الإحكام في أصول الأحكام للآمدي [الْبَابُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحَاتِ
الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْحُدُودِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى
الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ التَّصَوُّرِيَّةِ]
الْبَابُ الثَّانِي
فِي التَّرْجِيحَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْحُدُودِ
الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ
التَّصَوُّرِيَّةِ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُدُودَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا
مُنْقَسِمَةٌ إِلَى عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ، كَانْقِسَامِ
الْحُجَجِ، غَيْرَ أَنَّ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ غَرَضُنَا
هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ السَّمْعِيَّةُ.
وَمِنَ السَّمْعِيَّةِ مَا كَانَ ظَنِّيًّا، وَعِنْدَ
تَعَارُضِ الْحَدَّيْنِ السَّمْعِيَّيْنِ فَقَدْ يَقَعُ
التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُشْتَمِلًا عَلَى
أَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ نَاصَّةٍ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ
مِنْ غَيْرِ تَجَوُّزٍ وَلَا اسْتِعَادَةٍ وَلَا اشْتِرَاكٍ
وَلَا غَرَابَةٍ وَلَا اضْطِرَابٍ وَلَا مُلَازَمَةٍ، بَلْ
بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ (1) بِخِلَافِ
الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ
وَأَبْعَدَ عَنِ الْخَلَلِ وَالِاضْطِرَابِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ فِي أَحَدِهِمَا
أَعْرَفَ مِنَ الْمُعَرَّفِ فِي الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى
لِكَوْنِهِ أَفْضَى إِلَى التَّعْرِيفِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعَرَّفًا بِالْأُمُورِ
الذَّاتِيَّةِ وَالْآخَرُ بِالْأُمُورِ الْعَرَضِيَّةِ (2) ،
فَالْمُعَرَّفُ بِالْأُمُورِ الذَّاتِيَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ
مُشَارِكٌ لِلْمُعَرَّفِ بِالْأُمُورِ الْعَرَضِيَّةِ فِي
التَّمْيِيزِ وَمُرَجَّحٌ عَلَيْهِ بِتَصْوِيرِ مَعْنَى
الْمَحْدُودِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدَّيْنِ أَعَمَّ مِنَ
الْآخَرِ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْأَعَمُّ أَوْلَى
لِتَنَاوُلِهِ مَحْدُودَ الْآخَرِ وَزِيَادَةً، وَمَا كَانَ
أَكْثَرَ فَائِدَةً، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ
الْأَخَصَّ أَوْلَى؛ نَظَرًا إِلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَدْلُولَ الْآخَرِ مِنَ الزِّيَادَةِ
مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَا مَدْلُولُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
أَوْلَى.
_________
(1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 163 ج 4.
(2) تَقْسِيمُ الْكُلِّيِّ إِلَى ذَاتِيٍّ وَعَرَضِيٍّ
مُجَرَّدُ دَعْوَى، وَقَدِ اعْتَرَفَ مَنْ كَتَبَ مِنَ
الْعُلَمَاءِ فِي الْمَنْطِقِ وَفِي الْمَقُولَاتِ بِأَنَّ
الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ عَسِيرٌ، انْظُرِ
الرَّدَّ عَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ لِابْنِ تَيْمِيَةَ.
(4/282)
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ
أُتِيَ فِيهِ بِجَمِيعِ ذَاتِيَّاتِهِ وَالْآخَرُ بِبَعْضِهَا
مَعَ التَّمْيِيزِ، فَالْأَوَّلُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ
أَشَدُّ تَعْرِيفًا.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا النَّقْلَ السَّمْعِيَّ
وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، فَالْمُوَافِقُ يَكُونُ أَوْلَى
لِبُعْدِهِ عَنِ الْخَلَلِ، وَلِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى
الظَّنِّ.
السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ اكْتِسَابِ أَحَدِهِمَا
أَرْجَحَ مِنْ طَرِيقِ اكْتِسَابِ الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى؛
لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ.
الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِلْوَضْعِ
اللُّغَوِيِّ وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، أَوْ أَنَّهُ
أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ وَالْآخَرُ أَبْعَدُ،
فَالْمُوَافِقُ أَوْ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُوَافَقَةً لِلْوَضْعِ
اللُّغَوِيِّ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا
هُوَ التَّقْرِيرُ دُونَ التَّغْيِيرِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ
إِلَى الْفَهْمِ وَأَسْرَعَ إِلَى الِانْقِيَادِ، وَلِهَذَا
كَانَ التَّقْرِيرُ هُوَ الْغَالِبَ، وَكَانَ مُتَّفَقًا
عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّغْيِيرِ فَكَانَ أَوْلَى.
التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِمَّا قَدْ ذَهَبَ
إِلَى الْعَمَلِ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَوِ الْخُلَفَاءُ
الرَّاشِدُونَ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ أَوْ وَاحِدٌ
مِنَ الْمَشَاهِيرِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ
وَالثِّقَةِ بِمَا يَقُولُ، بِخِلَافِ الْآخَرِ فَهُوَ أَوْلَى
لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَأَقْرَبَ إِلَى
الِانْقِيَادِ.
الْعَاشِرُ: أَنْ يَلْزَمَ مِنَ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا
تَقْرِيرُ حُكْمِ الْحَظْرِ وَالْآخَرِ تَقْرِيرُ الْوُجُوبِ
أَوِ الْكَرَاهَةِ أَوِ النَّدْبِ، فَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ
تَقْرِيرُ الْحَظْرِ أَوْلَى لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي
الْحُجَجِ.
الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَلْزَمَ مِنْ أَحَدِهِمَا تَقْرِيرُ
حُكْمِ النَّفْيِ وَالْآخَرِ الْإِثْبَاتِ، فَالْمُقَرَّرُ
لِلنَّفْيِ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ فِي الْحُجَجِ.
الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَلْزَمَ مِنْ أَحَدِهِمَا تَقْرِيرُ
حُكْمٍ مَعْقُولٍ وَمِنَ الْآخَرِ حُكْمٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ،
فَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْرِيرُ حُكْمٍ مَعْقُولٍ أَوْلَى
لِمَا سَبَقَ فِي الْحُجَجِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَلْزَمَ مِنْ أَحَدِهِمَا دَرْءُ
الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ وَمِنَ الْآخَرِ إِثْبَاتُهُ،
فَالدَّارِئُ لِلْحَدِّ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ أَيْضًا.
(4/283)
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ
أَحَدُهُمَا يُلَازِمُهُ الْحُرِّيَّةُ أَوِ الطَّلَاقُ،
وَالْآخَرُ يُلَازِمُهُ الرِّقُّ أَوْ إِبْقَاءُ النِّكَاحِ،
فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْحُجَجِ.
وَقَدْ يَتَشَعَّبُ مِنْ تَقَابُلِ هَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ
تَرْجِيحَاتٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ لَا
تَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلِهَا.
وَهَذَا آخِرُ مَا أَرَدْنَاهُ وَنِهَايَةُ مَا رَتَّبْنَاهُ.
اللَّهُمَّ! فَكَمَا أَلْهَمْتَ بِإِنْشَائِهِ وَأَعَنْتَ
عَلَى إِنْهَائِهِ، فَاجْعَلْهُ نَافِعًا فِي الدُّنْيَا
وَذَخِيرَةً صَالِحَةً فِي الْأُخْرَى، وَاخْتِمْ
بِالسَّعَادَةِ آجَالَنَا، وَحَقِّقْ بِالزِّيَادَةِ
آمَالَنَا، وَاقْرِنْ بِالْعَافِيَةِ غُدُوَّنَا وَآصَالَنَا،
وَاجْعَلْ إِلَى حِصْنِكَ مَصِيرَنَا وَمَآلَنَا، وَتَقَبَّلْ
بِفَضْلِكَ أَعْمَالَنَا إِنَّكَ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ،
وَمُفِيضُ الْخَيْرَاتِ، وَالْحَمْدُ اللَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ
خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ
وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
(4/284)
|