الأشباه والنظائر للسبكي كتاب الزكاة:
قاعدة: كل حق مالي وجب بسببين يختصان به فإنه جائز تعجيله
قاعدة: كل حق مالي وجب بسببين -يختصمان به؛ فإنه جائز تعجيله
بعد وجود أحدهما، وعبر الإمام في "النهاية" في الحج، في باب
صوم المتمتع -عن هذا بقوله: "كل كفارة مالية نيطت بسببين فيجوز
تقديمها على السبب الثاني إذا تقدم الأول، قياسا على كفارة
اليمين؛ فإنها إذا كانت مالية، جاز تقديمها على الحنث. انتهى.
وإن وجب بسبب وشرط، جاز تعجيله بعد وجود السبب.
وهذا أوضح، فإنه إذا قدم على السبب الثاني -وهو سبب- فإن تقدم
على الشرط أولى وأحرى.
وما وجب بثلاثة أسباب؛ فلا يجوز تقديمه على اثنين منها بل لا
بد من اثنين ثم جائز له تقديمه على الثالث.
وما وجب بسبب واحد، لا يجوز تقديمه عليه.
فهذه ثلاث قواعد نتكلم عنها في شرح الرابطة الأولى.
فنقول: خرج بقولنا: ما لي الحق البدني؛ فإنه إما مؤقت كالصلاة
فلا يقدم على وقته، وجمع التقديم ليس بتقديم على الوقت، بل هو
الوقت في تلك الحالة.
والصبي إذا بلغ في أثناء الوقت بعدما صلى تجزيه الصلاة، وليس
فعله تقديما وتعجيلا.
وإما غير مؤقت، كالصيام في الكفارات، والصحيح أنه لا يجوز
تقديمه على سببه، وفي وجه أنه يجوز التكفير بالصوم قبل الحنث،
قال الإمام في الأساليب:
وهو الذي يليق بطريق الأسلوب.
(1/222)
وقولنا يختصان به احتراز عن الإسلام
والحرية؛ فإنهما لا يختصان بما يجب فيه، كزكاة الفطر ليس
للإسلام والحرية بهما خصوصية والزكوات كذلك قبل الحج، وأمور
كثيرة.
القول في ذي السببين أو السبب والشرط:
فيه صور:
منها: كفارة اليمين وقد قدمناها عن الإمام، وهي أم المسائل؛
فيجوز إخراجها بعد اليميمن وقبل الحنث؛ لأنها وجبت باليمين
والحنث، ولا تجوز قبل اليمين، لتقديهما على السببين.
ومنها: زكاة الفطر يجوز تعجيلها في جميع رمضان؛ لأنها وجبت
بأمرين يختصان بها، وهما: إدراك رمضان والفطر، ولا يجوز قبل
رمضان، التقديم على السببين.
ومنها زكاة المواشي، والنقدين، والعروض؛ فإنها تجب بسببين
يختصان بها، وهما: الحول والنصاب، فيجوز تعجيلها قبل الحول،
ولا يجوز قبل كمال النصاب، والأصح أنه لا يجوز تعجيل زكاة
عامين؛ لأنه لم يتحقق وجود واحد من السببين بالنسبة إلى العام
الثاني.
ومنها: إراقة دم التمتع بعد الشروع في الحج وقبل العيد جائز
عندنا خلافا لأبي حنيفة حيث قضى بأنه يتأقت بأيام النحر.
وفي جواز الإراقة بعد التحلل من العمرة وقبل الشروع في الحج
قولان أو وجهان: أصحهما الجواز؛ لأنه حق مالي تعلق بسببين،
وهما، الفراغ من العمرة، والشروع في الحج؛ فإذا وجد أحدهما جاز
إخراجه، كالزكاة والكفارة.
ومنها: كفارة القتل تجوز بعد الجرح وقبل الموت، وإن لم يكن
جرحه لم يجز بلا خلاف.
القول في ذي الأسباب:
وفيه صور:
منها: على قول ابن أبي هريرة: الظهار؛ وذلك أن الكفارة بالظهار
إذا وجد العود يجب بالعود والظهار شرط، أو الظهار والعود شرط
أو بهما فيه وجوه. وعلى القول بأن
(1/223)
العود سبب، والظهار شرط قال ابن الرفعة،
ينبغي أن لا يجزئ التكفير قبله قال: وقد حكاه البندنيجي وجها.
وعلى القول بأنهما سببان، لا يجوز تقديمها على الظهار، ويجوز
على العود وذهب ابن أبي هريرة، إلى أنها تجب بثلاثة أسباب: عقد
النكاح، الظهار والعود، ووافق على أنه لا يجوز تقديمها على
الظهار. قال: ولا يجوز تقديمها على الظهار قال: وإن كان بعد
النكاح لبقاء سببين من ثلاثة أسباب.
وحكى صاحب البحر في باب تعجيل الصدقة وجها أنه يجوز تقديمها
على الظهار قال: ولا يجوز تقديم كفارة الجماع في صوم رمضان على
الجماع بلا خلاف.
القول في ذي السبب الواحد:
وله صور؛ منها: تقديم -الشيخ الهرم، والحامل، والمريض، الفدية
على رمضان.
ومنها: لو أراد بالحج تقديم الجزاء على قتل الصيد؛ فإن كان
جرحه فالمذهب الجواز لوجود سبب القتل؛ وإلا فالمذهب أنه لا
يجوز؛ لأنه لم يوجد شيء من أسبابه، والإحرام ليس سبب لوجوب
الجزاء، ومن أصحابنا ومن وجد فيه وجها آخر، وهو ضعيف.
هذا كلام صاحب البحر بنصه.
وأمثلة هذا الفصل تكثر، ويستثنى منه مسألة واحدة: وهي إذا اضطر
المحرم إلى صيد فقد الجزاء؛ فإن الشافعي جوزه قبل الجرح، ليس
لأنه جعل الإحرام أحد سببيه؛ إذ لو كان كذلك قبل الجرح، إذا لم
يضطر إليه، وهذا لا يجوز.
قاعدة: قال الشيخ أبو حامد: المبادلة توجب استئناف الحول في
الزكاة إلا في أربع مسائل:
إحداها: إذا باع سلعة للتجارة، بسلعة للتجارة.
والثانية: إذا باع سلعة للتجارة بأحد النقدين وكان نصابا.
والثالثة: إذا باع سهما من سلعة للتجارة بأحد النقدين [وكان] 1
نصابا.
__________
1 في "ب" وذلك.
(1/224)
والرابعة: إذا بادل دراهم بدنانير، أو
دنانير بدراهم على الصحيح.
قاعدة: قال الشيخ أبو حامد: "لا يجب في عين واحدة زكاتان"1 إلا
في ثلاث مسائل:
منها: العبد المسلم للتجارة، تجب في زكاة التجارة والفطر.
قلت: هنا من الزكاة نوعان مختلفان.
ومنها: من له نصاب وعليه دين بمثله يعني؛ فأظهر الأقوال وجوب
الزكاة.
قلت: لكن الذي وجبت فيه الزكاة على المدين هو النصاب الذي في
يده، والذي وجبت فيه الزكاة على رب الدين والنصاب الذي في ذمة
المدين؛ فلا عين واحدة فيها زكاتان، بل عين ودين، ولذلك كان
الصحيح -تفريعا على أن الدين يمنع الزكاة- أن سببه ضعف ملك
المدين، لا التأدية إلى تثنية الزكاة.
ومنها: واجد اللقطة إذا تملكها بعد التعريف ممن عليه زكاتها
-على الأصح، وعلى صاحبها -أيضا- زكاتها.
قلت: ليس على صاحبها زكاتها إذا تملكها الملتقط؛ لكن قال
الأصحاب إنه يستحق قيمتها على الملتقط -قالوا: ففي وجوب زكاة
القيمة عليه خلاف من وجهين:
أحدهما كونه دينا.
والثاني: كونه مالا ضالا.
وزاد الرافعي: كونه معرضا للسقوط؛ لأن الملتقط لو رد اللقطة
يعين على المالك القبول، وفي تمكن المالك من استردادها -قهرا-
خلاف، الأصح له ذلك.
قلت: فظهر أن العين الواحدة ليس فيها زكاتان؛ إلا في عبد
التجارة حيث تجب فيه -مع زكاة التجارة- زكاة الفطر، وموردهما
مختلف وهما نوعان.
قاعدة: يعتبر الحول في الزكاة إلا في مسائل:
منها2:
__________
1 الأشباه والنظائر للسيوطي ص444.
2 بياض في النسختين "أ" "ب" وتكميلا للفائدة قلت ومنها نتاج
النصاب؛ فإنه يزكي بحول أمه بشروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون الأصل نصابا.
الثاني: أن يكون متولدا منها.
الثالث: أن يوجد قبل الحول؛ فإن فقد شرط منها لم يزل بحول
الأصل، وتؤخذ زكاتها منها صغيرة كالمريضة من المراض فيؤخذ من
خمس =
(1/225)
فائدة: تكون الأرض خراجية في صورتين.
إحداهما: أن يفتح الإمام بلدا -قهرا- ويقسمها بين الغانمين، ثم
يعوضهم عنها، ثم يقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجا.
والثانية: إن فتح بلدا -صلحا- على أن تكون الأرض للمسلمين،
ويسكنها الكفار بخراج معلوم؛ فالأرض تكون فيئا للمسلمين،
والخراج عليها أجرة، لا تسقط بإسلامهم.
وكذا: إذا انجلى الكفار عن بلدة، وقلنا: إن الأرض تصير وقفا
على مصالح المسلمين، فيضرب عليها خراج، يؤديه كل من يسكنها،
مسلما كان أم ذميا؛ فأما إذا فتحت -صلحا ولم يشترط كون الأرض
للمسلمين، ولكن تسكن بخراج، فهذه جزية -تسقط بالإسلام.
وأما البلاد التي فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين وثبتت في
أيديهم وكذا التي أسلم أهلها عليها، والأرض التي أحياها
المسلمون؛ فكلها عشرية وأخذ الخراج منها ظلم لا يقوم مقام
العشر؛ فإن أخذه الإمام على أن يكون بدلا عن العشر فهو كأخذ
القيمة بالاجتهاد، والأصح سقوط الفرض به.
قاعدة: من وجبت عليه فطرته كل من تلزمه نفقته إذا كانوا مسلمين
ووجد ما يؤدي عنهم إلا في مسائل1.
منها: زوجة أبيه التي تلزمه نفقتها، ومستولدته لا يلزمه فطرتها
على الأصح.
ومنها: زوجة الابن لا تجب فطرتها وإن أوجبنا نفقتها.
__________
= وعشرين فصيل ومن ست وثلاثين فصيل ومن أربعين فصيل بالنسبة
إلى المخرج منه.
ومنها: ربح مال التجارة إن لم ينص ومنها المعدن؛ سواء كان في
أرض مباحة أو مملوكة له، ولو ملك منه دون نصاب وعنده من جنسه
نصاب أو دونه ولم يتم حول فيما عنده؛ فالأصح الضم حتى يخرج
واجب المعدن في الحال لتشابه الزكاتين في اتحاد المتعلق، ومنها
الركاز الذي ملك منه نصابا وجب خمسة في الحال.
انظر الشرح الكبير 5/ 381-6/ 96 الروضة 2/ 269.
1 الأشباه للسيوطي 444، الاعتناء/ باب زكاة الفطر.
(1/226)
ومنها: البائن الحامل، إذا قلنا: النفقة
للحمل، لا تجب فطرته1.
ومنها: خادم الزوجة إذا كانت ممن تخدم، صحح الإمام أنه لا تجب
فطرتها وإن كانت نفقتها واجبة.
قاعدة: من وجبت نفقته على غيره وجبت عليه فطرته وإلا فلا.
قاعدة: قال الشيخ أبو حامد: لا تؤخذ القيمة في الزكاة إلا في
أربع مسائل:
إحداها: أموال التجارة.
الثانية: في الجبران في الشاتين، أو العشرين درهما.
