الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَسَالِكِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فِي الْقِيَاسِ]
[المسلك الأول الْإِجْمَاعُ]
الْبَابُ الثَّانِي
فِي مَسَالِكِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فِي الْقِيَاسِ
الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: الْإِجْمَاعُ
وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ عِلَّةً لِحُكْمِ الْأَصْلِ، إِمَّا قَطْعًا أَوْ ظَنًّا، فَإِنَّهُ كَافٍ فِي الْمَقْصُودِ.
وَذَلِكَ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى كَوْنِ الصِّغَرِ عِلَّةً لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي قِيَاسِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ عَلَى وِلَايَةِ الْمَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا قَطْعًا فَكَيْفَ يُسَوَّغُ الْخِلَافُ مَعَهَا فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ؟
قُلْنَا بِأَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا ظَنِّيًّا فِي الْأَصْلِ أَوِ الْفَرْعِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ وُجُودُهَا فِيهِمَا مَعَ كَوْنِهَا مَقْطُوعًا بِعِلِّيَّتِهِمَا فَلَا.

(3/251)


[المسلك الثَّانِي النَّصُّ الصَّرِيحُ]
وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ دَلِيلٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ:
الْأَوَّلُ: مَا صَرَّحَ فِيهِ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا لِلْحُكْمِ الْفُلَانِيِّ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: الْعِلَّةُ كَذَا أَوِ السَّبَبُ كَذَا. (1) الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا وَرَدَ فِيهِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ كَاللَّامِ، وَكَيْ، وَمِنْ، وَإِنَّ، وَالْبَاءِ.
أَمَّا (اللَّامُ) فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أَيْ: زَوَالِ الشَّمْسِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي لِأَجَلِ الدَّافَّةِ» ) (2) أَيِ الْقَوَافِلِ السَّيَّارَةِ.
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ (اللَّامُ) لِتَصْرِيحِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِأَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ.
وَأَمَّا (كَيْ) فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} أَيْ: كَيْ لَا تَبْقَى الدُّولَةُ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا (مِنْ) فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} .
وَأَمَّا (إِنَّ) فَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَتْلَى أُحُدٍ: ( «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» ) (3) ، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ: " «لَا تُخَمِّرُوا
_________
(1) هَذَا التَّعْبِيرُ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ فَهُوَ مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ.
(2) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 136 ج 3.
(3) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ انْظُرْ نَصْبَ الرَّايَةِ.

(3/252)


رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» ". (1) وَأَمَّا (الْبَاءُ) فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
فَهَذِهِ هِيَ الصِّيَغُ الصَّرِيحَةُ فِي التَّعْلِيلِ وَعِنْدَ وُرُودِهَا يَجِبُ اعْتِقَادُ التَّعْلِيلِ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا التَّعْلِيلُ فَتَكُونُ مَجَازًا فِيمَا قُصِدَ بِهَا، وَذَلِكَ فِي (اللَّامِ) كَمَا لَوْ قِيلَ: (لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟) فَقَالَ: (لِأَنِّي قَصَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ) وَكَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: (أُصَلِّي لِلَّهِ) وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (
لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ
) (2) فَقَصْدُ الْفِعْلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِلْفِعْلِ وَغَرَضًا لَهُ، وَكَذَلِكَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِلصَّلَاةِ وَلَا الْمَوْتُ عِلَّةً لِلْوِلَادَةِ وَلَا الْخَرَابُ عِلَّةً لِلْبِنَاءِ، بَلْ عِلَّةُ الْفِعْلِ مَا يَكُونُ بَاعِثًا عَلَى الْفِعْلِ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَوَاعِثَ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُخْرِبُ بَيْتَهُ، فَلَيْسَتِ الْمُشَاقَّةُ عِلَّةً لِخَرَابِ الْبَيْتِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ لِفَظُّ الْخَرَابِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْخَرَابِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعَلَّلًا بِالْمُشَاقَّةِ.
_________
(1) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. وَقَدْ رُوِيَ بِعِدَّةِ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ وَنَصْبَ الرَّايَةِ.
(2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: إِنَّ مَلَكًا بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ. . . الْحَدِيثَ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، انْظُرْ كَشْفَ الْخَفَاءِ وَالْإِلْبَاسِ لِلْعَجْلُونِيِّ لِتَعْرِفَ طُرُقَهُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَطَاعِنِ.

(3/253)


[الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِالتَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ ويشتمل على أقسام]
[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ وَالتَّسْبِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ]
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِالتَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ.
وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ لَازِمًا مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَضْعًا لَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا بِوَضْعِهِ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ وَالتَّسْبِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوِ الرَّاوِي عَنِ الرَّسُولِ.
أَمَّا فِي كَلَامِ اللَّهِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} .
وَأَمَّا فِي كَلَامِ رَسُولِهِ فَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» " (1) ، وَقَوْلُهُ: "
مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي
". (2) وَأَمَّا فِي كَلَامِ الرَّاوِي فَكَمَا فِي قَوْلِهِ: ( «سَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَ» ) ، ( «وَزَنَا مَاعِزٌ فَرَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) .
وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ (بِالْفَاءِ) يَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ لِكَوْنِ (الْفَاءِ) فِي اللُّغَةِ ظَاهِرَةٌ فِي التَّعْقِيبِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: " جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو " فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَجِيءِ عَمْرٍو عَقِيبَ مَجِيءِ زِيدٍ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبِيَّةُ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْوَصْفِ سَبَبًا إِلَّا مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قَطْعًا بَلْ ظَاهِرًا
_________
(1) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْمُزَارِعَةِ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ " وَتَرْجَمَ لَهُ بِبَابِ " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا "، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ.
(2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: أَعْتَقَتْ فَخُيِّرَتْ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَإِدَامٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ؟ فَقِيلَ: لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ.

(3/254)


لِأَنَّ (الْفَاءَ) فِي اللُّغَةِ قَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى (الْوَاوِ) فِي إِرَادَةِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى (ثُمَّ) فِي إِرَادَةِ التَّأْخِيرِ مَعَ الْمُهْلَةِ، كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ غَيْرَ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي التَّعْقِيبِ بَعِيدَةٌ فِيمَا سِوَاهُ.
وَهَذِهِ الرُّتَبُ مُتَفَاوِتَةٌ، فَأَعْلَاهَا مَا وَرَدَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ مَا وَرَدَ فِي كَلَامِ رَسُولِهِ، ثُمَّ مَا وَرَدَ فِي كَلَامِ الرَّاوِي.
وَسَوَاءٌ كَانَ فَقِيهًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ فَقِيهًا كَانَ الظَّنُّ بِقَوْلِهِ أَظَهَرَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا وَإِنْ كَانَ فِي أَدْنَى الرُّتَبِ غَيْرَ أَنَّهُ مُغَلِّبٌ عَلَى الظَّنِّ ; لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: سَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَجَدَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَدَيِّنًا عَالِمًا بِكَوْنِ (الْفَاءِ) مَوْضُوعَةً لِلتَّعْقِيبِ، أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْهَمْ أَنَّ السَّهْوَ سَبَبٌ لِلسُّجُودِ، وَإِلَّا لَمَا رَتَّبَ السُّجُودَ عَلَى السَّهْوِ بِالْفَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّلْبِيسِ بِنَقْلِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبَبِيَّةُ، وَلَا يَكُونُ سَبَبًا بَلْ وَلَمَا كَانَ تَعْلِيقُهُ لِلسُّجُودِ بِالسَّهْوِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.

[القسم الثاني حَدَثَتْ وَاقِعَةٌ فَرُفِعَتْ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَكَمَ عَقِيبَهَا بِحُكْمٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ مَا حَدَثَ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ]
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَوْ حَدَثَتْ وَاقِعَةٌ فَرُفِعَتْ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَحَكَمَ عَقِيبَهَا بِحُكْمٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ مَا حَدَثَ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَاذَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اعْتِقْ رَقَبَةً» (1) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْوِقَاعِ عِلَّةً لِلْعِتْقِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ إِنَّمَا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَاقِعَتِهِ لِبَيَانَ حُكْمِهَا شَرْعًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ لَهُ،
_________
(1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَى أَفْقَرِ مِنَّا فَمَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ بِنَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ. وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ.

(3/255)


لَا أَنَّهُ ذَكَرَهُ ابْتِدَاءً مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْلَاءِ السُّؤَالِ عَنِ الْجَوَابِ وَتَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا إِلَّا أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِ فَالسُّؤَالُ الَّذِي عَنْهُ الْجَوَابُ يَكُونُ ذِكْرُهُ مُقَدَّرًا فِي الْجَوَابِ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاقَعْتَ فَكَفِّرْ.
وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْوَصْفَ إِذَا رُتِّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ تَحْقِيقًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ عِلَّةً فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ تَقْدِيرًا.
وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ مُلْحَقًا بِالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي الظُّهُورِ وَالدَّلَالَةِ لِكَوْنِ (الْفَاءِ) فِيهِ مُقَدَّرَةً، وَفِي الْأَوَّلِ مُحَقَّقَةً، وَالِاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَأَ بِهِ لَا عَنْ قَصْدِ الْجَوَابِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، فَقَالَ لَهُ: اسْقِنِي مَاءً فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْجَوَابُ لِسُؤَالِهِ وَلَا التَّعْلِيلُ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَهُ ابْتِدَاءً بِسَقْيِ الْمَاءِ وَعُدُولٌ عَنِ السُّؤَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، إِمَّا لِذُهُولِهِ عَنِ السُّؤَالِ أَوْ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَإِنْ كَانَ مُنْقَدِحًا هَاهُنَا فَهُوَ بَعِيدٌ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا فُرِضَ السُّؤَالُ عَنْهُ ; إِذِ الْغَالِبُ عَدَمُ الذُّهُولِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الْجَوَابَ حَتَّى لَا يَكُونَ مُؤَخَّرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ.

[الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا لَوْ لَمْ يُقَدَّرِ التَّعْلِيلُ بِهِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ]
ٌ، وَمُنْصَبُ الشَّارِعِ مِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا مَعَ الْحُكْمِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَلَامِ رَسُولِهِ.
فَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَّرْنَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدَّرِ التَّعْلِيلُ بِهِ فَذِكْرُهُ لَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِجْمَاعًا نَفْيًا لِمَا لَا يَلِيقُ بِكَلَامِهِ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ رَسُولِهِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا هُوَ انْتِفَاءُ الْعَبَثِ عَنِ الْعَاقِلِ فِي فِعْلِهِ وَكَلَامِهِ وَنِسْبَةُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَيْهِ ; لِكَوْنِهِ عَارِفًا بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، فَلَا يُقَدَّمُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ

(3/256)


مِنْ آحَادِ الْعُقَلَاءِ فَمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ وَتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ أَوْلَى.
وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِهِ مَعَ الْحُكْمِ عِلَّةً لَهُ.
وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى أَصْنَافٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ أَوْ بَعْدَ السُّؤَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَهُوَ (الصِّنْفُ الْأَوَّلُ) وَذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ الْجِنِّ، حَيْثُ تَوَضَّأَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمَاءٍ كَانَ قَدْ نَبَذَ فِيهِ تُمَيْرَاتٍ لِاجْتِنَابِ مُلُوحَتِهِ فَقَالَ: ( «ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» ) (1) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ ذِكْرُهُ ضَائِعًا ; لِكَوْنِ مَا ذَكَرَ ظَاهِرٌ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى بَيَانٍ.
وِإِنْ كَانَ مَعَ السُّؤَالِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الْوَصْفَ فِي مَحَلِّ السُّؤَالِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَحَلِّ السُّؤَالِ فَهُوَ (الصِّنْفُ الثَّانِي) وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ جَوَازِ بِيعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيُنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: فَلَا إِذًا» " (2) فَهَذَا وَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ النُّقْصَانَ عِلَّةُ امْتِنَاعِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِنْ تَرْتِيبِهِ الْحُكْمَ عَلَى الْوَصْفِ بِالْفَاءِ وَاقْتِرَانِهِ بِحَرْفِ (إِذَا) وَهِيَ مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيلِ غَيْرَ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا انْتِفَاءَ هَذَيْنِ لَبَقِيَ فَهْمُ التَّعْلِيلِ بِالنُّقْصَانِ بِحَالِهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّرِ التَّعْلِيلَ بِهِ لَكَانَ ذِكْرُهُ وَالِاسْتِفْسَارُ عَنْهُ غَيْرَ مُفِيدٍ.
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ السُّؤَالِ، وَهُوَ أَنْ يَعْدِلَ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ إِلَى ذِكْرِ نَظِيرٍ لِمَحَلِّ السُّؤَالِ، فَهُوَ (الصِّنْفُ الثَّالِثُ) ، وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ لَمَّا
_________
(1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنَّ: عِنْدَكَ طَهُورٌ، قَالَ: لَا، إِلَّا شَيْءٌ مِنْ نَبِيذٍ فِي إِدَاوَةٍ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ. زَادَ التِّرْمِذِيُّ: فَتَوَضَّأَ مِنْهُ. وَفِي سَنَدِهِ أَبُو زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَفِي سَنَدِهِ أَيْضًا أَبُو فَزَارَةَ وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَأُعِلَّ أَيْضًا بِالِاخْتِلَافِ فِي حُضُورِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ الْجِنِّ
(2) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 237 ج 2، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ.

(3/257)


سَأَلَتْهُ الْجَارِيَةُ الْخَثْعَمِيَّةُ وَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ فَإِنْ حَجَجْتُ عَنْهُ أَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» . (1) فَالْخَثْعَمِيَّةُ إِنَّمَا سَأَلَتْ عَنِ الْحَجِّ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَكَرَ دَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْحَجِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَيْنٌ نَظِيرٌ لِدَيْنِ الْآدَمِيِّ، فَذَكَرَهُ لِنَظِيرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مَعَ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ وَإِلَّا كَانَ ذِكْرُهُ عَبَثًا.
وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ نَظِيرِ الْوَاقِعَةِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ أَيْضًا عِلَّةً لِمِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ضَرُورَةَ الْمُمَاثَلَةِ.
وَمَا مِثْلُ هَذَا يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَى عِلَّةِ حُكْمِهِ وَعَلَى صِحَّةِ إِلْحَاقِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ الْمُومِي إِلَيْهَا.
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا مَثَّلَ بِهِ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْ «عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ هَلْ تُفْسِدُ الصَّوْمَ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ أَكَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؟ فَقَالَ: لَا» . وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ النَّقْضِ لِمَا تَوَهَّمَهُ عُمَرُ مِنْ كَوْنِ الْقُبْلَةِ مُفْسِدَةً لِلصَّوْمِ لِكَوْنِهَا مُقَدِّمَةً لِلْوِقَاعِ الْمُفْسِدِ لِلصَّوْمِ، فَنَقَضَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ بِالْمَضْمَضَةِ فَإِنَّهَا مُقَدِّمَةٌ لِلشُّرْبِ الْمُفْسِدِ لِلصَّوْمِ وَلَيْسَتْ مَفْسَدَةً لِلصَّوْمِ.
أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى عَدَمِ الْإِفْسَادِ بِكَوْنِ الْمَضْمَضَةِ مُقَدِّمَةً لِلْفَسَادِ فَلَا.
وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَ الْقُبْلَةِ وَالْمَضْمَضَةِ مُقَدِّمَةً لِإِفْسَادِ الصَّوْمِ لَيْسَ فِيهِ مَا يُتَخَيَّلُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْإِفْطَارِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْطِرًا، فَكَانَ الْأَشْبَهُ بِمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَكُونَ نَقْضًا لَا تَعْلِيلًا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ وَلَا نَاقِصًا عَنْهُ
_________
(1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحَجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. . . . إِلَخِ انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ.

(3/258)


أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلِعَدَمِ الْغَرَضِ بِهَا.
وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِمَقْصُودِ السَّائِلِ.
وَعُمَرُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ كَوْنِ الْقُبْلَةِ مُفْسِدَةً لِلصَّوْمِ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ الْمُطَابِقُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِفْسَادِ أَوْ عَدَمِهِ، وَكَوْنُ الْقُبْلَةِ عِلَّةً لِنَفْيِ الْفَسَادِ غَيْرَ مَسْئُولٍ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ جَوَابًا مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، بِخِلَافِ النَّقْضِ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهِ أَنَّ الْقُبْلَةَ غَيْرُ مُفْسِدَةٍ، فَكَانَ جَوَابًا مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ.

[الْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يُفَرِّقَ الشَّارِعُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فِي الْحُكْمِ بِذِكْرِ صِفَةٍ]
ٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ هِيَ عِلَّةُ التَّفْرِقَةِ فِي الْحُكْمِ، حَيْثُ خَصَّصَهَا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ عِلَّةً لَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا أَشْعَرَ بِهِ اللَّفْظُ، وَهُوَ تَلْبِيسٌ يُصَانُ بِنَصْبِ الشَّارِعِ عَنْهُ.
وَذَلِكَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا يَكُونُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مَذْكُورًا فِي ذَلِكَ الْخِطَابِ دُونَ ذِكْرِ الْآخَرِ، وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِيهِ (1) الْأَوَّلُ: كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» " فَإِنَّهُ خَصَّصَ الْقَاتِلُ بِعَدَمِ الْمِيرَاثِ بَعْدَ سَابِقَةِ إِرْثِ مَنْ يَرِثُ.
وَالثَّانِي: فَمِنْهُ مَا تَكُونُ التَّفْرِقَةُ فِيهِ بِلَفْظِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: " «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ» " إِلَى قَوْلِهِ: " فَإِذَا «اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» "
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْغَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} .
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} .
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِلَفْظِ الِاسْتِدْرَاكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} .
وَمِنْهُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ بِذِكْرِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ» ".
_________
(1) وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِيهِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: وَإِلَى مَا يَكُونُ كُلُّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَذْكُورًا فِيهِ.

(3/259)


[الْقِسْمُ الْخَامِسُ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ أَنْشَأَ الْكَلَامَ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ وَتَحْقِيقِ مَطْلُوبٍ ثُمَّ يَذْكُرُ فِي أَثْنَائِهِ شَيْئًا آخَرَ]
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ أَنْشَأَ الْكَلَامَ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ وَتَحْقِيقِ مَطْلُوبٍ ثُمَّ يَذْكُرُ فِي أَثْنَائِهِ شَيْئًا آخَرَ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ كَوْنُهُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْكَلَامِ لَا بِأَوَّلِهِ وَلَا بِآخِرِهِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ خَبْطًا فِي اللُّغَةِ وَاضْطِرَابًا فِي الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مِمَّا تَبْعُدُ نِسْبَتُهُ إِلَى الشَّارِعِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} .
فَالْآيَةُ إِنَّمَا سِيقَتْ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْجُمُعَةِ لَا لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، فَلَوْ لَمْ يُعْتَقَدْ كَوْنُ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ عِلَّةً لِلْمَنْعِ عَنِ السَّعْيِ الْوَاجِبِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَمَا كَانَ مُرْتَبِطًا بِأَحْكَامِ الْجُمُعَةِ، وَمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ وَلَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ أَمْرٍ إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ إِذِ النَّهْيُ طَلَبُ تَرْكِ الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} طَلَبٌ لِتَرْكِ الْبَيْعِ فَكَانَ نَهْيًا.

[الْقِسْمُ السَّادِسُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا مُنَاسِبًا]
كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» " فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْغَضَبِ عِلَّةً مَانِعَةً مِنَ الْقَضَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ وَاضْطِرَابِ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: أَكْرِمِ الْعَالِمَ وَأَهِنِ الْجَاهِلَ، فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ أَنَّ الْعِلْمَ عِلَّةٌ لِلْإِكْرَامِ وَالْجَهْلَ عِلَّةٌ لِلْإِهَانَةِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مَا أُلِفَ مِنْ عَادَةِ الشَّارِعِ مِنَ اعْتِبَارِ الْمُنَاسَبَاتِ دُونَ إِلْغَائِهَا، فَإِذَا قَرَنَ بِالْحُكْمِ فِي لَفْظِهِ وَصْفًا مُنَاسِبًا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اعْتِبَارُهُ لَهُ.
الثَّانِي: مَا عَلِمْنَا مِنْ حَالِ الشَّارِعِ أَنَّهُ لَا يَرِدُ بِالْحُكْمِ خَلِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ ; إِذِ الْأَحْكَامُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعَبِيدِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ إِلَى جَرْيِ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ (1) فَإِذَا ذَكَرَ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا مُنَاسِبًا غَلَبَ
_________
(1) رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُوجِبْهَا أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ، وَيُقَالُ أَيْضًا: إِنْ رِعَايَةَ الْمَصْلَحَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَمُوجِبُ الرَّحْمَةِ، فَكَانَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ فِي فِعْلِهِ وَشَرْعِهِ.

(3/260)


عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ عِلَّةٌ لَهُ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُ فَيَجُوزُ تَرْكُهُ.
وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ( «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» ) فَإِنَّهُ وَإِنْ دَلَّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْغَضَبِ عِلَّةٌ فَجَوَازُ الْقَضَاءِ مَعَ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْغَضَبِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، بَلِ الْغَضَبُ الْمَانِعُ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ.
وَإِذَا عَرِفْتَ أَقْسَامَ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إِلَيْهِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي اشْتِرَاطِ مُنَاسِبَةِ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إِلَيْهِ، فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ كَالْغَزَالِيِّ وَأَتْبَاعِهِ.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الشَّارِعِ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ (1) ، وَلَوْ قَالَ الْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ لِغَيْرِهِ: (أَكْرِمِ الْجَاهِلَ وَأَهِنِ الْعَالِمَ) قَضَى كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِإِكْرَامِ الْجَاهِلِ لِجَهْلِهِ، وَلَا أَنَّ أَمْرَهُ بِإِهَانَةِ الْعَالَمِ لِعِلْمِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ لَا تَتَعَدَّى مَسَالِكَ الْحِكْمَةِ وَقَضَايَا الْعَقْلِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَاقِعٌ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْحُكْمِ إِمَّا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ عَلَى رَأْيِ الْمُعْتَزَلَةِ، وَإِمَّا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ عَلَى رَأْيِ أَصْحَابِنَا (2) وَسَوَاءٌ ظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ أَمْ لَمْ تَظْهَرْ.
وَمَا يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ وَلَا وَهْمَ الْمُنَاسَبَةِ يُعْلَمُ امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ بِهِ.
وَالْمُخْتَارُ أَنْ تَقُولَ: أَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْقِسْمِ السَّادِسِ الَّذِي فُهِمَ التَّعْلِيلُ فِيهِ مُسْتَنِدًا إِلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ التَّعْلِيلِ فِيهِ دُونَ فَهْمِ الْمُنَاسَبَةِ ; لِأَنَّ عَدَمَ الْمُنَاسَبَةِ فِيمَا الْمُنَاسَبَةُ شَرْطٌ فِيهِ يَكُونُ تَنَاقُضًا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنْ
_________
(1) لَوْ قَالَ: تَصَرُّفَاتُ الْعُقَلَاءِ لَا تَتَعَدَّى مَسَالِكَ الْحِكْمَةِ وَقَضَايَا الْعَقْلِ فَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ، لَكَانَ أَنْسَبَ فِي حَقِّ اللَّهِ وَمُغْنِيًا عَنْ قَوْلِهِ: الْغَالِبُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الشَّارِعِ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ فَإِنَّ فِيهَا مَا فِيهَا.
(2) أَصْحَابِنَا يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ تَعْلِيقًا ص 260 ج3 إِلَخْ.

(3/261)


الْأَقْسَامِ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ فِيهَا بِمَا لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَأَمَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ فَلَا.
وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَلَا اتِّجَاهَ لَهَا فِي التَّعْلِيلِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا امْتِنَاعَ فِي جَعْلِ الْجَهْلِ عَلَامَةً عَلَى الْإِكْرَامِ وَالْعِلْمِ عَلَامَةً عَلَى الْإِهَانَةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْبَاعِثُ بَلِ الْبَاعِثُ غَيْرُهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ الْإِيمَاءِ فِيمَا إِذَا كَانَ حُكْمُ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إِلَيْهِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ كَالْأَمْثِلَةِ السَّابِقِ ذَكْرِهَا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ بِصَرِيحِهِ وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فَإِنَّ اللَّفْظَ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ وَالصِّحَّةُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ.
وَوَجَّهَ اسْتِنْبَاطِ الصِّحَّةِ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْبَيْعِ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ مُثْمِرًا ; إِذْ هُوَ مَعْنَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُثْمِرًا مُفِيدًا كَانَ تَعَاطِيهِ عَبَثًا، وَالْعَبَثُ مَكْرُوهٌ وَالْمَكْرُوهُ لَا يَحِلُّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ مِنَ الْحِلِّ الصِّحَّةِ لِتَعَذُّرِ الْحِلِّ مَعَ انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ.
وَهَذَا (1) مِمَّا اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ مُومَأً إِلَيْهِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى امْتِنَاعِ الْإِيمَاءِ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ بِأَنَّ الْإِيمَاءَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا دَلَّ اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ كَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ.
وَأَمَّا إِذَا دَلَّ عَلَى الْوَصْفِ بِالْوَضْعِ وَكَانَ الْحُكْمُ مُسْتَنْبَطًا مِنْهُ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَوْمَأً إِلَيْهِ، كَمَا إِذَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْحُكْمِ بِوَضْعِهِ وَكَانَ الْوَصْفُ مُسْتَنْبَطًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَاءِ إِلَى الْوَصْفِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا» " (2) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ وَضْعًا، وَالشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ عِلَّةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ وَلَيْسَتْ مَوْمَأً إِلَيْهَا.
_________
(1) وَهَذَا - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: فَهَذَا ; لِأَنَّهُ جَوَابُ قَوْلِهِ: وَأَمَّا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ.
(2) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 191 ج3 أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِهِ لِمَا حُكْمُهُ مَنْصُوصٌ وَعِلَّتَهُ مُسْتَنْبَطٌ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَعِلَّتِهِ الْمُوجِبَةِ لَهُ مَنْصُوصٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " إِلَى قَوْلِهِ: " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ "، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(3/262)


وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى كَوْنِهِ مَوْمَأً إِلَيْهِ وَهُوَ الْحَقُّ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ وَهُوَ الْحِلُّ، وَالصِّحَّةُ لَازِمَةٌ لَهُ لِمَا تَقَرَّرَ، فَإِثْبَاتُ الْحِلِّ وَضْعًا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ ثُبُوتِ الصِّحَّةِ ضَرُورَةَ كَوْنِهَا لَازِمَةً لِلْحِلِّ فَيَكُونُ ثَابِتًا بِإِثْبَاتِ الشَّارِعِ لَهُ مَعَ وَصْفِ الْحِلِّ، وَإِثْبَاتُ الشَّارِعِ لِلْحُكْمِ مُقْتَرِنًا بِذِكْرِ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ دَلِيلُ الْإِيمَاءِ إِلَى الْوَصْفِ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ مَعَهُ الْحُكْمَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعًا ضَرُورَةَ تَسَاوِيهِمَا فِي الثُّبُوتِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي طَرِيقِ الثُّبُوتِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ثَابِتًا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَضْعًا، وَالْآخِرِ مُسْتَنْبَطًا مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَضْعًا ; لِأَنَّ الْإِيمَاءَ إِنَّمَا كَانَ مُسْتَفَادًا عِنْدَ ذِكْرِ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ مِنْ جِهَةِ اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْوَضْعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَدْلُولًا عَلَيْهِ وَضْعًا وَالْوَصْفُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنَ الْحُكْمِ الْمُصَرَّحِ بِهِ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ لَازِمًا مِنَ الْحُكْمِ الْمُصَرَّحِ بِهِ، وَلَا مُنَاسَبَتُهُ لِتَحَقُّقِهِ قَبْلَ شَرْعِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الصِّحَّةِ مَعَ الْحِلِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِيمَاءِ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُومَأُ إِلَيْهِ مَذْكُورًا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مَعَ الْحُكْمِ أَوْ لَازِمًا مِنْ مَدْلُولِ كَلَامِهِ (1) ، وَالْأَمْرَانِ مَفْقُودَانِ فِي الْوَصْفِ الْمُسْتَنْبَطِ بِخِلَافِ الْحِلِّ مَعَ الصِّحَّةِ. (2)
_________
(1) أَوْ لَازِمًا مِنْ مَدْلُولِ كَلَامِهِ - فِيهِ سَقْطٌ وَالْأَصْلُ: أَوِ الْحُكْمُ لَازِمًا مِنْ مَدْلُولِ كَلَامِهِ.
(2) الْحَاصِلُ أَنَّ الْأَقْسَامَ الْعَقْلِيَّةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةٌ:
الْأَوَّلُ: ذِكْرُ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ فِي النَّصِّ كَمَا فِي حَدِيثِ: " لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ " وَهَذَا مُتَّفَقٌ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ مُومَأٌ إِلَيْهِ.
الثَّانِي: ذِكْرُ الْوَصْفِ وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ لَازِمٌ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فَحِلُّ الْبَيْعِ هُنَا وَصَفٌّ مُسْتَلْزِمٌ لِلصِّحَّةِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلْحِلِّ فَائِدَةً وَلَا ارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الصِّحَّةِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُخْتَلِفٌ فِي كَوْنِ الْوَصْفِ مُومَأً إِلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ الْحُكْمِ فِي النَّصِّ وَالْوَصْفُ لَازِمٌ لَهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ كَحِلِّ الْبَيْعِ لِلْحَاجَةِ إِلَى تَبَادُلِ الْمَنَافِعِ، فَالْحِلُّ مَنْصُوصٌ وَالْحَاجَةُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَوْمَأً إِلَيْهِ.
الرَّابِعُ: وَهُوَ أَلَّا يُذْكَرَ الْحُكْمُ وَلَا الْوَصْفُ فَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ.

(3/263)


[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ] (1) وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ أَوْ لَا لِعِلَّةَ.
لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي ; إِذْ هُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْلُو عَنْ عِلَّةٍ إِمَّا بِجِهَةِ الْوُجُوبِ كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ لَا بِجِهَةِ الْوُجُوبِ كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا (2) ، وَبِتَقْدِيرِ جَوَازِ خُلُوِّهِ عَنِ الْعِلَّةِ، فَالْخُلُوُّ عَنْهَا عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ الْمَأْلُوفِ مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى اسْتِلْزَامِ الْحُكْمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِلْعِلَّةِ.
وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ فَإِمَّا بِأَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً أَوْ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ.
لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ، وَإِلَّا كَانَ الْحُكْمُ تَعَبُّدًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ بِجِهَةِ التَّعَقُّلِ أَغْلَبُ مِنْ إِثْبَاتِهِ بِجِهَةِ التَّعَبُّدِ، وَإِدْرَاجُ مَا نَحْنُ فِيهِ تَحْتَ الْغَالِبِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَانَ عَلَى وَفْقِ الْمَأْلُوفِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ، وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وِزَانِ التَّصَرُّفَاتِ الْعُرْفِيَّةِ.
_________
(1) التَّقْسِيمُ لُغَةً التَّجْزِئَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا تَرْدِيدُ الْمُسْتَدِلِّ بَيْنَ مَا جَمَعَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا عِلَّةَ الْحُكْمِ، وَالسَّبْرُ لُغَةً الِاخْتِبَارُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا اخْتِبَارُ كُلِّ وَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي انْحَصَرَ التَّعْلِيلُ فِيهَا بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الْآتِيَةِ لِيَتَمَيَّزَ مَا يَصْلُحُ مِنْهَا لِلتَّعْلِيلِ فَيُضَافُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ وَيُلْغَى مِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ.
(2) تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ تَعْلِيقًا.

(3/264)


الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَأَسْرَعَ فِي الْقَبُولِ، فَكَانَ أَفْضَى إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ فَكَانَ أَوْلَى.
وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ عِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ، فَإِذَا قَالَ الْمَنَاظِرُ: الْمَوْجُودُ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ وَصْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مَثَلًا ; لِأَنِّي بَحَثْتُ وَسَبَرْتُ فَلَمْ أَطَّلِعْ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَكَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ بِأَنْ كَانَتْ مَدَارِكُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ لَدَيْهِ مُتَحَقِّقَةً مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَكَانَ عَدْلًا ثِقَةً فِيمَا يَقُولُ وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقُ، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءَ مَا سِوَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْأَوْصَافِ، أَوْ قَالَ (1) : الْأَصْلُ عَدَمُ كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى مَا وُجِدَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الْحَصْرَ فِيمَا عَيَّنَهُ.
وَإِذَا ثَبَتَ حَصْرُ الْأَوْصَافِ فِيمَا عَيَّنَهُ فَإِذَا بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ حَذْفَ الْبَعْضِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ فِي التَّعْلِيلِ بِدَلِيلٍ صَالِحٍ مُسَاعِدٍ لَهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ (2) انْحِصَارُ التَّعْلِيلِ فِيمَا اسْتَبْقَاهُ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ خُلُوِّ مَحَلِّ الْحُكْمِ عَنْ عِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَامْتِنَاعُ وُجُودِ مَا وَرَاءَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ وَامْتِنَاعُ إِدْرَاجِ الْمَحْذُوفِ فِي التَّعْلِيلِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ لَمْ يَبْحَثْ وَلَمْ يَسْبُرْ، وَإِنْ بَحَثَ وَسَبَرَ، فَلَعَلَّهُ وَجَدَ وَصْفًا وَرَاءَ مَا ادَّعَى الْحَصْرَ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ تَرْوِيجًا لِكَلَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا وَرَاءَ الْمَذْكُورِ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِهِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْوَصْفِ جَهْلٌ بِهِ، وَالْجَهْلُ بِوُجُودِ الْوَصْفِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاحِثِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَصْمِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَالِمًا بِوُجُودِ وَصْفٍ آخَرَ وَرَاءَ الْمَذْكُورِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَنْتَهِضُ بَحْثُ الْمُسْتَدِلِّ دَلِيلًا فِي نَظَرِ خَصْمِهِ عَلَى الْعَدَمِ لِعِلْمِهِ بِمُنَاقَضَتِهِ، ثُمَّ وَإِنْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَصْرِ الْأَوْصَافِ فِيمَا ذَكَرَهُ فَحَذَفَ بَعْضَ الْأَوْصَافِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ فِي التَّعْلِيلِ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْهُ انْحِصَارُ التَّعْلِيلَ فِي الْمُسْتَبْقِي أَنْ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ فِي
_________
(1) أَوْ قَالَ - عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَالَ النَّاظِرُ.
(2) الْأَمْرَانِ هُمَا: حَصْرُ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَإِلْغَاءُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْهَا لِلتَّعْلِيلِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِلْغَاءِ الْآتِيَةِ لِيَتَمَحَّضَ مَا بَقِيَ مِنْهَا لِلتَّعْلِيلِ.

