لم ير ذلك وبعضهم قاس
العقارب والخنافس والدود المتولد في القول
على الذباب، ولم يقسها على الوزغ وشحمة الارض والعظماء وصغار
الفيران.
وبعضهم قاس عذر ما يؤكل لحمه من الدواب وأبوالها على لحومها،
ولم يقسها على دمائها، ولم يقسها على لحومها.
وبعضهم قاس ذنب الكلب ورجله على لسانه، وبعضهم لم يقس ذلك.
وأكثرهم قاس إباحة المسح على الجبائر على المسح على الخفين،
ولم يقيسوا
(8/1086)
إباحة مسح العمامة على الرأس، وعلى المسح
على الخفين، وبعضهم قاس ذلك، وكلهم فيما نعلم لم يقس نزع
الخفين بعد المسح على حلق الشعر وقطع الاظفار بعد المسح والغسل
وبعضهم لم يقس إباحة الصلاة الفريضة بتيمم النافلة على إباحة
الصلاة النافلة بتيمم الفريضة، وبعضهم قاس ذلك، وتناقض الاولون
فقاسوا جواز صلاة المتوضئين خلف المتيمم على جواز صلاة
المتيممين خلف المتوضئ، على أن الخلاف في تسوية كلا الامرين
مشهور.
ومن طرائف قياس بعضهم إيجابه أن تستطهر الحائض بثلاث قياسا على
انتظار ثمود صيحة العذاب ثلاثا، على المصراة، أفلا يراجع
بصيرته من يقيس هذا القياس السخيف.
فيمنع به خمس عشرة صلاة فريضة، ويوجب به إفطار ثلاثة أيام من
رمضان، من أن يقيس مسح العمامة على مسح الخفين.
وبعضهم قاس بول ما يأكل لحمه بعضه على بعض، وبعضهم قاس البول
المذكور على ما يتولد منه، فإن تولد من ماء نجس فهو نجس، وإن
تولد من ماء طاهر فهو طاهر، وكذلك فعل بنحوه، ولم يقس اللحم
المتولد فيه على ما تولد منه، بل رأى ذلك حلالا أكله وإن تولد
من ميتة ولحم خنزير وعذرة.
وبعضهم لم يقس نبيذ التين على نبيذ التمر في جواز الوضوء به
عند عدم الماء في السفر، وبعضهم قاس الحظر عليه في الاباحة،
وهو الحسن بن حي، وقد
روى أيضا قياس نبيذ التين على نبيذ التمر عن أبي حنيفة.
ومنع أكثرهم من الكلام في الاذان، قياسا على الصلاة، ولم
يقيسوه عليها إذ أجازوه بلا وضوء، وأجاز بعضهم تنكيس الوضوء،
ولم يجز تنكيس الاذان ولا تنكيس الطواف، ولم يقس أحدهما على
الآخرين، وقاس ذلك كله، بعضهم في المنع في الكل، أو في الاباحة
في الكل.
وفرق بعضهم بين صلاة الفريضة والنافلة، فأجاز أن يؤم النافلة
من لا يجوز أن يؤم في الفريضة، ثم لم يجز أن تؤم المرأة النساء
في شئ منهما، وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض.
وبعضهم لم يقس جواز صلاة النفل خلف من يصلي الفرض على جواز
صلاة من يصلي الفرض خلف المتنفل، وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على
بعض، وكلهم،
(8/1087)
فيما أعلم، لم يقس المنع من إتمام المسافر
خلف المقيم على المنع من قصر المقيم على المسافر.
وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس إتمام أهل مكة بمنى على إتمام
أهل منى بمكة وهذا عجيب ما شئت ولم يقيسوا جواز الحج على العبد
إذا حضره على جواز الجمعة عنه إذا حضرها.
وبعضهم لم يقس جواز صلاة الفرض خلف الفاسق من الامراء على جواز
صلاة الجمعة خلفه، وبعضهم قاس كل ذلك وجعله سواء.
وبعضهم لم يقس حكم ابتداء التكبير للقائم من الركعتين على حكم
ابتداء التكبير في الركوع والسجود والرفع من السجود، وبعضهم
ساوى بين ذلك كله وقاس بعضه على بعض.
وبعضهم لم يقس إيجاب البناء على المحدث على إيجاب البناء على
الراعف،
وبعضهم ساوى بينهما.
وبعضهم لم يقس وجوب البناء قبل تمام السجدتين على وجوب البناء
بعد تمام السجدتين، وبعضهم قاس كلا الامرين على السواء.
وبعضهم لم يقس وقوع الجبهة والرجلين على نجاسة الصلاة على وقوع
اليدين والركبتين على نجاسة في الصلاة، وبعضهم قاس كل ذلك بعضه
على بعض، وهؤلاء الذين قاسوا بعض ذلك على بعض تناقضوا، فلم
يقيسوا جواز وقوع الرجلين والركبتين على غير الارض، أو ما تنبت
على جواز وقوع الجبهة واليدين على ذلك، وفرقوا بين الامرين.
وبعضهم لم يقس الثبات على يقين الحدث لمن شك في الوضوء على
الثبات على يقين الوضوء لمن شك في الحدث، وبعضهم ساوى بين
الامرين.
وبعضهم لم يقس كثير السهو على قليله، فرأى من قليله السجود
فقط، ومن كثيره الاعادة ومنهم من رأى من السلام ساهيا السجود
فقط ورأى من الكلام ساهيا الاعادة، ورأى بعضهم على من تكلم في
صلاته ساهيا أنها قد بطلت، فإن أحدث بغلبة لم تبطل صلاته، فإن
أكل ساهيا وهو صائم لم يبطل صيامه وقلب غيره منهم الامر، فرأى
إن تكلم ساهيا في صلاته لم تبطل، فإن أحدث بغلبة
(8/1088)
بطلت، وإن أكل ناسيا وهو صائم بطل صومه،
وفرقوا بين من نسي صلاة يوم وليلة وبين من نسي أكثر ولم يقيسوا
أحدهما على الآخر، وبعضهم قاس كل ذلك على السواء.
وقاس بعضهم الجمع بين الذهب والفضة في الزكاة، على الجمع بين
المعز والضأن في الزكاة، ولم يقسه على التفريق بين التمر
والزبيب في الزكاة، وبعضهم قاسه على التفريق المذكور لا على
الجمع، وأعجب من ذلك أن من ذكرنا رأى إخراج ذهب
عن فضة، وفضة عن ذهب، ولم ير إخراج عنز عن ضانية، ولا ضانية عن
عنز، ولا برا عن شعير، ولا شعيرا عن بر، ولم يقس بعض ذلك على
بعض أو بعضهم أجاز كل ذلك بالقيمة قياسا.
وفرق بعضهم بين غلة ما ابتيع للتجارة وبين الربح المتولد في
ذلك، فرأى في الغلة الاستئناف، ورأى في الربح ضمه إلى أصل
الحول في رأس المال، ولم يقس أحدهما على الآخر، وقاس غيره منهم
بعض ذلك ببعض في الاستئناف أو في الضم، وأوجبوا ديون الناس من
رأس المال، ولم يوجبوا ديون الله تعالى إلا من الثلث، ولم
يقيسوا أحدهما على الآخر، وساوى بعضهم بين الامرين.
ولم يقس بعضهم الحلي، وإن كان لكراء أو لباس، على العوامل
المعلوفة من الابل والبقر والغنم، فبعضهم أوجب الزكاة في الحلي
وأسقطها عن العوامل، وبعضهم أوجب الزكاة في العوامل، وأسقطها
عن الحلي، وبعضهم قاس أحدهما على الآخر في إسقاط الزكاة عن كل
ذلك، والعجب أن الذي أسقط الزكاة عن الحلي الكراء لم يقس عليه
الحلي المبتاع للتجارة ورأى فيه الزكاة.
وبعضهم فرق بين عبيد العبيد فلم يرهم كسادتهم، ولا كسادات
ساداتهم في وجوب زكاة الفطر المأخوذة، ورأى على عبيد أهل الذمة
أن يؤخذ منهم ما يؤخذ من سادات ساداتهم إذا اتجروا إلى غير
أفقهم.
وبعضهم رأى الزكاة في زيت الفجلة، ولم يرها في الترمس، ولم يقس
أحدهما على الآخر، وبعضهم الزكاة في جب الآس، ولم يرها في
البلوط ولم يقس أحدهما على الآخر.
وبعضهم لم يقس الدين على الرهن في الكفن، فرأى الكفن فيه أولى
(8/1089)
من الدين، ولم يره أولى من الرهن إذا كان
رهنا، وبعضهم ساوى بين الامرين.
وبعضهم لم يقس المدبر على المحتكر، وبعضهم قاسه عليه.
وبعضهم لم يقس الخليطين في الثمار والزرع والعين، على الخليطين
في المواشي، وبعضهم ساوى بين كل ذلك قياسا.
وفرق بعضهم بين من أعطى آخر مالا ليأكل ربحه والاصل لصاحب
المال، وأعطاه غنما ليأكل نسلها ورسلها والاصل لصاحب المال،
فرأى في الغنم الزكاة، ولم ير في ربحه زكاة، وهو مال تجارة، لا
على التاجر ولا على الذي له الأصل، ولم يقس أحدهما بالآخر،
وقاس غيره أحدهما على الآخر.
ولم يقس بعضهم فائدة العين على فائدة الماشية، فرأى في فائدة
الماشية الزكاة إذا كان عنده نصاب منها، ولم ير في فائدة العين
الزكاة وإن كان عنده نصاب منه، وقاس غيره منهم بعض على بعض في
إيجاب الزكاة في الكل، وفي إسقاطها عن الكل.
ولم يقس بعضهم فائدة الكسب على فائدة الولادة في إيجاب الزكاة
في كل ذلك، وقاس كل ذلك بعضهم، فرأى في الكل الزكاة ولم يقس
بعضهم فائدة المعدل على سائر الفوائد، وقاسه بعضهم عليها.
وقال بعضهم: لا يجزئ في زكاة الغنم إلا الجذع من الضأن فصاعدا.
والثني فصاعدا من الماعز قياسا على ما يجيز منها الاضحية،
وأجازوا في البقر والابل الجذع ودون الجذع، ولم يقيسوا ذلك على
ما يجوز منهما في الاضحية، ولا قاسوا حكم الغنم في ذلك على
الابل والبقر، ولا حكم الابل والبقر على حكم الغنم.
وقال بعضهم من بادل ذهبا بفضة زكى الآخر بحول الاول، ولم يقس
ذلك على من بادل بقرا بإبل، وقاسه على ما بادل غنما بماعز.
وقال بعضهم: تؤخذ الزكاة من الزيتون قياسا على التمر والعنب،
ولم يقسه عليهما في الخرص في الزكاة.
وقال بعضهم: يخرج الارز والذرة في زكاة الفطر قياسا على الشعير
والبر، ولم
يجز أن يخرج فيها الزيتون قياسا على التمر والزبيب، ولم يجز أن
يخرج فيها الدقيق
(8/1090)
قياسا على البر، وقد قاسه على البر في
تحريم بيع بعضه ببعض متفاضلا، وأجاز بيعه بالبر متماثلا.
وأسقط بعضهم زكاة التجارة على الماشية المشتراة للتجارة لزكاة
الاصل، ولم يقس على ذلك سقوط زكاة التجارة عن الدقيق المشترى
للتجارة من أجل زكاة الفطر فيهم.
وأوجب بعضهم الزكاة في العسل وفي الحبوب وفي الثمار إذا كانت
في أرض غير خراجية وأسقط الزكاة عن كل ذلك في الارض الخراجية،
ولم يسقط الزكاة عن الماشية وإن رعت في أرض خراجية، فلم يقس
رعي النحل على رعي الماشية، ولا رعي الماشية على رعي النحل.
وأسقط بعضهم الزكاة في العين والماشية عن الصغير والمجنون،
قياسا على سقوط الصلاة عنهما ولم يسقط الزكاة عن ثمارهما
وزرعهما قياسا على سقوط الصلاة عنهما.
وقال آخرون منهم في هذا: إن حق الزكاة ثابت مع الزرع والثمر.
قال أبو محمد: وهذا كذب، لان قائل هذا لا يرى فيما دون خمسة
أوسق صدقة فلم ير الزكاة ثابتة مع هذه الثمرة، ولم يقيسوا وجوب
الزكاة في ذلك عليهما على وجوب زكاة الفطر عليهما، وقياس زكاة
على زكاة، أولى من قياس زكاة على صلاة، ولا قاسوا وجوب الزكاة،
وهي حق المال، على وجوب سائر الحقوق في الاموال على الصغار
والمجانين، من النفقات والاروش وقياس مال على مال، أولى من
قياس زكاة على صلاة ولم يقس سقوط الصلاة عن الفقراء على سقوط
الزكاة عنهم.
وفرق بعضهم بين حكم من رأى هلال شوال وحده، وبين حكم من رأى
هلال رمضان وحده، ولم يقس أحدهما على الآخر، وبعضهم قاس كل
واحد منهما على الآخر، ولم يقس بعضهم حكم الحائض تطهر، والكافر
يسلم، والمسافر يقدم في نهار رمضان على حكم من بلغه بعد الفجر
إن هلال رمضان رؤى البارحة، فأوجبوا على هذا ألا يأكل باقي
النهار، ولم يوجبوا ذلك على الآخرين،
(8/1091)
ثم قاسوا بعضهم على بعض في وجوب القضاء
عليهم، حاشا الكافر يسلم، فلم يقيسوه عليهم في وجوب القضاء.
وقاسه بعضهم عليهم، فأوجبوا عليه القضاء.
وأطرف من هذا قياس بعضهم من غلبته ذبابة فدخلت حلقه، على الاكل
عمدا في إيجاب القضاء فقط عليه، ولم يقس على ذلك من أخرج
بلسانه من بين أسنانه الجريدة - ولعلها من مقدار الذبابة -
فيبلعها عمدا في نهار رمضان.
فقالوا: صومه تام ولا قضاء عليه.
وقاس بعضهم: المجنون على الحائض في إيجاب قضاء رمضان عليهما،
ولم يقيسوه عليها في وجوب الحدود عليها.
وقاس بعضهم من لمس عمدا فأمنى على المجامع عمدا في القضاء
والكفارة، ولم يقس من استعط عمدا فوجد طعم ذلك في حلقه على
الاكل عمدا لم يوجب فيه كفارة.
وقاس بعضهم المغمى عليه في رمضان على المريض في إيجاب القضاء
عليه، ولم يقسه عليه في إيجاب قضاء ما ترك من الصلوات عليه
وقاسه بعضهم في إيجاب الصلوات.
وأوجب بعضهم على من أكره امرأته على الجماع في نهار رمضان أن
يكفر عنها فيصوم عنها ولم يقس على ذلك إيجاب الصوم على من مات
وعليه صوم.
وقاس بعضهم الاكل عمدا في نهار رمضان على الواطئ عمدا في نهار
رمضان وأوجب عليهما الكفارة، ولم يقيسوه على المتقيئ عمدا في
نهار رمضان في إسقاط الكفارة عنه، وقياس الاكل على القئ أولى
من قياسه على الوطئ، وقاسه بعضهم على المتقيئ فيما ذكرنا.
وفرقوا بين الواطئ والآكل بأن قالوا: الوطء يوجب أحكام لا
يوجبها الاكل، فالوطء يوجب الغسل والحد والصداق، ولا يوجب شيئا
من ذلك الاكل ولا الشرب، والاكل يوجب الغرامة، ولا يوجبها
الوطئ، والاكل من مال الصديق مباح، ولا يجوز وطئ ملكه، فقاسوا
ترك الكفارة في الاكل على هذه الفروق.
(8/1092)
وقال بعضهم: إنما القياس على التشابه، لا
على عدم التشابه.
قال أبو محمد: وكل هذا تحكم كما ترى، ولا دليل.
ولم يقس بعضهم من أفطر عمدا في قضاء رمضان - وهو فرض - في وجوب
الكفارة عليه على إفطاره عمدا في رمضان، وكلاهما فرض، وقد أوجب
ذلك عليهما بعض السلف.
وأوجب الكفارة على المظاهر من زوجته، وعلى المرأة الموطوءة في
رمضان طائعة، وقد سمع النبي (ص) أمرها فلم يوجب عليها شيئا،
ولم يقيسوا المرأة المظاهرة من زوجها في إيجاب الكفارة عليها
على المظاهر، ولا على المرأة الموطوءة، وقد أوجب الكفارة على
المرأة المظاهرة من زوجها جمهور من السلف ومن بعدهم، وقاسوا
الاكل عمدا في رمضان، في إيجاب الكفارة عليه، على الواطئ في
رمضان عمدا.
ولم يقيسوا على ذلك مفسد صلاته عمدا، والصلاة أعظم حرمة من
الصوم.
ومن طرائف بعضهم إيجابه قياس من أفطر ناسيا في رمضان على من
أفطر
عمدا، في إيجاب القضاء عليهما، ولم يقسه عليه في إيجاب الكفارة
عليهما، نعم، ولم يقس الاكل ناسيا على المتقيئ ناسيا أو
مغلوبا، فأسقط على هذا ولم يسقطه عن الآخر.
وفرق بعضهم بين أحكام النيات ولم يقس بعضها على بعض فأجاز
بعضهم الطهارات بلا نية، ولم يجز الصلاة إلا بالنية، وبعضهم لم
يجز الطهارات إلا بنية وأجاز الصوم في الواجبات بلا نية محدثة
لكل يوم منه، وبعضهم أوجب النية في كل ذلك، ولم يوجبها في
أعمال الحج.
وأما تناقضهم في أعمال الحج فأكثر من أن يجمع في سفر وذلك فيما
أوجبوا فيه الفدية، وما أسقطوها فيه، ولم يقيسوا بعض ذلك على
بعض.
وأيضا فإن بعضهم قال: من طرح القراد عن نفسه لم يطعم، فإن طرحه
عن بعيره أطعم، ولم يقس أحدهما على الآخر.
ولم يقس بعضهم إباحة قتل الفأرة وإن لم تؤذه، على نهيه عن قتل
الغراب والحدأة إن لم تؤذياه.
(8/1093)
ورأى بعضهم الجزاء على قاتل السنور ولم يره
على قاتل الفهد، ولم يقس أحدهما على الآخر، ورأى قتل الفهد
قياسا على قتل السبع، ولم ير قتل الصقر البري قياسا على الغراب
والحدأة، بل رأى في الصقر البري الجزاء.
ولم يقس بعضهم استظلال المحرم في المحمل على استظلاله في
الخباء في الارض، ورأى على المستظل في المحمل الفدية، وكذلك في
السفينة، ولم يقس على ذلك من مشى في ظل المحمل، فلم ير عليه
الفدية.
ولم يقس بعضهم على دهن باطن يديه وباطن قدميه بسمن أو زيت، فلم
ير عليه فدية، على من دهن بذلك ظاهرهما، فرأى عليه الفدية.
ولم يقس بعضهم تحريمه ما ذبح المحرم من الصيد على ما ذبحه
السارق أو الغاصب فأباحه، وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأباح
الكل.
ولم يقس بعضم من دل من الحرمين حلالا على صيد أو أعطاه سيفا
يقتله به فلم يوجب عليه الفدية: على محرم آكل من صيد صيد من
أجله فأوجب عليه الجزاء، وقاس بعضهم عليه فأوجب الجزاء في كل
ذلك.
ولم يقس بعضهم حكمه بأن جناية العبد في رقبته على قوله، أن
أقتله الصيد ليس في رقبته.
وقاس بعضهم بيض الصيد على جنين المرأة، ولم يقسه بعضهم عليه،
ولم يقس بعضهم تحريمه على المحرم ذبح صيد صاده حلال على إباحته
ذبح الصيد في الحرام إذا دخل من الحل.
وقاس بعضهم قاتل الاسد على قاتل الذئب، فلم ير فيه جزاء، ولم
يقس قاتل النسر والعقاب على قاتل الحدأة والغراب، فرأى أن في
النسر والعقاب الجزاء، ولم يقس بعضهم قاتل الاسد والخنزير على
قاتل الذئب، فرأى في الاسد والخنزير الجزاء.
وقاس بعضهم: إن أصاب القارن صيدا فجزاء واحد، ولم يقسه على
القارن يفسد حجه، فرأى عليه هديين، وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض
فبعض أوجب في كل ذلك هديين، وبعض أوجب في كل ذلك هديا واحدا.
وأطرف من هذا أن بعضهم قال: على العبد الفار إذا دخل مكة أن
(8/1094)
يحرم وليس ذلك على الاعجمي المسلم، ولا على
الجارية المصونة للبيع، وله مثل ذلك في الفرق بين الشريعة
والدنية في النكاح بغير الولي وهذا أشنع مما أنكروه من ترك
القياس، لان هذا فرق بين الناس فأين هذا مما استعملوه من
التسوية بين الزاني والقتل في جلد مائة وتغريب عام ؟ وبين
الصداق والقطع في السرقة ؟
وبين المستحاضة والمصراة ؟ وهل في التخليط أكثر من هذا ؟.
وفرقوا - أو أكثرهم - بين صوم المرء عن غيره وحجه عنه، فلم
يروا ذلك ولم يقيسوه على الصدقة عنه والعتق عنه واحتجوا في ذلك
ب * (أن ليس للانسان إلا ما سعى) * وهذا إن منعت من الصيام
منعت من الصدقة ولا فرق ثم لم يقيسوا وصيته بالحج على وصيته
بالصوم.
ولم يقس بعضهم من وقف بعرفة قبل غروب الشمس، ثم دفع منها ولم
يعد إليها تلك الليلة فقالوا: بطل حجه على من يقف بمزدلفة حتى
طلعت الشمس من يوم النحر.
ولم يقس بعضهم من لم يدفع عن عرفة مع الامام، في إباحة الجمع
له بمزدلفة، على من لم يدرك الصلاة بعرفة مع الامام، في
إباحتهم له الجمع بين الصلاتين بعرفة، وقاس بعضهم قصر أهل منى
بعرفة، وأهل عرفة بمنى، على قصر أهل مكة بمنى وعرفة، ولم
يقيسوا على ذلك في سائر البلاد وقاس بعضهم كل ذلك في سائر
البلاد.
وقاس بعضهم الهدي على الاضحية فيما يجزي منها، ولم يقسه عليها
في الذبح والنحر قبل الامام، فأي ذلك يجزئ قبل الامام في الهدي
ولا يجزئه في الاضحية، وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في
الاباحة.
ولم يقس بعضهم الاعمى في وجوب الحج عليه على المقعد في سقوط
الحج عنه وقاسه بعضهم عليه.
وقال بعضهم سكان ذي الحليفة وهم على نحو مائتي ميل وخمسين ميلا
من مكة، على سكان يلملم، وهو على نحو ثلاثين ميلا من مكة إنها
لا هدي عليهما إن تمتعا، ولم يقسم على ما بينهم وبين مكة كالذي
بينهم وبينها، ولم يقس
(8/1095)
أهل يلملم على أهل ذي الحليفة في قصر
الصلاة والافطار في الصوم، وساوى غيرهم منهم بين كل ذلك في
إيجاب الهدي عليهم كلهم التمتع ولم يسو بينهم في قصر الصلاة،
ولم يقس بعضهم لابس المخيط في الاحرام يوما من غير ضرورة على
لابسه أقل من يوم لغير ضرورة.
ولم يقس بعضهم قوله في تحريم قتل المحرم للسبع الذي لا يؤذيه،
وإيجاب الجزاء في ذلك، على قوله في إباحة قتله للذئب ومن لم
يؤذه ولم يجعل في ذلك جزاء وهم مع ذلك - قليلا منهم - يقيسون
قاتل الصيد خطأ على قاتله عمدا، وعلى قاتل حيوان وغيره خطأ،
فأوجبوا الجزاء في ذلك ولم يقيسوا - إلا قليلا منهم - قاتل
النفس عمدا على قاتلها خطأ، فلم يروا في قاتلها عمدا كفارة.
وقاس بعضهم سقوط الجزاء على قاتل السبع العادي عليه على سقوط
الضمان عنه في البعير العادي فيقتله، ولم يقس بعضهم ذلك فرأى
الضمان على قاتل البعير العادي عليه، ولم ير الجزاء على قاتل
السبع العادي عليه، وقد قاسوا بعض ذلك على بعض في إيجاب الجزاء
في قتل الخطأ.
ولم يقس بعضهم الحلال بقتل الصيد في الحرام - في حكم الجزاء -
على المحرم بقتل الصيد في الحل، فرأى الصيام على المحرم، ولم
يجزه للحلال إلا بالمثل والاطعام فقط وساوى الامرين.
ولم يقيسوا قاتل الصيد في حرم المدينة - في إيجاب الجزاء عليه
- على قاتله في حرم مكة، وقد أوجب ذلك بعض السلف والخلف.
ولم يقس بعضهم من اشترى أحد أربعة أثواب بغير عينه على أن يأخذ
أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثا، فلم يجز هذا العقد، على إجازته
إذا اشترى أحد ثلاثة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء
بدينار بالخيار ثلاثا، وسوى بعضهم بين كل ذلك من المنع أو
الجواز.
ولم يقس بعضهم قوله في تحريم بيع لبن النساء محلوبا في قدح على
إباحته بيع سائر الالبان محلوبة في قدح.
ولم يقس بعضهم تحريم البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في الذهب
بعينه بالذهب بغير عينه، وفي الفضة بالفضة كذلك، على إباحة
تمام البيع قبل تمام
(8/1096)
القبض قبل التفرق في البر بالبر كذلك،
والشعير بالشعير كذلك، والتمر بالتمر كذلك، والملح بالملح
كذلك، فأبطل البيع في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة على كل حال،
وأجازه في هذه الاربعة إذا قبض الذي بغير عينه ولم يقبض الذي
بعينه، وقاس بعضهم كل ذلك في المنع من جوازه.
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من جواز بيع شحم البطن باللحم
متفاضلا على إباحته جواز بيع شحم الظهر باللحم متفاضلا، وسوى
بعضهم بين كل ذلك.
ولم يقس بعضهم قوله: إن الالية يجوز أن تباع باللحم متفاضلا
على منعه من بيع سائر الاعضاء باللحم متفاضلا، وسوى بعضهم بين
كل ذلك.
وقاس بعضهم جواز بيع الرطب بالتمر، على جواز بيع التمر الحديث
بالتمر القديم.
وقاس بعضهم جواز بيع الدقيق بالبر متماثلا على المنع من انتباذ
الرطب والتمر، وقال: هما صنفان.
وقاس بعضهم منعه من بيع الدقيق بالبر البتة على النهي عن بيع
الرطب بالتمر وقال هما صنف واحد مجهول تماثله.