الثالثة: في أصناف الثمار بالقيمة، نعني إذا اختلف أنواع
الزروع والثمار، وفي المسألة أقوال أربعة.
الرابعة: في الشاة عن خمس من الأبل.
قلت: يعني إذا لم توجد قيمتها، وكذلك لو وجبت بنت مخاض أو ابن
لبون ولم يجدهما -لا في ماله، ولا الثمن- فإنه يعدل إلى
القيمة.
قلت: وبقيت صور.
منها: إذا اجتمع في ماله فرضان:
كالمائتين فيها أربع حقائق، أو خمس بنات لبون، وكانا عنده بصفة
الإجزاء؛ فالمذهب أنه يجب إخراج الأغبط للمساكين -فإن أخرج غير
الأغبط كان الفصل يسيرا، لا يمكنه أن يشتري به جزءا، تصدق
بالدراهم، وكذا إن أمكنه في الأصح، لسوء المشاركة.
ومنها: لو قطعت الثمار رطبة، للخوف من العطش، وقلنا بالأصح أنه
لا يجوز قسمها مقطوعة- جاز أخذ قيمة العشر في وجه.
ومنها: لو ضمن الزكاة بتلفها بعد التمكن أو إتلافها، فقضية
كلام الرافعي
__________
1 الشرح الكبير 6/ 140 قال النووي في الروضة، الذي قطع به
الأكثرون أن وجوب الفطرة مبني على الخلاف في أن النفقة للحامل
أو للحمل إن قلنا للحامل وجبت؛ وإلا فلا، وهذا مبني على ما إذا
كانت الزوجة حرة؛ فإن كانت أمة وقلنا النفقة للحمل فلا فطرة
لأنه ملك للسيد وإن قلنا للحامل وجبت سواء رجحنا الطريق الأول
أو الثاني؛ فالمذهب الوجوب لأن النفقة للحامل على الأظهر. شرح
المهذب 6/ 117، الشرح الكبير 6/ 141-142.
(1/227)
والنووي إيجاب القيمة في المتقوم، كقيمة
شاة في خمس من الإبل وصحح الشيخ الإمام الوالد -رحمه الله- أن
الواجب كما كان قبل التلف، فيضمن شاة.
ومنها: قال الإمام -في آخر باب النية، في الصدقة: لو وجبت شاة
ثم تلف الأربعون بعد الإمكان وعسر الوصول إلى الشاة ومشت حاجة
المساكين.
فالظاهر عندي أنه يخرج القيمة للضرورة الداعية، كما لو أتلف
مثليا ثم أعوزه.
قاعدة: ذكرها الأصحاب في كتاب الصيام الحقوق المالية الواجبة
لله تعالى ثلاثة أضرب:
ضرب يجب لا بسبب من العبد؛ فإذا عجز عنه، وقت الوجوب لا يثبت
في الذمة؛ بل يسقط وذلك كزكاة الفطر.
وضرب: يجب بسبب من جهته -على سبيل البدل- فيثبت في الذمة،
تغليبا لمعنى الغرامة، كجزاء الصيد، ولم يستثن صاحب التقريب
جزاء الصيد.
قال الإمام: وترك استثنائه منه غفلة.
قال: ولا ينبغي أن يعتقد فيه خلاف.
قلت: وكذلك فدية الحلق في الحج.
وضرب: يجب بسبه -لا على وجه البدن- فقولان:
أصحهما: أنه يثبت في الذمة إلحاقا بجزاء الصيد لأنها مؤاخذة
على فعله، قال الرافعي: فعلى هذا متى قدر على إحدى الخصال
لزمته.
والثاني: أنه يسقط عند العجز كزكاة الفطر، واحتج له بأنه صلى
الله عليه وسلم لما أمر الأعرابي [أن] 1 يطعمه أهله وعياله في
حديث2 المجامع لم يأمره بالإخراج في ثاني الحال، ولو وجب ذلك
لأشبه أن يبين [له] 3.
__________
1 في "ب" بأن.
2 انظر البخاري 4/ 163 في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان
"1936"، وفي 10/ 503 في كتاب الأدب/ باب التبسم والضحك "6087"
وفي 11/ 595-596 في كتاب كفارات الأيمان حديث "6709" وحديث
"6710" وحديث "6711" ومسلم 2/ 781-782 في الصيام/ باب تغليظ
تحريم الجماع في نهار رمضان "81/ 111".
3 سقط في "ب".
(1/228)
قال الرافعي: ولمن رجح الثاني أن يقول: لم
قلت أن المصروف إلى الأهل لم يقع تكفيرا؛ فإنا روينا وجها
مجوزا له عند الفقر.
وإن سلمنا ذلك، ولكن يحمل أن يكون الفرض باقيا في ذمته، ولم
يبين له ذلك؛ لأن حاجته إلى معرفة الوجوب؛ إنما تمس عند
القدرة، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز.
قلت: وأوضح من دعوى تأخير البيان إلى وقت الحاجة، أن يقال لم
يؤخر البيان، بل بين حيث أمر بالصدقة.
ومن ثم قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله: في الحديث ما يدل
للوجه الصحيح؛ لأن الرجل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعجزه
عن الثلاث، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بفرق من تمر؛
فقال: خذ هذا، فتصدق به ولو لم تكن استقرت في ذمته لما أمره
بالصدقة.
وكلام الشيخ الإمام -رحمه الله- هذ- متين، وبه يقع الانفصال
على أمرين.
أحدهما: أن الرافعي قال: إنه لا يمكن الاستدلال بخبر الأعرابي
على الجمع في هذه الصورة -يعني على السقوط- وفي صورة صرف
الكفارة إلى الأهل والعيال على الجواز؛ وإنما يمكن الاستدلال
به في أحدهما لأن المأمور بصرفه إلى الأهل والعيال إما أن يكون
كفارة أو لا يكون.
إن كان: لم يصح الاستدلال به في هذه الصورة.
وإن لم يكن: لم يصح في الصورة السابقة.
قال الشيخ الإمام: قول الرافعي -إن كان كفارة ل يصح الاستدلال
به في هذه الصورة ممنوع؛ لأن وقت الوجوب كان قد تقدم؛ فلو سقطت
بالعجز حال الوجوب لما صرفت بعد ذلك، فالمأمور بصرفه إلى
العيال إن كان كفارة صح الاستدلال بصرفه، والأصح الاستدلال
بالأمر -قبل ذلك- بالتصدق به انتهى.
وأقول: هذا -على حسنه- لا يلاقي كلام الرافعي؛ لأن مراد
الرافعي بتقدير كونه كفارة -أنه لا يصح الاستدلال به في الصورة
على عدم السقوط؛ فإن الرافعي لم يذكر أن في الحديث دلالة على
البتة؛ وإنما ذكر ذلك الشيخ الإمام ولا شك أنه متى كان كفارة
دل على عدم السقوط، ومتى دل على عدم السقوط لم يستدل به على
السقوط لأن بينهما تنافيا".
(1/229)
فكلام الشيخ الإمام صحيح؛ ولكن على طريقته،
وهي أن الحديث أن الحديث يدل على عدم السقوط: وكلام الرافعي
صحيح ولكن على طريقته، وهي أن بعضهم احتج به للسقوط ولم يتحدث
الرافعي في دلالته على عدم السقوط البتة؛ بل غايته أنه دفع
الاحتجاج به على السقوط، أما أنه بقيمه دليلا للثبوت فلا.
الأمر الثاني:
أن الإمام قال: بعدما حكى تردد الإصحاب في أن العلة إذا أفرطت
تكون عذرا في ترك الصيام، أي الصيام الكفارة، وفي جواز صرفها
إلى العيال الرأي عندنا إلحاق قصة الإعرابي برخصة خص الشارع
بها معينا، وكثيرا ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذلك، وهذا نحو قوله1 صلى الله عليه وسلم في قصة الأضحية "تجزئ
عنك، ولا تجزئ عن أحد بعدك"، وجرى مثل ذلك في إرضاع الكبير2؛
وهذا -وإن كان على بعد- فهو أهون من تشويش أصول الشريعة، لقصة
نقلها آحاد وأفراد- انتهى.
وحكاه عنه الرافعي، ثم اعترضه بأن مثل هذا التأويل؛ إنما يصار
إليه عند الاضطرار، ولنا عنه مندوحة.
ونعني فنقول: [من] 3 أفسد يوما بالجماع يجب عليه -مع الكفارة-
قضاء اليوم قلنا: روي أنه عليه السلام قال للرجل: "واقض يوما
مكانه"4.
__________
1 البخاري 10/ 22 في الأضاحي/ باب الذبح بعد الصلاة "5560"
مسلم 3/ 1552-1553 في كتاب الأضاحي/ باب وقتها "5/ 1961" 7/
1961 "8/ 1961" "9/ 1961".
2 وهو من حديث عائشة رضي الله عنها أن سالما مولى أبي حذيفة
كان مع أبي حذيفة وأهله من بيتهم؛ فأتت وإني أظن أن في نفس أبي
حذيفة من ذلك شيئا؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:
"أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة"، فرجعت
فقالت إني أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة -مسلم 2/ 1076 في
كتاب الرضاع/ باب رضاعة الكبير "27/ 1453" "26/ 1453".
3 في "ب" فيمن.
4 أبو داود من حديث هشام بن سعد عن الزهري، عن ابن مسلمة، عن
أبي هريرة وأعله ابن جزم بهشام وقد تابعه إبراهيم بن سعد، كما
رواه أبو عوانة في صحيحه والدارقطني من حديث أبي أويس وعبد
الجبار بن عمر، عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة
وهو وهم منهما في إسناده، وقد اختلف في توثيقهما وتخريجهما وله
طريق آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ومن طريق مالك عن
عطاء عن سعيد بن المسيب مرسلا ومن حديث ابن جريج عن نافع بن
جبير مرسلا، ومن حديث أبي معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي
مرسلا، وقال سعيد بن منصور ثنا عبد العزيز بن محمد عن ابن
عجلان عن المطلب بن أبي وداعة عن سعيد بن المسيب جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت امرأتي
في رمضان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تب إلى الله
واستغفره وتصدق واقض يومًا مكانه".
(1/230)
ولا تصرف الكفارة للعيال، ويعتذر عن الحديث
بمثل التأويلات المنقولة عن الإمام، وتستقر في الذمة عند العجز
ويعتذر بما أوردناه -آنفا- عن الرافعي. وأما العدول إلى
الإطعام بعذر شدة الغلمة؛ فهو الأصح جريا على ظاهر الخبر،
فاستغنينا فيه عن التأويل.
هذا حاصل كلام الرافعي، وفيه نظر من وجوه.
أحدها: أن غاية معارضة تأويل الإمام؛ حيث قال: يحتمل ويكون
مخصوصا بصاحب الواقعة -بتأويلات أبداها، وليس أحد التأويلين
أولى من الآخر ما لم يظهر ترجيحه ولم يظهر.
والثاني: إن كلامه كالصريح في أن الحديث يستدل به على الصور
الأربع، ومنها الصورتان المتنافيتان اللتان قدم هو أنه لا يمكن
الاستدلال به إلا في إحداهما.
والثالث: أن قوله في اشتداد الغلمة: الصحيح الجريان على ظاهر
الخبر لا حاجة إلى تأويل. لا يفيد جوابا عن دعوى الإمام -أنه
مشوش لأصول الشريعة، وأن تأويل الحديث وصرفه عن ظاهره أولى من
هدم القواعد؛ إذ لا جواب لهذا الكلام إلا بأن نبين أنه غير
مشوش، لا أن يقال: إذا كان الأصح الإجراء على ظاهر الحديث؛ فلا
حاجة إلى التأويل؛ فطريق الجواب، أن نبين أن القول بظاهر
الحديث جار على منهج قياسي، لا يشوش أصول الشريعة- ولم يبين
ذلك:
فإن قلت: فبقى كلام الإمام شديدًا، لم يقع عنه انفصال، وقد
قدمتم وقوع الانفصال عنه.