(3/265)


التَّعْلِيلِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا ; لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْمَحْذُوفُ وَالْمُسْتَبْقِي فِي انْتِفَاءِ الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَغَايَةُ مَا فِي حَذْفِ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ إِبْطَالُ مُعَارِضِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صِحَّةُ كَوْنَ الْمُسْتَبْقِي عِلَّةً ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ إِنَّمَا إِلَى وُجُودِ مُصَحِّحِهَا لَا بِالنَّظَرِ إِلَى انْتِفَاءِ مَعَارِضِهَا. (1) قُلْنَا: إِذَا كَانَ الْبَاحِثُ مُسْلِمًا عَدْلًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْبَحْثِ وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى وَصْفٍ آخَرَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ بِنَفْيِ الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، بَلْ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ بِعَدَمِهِ، فَإِنَّ الظَّنَّ بِعَدَمِ الشَّيْءِ مُلَازِمٌ لِلْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَصْمُ يَعْلَمُ وُجُودَ وَصْفٍ آخَرَ لَأَبْرَزَهُ وَأَظْهَرَهُ ; إِفْحَامًا لِخَصْمِهِ وَإِظْهَارًا لِعِلْمٍ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ، فَدَعْوَى الْعِلْمِ مِنْهُ بِوُجُودِ وَصْفٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مَعَ إِمْكَانِ الْبَيَانِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا لِظُهُورِ الْعِنَادِ فِيهِ، وَلَوْ بَيَّنَ الْخَصْمُ وُجُودَ وَصْفٍ آخَرَ، فَإِنَّا وَإِنْ تَبَيَّنَّا انْخِرَامَ حَصْرِ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أَدْرَجَهُ فِي الْإِبْطَالِ مَعَ مَا أَبْطَلَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا فِيمَا يَقْصِدُهُ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي، وَإِذَا ثَبَتَ انْحِصَارُ الْأَوْصَافِ فِي الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ الْبَعْضَ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ تَعَيَّنَ انْحِصَارُ التَّعْلِيلِ فِي الْمُسْتَبْقِي، فَإِنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ تَعَبُّدًا غَيْرَ أَنَّهُ بَعِيدٌ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِكَوْنِ الْمُسْتَبْقِي عِلَّةً بِنَاءً عَلَى إِبْطَالِ الْمُعَارِضِ، بَلْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ ظَاهِرًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ انْحِصَارُهَا فِي الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إِبْطَالِ الْبَعْضِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ التَّعْلِيلُ بِالْمُسْتَبْقِي، وَيَكُونُ ذَلِكَ الظَّنُّ مُسْتَفَادًا مِنْ جُمْلَةِ الْقَوَاعِدِ الْمُمَهِّدَةِ لَا مِنْ نَفْسِ إِبْطَالِ الْمُعَارِضِ.
هَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ الْمَنَاظِرِ. (2)
_________
(1) هَذِهِ سِتَّةُ اعْتِرَاضَاتٍ وَارِدَةٍ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ النَّاظِرُ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنِّي بَحَثْتُ إِلَخْ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا الْمُسْتَدِلُّ بِسِتَّةِ أَجْوِبَةٍ مُرَتِّبَةٍ تَرْتِيبَهَا.
(2) النَّاظِرُ مَنْ بَحَثَ لِنَفْسِهِ فَمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَالْمُنَاظَرُ بِهِ بَحْثٌ مَعَ خَصْمٍ يُنَاقِشُهُ فِي دَلِيلِهِ فَإِنْ أَقْنَعَ الْمُسْتَدِلُّ خَصْمَهُ أَوْ أَلْزَمَهُ الْحُجَّةَ كَانَ إِفْحَامًا، وَإِنْ عَجَزَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ إِتْمَامِ دَلِيلِهِ أَوِ انْتَقَلَ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ كَانَ مُنْقَطِعًا.

(3/266)


وَأَمَّا النَّاظِرُ الْمُجْتَهِدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِمَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ طُرُقِ الْحَذْفِ:
الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اسْتَبْقَاهُ قَدْ ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ فِي صُورَةٍ بِدُونِ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ مُلَقَّبٌ بِالْإِلْغَاءِ وَهُوَ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِنَفْيِ الْعَكْسِ الَّذِي لَيْسَ بِمَقْبُولٍ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ دُونَهُ كَمَا ثَبَتَ دُونَ الْمَحْذُوفِ (1) كَانَ ذَلِكَ إِلْغَاءً لِلْمُسْتَبْقِي أَيْضًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ (2) فَيَتَبَيَّنُ اسْتِقْلَالُ الْمُسْتَبْقِي بِالتَّعْلِيلِ، وَمَعَ ظُهُورِ ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ إِدْخَالُ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ فِي التَّعْلِيلِ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِلْغَاءُ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْفَرْعِ مَعَ اسْتِقْلَالِهِ ضَرُورَةَ تَخَلُّفِ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مُسْتَقِلًّا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا إِضَافَةُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ إِلَى الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ لَا غَيْرَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِمَا لَمْ يَثْبُتِ اسْتِقْلَالُهُ وَإِلْغَاءِ مَا ثَبَتَ اسْتِقْلَالُهُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: دَعْوَى اسْتِقْلَالِ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ بِالتَّعْلِيلِ مِنْ مُجَرَّدِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهِ وَانْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ، غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ كَافِيًا فِي التَّعْلِيلِ بِدُونِ ضَمِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَى الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ حَاجَةٌ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الطُّرُقِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الِاسْتِقْلَالِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِبَعْضِ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِنْ شَرَعَ الْمُسْتَدِلُّ فِي بَيَانِ الِاسْتِقْلَالِ بِبَعْضِ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ، فَإِنْ بَيَّنَ الِاسْتِقْلَالَ فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ
_________
(1) كَمَا ثَبَتَ الْمَحْذُوفُ - فِيهِ سَقْطٌ، وَالْأَصْلُ كَمَا ثَبَتَ دُونَ الْمَحْذُوفِ.
(2) وَعِنْدَ ذَلِكَ - يَعْنِي عِنْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ دُونَ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ، وَثُبُوتِهِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي فِي كُلِّ صُورَةٍ فَيَتَبَيَّنُ. . . إِلَخْ.

(3/267)


بِالْبَحْثِ وَالسَّبْرِ، كَمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، فَقَدِ اسْتَقَلَّتْ صُورَةُ الْإِلْغَاءِ بِالِاعْتِبَارِ، وَأَمْكَنْ أَنْ تَكُونَ أَصْلًا لِعِلَّتِهِ، وَتَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى أَصْلٍ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الِاعْتِبَارِ إِلَّا بِذِكْرِ صُورَةٍ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٍ بِالِاعْتِبَارِ يَكُونُ تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ.
وَإِنْ بَيَّنَ الِاسْتِقْلَالَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَيَلْزَمَهُ مَعَ هَذَا الْمَحْذُورِ مَحْذُورٌ آخَرُ وَهُوَ الِانْتِقَالُ فِي إِثْبَاتِ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً مِنْ طَرِيقٍ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ شَنِيعٌ فِي مَقَامِ النَّظَرِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا يَحْذِفُهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَلِفْنَا مِنَ الشَّارِعِ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِهِ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَا يَحْذِفُهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَلِفْنَا مِنَ الشَّارِعِ إِلْغَاءَهُ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ، فَيَجِبُ إِلْغَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ» ) (1) فَإِنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَقْرِيرُ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ صِفَةِ الذُّكُورَةِ وَسَرَايَةِ الْعِتْقِ غَيْرَ أَنَّا لَمَّا عَهِدْنَا مِنَ الشَّارِعِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ أَلْغَيْنَا صِفَةَ الذُّكُورَةِ فِي السَّرَايَةِ بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ.
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: إِذَا قَالَ: بَحَثْتُ فِي الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مُنَاسِبَةً، وَلَا مَا يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ، وَكَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ وَالْبَحْثِ عَدْلًا، فَالظَّاهِرُ صِدْقُهُ وَأَنَّ الْوَصْفَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُهُ ضَرُورَةَ كَوْنِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ، وَامْتِنَاعُ اعْتِبَارِ مَا لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا.
_________
(1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ اسْتُعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدَ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ.

(3/268)


فَإِنْ قِيلَ: الْبَحْثُ وَالسَّبْرُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ فَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: بَحَثْتُ فِي الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مُنَاسِبَةً.
وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَيَّنَ الْمُسْتَدِلُّ الْمُنَاسَبَةَ فِيهِ فَقَدِ انْتَقَلَ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ مِنْ طَرِيقِ السَّبْرِ إِلَى الْمُنَاسَبَةِ. وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ بِالْحَذْفِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ.
قُلْنَا: إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ مِنَ الْمُعْتَرِضِ تَسْلِيمُ مُنَاسَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ، فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ بَعْدَ بَيَانِ الْمُسْتَدِلِّ نَفْيِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ، مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْمُسْتَبْقِي، لِكَوْنِهِ مَانِعًا لِمَا سَلَّمَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ مِنَ الْمُعْتَرِضِ تَسْلِيمُ ذَلِكَ، فَلِلْمُسْتَدِلِّ طَرِيقٌ صَالِحٌ فِي دَفْعِ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي، وَهُوَ تَرْجِيحُ سَبْرِهِ عَلَى سَبْرِ الْمُعْتَرِضِ بِمُوَافَقَتِهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَمُوَافَقَةُ سَبْرِ الْمُعْتَرِضِ لِلْقُصُورِ، وَالتَّعْدِيَةِ أَوْلَى مِنَ الْقُصُورِ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي التَّرْجِيحَاتِ.

(3/269)


[الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِحَالَةِ]
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُنَاسِبِ] (1) وَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانِيَةِ فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُنَاسِبِ
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: (2) (الْمُنَاسِبُ عِبَارَةٌ عَمَّا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ) .
وَمَا ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ حَيْثُ يُقَالُ: هَذَا الشَّيْءُ مُنَاسِبٌ لِهَذَا الشَّيْءِ، أَيْ: مُلَائِمٌ، غَيْرَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُنَاسِبِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَتَحَقَّقَهُ النَّاظِرُ مَعَ نَفْسِهِ، فَلَا طَرِيقَ لِلْمَنَاظِرِ إِلَى إِثْبَاتِهِ عَلَى خَصْمِهِ فِي مَقَامِ النَّظَرِ ; لِإِمْكَانِ أَنْ يَقُولَ الْخَصْمُ: هَذَا مِمَّا لَمْ يَتَلَقَّهُ عَقْلِي بِالْقَبُولِ، فَلَا يَكُونُ مُنَاسِبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ وَإِنْ تَلَقَّاهُ عَقْلُ غَيْرِي بِالْقَبُولِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الِاحْتِجَاجُ عَلَيَّ بِتَلَقِّي عَقْلِ غَيْرِي لَهُ بِالْقَبُولِ أَوْلَى مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى غَيْرِي بِعَدَمِ تَلَقِّي عَقْلِي لَهُ بِالْقَبُولِ.
وَعَلَى هَذَا بَنَى أَبُو زَيْدٍ امْتِنَاعَ التَّمَسُّكِ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ فِي مَقَامِ النَّظَرِ بِالْمُنَاسَبَةِ وَقِرَانِ الْحُكْمِ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعِ التَّمَسُّكُ بِذَلِكَ فِي حَقِّ النَّاظِرِ ; لِأَنَّهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا يَقْضِي بِهِ عَقْلُهُ.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْمُنَاسِبُ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ حُصُولُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ شَرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعَ مَفْسَدَةٍ، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ مِنَ التَّعَلُّقِ وَالِارْتِبَاطِ، وَكُلُّ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِغَيْرِهِ وَارْتِبَاطٌ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لُغَةً أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ، وَلَا يَخْفَى إِمْكَانُ إِثْبَاتِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي مَقَامِ النَّظَرِ عَلَى الْخَصْمِ بِمَا لَوْ أَعْرَضَ عَنْهُ الْخَصْمُ وَأَصَرَّ مَعَهُ عَلَى الْمَنْعِ كَانَ مُعَانِدًا.
_________
(1) وَالْإِحَالَةِ - الصَّوَابُ وَالْإِخَالَةِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ.
(2) أَبُو زَيْدٍ، هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الدَّبُوسِيُّ الْقَاضِي مَاتَ عَامَ 430 هـ.

(3/270)


[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَقْصُودِ الْمَطْلُوبِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ]
الْفَصْلُ الثَّانِي
فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَقْصُودِ الْمَطْلُوبِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ.
الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ إِمَّا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعُ مَضَرَّةٍ أَوْ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ ; لِتَعَالِي الرَّبِّ تَعَالَى عَنِ الضَّرَرِ وَالِانْتِفَاعِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودًا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لَهُ وَمُوَافِقٌ لِنَفْسِهِ.
وَلِذَلِكَ إِذَا خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ وُجُودِ ذَلِكَ وَعَدِمَهُ اخْتَارَ وُجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ.
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَضَرَّةِ، فَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَشَرْعُ الْحُكْمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إِلَى تَحْصِيلِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ ابْتِدَاءً أَوْ دَوَامًا أَوْ تَكْمِيلًا.
فَالْأَوَّلُ: مِثْلُ الْقَضَاءِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ تَحْصِيلًا لِأَصْلِ الْمَقْصُودِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ مِنَ الْمِلْكِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَالْقَضَاءِ بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى مَنْ قَتَلَ عَمْدًا عُدْوَانًا لِإِفْضَائِهِ إِلَى دَوَامِ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمَعْصُومَةِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَكَالْحُكْمِ بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مُكَمِّلٌ لِمَصْلَحَةِ النِّكَاحِ لَا أَنَّهُ مُحَصِّلٌ لِأَصِلِهَا لِحُصُولِهَا بِنَفْسِ اعْتِبَارِ التَّصَرُّفِ وَصِحَّتِهِ.
وَأَمَّا فِي الْأُخْرَى فَالْمَقْصُودُ الْعَائِدُ إِلَيْهَا مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ جَلْبِ الثَّوَابِ وَدَفْعِ الْعِقَابِ.
فَالْأَوَّلُ: كَالْحُكْمِ بِإِيجَابِ الطَّاعَاتِ وَأَفْعَالِ الْعِبَادَاتِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى نَيْلِ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ.
وَالثَّانِي: فَكَالْحُكْمِ بِتَحْرِيمِ أَفْعَالِ الْمَعَاصِي وَشَرْعِ الزَّوَاجِرِ عَلَيْهَا دَفْعًا لِمَحْذُورِ الْعِقَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا.