ولم يقس بعضهم رجوع من أعتق مملوكا اشتراه، ثم اطلع على عيب
بأرش العيب على منعه من ابتاع طعاما فأكله ثم اطلع على عيب كان
به من الرجوع بأرش العيب.
ولم يقس بعضهم من باع مال غيره بغير إذن على من اشترى له شيئا
بغير إذنه، وساوى بعضهم بين كلا الامرين.
ولم يقس بعضهم بيع من طرأ عليه الخرس على بيع من ولد أخرس
فأجازه ههنا وأبطله هنالك.
ولم يقس بعضهم بيع السكران على طلاقة، فأجاز طلاقه وأبطل بيعه
وقاسه بعضهم فأبطل كل ذلك، وقد أجاز كل ذلك بعضهم.
ولم يقس بعضهم جواز السلم في الشحم على جوازه في اللحم، وقاس
ذلك بعضهم فأجاز كل ذلك.
ولم يقس بعضهم جواز السلم في السمك المالح على قوله في المنع
من السلم في السمك الطري، وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض في المنع
من الكل أو جواز الكل.
(8/1097)
ولم يقس بعضهم على جواز سلم الذهب والفضة
في سائر الموزونات، جواز سلم الموزونات بعضها على بعض، وقاس
ذلك بعضهم فأجازه فيما عدا ما يؤكل.
ولم يقس بعضهم جواز السلم في قوله بتأخير النقد لرأس المال
اليوم واليومين بشرط وبغير شرط، على منعه من ذلك في الايام
الكثيرة بشرط وبغير شرط، وقاس غيره بعض ذلك على بعض في المنع
من الكل.
ولم يقس بعضهم جواز السلم في القمح والفاكهة والكناش واللبن،
على أن يأخذ منه كل يوم مقدارا معلوما، واشترطا تأخير نقد
الثمن إلى الاجل البعيد على سائر قوله في المنع من تأخير النقد
في السلم، ومن منعه الدين بالدين.
ولم يقس بعضهم قوله في إباحة دقيق البر بالبر متماثلا، والمنع
منه متفاضلا، على قوله: إن من سلم في قمح موصوف فحل الاجل
فجائز عنده أن يأخذ مكان القمح شعيرا أو سلتا مثل كيل قمحه،
ولا يأخذ دقيق قمح ولا علسا مثل مكيلة قمحه، وكل ذلك عنده صنف
واحد.
ولم يقس بيع البر بالشعير والتمر والملح جزافا، على بيع الذهب
والفضة جزافا، وأطرف من ذلك أنه لم يقس جواز بيع المصوغ من
الذهب والفضة جزافا على قوله في المنع من بيع المسكوك منهما
جزافا..ولم يقس بعضهم من سلم في طعام إلى أجل مسمى، فأتاه به
الذي هو عليه قبل الاجل، فقال: لا يجيز على قبوله قبل أجله،
على قوله فيمن أقرض آخر طعاما إلى أجل فأتاه به قبل الاجل،
قال: يجيز على قبضه، وقاس غيره منهم أحدهما على الآخر: أن يجيز
على القبض قبل الاجل.
ولم يقس بعضهم تعين الدنانير والدراهم في المغصوب والبيوع على
تعين سائر العروض، وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في تعيين كل
ذلك.
ولم يقس بعضهم قوله فيمن ابتاع طعاما فعاب عليه فأباح الاقامة
فيه من جميعه
(8/1098)
ولم يبح من بعضه، على قوله فيه إذا لم يعب
عليه فأجاز الاقالة من كله ومن بعضه.
ولم يقس بعضهم قوله في بطلان الصرف التفرق قبل تمام القبض، من
قوله في جواز الاقالة مع التفرق قبل القبض التفرق اليسير، ولا
قاس إباحة ذلك في الاقالة بالتفرق اليسير على التفرق الكثير.
ولم يقس بعضهم منعه من التفاضل في الدقيق بالبر على إباحة
التفاضل في السويق بالبر، وكلاهما بر مطحون، لم يسق الدقيق
السويق، ولا السويق الدقيق، وأطرف من هذا أنه لم يقس جواز بيع
البلح الصغار بالتمر عنده متفاضلا على المنع البلح الكبار
بالتمر.
ولم يقس بعضهم ما يبس من الزفيرف وعيون البقر والخوخ والكمثرى،
في حكم جواز بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا، على منعه من بيع
الزبيب والبر والتين والبلوط بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا،
ثم قاس الاصناف
الاول على الاصناف الاخر في المنع من بيع كل ذلك قبل أن يقبض،
وقاس غيره منهم كل ذلك بعضه ببعض، حتى السقمونيا والهليلج.
وقاس بعضهم المأكول على المأكول في الربا، ولم يقس المعادن
بالمعادن في الربا، فأباحوا رطل حديد برطلي حديد، والحديد
بالنحاس والذهب والفضة والرصاص والقصدير والزئبق معدنيات كلها.
ولم يقس بعضهم قوله: إن القطنية كلها جنس واحد في الزكاة، على
أنها أصناف متفرقة في البيوع.
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع الزبد باللبن، أو الجبن
باللبن، أو السمن باللبن جملة، ولا الزيت بالزيتون جملة، على
قوله في جواز بيع البر بالدقيق من البر متماثلا، ولا على قوله
في جواز بيع السويق في البر بالبر متفاضلا.
ولم يقس بعضهم قوله: إن سمن البقر وسمن الغنم صنف وقولهم إن
لحم الخروف من الضأن ولحم الحمار الوحشي صنف واحد، وكذلك لحم
الارنب على قوله: إن زيت الزيتون وزيت الجلجلان وزيت الفجل
أصناف متفرقة،
(8/1099)
يجوز بعضها ببعض متفاضلا يدا بيد، ولا يجوز
ذلك في نبيذ التمر بنبيذ الزبيب ولا يجوز ذلك في لحم الجمل
بلحم الارنب، ولا في لحم حمار الوحش بلحم الخروف، ولا فرق بين
تعليله بأن كل ذلك ذو أربع وبين تعليل غيره أن كل ذلك من الطير
ومن غيره لحم، ومن تعليل غيره بالتأنس في الطير وذي الاربع،
والتوحش أيضا فيهما، لان الله تعالى جزى الصيد بالانعام.
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع العنب بالعصير البتة على
قوله في إجازة بيع العنب بخل العنب متفاضلا، وقد يخرج الخل من
العنب دون توسط كونه عصيرا.
ولم يقس بعضهم قوله: لا يباع اللبن بالسمن أصلا، لانهما صنف
واحد
مجهول نماثله، ولا الشاة اللبون باللبن أصلا، على إجازته مع
الشاة اللبون بالسمن، ولا اللبن بالقمح إلى أجل على إجازته
الشاة اللبون بالقمح إلى أجل.
ولم يقيسوا قولهم في المنع من بيع القمح بالقمح بالتحري دون
كيل ولا وزن على جواز ذلك عندهم في اللحم باللحم من صنفه، نعم
ولم يجيزوا الذهب بالفضة بالتحري وأجازوه في القمح بالتمر
بالتحري.
ولم يقس بعضهم جواز القمح بالقمح عنده وزنا على منعه من سحالة
الذهب بالذهب كيلا.
وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس منعه من اللحم المشوي باللحم
النئ جملة على قول في إباحة اللحم المطبوخ باللحم النئ متماثلا
ومتفاضلا، وكلاهما يدخله ملح وصنعة وأغرب حكم من ذكرنا بأن
اللحم والشحم صنف واحد، وأن لحم النعامة والكركي ولحم الزرزور
صنف واحد وأن لحم النعامة المطبوخ ولحمها النئ صنفان يجوز
فيهما التفاضل.
ولم يقس بعضهم جواز دجاجة بدجاجتين على قوله في لحم دجاجة بلحم
دجاجتين.
(8/1100)
ولم يقس بعضها منعه من ابتياع شاة واستثناء
جلدها في الحضر على قوله في إباحة ذلك في السفر.
وأغرب من هذا أن بعضهم لم يقس قوله في إباحة ابتياع شاة
واستثناء أرطال خفيفة منها، أو استثناء رأسها، على قوله في
التحريم أن يستثني منها أرطالا كثيرة أو أن يستثنى جنينها
ولعله ليس فيه نصف رطل أو أن يستثنى يدها أو رجلها أو فخذها،
ولم يقس بعضهم منه من ابتياع لحم هذه الشاة الحية على إباحته
ابتياعها، واستثناء البائع جلده، والعجب أن هذا الذي منع هو
الذي أباح بعينه ليس هو
شيئا آخر، لانه في كلتا المسألتين إنما اشترى مسلوخها فقط ولا
مزيد.
ولم يقس بعضهم قوله في جواز بيع صغار الحيتان جزافا على منعه
من بيع كباره جزافا وقد يكون تكلف عد الكبار لكثرتها أصعب من
عد الصغار لقلتها.
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من ابتياع رطل لحم من هذه الشاة
وإن شرع في ذبحها على قوله في إباحه ابتياع رطل من لبنها إذا
شرع في حلبه.
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع لبن هذه الشاة شهرا على
إباحة بيع لبنها كيلا، وعلى إباحة بيع لبن هذه الغنم شهرا ولم
يقس بعضهم قوله في منع اقتسام الزرع والقمح بالتحري على قوله
في إجازة قسمة اللحم بالتحري.
ولم يقس بعضهم بيع بطن بعد بطن جملة، شجر تحمل بطنين في السنة،
على قوله في إجازة بيع المقاثي بطنا بعد بطن، والفصيل كذلك.
وقاس بعضهم جواز السلم في المعدود والمزروع وغير ذلك على جواز
السلم في المكيل والموزون، ولم يقيسوا جواز السلم حالا على
جوازه إلى أجل وقاس بعضهم كل ذلك بالجواز.
ولم يقس بعضهم جواز إنكاح اليتيمة بنت عشر سنين للفاقة على
منعه في إباحة الفروج للضرورة.
(8/1101)
وقاس بعضهم فاعل فعل قوم لوط على الزاني،
ولم يقس واطئ البهيمة على الزاني، وكلاهما واطئ في مكان محرم.
ولم يقيسوا الغاصب على السارق ولا على المحارب، وكلاهما أخذ
مالا بغير حق، والغاصب بالمحارب أشبه من اللوطى بالزانى لأن
الدبر غير الفرج والغاصب والمحارب مستويان في الاخافة وأخذ
المال، ولا سيما بعضهم يقول
بقياس الشارب على القاذف، فقد بان تناقضهم.
فإن قالوا: إن الصحابة قاسوا الشارب على القاذف، فقد تقدم
تكذيب هذه الدعوى لا سيما وقد كفانا بعضهم المؤنة في هذا،
فنسوا أنفسهم وقالوا: الحدود لا تؤخذ قياسا، وقد علمنا أن كل
ما جاز للصحابة فهو جائز لمن بعدهم، وما حدث دين جديد بعد موت
النبي (ص) وأين الائتساء بالصحابة رضوان الله عليهم حتى يتركوا
النصوص لقول بعضهم إذا وافق تقليدهم ؟ فيلزمهم أن يوجبوا حدا
على شارب الدم وأكل الميتة ولحم الخنزير.
وقد قاس بعض الفقهاء هؤلاء على شارب الخمر، فرأى على كل واحد
منهما ثمانين جلدة، وهو الاوزاعي، مع أن قياس شرب الدم على شرب
الخمر، لو جاز القياس، أولى من قياس شرب الخمر على قذف محصنة.
ووجدنا بعضهم قد قاس من سرق أو شرب أو زنى ثم تاب واعترض على
المحارب في سقوط الحد عنه.
حدثنا يحيى بن عبد الرحمن، حدثنا أحمد بن دحيم، حدثنا إبراهيم
بن حماد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا نصر بن علي، ثنا محمد بن
بكر - هو البرساني - عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه
قال: إذا سرق اللص ثم جاء تائبا فلا قطع عليه.
وبعضهم لم يقس هؤلاء على المحارب، وقاسهم على القاتل، والقاتل
أبعد شبها من الحدود الواجبة من المحارب.
وقد قاس بعضهم القاتل إذا عفي عنه على الزاني غير المحصن، ولم
يقس المرتد إذا راجع الاسلام، ولا المحارب إذا تاب قبل القدرة
عليه، أو إذا عفا الامام عن قتله، أو اقتصر على ما دون ذلك،
وكل هذا تناقض.
وقد ساوى الله تعالى بين الخمر والميسر، والانصاب والازلام،
فهلا قاسوا
(8/1102)
وأوجبوا على لاعب القمار والميسر، وعلى
المستقسم بالازلام حدا كحد الخمر ثانيا.
وبعضهم لم يقس قوله في جواز بيع جزء مشاع على قوله في المنع من
جواز رهنه وهبته والصداق به.
وأكثرهم قاس البيع حين النداء للجمعة، على النكاح حينئذ
والاجازة في جواز كل ذلك أو في إبطال كل ذلك.
قاس بعضهم دخول حمل الجارية من غير سيدها، وابن الشاة، وحمل
الشجر في الرهن على كون الحوامل لكل ذلك في الرهن، ولم يقس
سقوط ما قابل الحوامل إذا تلفت من الشئ المرتهن فيه على قوله:
إنه لا يسقط من الحق شئ يتلف الولد والحمل واللبن.
وبعضهم لم يقس قوله في بيع القاضي دنانير الغرم في ديونه التي
هي دراهم أو دراهمه في ديونه التي هي دنانير، على قوله في
المنع من بيع ما هذا ما عدا ذلك في شئ من ديونه.
وبعضهم لم يقس قوله في المنع من بيع مال الحي، على قوله في
إباحة بيع مال الميت في ديونهما.
وبعضهم لم يقس قوله في جواز النكاح بشهادة حرين فاسقين، على
قوله في إبطال النكاح بشهادة عبدين عدلين.
وأكثرهم لم يقس الكافر الوثني يسلم فيعرض على امرأته الاسلام
فتأبى، فيفسخ النكاح عنده، على قوله في امرأة الكافر تسلم
فيستأني عنده بفسخ نكاحه ما لم تنقض عدتها، ولم يسلم هو،
وبعضهم ساوى بين الامرين.
وبعضهم لم يقس قوله في كل كافر تزوج كافرة على خمر بعينها أو
خنزير بعينه، ثم أسلما فلا شئ لها غير ذلك - على قوله: إن
أصدقها خمرا بغير عينها، أو خنزيرا بغير عينه، ثم أسلما فقال:
لها في الخمر قيمتها، ولها في الخنزير مهر مثلها.
وبعضهم لم يقس الحر يتزوج المرأة على خدمته لها شهرا - فقال:
لها مهر مثلها - على العبد يتزوجها على ذلك، وقال: ليس لها إلا
خدمته لها.
ولم يقس بعضهم إيجابه الطلاق على الذمي على قوله في إسقاط
العدة عن الذمية يطلقها الذمي.
(8/1103)
ولم يقس بعضهم قوله: إن أجل العبد في العنة
ستة أشهر، وأجله في الايلاء شهران، وأجل الامة في المفقود
سنتان، وطلاق العبد تطليقتان، وعدة الامة حيضتان، على قوله: إن
للعبد أن يتزوج أربعا، وعلى قوله: إن صيامه في الظهار شهران،
وفي الوطئ في نهار رمضان كذلك، وفي قتل الخطأ كذلك، وشهادة
العبد والامة أربع شهادات في اللعان كالحر والحرة، وعدة
المستحاضة الامة سنة كالحرة.
وقاس كل ذلك بعضهم فجعل حكم العبد كل ذلك على نصف حكم الحر.
وقال آخرون منهم: أجل العبد في الايلاء أربعة أشهر، ولا يتزوج
إلا امرأتين، فأبو حنيفة يقول: عدة الامة حيضتان، ومن الوفاة
نصف عدة الحرة، وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة، وتحرم الامة
على زوجها الحر أو العبد بتطليقتين إلا بعد زوج، ولا يتزوج
العبد إلا امرأتين فقط، وأجل العبد يولي من زوجته الامة نصف
أجل الحر، في إيلائه وأجل الحر في إيلائه من الامة نصف أجل
إيلائه من الحرة.
قال أبو حنيفة: صيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والامة
كصيام الحر في ظهاره من الزوجة الحرة والامة، ولا تحرم الحرة
على زوجها العبد إلا بثلاث طلقات، وأجل العبد على زوجته الحرة
أو الامة كأجل الحر في ذلك، وأجل العبد يولي من الزوجة الحرة
كأجل الحر.
وقال مالك: عدة الامة حيضتان، ومن الوفاة نصف عدة الحرة، وتحرم
الزوجة الحرة والامة على العبد بتطليقتين، وأجل العبد يولي من
زوجته الحرة والامة نصف أجل الحر، في إيلائه وأجل العبد يعن عن
زوجته الحرة والامة نصف أجل الحر.
وقال مالك: يتزوج العبد أربعا من الحرائر، والاماء وصيام العبد
في ظهاره من زوجته الحرة والامة، كصيام الحر، وعدة الامة في
الطلاق بالشهور ثلاثة أشهر كالحرة.
وقال الشافعي: عدة الامة حيضتان، وفي الوفاة وبالشهور في
الطلاق نصف عدة الحرة، وتحرم الحرة والامة على العبد
بتطليقتين، ولا يتزوج العبد إلا اثنتين،
(8/1104)
وأجل العبد يعن أيولي من الحرة أو الامة
كأجل الحر في كل ذلك، وصيامه في الظهار كصيام الحر.
فاعجبوا لتناقض قياساتهم وهكذا في سائر الاحكام ولا فرق.
فاتفقوا في صوم الظهار على ألا يقيسوه على سائر أحكام العبد،
ولا إجماع في ذلك، لان قتادة وغيره يقول: هو على نصف صيام
الحر، ولم يتفقوا على نصف حكم العبد من حكم الحر إلا في عدة
الوفاة، وعدة الحيض وطلاق العبد والامة، ولا إجماع في ذلك، لان
ابن سيرين يرى عدة الامة كعدة الحرة في الوفاة وفي الاقراء،
وصح عن ابن عباس أنه أمر عبده بمراجعة زوجته، وهي أمة بعد
طلقتين، ولم يقس بعضهم قوله: من نظر إلى فرج امرأة طلقها طلاقا
رجعيا في العدة بشهوة فهي رجعة، على قوله: فإن نظر إلى شئ من
بدنها غير الفرج بشهوة فليست رجعة، ولا على قوله إنه إن لمسها
في بدنها بشهوة فهي رجعة.
ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته: لست لي بامرأة ونوى
الطلاق ولم يره طلاقا، على قوله لها: قومي ونوى الطلاق فهو
طلاق.
ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته: اختاري، فقالت: أنا
أختار نفسي، قال: فهي بذلك طالق: على قوله لها: طلقي نفسك
فقالت: أنا أطلق نفسي، أو قالت: قد اخترت نفسي، فلم ير ذلك كله
طلاقا، ولا على قوله: لو قال لها: لا ملك لي عليك، قال: هو
طلاق.
ولا قاس بعضهم قوله لمن قال لامرأته: أنت طالق مثل الجبل،
فجعلها واحدة رجعية على قوله: إن قال لها أنت طالق مثل عظيم
الجبل فجعلها واحدة بائنة.
ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته: اختاري اختاري، اختاري
فقالت: قد اخترت نفسي بالاولى أو قالت بالوسطى أو قالت بالآخرة
فهي طلقة واحدة، على قوله فيمن قال لامرأته: اختاري اختاري
اختاري، فقالت: قد اخترت نفسي بالواحدة، أو قالت واحدة، قال:
فهي طالق ثلاثا.
ولا قاس بعضهم قوله في التخيير على قوله في التمليك.
ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها، أنت علي
حرام مثل الخنزير والميتة والدم، فقال: هي ثلاث ولا بد، على
قوله ذلك في غير المدخول بها
(8/1105)
وقال بعد ذلك: لم أنو إلا واحدة فإنه يحلف،
وتكون واحدة ويراجعها إن أحبا، ولم يقس ذلك كله على قوله: قال
لمدخول بها أو لغير مدخول بها: أنت بتة، أو أنت البتة، فقال:
هي ثلاث على حال فيهما معا.
ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها وغير المدخول
بها: قد خليت سبيلك، إنه ينوي ويحلف على ما نوى، على قوله لمن
قال لامرأته: حبلك على غاربك، إنها في المدخول بها ثلاث ولا
بد، وفي غير المدخول بها ينوي وتكون واحدة، ولا قاس أكثرهم في
قوله في التحريم في الزوجة على قوله في التحريم في الامة وقد
سوى بعضهم بين كل ذلك.
ولا قاس بعضهم قوله فيمن شك أطلق زوجته أم لم يطلق وهي تقول
له: لم تطلق أنه تطلق عليه ولا بد.
على قوله فيمن قال لامرأته: إن كتمتني أمرا كذا فأنت طالق،
أوقال لها: إن أبغضتني فأنت طالق، فأخبرته بخبر لا يدري أكتمه
ما حلف عليه أم، وقالت له: لست أبغضك وهو لا يدري أصدقت أم
كذبت أنه طلاق عليه.
ولا قاس بعضهم قوله في إباحة جميع كفارات الايمان قبل الحنث
على قوله: إن كفارة يمين الايلاء لا تكون إلا بعد الحنث.
ولا قاس بعضهم جواز تسري العبد عبده على منعه من التفكير
بالعتق فيما لا يجزي فيه إلا العتق لواجد الرقبة، وهو واجد
رقابا يطؤهن.
ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها عليك
فهي كظهر أمي، قال: ليتزوج عليها واحدة أو اثنتين معا أو ثلاثا
معا، وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة على قوله لها: ومتى
تزوجت عليك فالتي أتزوج عليك كظهر أمي، فرأى عليه لكل امرأة
يتزوجها كفارة.
ولم يقس بعضهم سقوط اللعان على الاعمى والمحدودة لسقوط شهادتها
على قوله: إن اللعان لا يسقط عن الفاسق المعلن لسقوط شهادته.
ولم يقس بعضهم قوله: من أعسر النفقة أجل شهرين أو نحوهما وإلا
فرق بينهما، على قوله: فإن أعسر بالصداق أجل عامين أو نحوهما
ثم فرق بينهما.
ولم يقس بعضهم عدة المستحاضة من الطلاق سنة، ميزت الدم أم لم
تميز كانت
(8/1106)
لها أيام معهودة أو لم تكن، على قوله:
عدتها من الوفاة أربعة أشهر وعشر.
ولم يقس بعضهم قوله: من قتل أمة أو عبدا قيمة كل واحد منهما
مائة ألف درهم لم يغرم في العبد إلا عشرة آلاف درهم غير عشرة
دراهم، وفي الامة خمسة
آلاف درهم غير خمسة دراهم، فإن كانت القيمة أقل من عشرة آلاف
في العبد وخمسة آلاف في الامة غرم القيمة كلها، على قوله: إن
غصب عبدا أو أمة فماتا عنده غرم قيمتهما، ولو بلغت ألف درهم،
ولم يقس هذا الهذيان على سائر أقواله: إن أحكام العبد على نصف
أحكام الحر، في النكاح والطلاق وغير ذلك.
ولم يقس قوله: إنه يقص بين الحر والعبد والكافر والمؤمن في
النفس على قوله: إن ما دون النفس يقص فيه بين المؤمن والكافر،
ولا يقص فيه بين العبد والحر.
ولم يقس بعضهم قوله: يقتل عشرة بواحد على قوله: لا تقطع يدان
بيد، ولا عينان بعين.
ولم يقس بعضهم قوله: لا يستقاد من أحد بحجارة ولا بطعنة رمح،
على قوله: يقتل الزاني المحصن بالحجارة والمحارب بالطعن
بالرمح.
ولم يقس بعضهم إباحته قتل المرأة في الزنى وفي القود على قوله
في منع قتلها إذا ارتدت.
قال أبو محمد: فيما ذكرنا كفاية على أننا لم نكتب من تناقضهم
في القياس، وتركهم في القياس، وتركهم له إلا جزءا يسيرا جدا من
أجزاء عظيمة جدا، ولو تقصينا ذلك لقام منه ديوان أعظم من جميع
ديواننا هذا كله.
وكل ما ذكرنا فإنهم إن احتجوا فيه بإجماع على تركه لم ينفكوا
من أحد وجهين: إما أن يدعوه بغير علم فيكذبوا، وإما أن يصدقوا
في ذلك، فإن كانوا قد صدقوا أقروا أن الاجماع جاء بترك القياس،
ولو كان حقا ما جاء الاجماع بتركه، وإن ادعوا أنهم تركوا
القياس حيث تركوه لنص وارد في ذلك، فاعلموا أن كل قياس
خالفناهم فيه، فإن النص قد ورد بخلاف ذلك القياس، لا بد من
ذلك، وإن قالوا بتركنا القياس حيث تركناه لدليل غير النص، قلنا
لهم هذا ما لا نعرفه ولا ندريه، وأي دليل يكون أقوى من النص ؟
هذا عدم لا سبيل إلى وجوده أبدا.
وبالجملة فكل واحد منهم إنما استعمل القياس في يسير من مسائله
جدا، وتركه
(8/1107)
في أكثرها، فإن كان القياس حقا فقد اخطؤوا
بتركه وهم يعلمونه، وإن كان باطلا فقد اخطؤوا باستعماله، فهم
في خطأ متيقن إلا في القليل من أقوالهم.
وقال بعضهم: لا نقيس على شاذ.
قال أبو محمد: وهذا تحكم فاسد، لانه ليس شئ في الشريعة شاذا،
تعالى الله أن يلزمنا الشواذ، بل كل ما جاء عن الله تعالى وعن
رسوله (ص) فهو حق، والحق لا يكون شاذا، وإنما الشاذ الباطل.
وقال بعضهم: لا نقيس على فرع.
قال أبو محمد: وهذا كالاول، ولا فرع في الشريعة، وكل ما جاء
نصا أو إجماعا فهو أصل، فأين ههنا فرع ؟ لو أنصف القوم أنفسهم
؟.
وقال بعضهم: الحدود والكفارات لا تؤخذ قياسا.
قال أبو محمد: وما الفرق بينهم وبين من قال بل العبادات وأحكام
الفروج لا تؤخذ قياسا، وكل من فرق بين شئ من أحكام الله تعالى
فهو مخطئ، بل الدين كله لا يحل أن يحكم في شئ منه بقياس، على
أنهم قد تناقضوا وقاسوا في البابين، وأوجبوا حد اللوطي قياسا،
وأوجبوا كفارات كثيرة قياسا، والقوم متناقضون تناقضا يشبه
اللعب والهزل: أعوذ بالله مما امتحنوا به.