قلت: إنما قدمنا وقوع الانفصال عنه في مسألة الاستقراء في
الذمة عند العجز، ووجهه أن الحديث دال على الاستقرار على خلاف
ما فهمه المخالفون.
وأما في مسألة الغلمة فلا وجه إلى التأويل الذي أبداه الإمام،
والتزم أنه لا يجوز
(1/231)
العدول إلى الإطعام لغير ذلك المجامع، وهي
طريقة الغزالي التي صححها في كتاب "الكفارات".
أو أن يقال: هب أن الحديث معارض بالقياس لكن العمل بظاهر
الحديث أولى من القياس، وهو الأصح في الأصول....
فائدة: كل1 من أتى بأفعال العمرة سقطت عنه عمرة الإسلام، قال
الجرجاني: إلا في مسألتين.
قاعدة: كل دم يتعلق بالإحرام، يجب إراقته في الحرم إلا دم
المحصر في الحل، والدماء اللازمة بارتكاب المحظورات؛ فإنه يجوز
ذبحها في الحل؛ لأنه موضع تحلله؛ فهو كالحرم في حقه.
قاعدة: "كل جملة مضمونة بالمثل يكون النقص الداخل عليها
باجلناية مضمونا بالأرش من القيمة دون المثل".
وفيه مسائل:
منها: لو جرح صيدا "له مثل" عشر قيمته لزمه عشر قيمة المثل، لا
عشر المثل، وقيل: يجب عشر المثل إلا أن يتعذر.
ومنها: الطعام المغضوب إذا بله بالماء أو قلاه بالنار؛ فإن
عليه أرش نقصه من المثل.
__________
1 سقط في "ب".
(1/232)
القول في قواعد ربع
البيع وما لعلنا نورده فيه من غيرها:
فقد أشكلت حقيقة الملك على طوائف من النظار، وزل من قال منهم
"إنه التصرف"؛ لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف، كما أن الولي
يتصرف ولا يملك والمختار في تعريفه: أنه أمر معنوي، وإن شئت
قل: حكم شرعي مقدر في عين أو منفعة يقتضي تمكن من ينسب إليه
انتفاعه به والعوض عنه من حيث هو كذلك.
أما قولنا: "حكم شرعي" فالإجماع عليه، ولأنه تبع الأسباب
الشرعية فيكون حكما شرعيا.
(1/232)
وأما "أنه مقدر؛ فلأنه يرجع إلى تعلق إذن
الشرع، والتعلق عدمي ليس وصفا حقيقيا؛ بل يقدر في العين أو
المنفعة عند تحقق الأسباب المقيدة للملك.
وقلنا: وفي عين أو منفعة لأن المنافع تملك كالأعيان ويورد
عليها عقد الإجارة.
وقولنا: يقتضي انتفاعة ليخرج تصرف القضاة والأوصياء؛ فإنه في
أعيان أو منافع لا يقتضي انتفاعهم1؛ لأنهم لا يتصرفون لانتفاع
أنفسهم، بل لانتفاع المالكين.
وقولنا: "والعوض عنه" يخرج الإباحات في الضيافات؛ فإن الضيافة
مأذون فيها، ولا يملك عوضا عنها.
ويخرج أيضا: الاختصاص بالمساجد، والربط مقاعد الأسواق؛ إذ لا
ملك فيها مع التمكن من التصرف.
وقولنا: من حيث هو كذلك "إشارة إلى أنه قد يتخلف لمانع يعرض
للمحجور عليهم. لهم الملك، وليس لهم التمكن من التصرف لأمر
خارجي؛ فالقبول الذاتي حاصل؛ فلا ينافيه العارض الخارجي.
واعلم أن هذا مختص بالملك المقيد، الذي لا يطلق عليه الملك إلا
توسعا وهو ملك العباد لما ينسب إليهم، والمالك في الحقيقة هو
الله تعالى.
وقد قال أئمتنا: والعبارة لإمام الحرمين في الشامل: لا يتقرر
في حق العباد ملك الرقاب -وإن أطلق توسعا، وتجوزا بعد أن ذكر
أن المرتضي عنده في معنى الملك أن المالك للشيء، ومن يجوز له
فعله إذا كان مقتدرا عليه، ويندرج في ذلك -على ما ذكر- ملك
الله، وملك البشر ذكره في أثناء مسألة خلق الأفعال.
فصل:
إذا عرفت حقيقة الملك فنذكر حقائق ألفاظ يكثر ترددها في ربع
البياعات.
منها: الذمة، وستعرفها في باب الفرائض؛ لأنه بها أمس.
ومنها: الصحة، وقد أغنانا الأصوليون عن تعريفها؛ غير أنا
نعرفك. هنا أن الانعقاد والصحة في هذا الباب عبارتان عن معبر
واحد ولا شك أن الانعقاد أثرها؛ فكأنه
__________
1 في "ب" زيادة وإن شئت قلت.
(1/233)
عبر بالمؤثر عن الأثر وعكسه؛ فكل صحيح
منعقد، وكل منعقد صحيح، ولا يقال في الفاسد: أنه منعقد، إلا
مجازا، فيقال: هذا عقد فاسد؛ حيث لا عقد حقيقي، ولكن صورة عقد.
ومنها: النفوذ وهو عبارة عن انعقاده مؤثرا في المحل مبينا
لحكمه والباطل والفاسد بمعنى واحد عندنا لا ينفذ له حكم. ولا
يثبت.
ومنها: اللازم وهو ما لا يقبل الفسخ، أو ما لا يتمكن من إبطاله
قد يكون من جانبين، وقد يكون من جانب واحد ومنها: الجائز عكس
اللازم.
ومنها: الفسخ، حل ارتباط العقد.
ومنها: الاستقرار، عبارة عن الأمن من سقوط الملك بسبب انفساخ
العقد، أو فسخه؛ فإن الملك مستقر في كل من العوضين بعد قبضه،
وإن لم يؤمن زوال الملك بسبب الفسخ بالعيب.
وفي تعليق البندنيجي أن المستقر ما لا يخشى سقوطه بزوال سببه
كثمن المبيع بعد قبض المبيع -على وجه الصحة- والأجرة بعد
انقضاء المدة، والمهر بعد الدخول، والعوض في الخلع، وقيم
المتلفات، وأروش الجنايات.
فائدة: الإيجاب والقبول هل هما أصلان في العقد، أو الإيجاب هو
الأصل والقبول فرع؟
ورأيت في كلام الشيخ الإمام العلامة شمس الدين بن عدلان1 رحمه
الله حكاية خلاف في ذلك، ولم أر ذلك في كلام غيره، وقد كان
رحمه الله عمدة من عمد المذهب يرجع إليه نقلا وتصرفا.
قال -وعليه بني بعضهم: ما إذا قال المشتري: يعني -فقال البائع:
بعتك، هل
__________
1 محمد بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم بن عدلان بن محمود بن لاحق
بن داود وشيخ الشافعية شمس الدين الكناني المصري المعروف بابن
عدلان، ولد في صفر سنة ثلاث وستين وستمائة، قال الإسنوي كان
فقيها إماما يضرب به المثل في الفقه عارفا بالأصلين والنحو
والقراءات ذكيا نظارا فصيحا يعبر عن الأمور الدقيقة بعبارة
وجيزة مع السرعة والاسترسال دينا سليم الصدر كثير المروءة.
ابن قاضي شهبة 3/ 54، الإسنوي 340، الوافي 2/ 168، حسن
المحاضرة 15/ 341، الدرر الكامنة 3/ 333، شذرات الذهب 6/ 164.
(1/234)
ينعقد؟ إن قلنا: بالأول صح، وإن قلنا
بالثاني لم يصح؛ لأن الفرع لا يتقدم على أصله.
قلت: قاعدة مستنبطة:
كل قبول جائز أن يكون بلفظ قبلت، وباللفظ المحاكي للفظ الإيجاب
أو المرادف للفظ الإيجاب.
فتقول في جواب بعتك، قبلت، أو ابتعت، أو اشتريت، وفي جواب
أنكحتك: قبلت، أو نكحت، أو تزوجت، ونحو ذلك على ما تحرر في
الفقهيات.
ولا يتعين اللفظ المحاكي إلا في مسألة واحدة، وفي غيرها على
خلاف فيه أما المسألة المجزوم بها؛ فإذا قال لها: إن ضمنت لي
ألفا فأنت طالق فلا بد أن تقول: ضمنت -على ما اقتضاه كلام
الإمام والغزالي- ولا يكفي شئت بدل ضمنت -صرح به الأصحاب، ولا
قبلت، صرح بن ابن الرفعة، وناقش فيه الرافعي زاعما أن كلامه
اقتضى أنه يكفي.
والرافعي لم يقتض كلامه ذلك؛ وإنما قال: المراد بالضمان، هنا
القبول والالتزام دون المفتقر إلى أصل فمراده بالقبول الالتزام
-غير معترض على لفظه- نبه عليه الوالد.
وأقول: القول بأن لفظ قبلت لا يكفي، فيه نظر؛ فإن المعلق عليه
هذا الضمان لا لفظه؛ فلم لا يكفي قبلت؟
وأما المختلف فيها.
فمنها: إذا قال: خالعتك بألف: فقالت قبلت الألف، صح.
قال الرافعي: وفي فتاوي القفال، أن أبا يعقوب غلط؛ فقال في حق
المرأة: لا بد أن نقول: اختلعت والأجنبي لا يحتاج إليه.
هذا كلام الرافعي، وأبو يعقوب هو الأبيوردي1 وقد وقفت على
فتاوى
__________
1 يوسف بن محمد أبو يعقوب الأبيوردي، قال المطاوعي تخرج بأبي
طاهر الزيادي وصنف التصانيف السائرة والكتب الفاتنة الساحرة،
وما زالت به حرارة ذهنه وسلاطة وهمه وذكاء قلبه حتى احترق جسده
ومن تصانيفه المسائل تفرغ إليه الفقهاء وتنافس فيه العلماء،
قال السبكي: أحسبه توفي في حدود الأربعمائة ابن قاضي شهبة 1/
199، السبكي 5/ 392، العبادي ص109 معجم المؤلفين 13/ 328.
(1/235)
القفال، وليس فيها زيادة على هذا، وقد فهم
منه الوالد أن أبا يعقوب يشترط لفظ اختلعت ليوافق لفظ خالعت،
وهذا يدل عليه قوله في حق المرأة: لا بد أن تقول: اختلعت؛ غير
أنه يدفعه شيئان.
أحدهما: لفظ الألف في قول الرافعي: قبلت الألف؛ فإنه لو كان
المراد اشتراط لفظ اختلعت دون قبلت لم يحتج إلى ذكر الألف.
والثاني: أنه لو كان المراد توافق اللفظين لم نفرق بين المرأة
والأجنبي؛ فالذي أفهمه من هذا ما فهمه ابن الرفعة في
"المطالب"، وفرق بين المرأة والأجنبي بأن الأجنبي لا يحتاج أن
يقول: اختلعت؛ لأن حظه منه قبول المال فكفى، ولا كذلك الزوجة،
يعني: فإن الطلاق من حيث كونه واقعا عليها لها فيه حظ؛ فاشترط
لفظ من قبلها يدل على قبول العقد، بأن يطلق -قبلت مطلقا غير
مسند إلى المال، أو اختلعت.
وهذا الذي فهمته، هو الذي فهمه شيخنا الأخ أبو حامد "شيخ
الإسلام" سلمه الله وأطل بقاءه فقال فيما كتبه إلي:
القول في شرائط المبيع:
ولهم في عدها اختلاف، والمشهور أنها خمس: أن يكون طاهرا منتفعا
به، مقدورا على تسليمه مملوكا للعاقد أو لمن يقع له العقد،
معلوما.
ومنهم من اكتفى الشروط كانت القدرة زائلة، هذا يؤول إلى الدور.
فإن الغرض تعريف تلك الشروط الشرعية، ولنا هنا لتحقيق العبارة
عن شرائط المبيع؛ فإنا مكتفون بفهمها، متكلمون -بعدها- على
فصول أخر.