(3/271)


[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَرَاتِبِ إِفْضَاءِ الْحُكْمِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ وَاخْتِلَافِهَا]
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
فِي بَيَانِ مَرَاتِبِ إِفْضَاءِ الْحُكْمِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ وَاخْتِلَافِهَا
الْمَقْصُودُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا، أَوْ أَنَّ الْحُصُولَ وَعَدَمَهُ مُتَسَاوِيَانِ، أَوْ أَنَّ عَدَمَ الْحُصُولِ رَاجِحٌ عَلَى الْحُصُولِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَمِثَالُهُ إِفْضَاءُ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ إِلَى إِثْبَاتِ الْمِلْكِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَشَرْعِ الْقِصَاصِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ صِيَانَةً لِلنَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ عَنِ الْفَوَاتِ، فَإِنَّهُ مَظْنُونُ الْحُصُولِ رَاجِحُ الْوُقُوعِ ; إِذِ الْغَالِبُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ أَنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَتْلِ، فَتَبْقَى نَفْسُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى نَظَائِرِهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَقْطُوعًا بِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، مَعَ شَرْعِ الْقِصَاصِ كَثِيرًا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَقَلَّمَا يَتَّفِقُ لَهُ فِي الشَّرْعِ مِثَالٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، بَلْ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيبِ، وَذَلِكَ كَشَرْعِ الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِحِفْظِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ إِفْضَاءَهُ إِلَى ذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ حَيْثُ إِنَّا نَجِدُ كَثْرَةَ الْمُمْتَنِعِينَ عَنْهُ مُقَاوُمَةً لِكَثْرَةِ الْمُقْدِمِينَ عَلَيْهِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّرْجِيحِ وَالْغَلَبَةِ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعَادَةِ.
وَمِثَالُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ: إِفْضَاءُ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْآيِسَةِ إِلَى مَقْصُودِ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا عَقْلًا غَيْرُ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَادَةً، فَكَانَ الْإِفْضَاءُ إِلَيْهِ مَرْجُوحًا.
فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُنَاسِبَةً نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلنَّفْسِ غَيْرَ أَنَّ أَعْلَاهَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ لِتَيَقُّنِهِ، وَيَلِيهِ الثَّانِي لِكَوْنِهِ مَظْنُونًا رَاجِحًا، وَيَلِيهِ الثَّالِثُ لِتَرَدُّدِهِ، وَيَلِيهِ الرَّابِعُ لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا. وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهِمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمُنَاسَبَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فَلِكَوْنِ الْمَقْصُودِ فِيهِمَا غَيْرَ ظَاهِرٍ لِلْمُسَاوَاةِ فِي الثَّالِثِ وَالْمَرْجُوحِيَّةِ فِي الرَّابِعِ، فَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهِمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ ظَاهِرًا مِنَ الْوَصْفِ فِي غَالِبِ صُوَرِ الْجِنْسِ وَإِلَّا فَلَا، وَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مِثَالِ صِحَّةِ نِكَاحِ الْآيِسَةِ لِمَقْصُودِ التَّوَالُدِ فَإِنَّهُ وَإِنْ

(3/272)


كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآيِسَةِ إِلَّا أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِيمَا عَدَاهَا. (1) وَعَلَى هَذَا فَلَوْ خَلَا الْوَصْفُ الَّذِي رُتِّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَنِ الْمَقْصُودِ الْمُوَافِقِ لِلنَّفْسِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي غَالِبِ صُوَرَ الْجِنْسِ كَمَا فِي: لُحُوقِ النَّسَبِ فِي نِكَاحِ الْمَشْرِقِيِّ لِلْمَغْرِبِيَّةِ، وَشَرْعِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ لِمَعْرِفَةِ فَرَاغِ الرَّحِمِ فِيمَا إِذَا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ مِمَّنْ بَاعَهَا مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لِعِلْمِنَا بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ غَيْرِهِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِي غَالِبِ صُوَرِ الْجِنْسِ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الصُّوَرِ فَلَا يَكُونُ مُنَاسِبًا وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ الْحِكَمِ (2) فَشَرْعُ الْأَحْكَامِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ يَقِينًا لَا يَكُونُ مُفِيدًا، فَلَا يُرَدُّ بِهِ الشَّرْعُ خِلَافًا لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
_________
(1) إِذَا كَانَ التَّسَاوِي وَالْرُجُوحِيَّةُ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ عَادَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إِلَى الثَّانِي، ثُمَّ لِلنِّكَاحِ مَقَاصِدٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا التَّنَاسُلُ وَعِفَّةُ الْفَرْجِ وَإِتْرَافُ النَّفْسِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى مَتَاعِبِ الْحَيَاةِ، وَبَعْضُ مَقَاصِدِهِ أَهَمُّ مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَنْ فَبُعْدُ التَّنَاسُلِ فِي نِكَاحِ الْآيِسَةِ لَا يُفْضِي إِلَى عَدَمِ الْحِكْمَةِ أَوِ الْمَقْصُودِ مُطْلَقًا، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى ظَنِّ عَدَمِ مَقْصُودٍ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ.
(2) الْحِكَمُ بِكَسْرِ الْحَاءِ جَمْعُ حِكْمَةٍ.

(3/273)


[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي أَقْسَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِ فِي نَفْسِهِ وَذَاتِهِ]
الْفَصْلُ الرَّابِعُ
فِي أَقْسَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِ فِي نَفْسِهِ وَذَاتِهِ (1) وَهُوَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ، أَوْ لَا يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا، أَوْ لَا يَكُونَ أَصْلًا.
فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَهُوَ الرَّاجِعُ إِلَى الْمَقَاصِدِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لَمْ تَخْلُ مِنْ رِعَايَتِهَا مِلَّةٌ مِنَ الْمِلَلِ وَلَا شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَهِيَ: حَفِظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْلِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ. فَإِنَّ حَفِظَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْخَمْسَةِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَهِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُنَاسَبَاتِ.
وَالْحَصْرُ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْأَنْوَاعِ إِنَّمَا كَانَ نَظَرًا إِلَى الْوَاقِعِ وَالْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ مَقْصَدٍ ضَرُورِيٍّ خَارِجٍ عَنْهَا فِي الْعَادَةِ.
أَمَّا حِفْظُ الدِّينِ: فَبِشَرْعِ قَتْلِ الْكَافِرِ الْمُضِلِّ، وَعُقُوبَةِ الدَّاعِي إِلَى الْبِدَعِ.
وَأَمَّا حِفْظُ النُّفُوسِ: فَبِشَرْعِ الْقِصَاصِ.
وَأَمَّا حِفْظُ الْعُقُولِ: فَبِشَرْعِ الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ.
وَأَمَّا حِفْظُ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِهَا مَعَاشُ الْخَلْقِ: فَبِشَرْعِ الزَّوَاجِرِ لِلْغُصَّابِ وَالسُّرَّاقِ. (2) وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا فَهُوَ التَّابِعُ الْمُكَمِّلُ لِلْمَقْصُودِ الضَّرُورِيِّ.
وَذَلِكَ كَالْمُبَالَغَةِ فِي حِفْظِ الْعَقْلِ بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُسْكِرِ الدَّاعِي إِلَى الْكَثِيرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا، فَإِنَّ أَصْلَ الْمَقْصُودِ مِنْ حِفْظِ الْعَقْلِ حَاصِلٌ بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْمُسْكِرِ لَا بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ، وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ الْقَلِيلُ لِلتَّكْمِيلِ وَالتَّتْمِيمِ.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ مَا تَدْعُو حَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَوْ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا، أَوْ لَا يَكُونَ أَصْلًا.
_________
(1) ارْجِعْ إِلَى كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافِقَاتِ لِلشَّاطِبِيِّ، فَإِنَّهُ قَسَّمَهَا إِلَى: ضَرُورِيَّاتٍ، وَحَاجِيَّاتٍ، وَتَحْسِينِيَّاتٍ، وَذَكَرَ مُكَمِّلَاتِ كُلٍّ مِنْهَا وَأَوْضَحَهَا بِالتَّعَارِيفِ وَالْأَمْثِلَةِ.
(2) فِيهِ سَقْطٌ - تَقْدِيرُهُ وَأَمَّا حِفْظُ النَّسْلِ فَبِشَرْعِ النِّكَاحِ وَحَدِّ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ.

(3/274)


فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَهُوَ الْقِسَمُ الثَّانِي الرَّاجِعُ إِلَى الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ، وَذَلِكَ كَتَسْلِيطِ الْوَلِيِّ عَلَى تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ لَا لِضَرُورَةٍ أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ بَلْ لِحَاجَةِ تَقْيِيدِ الْكُفْءِ الرَّاغِبِ ; خِيفَةَ فَوَاتِهِ عِنْدَ دُعُوِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا إِلَى خُلْفٍ.
وَأَمَّا تَسْلِيطُ الْوَلِيِّ عَلَى تَرْبِيَةِ الصَّغِيرِ وَإِرْضَاعِهِ وَشِرَاءِ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ لَهُ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي لَا تَخْلُو شَرِيعَةٌ عَنْ رِعَايَتِهَا.
وَهَذَا الْقِسْمُ فِي الرُّتْبَةِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا جَازَ اخْتِلَافُ الشَّرَائِعِ فِيهِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ مَعَ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْمِلَةِ وَالتَّتِمَّةِ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا اشْتَرَكَا فِي جَوَازِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فِيهِمَا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا فَهُوَ التَّابِعُ الْجَارِي مَجْرَى التَّتِمَّةِ وَالتَّكْمِلَةِ لِلْقِسْمِ الثَّانِي، وَذَلِكَ كَرِعَايَةِ الْكَفَاءَةِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ، فَإِنَّهُ أَفْضَى إِلَى دَوَامِ النِّكَاحِ وَتَكْمِيلِ مَقَاصِدِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَقْصُودِ حَاصِلًا دُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ فِي الرُّتْبَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْمِلَةِ لِلْمَقْصُودِ الضَّرُورِيِّ، فَلِكَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِمَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ، فَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَا يَقَعُ مَوْقِعَ التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ وَرِعَايَةِ أَحْسَنِ الْمَنَاهِجِ فِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَذَلِكَ كَسَلْبِ الْعَبِيدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَبْدَ نَازِلُ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ لِكَوْنِهِ مُسْتَسْخَرًا لِلْمَالِكِ مَشْغُولًا بِخِدْمَتِهِ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ مَنْصِبُ الشَّهَادَةِ لِشَرَفِهَا وَعِظَمِ خَطَرِهَا ; جَرْيًا لِلنَّاسِ عَلَى مَا أَلِفُوهُ وَعَدُّوهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَإِنْ كَانَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَلَا زَائِدَةٌ وَلَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْمِلَةِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ سَلْبِ وِلَايَتِهِ عَلَى الطِّفْلِ فَإِنَّ سَلْبَ وِلَايَتِهِ مِنْ قَبِيلِ الْحَاجَاتِ ; لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الطِّفْلِ تَسْتَدْعِي الْخُلُوَّ وَالْفَرَاغَ وَالنَّظَرَ فِي أَحْوَالِهِ، وَاسْتِغْرَاقُ الْعَبْدِ بِمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةِ مَالِكِهِ مَانِعٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ.

(3/275)


[الْفَصْلُ الْخَامِسُ الْحُكْمِ إِذَا ثَبَتَ لِوَصْفٍ مَصْلَحِيٍّ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ مَفْسَدَةٍ مُسَاوِيَةٍ لَهُ أَوْ رَاجِحَةٍ عَلَيْهِ]
الْفَصْلُ الْخَامِسُ (1) اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ إِذَا ثَبَتَ لِوَصْفٍ مَصْلَحِيٍّ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ مَفْسَدَةٍ مُسَاوِيَةٍ لَهُ أَوْ رَاجِحَةٍ عَلَيْهِ، هَلْ تَنْخَرِمُ مُنَاسَبَتُهُ أَوْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ.
وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِبَقَاءِ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مُنَاسَبَةَ الْوَصْفِ تَنْبَنِي عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَصْلَحَةُ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا تَخْتَلُّ (2) بِمُعَارَضَةِ الْمَفْسَدَةِ، وَدَلِيلُهُ (3) أَنَّ الْمَصْلَحَةَ وَالْمَفْسَدَةَ الْمُتَعَارِضَتَانِ إِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا أَوْ تَتَرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَإِمَّا أَنْ تُبْطَلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى، أَوْ أَنْ تُبْطَلَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، أَوْ لَا تُبْطَلَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِالْأُخْرَى. الْأَوَّلُ مُحَالٌ ; لِأَنَّ عَدَمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا هُوَ بِوُجُودِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى وُجُودِهِمَا مَعَ عَدَمِهِمَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُتَحَقِّقَةً مَعَ الْمَعْلُولِ. وَالثَّانِي مُحَالٌ (4) ; لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَالثَّالِثُ (5) هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَرْجَحَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الْمَرْجُوحَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، وَلَا مُنَافَاةَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الرَّاجِحَةَ مِنْهُمَا إِذَا كَانَتْ مُعَارَضَةً بِالْمَرْجُوحَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَفِيَ شَيْءٌ مِنَ الرَّاجِحَةِ لِأَجْلِ الْمَرْجُوحَةِ أَوْ لَا يَنْتَفِي مِنْهَا شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُحَالٌ أَنْ تَتَسَاوَيَا لِمَا سَبَقَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ انْتِفَاءُ بَعْضِ الرَّاجِحِ وَبَقَاءُ بَعْضِهِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ ; ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ تَفَاوَتَا، فَالْكَلَامُ فِي الرَّاجِحِ كَالْكَلَامِ فِي
_________
(1) انْظُرْ ص 290 - 306 ج19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَالْجُزْءَ الثَّانِي مِنَ الْمُوَافِقَاتِ، وَمَبْحَثَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْهَا.
(2) لَا تَخْتَلُّ - الْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمَصْلَحَةِ.
(3) وَدَلِيلُهُ - دَلِيلُ قَوْلِهِ: " الْمَصْلَحَةُ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا تَخْتَلُّ إِلَخْ.
(4) وَالثَّانِي مُحَالٌ، تَحْتَهُ صُورَتَانِ: الْأُولَى: بُطْلَانُ الْمَصْلَحَةِ بِالْمَفْسَدَةِ دُونَ الْعَكْسِ، وَالثَّانِي بُطْلَانُ الْمَفْسَدَةِ بِالْمَصْلَحَةِ دُونَ الْعَكْسِ، وَعِلَّةُ الْبُطْلَانِ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ هِيَ عَدَمُ الْأَوْلَوِيَّةِ.
(5) هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَابِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنِ الثَّانِي تَحْتَهُ صُورَتَانِ.

(3/276)


الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ لَا تَخْتَلُّ بِمُعَارَضَةِ الْمَفْسَدَةِ، فَالْعَقْلُ يَقْضِي بِمُنَاسَبَتِهَا لِلْحُكْمِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْمُعَارِضِ يَقْضِي بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْمُعَارَضِ، وَلِهَذَا يَحْسُنُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ: الدَّاعِي إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ مَوْجُودٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْهُ مَانِعٌ، وَلَوِ اخْتَلَّتْ مُنَاسَبَةُ الْوَصْفِ لَمَا حَسُنَ مِنَ الْعَاقِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَتَعَارَضُ فِي نَظَرِ الْمَلِكِ عِنْدَ الظَّفَرِ بِجَاسُوسِ عَدُوِّهِ الْمُنَازِعِ لَهُ فِي مُلْكِهِ قَتْلُهُ وَعُقُوبَتُهُ زَجْرًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَنِ الْحَبْسِ (1) الْمُضِرِّ بِهِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ وَإِكْرَامُهُ، إِمَّا لِلِاسْتِهَانَةِ بِعَدُوِّهِ أَوْ لِقَصْدِ كَشْفِ أَسْرَارِهِ، وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ سَلَكَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ خَارِجًا عَنْ مَذَاقِ الْحِكْمَةِ وَمُقْتَضَى الْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ فَوَاتُ الْمَقْصُودِ الْحَاصِلِ مِنْ سُلُوكِ مُقَابِلِهِ، وَسَوَاءٌ تَسَاوَيَا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَارَضُ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ تَقْدِيمُ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِقَرَابَةِ الْأُمُومَةِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي جِهَةِ الْعُصُوبَةِ وَإِلْغَاءُ قَرَابَةِ الْأُمُومَةِ، وَتَفْضِيلُ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ الْقَرَابَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعَقْلُ يَقْضِي بِتَأَدِّي النَّظَرِ (2) مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَرْجِيحٍ بِأَنَّ وُرُودَ الشَّرْعِ بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ مُنَاسِبٌ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَذَاقِ الْعُقُولِ، وَلَوْ كَانَ تَرْجِيحُ الْوَصْفِ الْمَصْلَحِيِّ مُعْتَبَرًا فِي مُنَاسَبَتِهِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ نَظَرًا إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَبِتَحْرِيمِهَا نَظَرًا إِلَى مَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ. فَلَوِ اشْتَرَطَ التَّرْجِيحَ فِي الْمُنَاسَبَةِ لَمَا ثَبَتَ الصِّحَّةُ وَلَا التَّحْرِيمُ بِتَقْدِيرِ التَّسَاوِي بَيْنَ مَصْلَحَةِ الصِّحَّةِ وَمَفْسَدَةِ التَّحْرِيمِ، وَلَا حُكْمَ الصِّحَّةِ بِتَقْدِيرِ رُجْحَانِ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ وَلَا التَّحْرِيمِ بِتَقْدِيرِ رُجْحَانِ مَصْلَحَةِ الصِّحَّةِ لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ.
وَهَذِهِ الْحُجَجُ ضَعِيفَةٌ.
_________
(1) الْحَبْسِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: التَّجَسُّسِ.
(2) بِتَأَدِّي النَّظَرِ - لَعَلَّهُ بِبَادِئِ النَّظَرِ بِبَاءَيْنِ.