فإن قال قائل: وأنتم قد تركتم حديثا كثيرا.
قلنا لهم: وبالله تعالى التوفيق: كذبتم وأفكتم، ولا يوجد ذلك
من أحد منا أبدا إلا أربعة أوجه لا خامس لها: إما لقيام
البرهان على نسخه أو تخصيصه بنص آخر، وهذا لا يحل لاحد.
وإما أنه لم يبلغ إلى الذي لم يقل به منا، وهذا عذر ظاهر و *
(لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها) *.
وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلس إلا ما قال فيه حدثنا
أو أنبأنا وهذا خطأ، وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلس
المنكرات إلى الثقات، إلا ما صح فيه تدليسه، وبهذا نقول وعلى
كل ما ذكرنا البرهان، والبرهان لا يتعارض، والحق لا يعارضه حق
آخر.
وإما أن بعضنا يرى ترك الحديثين المتعارضين، لانه لم يصح عنده
الناسخ،
(8/1108)
وإذ لم يصح عنده الناسخ منهما فهو منهي أن
يقفو ما لا علم له به، وهذا خطأ، وبعضنا يرى ههنا الاخذ
بالزائد، وبه نقول.
فليس منا أحد - ولله الحمد - ترك حديثا صحيحا بلغه بوجه من
الوجوه لقول أحد دون رسول الله (ص)، ولا لرأي ولا لقياس ونعوذ
بالله من ذلك.
وأما هم فإنهم يتركون نصوص القرآن لآرائهم وأهوائهم وتقليدهم،
ويتركون الصحيح من الحديث عندهم كذلك، ويتركون القياس وهم
يعرفونه ويعلمونه وهو ظاهر إليهم كذلك، فالقوم لم يتمسكوا إلا
باتباع الهوى والتقليد فقط، ونعوذ بالله من الخذلان.
وقد انتهينا من إيضاح البراهين على إبطال الحكم بالقياس في دين
الله تعالى إلى حيث أعاننا الله تعالى عليه، راجين الاجر
الجزيل على ذلك، ولاح لكل من ينصف نفسه: أن القياس ضلال ومعصية
وبدعة، لا يحل لاحد الحكم به في شئ من الدين كله، فليتق كل
امرئ ربه.
ولا يحمله اللجاج على الاعراض عن الحق، ولا يقتحم به حب
استدامة رياسة قليلة على تحمل ندامة طويلة، فعن قريب يقف في
مواقف الحكم بين يدي عالم الخفيات، فليفكر من حكم في دين الله
تعالى بغير ما عهد به إليه في كلامه وكلام رسول الله (ص)
إلينا: ماذا
تكون حجته إذا سئل عن ذلك ؟.
وليوقن أن من سئل يوم القيامة بماذا حكمت ؟.
فقال: بكلامك يا رب وكلام رسوله إلي، فقد برئ من التبعة من هذا
الوجه جملة، ومن زاد على ذلك أو تعداه فلينظر في المخلص، وليعد
المسألة في حكمه بتقليد الآباء ورأيه وقياسه جوابا و: *
(فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمري إلى الله) * وحسبي الله ونعم
الوكيل.
(8/1109)
الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول
بالعلل في جميع أحكام الدين قال أبو محمد علي بن أحمد، رضي
الله عنه: ذهب القائلون بالقياس من المتحذلقين المتأخرين إلى
القول بالعلل، واختلف المبطلون للقياس، فقالت طائفة منهم: إذا
نص الله تعالى على أنه جعل شيئا ما سببا لحكم ما، فحيث ما وجد
ذلك السبب وجد ذلك الحكم، وقالوا: مثال ذلك قول رسول الله (ص)،
إذ نهى عن الذبح بالسن: وأما السن فإنه عظم.
قالوا: فكل عظم لا يجوز الذبح به أصلا، قالوا: ومن ذلك قول
رسول الله (ص) في السمن تقع فيه الفأرة: فإن كان مائعا فلا
تقربوه قالوا: فالميعان سبب أن لا يقرب، فحيث ما وجد مائع حلت
فيه نجاسة فالواجب ألا يقرب.
قال أبو محمد: وهذا ليس يقول به أبو سليمان رحمه الله، ولا أحد
من أصحابنا، وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا
كالقاساني وضربائه.
وقال هؤلاء: وأما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال فيه: إن هذا
لسبب كذا.
وقال أبو سليمان، وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله
شيئا من الاحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه، فإذا نص
الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على أن أمر كذا لسبب
كذا أو من أجل كذا، ولان كان كذا أو لكذا،
فإن ذلك كله ندري أنه جعله الله أسبابا لتلك الاشياء في تلك
المواضع التي جاء النص بها فيها.
ولا توجب تلك الاسباب شيئا من تلك الاحكام في غير تلك المواضع
البتة، قال أبو محمد: وهذا هو ديننا الذي ندين به، وندعو عباد
الله تعالى إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى.
فأما الحديث الذي ذكروا في السن أنه عظم، فكل عظم ما عدا السن
فالتذكية به جائزة، لان النبي (ص) لم يكن عاجزا عما قدر عليه
هؤلاء المتخرصون، ولو كانت الذكاة بالعظام حراما لما اقتصر (ص)
على ذكر السن وحده، ولما رضي بهذا العي من ذكر شئ وهو يريد
غيره، ولقال: ما أنهر الدم وفرى الاوداج فكلوا ما لم يكن عظما
أو ظفرا، وصح ضرورة أنه لو كانت العظمة
(8/1110)
مانعة من الذبح لما هي فيه، لما كان لذكر
السن معنى، ولكان تلبيسا لا بيانا، فوضح يقينا أن العظمة ليست
ما من الذبح بالجرم الذي هي فيه، إلا أن يكون في سن فقط، وكذلك
القول في الحديث الآخر ولا فرق.
والقائلون بخلاف قولنا قد تناقضوا في الحديث المذكور نفسه، ولم
يعنونا في طلب تناقضهم إلى مكان بعيد، لكن أتوا إلى قوله (ص)
في ذلك الحديث نفسه: وأما الظفر فإنه مدى الحبشة فكان يلزمهم -
إذا جعلوا قوله (ص) فإنه عظم سببا مانعا من الذبح بكل عظم - أن
يجعلوا قوله عليه السلام: وأما الظفر فإنه مدى الحبشة مانعا من
التذكية بكل مدية كانت لحبشي، وهذا ما لا يقولونه، بل اقتصروا
على المنع من الذبح بالظفر فقط.
فلو فعلوا كذلك في السن فمنعوا من الذبح به ولم يتعدوه إلى
سائر العظام لكان اهدى لهم، ولكن هكذا يتناقض أهل الخطأ.
وأما أصحاب مالك وأبي حنيفة، وهم المغلبون للقياس على نصوص
القرآن
والحديث في كثير من أقوالهم، فإنهم تركوا القياس ههنا جملة،
فأجازوا الذبح بكل عظيم، لم يقنعوا بهذا إلا حتى تجاوزوا ذلك
إلى تخصيص النص بلا دليل، فأجازوا الذبح بكل سن نزعت، واقتصروا
على المنع من الذبح بالسن التي لم تنزع، وأجازوا الذكاة بكل
ظفر قلع وهذا خطأ منهم.
والناقص من الدين كالزائد فيه ولا فرق.
* (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * فلو كان التعليل صوابا
لكان ما له نص الله تعالى عليه ورسوله (ص) بأن جعله سببا للحكم
أولى، عند كل من له مسكة عقل ودين، من علة يتكهنون في
استخراجها بلا دليل فهم قد قلبوا ذلك كما ترى.
قال أبو محمد: وأما الصواب الذي لا يجوز غيره فهو أن السن
والظفر لا يحل الذبح بهما ولا النحر، منزوعين كانا أو غير
منزوعين، فأما ما عداهما، من عظم ومن مدي الحبشة أو غير ذلك
مما يفري، فحلال الذبح به والنحر والتذكية.
فإن قالوا: إن الاجماع منعنا أن يطرد التعليل في مدي الحبشة في
الحديث المذكور، قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: قد ثبت الاجماع
على صحة قولنا، وعلى إبطال التعليل، وإلا نتعدى السبب المنصوص
عليه إلى ما لم ينص عليه، ولو كان التعليل حقا ما جاز وجود
الاجماع بخلافه.
(8/1111)
قال أبو محمد: وحدثنا عبد الرحمن بن عبد
الله بن خالد، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفربري، ثنا البخاري،
ثنا عبد الله بن الصباح، ثنا أبو علي الحنفي، ثنا قرة بن خالد
قال انتظرنا الحسن فجاء فقال: دعانا جيراننا هؤلاء، ثم قال:
قال أنس بن مالك نظرنا النبي (ص) ذات ليلة حتى إذا كان شطر
الليل يبلغه جاء فصلى لنا ثم خطبنا فقال: ألا إن الناس قد صلوا
رقدوا، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة.
قال أبو محمد: فقد جعل رسول الله (ص) من الاسباب التي يختار
لها
تأخير العتمة انتظار الصلاة، فيكون المنتظر لها في صلاة ما
انتظرها، ولم يكن هذا علة عند القائلين بالعلل في اختيار تأخير
العصر والمغرب، فإذا كان ما نص النبي (ص) عندهم ليس علة يبنى
عليها، فالتي ولدوها بآراهم الكاذبة أولى أن لا يبنى عليها.
وقد تعدى بعضهم ممن لم يتق الله عزوجل إلى أطم من هذا.
فقال: إن النبي (ص) يأمر بالامر ويقول بالقول مما لا يجوز، لكن
لعلة شئ آخر أراده.
قال: وذلك مثل قوله (ص): لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم ذكر
أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلوات في الجماعات فقالوا هذا لا
يجوز، وإنما قاله (ص) تغليظا، لا أنه أراد ذلك.
وقالوا: إن أمره (ص) بغسل الاناء من ولوغ الكلب سبعا ليس على
إيجاب ذلك، وإنما فعله ليزدجر الناس عن اتخاذها، لانها كانت
تؤذي المهاجرين.
قالوا: ومن ذلك قوله (ص) للذي دخل المسجد بهيئة بذة ورسول الله
(ص) يخطب يوم الجمعة فقال: قم فاركع ركعتين قالوا: والركوع
حينئذ لا يجوز، وإنما أمره بذلك ليفطن له الناس فيتصدقوا عليه.
وقالوا: من ذلك أيضا أمره (ص) بفسح الحج، إنما أمر به، وهو لا
يجوز، ليريهم جواز العمرة في أشهر الحج ولهم من هذا التخليط
المهلك كثير.
قال أبو محمد: وقائل هذا لولا أنه يعذر بشدة ظلمة الجهل، وضعف
العقل لما كان أحد أحق بالتفكير منه، وبضرب العنق وباستيفاء
المال، لانهم ينسبون إلى رسول الله (ص) أنه يأمر بالباطل وبما
لا يجوز، ويصفونه بالكذب.
(8/1112)
وليت شعري أعجز النبي (ص) عن أن يأمر بقتل
الكلاب، كما فعل إذ أمره الله تعالى، حتى يحلق هذا التحليق
السخيف ؟ الذي يشبه عقول المعللين
لأمره بغسل الاناء من ولوغها سبعا ؟.
أما من كان لهم عقل يعلمون به أنه أن من عصى أمره بألا تتخذ
الكلاب، وأن من اتخذ كلبا لم يبح له اتخاذه نقص من عمله كل يوم
قيراطان، فهو لامره بغسل الاناء سبعا، أعصى وأترك ؟ تعالى الله
عن هذا، وتنزه نبيه (ص) عن هذا الوصف الساقط، والصحابة رضي
الله عنهم أطوع وأجل لله تعالى ولرسوله (ص) من أن تكون هذه
صفتهم، أو تراه (ص) عجز عن أن يأمر أصحابه بالصدقة كما صرح لهم
بذلك غير مرة حتى يأمر بركوع لا يجوز ؟.
أترى الصحابة لم يعقلوا أن العمرة في أشهر الحج جائزة، وقد
اعتمد بهم النبي (ص) قبل ذلك في أشهر الحج عمرتين متصلتين بعد
ثالثة لم تتم، عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، بعدها، وعمرته من
الجعرانة بعد فتح مكة، كلهن في أشهر الحج قبل حجة الوداع: أما
اكتفوا بهذا وبأمره (ص) لهم في حجة الوداع: فمن شاء منكم أن
يهل بعمرة فليفعل فأهل بالعمرة نساؤه وكثير من أصحابه أما يكفي
هذا من البيان بأن العمرة في أشهر الحج جائزة ؟ حتى يحتاج إلى
أمرهم بما لا يحل ؟ بزعم من لا زعم له من فسخ الحج.
أما لمن نسب هذا إلى الصحابة رضي الله عنهم عقل أو حس يردعه عن
هذا السخف والجنون ؟.
إن من ظن هذا بهم لفي الغاية القصوى من الاستخفاف بأقدارهم، أو
في غاية الشبه بالانعام، بل هو أضل سبيلا.
وتراه (ص) لو لم يكن يريد إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في
الجماعة حقا ؟ أما كان يكتفى بأن يأمر بهجرهم، كما فعل
بالمتخلفين عن تبوك ؟ أو بطردهم، كما طرد الحكم وهيثا المخنث،
أو بأدبهم كما أدب في الخمر قبل استقرار الحد فيها بالاربعين ؟
حتى يتعد إلى الكذب والاخبار بما لا يحل ؟ اللهم إنا
نبرأ إليك من هذا القول الفاحش المهلك.
حدثنا حمام بن أحمد، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الاعرابي، ثنا
الدبري، ثنا عبد الرزاق،
(8/1113)
عن معمر قال: قلت لعبيد الله بن عمر: أعلمت
أن رسول الله (ص) أفاد بالقسامة ؟ قال: لا.
قلت: فأبو بكر ؟ قال: لا.
قلت: فعمر ؟ قال: لا.
قلت: فيم تجترئون على ذلك، فسكت، قال: فقلت: ذلك لمالك ؟ فقال:
لا تضع أمر رسول الله (ص) على الحيل ثم ذكر باقي الكلام.
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه، وهذا مذهب
الائمة وكل من في قلبه إسلام، ثم يقع لهم الخطأ والوهلات التي
لم يعصم منها بشر، فأتى هؤلاء الاوباش المقلدون فقلدوهم في
خطئهم الذي لم ينتبهوا له، وعصوهم في الحقيقة التي ذكرنا من أن
لا يحمل أمر النبي (ص) على الحيل.
قال أبو محمد: فإن ذكروا في ذلك مواصلة النبي (ص) بهم، وقد
نهاهم عن الوصال ؟ فليعلموا.
أن ذلك كان منه عليه السلام صياما مقبولا، لان الوصال له مباح
بالنص من قوله (ص): لست كأحد منكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني
وكان منهم عقوبة لهم لا صياما، وهكذا في نص الحديث، أنه كان
كالتنكيل بهم، وجائز للامام أن يمنع المرء الطعام اليوم
والليلة، ومقدارا يدري أنه لا يبلغ به الموت على سبيل النكال،
كما فعل (ص).
وبالله تعالى التوفيق.
ونحن إن شاء الله تعالى موردون مشاغب أصحاب العلل، على حسب ما
التزمنا لجميع خصومنا، ومبينون، بحول الله واهب القوة لا إله
إلا هو وعونه لنا إن شاء الله تعالى، تمويههم بها وحل شغبهم
الفاسد، ثم موردون البراهين الضرورية الصادقة عن إبطال العلل
جملة، إن شاء الله تعالى وبه نعتصم.
احتج القائلون بالعلل بآيات ظاهرها كون بعض الاحكام من أجل بعض
الاحوال،
فمن ذلك قول الله عزوجل وقد ذكر قتل أحد ابني آدم عليه السلام
لاخيه: * (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا
بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا) *.
قال أبو محمد: فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق.
هذا أعظم حجة عليكم، لان الله تعالى لم يلزم هذا الاصر غير بني
إسرائيل فقط، ولو أن ذلك علة مطردة كما يدعوا للزم جميع الناس.
فإن قالوا: هو لازم لجميع الناس، سألناهم ما تقولون في جميع
الكبائر
(8/1114)
أهي فساد في الارض أم ليست فسادا في الارض
إلا ما سمي فسادا في الارض وليس هذا واقعا إلا على المحاربة
فقط ؟ ولا بد من أحد الجوابين.
فإن قالوا: الكبائر كلها فساد في الارض، أريناهم شارب الخمر
والسارق، والمرابي وآكل أموال اليتامى، والزاني غير المحصن،
وآكل لحم الخنزير والدم والميتة، والغاصب والقاذف، مفسدين في
الارض ولا يحل قتلهم، بل من قتلهم قتل بهم قودا، فقد نقضوا
قولهم إن حكم الآية المذكورة جار علينا، لان في نص تلك الآية
إباحة قتل كل مفسد في الارض.
فإن قالوا: ليس شئ من الكبائر فسادا في الارض حاشا المحاربة.
أريناهم الزاني المحصن يقتل، وليس مفسدا في الارض، فانتفضت
العلة التي ادعوها علة لان في الآية المذكورة ألا تقتل نفس
بغير نفس أو فساد في الارض، الزاني المحصن لم يقتل نفسا، ولا
أفسد في الارض، وهو يقتل ولا بد، ولا يكون قاتله كأنه قتل
الناس جميعا.
فإن قالوا: إن زنى المحصن وحده ووطئ امرأة الاب، وردة المرتد،
وشرب المحدود ثلاث مرات في الخمر مرة رابعة، فساد في الارض وما
عدا هذا
فليس فسادا في الارض كابروا وتحكموا بلا دليل، وقد جعل النبي
(ص) الزاني وهو شيخ أو بامرأة جاره أو بامرأة المجاهد في سبيل
الله أعظم جرما من سائر الزناة، وسواء كانوا محصنين أو غير
محصنين، إلا أن غير المحصن على كل حال لا يقتل وإن كان أعظم
جرما من المحصن في بعض الاحوال التي ذكرنا، والمحصن على كل حال
يقتل، وإن كان غير المحصن أعظم جرما منه في بعض الاحوال التي
ذكرنا.
وأيضا: فإن هذا القول الذي قالوه ناقض لاصولهم في العلل، وموجب
أن لا يكون الشئ علة إلا حيث نص الله عزوجل على أنه علة لانهم
يقولون إن الكبيرة لا تكون فسادا إلا حيث نص على أنها فساد،
وحيث أمر الله تعالى بقتل فاعلها، وبطل إجراؤهم العلة حيث
وجدت، وهذا قولنا نفسه حاشا التسمية بعلة أو سبب، فإنا لا
نطلقه، لان النص لم يأت به، وإذ ليس بيننا إلا التسمية فقط فقد
ارتفع الخلاف إذ إنما تضايق في تصحيح المعنى المسمى أو إبطاله،
ولا معنى
(8/1115)
للاسم ولا للمضايقة فيه إذا حققنا المعنى،
وإنما نمنع منه خوف التشكيك به والتلبيس، وتسمية الباطل باسم
الحق، فهذا توقف على فساد عمله، ونبين له قبح مغبته وبالله
تعالى التوفيق.
واحتج بعضهم بقول الله عزوجل حكاية عن المنافقين أنهم قالوا: *
(لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا) *.
قال أبو محمد: وهذه الآية كافية في إبطال العلل، لان الله
تعالى أخبر أن جهنم ذات حر وأن الدنيا ذات حر ثم فرق تعالى بين
حكميها وأمرهم بالصبر على حر الدنيا وأنكر عليهم الفرار عنه
وأمرهم الفرار عن حر جهنم، وألا يصبروا عليها أصلا نعوذ بالله
منها.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (لئلا يكون على المؤمنين حرج في
أزواج أدعيائهم) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لانه نص على أن النبي (ص)
إذ تزوج امرأة زيد وهو قد كان استلحقه، ونحن مأمورون باتباعه
(ص) في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم، فنكاحه (ص) إياها موجب
علينا تحليل أزواج المستلحقين في الجاهلية غير استلحاق
الولادة، لكن الاستلحاق المنسوخ فقط، وهذا الذي قلنا هو نص
الآية، ولو كان علة كما ادعوا للزم كل أحد أن ينكح امرأة دعيه
ولا بد، فلما لم يكن ذلك بلا خلاف، سقط ظنهم أن إنكاحه عز وجل
لرسوله (ص) زينب أم المؤمنين علة لما راموا تعليله بذلك.
وصح قولنا: أنه نص على إيجاب تحليل ما أحل الله تعالى لرسوله
عليه السلام فقط، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بقوله تعالى: * (مآ أفاء الله على رسوله من أهل القرى
فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي
لا يكون دولة بين الاغنياء منكم) *.
قال أبو محمد: وهذا أيضا لا حجة لهم فيه والقول في هذه الآية
كالقول في الآية التي ذكرنا آنفا ولا فرق، لاننا قد وجدنا
أموالا كثيرة لم تقسم هذه القسمة بل قسمت على رتبة أخرى فلو
كان عليه قسمة هذا الذي أفاء الله تعالى على رسوله (ص) إنما هي
ألا يكون دولة بين الاغنياء لكان ذلك أيضا علة في قسمة سائر
الاموال من الغنائم وغيرها كذلك فبطل ما توهموا وصح
(8/1116)
أن الله تعالى أراد فيما أفاء الله تعالى
على رسوله (ص)، من أهل القرى مما لو يوجف عليه بخيل ولا ركاب
خاصة، ألا يكون دولة بين الاغنياء منهم فلا يتعدى بهذا الحكم
هذا الموضع، وإلا حيث نص الله تعالى عليه أيضا في قسمة خمس
الغنائم ولا مزيد، وهذا قولنا لا قولهم في إجراء العلل وبالله
تعالى نتأيد
واحتجوا بقوله تعالى: * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانه لم يكن لاحد على الله
تعالى قط حجة لا قبل الرسل ولا بعدهم، بل لله الحجة البالغة: *
(لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) * وقد أخبر تعالى أنه لم ينذر
آباء هم وإن لم ينذروا فلا حجة لهم على الله عزوجل، ولكن الله
تعالى أراد الاحسان إلى من آمن من المنذرين بالرسل، وأراد
الاعذار إلى من لم يؤمن منهم، فهذا غرض الله عزوجل فيهم
ومراده، وليس هذا علة وسنبين بعد انقضاء ذكر حجاجهم إن شاء
الله تعالى فرق ما بين العلة والسبب والغرض، ببيان جلي لا يحيل
على من له أدنى فهم وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (كذلك جزيناهم ببغيهم) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه بل هي حجة عليهم لانه تعالى
نص على أنه جزى أولئك ببغيهم بأنواع العذاب المعجل في الدنيا
من السخف والصيحة وعذاب الظلة والرجم وغير ذلك.
فلو كان البغي علة في إيجاب الجزاء بذلك لكان ذلك واجبا أن
يجزى به البغاة منا ومن غيرنا فلما رأينا كفار زماننا بغاة
كأولئك، وفينا نحن أيضا أهل بغي كبغي أولئك نفسه ففينا تطفيف
الميزان.
وفينا فعل قوم لوط، وفينا الكفر الصريح كما كان في أولئك في
المؤمنين منا وفي الكافرين من الحربيين والكتابيين ولم نجاز
ولا جوزوا بشئ بما جوزي به أولئك - علمنا أن البغي ليس علة
للجزاء بما جوزي به أولئك، لان العلة مطردة في معلوماتها أبدا،
لا تجوز أصلا، وصح أن البغي من أولئك كان سببا لجزائهم بما
جوزوا به، وليس سببا في غيرهم، لان يجازوا بمثل ذلك، فصح قولنا
إن الاسباب لا يتعدى بها المواضع التي نص الله تعالى ورسوله
عليه السلام عليها، ولا يوجب في كل مكان الحكم الذي وجب من
أجلها في بعض
(8/1117)
الامكنة، وسقط قولهم سقوطا لا إشكال فيه.
والحمد لله رب العالمين.
وهذا قد ظهر كما ترى في الاسباب الصحيحة، فما الظن بالاسباب
الكاذبة التي يدعونها في الاحكام، ويضعونها وضعا مختلفا
متخاذلا بلا برهان، إلا المجاهرة بالقربة، وما لا يصح بوجه من
الوجوه ؟ وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: * (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي
المؤمنين فاعتبروا يأولي الابصار) * الآيات إلى قوله: * (ذلك
بأنهم شاقوا الله ورسوله) * الى قوله (شديد العقاب).
قال أبو محمد: وهذه حجة عليهم لا لهم، لان المحاربين فيما
بيننا وأهل الالحاد منا فهم مشاقون لله عزوجل ورسوله (ص) وأهل
الكتاب منا، كذلك وهم يخربون بيوتهم بأيديهم وبأيدي المؤمنين،
ولا يهدمون بل يبنونها فصح يقينا أن المشاقة لله تعالى ورسوله
(ص) ليست علة لخراب البيت وأصلا، ولا سببا في خراب بيوت
المشاقين ما عدا أولئك الذين نص الله تعالى على أنه عاقبهم
بإخرابهم بيوتهم من أجل مشاقهم، وهذا هو نفس قولنا: إن الشئ
إذا نص الله تعالى عليه بلفظ يدل على أنه سبب لحكم ما في مكان
ما، فلا يكون سببا البتة في غير ذلك الموضع لمثل ذلك الحكم
أصلا.
وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا بقوله تعالى: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم
العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن
الصلاة فهل أنتم منتهون) * قالوا: فكانت هذه علل في وجوب
تحريمها، أو الانتهاء عنها، قال أبو محمد: وهذه حجة عليهم لا
لهم من وجوه: أحدها: أن كسب المال والجاه في الدنيا أصد عن ذكر
الله تعالى وعن الصلاة وأوقع العداوة والبغضاء فيما بيننا من
الخمر والميسر وليس ذلك محرما إذا بغى على وجهه، وقد أخبر
النبي (ص) أصحابه رضي الله عنهم بنص قولنا إذ قال (ص): والله
ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا
فتنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكت من كان من قبلكم أو كما قال
(ص) مما هذا
حقيقة معناه فلا يظن جاهل أننا نقول شيئا من عند أنفسنا أو
برأينا أو بغير ما أتى به النبي (ص).
وأيضا فالميسر ما عهد منه قبل أن يحرم إيقاع عداوة بذاته ولا
فقد عقل،
(8/1118)
ولا كان إلا وافقا للناس ونافعا لهم، وكذلك
قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية، ولا في كل من يشربها
تفسد أخلاقهم، بل نجد كثيرا من الناس يبكون إذا سكروا ويكثرون
ذكر الآخرة والموت والاشفاق من جهنم وتعظيم الله تعالى والدعاء
في التوبة والمغفرة، ونجدهم يكرمون حينئذ ويحلمون، ويزول عنهم
كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم.