فصل:
لا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط؛ وإنما اللازم انتفاء
المشروط عند انتفائه؛ فلا يلزم من اجتماع شروط البيع صحة
البيع، بل لا بد من صفات في العاقد والمعقود عليه، ومع ذلك قد
يمتنع البيع لأسباب أخر؛ إلا أن تلك الأسباب خارجة عن صفات
المبيع والبائع والمشتري والصيغة؛ فلا تلزم اعتمادها عند ذكر
أركان العقد وشروطه.
ويظهر هذا بأنه رب مستجمع لهذه الشروط لا يصح بيعه، وهو في
مسائل:
(1/236)
منها: الأضحية إذا أهدى من لحمها إلى غني
أو تصدق على فقير فهو يملكه، وله التصرف فيه بالهبة والهدية،
ولا يجوز البيع.
فصل:
قد يجوز البيع، ولكن من شخص دون شخص. وهو في مسائل:
منها: بيع رقبة الموصي بمنفعته، ثالث الأوجه وهو الأصح، يصح من
الموصي له دون غيره.
ومنها: بيع المشتري المبيع قبل انقضاء الخيار من البائع صحيح
ومن غيره باطل على خلاف فيه.
ومنها: بيع المفلس -المحجور عليه- من الغرماء، قيل: يصح، وقيل
لا يصح إلا بإذن القاضي، وهو الصحيح.
ومنها: بيع المغصوب من قادر على انتزاعه صحيح على الصحيح، ومن
غيره باطل.
ومنها: بيع الثمرة قبل بدو الصلاح - من مالك الشجرة.
قبل: يصح من غير شرط القطع، والصحيح لا، كما لو باعها من غيره.
ومنها: لو اختلط حمام مملوك بغيره، وعسر التمميز فليس لواحد
منهما التصرف بيع أو هبة من ثالث، أما من الآخر فوجهان:
ومنها: المستعير للغراس والبناء له أن يبيع من المعير وبالعكس،
وللمعير بيع الأرض من ثالث، وفي المستعير وجهان: أضحهما كذلك.
ومنها: بيع المكاتب باطل -على الجديد- إلا أن يبيعه من نفسه
فيصح على [الصحيح] 1.
فصل:
نتكلم فيه على وقف العقود.
__________
1 سقط في "ب".
(1/237)
إذا تحقق انتفاء شرط تحقيق انتفاء الصحة،
وإن شك فيه [يحتمل] 1 القطع بانتفاء الصحة، ويحتمل الشك والوقف
فيها إلى البيان.
مثال الأول: بيع الفضولي يحقق انتفاء الملكية فالجديد بطلانه.
ومثال الثاني: بيع مال الأب على ظن أنه حي فإذا هو ميت، وأكثر
المسائل أنه هل يعتبر الظاهر، أو ما في نفس الأمر؟ وقد قدمناه
في القواعد المطلقة.
غير أنا نقول -هنا- أن القولين فيها وفي بيع الفضولي -يعبر
عنهما بقولي: وقف العقود، ويقال: الوقف وقفان: وقف صحة، كما في
بيع الفضولي على القول به -فالموقوف منه كون العقد صحيحا.
وفاقا للشيخ الإمام، وخلافا للإمام؛ حيث قال: الصحة ناجزة،
والموقوف على الإجازة؛ إنما هو الملك ونقله عن الرافعي ساكتا
عليه.
وقد تكلم الشيخ الإمام [الوالد] 2 رحمه الله في باب التفليس من
تكملة شرح المهذب -على وقف العقود كلاما مبسوطا، أنا ألخصه هنا
مع زيادات.
[فأقول] 3: جعل الإمام -على ما تحصل من كلامه في بيع الغرر،
وفي الكلام على عتق الراهن- الوقف أصنافا بيع الفضولي، وبيع
مال الأب الحي المظنون الحياة، وبيع الغاصب، وبيع الراهن
والمرهون، ويقرب منه بيع المفلس، المريض.
ويظهر أن يقال: إذا أورد العقد على غير قابل لمقصوده فهو باطل
قطعا، ولا وقف فيه كما لو باع خمرا، أو نكح معتدة؛ فلا يقال:
إنه متوقف على تخلله أو انقضاء عدتها، بل يجزم ببطلانه.
وإن كان المعقود عليه قابلا للمورد؛ فهو الذي يدخل فيه الموقف
والتحقيق: أن الوقف وقفان؛ وقف صحة، ووقف تبيين، ولا يلزم من
فساد الأول فساد الثاني؛ إذ الأول أجدر بالفساد.
أما وقف الصحة:
فهو الذي لم يصدر العقد فيه من أهله، أو صدر من أهله؛ ولكن مع
قيام مانع.
ولك أن نقول: هو الموقف على أمر يوجد في المستقبل.
__________
1 في "ب" فيحتمل.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
(1/238)
ثم هو درجات:
[أبعدها عن الصحة ما صدر من غير أهله، وسهل نقضه، وهو بيع
الفضولي والثاني] 1.
ما صدر من غير أهله؛ غير أن نقض صعب كتصرف الغاصب بالبيع
والشراء تصرفات كثيرة عسر تتبعها، والأول أولى بالفساد من
الثاني؛ لأن الضرورة قد تلجئ إلى تصحيح الثاني.
ومن ثم كان لنا قولان: في الجديد في الثاني وليس لنا في بيع
الفضولي؛ إلا قول قديم؛ غير أن الصحيح في البطلان؛ لأن القول
فيه الصحة، مع القول في الفضولي بالبطلان، يفضي إلى اعتبار
الشرط بعد المشروط، وقد أجمع العقلاء على أن الشرط مقدم أو
مقارن.
الثالثة:
ما صدر من أهله غير أن في مانعا يمنع نفوذه كتعلقه برقبة مورد
العقد، وكذا بذمته مع الرقبة على وجه، وهو بيع العبد الجاني،
فالصحيح بطلانه وإن اختار السيد الفداء وفاقا للشيخ الإمام،
وخلافا للبغوي؛ حيث قال: إن اختار الفداء صح.
ولم يذكر الرافعي والنووي سواه، وهو ضعيف؛ لأن اختيار الفداء
لا يلزمه وله الرجوع عنه، ولا ينبغي أن يبطل حق المجني عليه
بالتزامه أن يفرق بين الموسر والمعسر؛ فإن تعلق الحق أن منع
فلا يدفعه اليسار.
وفي التتمة قول: أن بيع الجاني موقوف -كذا عزاه الرافعي إلى
التتمة [وربما قال بعض الناس: لا حاجة إلى عزوة إلى التتمة] 2
وهو القول القديم في بيع الفضولي.
قلت: وقد عرفناك ما تعرف به أن هذا جديد -لا قديم- وأنه مقول
به مع القول ببطلان بيع الفضولي.
الرابعة:
صادر من أهله مع المانع إلا أن المانع فيه دون الجناية؛ وذلك
كبيع المرهون،
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
(1/239)
ففيه ما قدمناه من احتمال الإمام، وفي هبته
وجهان في الجديد وفي عنقه الأقوال المعروفة أصحها الفرق بين
المعسر والموسر:
الخامسة:
صادر من أهله غير أن المانع في غير قوي قوة المانع قبله؛ وذلك
لاحتمال أن يتبين بالآخرة اندفاع الموجب له، وهو كتصرف المفلس؛
فإنه قد تبين بالآخرة أنه لم يمنع حق الغرماء، وليس كالرهن؛
فإنه يتعلق بكل المرهون ومن ثم قال ابن الرفعة في المفلس: إذا
تبين بالآخرة فاضل عن دينه فتبين أن الحجر لم يشمل القدر
الفاضل وخالفه الشيخ الإمام، وقال: بل شمل الكل وهو الارجح
ويشهد بخلافهما اختلاف الأصحاب. في أنه هل ينقض من تصرفاته
الأضعف فالأضعف وهو الصحيح. وفيه دلالة للشيخ الإمام -فالآخر.
السادسة: تصرف المريض فهو أقرب التصرفات إلى الصحة؛ لأنه لا
يحل له الإقدام على التصرف اعتمادا على بقاء الحياة، والمفلس
ممنوع، لمراغمته بالتصرف ما شرع الحجر لأجله.
وهذه فروع مما يلحق بموقف العقود.
منها: إذا قسم الحاكم مال المفلس، ثم ظهر غريم؛ فالظاهر أن
القسمة لا تنقض، ويشارك من ظهر بالحصة، وقيل: تنقض.
فعلى الأول: لو أعسر بعض الآخذين قدر كالعدم وجعل الغريم الآخر
كأنه أخذ كل المال، وقيل: إنما يؤخذ بالحصة.
[ويظهر] 1 هذا الخلاف في بعض الورثة يقر بدين وينكر البعض، هل
يؤخذ من المقر الكل أو بالحصة؟
ومنها: إذا أعتق عبيدا -لا يحتملهم الثلث- فأخرجنا الثلث
بالقرعة ثم ظهر للميت دفين -يخرج جميعهم من الثلث- فيحكم
بعتقهم جميعا، ومن يوم إعتاقهم ترجع إليهم اكسابهم، ولا يرجع
الوارث، بما أنفق عليهم، كمن نكح فاسدا -على ظن الصحة- لا يرجع
بالنفقة ولو ظهر دين مستغرق فالعتق بالقرعة باطل.
__________
1 في "ب" ونظير.
(1/240)
ومنها: إذا باع العدل الرهن بثمن المثل، ثم
زاد راغب قبل التفرق انفسخ البيع -على ما صححه الرافعي وغيره-
فلو بدأ الراغب قبل التمكن من بيعه فالبيع الأول بحاله، أو
بعده؛ فقد ارتفع العقد، فلا بد من عقد جديد، وفي طريقة الصيد
لا في أنا نتبين أن البيع بحاله.
ومنها: جنى على المرهون فعفا على مال فليس للراهن العفو لحق
المرتهن وفي قول: العفو موقوف ويؤخذ المال في الحال لحق
المرتهن؛ فإن انفك الرهن رد إلى الجاني وبان صحة العفو؛ وإلا
بان بطلانه.
ومنها: نكاح المرتابة، وسيأتي.
ومنها: لو قال -عند خوف غرق السفينة: ألق متاعك وأنا الركبان
ضامنون، وقال: أردت إنشاء الضمان عنهم؛ فعن بعض الأصحاب أنهم
إن رضوا به ثبت المال. ونازع فيه الرافعي، وقال: العقود لا
توقف.
ولينظر كلام الإمام في ذلك في باب عقود الضمان.
ومنها: من أسلم من الوثنيين بعد الوطء، انتظرنا إسلام الآخر
[في العدة] 1؛ فإن أسلم فيها استمر النكاح، وإلا تبين حصول
الفرقة من حين إسلامه؛ فلو طلقها قبل تمام العدة فالطلاق
موقوف.
ومنها: أسلمت تحت عبد وثني وعتقت وهي مدخول بها.
ومنها: أسلم من أربع، وتخلف أربع وثنيات تعين الأوليات للفسخ2.
ومنها: عتقت تحت عبد؛ فلها الخيار، والمسألة فيها تخريج
-للإمام- على وقف العقود.
ومنها: خلع المرتدة موقوف إن أسلمت قبل تبين صحته.
ومنها: ذبح أجنبي أضحية معينة بالنذر أو هديا معينا، بعد بلوغ
النسك، وقع الموقع.
وفيه قول قديم أن لصاحب الأضحية أن يجعلها عن الذابح ويغرمه
كمال القيمة، بناء على وقف العقود.
__________
1 في "أ" وبعد المثبت من "ب".
2 وفي "ب" للفسخ على الفور.
(1/241)
فصل:
أما وقف التبين: فهو الذي يصدر العقد فيه من أهله باطنا لا
ظاهرا. وإن شئت. قل: هو الموقوف على أمر تبين وجوده فيما مضى.
ولا يخفى أنه أقرب إلى الصحة من القسم قبله ولذلك كان صحيحا؛
إما جزما وإما على الصحيح.