(3/277)


أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنَّ مُنَاسَبَةَ الْوَصْفِ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُنَاسَبَةِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْمُنَاسَبَةِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ بَعْضِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمُنَاسَبَةِ تَحَقُّقُ الْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِتَحْقِيقِ الْمُنَاسَبَةِ فَمَمْنُوعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَحَقِّقَةً فِي نَفْسِهَا فَالْمُنَاسَبَةُ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ، وَأَهْلُ الْعُرْفِ لَا يَعُدُّونَ الْمَصْلَحَةَ الْعَارِضَةَ بِالْمَفْسَدَةِ الْمُسَاوِيَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ مُنَاسِبَةً، وَلِهَذَا إِنَّ مَنْ حَصَّلَ مَصْلَحَةَ دِرْهَمٍ عَلَى وَجْهٍ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ عَشْرَةً يُعَدُّ سَفِيهًا خَارِجًا فِي تَصَرُّفِهِ عَنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ تَحَقُّقُ الْمُنَاسَبَةِ.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْهُ مَانِعٌ. وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْعُرْفِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِإِخْلَالِ الْمَانِعِ الْمَفْسَدِيِّ بِمُنَاسَبَةِ الْمَصْلَحَةِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الِانْتِفَاءَ مُحَالٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ (1) مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ.
وَعَلَى هَذَا نَقُولُ بِأَنَّ مُنَاسَبَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ تَخْتَلُّ بِتَقْدِيرِ التَّسَاوِي وَبِتَقْدِيرِ مَرْجُوحِيَّةِ إِحْدَاهُمَا، فَالْمُخْتَلُّ مُنَاسَبَتُهَا دُونَ مُنَاسَبَةِ الرَّاجِحَةِ ضَرُورَةَ فَوَاتِ شَرْطِ الْمُنَاسَبَةِ، لَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةٌ لِلْإِخْلَالِ بِمُنَاسَبَةِ الْأُخْرَى أَوْ إِحْدَاهُمَا لِيَلْزَمَ فِي ذَلِكَ مَا قِيلَ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: مَهْمَا لَمْ يَتَرَجَّحْ فِي نَظَرِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ مَصْلَحَةٌ مَا عَيَّنَهُ مِنْ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ مِنَ الْإِحْسَانِ أَوِ الْإِسَاءَةِ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا، وَيَكُونُ بِتَصَرُّفِهِ خَارِجًا عَنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ الْجَزْمِ بِمُنَاسَبَةِ مَا عُيِّنَ دُونَ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ، وَبَعْدَ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ فَلَيْسَ الْجَزْمُ بِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَطْعًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مَرْجُوحًا وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ.
_________
(1) مُحَالٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ - أَيْ: رَاجِعٌ إِلَيْهَا نَاشِئٌ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُحَالِ مَا يُقَابِلُ الْوَاجِبَ وَالْجَائِزَ الْعَقْلِيَّيْنِ.

(3/278)


وَأَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فَبَعِيدَةٌ عَنِ التَّحْقِيقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لِمَصْلَحَةٍ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ.
وَمَا ذُكِرَ مِنْ مَفْسَدَةِ تَحْرِيمِ الْغَصْبِ، وَهِيَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ غَيْرُ لَازِمَةٍ مِنْ تَرْتِيبِ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهَا، وَهُوَ صِحَّةُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّا وَإِنْ لَمْ نَقْضِ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فَالْمَفْسَدَةُ اللَّازِمَةُ مِنَ الْغَصْبِ لَا تَخْتَلُّ بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا، وَلَوْ كَانَتْ لَازِمَةً مِنْ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ لَا غَيْرَ لَانْتَفَتِ الْمَفْسَدَةُ الْمَفْرُوضَةُ بِانْتِفَاءِ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَحَيْثُ لَمْ تَكُنْ مَفْسَدَةُ تَحْرِيمِ الْغَصْبِ لَازِمَةً عَنْ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ كَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ اعْتِبَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِهَا، وَهِيَ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ ; إِذْ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوَقُّفُ الْمُنَاسَبَةِ عَلَى التَّرْجِيحِ فَلِلْمُعَلِّلِ تَرْجِيحُ وَصْفِهِ بِطُرُقٍ تَفْصِيلِيَّةٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَائِلِ، وَلَهُ التَّرْجِيحُ بِطَرِيقٍ إِجْمَالِيٍّ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ.
وَحَاصِلُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُعَلِّلُ: لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ تَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى مَا عَارَضَهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ مَعَ الْبَحْثِ وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يُمْكِنُ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ تَعَبُّدًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّعَقُّلُ دُونَ التَّعَبُّدِ، فَإِدْرَاجُ مَا نَحْنُ فِيهِ تَحْتَهُ أَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَانَ الْحُكْمُ أَقْرَبَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَأَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ، فَإِنَّ الِانْقِيَادَ إِلَى الْمَعْقُولِ الْمَأْلُوفِ أَقْرَبُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَانَ أَفْضَى إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ.
لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ وَصْفٍ آخَرَ يُمْكِنُ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى تَرْجِيحِ جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِهَا، وَهُوَ عَدَمُ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا بِهِ تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى مَعَارِضِهَا مَعَ الْبَحْثِ عَنْهُ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْبَحْثَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَحْثَنَا عَنْ وَصْفٍ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّ الْحُكْمِ فَمَحَلُّهُ مُتَّحِدٌ، وَبَحْثُكُمْ إِنَّمَا هُوَ عَمَّا بِهِ التَّرْجِيحُ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ، فَإِنَّ مَا بِهِ التَّرْجِيحُ قَدْ يَكُونُ بِمَا يَعُودُ إِلَى ذَاتِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا كَمَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى.

(3/279)


قُلْنَا: مَا بِهِ التَّرْجِيحُ إِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ الْحُكْمِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّرْجِيحُ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ.
وَإِنْ كَانَ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ فَقَدِ اسْتَوَى الْبَحْثَانِ فِي اتِّحَادِ مَحَلِّهِمَا وَلَا تَرْجِيحَ بِهَذِهِ الْجِهَةِ.
وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ اتِّحَادِ مَحَلِّ بَحْثِ الْمُسْتَدِلِّ وَالتَّعَدُّدِ فِي مَحَلِّ بَحْثِ الْمُعْتَرِضِ غَيْرَ أَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الْبَحْثَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَسَاوِيًا، أَوْ مُتَفَاوِتًا.
وَبِتَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ وَرُجْحَانِ ظَنِّ الْمُعْتَرِضِ، فَلَا تَرْجِيحَ فِي جَانِبِ الْمُسْتَدِلِّ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ رَاجِحًا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَقَعُ عَلَى تَقْدِيرٍ مِنْ تَقْدِيرَيْنِ يَكُونُ أَغْلَبَ مِمَّا لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ التَّرْجِيحِ فِي تَحْقِيقِ الْمُنَاسَبَةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يَرَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا مَنْ يَرَى جَوَازَ تَخْصِيصِهَا وَجَوَازَ إِحَالَةِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَلَى تَحَقُّقِ الْمُعَارِضِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ مَرْجُوحَةً أَوْ مُسَاوِيَةً، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ بِالْمَانِعِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَقْصُودٍ رَاجِحٍ عَلَى مَقْصُودِ الْمُقْتَضِي لِلْإِثْبَاتِ، أَوْ مُسَاوٍ لَهُ، أَوْ مَرْجُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ رَاجِحًا فَقَدْ قِيلَ بِمُنَاسَبَةِ الْمُقْتَضِي لِلْإِثْبَاتِ مَعَ كَوْنِ مَقْصُودِهِ مَرْجُوحًا، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا كَانَ الْحُكْمُ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَاءِ الْمُنَاسِبِ لَا لِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا فَكَذَلِكَ أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةُ الْمَانِعِ مَرْجُوحَةً فَقَدْ قِيلَ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لَهُ، وَلَوْلَا مُنَاسَبَتُهُ لِلِانْتِفَاءِ لَمَا انْتَفَى الْحُكْمُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ بِمَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لَجَازَ أَنْ يُثْبَتَ بِمَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ.

(3/280)


[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي كَيْفِيَّةِ مُلَازَمَةِ الْحِكْمَةِ لِضَابِطِهَا وَبَيَانِ أَقْسَامِهَا]
الْفَصْلُ السَّادِسُ
فِي كَيْفِيَّةِ مُلَازَمَةِ الْحِكْمَةِ لِضَابِطِهَا وَبَيَانِ أَقْسَامِهَا
فَنَقُولُ: الْحِكْمَةُ اللَّازِمَةُ لِضَابِطِهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَاشِئَةً عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ نَاشِئَةً عَنْهُ.
وَالَّتِي لَا تَكُونُ نَاشِئَةً عَنْهُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْوَصْفِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، أَوْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ.
فَالْأَوَّلُ كَشَرْعِ الرُّخْصَةِ فِي السَّفَرِ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ النَّاشِئَةِ مِنَ السَّفَرِ.
وَالثَّانِي: كَالْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِإِفْضَائِهِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِالْعِوَضِ، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ لَازِمٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ ظَاهِرًا وَلَيْسَ نَاشِئًا عَنِ الْبَيْعِ، وَلَكِنْ لِلْبَيْعِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ الصَّادِرُ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ دَلَالَةً عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: كَمَا فِي مِلْكِ نِصَابِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاسِبُ إِيجَابَ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ نِعْمَةٌ، وَالنِّعْمَةُ تُنَاسِبُ الشُّكْرَ لِإِفْضَاءِ الشُّكْرِ إِلَى زِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ، وَالزَّكَاةُ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونُ شُكْرًا لِمَا فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ النِّعْمَةِ، وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ فِي الْعُرْفِ يُعَدُّ شُكْرًا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا مِثْلَ هَذَا الْمَقْصُودِ (1) وَهُوَ زِيَادَةُ النِّعْمَةِ مُلَازِمٌ لِتَرْتِيبِ إِيجَابِ الزَّكَاةِ عَلَى ذَلِكَ النِّصَابِ، وَلَيْسَ زِيَادَةُ النِّعْمَةِ نَاشِئَةً عَنْ نَفْسِ مِلْكِ النِصَابِ، كَمَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ نَاشِئَةً عَنِ السَّفَرِ، وَلَا لِمِلْكِ النِّصَابِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى زِيَادَةِ النِّعْمَةِ كَدَلَالَةِ الْبَيْعِ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى الِانْتِفَاعِ
_________
(1) وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا مِثْلَ هَذَا الْمَقْصُودِ - تَكَرَّرَ مِنَ الْآمِدِيِّ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّرْكِيبِ وَعِبَارَتُهُ قَلِقَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيقًا ص 141 ج 2 وَأَقُولُ: لَوْ حُذِفَتْ " مَا " أَوْ بَقِيَتْ وَزِيدَ بِعْدَهَا كَانَ لَسَهُلَتِ الْعِبَارَةُ وَوَضُحَ مَعْنَاهَا.

(3/281)


[الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ بِالنَّظَرِ إِلَى اعْتِبَارِهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ وهو أقسام]
الْفَصْلُ السَّابِعُ
فِي أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ بِالنَّظَرِ إِلَى اعْتِبَارِهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ
فَنَقُولُ: الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي نَظَرِ الشَّارِعِ أَوْ لَا يَكُونَ مُعْتَبَرًا، فَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فَاعْتِبَارُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وِفْقِهِ فِي صُورَةٍ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ.
فَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فَيُسَمَّى الْمُؤَثِّرَ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَإِذَا كَانَ مُعْتَبَرًا بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ فِي صُورَةٍ، فَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقِسْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ تِسْعَةُ أَقْسَامٍ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِخُصُوصِ وَصْفِهِ، أَوْ بِعُمُومِ وَصْفِهِ، أَوْ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِخُصُوصِ وَصْفِهِ دُونَ عُمُومِ وَصْفِهِ.
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ، أَوْ فِي جِنْسِهِ، أَوْ فِي عَيْنِهِ وَجِنْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِعُمُومِ وَصْفِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ فِي عَيْنِهِ وَجِنْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِعُمُومِ وَصْفِهِ وَخُصُوصِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ فِي عَيْنِهِ وَجِنْسِهِ.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ مُعْتَبَرًا فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ إِلْغَاؤُهُ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاقِعَ مِنْهَا فِي الشَّرْعِ لَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةٍ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدِ اعْتَبَرَ خُصُوصَ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَعُمُومَ الْوَصْفِ فِي عُمُومِ الْحُكْمِ فِي أَصْلٍ آخَرَ.
وَذَلِكَ كَمَا فِي إِلْحَاقِ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ بِالْمُحَدَّدِ لِجَامِعِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقَتْلِ فِي الْمُحَدَّدِ، وَظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَعْصُومِ بِالْقَوَدِ فِي جِنْسِ الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قِصَاصٌ فِي الْأَيْدِي، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُلَائِمِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِيَاسِيِّينَ وَمُخْتَلَفٌ فِيمَا عَدَاهُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدِ اعْتَبَرَ خُصُوصَ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ

(3/282)


الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي أَصْلٍ آخَرَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَلَا جِنْسِهِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَا جِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ، وَلَا دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةَ نَصٍّ، وَلَا إِجْمَاعَ لَا بِصَرِيحِهِ وَلَا إِيمَائِهِ.
وَذَلِكَ كَمَعْنَى الْإِسْكَارِ فَإِنَّهُ يُنَاسِبُ تَحْرِيمَ تَنَاوُلِ النَّبِيذِ، وَقَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ التَّحْرِيمِ فِي الْخَمْرِ، وَلَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَا جِنْسِهِ فِي عَيْنِهِ وَلَا جِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ وَلَا إِجْمَاعَ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَدَّرْنَا انْتِفَاءَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِسْكَارِ عِلَّةً فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِنَصٍّ أَيْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْقِيَاسِيِّنِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَإِنْكَارُهُ غَيْرُ مُتَّجِهٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ بِالتَّعْلِيلِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّا إِذَا رَأَيْنَا شَخْصًا قَابَلَ الْإِحْسَانَ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةَ بِالْإِسَاءَةِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُكَافَأَةِ وَعَدَمِهَا، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مَا رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ.
وَالَّذِي يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ لِعِلَّةٍ أَوْ لَا لِعِلَّةٍ.
فَإِنْ كَانَ لَا لِعِلَّةٍ فَهُوَ بَعِيدٌ ; لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ مِنَ امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْأَحْكَامِ عَنِ الْعِلَلِ.
وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَا لَمْ يَظْهَرْ، أَوْ لِمَا ظَهَرَ. الْأَوَّلُ وَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّعَبُّدُ وَهُوَ بَعِيدٌ عَلَى مَا عُرِفَ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ صُورَةِ الِاسْتِشْهَادِ أَنَّا قَدْ أَلِفْنَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ مُقَابَلَةَ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ بِالْإِسَاءَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.
قُلْنَا: نَحْنُ إِنَّمَا نَفْرِضُ الْكَلَامَ فِي شَخْصٍ لَمْ يُعْهَدْ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُوَافَقَةٌ وَلَا مُخَالَفَةٌ، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُلَائِمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَلَا مِنَ الْمُلْغَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ يَظْهَرُ مَنْ فِعْلِهِ لِكُلِّ عَاقِلٍ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْغَالِبَ إِنَّمَا هُوَ غَلَبَةُ طَبِيعَةِ الْمُكَافَأَةِ بِالِانْتِقَامِ وَالْإِحْسَانِ فِي حَقِّ الْعَاقِلِ، كَمَا أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُ الْمُنَاسَبَاتِ دُونَ إِلْغَائِهَا. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي شَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ مَفْرُوضٌ فِيمَا عُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ فِيهِ وَالْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدِ اعْتَبَرَ جِنْسَ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ لَا غَيْرَ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ مَعَ ذَلِكَ عَيْنَهُ فِي عَيْنِهِ وَلَا عَيْنَهُ فِي جِنْسِهِ وَلَا جِنْسَهُ فِي عَيْنِهِ

(3/283)


وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعَ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ جِنْسِ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْقِيَاسِيِّينَ، إِلَّا أَنَّهُ دُونَ الْقِسْمِ الثَّانِي.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِاعْتِبَارِ الْخُصُوصِ فِي الْخُصُوصِ لِكَثْرَةِ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِي الْعُمُومِ، وَذَلِكَ كَاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمَشَقَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ فِي جِنْسِ التَّخْفِيفِ، فَإِنَّ عَيْنَ مَشَقَّةِ الْحَائِضِ لَيْسَتْ عَيْنَ مَشَقَّةِ الْمُسَافِرِ بَلْ مِنْ جِنْسِهَا، وَعَيْنُ التَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسَافِرِ بِإِسْقَاطِ الرَّكْعَتَيْنِ الزَّائِدَتَيْنِ لَيْسَ عَيْنَ التَّخْفِيفِ عَنِ الْحَائِضِ بِإِسْقَاطِ أَصْلِ الصَّلَاةِ بَلْ مِنْ جِنْسِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَلَّلَ بِهِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ لَهُ أَجْنَاسٌ:
مِنْهَا مَا هُوَ عَالٍ لَيْسَ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ قَرِيبٌ إِلَيْهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ إِمَّا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ أَنَّهُ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَقَرِبُ مِنَ الْآخَرِ.
فَأَمَّا الْجِنْسُ الْعَالِي لِلْحُكْمِ الْخَاصِّ فَكَوْنُهُ حُكْمًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ وُجُوبًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَأَخَصُّ مِنَ الْوُجُوبِ الْعِبَادَةُ وَغَيْرُ الْعِبَادَةِ، وَأَخَصُّ مِنَ الْعِبَادَةِ الصَّلَاةُ وَغَيْرُ الصَّلَاةِ، وَأَخَصُّ مِنَ الصَّلَاةِ الْفَرْضُ وَالنَّفْلُ.
وَأَمَّا الْجِنْسُ الْعَالِي لِلْوَصْفِ الْخَاصِّ فَكَوْنُهُ وَصْفًا تُنَاطُ الْأَحْكَامُ بِهِ، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ مُنَاسِبًا بِحَيْثُ يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّبَهِيُّ، وَأَخَصُّ مِنْهُ الْمَصْلَحَةُ الضَّرُورِيَّةُ، وَأَخَصُّ مِنْهُ حِفْظُ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ.
وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فَالظَّنُّ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِمَّا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِسَبَبِ التَّفَاوُتِ فِيمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ مِنَ الْجِنْسِ الْعَالِي وَالْمُتَوَسِّطِ.
فَمَا كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ بِالْجِنْسِ السَّافِلِ فَهُوَ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ، وَمَا كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ بِالْأَعَمِّ فَهُوَ أَبْعَدُ، وَمَا كَانَ بِالْمُتَوَسِّطِ فَمُتَوَسِّطٌ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْمُنَاسِبُ الَّذِي لَمْ يُشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا ظَهْرَ إِلْغَاؤُهُ فِي صُورَةٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ (1) ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَنْهُ فِيمَا بَعْدُ.
_________
(1) يُعَبَّرُ عَنْهُ أَيْضًا بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.