فصح بكل ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل إرادة الشيطان لما ذكر
تعالى في الآية سببا إلى تحريمها قط، لكن شاء تعالى أن يحرمها
إذ حرمها، وقد كانت حلالا مدة ستة عشرة عاما في الاسلام، وقد
كان كل ذلك موجودا من الشيطان فينا وفي كثير الخمر وهي، حلال
يشربها الصالحون بعلم النبي (ص) ولا ينكر ذلك.
فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة، وعن ذكر
الله تعالى، وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بها علة للتحريم،
لما وجدت قط إلا محرمة، لانها لم تكن قط إلا مسكرة، ولم يكن
الشيطان قط إلا مريدا لالقاء العداوة والبغضاء بيننا فيها،
وكانت حلالا وهي بهذه الصفة فبطل أن يكون إسكارها علة
لتحريمها، أو سبب، لا في الوقت الذي نص الله عزوجل على تحريمها
فيه ولا قبله البتة، لان قوله عز وجل: * (إنما يريد الشيطان أن
يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) * إنما هو
إخبار عن سوء معتقد الشيطان فينا، ولم يقل قط تعالى إن إرادة
الشيطان لذلك هو علة تحريمها، ولا أنه سبب تحريمها، ولا يحل
لاحد أن يخبر عن الله تعالى بما لم يخبر به عزوجل عن نفسه، ولا
أخبر به عنه رسوله (ص) وهذا
هو قولنا: إن المراعى هو النص لا ما عداه أصلا.
وبالله تعالى التوفيق.
وقد قال بعض أصحابنا: إن إرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء
بيننا في الخمر، إنما كان بعد تحريمها، لان شاربها بعد التحريم
صاد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، مبغض من الصالحين ومعاد
لهم.
قال أبو محمد: وهذا أيضا قد اقتضاه الذي ذكرناه، وزاد عليه
وبالله تعالى نتأيد، وقد أدى تعليلهم، هذا الفاسد المفترى،
جماعة من الجهال إلى
(8/1119)
الضلال المبين، فإذا رأوا سكرانا معربدا
متلوثا في أقذاره وأهذاره، جعلوا يقولون في مثل هؤلاء حرمت
الخمر نعوذ بالله من هذا القول، ومما سببه من التعليل الملعون.
واحتجوا بقوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم
طيبات أحلت لهم) *.
قال أبو محمد: وهذه حجة عليهم لا لهم، لاننا نحن نظلم من بكرة
إلى المساء، ولم يحرم علينا طيبات أحلت لنا، فصح أن الظلم ليس
علة في تحريم الطيبات، ولا سببا له إلا حيث جعله الله تعالى
بالنص سببا له فقط، لا فيما عدا ذلك المكان البتة.
واحتجوا بقوله تعالى: * (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد
الذين آمنوا إيمانا) *.
قال أبو محمد: وهذا عليهم لان الحكم المذكور لم يوجب استيقان
جميع أهل الكتاب، بل فيهم غير مستيقن، وفيهم من تمادى على شكه
وإفكه وشركه، ولو كان علة لاستيقانهم لما وجد فيهم أحد غير
مستيقن، فبطل ظنهم والحمد لله رب العالمين.
واحتجوا بقوله تعالى لموسى عليه السلام: * (اخلع نعليك إنك
بالواد المقدس طوى) *.
قال أبو محمد: وهذا حجة عليهم لان الكون بالواد المقدس طوى لو
كان علة لخلع النعال أو سببا له، لوجب علينا خلع نعالنا
بالوادي المقدس وبالحرم وبطوى، فلما لم يلزم ذلك بلا خوف صح
قولنا: إن الشئ إذا جعله الله سببا لحكم ما، في مكان ما، فلا
يكون سببا إلا فيه وحده لا في غيره،
فهذا كل ما راموا تبديله من وجهه من آيات القرآن، وقد أريناهم
بعون الله تعالى، أنه كله حجة عليهم مبطل لقولهم بالتعليل
الموجب عندهم للقياس، والحمد لله رب العالمين واحتجوا بقول
رسول الله (ص) في نهيه عن إدخار لحوم الاضاحي أكثر من ثلاث:
إنما فعلت ذلك من أجل الدابة.
قال أبو محمد: أحق الناس أن يستحي من الله تعالى عند ذكر هذا
الحديث فأصحاب القياس القائلون بالعلل لانهم يبطلون هذا السبب
الذي يعدونه علة في المكان الذي ورد فيه، ولا يقيسون عليه شيئا
أصلا نعم، ولا يأخذون بذلك
(8/1120)
الحكم بعينه، بل يعصونه ويجيزونه ادخار
لحوم الاضاحي ما شاء المرء من الدهور، وإن دفت الدواف أفلا
يستحي من يبطل قول رسول الله (ص) في نهيه إذا دفت دافة أن يدخر
لحوم الاضاحي، أكثر من ثلاث ويستجيز خلافه في ذلك، من أن يحتج
بذلك القول المطرح عنده في إثبات العلل الكاذبة لو أن الجوز
باللوز إلى أجل لا يحل ؟ إن هذا لخلق فاسد، منتج من رذائل جمة
منها الجهل وقلة الحياء وقلة الورع وشدة العصبية، وقلة
المبالاة بالصدق، وشدة الجور وقلة النصيحة والضعف والعقل،
ونعوذ بالله من كل ذلك.
وأما نحن فنقول: إن النبي (ص) جعل السبب في النهي عن إدخار
لحوم الاضاحي أكثر من ثلاث ليال أن دافة دفت بحضرة الاضحى،
فإذا كان ذلك أبد الابد حرم إدخار لحومها أكثر من ثلاث ليال،
فإن لم تدف دافة بحضرة الاضحى فليدخل الناس لحومها ما شاؤوا،
وانقيادا لامر رسول الله (ص) الذي لم يأت ما ينسخه، وهذا الذي
قلنا به هو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر، واحتجوا
بقوله (ص): إنما جعل الاذان من أجل البصر.
قال أبو محمد: وهذا موافق لقولنا لا لقولهم، لاننا لم ننكر
وجود النص حاكما
بأحكام ما لاسباب منصوصة، لكنا أنكرنا تعدي تلك الحدود إلى
غيرها، ووضع تلك الاحكام في غير ما نصت فيه، واخترع أسباب لم
يأذن بها الله تعالى.
وأيضا فهذا الحديث حجة عليهم، لانهم أول عاص له أكثر أهل
القياس، مخالفون لما في هذا الحديث، من أن من اطلع على آخر
ففقأ المطلع عليه عين المطلع فلا شئ عليه.
وقالوا: إن قول المظاهر لامرأته: أنت علي كظهر أمي، لما كان
منكرا من القول وزورا كان ذلك علة لوجوب الكفارة.
قال أبو محمد: وقد أبطلوا تعليلهم هذا فكفوا مؤنة أنفسهم،
فأقروا أن قول المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي، منكر من القول
وزورا، ولم يوجب ذلك عليها الكفارة، وقال تعالى: * (ما جعل
أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبنائكم
ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق) * فسوى الله تعالى بين
قول الرجل لامرأته، أنت علي كظهر أمي، وبين ادعائه ولد
(8/1121)
غيره، ولم يجعل في أحد الوجهين كفارة، وجعل
في الآخرة الكفارة، فصح أن المساواة في الشبه لا توجب المساواة
في الحكم، وبطل قولهم في التعليل إذا وجب في أحد المنكرين
كفارة ولم يجب في الآخر.
وقد قال غيره من الفقهاء: إيجاب الكفارة على المرأة المظاهرة
من زوجها ككفارة المظاهر ولا فرق.
فهذا كل ما موهوا به من الحديث لاح أنه حجة عليهم، وبالله
تعالى التوفيق.
وجملة القول: إن كل شئ نص الله تعالى ورسوله (ص) فهو حق، وكل
ما أوردوه بآرائهم مما ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة
رسوله (ص) فهو باطل وإفك، وهم كمن قال: لما حرم الله تعالى
وفرض ما شاء حرمت أنا أيضا وفرضت
ما شئت، لانه تعالى حرم وفرض ولا فرق.
وقد صح على رسول الله (ص) من طريق عمر بن عنبسة في نهيه (ص) عن
الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها: إن تلك ساعة تطلع ومعها
قرن الشيطان ويسجد لها الكفار حينئذ وعن الصلاة نصف النهار حتى
تزول الشمس: و: إن تلك الساعة تسجر فيها النار لو كان هذا على
بادئ الرأي وظاهر الاحتياط لكانت الصلاة حينئذ أحرى وأولى،
معارضة الكفار، فإذا سجدوا للشمس صلينا نحن لله تعالى، وإذا
سجرت النار صلينا، ونعوذ بالله منها.
هذه صفة عللهم المفتراة الكاذبة، وهذا ما جاء به النص فصح أنه
لا يحل لاحد تعليل في الدين، ولا القول بأن هذا سبب هذا الحكم،
إلا أن يأتي به نص فقط.
فصل قال أبو محمد: واحتج بعضهم في إيجاب القول بالعلل، وأن
الاحكام إنما وقعت العلل - بأن الاسماء مشتقة في اللغة.
وهذا لو صح لما كان لهم فيه حجة، إذ لا سبب في الاشتقاق يتوصل
به إلى إثبات العلل في الاحكام، فكيف وهو باطل.
(8/1122)
الاشتقاق الصحيح إنما هو اختراع اسم لشئ ما
مأخوذ من صفة فيه، كتسمية الابيض من البياض، والمصلي من
الصلاة، والفاسق من الفسق، وما أشبه ذلك.
وليس في ذلك من هذا ما يوجب أن يسمى أبيض ما لا بياض فيه، ولا
مصليا من لا يصلي، ولا فاسقا، من لا فسق فيه، فأي شئ في هذا
مما يتوصل به إلى إيجاب القياس، والقول بأن البر إنما حرم أن
يباع البر متفاضلا، لانه مأكول، أو لانه مكيل، أو لانه مدخر ؟
وهل يتشكل هذا الحمق في عقل ذي عقل ؟ وبالله تعالى التوفيق.
وأما ما عدا هذا من الاشتقاق ففاسد البتة وهو كل اسم علم وكل
اسم جنس أو نوع أو صفة، فإن الاشتقاق في كل ذلك مبطل ببرهان
ضروري، وهو أننا نقول لمن قال: إنما سميت الخيل خيلا لاجل
الخيلاء التي فيها، وإنما سمي البازي بازيا لارتفاعه،
والقارورة قارورة لاستقرار الشئ فيها، والخابية خابية لانها
تخبأ ما فيها، إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك
منهما البتة.
أحدهما: أن تسمي رأسك خابية، لان دماغك مخبوء فيها وأن تسمي
الارض خابية، لانها تخبئ كل ما فيها، وأن تسمي أنفك بازيا
لارتفاعه، وأن تسمي السماء والسحاب بازيا لارتفاعهما، وكذلك
القصر والجبل، وأن تسمي بطنك قارورة لان مصيرك مستقر به، وأن
تسمي البئر قارورة لان الماء مستقر فيها، وأن تسمي المستكبرين
من الناس خيلا، للخيلاء التي فيهم، ومن فعل هذا لحق بالمجانين
المتخذين لاضحاك سخفاء الملوك في مجالس الطرب، وصار ملهى
وملعبا وضحكة يتطايب بخبره، وكان للحرمة ومداواة الدماغ أولى
منه بغير ذلك، فإن أبى ترك اشتقاقه الفاسد.
والوجه الثاني: أن يقال: إن اشتققت الخيل من الخيل أو القارورة
من الاستقرار والخابية من الخب ء: فمن أي شئ اشتققت الخيلاء
والاستقرار والخب ء، وهذا يقتقضي الدور الذي لا ينفك منه، وهو
أن يكون كل واحد منهما اشتق من صاحبه، وهذا جنون، أو وجود
أشياء لا أوائل لها ولا نهاية، وهذا مخرج إلى الكفر والقول
بأزلية العالم، ومع أنه كفر فهو محال ممتنع.
وأيضا: فإذا بطل الاشتقاق في بعض الاسماء كلف من قال به في
بعضها أن يأتي ببرهان، وإلا فهو مبطل.
(8/1123)
وأيضا: فليس قول من قال: إن الخيل مشتقة من
الخيلاء، أولى بالقبول
من قول من قال: إن الخيلاء مشتقة من الخيل، وكلا القولين دعوى
فاسدة زائفة لا دليل على صحتها، في البرهان الضروري قد قام على
بطلانها، لانه لم توجد قط الخيلاء إلا والخيل موجودة، ولا وجدت
الخيل إلا والخيلاء موجودة ولم يوجد قط أحدهما قبل الآخر، فبطل
قولهم، وبالله تعالى نتأيد.
ولو كان ما قالوا لكانت الاسد أولى أن تسمى خيلا، لانهم أكثر
خيلاء من الخيل، ولكانت النسور أولى أن تسمى بزاة من الصقور،
لانها أشد ارتفاعا منها، وإلا فما الذي جعل القوارير أولى بهذا
الاسم من الرمان والعتائد والادراج والقلال.
وقد عارضت بهذا وشبهه أذكر من لقينا من شيوخنا في اللغه وهو
أبو عبيدة حسان بن مالك رحمه الله فما وجدت عنده مدفعا ولا
اعتراضا وكان رحمه الله النهاية في علم اللغه، مع تحريه فيما
يورده منها وتثبته وشدة إنصافه.
وقالوا: لما وجدنا العصير حلو لا يسمى خمرا وهو حلال، ثم حدثت
فيه الشدة فسمي خمرا فحرم، ثم ارتفعت الشدة فلم يسم خمرا، لكن
سمي خلا، علمنا أن العلة المحرمة، والتي حرم من أجلها، والتي
من أجلها سمي خمرا، هي الشدة.
قال أبو محمد: هذا كلام فاسد في غاية الفساد.
فأول ذلك أن يقال لهم: في أي عقل وجدتم أن كون الشدة فيه أوجبت
أن يسمى بالخاء والميم والراء ؟ ولكن لا بد لكل عين فيها صفات
مخالفة لصفات عين أخرى أن يوقع على كل واحد منها اسم غير اسم
العين الاخرى، ليقع التفاهم فيها بين المخاطبين، فعلق على ما
فيه الشدة اسم ما، وعلى ما لا شدة فيه اسم آخر، لا لشئ إلا
ليفهم الناس مراد من كلمهم وخاطبهم، وكذلك موجود في العالم،
إلا ما ضاقت اللغة عن تسميته، أو عجز أهلها عن ذلك، أو لم يرد
الله تعالى أن يكون له في هذه اللغة اسم.
(8/1124)
وأيضا: فإن اللغة العربية أول من نطق بها
إسماعيل، والخمر أقدم من كون إسماعيل في الارض، لانهما من
الاشياء التي علم آدم أسماءها، قال تعالى * (وعلم آدم الاسماء
كلها) * فعم تعالى ولم يخص فقد كانت الخمر على حالها من
الاسكار والشدة وهى حلال وهى لا تسمى خمرا فظهر كذب هذا القائل
وإثمه.
وأيضا فإن الخمر تسمى خمرا في كل لغة بغير اسم الخمر عندنا فما
وجدنا ألسنتهم تلتوى لذلك ولا أحكامهم تنطوى ولا الخمر حلت لهم
لأجل أن اسمها عندهم غير اسمها في اللغة العربية ولم نجد قط
تلك العين المسماة خمرا إلا وهى مسكرة في كل وقت وفى كل أمة
وفى كل مكان حاشا خمر الجنة فقط فبطل قولهم في العلل وبالله
تعالى التوفيق.
وأيضا: فإن العرب تسمي الخمر بخمسة وستين اسما ما وجدناها تضطر
إلى ترك شئ منها، ولا اضطرت إلى وضعه، وقد بينا الكلام في
كيفية أصل اللغات في باب مفرد من كتابنا هذا ولله الحمد.
وكذلك قالوا إن كون البر مطعوما محرما متفاضلا هو علة تسمية
ذلك ربا والقول عليهم في ذلك كالقول في الخمر ولا فرق وبالله
لا إله إلا هو التوفيق.
وقالوا العلة في الوجوب كون الرقبة في الظهار مؤمنة هي وجوب
كونها سليمة الاعضاء كرقبة القتل.
قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد واحتجاج للخطأ بالخطأ والدعوى
بالدعوى ومثلهم في هذا القول كإنسان قال لي على زيد درهم فقيل
له ألك بينة ؟ فقال نعم فقيل وما هي ؟ قال إن لى على عمرو
درهما فقيل له: وما بينتك على أن لك على عمرو درهما ؟ فقال
بينتي على ذلك أن لى على زيد درهما فهو يريد يجعل دعواه صحة
لدعوى له أخرى وكلتاهما ساقطة إذ لا دليل عليها
وليس هذا الفعل من أفعال أهل العقول ودعواهم أن الرقبة في كلا
الموضعين لا تجزى إلا أن تكون سليمة دعوى زائفة لا تصح فكيف أن
يقاس عليها أن تكون إلا مؤمنة ؟
(8/1125)
وقال بعضهم العلة في ذلك أنها كفارة عن
ذنب.
قال أبو محمد وليس على قاتل الخطأ ذنب أصلا فبطل تعليلهم
الفاسد وأيضا فهذه دعوى كالاولى لا دليل عليها وما الفرق بينهم
وبين من قال إنما وجبت في القتل أن تكون الرقبة مؤمنة لانها
كفارة عن قتل فما عدا القتل فلا تجب فيه مؤمنة وهذا لا انفكاك
منه فكل هذه دعوى لا دليل عليها ولا ينفكون ممن يبطل ما أثبتوا
ويثبت ما أبطلوا واعلم أنه لا يمكن أحدا منهم أن يدعى علة في
شئ من الاحكام الا أمكن لخصمه ان ياتي بعلة أخرى يدعى أن الحكم
انما وجب لها وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى نعتصم.
فصل قال أبو محمد هذا كل ما شغبوا به قد بينا عواره ولاح
اضمحلاله والحمد لله رب العالمين ونحن الآن بعون الله تعال
وقوته لا إله إلا هو شارعون في إبطال القول بالعلل في شئ من
الشرائع وبالله تعالى التوفيق.
فيقال لمن قال ان أحكام الشريعة انما هي لعلل.
أخبرونا عن هذه العلل التى تذكرون أهى من فعل الله تعالى وحكمه
أم من فعل غيره وحكم غيره ؟ أم لا من فعله تعالى ولا من فعل
غيره ؟ ولا سبيل الى قسم رابع أصلا.
فإن قالوا من فعل غير الله ومن غير حكمه جعلوا ههنا خالقا غيره
وفاعلا
للحكم غيره وجعلوا فعل ذلك الفاعل موجبا عل الله تعالى أن يفعل
ما فعل وأن يحكم بما حكم به وهذا شرك مجرد وكفر صريح وهم لا
يقولون ذلك فإن قالوا ليست من فعله ولا من فعل غيره أوجبوا ان
في العالم أشياء لا فاعل لها أو أنهم هم الحاكمون على الله
تعالى بها وهم الذين يحللون ويحرمون ويقضون عل الباري عز وجل
وهذا كفر مجرد ومذهب أهل الدهر وهم لا يقولون ذلك.
(8/1126)
فإن قالوا: بل هي من فعل الله عز وجل وحكمه
قلنا لهم أخبرونا عنكم أفعلها الله تعالى لعلة أم فعلها لغير
علة فإن قالوا فعلها تعالى لغير علة تركوا اصلهم وأقروا أنه
تعالى يفعل الاشياء لا لعلة أو قيل لهم أيضا ما الذى أوجب أن
تكون الاحكام الثواني لعلل وتكون الافعال الاول التى هي علل
هذه الاحكام لا لعلل ؟ وهذا تحكم بلا دليل ودعوى ساقطة لا
برهان عليها وإن قالوا بل فعلها تعالى لعلل اخر سئلوا في هذه
العلل أيضا كما سئلوا في التى قبلها وهكذا أبدا فلا بد لهم
ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما ان يقفوا في أفعال ما
فيقولون إنه فعلها لغير علة فيكونون بذلك تاركين لقولهم الفاسد
إنه تعالى لا يفعل شيئا إلا لعلة أو يقولون بمفعولات لا نهاية
لها وبأشياء موجودة لا أوائل لها وهذا كفر وخروج عن الشريعة
بإجماع الأمة.
وقبح الله قولا لا يضطر قائله الى مثل هذه المواقف فبطل قولهم
في العلل وصح قولنا إن الله تعالى يفعل ما يشاء لا لعلة أصلا
بوجه من الوجوه بهذا البرهان الضرورى الذى لا انفكاك عنه
وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ويكفى من هذا كله أن جميع الصحابة رضى الله عنهم
أولهم عن آخرهم وجميع التابعين أولهم عن آخرهم وجميع تابعي
التابعين ولهم عن
وإنما ابتدع هذا القول متأخروا القائلين بالقياس.
وأيضا فدعواهم إن هذا الحكم به الله تعالى لعلة كذا فرية ودعوى
لا دليل عليها ولو كان هذا الكذب على أحد من الناس لسقط قائله
فكيف على الله عز وجل.
ولسنا ننكر وجود اسباب لبعض أحكام الشريعة بل نثبتها ونقول بها
لكنا نقول إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله تعالى
أسبابا ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التى نص فيها عل أنها
أسباب لما جعلت أسبابا له وقد بينا أكثيرا من ذلك في اول هذا
الباب.
قال أبو محمد ومن عجائب هؤلاء القوم أنهم لو قيل لهم تعمدوا
الباطل
(8/1127)
ما قدروا على أكثر مما فعلوا ومن ذلك أنهم
أتوا الى حكم لم ينص الله تعالى ولا رسوله (ص) على ان له سببا
وهو تحريم البر بالبر متفاضلا فجعلوا له سببا وعلة وحرموا من
أجله الحديد بالحديد متفاضلا وبيع الارز بالارز متفاضلا وبيع
السقمونيا بالسقمونية متفاضلا ثم أتوا الى حكم جعل له رسول
الله (ص) سببا، وأخبر أنه حكم بذلك من أجله، فعصوه وأطرحوه وهو
قوله عليه السلام أنه نهى عن ادخار لحوم الاضاحي فوق ثلاث لاجل
الدافة فقالوا ليست الدافة سببا ولا يجب من أجلها ترك ادخار
لحوم الاضاحي وهكذا يكون عكس الحقائق وبالله تعالى نعوذ من
الخذلان.
قال أبو محمد فإن قال قائل أنتم تنكرون القول بالعلل وتقولون
بالاسباب فما الفرق بين الامرين ؟.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن الفرق بين العلة وبين السبب
وبين العلامة وبين الغرض فروق ظاهرة لائحة واضحة وكلها صحيح في
بابه وكلها لا يوجب تعليلا في الشريعة ولا حكما بالقياس أصلا،
فنقول وبالله تعالى التوفيق.
إن العلة هي اسم لكل صفة توجب أمرا ما إيجابا ضروريا، والعلة
لا تفارق المعلول البتة، ككون النار علة الاحراق، والثلج علة
التبريد الذي لا يوجد أحدهما دون الثاني أصلا، وليس أحدهما قبل
الثاني أصلا ولا بعده.
وأما السبب فهو كل أمر فعل المختار فعلا من أجله لو شاء لم
يفعله، كغضب أدى إلى انتصار، فالغضب سبب الانتصار، ولو شاء
المنتصر ألا ينتصر لم ينتصر، وليس السبب موجبا للشئ المسبب منه
ضرورة، وهو قيل الفعل المتسبب منه ولا بد، وأما الغرض فهو
الامر الذي يجري إليه مفاعل ويقصده ويفعله، وهو بعد الفعل
ضرورة، فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته وإزالة الشئ هي
شئ غير وجوده، وإزالة الغضب غير الغضب، والغضب هو السبب في
الانتصار، وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار، فصح أن كل معنى
مما ذكرنا غير المعنى الآخر فالانتصار بين الغضب وبين إزالته
وهو مسبب للغضب وإذهاب الغضب هو الغرض منه.
وأما العلامة فهي صفة يتفق عليها الانسانان، فإذا رآها أحدهما
علم الامر الذي
(8/1128)
اتفقا عليه، ومثل قول رسول الله (ص) لابن
مسعود: إذنك على أن يرفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك
فكان رفع الحجاب واستماع حركة النبي (ص) علامة الاذن لابن
مسعود، وكقوله (ص): إني لاعرف أصوات رفقة الاشعريين بالقرآن
حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل
وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار فكانت أصوات
الاشعريين بالقرآن علامة لموضع نزولهم، ومن هذا أخذت الاعلام
الموضوعة في الفلوات لهداية الطريق، والاعلام في الجيوش لمعرفة
موضع الرئيس.
وقال أبو محمد: وهذا معنى رابع.
وقد سمي أيضا العلل معاني، وهذا من عظيم شغبهم، وفاسد متعلقهم،
وإنما المعنى تفسير اللفظ، مثل أن يقول قائل: معنى الحرام ؟
فتقول له هو كل ما لا يحل فعله، أو يقول: معنى الفرض، فنقول:
هو كل ما لا يحل تركه، أو يقول: ما الميزان ؟.
فنقول له: آلة يعرف بها تباين مقادير الاجرام، فهذا وما أشبه
هو المعاني وهذا أيضا شئ خامس.
وكل هذا لا يثبت علة الشرائع ولا يوجب قياسا، لان العلامة إذا
كانت موضوعة لان يعرف بها شئ ما، فلا سبيل إلى أن يعرف بها شئ
آخر بوجه من الوجوه، لانه لو كان ذلك لما كانت علامة لما جعلت
له علامة، ولوقع الاشكال.
قال أبو محمد: فلما كانت هذه المعاني المسماة الخمسة التي
ذكرنا، مختلفة متغايرة كل واحد منها غير الآخر، وكانت كلها
مختلفة الحدود والمراتب، وجب أن يطلق على كل واحد منها اسم غير
الاسم الذي لغيره منها.
ليقع الفهم واضحا، ولئلا تختلط فيسمى بعضها باسم آخر منها،
فيوجب ذلك وضع معنى في غير موضعه، فتبطل الحقائق.
والاصل في كل بلاء وزعماء تخليط وفساد، اختلاط أسماء ووقوع اسم
واحد على معاني كثيرة، فيخبر المخبر بذلك الاسم، وهو يريد أحد
المعاني التي تحته فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد
المخبر، فيقع البلاء والاشكال، وهذا في الشريعة أضر شئ وأشده
هلاكا لمن اعتقد الباطل، إلا من وفقه الله تعالى.