وفيه مسائل:
منها: بيع مال الأب الميت المظنون الحياة، الصحيح الصحة.
وقد تقدم الكلام في وفي نظائره -في القواعد المطلقة- في قاعدة:
هل العمل بالظاهر أو بما في نفس الأمر؟
ومنها: الطلاق المبهم؛ فإن تزوج يمنع من قربان زوجته إلى أن
يتبين وكذلك في مسألة الغراب.
ثم التعيين إن لم يكن طلاقا -وهو الصحيح- فالوقف وقف تبين.
ومنها: لو قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة كل صاع بدرهم ولا يدري
أنها عشرة آصع؛ فالصحيح الفساد، للجهل بالمقابلة.
وعلى القول بالصحة فهو موقوف لتحقق المقابلة وهو من وقف
البيان.
ومنها: في الربا لو باع صبرة بصيرة متساوية وخرجتا متساويتين
صح؛ وإلا فالأصح البطلان وعلى الصحة يوقف لبيان المماثلة.
ومنها: إذا قال أحد الشريكين المعسرين: إن كان هذا الطائر
غرابا فنصيبي حر، وقال الآخر: إن لم يكن فنصيبي حر، ولم يعرف
-لا يحكم عتق نصيب واحد منهما، والولاء موقوف1، أو بان حكم
بعتق النصف.
ولنا بحث سنذكره عند ذكر المسألة -إن شاء الله تعالى- في قسم
أصول الدين في مسألة لازم النقيضين في أن هذا الوقف، هل هو وقف
تبين؟
ومنها: أصح الأقوال في مال المرتد أنه موقوف.
__________
1 في "ب" زيادة فإن اشتراه أحدهما.
(1/242)
ومنها: ملك المبيع في زمن الخيار: الصحيح
أنه موقوف.
ومنها: نكاح المرتابة بالجمل: قبل على وقف العقود، وقيل
بالتبين.
ومنها: لو عين المريض عينا تباع، ويوفي منها دينه؛ فقيل:
للورثة إمساكها والوفاء من غيرها، وقيل: لا فعلى هذا، لو باعها
الوصي قبل استئذان الورثة؛ فقيل: باطل، وقيل: موقوف -فإن وفوا
فلهم نقض المبيع وإلا انبرم.
وقد يقال: ليس هذا وقف تبين، بل وقف صحة.
ومنها: إذا نجز المريض عتق أمته التي لا يملك سواها. ملك قريبة
تزويجها؛ فإن ظهر أن ذلك1 العتق يشمل جميعها، تبين بطلان
النكاح إن لم يجز للوارث، وكذا إن أجاز وقلنا: إنه ابتداء
عطية، وإن قلنا: يتقيد ثبتت الصحة.
ومنع ابن الحداد التزويج؛ لأن عتقها موقوف وربما لا تعتق كلها
-وهو ظاهر الحال-
فعلى هذا لو كانت جميعها تخرج من الثلث؛ فهل تزوج أم لا؟
- لاحتمال تلف المال- للإمام فيه احتمالان والقائلون بالصحة
قاسوا التزويج على جواز التصرف في المتبرع به.
وعن الشيخ أبي علي أن من وافق ابن الحداد يحتمل أن يطرد ذلك في
هبة - الجارية، حتى لا ينفذ تصرف المتهب القابض، إذا كان ذلك
التصرف لا يحتمل الوقف ولا يحل له الوطء.
قلت: ووقع في البحر -للروياني- في باب عتق العبيد لا يخرجون من
الثلث فيمن أعتق ستة أعبد -لا يملك غيرهم- أنه لا يحكم بعتقهم،
لجواز أن يظهر دين، ولا برقهم؛ لجواز أن يستفيد مالا وأكسابهم
موقوفة أيضا.
ولو كان للمعتق مال -يخرجون من ثلثه- لا يحكم بعتقهم قبل موته
لجواز أن يتلف ماله؛ فلا يصل إلى ورثته.
وهذا يوافق ما نقل ابن الحداد، وأحد احتمالي الإمام.
ونزيد عليهما؛ فإن ذلك مخصوص بالنكاح لما فيه من الاحتياط،
وهذا عام؛ فالوجه تأويله على أنا لا نحكم بعتقهم، ولا برقهم
-عتقا، ورقا يستقر قراره. وتوافق
__________
1 سقط من "ب".
(1/243)
عبارته قول الرافعي- لما تكلم على المرض
المخوف.
أنا نحجر على المريض في التبرع بالزائد على الثلث ولا ننفذه؛
لكنه لو فعل ثم بريء، تبين صحة التبرع؛ فإن ذلك لم يكن مخوفا.
فظاهر: أنا لا ننفذه، يوافق قول ابن الحداد، والوجه تأويله على
ما ذكرناه؛ وإلا فهو موقوف على إجازة الورثة إن أدى الحال إلى
الموت وإلا فالتصرف نافذ من كل وجه.
إذا عرفت هذا تبين لك به تردد في تصرف المريض، وموقوف هو حتى
يجيء في بيعه القولان في وقف العقود ويلحق بالقسم الأول، وهو
وقف الصحة، وقد قدمنا ذلك- أو صحيح بناء على تمام السبب حال
التصرف.
وإن كان ماله إلى إجازة الورثة؟ ويكون رد الوارث بمثابة أخذ
الشفيع من حينه، وليس مستندا إلى وقت البيع.
لا فارق بينهما إلا أن الشفيع يقرر عقد البيع، وهذا يرد؛ فيكون
كالرد بالعيب يرفع من حينه.
وقد يقال في الرد بالعيب تقدير ما؛ ألا ترى أن إمام الحرمين
حكى في "الفروع المنثورة" في كتاب العتق قولين فيما إذا رد
الوارث الزيادة على الثلث هو نقول: الزيادة ثبتت ثم ردت، أو
تبين أنها لم تنفذ.
ومنها: إذا اكتفينا بظاهر الصبرة فتبين تحته دكة: قال "في
الوسيط" فهل تبين بطلان العقد.
ومنها: قال في الوسيط: إذا منعنا بيع الغائب فالرؤية السابقة
كالمقارنة -إذا كان مما لا يتغير- فلو تغير على الندور؛ فهل
يتبين بطلان العقد، أو يكتفي بالخيار؟ فيه خلاف صحح النووي
الثاني.
ومنها: ظاهر كلامهم أن اللعان يقع في الردة، ويمكن أن يكون ذلك
في مدة الإمهال.
ومنها: إذا طلق رجعيا أو بائنا. ثم وطئها أجنبي في العدة
-بشبهة- ثم حملت منه، فإنها تعتد بالحمل.
(1/244)
فصل:
في الإقدام على العقود الفاسدة.
وقد تردد كثير من المتأخرين أهو حرام، أم حلال؟ وذكر الوالد
رحمه الله في باب الوصية -عند الكلام على الوصية1 بأكثر من
الثلث: "أنه ينبغي أن يقال: إن قلنا: الوصية بأكثر من الثلث
باطلة، أو إن الإجازة ابتداء عطية فهي حرام؛ لأنها عقد فاسد،
قصد به تحقيق حكم غير مشروع انتهى.
فهذا ضابط جيد في تحريم فاسد التصرفات، وأنه لا يحرم منها ما
صدر تلاعبا، ولا قصد فيه، لم يثبت مقتضاه عليه وهو قضية كلام
الغزالي. ثم ذكر في كتاب النكاح نظيره [فقال] 2 عند الكلام
فيما إذا جمع بين الأختين، بعدما ذكر أن ابن الرفعة أخذ من
قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} . أن
الإقدام على العقد الفاسد حرام؛ لأن حقيقة الجمع بالوطء غير
ممكنة؛ إنما الممكن بالعقد.
إن الحق ما قاله الغزالي إنه متى قصد تحقيق المعنى الشرعي فهو
حرام وإن قصد تحقيق اللفظ -من غير تحقيق معناه؛ فهذا لغو -ليس
بعقد، ومع ذلك إن كان له محمل- من ملاعبة الزوجة ونحوه، فلا
يحرم، وإلا فيحرم، إذ لا محمل غير الحق الشرعي، أو التلاعب
وكلاهما حرام.
قاعدة: كل عين ثبت لمن هي تحت يده حق حبسها ليستوفي ما وجب
برهنها، أو بسبب العمل فيها، لا يجوز لمالكها بيعها بغير إذن
صاحب اليد إلا بعد وفاء الحق.
وفيه نظائر:
منها: المرهون.
ومنها: الصباغ إذا صبغ الثوب؛ فإنه لا يصح بيعه قبل توفية
الأجرة.
ومنهاك القصار إذا قصر الثوب، لا يجوز بيعه، قبل توفية الأجرة.
إن قلنا: القصارة عين - وإن قلنا: أثر؛ فلا حق له في حبسها.
ومنها: لو استأجر صباغا ليصبغ له ثوبا، وسلمه إليه أو صائغا
على عمل ذهب
__________
1 في "ب" الموصي.
2 سقط في "ب".
(1/245)
ونحوه فليس له بيعه ما لم يقبضه -صرح به
المتولي وغيره- لأن له حبسه إلى أن يعمل فيه ما يستحق به
العوض.
وعليه يخرج ما قبل -في بيع الأشجار المساقي عليها- أنه لا يصح؛
لأن المساقاة عقد لازم، وقد استحق العامل أن يعمل فيها ما
يستحق به أجرا. ومن خرجها على بيع العين المستأجرة؛ فقد غفل عن
ملاحظة هذا الأصل.
سؤال:
لعلك تقول: هذه القاعدة ترد نقضا على قولنا: "شرط المبيع أن
يكون طاهرا منتفعا به، مقدورا على تسليمه. مملوكا لمن وقع
العقد له "فإن هذه الشروط موجودة في الثابت حق حبسها، ثم لا
يجوز بيعها، فالتعريف -إذن- غير مطرد.
والجواب: أنا ذكرناه خارجا عن1 شرط القدرة على التسليم؛ فإن
عدم القدرة قد يكون حسيا، وقد يكون شرعيا، كالمرهون.
واعلم أنه لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط، وهذه الأوصاف
ليست تعريفا للمبيع، ولكن شرائط له ولذلك تجتمع.
ثم لا يجوز البيع في صور.
منها: الأضحية إذا أهدى لحمها إلى غني، أو تصدق به على فقير
فإنه يملكه، وله التصرف فيه بالهبة والهدية - دون البيع.
أصل مستنبط:
إذا تعلق بشيء واحد حق اثنين فصاعدا؛ فهل نقول: كل منهما
يستحقه على التمام والكمال -ولكن ضرورة الازدحام أدت إلى
التناصف، أو إنما يستحقه بقسطه منه؟
وكان الشيخ الإمام رحمه الله يتردد فيه، ويرجح الأول وينصره،
وقد ذكره في باب الوقف، وفي أماكن من نظائره حتى انتهى إليه
بصره، وأطنب في تقريره في كتاب موقف الرماة.
__________
1 في "ب" خارجا بشرط.
(1/246)
ورأيت -أنا- بعد وفاته رحمه الله من كلام
ابن سريج ما يشهد له في كتاب "النهاية" في باب الأقضية واليمين
مع الشاهد عندما ذكره ما إذا وقف على أولاده1، ثم أولاد أولاده
وكانوا ثلاثة الوقف يصرف أثلاثا؛ فتجدد ولد وولد فصار أرباعا؛
فإن حلفوا وقفنا ربع الوقف من حين ولادته وبقينا في يد
الحالفين ثلاثة أرباعه كما كان؛ فإن بلغ ونكل عن اليمين، قال
الإمام: فالمنصوص للشافعي أن ما وقفناه مردود على الأولين،
فتعود القسمة أثلاثا كما كانت ويخرج هذا الجديد من البين.
وقال المزني: "الربع الموقوف يصرف إلى الأولين؛ فإنهم لا
يدعونه بل هم معترفون أنه للولد الجديد، وقد تعذر الصرف إليه
بسبب نكوله".