(3/284)


الْقِسْمُ الْخَامِسُ: الْمُنَاسِبُ الَّذِي لَمْ يُشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَظَهَرَ مَعَ ذَلِكَ إِلْغَاؤُهُ وَإِعْرَاضُ الشَّارِعِ عَنْهُ فِي صُوَرِهِ، فَهَذَا مِمَّا اتُّفِقَ عَلَى إِبْطَالِهِ وَامْتِنَاعِ التَّمَسُّكِ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ لَمَّا جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ: (يَجِبُ عَلَيْكَ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) .
فَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ مَعَ اتِّسَاعِ مَالِهِ، قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ لَسَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَاسْتَحْقَرَ إِعْتَاقَ رَقَبَةٍ فِي قَضَاءِ شَهْوَةِ فَرْجِهِ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِيجَابِ الصَّوْمِ مُبَالَغَةً فِي زَجْرِهِ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُشْهَدْ لَهُ شَاهِدٌ فِي الشَّرْعِ بِالِاعْتِبَارِ مَعَ ثُبُوتِ إِلْغَائِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ.

[الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ وَالِاعْتِبَارِ دَلِيلُ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً]
الْفَصْلُ الثَّامِنُ
فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ وَالِاعْتِبَارِ دَلِيلُ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَقَاصِدِ الْعِبَادِ، أَمَّا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِمَقَاصِدَ وَحِكَمٍ فِيدِلُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْفِقْهِ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ وَمَقْصُودٍ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ وَالْوُقُوعِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا. (1) وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ فِي صُنْعِهِ، فَرِعَايَةُ الْغَرَضِ فِي صُنْعِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، أَوْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَمْ يَخْلُ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَفِعْلُهُ لِلْمَقْصُودِ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى مُوَافَقَةِ الْمَعْقُولِ مِنْ فِعْلِهِ بِغَيْرِ مَقْصُودٍ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ لَازِمًا مِنْ فِعْلِهِ ظَنًّا، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ لَازِمًا فِي صُنْعِهِ فَالْأَحْكَامُ مِنْ صُنْعِهِ (2) فَكَانَتْ لِغَرَضٍ وَمَقْصُودٍ، وَالْغَرَضُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى
_________
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا غَيْرَ مَرَّةٍ.
(2) لَوْ قَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: أَحْكَامُ اللَّهِ مِنْ صُنْعِهِ، لَقُلْنَا: إِنَّهُ بَنَى تَعْبِيرَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، لَكِنَّ الْآمِدِيَّ أَشْعَرِيٌّ يَرَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ خِطَابُهُ، وَأَنَّهَا قَدِيمَةٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَأَنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهَا وَتَعَلُّقَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ 249 ج3، فَكَيْفَ يَقُولُ هُنَا: إِنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ مِنْ صُنْعِهِ ; فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ: أَحْكَامُ اللَّهِ مِنْ شَرْعِهِ إِحْقَاقًا لِلْحَقِّ وَتَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ فِي نِسْبَةِ صِفَاتِهِ إِلَيْهِ وَلِيَسْلَمَ مِنَ التَّنَاقُضِ.

(3/285)


اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعِبَادِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِتَعَالِيهِ عَنِ الضَّرَرِ وَالِانْتِفَاعِ وَلِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الثَّانِي.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَحْكَامَ مِمَّا جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ فَكَانَتْ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فَلَوْ خَلَتِ الْأَحْكَامُ عَنْ حِكْمَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْعَالَمِينَ مَا كَانَتْ رَحْمَةً بَلْ نِقْمَةً ; لِكَوْنِ التَّكْلِيفِ بِهَا مَحْضَ تَعَبٍ وَنَصَبٍ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فَلَوْ كَانَ شَرْعُ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لَا لِحِكْمَةٍ لَكَانَتْ نِقْمَةً لَا رَحْمَةً لَمَا سَبَقَ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» " (1) ، فَلَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ بِالْأَحْكَامِ لَا لِحِكْمَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْعِبَادِ لَكَانَ شَرْعُهَا ضَرَرًا مَحْضًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَإِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا مَشْرُوعًا مُسْتَلْزِمًا لِأَمْرٍ مَصْلَحِيٍّ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الْغَرَضُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ، أَوْ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا، وَإِلَّا كَانَ شَرْعُ الْحُكْمِ تَعَبُّدًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِمَا ظَهَرَ،
_________
(1) رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ "، وَفِي سَنَدِهِ جَابِرُ بْنُ يَزِيدِ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ رَافِضِيٌّ مُدَلِّسٌّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَرَمَاهُ آخَرُونَ بِالْكَذِبِ، مَاتَ عَامَ 128 أَوْ 132 هـ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْوَسَطِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ " وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَقَدْ عُنْعِنَ، وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى لَا يَخْلُو بَعْضُهَا مِنْ مَطْعَنٍ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ يَشْهَدُ لَهُ اسْتِقْرَاءُ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَالْأُصُولِ الْعَامَّةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

(3/286)


وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَظْنُونًا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ; لِأَنَّ الظَّنَّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فِي الشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِالظَّنِّ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ فِي زَمَنِ عُمَرَ مِنْ تَقْدِيرِ حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ بِثَمَانِينَ جَلْدَةً ; بِسَبَبِ ظَنٍّ وَقَعَ لَهُمْ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَرَى أَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذِيَ وَإِذَا هَذِيَ افْتَرَى، فَأَرَى أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِينَ " (1) ; إِقَامَةٌ لِلشُّرْبِ الَّذِي هُوَ مَظَنَّةُ الِافْتِرَاءِ مَقَامَ الِافْتِرَاءِ فِي حُكْمِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُمْ فِي إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ بِالرَّأْيِ وَالظَّنِّ، وَقِيَاسُهُمُ الْعَهْدَ عَلَى الْعَقْدِ فِي الْإِمَامَةِ، وَرُجُوعُهُمْ إِلَى اجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ حَيْثُ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى كَتَبَةِ الصُّحُفِ وَجَمْعِ الْقُرْآنِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ بِالرَّأْيِ وَالظَّنِّ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتَهَرَ عَنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ وَالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ عَلَيْهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: " أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي " وَحُكْمُهُ بِالرَّأْيِ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ: " أَقُولُ فِي الْجَدِّ بِرَأْيِي وَأَقْضِي فِيهِ بِرَأْيِي " وَقَضَى فِيهِ بِآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْجَنِينِ: " لَوْلَا هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا ".
وَتَشْرِيكُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحِمَارِيَّةِ لِمَا قِيلَ لَهُ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ ".
وَمِنْ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ إِنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ: " إِنِ اتَّبَعْتُ رَأْيَكَ فَرَأْيُكَ أَشَدُّ، وَإِنْ تَتَّبِعْ مَنْ قَبْلَكَ فَنِعْمَ ذَلِكَ الرَّأْيُ "، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَلِأَنَّ عَمَلَهُمْ بِالرَّأْيِ مَعَ الِاخْتِلَافِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ وُجُودِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ
_________
(1) رَوَى الْقِصَّةَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ الدِّيلِيِّ عَنْ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ ثَوْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ الْقِصَّةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَفِيهَا: أَنَّ الَّذِي أَشَارَ عَلَى عُمَرَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَشَارَ عَلَى عُمَرَ أَنْ يَجْلِدَ الشَّارِبَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.

(3/287)


فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَوْ لَا مَعَ وُجُودِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ وَإِلَّا كَانَ الْمُخَالِفُ فَاسِقًا وَالْمُوَافِقُ بِالسُّكُوتِ عَنِ الْإِنْكَارِ فَاسِقًا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ الْفِسْقِ بِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الثَّانِي وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ اسْتِلْزَامَ شَرْعِ الْأَحْكَامَ لِلْحِكَمِ وَالْمَقَاصِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَرْعَ الْأَحْكَامِ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى (1) وَصُنْعُهُ إِمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْحِكْمَةَ وَالْمَقْصُودَ، أَوْ لَا يَسْتَلْزِمَ، وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِسَبْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ يَقُولُ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعَبِيدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَائِلٌ إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْعَبِيدِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَأَنْوَاعِ الشُّرُورِ مَعَ أَنَّهُ لَا حِكْمَةَ وَلَا مَقْصُودَ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْعَبِيدِ، فَإِنَّمَا كَانَتْ مَخْلُوقَةً لَهُمْ بِوَاسِطَةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الْقُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَخَلْقُهُ لِلْقُدْرَةِ الْمُوجِبَةِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَكُونُ أَيْضًا لِحِكْمَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوِ اسْتَلْزَمَ فِعْلُهُ لِلْحِكْمَةِ، مَا أَمَاتَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَنْظَرَ إِبْلِيسَ، وَمَا أَوْجَبَ تَخْلِيدَ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ لِعَدَمِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحِكْمَةٍ وَمَقْصُودٍ فَعِنْدَ تَحَقُّقِ الْحِكْمَةِ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَجِبَ الْفِعْلُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ عَدَمُهُ، أَوْ لَا يَجِبَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ الْبَارِي تَعَالَى مُضْطَرًّا غَيْرَ مُخْتَارٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْفِعْلُ فَقَدْ أَمْكَنَ وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْمُمْكِنَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِمَقْصُودٍ أَوْ لَا لِمَقْصُودٍ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَالْكَلَامُ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ صُنْعُ الرَّبِّ تَعَالَى يَسْتَلْزِمُ الْغَرَضَ وَالْمَقْصُودَ، فَذَلِكَ الْمَقْصُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا أَوْ قَدِيمًا، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَيَلْزَمُ مِنْهُ قِدَمِ الصُّنْعِ وَالْمَصْنُوعِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَإِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ حُدُوثُهُ عَلَى مَقْصُودٍ آخَرَ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، فَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّسَلْسُلُ وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ.
_________
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 285 ج3، وَقَدْ يُقَالُ هُنَا: إِنَّ شَرْعَ الْأَحْكَامِ غَيْرُ الْأَحْكَامِ.

(3/288)


الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ كَلَّفَ بِالْإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مَعَهُ الْإِيمَانُ وَإِلَّا كَانَ عِلْمُهُ جَهْلًا، وَالتَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَلَى وَجْهٍ يُعَاقَبُ الْمُكَلَّفُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ مُجَرَّدٌ عَنِ الْغَرَضِ وَالْحِكْمَةِ.
السَّادِسُ: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ كَلَامُهُ وَخِطَابُهُ، وَكَلَامُهُ وَخِطَابُهُ قَدِيمٌ، وَالْمَقْصُودُ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَإِلَّا لَزِمَ مِنْهُ مَوْجُودُ قَدِيمٌ غَيْرَ الْبَارِي تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَعْلِيلُ الْقَدِيمِ بِالْحَادِثِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
السَّابِعُ: أَنَّ خَلْقَ الْبَارِي تَعَالَى لِلْعَالَمِ فِي وَقْتِهِ الْمَعْلُومِ الْمَحْدُودِ مِنْ جَوَازِ خَلْقِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُهُ بِشَكْلِهِ الْمُقَدَّرِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ مِمَّا لَا يُوقَفُ مِنْهُ عَلَى غَرَضٍ وَمَقْصُودٍ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فِي فِعْلِهِ غَرَضٌ وَمَقْصُودٌ لَمْ يَخْلُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ لِذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ أَوْ لَا يَكُونَ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَيَلْزَمُهُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى مُسْتَكْمِلًا بِذَلِكَ الصُّنْعِ وَنَاقِصًا قَبْلَهُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنَ التَّرْكِ امْتَنَعَ الْفِعْلُ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ.
التَّاسِعُ: أَنَّ الْحِكَمَ وَالْمَقَاصِدَ خَفِيَّةٌ، وَفِي رَبْطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَا مَا يُوجِبُ الْحَرَجَ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِاطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا بِالْبَحْثِ عَنْهَا، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
الْعَاشِرُ: أَنَّ وُجُودَ الْحِكْمَةِ مِمَّا يَجِبُ تَأَخُّرُهُ عَنْ وُجُودِ شَرْعِ الْحُكْمِ، وَمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِمَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ.
الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعُ الْأَحْكَامِ لِلْحِكَمِ لَكَانَتْ مُفِيدَةً لَهَا قَطْعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ قَطْعًا، فَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَهُ قَصْدًا لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ لَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ الْحِكْمَةُ بِهِ قَطْعًا، وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ مِنَ الزَّوَاجِرِ غَيْرُ مُفِيدَةٍ لِمَا ظُنَّ أَنَّهَا حِكَمٌ لَهَا قَطْعًا.
الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ دُونَ شَرْعِ الْحُكْمِ، أَوْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ، لَا جَائِزَ أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا ; إِذْ هُوَ صِفَةُ نَقْصٍ وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ فَشَرْعُ الْحُكْمِ وَتَوَسُّطُهُ فِي الْبَيْنِ لَا يَكُونُ مُفِيدًا بَلْ هُوَ مَحْضُ عَنَاءٍ وَتَعَبٍ.

(3/289)


الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ خَلْقَ الْكَافِرِ شَقِيًّا فِي الدُّنْيَا مُخَلَّدًا فِي الْعَذَابِ فِي الْأُخْرَى مِمَّا لَا حِكْمَةَ فِيهِ وَلَا مَقْصُودَ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتَهُ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَارِفِ بِهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْعَارِفِ.
الْأَوَّلُ: فِيهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُحَالُ، حَيْثُ أَوْجَبَ مَعْرِفَتَهُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ مَعَ تَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ إِيجَابِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَهُوَ دَوْرٌ وَلَا مَصْلَحَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَقْدَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي وَتَرَكَهُمْ يَرْتَكِبُونَ الْفَوَاحِشَ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ وَقَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا حِكْمَةَ فِيهِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْحِكْمَةَ إِنَّمَا تُطْلَبُ فِي حَقِّ مَنْ تَمِيلُ نَفْسُهُ فِي صُنْعِهِ إِلَى جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ وَالرَّبُّ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.
السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْحِكْمَةَ إِنَّمَا تُطْلَبُ فِي فِعْلِ مَنْ لَوْ خَلَا فِعْلُهُ عَنِ الْحِكْمَةِ لَحِقَهُ الذَّمُّ وَكَانَ عَابِثًا، وَالرَّبُّ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا فِي مُلْكِهِ بِحَسْبِ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَمَّا يَفْعَلُ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحِكْمَةِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
سَلَّمْنَا اسْتِلْزَامَ شَرْعِ الْحُكْمِ لِلْحِكْمَةِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْمُنَاسِبِ عِلَّةً، وَلَوْ كَانَ يَدُلُّ الْمُنَاسِبُ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لَكَانَتْ أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ الْمُنَاسَبَةِ عِلَلًا، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ تَكُونَ جُزْءَ عِلَّةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ جُزْءِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وُجُودُ الْحُكْمِ.
سَلَّمْنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ بِكَوْنِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْمُنَاسِبِ عِلَّةً، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ مُطْلَقًا لِمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلَائِلِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً.
وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَنْعِ مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (1) وَعَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ لَا غَيْرَ، وَالْكُفْرُ وَأَنْوَاعُ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ رَاجِعَةٌ إِلَى مُخَالَفَةِ نَهْيِ الشَّارِعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْقُدْرَةِ فِي شَيْءٍ. (2)
_________
(1) يَعْنِي دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ وَأَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَوَّلَ الْفَصْلِ الثَّامِنِ ص 285 ج3.
(2) هَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمُورَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ أَفْعَالٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا الْقُدْرَةُ، فَمُخَالِفُ الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ بِإِحْدَاثِهَا وَإِيجَادِهَا، وَأَمَّا مُوَافَقَةُ النَّهْيِ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَمِنْ بَابِ التُّرُوكِ، وَالتُّرُوكُ قَدْ يُدَّعَى فِيهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَفْعَالٍ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا قُدْرَةٌ وَلَا يَكُونُ فِيهَا تَكْلِيفٌ، وَقَدْ يُفَسَّرُ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ بِالْكَفِّ عَنْهُ، وَالْكَفُّ فِعْلٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ وَالتَّكْلِيفُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مُخَالَفَةَ نَهْيِ الشَّارِعِ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ لَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ الْقُدْرَةُ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُكَلَّفًا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِهِ فَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ.