فإذا قد بينا هذه الاسماء الاربعة، وهي: العلة والغرض والسبب
والعلامة، وبينا
(8/1129)
أن معانيها مختلفة، وأن مسمياتها شتى،
وحسمنا داء من أراد إيقاع اسم العلة في الشريعة على معنى
السبب، فيخرج بذلك إلا ما لا يحل اعتقاده، من أن الشرائع شرعها
الله تعالى لعلل أوجبت عليها أن يشرعها، أو إلى الفرية على
الله تعالى في
الادعاء أنه شرع عللا لم ينص عليها هو تعالى ولا رسوله (ص) ولا
أذنا بها، ولا بد لاهل العلل من أحد هذين السبيلين.
وكلاهما مهلك.
ولسنا ننكر أن يكون الله تعالى جعل بعض الاشياء سببا لبعض ما
شرع من الشرائع، بل نقر بذلك ونثبته حيث جاء به في النص، كقوله
(ص): أعظم الناس جرما في الاسلام من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من
أجل مسألته وكما جعل تعالى كفر الكافر وموته كافرا سببا إلى
خلوده في نار جهنم، والموت على الايمان سببا لدخول الجنة، وكما
جعل السرقة بصفة ما سببا للقطع، والقذف بصفة ما سببا للجلد
والوطئ بصفة ما للجلد والرجم، وكما نقر بهذه الاسباب المنصوص
عليها، فكذلك ننكر أن يدعي أحد سببا حيث لم ينص عليه.
ولسنا نقول: إن الشرائع كلها لاسباب، بل نقول: ليس منها شئ
لسبب إلا ما نص منها أنه لسبب، وما عدا ذلك فإنما هو شئ أراده
الله تعالى الذي يفعل ما شاء، ولا نحرم ولا نحلل، ولا نزيد ولا
ننقص، ولا نقول إلا ما قال ربنا عزوجل، ونبينا (ص)، ولا نتعد
ما قالا، ولا نترك شيئا منه، وهذا هو الدين المحض الذي لا يحل
لاحد خلافه ولا اعتقاده سواء.
وبالله تعالى التوفيق.
وقد قال الله تعالى واصفا لنفسه: * (لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون) * فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه وأن أفعاله لا يجزئ
فيها لم...؟ وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شئ من أحكامه تعالى
وأفعاله لم كان هذا فقد بطلت الاسباب جملة وسقطت العلل البتة
إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمرا كذا لاجل كذا.
وهذا أيضا مما لا يسأل عنه فلا يحل لاحد أن يقول لم كان هذا
السبب لهذا الحكم ولم يكن لغيره ؟ ولا أن يقول: لم جعل هذا
الشئ سببا دون أن يكون غيره سببا أيضا، لان من فعل هذا السؤال
فقد عصى الله عز وجل، وألحد في الدين وخالف قوله تعالى: * (لا
يسأل عما يفعل) * فمن سأل عما يفعل فهو فاسق
فوجب أن تكون العلة كلها منفية عن الله تعالى ضرورة، وفي قوله
تعالى:
(8/1130)
* (وهم يسألون) * بيان جلي أنه لا يجوز
لاحد منا أن يقول قولا لا يسأل عنه، ولزمنا فرضا سؤال كل قائل
من أين قلت كذا ؟ فإن بين لنا أن قوله ذلك حكاية صحيحه من ربه
تعالى وعن نبيه (ص)، لزمنا طاعته وحرم عليه التمادي في سؤاله،
وإن لم يأت به مصححا عن ربه تعالى، ولا عن نبيه (ص)، ضرب برأيه
عرض الحائط، ورد عليه أمره متروكا غير مقبول معه، ولا مرضي
عنه.
فهذا حكم السبب وفعله والعلامة والغرض والمعنى قد بينا كل ذلك
غاية البيان ولم نقل إلا ما قاله الله ربنا عزوجل، وليست
العبارة بالالفاظ المخالفة خلافا إذا حقق المعنى فلم يبعث محمد
(ص) إلى العرب فقط، بل إلى أهل كل لغة من الانس والجن، فلا بد
ضرورة لكل أحد من عبارة يفهم بها كلام ربه تعالى، ومعنى مراده
في الدين اللازم له، وإنما أوردنا هذا لئلا يتعلق جاهل فيقول:
إن كلامك هذا ليس منصوصا في القرآن فأرينا، أن حقيقة مفهومه
كلها، ومعناه الذي لا يتحمل كلامنا معنى غيره منصوص في القرآن
نصا جليا ظاهرا وبالله تعالى التوفيق.
فاعلم الآن أن العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع
أحكامه البتة، لانه لا تكون العلة إلا في مضطر.
واعلم أن الاسباب كلها منفية عن أفعال الله تعالى كلها، وعن
أحكامه.
حاشا ما نص تعالى عليه أو رسوله (ص).
وأما الغرض في أفعاله تعالى وشرائعه فليس هو شيئا غير ما ظهر
منها فقط، والغرض في بعضها أيضا أن يعتبر بها المعتبرون، وفي
بعضها أن يدخل الجنة من شاء إدخاله فيها، وأن يدخل النار من
شاء إدخاله فيها.
وكل ما ذكرنا من غرضه تعالى في الاعتبار، ومن إدخاله الجنة من
شاء ومن
إدخاله النار من شاء، وتسبيبه ما شاء لما شاء، فكل ذلك أفعال
من أفعاله، وأحكام من أحكامه لا سبب لها أصلا، ولا غرض له فيها
البتة، غير ظهورها وتكوينها فقط * (لا يسأل عما يفعل) * لولا
أنه تعالى نص على أنه أراد منا الاعتبار وأراد إدخال الجنة من
شاء، ما قلنا به، ولكنا صدقنا ما قال ربنا تعالى، وقلنا ما
علمنا ولم نقل ما لم نعلم.
فهذه حقيقة الايمان الذي تعضده البراهين الحسية والعقلية.
(8/1131)
ودليل ذلك أن السبب والغرض لا يخلوان من
أنهما مخلوقان لله تعالى، أو أنهما غير مخلوقين أصلا، أو أنهما
مخلوقان لغيره، فمن جعلهما غير مخلوقين أصلا كفر، لانه يجعل في
العالم شيئا لم يزل، ومن قال: إنهما مخلوقان لغير كفر، لانه
يجعل خالقا غير الله تعالى، فثبت أنهما مخلوقان له تعالى وقد
قام البرهان على أن كل ما دون الله تعالى فهو خلق الله، فإذا
قد ثبت أن الغرض والسبب مخلوقان لله تعالى، فلا يخلو من أن
يكون خلقهما لسبب أيضا، ولغرض أو لا لسبب ولا لغرض، فإن كان
فعلها لسبب آخر، وغرض آخر، لزم أيضا فيهما مثل ذلك، حتى تنتهي
بقائل هذا إلى إثبات معدودات ومخلوقات لا نهاية لها.
وهذا كفر من قائله، وإن كان تعالى فعلهما لا لسبب ولا لغرض،
فهذا هو قولنا إنه تعالى يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، لا لسبب
ولا لغرض، حاشا ما نص تعالى عليه فقط أنه فعله للغرض أراده، أو
لسبب، وأما ما لم ينص ذلك فيه فإنا نقطع على أنه تعالى فعله
كما شاء لا لغرض ولا لسبب، وأما ما لم ينص ذلك فيه فإنا نقطع
على أنه تعالى فعله كما شاء لا لغرض ولا لسبب ولولا النصوص
الواردة بذلك في بعض المواضع ما حل لمسلم أن يقول: إن الله
تعالى فعل كذا لسبب كذا، ولا إن له عزوجل في فعل كذا إرادة كذا
* (تلك حدود الله فلا تعتدوها) *.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال بالعلل وجعلها صفات في أشياء توجد
فتشتبه بها، فيوجب ذلك أن يحكم لها بحكم واحد: إنك لا تعدم
معارضا بصفات أخر توجب غير الاحكام التي أوجبتم، فإن أنتم
أبطلتم حكم التشابه الذي يعارضكم به خصومكم فقد أقررتم أن
الاتباع لا معنى له، ولا يوجب حكما، وليس قول خصومكم فيما أتوا
به من ذلك بأولى بالسقوط من قولكم.
ومثال ذلك: أن تقولوا: لما أشبه النبيذ الخمر في أنه شديد ملذ
مسكر وجب له التحريم من أجل ذلك، فيعارضكم خصومكم فيقولون: لما
أشبه النبيذ المسكر العصير في أنه لا يفكر مستحله، وجب له
التخليل من أجل ذلك، فإن أبطلتم التشبيه الذي أتى به خصومنا
فقد أقررتم أن التشبيه لا يوجب حكما، وهذا عائدا على تشبهكم
الذي شبهتم ولا فرق.
(8/1132)
وقال بعضهم: علة تحريم البر بالبر متفاضلا
أنه مطعوم.
وقال بعضهم: العلة في ذلك أنه مكيل.
وقال بعضهم: العلة في ذلك أنه مدخر.
قال أبو محمد: وكل واحد من هذه الطوائف مبطلة لما عدت به
الاخرى، فكلهم قد اتفق على إبطال التعليل بلا خلاف بينهم، فليس
ما أثبتت هذه الطائفة من التعليل بأثبت مما أثبتت الاخرى، ولا
بعض هذه العلل أولى بالسقوط من سائرها، بل كلها دعوى زائفة
ساقطة لا برهان عليها، وهكذا جميع عللهم.
وليت شعري كيف يسهل على من يخاف سؤال الله تعالى يوم القيامة
أن يأتي بعلة لم يجدها قط لا لله تعالى ولا لرسوله (ص) فيثبتها
في الدين، فإنما ينسبها إلى الله تعالى فيكذب عليه، أو إلى
رسوله (ص) فيقوله ما لم يقل، أو لا ينسب ذلك إلى الله تعالى
ولا إلى رسوله (ص) فيحصل في أن يحدث دينا من عنده نفسه، ولا بد
من إحداهما، وهما خطتا خسف، نعوذ
بالله منهما، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ومنهم طوائف يمنعون من تخصيص العلل، ثم يجعلون
علة الربا في التمر بالرطب مخصوصة يحدث العرايا.
فيقرون أن النص أبطل علتهم، ولو كانت حقا ما أبطلها، لان الحق
لا يبطل الحق، وكذلك لا يمكن أن يبطل حديث صحيح حديثا صحيحا
إلا على سبيل النسخ فقط، وأما على معنى أن لا يقبل فلا سبيل
إلى ذلك البتة.
والحق لا يكذب بعضه بعضا أبدا.
قال أبو محمد: وقد سألهم من سلف من أصحابنا فقالوا: لو كانت
العلة التي تدعون في الشرائع موجبة لما ادعيتم من تحليل أو
تحريم، لكانت غير مختلفة أبدا، كما أن العلل العقلية لا تختلف
أبدا.
مثال ذلك: أن الشدة والاسكار لو كانا علة لتحريم لكانت الخمر
حراما مذ خلقها الله تعالى، فالخمر لم تزل مذ خلقها الله تعالى
شديدة مسكرة، وقد كانت حلال في الاسلام سنين، وهي على الصفة هي
الآن لم تبدل، ولا حدثت لها حال لم تكن قبل ذلك فبطل بهذا أن
تكون الشدة علة التحريم، كما أن الباري تعالى جعل النارية علة
الاحراق وتصعيد الرطوبات، فلا تزال كذلك أبدا،
(8/1133)
حاشا ما خص عزوجل منها من نار إبراهيم
الخليل عليه السلام، ولم تزل كذلك مذ خلقها تعالى حتى في جهنم،
أعاذنا الله تعالى منها: قال الله تعالى: * (كلما نضجت جلودهم
بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *.
قال أبو محمد: فتفسخوا تحت هذا السؤال، وتضوروا منه، لانه صحيح
لا مخرج منه البتة.
فقال بعضهم: إنما تكون العلة علة إذا جعلها الله تعالى علة.
قال أبو محمد: وهذا ترك منهم لقولهم في العلل جملة، وترك منهم
للقياس
ورجوع إلى النص، وإذ قد راجعوا إلى هذا فلم يبق بيننا وبينهم
إلا تسميتهم الحكم علة فقط، فلو قالوا: لا يجب الحكم إلا إذا
نصه الله عزوجل لوافقونا البتة، ولكنهم تعلقوا باسم العلة،
لانه مشترك، ليرجعوا من قريب إلى تخليطهم، وليتعدوا النص إلى
ما لا نص فيه، وهذا ما لا يسوغونه.
وبالله تعالى التوفيق.
وقال بعضهم: هذا خبر الواحد هو حجة في إيجاب العمل، وليس حجة
في إيجاب العلم، فلا تنكروا علينا كون الشئ علة في مكان، وغير
علة في مكان آخر.
فيقال له وبالله تعالى التوفيق: هذا تمويه منكم، لا تتخلصون به
مما ألزمناكم إياه لاننا لم ننكر نحن عليكم أن يكون الشئ حجة
في مكانه وبابه، وغير حجة فيما ليس بمكانه ولا ببابه، وإنما
أنكرنا عليكم أن يكون ما ادعيتموه علة حجة موجبة للحكم في بعض
مكانها وبابها بغير نص، وغير حجة في سائر بابها، وبعض أماكنها
من غير نص أيضا فهذا الذي أنكرنا عليكم لا ما سواه.
وأما خبر الواحد المسند من طريق العدول فهو حجة في إيجاب العمل
أبدا إذا كان عن النبي (ص) عند جميعنا، ثم اختلفنا، فقالت
طائفة منهم: ومنه ما لا يضطر إلى العلم فهو غير موجب للعلم
أبدا، وما كان منه يضطر إلى العلم بأسباب معروفة فيه فهو موجب
للعلم أبدا.
(8/1134)
وقالت طائفة: هو موجب للعلم أبدا إذا كان
عن رسول الله (ص) فبطل تشبيههم للعلة بالخبر.
قال أبو محمد: واحتج عليهم من سلف من أصحابنا فقالوا: ما
تقولون في إنسان قال في حياته أو عند موته: أعتقوا عبدي ميمونا
لانه أسود، وله عبيد سود كثير، أتعتقونهم لعلة السواد الجامعة
لهم، والتي جعلها علة في عتق ميمون قياسا على ميمون ؟ أم لا
تعتقون منهم أحدا حاشا ميمون وحده، فإن قلتم:
نعتقهم، نقضتم فتاويكم، وخالفتم الاجماع، وإن قلتم.
لا نعتقهم تركتم القول بإجراء العلل وبالقياس وعدتم إلى قولنا.
قال أبو محمد: وهذا إلزام صحيح، ونحن نزيده بيانا فنقول،
وبالله تعالى التوفيق: إن رسول الله (ص) قال لامراء سراياه:
إذا نزلتم بأهل حصن أو مدينة فأرادوا أن تنزلوهم على حكم الله
تعالى فلا تفعلوا، فإنكم لا تدرون أتوافقون حكم الله تعالى
فيهم أم لا، ولكن أنزلوهم على حكمكم، ثم اقضوا فيهم ما شئتم،
فإذا سألوكم أن تعطوهم ذمة الله عزوجل وذمة رسوله (ص) فلا
تعطوهم ذمة الله ولا ذمة رسوله (ص) ولكن أعطوهم ذمتكم، فإن
تخفروا ذمتكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، أو كلاما
هذا معناه، فهذا نص جلي من رسول الله (ص) على أن الاقدام على
نسبة شئ إلى الله تعالى بغير يقين لا يحل، وأن نسبة ذلك إلى
الانسان أهون وإن كان كل ذلك باطلا، وقد قال رسول الله (ص): إن
كان كذبا علي ليس ككذب على أحد، فلو جاز أن يقال بالقياس
وبالفعل لكان الاقدام به على كلام الناس، وأحكامهم أولى من
الاقدام به على الله عزوجل ورسوله (ص) فلما اتفقوا على أن من
قال: اعتقوا عبدي سالما لانه أسود، وله عبيد سود أنه لا يعتق
غير سالم وحده الذي نص عليه، اتقاء أن يعتقه، وخوفا من تبديل
أمر الموصي وكلامه، فإن الاولى بهم أن يتقوا الله عزوجل في
قوله (ص) في النهي عن الذبح بالسن: فإنه عظم.
وفي أمره (ص) بهرق السمن إذا مات فيه الفأر، فلا يتعدوا ذلك
إلى كل عظم وكل زيت وكل دهن وكل كلب وكل سنور.
وفي أمره (ص) البائل في الماء الراكد الذي لا يجزي
(8/1135)
أن لا يتوضأ منه ولا يغتسل، فلا يتعدوه إلى
المحدث في الماء، ولا إلى ما لم يبل
فيه أصلا، فإن الاوجب عليهم ألا ينسبوا إلى الله تعالى ولا إلى
رسوله (ص) تعليلا لم ينصا عليه، وأحكاما لم يأذنا بها ولا
ذكراها أصلا، ولا في كلامهما ما يوجبهما البتة، ولكنهم اتقوا
أن ينسبوا إلى الناس ما لا يقولون، ولم يتقوا أن ينسبوا إلى
الله تعالى ورسوله (ص) ما لم يقولا، وحسبك بهذا عظيمة، نعوذ
بالله منها.
وقد شغب بعضهم في هذا السؤال بأن قال: كنا نعتق سائر عبيده
السودان لو أن الموصي يقول لنا بعقب قوله: اعتقوا عبدي سالما
لانه أسود واعتبروا - فكنا حينئذ نعتق كل عبد له أسود.
قال أبو محمد: وهذا جواب فاسد من وجهين: أحدهما: أنه حتى لو
قال ذلك ما جاز أن يعتق كل عبد له أسود، لانه ليس قوله اعتبروا
أولى بأن يكون معناه قيسوا منه بأن يكون معناه واعتبروا بحالي
التي أنا فيها فبادروا إلى طاعة ربكم ولا تخالفوا وصيتي.
وأيضا فيلزم من أجاب بهذا الجواب الفاسد ألا يقيس على شئ من
الاحكام إلا حتى يكون إلى جنب كل حديث فيه حكم أو كل آية فيها
حكم، واعتبروا واعتبروا وهذا غير موجود في شئ من الاحكام ولا
في الحديث ولا في صلة شئ من الآيات، فبطل القياس جملة بنص قوله
هذا المجيب، ولله تعالى الحمد.
قال أبو محمد: والسؤال باق بحسبه عليهم ونزيدهم فيه فنقول: حتى
لو قال: فاعتبروا، ثم لما كان نهارا آخر قال: اذبحوا كبشي
الفلاني، لانه أعرج وله كباش عرج، أيذبحون كل كبش له أعرج، من
أجل قوله بالامس في أمر عتق عبد واعتبروا ؟.
أم لا يقدمون على ذلك إلا حتى يكون عند وصيته به واعتبروا ؟.
فإن قالوا: نكتفي بقوله: واعتبروا مرة واحدة، خرقوا الاجماع،
وهذا أمر لا يقولونه، ولو قالوه لكانوا حاكمين بلا دليل،
ومدعين بلا برهان، وإن لم
يقولوا بذلك فقد تركوا القياس جملة، ولزمهم طلب هذه اللفظة إلى
جنب كل آية وحديث وهذا لا يجدونه أبدا.
قال أبو محمد: وقد قال بعضهم في جواب هذا السؤال، إذ تتبعنا
عليهم إدخالهم
(8/1136)
في أحكام الله تعالى وحكم رسوله (ص) ما لم
يأت به نص، لكن تعليلا منهم وقياسا ثم يتحرون تجنب مثل هذا في
أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي، فلا يتعدون نصوص أقوالهم،
فقالوا: خطاب الآدميين وقد يكون فاسدا ولا حكمة فيه، وخطاب
الله تعالى حكمة.
قال أبو محمد: وهذا تمويه لا ينفك به من السؤال المذكور، ويقال
له: أي فساد في خطاب امرئ موص في ماله بما أباحه له الله تعالى
والرسول (ص) وإجماع الامة، ولم يتعد إلى مكروه ؟ فلو جاز ألا
يحمل كلامه على موجبه ومفهومه خوف فساده، لما جاز تنفيذ تلك
الوصية جملة خوف فسادها فلما اتفقوا معنا على تجويز تلك الوصية
وحملها على ظاهرها، صح أنها حق، وبطل تمويه من رام الفرق بين
ما سألناهم عنه، من حملهم كلام الناس على ظاهره ومفهومه وحملهم
كلام ربهم تعالى على الكهانات بالدعاوي والظنون، وما ليس فيه
ولا مفهوما منه وقلنا لهم: فيم غلبتم ما لم يؤمن فساده وما لا
حكمة فيه، من أقوال أبي حنيفة المتخاذلة، وأقوال مالك
المتناقضة، وأقوال الشافعي المتعارضة، على المضمون فيه الحكمة
من كلام الله تعالى وكلام رسوله (ص) ؟ حتى صرتم لا تأخذون من
النصوص إلا ما وافق كلام أحد المذكورين، ولا تزالون تتحيلون في
إبطال حكم ما خالف قولهم من القرآن السنة بأنواع الحيل الباردة
الغثة ؟ والسؤال يعد لهم لازم لا انفكاك عنه أصلا، وبالله
تعالى التوفيق.
ومما احتج به عليهم أصحابنا في إبطال العلل والقياس نهي الله
تعالى الناس عن
سؤالهم النبي (ص)، وأمرهم الاقتصار على ما يفهمون مما يأمرهم
به فقط، فلو كان المراد من النص غير ما سمع منه لكان السؤال
لهم لازما، ليتبينوا ويتعلموا، فلما منعوا من السؤال أيقنا
أنهم إنما لزمهم ما أعلموا به فقط.
فأجاب بعض أصحاب القياس فقال: إنما نهوا عن سؤال من سأل عن
أبيه.
قال أبو محمد: وهذا الكذب بعينه لان نص الآية يكذب هذا القائل
في قوله تعالى بعقب النهي عن السؤال: * (قد سألها قوم من قبلكم
ثم أصبحوا بها كافرين) وبين ذلك طلحة رضي الله عنه في قوله:
كنا نهينا أن نسأل النبي (ص) عن شئ فكان يعجبنا أن يأتي بالرجل
العاقل من أهل البادية فيسأله ونسمع،
(8/1137)
وقال النواس بن سمعان: أقمت بالمدينة سنة
لا أهاجر، يريد لا أبايع على الهجرة، لاننا كنا إذا هاجر أحدنا
لم يجز له أن يسأل النبي (ص) عن شئ أو كلاما هذا معناه.
وقد قال النبي (ص): أعظم الناس جرما في الاسلام من سأل عن شئ
لم يحرم فحرم من أجل مسألته، وقد قال (ص): اتركوني ما تركتكم،
فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم،
ولكن إذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما
استطعتم فبطل اعتراض هذا المعترض.
فصل قال أبو محمد: ونحن موردون إن شاء الله تعالى ما في القرآن
من النهي عن القول بالعلل في أحكام الله عزوجل وشرائعه، فكتاب
الله تعالى هو الحق الذي يقذف بالحق عن الباطل فيدمغه فإذا هو
زاهق، ومن أبى ذلك ختمنا له الآية، وهو قوله تعالى: * (ولكم
الويل مما تصفون) *.
قال أبو محمد: قال الله تعالى: * (وليقول الذين في قلوبهم مرض
والكافرون
ماذآ أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من
يشآء) * فأخبر تعالى أن البحث عن علة مراده تعالى ضلالا، لانه
لا بد من هذا، أو من أن تكون الآية نهيا عن البحث عن المعنى
المراد، وهذا خطأ لا يقوله مسلم، بل البحث عن المعنى الذي
أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم، وعلى كل مسلم فيما يخصه
فصح القول الثاني ضرورة ولا بد.
وقال الله تعالى: * (فعال لما يريد) *، وقال تعالى: * (لا يسئل
عما يفعل وهم يسئلون) *.
قال أبو محمد: وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة، فالمعلل
بعد هذا عاص لله عزوجل، وبالله نعوذ من الخذلان.
وقال تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ئ
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوأتهما وقال
ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من
الخالدين ئ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ئ فدلاهما بغرور
فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من
(8/1138)
ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن
تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطآن لكما عدو مبين ئ قالا ربنا
ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) *.
قال أبو محمد: وقال الله تعالى حاكيا عن إبليس إذ عصى وأبى عن
السجود أنه قال: * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)
*.
فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين: أحدهما: تركه
حمل نهي ربه تعالى عن الوجوب.
والثاني: قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة
كذا.
فصح يقينا بهذا النص البين أن تعليل أوامر الله تعالى معصية،
وأن أول ما عصى الله تعالى به في عالمنا هذا القياس، وهو قياس
إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه، لانه خير منه، إذ إبليس من
نار وآدم من طين،
ثم بالتعليل للاوامر كما ذكرنا، وصح أن أول من قاس في الدين
وعلل في الشرائع فإبليس.
فصح أن القياس وتعليل الاحكام دين إبليس، وأنه مخالف لدين الله
تعالى، نعم ولرضاه، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في
الدين، ومن إثبات علة لشئ من الشريعة، وبالله تعالى التوفيق.
وقال الله عزوجل حاكيا عن قوم من أهل الاستخفاف أنهم قالوا إذا
أمروا بالصدقة: * (أنطعم من لو يشآء الله أطعمه) *.
قال أبو محمد: فهذا إنكار منه تعالى للتعليل، لانهم قالوا: لو
أراد الله تعالى إطعام هؤلاء لاطعمهم دون أن يكلفنا نحن
إطعامهم.
وهذا نص لا خفاء به، على أنه لا يجوز تعليل شئ من أوامره،
وإنما يلزم فيها الانقياد فقط وقبولها على ظاهرها.
وقال تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت
لهم) * فهم ظلموا فحرمت عليهم، ونحن نظلم فلم تحرم علينا
الطيبات التي أحلت لنا، وقال عليه السلام: إننا سنركب سنن أهل
الكتاب لو دخلوا جحر ضب لدخلناه فصح أننا ظلمنا كظلمهم، ولم
يحرم علينا ما حرم عليهم، فبطل التعليل جملة، إذ لو كان ظلمهم
علة التحريم لوجب أن يكون ظلمنا علة فينا لمثل ذلك، فلما لم
يكن هذا كذلك، علمنا أن الله تعالى جعل ظلمهم سببا لان حرم
عليهم ما حرم، ولم يجعل ظلمنا سببا لان يحرم علينا مثل ذلك،
فصح أنه يفعل ما يشاء في مكان ما من أجل شئ ما، ولا يفعل ذلك
في مكان آخر من أجل مثل ذلك الشئ بعينه، وهذا
(8/1139)
بطلان ما ادعاه خصومنا من العلل القياس
نصا، وقال تعالى لموسى عليه السلام: * (اخلع نعليك إنك بالواد
المقدس طوى) *.