إلى أن قال: "والمقدار الذي ذكره الأصحاب لنصرة النص ما حكوه
عن ابن سريج؛ فإنه قال: كان الأولون مستحقين جميع الوقف قبل
وجود هذا المولود فإذا وجد دخل استحقاقه على الأولين دخول
العول وكل استحقاق يطرأ على استغراق فهكذا يكون ثم استحقاق
العول يوجبه التصرف إلى المستغرقين إذا [تعذرت] 2 جهة العول،
وهذا يناظر الديون والتركة إذا كانت التركة ألفا والدين ألف؛
فهي مصروفة إلى الدين؛ فلو ظهر ألف آخر التركة بينهم؛ فلو أسقط
صاحب الدين الظاهر حقه، فصاحب الأول يستغرق حقه "انتهى".
وهو نص في مذهب الشيخ الإمام، ورددت لو وقفت عليه في حياته؛
لأدخل على قلبه سرورا بإيقافه عليه. على أنه نقل في كتاب موقف
الرماة يقرب منه.
وفي القاعدة فروع:
منها: إذا حمى الإمام أرضا، فدخل واحد من الرعية فرعاه ومنع
غيره قال القاضي أبو حامد: "لا يعزر والناس يسشكلون هذا، وحمله
الوالد -رحمه الله- على أن موضع انتفاء التعزير كونه استيفاء،
ووجهه أنه إنما استوفى حقه قال: ولا تقول بأنه مشترك حتى يكون
كالتصرف في العين المشتركة فيعزر بل هو يستحقه وغيره أيضا
يستحقه.
قال: وأما منعه الغير فيعزر عليه.
ومنها: لو زال ملك المشتري ثم عاد بعوض وأفلس؛ فهل حق الرجوع
في عين المبيع للبائع الأول -بسبقه- أو للثاني- لقرب حقه- أم
يشتركان ويضارب كل بنصف
__________
1 في "ب" أولاد أولاده.
2 في "ب" تعددت.
(1/247)
الثمن؟ فيه أوجه لا تصحح للمشايخ الثلاثة
-الرافعي والنووي والوالد- فيها، والأرجح عندي الثاني، وذكر
الإمام في النهاية أنه لقياس، وعلى الثالث إنما اشتركا لثبوت
الحق لكل منهما على التمام بدليل أنه لو عفى الأول كان الحق
للثاني -وجها واحدا- صرح به الإمام "في النهاية".
قال: لو عفا الثاني فهل للأول الرجوع؟ فيه وجهان مبنيان على ما
لو زال، وعاد بلا عوض.
قلت: والقول بأن الحق للأول إنما هو بناء على ذلك، كما هو مصرح
به في الرافعي وغيره.
فخرج من هذا أن الأول -أيضا عند عفو الثاني الأخذ؛ لأنا إنما
نفرع على ثبوت أصل الرجوع له.
ومنها: في الشفعة.
قاعدة: "كل تصرف يستقل به الشخص ينعقد بالكناية مع النية"
كالطلاق والعتاق والإبراء والظهار والنذر.
وكل تصرف يحتاج إلى الإشهاد كالنكاح والبيع المشروط فيه
الإشهاد والرجعة، على الخلاف في احتياجها إلى الإشهاد وحكم
الحاكم لا يحتاج إلى1 الكناية إلا إذا توفرت القرائن في البيع
المشروط في الإشهاد على الظاهر -عند الغزالي- وإليه مال
الرافعي حيث توقف في قول الأصحاب:
الشهود لا اطلاع على النيات -معتلا بأن القرائن ربما تتوفر
فتفيد الاطلاع على ما باطن الغير.
وعندي أن الجريان على كلام الأصحاب أصح؛ فإنه لا انضباط
للقرائن وبهذا صرح الإمام في كنايات الطلاق قائلا: ليس من
قواعد الفقه فتح أمثال هذا، وهو في القصود عسر جدا، فحسمنا هذا
الباب حسما. ولا يعارضه ما نقله عنه الرافعي1 من أن الخلاف في
انعقاد البيع بالكناية مع النية محله إذا عدمت القرائن فإن
توفرت وأفادت
__________
1 في "ب" زيادة في البيع.
(1/248)
التفاهم، وجب القطع بالصحة؛ لأن هذا في غير
البيع المقيد بالإشهاد، فإن في الإشهاد تقييدا ليس فيما بين
المتخاطبين.
ولا يؤيده ما نقله عند الرافعي -أيضا- في البيع من أن النكاح
لا يصح بالكناية -وإن توفرت القرائن- فإن النكاح تقييدا
واحتياطا- يزيد على ما في البيع المقيد بالإشهاد.
فالصور ثلاث.
النكاح: ولا ينعقد وإن توفرت القرائن، لما فيه من الإشهاد ومن
الاحتياط له.
والبيع المقيد بالإشهاد: يشابه النكاح -من حيث اشتراط الإشهاد-
وينحط عنه من حيث أنه لا يطلب فيه من الاحتياط ما يطلب في
النكاح؛ ففيه يقول الغزالي: الظاهر -عند توافر القرائن- الصحة
والظاهر- عندنا- خلاف ما يقوله:
ومطلق البيع: وفيه يقول الإمام: "إذا توفرت القرائن قطع
بالصحة؛ إذ لا إشهاد، ولا احتياط والمتخاطبان أعرف بما يدور
بينهما".
قاعدة: مترددة في كلام الأصحاب وبسط الإمام القول فيها في
أوائل كتاب الطلاق": كل ما كان صريحا في بابه، ووجد نفاذا في
موضوعه لا يكون كناية في غيره ولا صريحا فيه1.
وهذه الزيادة -وهو قولنا: ولا صريحا فيه- زيادة لم يصرح بها
الإمام؛ ولكن اقتضاها كلامه، وسبب كون الشيء لا يكون صريحا
نافذا في مكان- ثم يكون صريحا أو كناية -في آخر- أنه مع
الصراحة ووجود النفاذ، عامل عمله لا سبيل إلى دفاعه.
قال الإمام: "وإذا كان كذلك؛ فيستحيل أن يكون كناية منوية في
وجه آخر"، ثم أورد على نفسه أنه لم لا يجمع بين المعنيين،
وأجاب بأن صلاحية [اللفظ] 2 لمعنيين لا يقتضي اجتماعهما، قال:
"وكذلك القول في لفظ مشترك".
وقرر الإمام -رحمه الله- هذا في النهاية؛ فذكره في باب الوصية
وغيرها وذكره أيضا في الطلاق -بعد هذا المكان بأوراق- فقال:
"لا مطمع في تحصيل معنيين
__________
1 الأشباه والنظائر ص295، المنثور 3/ 146، 2/ 311.
2 في "ب" اللفظة.
(1/249)
بلفظ واحد، هذا ما لا سبيل إليه -وإن جرد
القاصد قصده إليهما جميعا- لأن اللفظ الواحد لا يصلح لمعنيين
جميعا إذا لم يوضع في وضع اللسان1 انتهى.
قلت: وقد جرى بيني وبين الشيخ الإمام رحمه الله بحث طويل في
هذا عندما قرأت عليه مسألة ما إذا أوصى بعود من عيدانه في باب
الوصية -فقلت له: لعل هذا من الإمام بناء على أن المشترك لا
يحمل على معنييه؛ وإلا فكيف يقال: لا يصلح؟
فكان من جوابه ما لا يحضرني تفصيله؛ غير أني على يقين بأنه
انتصر لكلام الإمام وزعم أنه ليس من مسألة الحمل في شيء، ولا
يتبين لي الآن ذلك.
والأولى -عندي- أن يتوجه كون: اللفظ لا يكون صريحا في شيئين
مما ذكره الإمام في "النهاية" بعد ذلك.
وحاصله أن الصراحة تتلقى من الشيوع، قال: والشيوع أن لا يستعمل
في اطراد العادة إلا في معنى، ومتى شاع في معنى لم يتصور أن
يشيع في آخر مع اتحاد الزمان والمكان.
قال: وهو بمثابة إطلاق الغلبة في النفوذ؛ فالغالب هو الذي يندر
التعامل بغيره، ويستحيل تقدير الغلبة في نوعين؛ فإن قصاراه يجر
تناقضا -وهو أن يكون كل منهما أغلب من صاحبه.
قلت: وقوله: "يستحيل تقرير الغلبة في نوعين" لا ينازع فيه قول
الأصحاب: إذا غلب نوعان من نقد.
فهذا [تقرير] 2 كون اللفظة لا تكون صريحة في موضعين.
ومن ثم قال بعض مشايخنا: "والصريح اللفظ الموضوع، لمعنى لا
يفهم منه غيره عند الإطلاق".
وأما كونها لا تكون صريحة في موضع كناية في آخر إذا قصد
الأمران [معا فلا] 3 يتبين لي وجه استحالته، وليفرض ذلك في زوج
أمه وكله مولاه في عتقها؛ فقال: أنت طالق، وأراد مع الفراق
حريتها وطلاقها من وثاق الرق.
وقد احتج الإمام في كتاب المساقاة -لقولنا، إنه لا تصح
المساقاة بلفظ الإجارة
__________
1 في "ب" زيادة للجمع.
2 في "ب" تقرر.
3 في "ب" متغافلا.
(1/250)
ولا عكسه- "بأن كل لفظ صريح استعمل في مكان
إمكان استعماله، لم يجز أن يصرف بالنية إلى غيره، كالطلاق، لا
يصرف إلى الظهار؛ إذ [لا يمكن] 1 تنفيذه طلاقا وعكسه".
وسأل عليه الشيخ الإمام رحمه الله فقال لم لا ينفذ في الآخر
بالنية إذا تعذر حمله على موضوعه لعدم شرطه؟
ثم أجاب بأن بين الإجارة والمساقاة تنافيا، أو تغايرا، وما كان
كذلك لا يصح أحدهما بلفظ الآخر، كالبيع بلفظ السلم؛ فإن
الإجارة على العمل في الشجر غير مرتبطة بشيء آخر، والمساقاة
على صلاح الثمرة بواسطة العمل في الشجر.
قال: وكذلك رجح الأصحاب اعتبارا اللفظ -وإن أجروا الخلاف- نظرا
إلى أنه هل يعتبر اللفظ أو المعنى؟
ومثال ذلك لفظ الطلاق؛ فإنه صريح في بابه، فإذا خاطب به امرأته
وقال: أردت الظهار، لم يقبل لصراحته في إزالة قيد النكاح -مع
وجود نفاذا في موضوعه- فلا يكون صريحا في الظهار، ولا كناية.
واحترزنا بقولنا: "وجد نفاذا" عن مثل قوله لزوجته: "أنت حرة"،
إذا نوى به الطلاق، فإنه يقبل، ويقع عليه الطلاق؛ لأن "حرة"
صريح في إزالة قيد الملك ولكن لم يجد -هنا- نفاذا لأن الزوج لا
يملك زوجته فجعل كناية في الطلاق إذا لم يجد نفاذا في بابه وهو
إزالة قيد الملك.
ثم يتسثنى من [هذه] 2 القاعدة مسائل:
منها: إذا قال: "أنت حرام" ونوى به الطلاق أو الظهار؛ فإنه يقع
ما نوى -على المذهب- مع أن المذهب أن لفظ الحرام صريح في إيجاب
الكفارة.
ومنها: لو أسلم على أكثر من أربع؛ فقال لبعضهن فسخت نكاحك
-ونوى الطلاق- قبل: وإن وجد نفاذا -بدليل أنه لو أطلق- حمل على
الفسخ.
ومنها لو أسلم على أكثر من أربع؛ فقال لإحداهن "فارقتك" فالذي
رجحه الرافعي، والنووي، والوالد أنه فسخ -وإن كان لفظ الفراق
من صرائح الطلاق- وهو الذي قاله الشيخ أبو حامد، ونصره ابن
الصباغ. وقال القاضي أبو الطيب: "بل هو
__________
1 في "ب" امكن.
2 سقط في "ب".
(1/251)
اختيار للزوجية لم يقع به الطلاق،
[لاستلزامه] 1 إياه".