(3/290)


الثَّانِي: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَنَحْنُ لَا نَدَّعِي مُلَازَمَةَ الْحِكْمَةِ لِأَفْعَالِهِ مُطْلَقًا حَتَّى يَطَّرِدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ، بَلْ إِنَّمَا نَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْحِكْمَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيمَا عَدَا أَنْوَاعِ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي (1) وَلَا نَدَّعِي ذَلِكَ قَطْعًا بَلْ ظَاهِرًا.
الثَّالِثُ: وَإِنْ سَلَّمَنَا لُزُومَ الْحِكْمَةِ لِأَفْعَالِهِ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصُّوَرِ قَطْعًا ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَازِمُهَا حُكْمٌ لَا يَعْلَمُهَا سِوَى الرَّبِّ تَعَالَى.
وَبِهَذَيْنِ الْجَوَّابَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَكُونُ جَوَابُ الثَّانِيَةِ.
وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ وَإِنَّ قُدِّرَ تَحَقُّقُ الْحِكْمَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْبَارِي لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا بَلْ مُخْتَارًا.
وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ حَادِثٌ، وَلَكِنْ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى مَقْصُودٍ آخَرَ إِنَّمَا نَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مُمْكِنٌ، وَافْتِقَارُ الْمَقْصُودِ إِلَى مَقْصُودٍ آخَرَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّسَلْسُلِ الْمُمْتَنِعِ، وَإِنْ كَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى مَقْصُودٍ فَذَلِكَ الْمَقْصُودُ هُوَ نَفْسُهُ لَا غَيْرُهُ فَلَا تُسَلْسُلُ.
_________
(1) الْجَوَابُ الثَّانِي: أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ أَوَّلَ الْفَصْلِ الثَّامِنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِ شَرْعِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْوَاعِهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ، فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَفْعَالَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَهِيَ بِاعْتِبَارِ صُدُورِهَا عِنْدَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَمُوجَبِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ تَأَلَّمَ مِنْهَا الْعِبَادُ وَكَانَتْ فِي ظَاهِرِهَا شَرًّا فَقَدْ تَكُونُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَتَمْيِيزِ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَبِيثِ، وَقَدْ تَكُونُ تَمْحِيصًا لِلذُّنُوبِ وَتَكْفِيرًا لِلسَّيِّئَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ عُقُوبَةً وَجَزَاءً عَادِلًا عَلَى ذَنْبٍ سَابِقٍ، وَقَدْ تَكُونُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ مِنَ الْجَوَابِ.

(3/291)


وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّا لَا نَدَّعِي لُزُومَ الْمَقْصُودِ فِي كُلِّ فِعْلٍ لِيَلْزَمَنَا مَا قِيلَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ الرَّبُّ تَعَالَى بِالْعِلْمِ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ.
وَعَنِ السَّادِسَةِ: أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، بَلِ الْكَلَامُ بِصِفَةِ التَّعَلُّقِ فَكَانَ حَادِثًا (1) وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ قَدِيمًا، وَالْمَقْصُودُ حَادِثًا، فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُهُ بِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (2) ، بَلْ إِمَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَالْحَادِثُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَمَارَةً عَلَى الْقَدِيمِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا، وَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ الْقَدِيمِ بِمَا حَكَمَ بِهِ لِأَجْلِ مَا سَيُوجَدُ مِنَ الْمَقْصُودِ الْحَادِثِ.
وَعَنِ السَّابِعَةِ: بِمَنْعِ انْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فِيمَا قِيلَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً لَنَا.
وَعَنِ الثَّامِنَةِ: أَنَّ فِعْلَهُ لِذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ، لَكِنْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ.
وَعَنِ التَّاسِعَةِ: أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْحِكَمِ إِذَا كَانَتْ مُنْضَبِطَةً بِأَنْفُسِهَا أَوْ بِأَوْصَافٍ ظَاهِرَةٍ ضَابِطَةٍ لَهَا ; لِعَدَمِ الْعُسْرِ فِي مَعْرِفَتِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعٌ عَسِرٌ وَحَرِجٌ يُكَدُّ الْعَقْلُ فِي الِاجْتِهَادِ فِيهَا فَلَا نُسَلِّمُ خُلُوَّ ذَلِكَ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ زِيَادَةُ الثَّوَابِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «ثَوَابُكَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكَ» ". (3)
_________
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 249 ج3 وَالتَّعَلُّقُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يَنْفَعُهُ التَّعَلُّلُ بِهِ.
(2) بَلِ الْحِكَمُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْأَحْكَامِ مُوجِبَةٌ لَهَا، لَكِنْ لَا بِنَفْسِهَا بَلْ بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهَا، فَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا حُكْمُهَا إِلَّا لِمَعَارِضٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا مِنْ فَقْدِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنِ الشُّبْهَةِ السَّادِسَةِ أَنَّ آحَادَ كَلَامِ اللَّهِ وَخِطَابَهُ وَآحَادَ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ حَادِثَةٌ وَقْتَ نُزُولِ الْوَحْيِ بِشَرْعِهَا، وَأَنَّهَا لِحِكَمٍ وَمَقَاصِدَ اقْتَضَتْ شَرْعَهَا وَخِطَابَ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وُجُودٌ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ زَمَنِهِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ وُجُودَهُ فِيهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ بِالْحِكَمِ وَالْمَقَاصِدِ.
(3) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ تَعْلِيقًا ص 140 ج3.

(3/292)


وَعَنِ الْعَاشِرَةِ: أَنَّ الْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي الْوُجُودِ عَنْ شَرْعِ الْحُكْمِ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً بِمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ لَا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ. (1) وَعَنِ الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْحِكْمَةِ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا.
وَعَنِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى بَعْضِ آرَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ الْخَاصِّ مِنْ شَرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ شَرْعِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعَجْزُ ; ضَرُورَةَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُمْكِنٍ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْعُ الْحُكْمِ غَيْرَ مُفِيدٍ مَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ بِهِ، وَإِنْ قُدِّرَ إِمْكَانُ حُصُولِ الْفَائِدَةِ بِطَرِيقٍ آخَرَ.
وَعَنِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِيمَا ذَكَرُوهُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً أَوْ جَائِزَةً.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَلْزَمُ امْتِنَاعُهَا فِيمَا هِيَ مُمْكِنَةٌ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا مَانِعَ مِنْ وُجُودِهَا وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهَا.
وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ.
كَيْفَ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ أَنْ لَوْ قِيلَ بِتَوَقُّفِ الْوُجُوبِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُكَلَّفِ لِلْوُجُوبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي شُكْرِ الْمُنَعَّمِ.
وَعَنِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَا هُوَ جَوَابُ الشُّبْهَتَيْنِ قَبْلَهَا.
وَعَنِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: بِمَنْعِ مَا ذَكَرُوهُ فِي رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ بَلِ الْحِكْمَةُ إِنَّمَا تُطْلَبُ فِي فِعْلِ مَنْ لَوْ وُجِدَتِ الْحِكْمَةُ فِي فِعْلِهِ لَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا، بَلْ وَاقِعًا فِي الْغَالِبِ.
وَعَنِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ مُرَاعَاةُ الْحِكْمَةِ فِي فِعْلِهِ وَالْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ (2) عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ.
_________
(1) لِحِكْمَةِ الْحُكْمِ جِهَتَانِ: الْأُولَى رِعَايَتُهَا وَالْقَصْدُ إِلَى تَحْصِيلِهَا فَشُرِعَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهَا، وَالثَّانِيَةُ تَحَقُّقُهَا فِي الْخَارِجِ ثَمَرَةً لِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ وَتَطْبِيقِهِ، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ الْأُولَى عِلْمِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ عِلْمًا وَقَصْدًا، وَبِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْخَارِجِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الْحُكْمِ وَعَنْ تَطَّبِيقِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَارِنَةً لِتَطْبِيقِهِ، وَقَدِيمًا قِيلَ: أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ.
(2) الْحَقُّ أَنَّ مِنْ كَمَالِ اللَّهِ وُجُوبَ مُرَاعَاتِهِ الْحِكْمَةَ فِي فِعْلِهِ وَشَرْعِهِ، فَذَلِكَ مُقْتَضَى كَمَالِهِ وَمُوجَبُ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَإِنْ قِيلَ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) .

(3/293)


قَوْلُهُمْ: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْمُنَاسِبِ عِلَّةً.
قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً قَطْعًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً ظَاهِرًا ; ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ وَلَا ظَاهِرَ سِوَاهُ.
وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَاسِبَةً فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِمَا سَبَقَ مِنَ امْتِنَاعِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِعِلَلٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اتَّحَدَ الْوَصْفُ أَوْ تَعَدَّدَ وَكَانَتِ الْعِلَّةُ مَجْمُوعَ الْأَوْصَافِ.
قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا.
قُلْنَا: دَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا سَيَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ.
وَمَا يَذْكُرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ فَسَيَأْتِي جَوَابُهُ ثَمَّ أَيْضًا.

[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالشَّبَهِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ]
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ الشَّبَهِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِيهِ]
الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالشَّبَهِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي حَقِيقَةِ الشَّبَهِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِيهِ
نَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الشَّبَهِ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ قِيَاسٍ أُلْحِقَ الْفَرْعُ فِيهِ بِالْأَصْلِ لِجَامِعٍ يُشْبِهُهُ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ آرَاءَ الْأُصُولِيِّينَ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ. (1) فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا تَرَدَّدَ فِيهِ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ، وَوُجِدَ فِيهِ الْمَنَاطُ الْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ يُشْبِهُ أَحَدَهُمَا فِي أَوْصَافٍ هِيَ أَكْثَرُ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي بِهَا مُشَابَهَتُهُ لِلْأَصْلِ الْآخَرِ، فَإِلْحَاقُهُ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مُشَابَهَةً هُوَ الشُّبْهَةُ، وَذَلِكَ كَالْعَبْدِ الْمَقْتُولِ خَطَأً إِذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، فَإِنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مَنَاطَانِ مُتَعَارَضَانِ
_________
(1) لَوْ قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ أُطْلِقَ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ مُعَيَّنٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَعْرِيفِهِ لَكَانَ أَنْسَبَ ; فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ فِي هَذَا الْفَصْلِ تَعْرِيفَ كُلِّ قِيَاسٍ وَلَا تَعْرِيفَ الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ نَوْعًا مُعَيَّنًا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ بِدَلِيلِ بِنَائِهِ عَلَى جَامِعٍ مُعَيَّنٍ، وَاخْتِيَارُهُ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ تَعْرِيفًا لَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَقْيِسَةِ، وَجَعَلَهُ أَثْنَاءَ الْمَسْأَلَةِ قَسِيمًا لِلْقِيَاسِ الْمُنَاسِبِ وَالْقِيَاسِ الطَّرْدِيِّ.

(3/294)


أَحَدُهُمَا: النَّفْسِيَّةُ، وَهُوَ مُشَابِهٌ لِلْحُرِّ فِيهَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُزَادَ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ.
وَالثَّانِي: الْمَالِيَّةُ، وَهُوَ مُشَابِهٌ لِلْفَرَسِ فِيهَا وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الزِّيَادَةُ.
إِلَّا أَنَّ مُشَابَهَتَهُ لِلْحُرِّ فِي كَوْنِهِ آدَمِيًّا مُثَابًا مُعَاقَبًا، وَمُشَابَهَتَهُ لِلْفَرَسِ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي الْأَسْوَاقِ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى لِكَثْرَةِ مُشَابَهَتِهِ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الشَّبَهِ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَنَاطَيْنِ مُنَاسِبٌ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ كَثْرَةِ الْمُشَابَهَةِ إِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فَلَيْسَتْ إِلَّا مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِ الْمَنَاطَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْمُنَاسِبِ وَإِنْ كَانَ يَفْتَقِرُ إِلَى نَوْعِ تَرْجِيحٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا عُرِفَ الْمَنَاطُ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي آحَادِ الصُّوَرِ إِلَى تَحْقِيقِهِ.
وَذَلِكَ كَمَا فِي طَلَبِ الْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بَعْدَ أَنْ عُرِفَ أَنَّ الْمِثْلَ وَاجِبٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا مِنَ الشَّبَهِ ; إِذِ الْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي الْعِلَّةِ الشَّبَهِيَّةِ، وَالنَّظَرُ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ الْحُكْمُ الْوَاجِبُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ لَا فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ.
وَدَلِيلُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمِثْلَ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنَ النَّعَمِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى الْأَشْبَهِ، كَيْفَ وَهُوَ مَجْزُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالشَّبَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ هُوَ نَفْسُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَنَاطَانِ مُخْتَلِفَانِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَغْلَبُ مِنَ الْآخَرِ، فَالْحُكْمُ بِالْأَغْلَبِ حُكْمٌ بِالْأَشْبَهِ، وَذَلِكَ كَاللَّعَّانِ فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَلَيْسَا بِمُتَمَحِّضَيْنِ ; لِأَنَّ الْمُلَاعِنَ مُدَّعٍ وَالْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمِينُهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَّا أَنَّهُ مَهْمَا غَلَبَتْ إِحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ فَقَدْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ الْمُلَازِمَةُ لَهَا فِي نَظَرِنَا، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ غَيْرَ خَارِجٍ عَنِ التَّعْلِيلِ بِالْمُنَاسِبِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى تَفْسِيرِهِ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمَا لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ، وَلَكِنْ يَسْتَلْزِمُ مَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدُ.

(3/295)


وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَلَّلَ بِهِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ، أَوْ لَا تَظْهَرَ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ (1) بِوُقُوفِ مَنْ هُوَ أَهْلُ مَعْرِفَةِ الْمُنَاسَبَةِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُبَيَّنَةِ مِنْ قَبْلُ، فَهُوَ الْمُنَاسِبُ.
وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُؤْلَفْ مِنَ الشَّارِعِ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ هُوَ مِمَّا أُلِفَ مِنَ الشَّارِعِ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ.
فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَهُوَ الطَّرْدِيُّ الَّذِي لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ، وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَثَلًا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِمَائِعٍ: لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ فَلَا تَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ كَالدُّهْنِ.
وَكَمَا لَوْ عَلَّلَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِهِمَا.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَهُوَ الشَّبَهِيُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ بَعْدَ الْبَحْثِ، يَجْزِمُ الْمُجْتَهِدُ بِانْتِفَاءِ مُنَاسَبَتِهِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ يُوجِبُ إِيقَافَ الْمُجْتَهِدِ عَنِ الْجَزْمِ بِانْتِفَاءِ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ، فَهُوَ مُشَابِهٌ لِلْمُنَاسِبِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَجْزُومٍ بِنَفْيِ الْمُنَاسَبَةِ عَنْهُ، وَمُشَابِهٌ لِلطَّرْدِيِّ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَجْزُومٍ بِظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ.
فَهُوَ دُونُ الْمُنَاسِبِ وَفَوْقَ الطَّرْدِيِّ، وَلَعَلَّ الْمُسْتَنَدَ فِي تَسْمِيَتِهِ شَبَهِيًّا إِنَّمَا هُوَ هَذَا الْمَعْنَى.
وَمِثَالُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ: طَهَارَةٌ تُرَادُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَلَا تَجُوزُ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، فَإِنَّ الْجَامِعَ هُوَ الطَّهَارَةُ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِتَعْيِينِ الْمَاءِ فِيهَا بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ. وَبِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِ الشَّارِعِ اعْتَبَرَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، يُوهِمُ اشْتِمَالَهَا عَلَى الْمُنَاسَبَةِ كَمَا تَقَرَّرَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الشَّبَهِ وَإِنْ كَانَ حَاصِلُهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ رَاجِعًا إِلَى الِاصْطِلَاحَاتِ اللَّفْظِيَّةِ غَيْرَ أَنَّ أَقْرَبَهَا إِلَى قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الِاصْطِلَاحُ الْأَخِيرُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَلِيهِ فِي الْقُرْبِ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ.
_________
(1) فِيهِ سَقْطُ حَرْفِ الشَّرْطِ وَفِعْلِهِ وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ ظَهَرَتْ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ بِوُقُوفٍ إِلَخْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: بَعْدُ فَهُوَ الْمُنَاسِبُ.