فكان كون موسى عليه السلام بالوادي المقدس سببا لخلع نعليه،
ونحن نكون بذلك الوادي، وبكل مكان مقدس كمكة والمدينة وبيت
المقدس، ولا يلزمنا خلع نعالنا، ولو كان دخول الوادي المقدس
علة للخلع للزمنا ذلك.
وقال تعالى: * (وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا
مثلا) *.
قال أبو محمد: هذه آية كافية إنه لا يحل التعليل في شئ من
الدين، ولا أن يقول قائل: لم حرم هذا وأحل هذا ؟ فقد صح قولنا:
إن قول القائل: حرم البر بالبر لانه مكيل، أو أنه مدخل، أو أنه
مأكول، بدعة نعوذ بالله منها.
فصل قال أبو محمد: ونحن نورد - إن شاء الله تعالى - طرفا يسيرا
من تناقضهم في التعليل، لندل بذلك عن إفساد مذهبهم، فتناقضهم
لو تتبع لدخل في أزيد من ألف ورقة، ولعل الله تعالى يعيننا على
تقصى ذلك في كتاب الاعراب إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك أن رسول الله (ص) قال لعن الله اليهود، حرمت عليهم
الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها فكان يلزمهم أيجعلوا ما حرم
أكله محرما بيعه، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كثير منهم يبيحون
بيع الزبول ولا خلاف أن أكل الحيوان حيا كما هو محرم ولا خلاف
في جواز بيع أكثره.
وكذلك فعلوا في قوله (ص) في الاستحاضة، فإنه عرق، فكان يلزمهم
أن يجعلوا كل عرق يسيل من الجسد في مثل حكم المستحاضة، كما
جعلوا الميعان في الزيت علة لتحريمه إن مات فيه فأر قياسا على
السمن، لكنهم تناقضوا في ذلك.
وهذا إجماع منهم على ترك الحكم بالعلل والقياس، وهكذا يكون
الباطل مرة مصحوبا ومرة متروكا، وصح قولنا: إن ما كان سببا في
مكان نص عليه لحكم ما فلا يكون سببا في مكان آخر لم ينص عليه
لمثل ذلك الحكم.
فقالوا: معنى التعليل هو إجراء صفة الاصل في فروعه.
(8/1140)
قال أبو محمد: وهذا قول فاسد، لان جميع
أحكام الشريعة كلها أصول، فإن كانوا عنوا بذلك أن الصلاة جملة
أصل جامع ثم النوازل فيها فروع فهذا سوء
عبارة لان اسم الصلاة يقع على عملها كله فتلك النوازل إنما هي
أجزاء من الصلاة، ولا تسمى أجزاء الشئ فروعا له، لان الفرع غير
الاصل، والاجزاء ليست غير الكل.
فبطل ما موهوا به من تقسيمهم الشريعة على فروع وأصول، وصح أن
جميع أحكام الشريعة كلها سواء وأصول، ولا يوجد شئ منها إلا عن
قرآن أو عن الرسول (ص) أو عن إجماع.
ونص تعالى عن ألا يقرب المشركون المسجد الحرام، فقال بعضهم: إن
علة ذلك تطهير المسجد الحرام منهم، فأجروا ذلك في كل مسجد،
فكان يلزمهم وإذا لزم الحج إلى مكة، أن يلزم إلى المدينة لان
مسجد المدينة والمدينة عند القائلين بما ذكرنا أفضل من مسجد
مكة ومن مكة، وهذا إن طردوا فيه أصولهم كفروا، فإذا ادعوا
الاجماع المانع لهم من ذلك قيل لهم: لا عليكم قيسوا إيجاب جزاء
الصيد بالمدينة وحرمه، فقد قال بذلك بعض التابعين من الائمة.
وقيسوا الجزاء فيما حرم قطعة من شجر الحرم على الجزاء فيما حرم
صيده من صيد الحرم، فإن لم يفعلوا فقد تناقضوا وتركوا إجراء
العمل، وتركوا القياس، وتركوا أن يتعدو ا النص، ولو فعلوا هذا
في كل مسائلهم لاهتدوا ولنجوا من ضلال القياس وفتنته.
وقالوا: إن علة الحدود الزجر والردع.
قال أبو محمد: كذبوا في ذلك إذا كان ذلك لما جاز العفو في قتل
النفس ولم يجز العفو في الزنى بالامة وفي السرقة، ولو كان ذلك
لما كانت السرقة أولى بوجوب حد محدود فيها من الغضب، ولا كانت
الخمر أولى بذلك من لحم الخنزير ومن الربا، ولا كان الزنى أولى
بذلك من القذف بالكفر، أو بترك الصلاة، ولا كان الزنى بذلك
أولى من ترك الصلاة، فظهر كذب دعواهم في ذلك، والحمد لله رب
العالمين.
وقالوا: إن علة القصر في الصلاة في السفر إنما هي المشقة،
فلذلك حدت بيوم ويومين وثلاثة أيام، على اختلافهم في ذلك.
(8/1141)
قال أبو محمد: وهذا أمر كان ينبغي لاهل
التقوى ألا يمروه على خواطرهم فكيف أن يحلوا به ويحرموا
ويتركوا له قول ربهم تعالى ؟ فأول ذلك الكذب البحث أن أصل
القصر المشقة.
ولو كان ذلك لكان المريض المدنف المثبت العلة كالمبطون، والذي
به ناقض الحمى والموم والسل ممن تثقل عليه الكلمة يسمعها ويصعب
عليه رد الجواب بكلمة فما فوقها، أولى بالقصر لعظيم مشقة
الصلاة عليه وتكلف القراءة فيها والايماءة والتشهد صرف ذهنه
إليها، من المراكب في عمارية ومعه مائة عبد يتمشى في أيام
الربيع على ضياعه من روضة إلى نهر، ومن نهر إلى صيد، ومن صيد
إلى نزهة، ومن كل منظر بديع إلى منظر حسن ينزل إذا شاء ويرجل
إذا شاء، إلا أنه من ذلك قاصد مسافة أكثر من ثلاثة أيام من
وطنه.
وهذا ما لا يحيل على صبي له أدنى فهم، فكيف على من يتعاطى
التحريم والتحليل، ويستدرك على ربه تعالى أشياء لم يذكرها ربه
تعالى ولا رسوله (ص)، إن هذا لهو الضلال المبين.
هذا والمريض والمسافر قد سوى الله عزوجل بينهما في الفطر في
رمضان، وفي إباحة متيمم، فهلا ساوى القياسيون المعللون بينهما
في قصر الصلاة للذي المريض أحوج عليه من المسافر، لانه أكثر
مشقة منه وأحوج إلى الراحة ؟ فأين قياسهم وعللهم ؟ ثم هلك، لو
صح ما قالوه، إن العلة في قصر الصلاة مشقة السفر، وأعوذ بالله
من ذلك فأي تمام للمشقة في ثمانية وأربعين ميلا في سهل وأمن
وظلال أشجار، وفي أيام الربيع في آذار وفي نيسان، ولفارس مريح
قوي، على سبعة وأربعين ميلا في أوعار وشعار، وفي حارة القيظ في
تموز، وفي خوف شديد
لراجل مكدود كبير السن ضعيف الجسم ؟ فأباحوا للفارس الذي ذكرنا
أن يفطر في رمضان ويقصر الصلاة، ومنعوا الرجل المكدود في الوعر
والحر من ذلك.
(8/1142)
وقالوا: لا بد له من الصيام والاتمام،
أفترى الميل الواحد هو الذي حصلت فيه المشقة ؟ أو ترى نصف
اليوم الذي به تمت الثلاثة هو الذي حصلت المشقة دون اليومين
ونصف يوم ؟.
هذا لا يحتمل مثله إلا من الله تعالى، الذي لا يسأل عما يفعل،
وأما نحن فنسأل، أو من رسوله (ص) المبين مراد ربه تعالى، ثم لم
يكفهم إلا أن ادعوا على العقل هذا البهتان، لانهم عند أنفسهم
أهل الحكمة في الشريعة بما توجبه عقولهم.
وقد موه بعضهم بأنه إنما تعلق في ذلك الحديث عن النبي (ص): لا
تسافر امرأة يوما وليلة إلا مع ذي محرم.
قال أبو محمد: إن احتجاجهم بهذا الحديث في إيجاب الفطر والقصر
والقريب من تحديدهم المذكور، فليت شعري: أي شئ في منع المرأة
من السفر يوما وليلة مما يوجب القصر في يوم وليلة ؟ ومشي يوم
وليلة يختلف ؟ ففي أيام كانون الاول لا يكمل الراحل ثلاثين
ميلا إلى الليل.
وفي أيام صدر حزيران - في طيب الهواء وطول الايام والشمس في
آخر الجوزاء وأول السرطان - يكمل أربعين ميلا والركبان كذلك،
والسير يختلف، فمن أين لهم أن يجدوا اليوم والليلة بأربعة برد
؟.
وقد علمنا أن بين مشي شيخ ضعيف وحمار أعرج، وبين مشي العساكر،
وبين مشي الرفاق، وبين مشي المسافر الراكب دابة مطيقة، وبين
مشي البريد في اختلاف الازمان، أشد الاختلاف وأعظم التباين،
فكيف يستجيز ذو لب أن يجد ما يقصر فيه ويفطر بثلاثة أيام، أو
باليوم التام ؟ ولا خلاف أن ما تمشيه العساكر في أربعة أيام
الشتاء يمشيه
البريد في يوم واحد في آخر الربيع وأول الصيف، وهذا معروف
بالمشاهدة.
وأيضا، فإن ذلك الحديث قد جاء بألفاظ شتى ففي بعضها أكثر من
ثلاثة أيام وفي بعضها ثلاثة أيام وفي بعضها ليلتين وفي بعضها
يوم وليلة وفي بعضها يوم وفي بعضها بريد وفي بعضها لا تسافر
على الاطلاق دون تحديد شئ أصلا، فبطل احتجاجهم به.
فإن تعلقوا بابن عمر وابن عباس، فقد خالفهم ابن مسعود وعائشة
ودحية بن خليفة، وشرحبيل بن السمط وغيرهم من الصحابة، نعم،
وابن عمر نفسه، فقد
(8/1143)
صح عنه القصر في الاميال اليسيرة جدا.
وفي الميل وفي سفر ساعة.
وعللوا الشفعة في الارضين والحكم على الشريك يعتق شقصه في
العبد والامة يعتق الباقي: بأن ذلك الضرر بالشريك.
وتناقضوا في ذلك في قولهم: لا شفعة في الجوهر ولا في العبيد
ولا في الحيوان ولا في الثياب ولا في السيوف، وقد علم كل ذي
عقل أن الضرر في ذلك بالشركة وانتقال الملك بالصدقة أو البيع
أعظم من الضرر في الارضين.
فهلا قاسوا ههنا كما قاس المالكيون الشفعة في التين والرطب على
الشفعة في الارضين خوف الضرر الداخل على الشريك ؟.
وهلا قاسوا هبة الشريك على بيعه ؟ فيقولوا: شريكه أولى بالهبة
لئلا يدخل عليه ضرر ؟.
فإن قالوا: لم يرد أن يهبه، قيل لهم: وكذلك لم يرد أن يبيع
منه.
فإن رجعوا إلى النص فقد امتدوا، ولزمهم ألا يقيسوا أصلا، ولا
يتعدوا حدود الله في النصوص، ولا يقيسوا الشفعة في التين
والثمار - دون سائر العروض على وجوبها في الارضين والاشجار
عندهم.
وهلا قاسوا من حبس شقصا له في أرض مشارعه على من أعتق شقصا له
في عبد، لاجتماعهما في الضرر ؟ ولكن هكذا يفضح الباطل أهله.
وكذلك يكون تناقض أهله.
وهل قاسوا المعسر بعتق شقصه على الموسر بعتق شقصه، لان الضرر
في ذلك واحد، وهم يقيسون عليه كل من أتلف شيئا فيوجبون عليه
فيما عدا المكيلات والموزونات القيمة لا المثل، قالوا: نفعل
ذلك قياسا على تقويم الشقص على المعتق، فهلا قوموا على المعسر
إذا أعتق كما يقومون عليه فيما أتلف ويتبعه به دينا ؟.
قال أبو محمد: وفيما ذكرنا كفاية، وقلما تخلو لهم مسألة من مثل
ما أوردنا وبالله تعالى التوفيق.
وقال بعض حذاقهم: قد تكون علة الخصم علة لخصمه عليه في إبطال
قوله.
(8/1144)
مثال ذلك: أن يقول الحنفي والمالكي لما كان
الوقوف بعرفة لا يصح إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الاحرام،
وجب ألا يصح الاعتكاف إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الصيام،
فيقول الشافعي: لما كان الوقوف بعرفة لا يقتضي الصيام، وجب أن
يكون الاعتكاف لا يفتقر إلى الصيام، وعلتهم كلهم فيما ذكروا أن
الوقوف بعرفة والاعتكاف لبث وإقامة في موضع مخصوص.
قال أبو محمد: ومثل هذا لا يعجز أن يأتي به من استجاز الهذيان
في حال صحته من البرسام ولو تتبعنا ترجيحاتهم العلل لاوردنا من
ذلك مضاحك تغني عن كل ملهى وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ومن تأمل كتب متأخريهم ومناظراتهم، وتكلفهم إخراج العلل لكل
حكم مختلف فيه أو مجتمع عليه في الشريعة، كان فيه نص يعرفونه
أو لم يعرفوا فيه نصا،
رأى كلاما لا يأتي بمثله سالم لدماغ أصلا، إلا أن يكون سالكا
سبيل المجون والسخافة ونعوذ بالله من الخذلان.
فصل قال أبو محمد: وقالوا: الحكيم بيننا لا يفعل إلا لعلة
صحيحة، والسفيه هو الذي يفعل لا لعلة، فقاسوا ربهم تعالى على
أنفسهم، وقالوا: إن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لمصالح عباده،
وراموا بذلك إثبات العلل في الديات.
قال أبو محمد: وتكاد هذه القضية الفاسدة - التي جعلوها عمدة
لمذهبهم وعقدة تنحل عنها فتاويهم - تكون أصلا لكل كفر في
الارض.
وأما على التحقيق فهي أصل لقول الدهرية الذين جعلوا برهانهم في
إبطال الخالق، لما رأوا الامور لا تجري على المعهود فيما يحسن
في عقولهم، وأنه لا بد من علة للمفعولات، وإذ لا بد من علة فلا
بد لتلك العلة من علة، وهكذا أبدا حتى يوجبوا كون أشياء لا
أوائل لها.
وهي أيضا أصل لقول من قال: إن الفاعل للعالم إنما هو النفس،
وأما الله تعالى فيحل عن أن يحدث هذه الاقذار في العالم، وهذا
الظلم الظاهر من استطالة بعض الحيوان على بعض.
(8/1145)
وهي أيضا أصل لقول من قال: إن للعالم لم
يزل وخالقه تعالى لم يزل، لانهم جعلوا علة الخلق وجوده تعالى،
ووجوده لم يزل، فخلقه لم يزل.
وهي أيضا أصل لقول من قال: بأن العالم له خالقان، من المانية
والديصانية لانهم قالوا: تعالى الله عن أن يفعل شيئا من غير
الحكمة، ولغير مصالح عباده، فصح بذلك عندهم أن خالق السفه
والشر ومضار العباد خالق آخر، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وهي أيضا أصل لقول من قال بالتناسخ، لانهم قالوا: محال أن يعذب
الحكيم من لم يذنب، وأن يفعل شيئا إلا لعلة، ومحال أن يعذب
أقواما ليعظ آخرين، أو ليجازي بذلك آخرين، أو ليجازيهم بذلك،
وهو قادر على المجازاة بلا أذى، ذلك هذا عبث فيما بيننا، فلما
رأيناه تعالى يعذب الاطفال بالجدري والقروح والجوع، ويسلط بعض
الحيوان على بعض، علمنا أن ذلك لذنوب تقدمت لانفس ذلك الحيوان
وأولئك الصبيان، وأنهم قد كانوا بالغين عصاه قبل أن تنسخ
أرواحهم في أجسام الصبيان والحيوان.
وهي أيضا أصل لقول من أبطل النبوات كالبراهمة ومن اتبعها،
فإنهم قالوا: ليس من الحكمة أن يبعث الله تعالى نبيا إلى من
يدري أنه لا يؤمن به.
قال أبو محمد: ثم حسدتهم المعتزلة على هذه القضية فأخرجوا على
حكم الله تعالى وعن خلقه وقدرته وجميع أفعال العباد، فضلوا
ضلالا بعيدا، وأثبتوا خالقين كثيرا غير الله تعالى.
وسلم الله تعالى من هذه البلية أهل الاثبات، فنفس عليهم إبليس
اللعين عدو الله السلامة، فبغي لهم الغوائل، ونصب لهم الحبائل،
ووسوس لهم القول بالعلل في الاحكام، فوقعوا في القضية الملعونة
التي ذكرنا.
وأصحب الله تعالى عصمته منها أصحاب الظاهر فثبتوا على الجادة
المثلى، وتبرؤوا إلى الله تعالى من أن يتعقبوا عليه أحكامه أو
أن يسألوه لم فعل كذا، أو أن يتعدوا حدوده، أو أن يحرموا غير
ما حرم ربهم، أو أن يوجبوا غير ما أوجب تعالى، أو أن يحلوا غير
ما أحل عزوجل، ولم يتجاوز ما أخبرهم به نبيهم (ص) فاهتدوا بنور
الله التام، الذي هو العقل، الذي به تعرف الامور على ما هي
عليه،
(8/1146)
ويمتاز الحق من الباطل، ثم بنص القرآن
وبيان رسول الله (ص) للدين، إذ
لا سبيل إلى السلامة في الآخرة إلا بهذين السبيلين.
والحمد لله رب العالمين، وهو المسؤول أصحاب الهداية حتى نلقاه
على أفضل أحوالنا، آمين.
قال أبو محمد: وكل هذه المقالات الفاسدة التي ذكرنا قد بينا
بطلانها بالبراهين الضرورية في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل في
الملل والنحل والحمد لله رب العالمين.
ونقول في ذلك ههنا قولا كافيا، يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء
الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق.
إن أول ضلال هذه المسألة قياسهم الله تعالى على أنفسهم في
قولهم: إن الحكم بيننا لا يفعل شيئا إلا لعلة، فوجب أن يكون
الحكيم عزوجل كذلك.
قال أبو محمد: وهم متفقون على أن القياس هو تشبيه الشئ بالشئ،
فوجب أنهم مشبهون الله تعالى بأنفسهم، وقد أكذبهم الله تعالى
في ذلك بقوله: * (ليس كمثله شئ) * ولو أن معارضا عارضهم فقال:
لما كنا نحن لا نفعل إلا لعلة، وجب أن يكون تعالى بخلافنا،
فوجب ألا يفعل شيئا لعلة لكان أصوب حكما وأشد اتباعا لقوله: *
(ليس كمثله شئ) * وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا: فإنهم بهذه القضية الفاضحة قد أدخلوا ربهم وتحت الحدود
والقوانين، وتحت رتب متى خالفها لزمه السفه، تعالى الله عن ذلك
علوا كبيرا، وهذا كفر مجرد دون تأويل، ولزمهم - إن طردوا هذا
الاصل الفاسد - أن يقولوا: لما وجدنا الفعل منا لا يكون إلا
جسما مركبا ذا ضمير وفكرة وجب أن يكون الفعال الاول جسما مركبا
ذا ضمير وفكرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال أبو محمد: فهذا يلزمهم كما ذكرنا.
ثم نبين بالبرهان الضروري بطلان قضيتهم من غير طريق إلزامهم
طردها فنقول بالله تعالى التوفيق: إن الحكيم منا إنما صار
حكيما لانه انقاد لاوامر ربه تعالى، ولتركه نواهيه، فهذا
هو السبب الموجب على الحكيم منا ألا يفعل شيئا إلا لمنفعة
ينتفع بها في معاده أو لمضرة يستدفعها في معاده.
وأما الباري تعالى فلم يزل وحده ولا شئ معه ولا مرتب قبله فلم
يكن على الله تعالى رتبة توجب أن يقع الفعل منه على صفة ما دون
(8/1147)
غيرها، بل فعل ما فعل كما شاء، ولم يفعل ما
لم يفعل كما لم يشأ فبطل تشبيههم أفعال الحكيم منا بأفعال
الباري تعالى.
وأيضا: فإنا لم نسم الله تعالى حكيما من طريق الاستدلال أصلا،
ولا لان العقل أوجب أن يسمى تعالى حكيما، وإنما سميناه حكيما
لانه سمى بذلك نفسه فقط، وهو اسم علم له تعالى لا مشتق، ويلزم
من سمى ربه تعالى حكيما من طريق الاستدلال أن يسميه عاقلا من
طريق الاستدلال، وقد بينا فساد هذه الطريقة وبطلانها وضلالها
في كتاب الفصل فبطلت قضيتهم الفاسدة جملة، وصح أنها دعوة فاسدة
منتقضة.
وأما قولهم: إنه تعالى يفعل الاشياء لمصالح عباده فإن الله
تعالى أكذبهم بقوله: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة
للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) * فليت شعري أي مصلحة
للظالمين في إنزال ما لا يزيدهم إلا خسارا، بل ما عليهم في ذلك
إلا أعظم الضرر وأشد المفسدة، ولقد كان أصلح لهم لو ينزل، وما
أراد الله تعالى بهم مصلحة قط، ولكنهم من الذين قال تعالى
فيهم: * (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) *.
قال أبو محمد: ويقال لهم المصلحة جميع عباده فعل تعالى ما فعل
؟ أم لمصلحة بعضهم.
فإن قالوا لمنفعة جميعهم كابروا وأكذبهم العيان، لان الله
تعالى لم يبعث قط موسى عليه السلام لمنفعة فرعون ولا لمصلحته،
ولا بعث محمدا (ص) لمنفعة أبي جهل ولا لمصلحته، بل لمضرتهما
ولفساد آخرتهما ودنياهما، وهكذا القول في
كل كافر، لو لم يبعث الله من كذبوه من الانبياء لكان أصلح
لدنياهم وآخرتهم.
وأيضا فلا شئ في العالم فيه مصلحة لانسان إلا وفيه مضرة لآخر،
فليت شعري ما الذي جعل الصلاح على زيد بفساد عمرو حكمه ؟ وكل
من فعل هذا بيننا فهو سفيه، بل هو أسفه السفهاء، والله تعالى
يفعل كل ذلك وهو أحكم الحكماء، فيلزمهم على قياسهم الفاسد.
وأصلهم الفاضح أن يسفهوا ربهم تعالى، لانه عزوجل يفعل ما هو
سفه بيننا لو فعلناه نحن، وقد وجدنا من أغرى بين
(8/1148)
الحيوانات بيننا حتى تتقابل كالديكة
والكباش والقبج وقتلها لغير أكل أنه غاية السفه، والباري تعالى
يفعل كل ذلك ويقتل الحيوانات لغير أكل، ويسلط بعضها دون مثوبة
للقاتل منهما ولا المقتول، وهو أحكم الحاكمين.
وهذا خلاف الرتبة بيننا فبطل قوله: إن الله تعالى لا يفعل شيئا
إلا لمصالح عباده، وصح بالضرورة أنه يفعل ما يشاء لصلاح ما
شاء، ولفساد ما شاء، ولنفع من شاء، ولضر من شاء، ليس ههنا شئ
يوجب إصلاح من صلح، ولا إفساد من أفسد، ولا هدي من هدى ولا
إضلال من أضل، ولا إحسان إلى من أحسن إليه.
ولا الاساءة إلى من أساء إليه، لكن فعل ما شاء * (لا يسأل عما
يفعل وهم يسئلون) * وهم دائبا يسألون ربهم.
لم فعلت كذا، كأنهم لم يقرؤوا هذه الآية نعوذ بالله من
الخذلان.
ونجده عزوجل قد حبب بين زوجين حتى أطاعاه وحبب بين آخرين حتى
عصياه واشتغلا بما هما فيه عن الصلاة في أوقاتها وجذم صالحا
وطالحا، وسلم صالحا وطالحا وابتلى قوما فصبروا وابتلى قوما
فكفروا وعافى قوما فصبروا وشكروا، وعافى آخرين فبطروا وكفروا،
وعمر صالحا وطالحا أقصى العمر، واخترم صالحا وطالحا في حداثة
السن، وجعل عيسى عليه السلام نبيا حين سقوطه
من بطن أمه، وآتى يحيى الحكم صبيا، وبسط لفرعون أنواع الغرور
حتى قال: أنا ربكم الاعلى، وخلق قوما ألباء فهماء كفارا
كالفيومي اليهودي، وأبي ريطة اليعقوبي، وقوما ألباء فهماء
مسلمين، وقوما بلداء كفارا، وقوما بلداء مسلمين، فبأي شئ استحق
عنده هؤلاء أن يرزقهم الفهم ؟ وهؤلاء أن يمنعهم إياه ؟.
فإن قالوا: لو رزق بلداء الكفار الفهم لكانوا ضررا على
المسلمين، أريناهم من ذكرنا ممن كان ضررا عليهم، فصح تناقضهم
وأكذبهم الباري عز وجل بقوله: * (إنما نملي لهم ليزدادوا
إثما).
بقوله تعالى * (أنما نمهدهم به من مال وبنين نسارع لهم في
الخيرات) * فأخبر تعالى أنه أنما أملى لهم لضررهم لا لنفعهم
ولا لمصلحتهم وكذلك يكذبهم أيضا قوله تعالى * (إنما يريد الله
أن يعذبهم بها في الحياة
(8/1149)
الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) * وكذلك
قال تعالى * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * فأبان
الله تعالى كذبهم في قولهم: إن الله تعالى إنما يفعل الشرائع
لمصالح عباده وأيضا فقد كان أصلح لهم أن يدخلهم الجنة دون
تكليف عمل ولا مشقة واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى * (ما ننسخ
من آية أو ننساأها فأنت بخير منها أو مثلها) *.