ورده عليه بالحديث؛ ففيه "وفارق سائرهن".
والحق -عندي- ما قاله الأولون من أنه فسخ، ولا يرد أنه صريح في
الطلاق ووجد نفاذا في موضوعه؛ بل أنا أمنع صراحته في هذا
المكان في خصوصه وأظن أن ابن الصباغ أشار إلى هذا بقوله:
"فيكون حقيقة فيهما، ولكن يخصص بالموضع" وهو كلام حسن، والقصد
يذكر في قسم أصول الفقه في حمل المشترك على معنييه المتضادين.
ومنها: إذا قال: "أنت حرام كظهر أمي" ونوى الطلاق بالمجموع كان
طلاقا -على المذهب- مع أن المذهب أنه إذا أطلق كان ظهارا.
ومنها: لو أسلم على أكثر من أربع، وقال لإحداهن: "أمسكتك"؛
فإنه صريح في اختيارها -مع صراحته في الرجعة.
ومنها: لو قال أحلتك على فلان بكذا، ثم اختلفا؛ فقال المحيل
وكلتك، وقال المحتال بل أحلتني، فالصحيح أن القول قول المحيل
-مع أنهما اتفقا على جريان لفظ الحوالة.
قاعدة: قال النووي في زيادة الروضة -قبيل باب حكم المبيع قبل
القبض وبعده.
قال أصحابنا: إذا انعقد البيع لم يتطرق إليه الفسخ إلا بأحد
سبعة أسباب خيار المجلس، والشرط، والعيب، وخلف المشروط
المقصود، والإقالة والتحالف، وهلاك المبيع قبل القبض -قال
الشيخ الإمام رحمه الله في تكملة شرح المهذب: وبقي عليه رجوع
البائع عند إفلاس المشتري قال وله أن يلحقه بالبيع2 قال: ولكن
مثل هذا التكليف يقتضي عد العيب والخلف شيئا واحدا؛ فالوجه جعل
ذلك قسما آخر "قال: وبقي أيضا تعذر إمضاء البيع، كما في اختلاط
الثمار، وبيع الصبرة بالصبرة المخالفة لها -مكايلة- على خلاف
فيهما قال: وأما التصرية فملحقة -عند الأكثرين- بالعيب، عند
بعضهم بالخلف فلم تكن خارجة عنهما، وأما الخيار الحاصل بسبب
الأخيار في المرابحة فهو راجع إلى العيب؛ لأنه كالعيب في
المبيع".
قلت: ويدخل في خيار العيب خيار تفريق الصفقة، وفي خلف المشروط
المقصود خيار الامتناع من العتق المشروط.
__________
1 في "ب" لا يستلزم.
2 في "ب" البيع.
(1/252)
وبقي عليهما مسائل:
منها: إذا اشترى غائبا -رآه قبل العقد- وهو مما لا يتغير؛
فوجده متغيرا فالمذهب: أن العقد صحيح وله الخيار.
قال الإمام: وليس المراد بتغييره حدوث عيب؛ فإن خيار العيب لا
يختص بهذه الصورة، بل الرؤية بمنزلة الشرط في الصفات الكائنة
عند الرؤية فكل ما فات منها؛ فهو كتبين الخلف في الشرط.
قلت: وقد يقال: هذا الخيار راجع إلى الخلف.
ومنها: إذا أجبر المشتري على تسليم الثمن وكان غائبا فوق مسافة
القصر، والصحيح أن للبائع فسخ البيع، لتعذر تحصيل الثمن.
ومنها: الخيار الثابت في البيع الغائب عند رؤيته على القول
ببيع الغائب.
قاعدة: القول قول مدعي صحة العقد دون فساده خلافا للبغوي.
وقد يقال: الأصل في العقود الصحة.
ونعني بالأصل -هنا- الظاهر.
وتردد الشيخ الإمام والدي رحمه الله في كتابه "التحقيق" أن
تصرفات الشخص في العقود هل الأصل فيها الصحة إلا ما دل الشرع
على فساده بمعنى أن الشارع أقر معاملات الناس على ما يتعارفون
ومنعهم من بعضها، أو الأصل الفساد إلا ما دل على صحته؟
قال: وهذا هو الراجح؛ لأن الصحة حكم شرعي فمن ادعى [ورودها] 1
من الشرع في التصرفات كلها، ثم استثنى بعضها فعليه الدليل،
أيضا يلزمه التخصيص وهو خلاف الأصل.
نعم: لا يقال: إنه فاسد؛ لأن الفساد حكم شرعي؛ فلا بد من
دليله، بل نقول: باق على حكم الأصل.
__________
1 سقط من "ب".
(1/253)
انتهى ملخصا.
وقد يقال: إنه معارض لقول الأصحاب: "الأصل الصحة" وجنوح إلى
اختيار صاحب التهذيب الذي سنحكيه.
وليس كذلك: فإن مورد الكلامين مختلف؛ فما قاله "في التحقيق"
معناه أن العقود الجارية بين الناس -وإن لم يجر فيها تنازع بين
المتعاقدين- أصلها الصحة أو الفساد؟
فنقول: دعوى كل واحد من هذين الأمرين يحتاج إلى دليل.
فإن قلت: فلم ترددتم في قول القائل "والله لا بعت هذا" هل يحمل
على الصحيح، أو على أعم منه ومن الفاسد.
قلت: المأخذ غير ما نحن فيه؛ فالتحنيث بالفساد لكونه يسمى بيعا
وعدم التحنيث به لأن الإطلاق محمول على ما يتبادر إلى الذهن
عرفا، وهو الصحيح. ومعنى قولهم في باب اختلاف المتبايعين:
"القول قول مدعي صحة العقد -إذا تنازع المتعاقدان في العقد
الواقع بينهما- أوقع على وجه صحيح، أو فاسد؟
والصحيح -فيما علمت- من أن القول لمدعي الصحة، وفيه كلامان:
- أحدهما، أن مدعي الصحة، قد يجزم بقوله كما إذا اختلفا في صفة
المعقود عليه؛ فقال أحدهما هو حر الأصل، وأنكر الآخر، لأن قول
مدعي الفساد لم يعتضد بأصل، ولا ظاهر.
وقد يختلف فيه، كما إذا تنازعا في صفة العقد فادعى أحدهما
انضمام شرط مفسد -كخيار مجهول- قال الشيخ الإمام: فهذا محل
الخلاف.
وقد يكون الاختلاف في وجود شيء -وقوعه شرط لصحة العقد- كالرؤية
فمنهم من جعله على الخلاف- وهي طريقة النووي- ومنهم من قال:
-هنا- القول قول من نفاه لاعتضاده بالأصل- وهي طريقة القاضي
الحسين؛ فإنه يقول: القول قول نافي الرؤية- مع قوله في أصل
القاعدة: إن القول قول مدعي الصحة.
والشيخ الإمام الوالد رحمه الله ذكر المسألة في أوائل البيع،
ولم يذكر لنفسه اختيارا ثم ادعاها في أواخر اختلاف المتبايعين،
وجرى مع النووي في باب اختلاف
(1/254)
المتبايعين على ما صححه على ما يظهر من
كلامه، ثم أفصح في باب الصلح بأن الذي يظهر أن القول قول منكر
الرؤية.
قلت: وبه جزم الروياني في البحر -في أوائل البيع من تفاريع قول
الغائب.
قال الوالد: رحمه الله؛ وإنما يقوي قول مدعي الصحة إذا تعارضا،
وليس مع أحدهما مرجح.
فصارت المراتب عنده ثلاثا، وفي الثالثة منهما لا يقبل قول مدعي
الصحة والذي قاله هو الأرجح عندي.
غير أني أقول للاختلاف صورة رابعة، وهي أن يقول أحدهما: وقع
بيننا عقد صحيح -ولا بينة- ويقول الآخر: بل فاسد.
وفي هذه أيضا يظهر ترجيح قول مدعي الصحة، وأرجو أن لا يكون فيه
خلاف.
وهنا مسائل قد يعتقد أنها مستثناه من قولنا: إن القول لمدعي
الصحة ذكرتها في التوشيح.
منها: مسألة الرؤية هذه.
ومنها: عكسها -قال المشتري رأيت، وقال البائع لم تر. أفتى صاحب
البيان بأن القول للبائع، وخالفه بعض أهل عصره.
ومنها: إذا باع ذراعا من أرض -يعلمان ذرعانها- وادعى البائع
أنه أراد معينا؛ فالعقد فاسد وقال المشتري: بل مشاعا؛ فالعقد
صحيح فأصح الاحتمالين في "الروضة" تصديق البائع.
ومنها: إذا اختلفا هل وقع الصلح على الإنكار أو الاعتراف؛
فالصواب في "الروضة" تبعا لابن كج تصديق مدعي الإنكار لأنه
الغالب.
ومنها: قال الجرجاني فيما إذا قال المشتري يعني بهذا العصير
-وهو خمر- "أن القول لمدعي الفساد" وخرجه الرافعي على الخلاف؛
فعلى الترجيح لا استثناء.
ومنها: إذا باع عبدا، وقال: كنت اغتصبه ولم يكن جرى في كلامه
أنه ملكه، وأقام بينة، سمعت على النص ورجح الشيخ الإمام إذا
كان للبائع عذر.
ومنها: وهب الغاصب المغضوب من إنسان، ثم قال: أعلمتك أنه مغصوب
وأنكر.
(1/255)
قال الماوردي: يقبل قول الغاصب؛ لأنه أنكر
عقد الهبة - على الصحة.
قال الوالد: رحمه الله: والمختار أنه لا يقبل وهي مسألة
الاختلاف في الصحة والفساد.
قلت: إذا كانت هي فلا استثناء، ويكون الماوردي قائلا بأن القول
لمدعي الفساد.
غير أني أقول: قد يقول هنا -بالفساد من يقول بالصحة ثم؛ فإنها
من غاصب؛ فهي فاسدة بكل تقدير، فتصديقه في أنه أعلم مخالفة
للأصل بلا سبب.
ومنها: إذا قال السيد: كاتبتك على نجم واحد، وقال العبد: بل
على نجمين قال في "التهذيب" القول قول السيد مع يمينه؛ لأنه
يدعي الفساد العقد وسكت عليه الرافعي، وخرجه النووي على الخلاف
في الصحة والفساد.
قلت: والأمر كذلك.
وقد علل البغوي - في "التهذيب" ما قاله، بأنه يدعي الفساد فجرى
على أصله؛ فلا استثناء لهذه المسألة إلا من قبل سكوت الرافعي
عليها، مع موافقته في أصل القاعدة على أن القول لمدعي الصحة،
واعتراضه به من عدل عنه مرات.
ونحن لا [نذكره] 1 في هذه؛ إلا ما نظن أنه مستثنى منها، لا ما
هو جار على طردها، وإلا لذكرنا ما لو قال: بعتك بألف وزق خمر،
أو قال: شرطنا شرطا فاسدا، وأنكر الآخر "فإن خلاف الصحة
والفساد".
ولو اشترى مائعا، وجاء بظرف فصبه البائع فيه ووجدت فيه فأرة
ميتة فقال المشتري أنها كانت في المبيع، وقال البائع: كانت في
ظرفك؛ فقد قال الرافعي -في آخر الرهن: هذا اختلاف في أن العقد
جرى فاسدا أو صحيحا.
قلت: ومسائله تكثر؛ فلا تطيل بعدها، فلنعد لك عد ما نظن من
المستثنيات فنقول.
ومنها: قال السيد: كاتبتك وأنا مجنون، أو أنا محجور وأنكر
العبد، جزم الرافعي -تبعا لصاحب التهذيب بأنه إن عرف له جنون،
أو حجر سابق قبل قوله، وإلا، فلا.
قلت: وهو [يوافق] 2 المجزوم به في الإقرار، فيما إذا:
__________
1 في "ب" نذكر.
2 في "ب" موافق.
(1/256)
قال المقر: كنت صغيرا، أو مجنونا، وفي
القصاص، فيما إذا قال: كنت صغيرا، وفي الكناية، إذا اختلف
السيد والعبد، هكذا.