(3/296)


[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَنَّ الشَّبَهَ مَعَ قِرَانِ الْحُكْمِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً]
الْفَصْلُ الثَّانِي
فِي أَنَّ الشَّبَهَ مَعَ قِرَانِ الْحُكْمِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً
وَبَيَانُهُ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا ثَابِتًا عَقِيبَ وَصْفَيْنِ، وَأَحَدُ الْوَصْفَيْنِ شَبَهِيٌّ بِالتَّفْسِيرِ الْأَخِيرِ وَالْآخَرُ طَرْدِيٌّ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا لِمَصْلَحَةٍ أَوْ لَا لِمَصْلَحَةٍ.
لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي ; إِذِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْلُو عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ كَمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ (1) فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّهُ ثَابِتٌ لِمَصْلَحَةٍ، وَتِلْكَ الْمَصْلَحَةُ لَا تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي ضِمْنِ الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ أَوِ الطَّرْدِيِّ لِعَدَمِ مَا سِوَاهُمَا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ اشْتِمَالَ الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنِ اشْتِمَالِ الطَّرْدِيِّ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ الطَّرْدِيَّ مَجْزُومٌ بِنَفْيِ مُنَاسَبَتِهِ وَالشَّبَهِيُّ مُتَرَدِّدٌ فِيهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ فَالظَّنُّ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.

[الْفَصْلُ الثَّالِثُ الشَّبَهِيَّ إِذَا اعْتُبِرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ دُونَ اعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي عَيْنِهِ]
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّبَهِيَّ إِذَا اعْتُبِرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ دُونَ اعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي عَيْنِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، بِخِلَافِ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ ; مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الشَّبَهِيَّ إِذَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ فَالظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِ الظَّنِّ، فَإِذَا انْحَطَّ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ فَقَدِ اضْمَحَلَّ الظَّنُّ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ أَدْنَى دَرَجَاتِ الظَّنِّ دَرَجَةٌ سِوَى مَا لَيْسَ بِظَنٍّ، وَمَا لَيْسَ بِمَظْنُونٍ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ فَإِنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ قَوِيٌّ جِدًّا، فَنُزُولُهُ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ وَإِنْ فَاتَ مَعَهُ ذَلِكَ الظَّنُّ الْغَالِبُ، فَقَدْ بَقِيَ لَهُ أَصْلُ الظَّنِّ فَكَانَ حُجَّةً.
_________
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا غَيْرَ مَرَّةٍ.

(3/297)


وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ إِنَّمَا صَارَ شَبَهِيًّا بِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ، وَذَلِكَ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ دُونَ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ، وَالْمُنَاسِبُ الْمُرْسَلُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ (1) فَمَا هُوَ دُونَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ حُجَّةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ الْمُتَأَيِّدِ بِشَهَادَةِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُرْسَلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّبَهِيَّ بِشَهَادَةِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِ الظُّنُونِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: مَا هُوَ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِ الظُّنُونِ إِنَّمَا هُوَ الشَّبَهِيُّ الْمُتَأَيِّدُ بِشَهَادَةِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، وَالنُّزُولُ عَنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إِلَى مَا دُونَهَا (2) لَا يُوجِبُ انْمِحَاقَ الظَّنِّ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قِيلَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ الشَّبَهِيَّ إِنَّمَا صَارَ شَبَهِيًّا بِالْتِفَاتِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهُ أَدْنَى مِنَ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُنَاسَبَةَ الْمُرْسَلِ ظَاهِرَةٌ وَمُنَاسَبَةَ الشَّبَهِيِّ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ بَلْ مَوْهُومَةٌ مُتَرَدَّدٌ فِيهَا، غَيْرَ أَنَّ الشَّبَهِيَّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ كَوْنُهُ شَبَهِيًّا بِالْتِفَاتِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ إِذَا رَأَيْنَا الشَّارِعَ قَدِ اعْتَبَرَ جِنْسَهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ فَقَدْ صَارَ مُعْتَبَرًا، وَلَا كَذَلِكَ الْمُرْسَلُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَيْسَ مُعْتَبَرًا عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُعْتَبَرِ.
_________
(1) سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِي حُجِّيَّتِهَا تَحْتَ عُنْوَانِ " الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ ".
(2) يَعْنِي: وَالنُّزُولُ عَنْ رُتْبَةِ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ إِلَى رُتْبَةِ تَأْثِيرِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ لَا يُوجِبُ. . . إِلَخْ.

(3/298)


[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ]
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً.
لَكِنِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ قَطْعًا كَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنًّا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَبْنَاءِ زَمَانِنَا.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلِّيَّةِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَصُورَتُهُ مَا إِذَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ النَّبِيذِ مَثَلًا: (مُسْكِرٌ) فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، وَأَثْبَتَ كَوْنَ الْمُسْكِرِ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ بِدَوَرَانِهِ مَعَ التَّحْرِيمِ وُجُودًا وَعَدَمًا فِي الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ مُسْكِرًا حُرِّمَ، وَإِنْ زَالَ الْإِسْكَارُ عَنْهُ بِأَنْ صَارَ خَلًّا فَإِنَّهُ لَا يُحَرَّمُ.
وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ إِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ أَنْ قَالَ: حَاصِلُ الِاطِّرَادِ يَرْجِعُ إِلَى سَلَامَةِ الْعِلَّةِ عَنِ النَّقْضِ، وَسَلَامَةُ الْعِلَّةِ عَنْ مُفْسِدٍ وَاحِدٍ لَا يُوجِبُ سَلَامَتَهَا عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ السَّلَامَةِ عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ فَصِحَّةُ الشَّيْءِ لَا تَكُونُ بِسَلَامَتِهِ عَنِ الْمُفْسِدَاتِ بَلْ لِوُجُودِ الْمُصَحِّحِ، وَالْعَكْسُ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْعِلَلِ فَلَا يُؤَثِّرُ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ سُلِّمَ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى انْفِرَادِهِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ بِتَقْدِيرِ الِاجْتِمَاعِ، وَدَلِيلُهُ أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ اسْتِقْلَالِ الْمَجْمُوعِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ: إِنَّ الصُّوَرَ الَّتِي دَارَ الْحُكْمُ فِيهَا مَعَ الْوَصْفِ وُجُودًا وَعَدَمًا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُتَمَايِزَةً بِصِفَاتٍ خَاصَّةٍ بِهَا، وَإِلَّا كَانَتْ مُتَّحِدَةً لَا مُتَعَدِّدَةً.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَصْفَ الْخَاصَّ بِكُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فِي الْعِلَّةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، وَيَجْعَلَ الْعِلَّةَ فِي كُلِّ صُورَةٍ مَجْمُوعَ الْوَصْفَيْنِ، وَهُمَا: الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ وَالْوَصْفُ الْخَاصُّ بِهَا، وَهِيَ مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ ; إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّرْجِيحُ لِلتَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لِكَوْنِهِ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ مَجَارِي الْحُكْمِ، فَيَكُونُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْمُرَكَّبِ مِنَ الْوَصْفِ الْخَاصِّ وَالْمُشْتَرَكِ.

(3/299)


فَإِنْ قِيلَ: بَلِ التَّعْلِيلُ بِالْمُرَكَّبِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَعَدُّدِ مَدَارِكِ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنِ اتِّحَادِهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنَ الْحُكْمِ، فَهُوَ مُقَابَلٌ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ يَكُونُ مُنْعَكِسًا بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْمُرَكَّبِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ فِي كُلِّ صُورَةٍ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْمُطَّرِدِ الْمُنْعَكِسِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْمُطَّرِدِ الَّذِي لَا يَنْعَكِسُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْمُرَكَّبِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ فِي كُلِّ صُورَةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَاصِرًا، وَالتَّعْلِيلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ أَوْلَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا وَالِاخْتِلَافِ فِي الْقَاصِرَةِ.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: مُجَرَّدُ الدَّوَرَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ وَصْفًا مُلَازِمًا لِلْعِلَّةِ وَلَيْسَ هُوَ الْعِلَّةَ، وَذَلِكَ كَالرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ الْمُلَازِمَةِ لِلشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّعَرُّضِ لِانْتِفَاءِ وَصْفِ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ أَوْ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِقَالُ مِنْ طَرِيقَةِ الدَّوَرَانِ إِلَى طَرِيقَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَهُوَ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الدَّوَرَانَ قَدْ وُجِدَ فِيمَا لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، كَدَوَرَانِ أَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ الْمُتَعَاكِسَيْنِ كَالْمُتَضَايِفَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا عِلَّةً لِلْآخَرِ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الدَّوَرَانَ كَمَا وُجِدَ فِي جَانِبِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ فَقَدْ وُجِدَ فِي جَانِبِ الْوَصْفِ مَعَ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ عِلَّةً لِلْوَصْفِ.
فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ مُطْلَقَ الدَّوَرَانِ دَلِيلٌ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِيَلْزَمَ مَا قِيلَ، بَلْ بِقُيُودٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ ذَلِكَ الْأَثَرِ مُرَتَّبًا عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ تَرَتُّبًا عَقْلِيًّا بِحَيْثُ يُصَدَّقُ قَوْلُ الْقَائِلِ: وُجِدَ هَذَا الشَّيْءُ فَحَدَثَ ذَلِكَ الْأَثَرُ، وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِخُرُوجِ هَذَا الْوَصْفِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَمُوجِبًا لِحُدُوثِ ذَلِكَ الْأَثَرِ، وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِوُجُودِ عِلَّةٍ أُخْرَى لِهَذَا الْحُكْمِ سِوَى هَذَا الْوَصْفِ. وَمَهْمَا وُجِدَ الدَّوَرَانُ عَلَى هَذِهِ الْقُيُودِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْعِلِّيَّةِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا دُعِيَ الْإِنْسَانُ بِاسْمٍ فَغَضِبَ مِنْهُ وَإِذَا لَمْ يُدْعَ بِهِ لَمْ يَغْضَبْ، وَرَأَيْنَا ذَلِكَ مِنْهُ مِرَارًا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ هُوَ سَبَبُ الْغَضَبِ حَتَّى أَنَّ الصِّبْيَانَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَتْبَعُونَهُ فِي الدُّرُوبِ دَاعِينَ لَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ الْمُغْضِبِ لَهُ.

(3/300)


وَالدَّوَرَانُ بِهَذِهِ الْقُيُودِ مُتَحَقِّقٌ فِي السُّكْرِ مَعَ التَّحْرِيمِ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً وَخُرِّجَ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ مِنَ الرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ حَيْثُ قَطَعْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةً، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ، وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَرْتِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْآخَرِ فِي الْوُجُودِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي نِسْبَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْوَصْفِ، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا إِذَا ظَهَرَ ثَمَّ عِلَّةٌ مُغَايِرَةٌ لِلْمَدَارِ.
قُلْنَا: إِذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ قُيُودِ صِحَّةِ دَلَالَةِ الدَّوَرَانِ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ ذَلِكَ الْأَمْرِ مُرَتَّبًا عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ: فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ يَتَعَقَّبُ وُجُودَ الْوَصْفِ، أَوْ أَنَّهُ أَمَارَةٌ عَلَيْهِ أَوْ بَاعِثٌ عَلَيْهِ، أَوْ مَعْنًى آخَرَ. وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ ; إِذِ الْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي شَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ تَكُونُ سَابِقَةً فِي الْوُجُودِ عَلَى وُجُودِ سَبَبِهَا، وَالثَّانِي أَيْضًا مُمْتَنِعٌ ; إِذِ الْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهِيَ فَلَا تَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ: فَإِمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ مَعْنَى يَقْتَضِي كَوْنَهُ بَاعِثًا عَلَى الْحُكْمِ مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ شَبَهٍ، أَوْ لَا يَظْهَرَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَكُونُ بَاعِثًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْمُنَاسَبَةُ مَعَ قِرَانِ الْحُكْمِ بِهَا كَافٍ فِي التَّعْلِيلِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الدَّوَرَانِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَرِدُ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ.
قُلْنَا: مَا ذَكَرُوهُ مِنْ دَوَرَانِ غَضَبِ الْإِنْسَانِ مَعَ دُعَائِهِ بِبَعْضِ الْأَسْمَاءِ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ لَا نُسَلِّمُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِكَوْنِ ذَلِكَ الِاسْمِ عِلَّةً، بَلْ بِهِ أَوْ بِمُلَازِمِهِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عِلَّةً مَعَ ظُهُورِ انْتِفَاءِ الْمُلَازِمِ، وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ التَّمَسُّكُ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ أَوْ بِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الِانْتِقَالُ مِنْ طَرِيقَةِ الدَّوَرَانِ إِلَى طَرِيقَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي التَّعْلِيلِ.
وَقَدْ تَرِدُ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ أُخْرَى مَشْهُورَةُ الْجَوَابِ آثَرْنَا الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِهَا اكْتِفَاءً فِي إِبْطَالِ الدَّوَرَانِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالدِّقَّةِ.
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْعِلِّيَّةِ، فَالِاطِّرَادُ بِانْفِرَادِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ الِاطِّرَادَ عِبَارَةٌ عَنِ السَّلَامَةِ عَنِ النَّقْدِ الْمُفْسِدِ، وَالسَّلَامَةُ عَنْ مُفْسِدٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلتَّصْحِيحِ.

(3/301)


[خَاتِمَةُ فِي أَنْوَاعِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْعِلَّةُ]
الْخَاتِمَةُ
فِي أَنْوَاعِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْعِلَّةُ. (1) وَلَمَّا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمِ وَمَنَاطَهُ فَالنَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِيهِ إِمَّا فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ أَوْ تَنْقِيحِهِ أَوْ تَخْرِيجِهِ.
أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فَهُوَ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا فِي نَفْسِهَا (2) وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوِ اسْتِنْبَاطٍ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالنَّصِّ، فَكَمَا فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ اسْتِقْبَالِهَا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِإِيمَاءِ النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَكَوْنُ هَذِهِ الْجِهَةِ هِيَ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فِي حَالَةِ الِاشْتِبَاهِ، فَمَظْنُونٌ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْأَمَارَاتِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً بِالْإِجْمَاعِ فَكَالْعَدَالَةِ، فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الشَّخْصِ عَدْلًا فَمَظْنُونٌ بِالِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَظْنُونَةً بِالِاسْتِنْبَاطِ، فَكَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فَإِنَّهَا مَنَاطُ تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِي الْخَمْرِ (3) فَالنَّظَرُ فِي مَعْرِفَتِهَا فِي النَّبِيذِ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ، وَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ (4) ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيهِ فِيمَا إِذَا كَانَ مَدْرَكُ مَعْرِفَتِهَا الِاسْتِنْبَاطُ.
_________
(1) مَنَاطُ الْحُكْمِ وَمُتَعَلِّقُهُ كَمَا يَكُونُ عِلَّةً مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً يَكُونُ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، فَتَفْسِيرُ الْمَنَاطِ بِالْعِلَّةِ تَفْسِيرٌ لَهُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ.
(2) تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ قَدْ يَكُونُ بِتَطْبِيقِ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَنْصُوصَةِ أَوِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فِي آحَادِ الصُّوَرِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، فَتَعْرِيفُ الْآمِدِيِّ لَهُ بِمَا ذَكَرَ تَعْرِيفٌ بِالْأَخَصِّ.
(3) مَنَاطُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مَنْصُوصٌ لَا مُسْتَنْبَطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ. "
(4) وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي تَحْقِيقِ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ.

(3/302)


وَأَمَّا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ فَهُوَ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ مَا دَلَّ النَّصُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِحَذْفِ مَا لَا مُدْخَلَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ مِمَّا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْأَوْصَافِ، كُلُّ وَاحِدٍ بِطَرِيقَةٍ (1) كَمَا عُلِمَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْوِقَاعِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُومَى إِلَيْهِ بِالنَّصِّ غَيْرَ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي مَعْرِفَتِهِ عَيْنًا إِلَى حَذْفِ كُلِّ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْأَوْصَافِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُبَيَّنَ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْرَابِيًّا وَكَوْنَهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا، وَأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَذَلِكَ الشَّهْرِ بِخُصُوصِهِ، وَذَلِكَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ، وَكَوْنَ الْمَوْطُوءَةِ زَوْجَةً وَامْرَأَةً مُعَيَّنَةً لَا مُدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ، بِمَا يُسَاعِدُ مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَنْ وَطَأَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا وَهُوَ مُكَلَّفٌ صَائِمٌ. وَهَذَا النَّوْعُ وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ فَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ فَهُوَ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي إِثْبَاتِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ النَّصُّ أَوِ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ دُونَ عِلِيَّتِهِ.
وَذَلِكَ كَالِاجْتِهَادِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَوْنِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُحَدَّدِ (2) ، وَكَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةَ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْبُرِّ وَنَحْوِهِ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا سِوَاهُ فِي عِلَّتِهِ، وَهَذَا فِي الرُّتْبَةِ دُونَ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ.
_________
(1) بِطَرِيقَةٍ - الصَّوَابُ بِطَرِيقِهِ، بِالْهَاءِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ إِلْغَاءُ كُلِّ وَصْفٍ بِطَرِيقَةٍ خَاصَّةٍ بَلْ قَدْ تَجْتَمِعُ أَوْصَافٌ فِي الْحَذْفِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ.
(2) تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مَنْصُوصُ الْعِلَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) وَلِلْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ.

(3/303)