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه، لان الناسخة إنما صارت خيرا
لنا معشر المؤمنين بها خاصة إذ جعلها الله تعالى خيرا لنا لا
قبل ذلك ولم يكن قط هنا سبب يوجب أن تكون خيرا لنا إلا أنه
تعالى شاء ذلك بلا سبب ولا علة أصلا ويقال لهم وبالله تعالى
التوفيق متى كانت الناسخة خيرا لنا ؟ إذ نسخ بها ما تقدم أو قد
كانت خيرا لنا قبل أن ينسخ ما تقدم ؟ فإن قالوا كانت خيرا قبل
ان يخاطبنا بها نقضوا أصلهم وأثبتوا أنه تعالى قد منعنا ما هو
خير لنا مدة طويلة وإن قالوا بل ما صارت خيرا لنا
إلا إذ نسخ تعالى بها ما تقدم وإذ خاطبنا وأبطل بها الرتبة
الاولى.
قيل لهم: وما الذى أوجب ان تصير حينئذ خيرا لنا ؟ وما الذى
أوجب أن تنتقل الرتبة الاولى عن كونها خيرا لنا ؟ أعلة متقدمة
حكمت على الباري تعالى بذلك ؟ أم أنه شاء ذلك فقط ؟ فإن قالوا
بل علة أوجبت ذلك على الباري عز وجل كفروا بإجماع الامة وجعلوا
الله تعالى مدبرا مصرفا تعالى الله عن ذلك.
فإن قالوا بل إنه شاء ذلك فقط، رجعوا إلى أنه تعالى شاء ما فعل
بلا علة أصلا ولم يشأ ما لم يفعل وأنه تعال يريد ضلال من ضل
ولم يرد به الهدى ولا المصلحة أصلا وبالله تعالى التوفيق.
وقد بين تعالى ذلك بقوله نعوذ بالله من أن يريد منا ما أراد
بهؤلاء.
ونقول لمن قال إنه تعالى أراد صلاحهم أن يدعو ربه أن يريد به
من الصلاح ما أراد بهم.
(8/1150)
ونجده تعال خلق الكلب مضروبا به المثل في
الرذيلة والخنزير رجسا وخلق الخيل في نواصيها الخير فأى علة
وأى سبب أوجب على هذه الحيوانات أن يرتبها هكذا ؟ وما الذى
أوجب أن يخترع بعضها نجسا وبعضها مباركا وبأى شئ استحقت ذلك
قبل أن تكون منها فعل أو قبل أن توجد وأى علة أوجبت ان يخلق من
الاشياء على عدد ما دون ان يخلق أكثر من ذلك العدد أو أقل وأن
يخلق الخلد أعمى والسرطان صارفا بصره أمام ووراء أي ذلك شاء
والافعى أضر من الخلد ولها بصر حاد.
فإن قالوا خلقها ليعتبر بها وعذب الاطفال بالامراض ليعوضهم أو
ليأجر آباءهم فهذا كله فاسد لانه قد كان يعتبر ببعض ما خلق
كالاعتبار بكله ولو
زاد في الخلق لكان الاعتبار أكثر فلزم التقصير على قولهم تعالى
الله عن ذلك ولا فساد فيما بيننا أعظم من فعل من عذب آخر
ليعطيه على ذلك مالا أو من فعل من عذب إنسانا لا ذنب له ليعظ
به آخر أو ليثيب على ذلك آخر وكل هذا يفعله الباري تعالى وهو
أحكم الحاكمين فبطل قولهم إن الحكيم لا يفعل شيئا الا لعلة
قياسا على ما بيننا.
وأى فرق بين ذبح صغار الحيوان لمنافعنا وبين ذبح صغارنا
لمنافعنا ؟ فيذبح ولد عمر ولمصلحة زيد ؟ الا أن الله تعالى شاء
ذلك فأباحه ولم يشأ هذا فحرمه ولو أحل هذا وحرم ذلك لكان عدلا
وحكمة واذ لم يفعله تعالى فهو سفه وجور ولا علة لكل ذلك أصلا.
وقد أباح تعالى سبي نساء المشركين وأطفالهم واسترقاقهم قهرا
وتملكنا رقابهم وأخذنا أموالهم غصبا لذنوب وقعت من آبائهم
والدليل على ان ذلك لذنوب آبائهم ان آبائهم لو اسلموا لحرم
علينا سبي اولادهم وتملكهم فما الذى جعل الابناء مؤاخذين بذنوب
غيرهم ؟ أو ما الذى جعل مصلحة ابنائنا اولى من
(8/1151)
مصلحة ابنائهم وكل لا ذنب له ؟ وهل لو فعل
ذلك فاعل بيننا لغير نص من الله تعالى أما كان يكون أظلم
الظالمين وأسفه السفهاء ؟.
وما الذى جعل ان يخص أجسامنا بالانفس الناطقة دون أجسام الاسد
أو الحمير أو الخيل فإن قالوا في سبي اولادهم صلاح لهم لانهم
يصيرون مسلمين قيل لهم فأبيحوا سبي أولاد الذمة ليصيروا مسلمين
فذلك أصلح لهم فإن قالوا هم سكان بيننا قيل لهم فسكنوا أولاد
أهل الحرب بينكم ولا تتملكوهم عبيدا محكوما فيهم وإلا فقد
تركتم القياس ولم تجروا العلل فصح بكل ما قلنا ان الله تعالى
يفعل ما شاء لا لعلة أصلا.
ولا خلاف عن كل ذى عقل أنه لو خلقنا في الجنة وعرفنا قدر
النعمة
في ذلك وضاعف عقولنا في الزجاجة وإحساسنا في قبول اللذة كما
فعل بالملائكة لكان أصلح لنا إلا ان يقولوا إنه تعالى غير قادر
على غير ما فعل فيخرجون بذلك عن الاسلام.
وعلى كل حال فقد سقطت العلل على كل وجه وبكل قول فقد رأيناه
تعالى خلق قوما في عصر نبيه عليه السلام فشاهدوا آياته فآمنوا
وخلق آخرين في أقاصى بلاد الزنج وأقاصي بلاد الروم حيث لم
يسمعوا قط ذكر محمد صلى الله عليه وسلم.
متبعا بأقبح الذكر وأسوا الوصف وكل هذا لا عله له إلا أنه شاء
ذلك لا إله إلا هو وبه تعالى التوفيق.
قال أبو محمد ثم حداهم هذا القول الفاسد إلى ان قال بعضهم
بتضمين الصناع وقالوا في ذلك صلاح للمستصنعين.
قال أبو محمد وليت شعرى ما الذى جعل المستصنعين أولى بالنظر
لهم من الصناع إلا إن كان ذلك اتباعا لمصلحة الكثرة وعلى قول
الفساق الذين يقولون قتل الثلث في صلاح الثلثين صلاح فهذه
أقوال الشيطان الرجيم وأتباعه وما جعل الله تعالى قط جيمع
عباده أولى بالنظر لهم من مسلم واحد يضيع من أجلهم ولو شاء
الله تعالى أن يأمرنا بقتل الامة كلها في مصلحة واحد لكان ذلك
حكمة وقد امر تعالى بقتل كل من خالف محمدا صلى الله عليه وسلم
وهو رجل واحد أو إصغاره إن كان كتابيا بالجزية ومخالفوه كثير
فخصه بهذه المرتبة دونهم
(8/1152)
كما شاء لا معقب لحكمه وقد أمرنا تعالى
بأخذ الجزية من أهل التثليث القائلين بان الآلهة ثلاثة وهم
النصارى وحرم علينا قتلهم وحرم علينا أموالهم وأجراهم في
المحاكمة مجرانا وأمرنا أن نقرهم على كفرهم وهم مع ذلك يستحلون
قتلنا وحرم علينا استبقاء الثنوية الذين لا يقولون إن الآلهة
اثنان
قتلنا وقتالنا وحرم علينا الكفر من التثنية والثنوية لا
يستحلون أذانا ولا قتلنا ولا ظلمنا في أموالنا ولا أنفسنا
فألزمنا تعالى قتلهم حيث ظفرنا بهم إن لم سيسلموا وأمرنا ان لا
نقبل منهم شيئا غير الاسلام أو القتل.
فإن قال مجنون لان المثلثة أصل دينهم حق قلنا له كذبت ما كان
التثليث قط حقا وما هو إلا إفك مفترى كالتثنية ولا فرق إلا أن
النص هو المفرق بين النصارى واليهود والمجوس وبين سائر فرق
الكفر فقط ولا مزيد.
ومن قال إن قبض أرواح المشركين مصلحة لهم لحق بمن لا يكلم وكفى
بالمصير الى هذا القول ذلا وانقطاعا.
فإن قال لو أبقاه لزاد كفرا قيل له أيما كان أصلح له ؟ أن يقبض
روحه وهو صغير لم يكفر بعد ؟ أو وهو في أول كفره قبل أن يزداد
ما ازداد ؟ أو تأخيره إلى الوقت الذى أخره تعالى إليه ؟.
وفى هذا حسم لشعبهم وترك لقولهم بالمصالح جملة وقد أخبر تعالى
فقال * (انما نملي لهم ليزدادوا اثما) * فأكذب قولهم في
المصالح جملة وأخبر انه قصد بابقائهم ضد المصلحة لهم وهذا نص
قولنا انه تعالى يفعل ما يشاء لا لعلة أصلا.
وقال بعض أصحاب العلل ان الله تعالى انما حرم الخنزير لانه
فاسد الغذاء قال أبو محمد فيقال لهذا البارد الجاهل المفترى
أيما أفسد غذاء الخنزير أم التيس الهرم فلا بد له ان يقول أن
التيس الهرم أفسد غذاء وقد أحله الله تعالى وحرم الخنزير وقد
أباح تعالى الدجاجة وهى آكل للقذر من الخنزير وهذا كله فاسد من
القول وتكلف بارد وتنطع محرم وبالله تعالى التوفيق.
وموه بعضهم بأن قال قد اتفقتم معنا على وجوب شكر المنعم وعلى
وجوب شكر الباري عز وجل وهذا موافقة منكم لنا على ان العقل
يوجب به الشرع قال أبو محمد وهذا كذب منهم وما وافقناهم قط على
إن شكر الله عز وجل
(8/1153)
واجب علينا الا بعد قوله تعالى * (أن اشكر
لى ولوالديك) * وقوله تعالى * (انه يحب الشاكرين) * وقوله *
(لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي شديد) * وكذلك نقول
ان شكر المحسن فيما بيننا لا يلزم المحسن إليه الا حيث أوجبه
الله تعالى وحيث جاء النص بايجابه وبعد ان قال رسول الله (ص)
من أسديت إليه نعمة فلشكرها ولولا هذه النصوص ما لزم الشكر
أحدا إذ اللزوم يقتضى فاعلا له ملزما اياه علينا والعقل عرض
محمول في النفس والعرض لا يفعل شيئا وانما يفعل الجسم الحامل
له والنفس لا تشرع الشرائع قبل ان يرد بها السمع وتبلغ الى
العاقل المميز فلا ينكر قول من قال من الخوارج ان النبي ساعة
يبعث فإنه قد الزم أهل المشرق والمغرب التزام جميع ما بعث به
ومعرفة الدين الذى جاء به من البيوع وانواعها والطلاق والنكاح
والعبادات كلها وان من مات اثر مبعثه بساعة في أقطار الدنيا
غير عالم بكل ما ذكرنا فقد مات كافرا الى النار.
قال أبو محمد وهذا كما ترى من تكليف ما لا يطاق كقول من أراد
الزام الشرائع بغير نص من الله تعالى.
ثم نسألهم ما تقولون فيمن استنقذ صبيا حين الولادة ممن أراد
وأده ثم استنقذه من سبع ثم من يد كافر سباه ثم رباه فأحشن
تربيته ثم علمه الدين والعلم فلما بلغ الصبى مبلغ الرجال ولى
الاحكام بين المسلمين فتعدى الذى أحسن إليه على رجل ففقأ عينه
وقطع يديه ورجليه وجدع أنفه وأذنه وقلع جميع أسنانه وجب
مذاكيره فقدمه المفعول به ذلك الى هذا الحاكم الذى أحسن إليه
هذا المتعدى وطلب القصاص وهو عدو للحاكم وقد أساء إليه قديما
وضربه ولطمه أتأمرون الحاكم ان يعفو عن المحسن إليه ؟ أم
توجبون عليه ان يقطع
يدى المحسن إليه ورجليه ويقلع أسنانه ويفقأ عينيه ويجدع أذنيه
وأنفه ويجب مذاكيره انتصارا لعدوه الظالم له من وليه المحسن
إليه ؟ فإن قالوا لا يفعل به شيئا من ذلك كفروا ان اعتقدوا صحة
هذا الجواب وفسقوا ان قالوه غير معتقدين له وان قالوا بل يفعل
به مثل ما فعل تقضوا
(8/1154)
أصلهم في وجوب شكر المنعم فإن قالوا أخذ
القصاص منه إحسان إليه وشكر له قلنا إن كان هذا المحسن ذميا
فما نراه عجل له قتله قصاصا إلا النار فأين الاحسان والشكر فإن
قالوا قتل الكافر إحسانا إليه كابروا العيان لان التعجيل الى
النار وأنقطاع الرجاء من الايمان ليس إحسانا بل هو غاية
الاساءة قال أبو محمد فصح بكل ما ذكرنا أنه لا علة لشئ من
أوامر الله تعالى ولا لشئ من أفعاله كلها أولها عن آخرها ولا
يجوز ان يشبه حكم بحكم آخر لم يأذن الله تعالى في الجمع
بينهما.
وهذه المسألة أصل خطأ القوم وبعدهم عن الحقائق وهى بدعة محدثة
حدثت في القرن الرابع لم ينطق بها قط صحابي ولا تابعي بوجه من
الوجوه وهى مسألة ألقاها الشيطان بين المسلمين نعوذ بالله من
الخذلان ونسأله ان يثبتنا على ما هدانا إليه من اتباع كلامه
وكلام نبيه (ص) وإجماع أولى الامر منا والرد عند التنازع الى
كلامه تعالى وكلام نبيه (ص) ونسأله لاخواننا ان يتوب عليهم من
بدعة القياس والتقليد والاستدراك على ربهم تعالى وعلى نبيهم
(ص) ما لم يأت عنهما ولا قالاه وسؤالهم لم فعل الله تعالى كذا
وكذا ؟ وأن يفئ بهم الى ما أمروا به من طريق الحقائق آمين يا
رب العالمين وصلى الله على محمد وحسبنا الله ونعم الوكيل.
{ الباب الموفى أربعين } وهو باب الكلام في الاجتهاد ما هو ؟
وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به ومن يقطع على
أنه أخطأ عند الله تعالى فيما أداه إليه
اجتهاده ومن لا يقطع أنه مخطئ عند الله عز وجل وان خالفناه.
قال أبو محمد على بن أحمد رحمه الله لفظة الاجتهاد مما يجب
معرفة تفسيرها لان أكثر المتكلمين في الاجتهاد وحكمه لا يعلمون
معناه وبالله تعالى التوفيق ان حقيقة بناء لفظة الاجتهاد أنه
افتعال من الجهد وحقيقة معناها انه استنفاد الجهد في طلب الشئ
المرغوب ادراكه حيث يرجى وجوده فيه أو
(8/1155)
حيث يوقن بوجوده فيه هذا ما لا خلاف بين
أهل اللغة فيه والجهد بضم الجيم الطاقة والقوة تقول هذا جهدي
أي طاقتي وقوتى والجهد بفتح الجيم سوء الحال وضيقها تقول القوم
في جهد أي في سوء حال فإذ ذلك كذلك فالجتهاد في الشريعة هو
استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم هذا ما
لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالديانة فيه قال أبو محمد وانما
قلنا في تفسير الاجتهاد العام حيث يرجى وجوده فعلقنا الطلب
بمواضع الرجاء وقلنا في تفسير الاجتهاد في الشريعة حيث يوجد
ذلك الحكم فلم نعلقه بالرجاء لان أحكام الشريعة كلها متيقن ان
الله تعالى قد بينها بلا خلاف ومن قال ان الله تعالى ورسوله
عليه السلام لم يبين لنا الشريعة التى أرادها الله تعالى منا
وألزمنا اياها فلا خلاف في أنه كافر فأحكام الشريعة كلها
مضمونة الوجود لعامة العلماء وان تعذر وجود بعضها على بعض
الناس فمحال ممتنع ان يتعذر وجوده على كلهم لان الله تعالى لا
يكلفنا ما ليس في وسعنا وما تعذر وجوده عى الكل فلم يكلفنا
الله تعالى اياه قط قال الله سالى * (لا يكلف الله نفسا الا
وسعها) * وقال تعالى * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *
وبالضرورة ندرى ان تكليف اصابة ما لا سبيل الى وجوده حرج فصح
قولنا وبالله التوفيق.
ثم اتفق العلماء على أن القرآن وما حكم به رسول الله صلى الله
عليه وسلم أو قاله أو فعله أو أقره وقد علمه مواضع لوجود أحكام
النوازل واختلفوا في نقل السنن على ما ذكرناه قبل وبينا الرهان
هنالك يحول الله تعالى وقوته على وجوب قبول الخبر المسند بنقل
العدول.
ثم اختلفوا فقالت طائفة لا موضع البتة لطلب حكم النازل من
الشريعة ولا لوجوده الا هذه المعادن التى ذكرنا اما نص على اسم
تلك النازلة واما دليل منها على حكم تلك النازلة لا يحتمل الا
وجها واحدا وهذا قول جميع أهل الاسلام قطعا وان اختلفوا في
الطرق التى توصل الى معرفة السنن وهو قول جميع أصحابنا
الظاهرين وبه نأخذ وقد بينا أقسام الدين المذكور فيما سلف من
ديوننا هذا وحصرناها هنالك والحمد لله رب العالمين.
وقال آخرون بل ههنا مواضع أخر يطلب فيها حكم النازلة وهى الخبر
المرسل
(8/1156)
وقول الصاحب الذى لا يعرف له مخالف من
الصحابة إذا اشتهر وقال آخرون وإن لم يشتهر وقول الامام الوالى
منهم ودليل الخطاب والقياس والرأى المجرد والاستحسان وقول أكثر
العلماء وعمل أهل المدينة والاخذ بقول عالم وإن كان له مخالف
مثله وقد شرحنا معاني هذه الاسماء وابطلنا الحكم بكلها أو شئ
منها بالبراهين الضرورية فيما سلف من كتابنا هذا والحمد لله رب
العالمين فأما تعلق قوم اعتقدوه من أحكام بعض النوازل بقول
صاحب له مخالفون أو بقول تابع أو بقول فقيه من القفقهاء
المتقدمين وإن خالفه غيره من أهل العلم فهذا هو التقليد الذى
قد تلكمنا في أبطاله فيما سلف من كتابنا هذا والحمد لله رب
العالمين.
قال أبو محمد وليس للمتكلمين في الديانة اليوم قول يكون عندهم
اجتهادا
غير ما ذكرنا وقد كانت اقوال في ذلك لقوم من اهل الكلام قد
درست مثل قول بعضهم ان ما وقع في النفس في اول الفكر فهو
الواجب ان يقال به وقال بعضهم الواجب ان يقال بالاثقل لانه
خلاف الهوى وقال بعضهم بل بالاخف منها لقول الله تعالى * (يريد
الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) *.
قال أبو محمد وهذه اقوال فاسدة لانها كلها دعاوى يعارض بعضها
بعضا ولك ما الزمنا الله تعالى فهو يسر وان ثقل علينا وكل
شريعة نتكلف فهى خلاف الهوى لان تركها كان موافقا للهوى ولان
قد يقع في اوائل الفكر الوسواس وقال تعالى ذاما لقوم * (شرعوا
لهم من الدين ما لم يأذن به الله) * ومن قطع بشئ مما يقع في
نفسه من الدين فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقال
تعالى * (قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) * فنص تعالى على ان
من لا برهان له فليس بصادق وقال تعالى * (كتب عليكم القتال وهو
كره لكم وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا
وهو شر لكم) * فهذا يدفع قول من قال بالاخف وقال تعالى * (وما
جعل عليكم في الدين من حرج) * وهذا يدفع قول من قال بالاثقل
وصح انه لا لازم الا ما الزمنا الله تعالى وسواء وقع في النفس
أو لم يقع.
س.
اء كان أخف أو أثقل.
قال أبو محمد وإذا قد انحصرت وجوه الاحتهاد الى ما قد أوضحنا
براهينه من
(8/1157)
القرآن أو الخبر المسند بنقل الثقات الى
النبي (ص) إما نصا على الاسم وإما دليلا من النص لا يحتمل الا
معنى واحدا وسقط كل ما عداها من الوجوه التى قد حصرت فالواجب
ان ننظر في أقسام المجتهدين فنظرنا في ذلك فوجدنا اقسام
المجتهدين بقسمة العقل الضرورية لا تخرج عن ثلاثة أقسام عندنا
و.
أما عند الله تعالى فقسمان لا ثالث لهما
فالقسمان هما مصيب أو مخطئ لا بد ان يكون كل مجتهد عند الله
تعالى واقعا في أحد النعتين اما مصيب واما مخطئ وقد أوضحنا
فيما سلف من كتابنا هذا البراهين الضرورية على ان الحق لا يكون
في قولين مختلفين في الحكم واحد في وقت واحد في إنسان واحد في
وجه واحد.
وأما الثلاثة الاقسام التى عندنا فمصيب نقطع على صوابه عن الله
عز وجل أو مخطئ نقطع على خطئه عن الله عز وجل أو متوقف فيه لا
ندرى أمصيب عند الله تعالى ام مخطئ وإن ايقنا انه في احد
الحيزين عن الله عز وجل بلا شك لان الله تعالى لا يشك بل عنده
علم حقيقة كل شئ لكنا نقول مصيب عندنا أو مخطئ عندنا دليل اصلا
وما كان من هذه الصفة فلا تحل الفتيا فيه لمن لم يلح له وجهه
إذ لا شك في أن عند غيرنا بيان ما جهلناه كما ان عندنا بيان
كثير مما جهله غيرنا ولم يعر بشر من نقص أو نسيان أو غفلة.
فإذا قام البرهان عند المرء على صحة قول ما قياما صحيحا فحقه
التدين به والفتيا به والعمل به والدعاء إليه والقطع انه الحق
عند الله عز وجل لما ذكرنا قبل وليس من هذا الحكم بالشهادة من
العدلين وقد يكونان في باطن امرهما عند الله تعالى كاذبين أو
مغفلين إذ يكلفنا الله تعالى معرفة باطن ما شهدا به لكن كلفنا
الحكم بشهادتهما.
وقد علمنا انه لا يمكن ان يخفى الحق في الدين على جميع
المسلمين بل لا بد ان تقع طائفة من العلماء عل صحة حكمه بيقين
لم اقدمنا في كتابنا في هذا من ان الدين مصمون بيانه ورفع
الاشكال عنه بقول الله تعالى * (تبيانا لكل شئ) * وبقوله تعالى
* (لتبين للناس ما نزل إليهم) *.
(8/1158)
ولكن قد قال الله تعالى * (وليس عليكم جناح
فيما اخطائتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * فصح بالنص ان الخطأ
مرفوع عنا فمن حكم بقول ولم يعرف انه خطأ وهو عند الله تعالى
خطأ فقد أخطأ ولم يتعمد الحكم بما يدرى انه خطأ فهذا لا جناح
عليه في ذلك عند الله تعالى وهذه الآية عموم دخل فيه المفتون
والحكام والعاملون والمعتقدون فارتفع الجناح عن هؤلاء بنص
القرآن فيما قالوه أو عملوا به مما هم مخطئون فيه وصح ان
الجناح انما هو على من تعمد بقلبه الفتيا أو التدين أو الحكم
أو العمل بما يدرى انه ليس حقا أو بما لم يقده إليه دليل اصلا
وصح بهذه الآية ان من قام عنده برهان عل بطلان قول فتمادى عليه
فهو في جناح لانه قد تعمد بقلبه ذلك وكذلك قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا احتهد
فأصاب فله أجران وقد ذكرنا بإسناده فيما سلف من كتابنا هذا
فأغنى عن إعادته فنص رسول الله (ص) على ان الحاكم إذا أخطأ في
اجتهاده فله أجر فيما أداه اجتهاده الى انه حق عنده وأسقط عنه
بذلك الاثم وإن كان مخطئا في الحقيقة عند الله تعالى.
قال أبو محمد واعتقاد الشئ والعمل به والفتيا به حكم به فدخل
هؤلاء تحت لفظ الحديث المذكور وعمومه فصح ما ذكرنا وبالله
تعالى التوفيق قال أبو محمد: ثم ينقسم المخطئ المجتهد قسمين لا
ثالث لهما إما مخطئ معذور كما قلنا وما مخطئ غير معذور على ما
شهد به قول الله تعالى * (وليس عليكم جناح فيما اخطأتم به ولكن
ما تعمدت قلوبكم) * ان المخطئ المعذور هو الذى لم يتعمد الخطأ
وهو الذى يقدر انه على حق باجتهاده وان المخطئ غير المعذور هو
من تعمد بقلبه ما صح عنده انه خطأ أو قطع بغير اجتهاده.
قال أبو محمد فإذا قد صح كل هذا بالنص فلنعده باختصار فنقول
وبالله تعالى التوفيق.
إن المجتهدين قسمان إما مصيب مأجور مرة وهو الذى أداه اجتهاده
الى انه على حق عنده ومخطئ غير معذور ولا مأجور ولكن في جناح
وإثم وهو من تعمد القول
(8/1159)
بما صح عنده الخطأ فيه أو بما لم يقم عنده
دليل باجتهاده على انه حق عنده.
قال أبو محمد ثم وجدنا من قامت عليه حجة في بطلان ما اعتقده
ولم تكن عنده حجة تعارض تلك الحجة الواردة فانه لا يخلوا من
أحد وجهين لا ثالث لهما اما ان يكون اجتهاده اداه الى ما اعتقد
من ذلك ببرهان واضح يقين قد ارتفع به الشك فإن البرهان لا
يعارضه برهان فلو جاز ذلك لكان الحق في المتضادين فهذا باطل
بيقين فهو وان عجز عن معارضة ذلك الشغب الوارد عليه فليس عجزه
عن ذلك بمسقط لما ثبت بالبرهان فواجب عليه التمادي على ما قام
به البرهان وإما ان يكون اداه اجتهاده الى ذلك باقناع أو شغب
فكان في اعتقاده إياه مسامحا لنفسه مدافعا للخواطر التى تعارضه
غير محقق للبحث عن البرهان في ذلك فهذا إذا قامت عليه حجة
برهانية من النص يلوح له فساد اجتهاده ففرض عليه ترك ما كان
عليه والرجوع الى الحق فإن لم يفعل فهو عاص لله عز وجل فاسق
مجرح ساقط الشهادة لانه مغلب للظن على اليقين وهذه من الكبائر
قال عز وجل * (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق
شيئا) * وقال الله تعالى * (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى
الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) *.
قال أبو محمد: فهذا نص ما قلنا آنفا إن من جاءه من ربه تعالى
الهدى وهو البرهان الحق فلا يحل له تركه واتباع ما هويت نفسه
وظن انه الحق وانه لا يحل له الثبات على ما هويت نفسه وظن انه
الحق وترك اتباع الحق لوارد من عند الله تعالى
قال أبو محمد وسواء في هذا المقام عليه البرهان في فتياه أو في
معتقده في اعتزاله أو تشيعه أو إرجائه أو شرايته ومن جوز الشك
في البرهان وتمادى على مخالفته وقطع بظنه في أنه لعل ههنا
برهانا آخر يبطل هذا البرهان الذى أقيم عليه: فهذا مبطل
للحقائق كلها وقوله يقود الى ان لا يحقق شيئا من الشرائع الا
بالظن فقط وهذا أفسق الفاسقين.
قال أبو محمد وأما من اعتقد قولا بغير اجتهاد أصلا لكن اتباعا
لمن نشأ بينهم فهذا مقلد مذموم بيقين أصاب أو أخطأ وهو آثم على
كل حال عاص
(8/1160)
لله عز وجل بذلك فاسق مجرح الشهادة صادق
الحق أو لم يصادفه لانه لم يقصده من حيث أمر من اتباع النصوص
وقد بينا برهان هذا فيما سلف من ديواننا هذا وبالله تعالى
التوفيق.
فإن قال قائل: فإنكم على هذا يلزمكم أن كل من قال من الصحابة
أو من التابعين وفقهاء الامة وخيارها بقول يخالف قولكم في كل
مسألة، فإنه داخل فيما ذكرتم من التكفير أو التفسيق أو الكذب،
وفي هذا ما فيه.
قلنا: هذه دعوى منكم كاذبة، بل هو اللازم لكم، ولكل من قال: إن
الحق في واحد من الاقوال، لانكم في قوله لكم تزعمون في نصركم
إياها أنها موافقة لما جاءه من عند الله تعالى، إما لقرآن أو
لسنة مسندة أو مرسلة، وهما عندكم سواء في أمر الله تعالى
بقبوله، أو لقياس، بل هو عندكم مما أمر الله تعالى به، فيلزمكم
أن كل من خالفكم فيها من صاحب أو تابع أو فقيه: مخالف لما جاء
من عند الله تعالى، والمخالف لما جاء من عند الله تعالى عندكم
إما كافر وإما فاسق.
فإن قال: لا يكون كافرا ولا فاسقا ولا عاصيا إلا أن يعاند الحق
الذي جاء من عند الله تعالى وهو يدري أنه حق.
قلنا: هذا نفس قولنا ولله الحمد، فإن كل من خالف قرآنا أو سنة
صحيحة أو إجماعا متيقنا وهو لا يلوح له أنه مخالف لشئ من ذلك،
فليس كافرا ولا عاصيا ولا فاسقا، بل هو مأجور أجرا واحدا، كما
قال رسول الله (ص) فيمن اجتهد فأخطأ، ولا خطأ في شئ من الشريعة
إلا في خلاف قرآن أو سنة صحيحة، فهذا برهاننا من السنة.
وأما من القرآن فقوله تعالى للمسلمين: * (وليس عليكم جناح فيما
أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * ومن الاجماع أنه لا خلاف
بين أحد من الامة أن من قرأ فبدل من القرآن بلفظ آخر أو أسقط
كلاما أو زاد ساهيا مخطئا فإنه لا يكفر ولا يبتدع ولا يفسق ولا
يعصي، وإنما الشأن فيمن قامت عليه الحجة، فعند وخالف الآية بعد
أن وقف عليها، مقلدا أو متبعا لهواه، أو خالف السنة بعد أن
عرفها كذلك، فهؤلاء هم الذين يقع عليهم التكفير والتفسيق، على
حسب خلافهم لذلك إن استحلوا خلاف ذلك كفروا، وإن خالفوه
معاندين غير مستحلين فسقوا.
(8/1161)
وهكذا القول في الشريعة كلها، ووطئ الفرج
الحرام، وأكل الحرام واستباحة العرض الحرام والبشرة الحرام
ونحو ذلك، كل هذا من فعله مخطئا غير عالم أنه خالف ما جاء من
عند الله تعالى على لسان نبيه (ص) فلا يكفر ولا يفسق ولا يعصي،
ومن فعله عامدا غير معتقد لاباحة ما حرم الله تعالى من ذلك فهو
فاسق، ومن فعله عامدا مستحلا خلاف الله تعالى فهو كافر، وقد
نزه الله تعالى كل صاحب وكل فاضل عن هاتين المنزلتين، وأوقع
فيهما كل فاسق متبع هواه قاصد إلى نصر الباطل، والثبات عليه
وهو يدري أنه باطل، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فإذا قد صح كل ما قلناه فلنبين بحول الله تعالى
وقوته وجوه الاجتهاد التي قدمنا، وحكم من أخذ بوجه منها وفي أي
خبر يقع عندنا من
القطع بصوابه أو القطع بخطئه، أو التوقف في أمره، وبالله تعالى
نعتصم.
فأول ذلك من تعلق بآية منسوخة، فهذا لا يخلو من أحد وجهين: إما
أن تكون تلك الآية قد جاء نص منقول نقل تواتر بأنها منسوخة، أو
قال دليل متيقن النص أو الحال بأنها منسوخة، فإن كان نسخها ثبت
أحد هذه الوجوه، فحكمها الثبات على ما بلغه من المنسوخ عند
الله عزوجل بلا شك، ما لم يثبت البرهان عنده بنسخها معذور
مأجور مرتين.
فإذ قام عليه البرهان المذكور بأنها منسوخة فتمادى على ذلك -
من الاخذ بالمنسوخ معتقدا لصوابه في ذلك، فهو كافر مشرك حلال
الدم كمن تمادى على القول بأن المتوفى عنها وصية إلى الحول، أو
على القول بالصلاة إلى بيت المقدس، وما أشبه ذلك.
وأما إن قام الدليل عنده على أنها منسوخة - من النص المتيقن
كما ذكرنا - إلا أنها مما اختلف الناس في نسخها، فتمادى على
القول بالمنسوخ، وهو يعلم خلاف
(8/1162)
ذلك، فهو فاسق عاص لله تعالى، لتعمد قلبه
القول بمخالفة الحق الصحيح، فهو عامد كبيرة وبالله تعالى
التوفيق.
فإن كانت تلك الآية مما قام الدليل على نسخها من نقل الآحاد،
وهو ممن يصحح مثل ذلك النقل، فتمادى على القول بها، فهو فاسق
بتعمده مخالفة ما هو الحق عنده، وإن كنا لا نقطع على أنه مخطئ،
وليس هذا فيما لم يأت من جهة الثقات مسندا فقط، لكن من جهة من
اختلف في توثيقه ولا بد ولا مزيد، وهذا كمن رد شهادة العدلين
من الحكام فيما يقبلان فيه بغير شئ يوجب رد شهادتهما، فهذا
فاسق لرده ما هو الحق عنده، ولعله في باطن الارض مصيب في ردها
إذ لعلهما كاذبان أو مغفلان أو غاب عنهما سر تلك الشهادة فهذا
أفضل.
وفصل ثان: وهو أن يتعلق بآية مخصوصة مثل قوله: * (لئن أشركت
ليحبطن عملك) * فهذه خاصة فيمن مات كافرا ببرهان نص آخر، فهذه
أيضا ما لم يقم عنده برهان بأنها مخصوصة، فحكمه الثبات على
المخصوص الذي بلغه، وهو مأجور مرتين حتى إذا قام عليه الدليل
البرهاني بأنها مخصوصة، فكما قلنا في الفصل الذي قبل هذا.
وفصل ثالث: وهو أن يتعلق بآية قد خص منها بعضها كقوله تعالى: *
(قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون
ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير
الله به) * وكقوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * إلى قوله:
* (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * وكقوله تعالى: * (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما) * فهذا أيضا حكمه الثبات على ما
بلغه، وهو مأجور مرتين، فإن قام عليه البرهان فتمادى، فإن كان
صحيحا عنده فهو كافر، كمن أحل الخمر بعموم هذه الآية، أو أحل
العبيد بملك اليمين.
وفصل رابع: وهو أن يتعلق بآية مزيد عليها نص آخر، كمن تعلق
بقوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * الاية الى قوله * (وأحل
لكم ما وراء ذلكم) * وقد
(8/1163)
زيد في هذه الآية تحريم الجمع بين المرأة
وعمتها، وخالتها.
ومثل هذا كثير، فهذا أيضا حكمه الثبات على ما بلغه وهو مأجور
مرتين ما لم يقل عليه دليل بالزيادة، فإن كان الدليل صحيحا
عنده فخالفه معتقدا خلاف النص فهو كافر.
وفصل خامس: وهو أن يتعلق بآية فيصرفها عن وجهها.
كمن ادعى في قول الله عزوجل: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * وقوله تعالى: * (وأشهدوا
ذوي عدل منكم) * أنهما مخالفان لما صح عن النبي (ص) من الحكم
باليمين مع الشاهد وموجبان ألا يحكم
بأقل من شاهدين أو شاهد وامرأتين.
قال أبو محمد: وهذا تمويه تعمدوه أو جاز عليهم بغفلة.
أو صرف للآيتين عن وجههما وتمويه بوضعهما في غير موضعهما، لانه
ليس في الآيتين المذكورتين أمر بالحكم بالشاهدين.
أو الشاهد والمرأتين أصلا.
ولا دليل على ذلك بوجه من الوجوه.
وإنما فيهما الامر باستشهاد الشاهدين أو الشاهد والمرأتين
المداينة والطلاق والرحمة فقط مع ما فيهما من قوله تعالى: *
(وأشهدوا إذا تبايعتم) * دون ذكر عدد إشهاد واحد يقع عليه اسم
إشهاد وقوعا صحيحا في اللغة بلا شك فهو جائز بنص القرآن.
وكمن تعلق في إيجاب الزكاة بقوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم
حصاده) * وهذا خطأ لان إيتاء حق الزكاة فيما أنبتت الارض لا
يمكن يوم الحصاد، وهي أيضا مكية والزكاة مدنية.
فصح أن من احتج بهذه الآية في أحكام الزكاة فصارف للآية عن
وجهها، فمن جهل هذه النكتة واحتج بهاتين الآيتين فيما ذكرنا
فهو مخطئ، لانه لم يأمره الله تعالى قط بما ذهب إليه، لكنه
بجهله مأجور مرة معذور، فإن وقف على ما ذكرنا فتمادى على قوله
فهو فاسق أو كافر، على ما قسمنا قبل: مخطئ عند الله تعالى
بيقين لما ذكرنا قبل.
قال أبو محمد: وهذه الفصول كلها داخلة على من تعلق بالاحاديث
كما ذكرنا قبل سواء بسواء، كمن تعلق بحديث منسوخ أو مخصوص، أو
مخصوص منه أو
(8/1164)
مزيد عليه، فهذا كما قلنا في الآيات سواء
بسواء إلا أنه لا يكفر إلا برد حديث ثبت عنده، وإن كان مختلفا
في الاخذ به فكما قلنا في الآيات، إن خالف في ذلك ما هو الحق
عنده معتقدا لذلك فهو كافر مخطئ عند الله تعالى، وإن خالف ذلك
بلسانه دون قلبه فهو فاسق.
ومما ذكرنا أيضا قول من احتج في إباحة الصلاة في المقبرة بصلاة
النبي (ص) على قبر المسكينة السوداء، وهو لا يبيح الصلاة على
القبر، وأما لو اتخذ بهذا لكان هذا منه قياسا، لا صرفا للخبر
عن وجهه.
وكمن احتج بقوله (ص): إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث في
رد الحج عن الميت وترك للصيام عنه وترك كشف رأسه إن مات محرما.
ومنها أن يدعي المرء في عموم آية نسخا أو تخصيصا، أو تخصيصا
منها أو ندبا، فإن حق له دعواه في ذلك بنص صحيح فقوله حق مقطوع
على صحته عند الله عزوجل، ومن قال: إن هذه الآية أو الخبر قد
نسخها الله عزوجل أو خصهما أو خصص منهما أو يلزمنا ما فيهما أو
أراد بهما غير ما يفهم منهما ولم يأت على دعواه بنص صحيح - فقد
قال الله ما لم يعلم.
قال أبو محمد: وليس هؤلاء كمن تقدم ذكرنا لهم، لان من تعلق بنص
لم يبلغه ناسخه ولا ما خصه ولا ما زيد به عليه - فقد أحسن ولزم
ما بلغه، وليس عليه غير ذلك حتى يبلغه خلافه من نص آخر، ومن
ذكرنا في هذا الفصل فلم يتعلق بشئ أصلا، بل تحكم في الدين كما
اشتهى، وهذا عظيم جدا، فمن قال بهذا ممن نشاهده - ساهيا غير
عارف بما اقتحم فيه من الدعوى - فهو معذور بجهله، ما لم ينبه
على خطئه، فإن نبه عليه فثبت على خلاف ما بلغه عامدا فهذا غير
معذور، لانه خالف الحق بعد بلوغه إليه.
وأما من روي عنه شئ من ذلك من الصحابة أو التابعين أو ممن سلف،
ممن يمكن أن يظن به أنه سمع في ذلك نصا شبه له فيه - فهؤلاء
معذورون لاننا لا نظن بهم إلا أحسن الظن، وقد حضنا الله تعالى
على أن نقول: * (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا
بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا) *.
قال أبو محمد: ولا يقين عندنا أنهم تحكموا في الدين بلا شبهة
دخلت عليهم،
(8/1165)
ولا شك أنهم لم يتبين لهم الحق في ذلك.
وأما من نشاهده أو لم نشاهده - ممن صح عندنا بيقين حاله ومقدار
عمله - فنحن على يقين أنه ليس عنده في ذلك أكثر من الدعوى،
والقول على الله تعالى بما لا يعلم، فهؤلاء فساق راكبون أعظم
الكبائر ونعوذ بالله من الخذلان.
وكذلك من ادعى في حديث صحيح قد اقر بصحته مثله في اسناده نسخا
أو تخصيصا أو تخصيصا منه أو ندبا فكما قلنا في مدعى ذلك في
الآيات ولا فرق ومنها من تعلق بقوله لم يجد فيه مخالفا ولم
يقطع بأنه اجماع فهذا ان ترك لذلك عموم نص صحيح أو خصوص نص
صحيح فمعذور مأجور مرة وان اخطأ ما لم يوقف على ذلك النص فإن
وقف عليه فتمادى على خلافه فهو فاسق لرده ما اقر بثباته أو
كافر ان اعتقد خلاف الحق بعد بلوغه إليه بقلبه.
ومنها ان لا يتعلق في خلاف النص الثابت بإقراره الا بقول صاحب
لا يعرف له منهم مخالف اما منتشر مشتهر واما غير منتشر ولا
مشتهر أو تعلق في ذلك بقول اكثر العلماء وقد وجد الخلاف في ذلك
من بعضهم أو تعلق في ذلك بعمل اهل المدينة وقد وجد الخلاف من
غيرهم فهذا ضعيف من التعلق جدا لان الخطأ لا يؤمن على احد منت
الصحابة ولا على الأكثر من العلماء ولا على عمل أهل المدينة
الا أنه قد يغلب الظن على المرء حتى يتوهمه يقينا لسهوه عن
صحيح النظر فهذا من النسيان والخطأ المرفوع فيه الجناح حتى إذا
نبه على ذلك فإن تمادى فهو فاسق لتماديه على مخالفة أمر الله
تعالى وتعلقه بما لم يأمر الله تعالى بقط بالتعلق به فهو بذلك
شارع في الدين ما لم يأذن به الله أو كافر ان تعمد خلاف الحق
بقلبه بعد بلوغه إليه.
ومنها: أن يتعلق بدليل الخطاب أو بالقياس، فهذا أيضا معذور
مأجور
مخطئ عند الله تعالى بيقين، إلا أنه لا يفسق، ما لم تقم عليه
الحجة في بطلان هذين العلمين، فإن قام بذلك عنده البرهان - من
النصوص الثابتة المتظاهرة فتمادى على القول بالقياس أو بدليل
الخطاب، فهو فاسق، لانه ثابت على ما لم يأذن به الله تعالى ولا
رسوله (ص) كما قدمنا.
ومنها: أن يتعلق بالرأي والاستحسان، وهذا أضعف من كل ما تقدم.
(8/1166)
إذ الشبهة المتعلق بها في هذين الوجهين في
غاية الوهاء لانه دليل على صحتهما، بل البرهان قائم على
بطلانهما، إلا أنهم قد تعلقوا في ذلك بأثرين واهيين ساقطين
مصروفين أيضا عن وجههما، أحدهما الحديث المنسوب إلى معاذ، إلا
أن من شبه عليه فظن أنه مصيب في ذلك فهو معذور مأجور، فإن قامت
عليه الحجة بطلان الرأي والاستحسان فثبت على القول بهما فهو
فاسق، لحكمه في الدين بما ليأذن به الله تعالى.
ومنها أن يتعلق بقول صاحب قد خالفه غيره من الصحابة، أو بقول
عالم ممن دونه ممن قد خالفه غيره من العلماء، فهذا هو التقليد
بعينه، وليس من فعل هذا مجتهدا أصلا، وهو حرام لا يحل، فمن قد
رأته معذور في ذلك ولم يبلغه المنع منه ولا بلغه أن ههنا عالما
آخر مخالفا لهذا الذي تعلق به فهو معذور، لانه يظن أن هذا هو
الحق وأما إذا بلغه أن عالما آخر مخالفا للذي تعلق هو به فهو
فاسق.
لانه ليس بيده شبهة أصلا يتعلق بها في اتباع رجل بعينه دون
غيره، بل هو ضلال مبين.
ونعوذ بالله من الخذلان.
وأما الوجوه التي لا تقع فيها على تفسيق المخالف لنا ولا على
أنه مخطئ عند الله تعالى، بل نقول نحن على الحق عند أنفسنا
ومخالفنا عندنا مخطئ مأجور والله أعلم، فأدق ذلك وأغمضه أن ترد
آيتان عامتان، أو حديثان صحيحان عامان،
أو آية عامة وحديث صحيح، وفي كل واحدة من الآيتين، أو في كل
واحد من الحديثين، أو في كل واحد من الآية والحديث - تخصيص
لبعض ما في عموم النص الآخر منهما وذلك مثل قوله تعالى: * (وأن
تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف) * مع قوله تعالى: * (أو ما
ملكت أيمانكم) * وكقول رسول الله (ص): لا صلاة لمن لم يقرأ بأم
القرآن مع قوله (ص): وقد ذكر الامام: وإذا قرأ القرآن فأنصتوا
ومثل قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا) * مع قول رسول الله (ص): لا يحل لامرأة تؤمن بالله
واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم فإن خصومنا
يقولون: * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) * وقد خص
منه الاختين بملك اليمين قوله تعالى: * (أو ما ملكت أيمانكم) *
وقلنا نحن إن قوله تعالى: * (أو ما ملكت أيمانكم)
(8/1167)
خص منه الاختين بملك اليمين قوله تعالى: *
(وأن تجمعوا بين الأختين) *.
وقال خصومنا: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن خص منه المأموم
قوله عليه السلام: إذا قرأ القرآن فأنصتوا وقلنا نحن: قوله
(ص): وإذا قرأ القرآن فأنصتوا خص أم القرآن منه قوله: لا صلاة
لمن لم يقرأ بأم القرآن.
وقال خصومنا: قول الله تعالى: خص النساء منه قوله (ص): لا
تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم وقلنا نحن إن قوله (ص): لا
تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم خص سفر الحج قوله تعالى: *
(ولله على الناس حج البيت) *.
قال أبو محمد: فهذا وإن رجعنا استعمالنا للحديثين بدليل لازم
صحيح، فإن متعلق خصومنا هنا قوي، ووجه خطأ من أخطأ ههنا خفي
جدا، دقيق البتة، لا يؤمن في مثله الغلط على أهل العلم الواسع
والفهم البارع والانصاف الشائع
وليس كسائر ما قدمنا مما تقود إليه العصبية ولا يخفى وجه الخطأ
فيه على من أنصف أو تورع.
هذا ما لم يوجد فيه نص يشهد لاحد الاستعمالين، فإن وجد نص صحيح
بذلك عاد الامر إلى ما قد ذكرناه في الفصول المتقدمة، ولا بد
من وجوده لان الله تعالى قد ضمن لنا بيان الدين بقوله تعالى: *
(لتبين للناس ما نزل إليهم) * فلا يجوز البتة أن يبقى في الدين
شئ مشكل، بل هو كله مقطوع على أنه بين بيانا جليا، والحمد لله
رب العالمين.
الوجه الثاني: أن يرد حديثان صحيحان متعارضان، أو آيتان
متعارضتان أو آية معارضة لحديث صحيح تعرضا مقاوما، في أحد
النصين منع وفي الثاني إيجاب في ذلك الشئ بعينه، لا زيادة في
أحد النصين على الآخر، ولا بيان في أيهما الناسخ من المنسوخ،
كالنص الوارد أن رسول الله (ص) شرب قائما، والنص الوارد أنه
(ص) نهى عن الشرب قائما، فإن من ترك الخبرين معا ورجع إلى
الاصل الذي كان يجب لو لم يرد ذلك الخبران أو رجع أحد الخبرين
على المعارض له بكثرة رواته أو بأنه رواه من هو أعدل ممن روى
الآخر، وأحفظ وما أشبه هذا من وجوه الترجيحات التي قد أوردناها
في باب الكلام في الاخبار من ديوننا هذا وبيان وجوه الصواب
منها من الخطأ، فإن هذا أيضا
(8/1168)
مكان يخفى بيان الخطأ فيه جدا، وأما نحن
فنقول بالاخذ الزائد شرعا إلا أننا نقول وبالله تعالى التوفيق:
إن من مال إلى أحد هذه الوجوه في مكان ثم تركه في مثل ذلك
المكان وأخذ بالوجه الاخر مقلدا أو مستحسنا فما دام لم يوقف
على تناقضه وتفاسد حكمه فمعذور مأجور، حتى إذا وقف على ذلك
فتمادى فهو فاسق عاص لله عزوجل لاتباعه الهوى قال الله تعالى:
* (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) * وكل من قال في الدين
بقول لم يأت عليه ببرهان لكن بما وقع
في نفسه الميل فإنه بيقين متبع لهواه.
والوجه الثالث: أن يتعلق بحديث ضعيف لم يتبين له ضعفه، أو
بحديث مرسل أو ادعى تجريحا في راوي حديث صحيح، إما بتدليس أو
نحوه أو ادعى أن الناقل أخطأ فيه، فمن اعتقد صحة ما ذكر من ذلك
معذور مأجور، حتى إذا ترك في مكان آخر مثل ذلك الحديث، أو رد
مرسلا آخر لارساله فقط، وأخذ بحديث آخر فيه من التعليل كالذي
فيما قد رده في مكان آخر، ووقف على ذلك - فإن تمادى فهو فاسق،
وإن لم تقطع على أنه مخطئ عند الله عزوجل لكن لاقدامه على
الحكم في الدين بما قد شهد لسانه ببطلانه في موضع آخر، فهو
متبع هواه، فهو ضال بالنص، كمن حكم شهادة فاسقين يعلم فسقهما
فيما لا يدري هو صحة شهادتهما به أو رد شهادة عدلين يعلم
عدالتهما بغير حرج ثبت عنده بل ولا علم منه ببطلان ما شهدا به،
فهذا فاسق بإجماع الامة كلها، وإن كان في الممكن أن يكون قد
صادف الحق عند الله تعالى ولكن لما أقدم على خلاف ما أمر به
بغير يقين كان عاصيا لله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان.
فإن قال قائل: فكيف تقولون فيمن بلغه نص قرآن أو سنة صحيحة
بخبر ليس من باب الامر أنه قد جاء ذلك الخبر في نص آخر
باستثناء منه أو زيادة عليه ولم يبلغه النص الثاني ؟.
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن هذا بخلاف الامر، لان
الاوامر قد ترد ناسخا بعضها بعضا، فيلزمه ما بلغه حتى يبلغه ما
نسخه، وليس الخبر كذلك، بل يلزمنا تصديق ما بلغنا في ذلك، لان
الله تعالى لا يقول إلا الحق وكذلك
(8/1169)
رسوله (ص)، وعليه أن يعتقد مع ذلك أن ما
كان في ذلك الخبر من تخصيص لم يبلغه أو زيادة لم تبلغه في حق،
ولا نقطع بتكذيب ما ليس
ناسخا بعضها بعضا، فيلزمه ما بلغه حتى يبلغه ما نسخه، وليس
الخبر كذلك، بل يلزمنا تصديق ما بلغنا في ذلك، لان الله تعالى
لا يقول إلا الحق وكذلك
(8/1170)
رسوله (ص)، وعليه أن يعتقد مع ذلك أن ما
كان في ذلك الخبر من تخصيص لم يبلغه أو زيادة لم تبلغه في حق،
ولا نقطع بتكذيب ما ليس في ذلك الخبر أصلا.
وكذلك أمر رسول الله (ص) إذ قال: لا تصدقوا أهل الكتاب إذا
حدثوكم ولا تكذبوهم، تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل أو كلاما هذا
معناه.
فهذا حكم الاخبار الواردة في الوعظ وغيره.
وبالله تعالى التوفيق.
وما كان من الاخبار لا يحتمل خلاف نصه صدق كما هو، ولزم تكذيب
كل ظن خالف نص ذلك الخبر.
وبالله تعالى التوفيق.
وهو حسبنا ونعم الوكيل لا إله إلا هو عليه توكلت.
قال أبو محمد: علي بن أحمد رضي الله عنه.
قد انتهينا من الكلام في الاصول إلى ما أعاننا الله تعالى
عليه، ويسرنا له على حسب ما شرطنا، في أول كلامنا في ديواننا
هذا من التقصي والاستيعاب، نسأل الله عزوجل أن يجعله لوجهه،
ودعاء إليه ونصرا له.
وأن يدخلنا بما من به علينا من ذلك، في جملة من أثنى عليهم
بقوله تعالى: * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) * وبقوله
تعالى: * (ولينصرن الله من ينصره) *.
قال أبو محمد: فلنختم كلامنا بما ابتدأنا به فنقول: والحمد لله
رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليما ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم.
(8/1170)
|