ومنها: قالت المرأة: "وقع العقد بغير ولي ولا شهود" وأنكر
الزوج.
قال القاضي مجلي: "فالقول قولها؛ لأن ذلك إنكار لأصل العقد
وصوبه الشيخ الإمام وقال:
إنه الحق، وإنه لا يخرج على الاختلاف في الصحة والفساد.
قال: لأن إنكارها الولي إنكار1 لأصل العقد بالكلية.
ومنها: زوج أخته. ومات الزوج؛ فادعى ورثته أن أخاها زوجها بغير
إذنها، وقالت: زوجني بإذني فالقول قولها، وحاول الرافعي
تخريجها على الصحة والفساد، وتبعه النووي وصححه الشيخ الإمام؛
فهذا مما جزم فيه بالصحة وليس من مسائل النزاع.
ومنها: اعتراف الراهن بأنه مرهون [بعشرين] 2، ثم ادعى أنه
مرهون بعشرة بعد عشرة، وقلنا -بالصحيح- إنه لا يرهن المرهون
عند المرتهن بدين آخر، وقال المرتهن: [بل] 3 فسخنا واستأنفنا
رهنا بعشرين.
قال الشيخ الإمام: "المختار" أن القول قول المرتهن خلافا
للبغوي ورتب البغوي على هذا أنه لو شهد شاهدان أنه رهن بألف ثم
بألفين، لم يحكم بأنه رهن، ما لم يصرحا بأن الثاني كان بعد فسخ
الأول، قال الشيخ الإمام: "والوجه تخريجه على دعوى الصحة
والفساد".
قاعدة: كل دين ثابت في الذمة -ليس بثمن- يجوز الاعتياض عنه، إن
كان ثمنا في الأصح، وإن لم يكن ثمنا قطعا.
ادعى نفي الخلاف فيه الرافعي، والنووي -والشيخ الإمام رحمهم
الله ومثلوا له بدين القرض والإتلاف، ثم قالوا جميعا -بعد
سطرين- وفي الشامل أن القرض إنما يستبدل عنه إذا استهلكه، أما
إذا بقي في يده، فلا؟ لأنا إن قلنا: إن القرض يملك بالقبض
فبدله غير مستقر في الذمة؛ لأن للمقرض أن يرجع في عينه.
وإن قلنا: يملك بالتصرف، فالمستقرض مسلط عليه، وكذلك يوجب ضعف
ملك القرض، فلا يجوز الاعتياض عنه انتهى.
__________
1 في "ب" زيادة الأصل.
2 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
3 سقط من "ب".
(1/257)
وحذف في الروضة التعليل، والصحيح أن القرض
يملك بالقبض، قال الشيخ الإمام: "ودعواه عدم استقراره -حنيئذ-
ممنوعة، واستدلاله بغرض الرجوع منقوضة بهبة الولد".
قلت: ثم دعوى الرافعي ومن بعده: نفي الخلاف عما ليس بثمن ولا
مثمن منقوضة بمسائل غير القرض، منها وجهان حكاهما الماوردي في
جواز أخذ القيمة -مع وجود المثل- عند ضمان المثل بالتراضي-
وبناهما على أخذ الأرض عن العيب مع القدرة على الرد، قال
الوالد رحمه الله- وفيه نظر؛ لأن مأخذ المنع -هناك- أنه أخذ
عوضا عما ليس بمال، وهو سلطنة الرد.
"وهنا: إن كان الثابت المثل؛ فهو مال وليس، بثمن ولا مثمن
فيجوز الاعتياض عنه قطعا.
فلما جرى الخلاف وإن كان الثابت سلطنة طلب المثل، فلا دين في
الذمة.
ومنها: في جواز الاعتياض عن الإبل الواجبة في الدية بلفظ
الصلح، وبلفظ البيع وجهان، ويقال قولان، أصحهما المنع.
تنبيه: إطلاقنا أن الثمن يجوز الاعتياض عنه، تبعنا في الرافعي
والنووي؛ فقد عزيا إلى الجديد جواز الاعتياض عنه، واقتضى
كلامهما أنه مطلق -سواء فيه العرض والنقد.
هذا قضية كلامهما. في اليبع وقضية كلامهما في باب الكناية،
تقييده بالنقد، وأن العرض لا يجوز الاعتياض عنه.
وهذا ما رجحه الوالد رحمه الله كما دل عليه كلامه في باب
الشفعة، وقال "العوض خمسة".
معين: لا يجوز الاستبدال عنه ثمنا كان أو مثمنا -قبل قبضه؛ لأن
عينه مقصودة.
وثمن في الذمة -نقد: يجوز الاستبدال عنه في الأصح، والمعنى فيه
أن المقصود ماليته، لا عينه، وعليه دل حديث ابن عمر رضي الله
عنهما.
ومسلم فيه، لا يجوز الاعتياض عنه، ودليله، حديث ضعيف، وعموم
النهي عن بيع ما لا يقبض.
(1/258)
ومبيع في الذمة ليس سلما كاشتريت منك ثوبا
صفته كذا بهذه الدراهم إذا جعلناه بيعا؛ ففي جواز الاعتياض عنه
طريقتان مذكورتان في السلم والقطع بالمنع هي الصحيحة عندي؛
لأنه مقصود الجنس، فأشبه المبيع المقصود العين. انتهى ملخصا.
قاعدة: "كل عقد تعاقد عنه مقصوده، بطل من أصله" وإلى هذه.
قاعدة: الفعل والفاعل، والمفعول: أشياء متباينة -لا يمكن
اتحادها وكذلك الخطاب والمخاطب" والمخاطب.
ومن ثم لا يبيع من نفسه، لئلا يتحد الموجب والقابل؛ فليس يتحد
موجب وقابل ولا مقرض ومقترض، ولا مطلق ومطلق، ولا معتق ومعتق،
ولا متصدق ومتصدق عليه، ولا مستوف ومستوفي منه، ولا ساتر
ومستور، ولا سواك ومستاك، ولا ساجد ومسجد -بفتح الجيم- أي موضع
السجود ولا قابض ومقبض.
وهذه -في الحقيقة- قواعد، لا قاعدة واحدة نقدم الأخيرة منها
لتكررها على ألسنة الفقهاء، فنقول:
قاعدة: "لا يتحد القابض والمقبض".
ومن ثم لا يبيع الوكيل من نفسه -ولو كان أبا للموكل- على
الصحيح ومسائله كثيرة.
وفي القاعدة تنبيهان:
أحدهما: أنه يستثنى منها مسائل.
منها: الأب والجد في حق الصغير.
ومنها: المبيع إذا كان في يد المشتري، استثناه الرافعي.
ومنها: أجر دارا، وأذن للمستأجر صرف أجرتها في عمارتها والدار
-وقت العمارة- منتفع بها؛ فهو شرط صحيح؛ صرح به الرافعي في
أوائل الإجارة، وقال ابن الرفعة: "لم يخرجوا ذلك على اتحاد
القابض والمقبض1. وكأنهم جعلوا القابض المستأجر يتسلط على
التصرف فيما قبضه لنفسه، فإن قدرنا مع ذلك وكيلا عن الآخر في
القبض وقابضا لنفسه، لزم اتحاد القابض من المستأجر وإن لم يكن
معينا كالوكيل عن الآخر وكالة ضمنية.
__________
1 في "ب" زيادة قال.
(1/259)
قلت: لكن القابض من المستأجر يتسلط على
التصرف فيما قبضه لنفسه؛ فإذا قدرناه مع ذلك وكيلا عن الآخر في
القبض وقابضا لنفسه لزم اتحاد القابض والمقبض.
ومنها: يجوز تسلف الإمام الزكاة، وإذا تسلفها -بسؤال المالك
والمساكين فتلفت في يده؛ فالأصح تتلف من ضمان المساكين، ولا
وجه لصحة قبض الإمام -في هذه الصورة- وجعلها من ضمان المساكين
إلا بالبناء على جواز اتحاد القابض والمقبض.
التنبيه الثاني: المانع من اتحاد القابض والمقبض ونظائره، أنه
لا يعقل كون المرء طالبا ومطلوبا، وقريب منه: إن المرء لا يكون
مأمورا بشيء، أو محكوما فيه بشيء، ثم يكون هو ذلك الشيء، أو
بعضه، لئلا يتحد المأمور، والمأمور به أو يكون بعض المأمور هو
المأمور به، أو المنهي، أو نحو ذلك؛ وذلك محال وإليه الإشارة
بقولنا: لا يتحد ساتر ومستور، وسواك ومستاك، وساجد ومسجد،
ونحوه، ومن ثم لا يؤمر المرء يقطع عضو من أعضاء نفسه ونحو ذلك،
وقد يفترق الحال بين ما يتعاطاه المرء بنفسه وبين ما يتعاطاه
بغيرهن؛ فيجعل الغير بالنسبة إليه كالآلة وذلك في مسائل:
منها: لا يجوز استياك المرء بأصبع نفسه، ويجوز بأصبع [الغير] 1
الخشن على الأصح.
ومنها: لا فدية على المحرم إذا غطى رأسه بكف نفسه، وفي كف غيره
وجهان؛ أصحهما لا فدية، ووجه الفدية أن كف غيره كالآلة له؛
بخلاف كف نفسه؟ [لأنها] 2 بعضه فتكون بعض المحرم عليه؛ فلا
تكون محكوما [بها] 3 لئلا يتحد المحكوم به وعليه.
ومنها: يجوز أن يسجد على كف غيره؛ ذكره الرافعي في الحج في
الإحرام وهذا بخلاف كف نفسه.
فروع الموجب والقابل:
منها: الوكيل في البيع، لا يبيع من نفسه على الصحيح -ولو قال:
بع من نفسك- وثالثها الفرق، ولا يشتري من نفسه، وفيه الأوجه.
ومنها: لو وكل في طرفي النكاح فقيل: بالمنع: وقيل: على الخلاف.
__________
1 في "ب" بغيره.
2 في "ب" فإنها.
3 في "ب" به.
(1/260)
ومنها: الخلع: وفيه خلاف في البيع، وأولى
بالمنع.
ومنها: لا يزوج الولي المرأة من نفسه؛ خلافا لأبي يحيى البلخي.
ومنها: هل له تزويج أمته من عبده الصغير، إذا جوزنا أن له
إجباره فيه وجهان.
ومنها: إذا وكله أن يصالح من نفسه؛ فوجهان -في البحر إذا عين
له ما يصالح به؛ فإن أطلق لم يجز له أن يصالح إلا على شيء تبلغ
قيمته قدر الدين.
ومنها: قال المحاملي: لو قال كاتب نفسك على نجمين فعلى هذين
الوجهين.
فروع المقرض المقترض في مؤنة الرهن، وعامل المساقاة وهرب
الجمال وناظر الوقف، ومؤنة اللقظة ومؤنة تعريفها في مؤنة
الرهن، وعامل المساقاة وهرب الجمال وناظر الوديعة، ونفقة الأم
على الولد، وكذلك1، الجدة، وأجرة سكنى المعتدة، وأكل الطعام في
المخمصة، وكل ذلك للضرورة. واختصاصه بالضرورة ينبهك على خروجه
عن القواعد.
قال الشيخ عز الدين في أكل طعام الغير في المخمصة: "أقام الشرع
المضطر في المخمصة مقام مقرض ومقترض ولك أن تقول: أو جعل هذا
الإتلاف، وألزمه -بسببه- الضمان ولا حاجة إلى تقدير فرض،
وبالجملة. الموضع موضع ضرورة -فليغتفر فيه ما لا يغتفر في
غيره.
فروع المطلق والمطلق، والمعتق والمعتق.
فروع المتصدق والمتصدق عليه.
فروع المستوفي المستوفى منه.
مسألة: أذن المؤجر للمستأجر في صرف الأجرة في العمارة، توكيل
الدائن المديون في استيفائه، ومستحق القصاص من عليه القود
-نفسا أو طرفا- والإمام السارق في قطع اليد.
وفي الكل وجهان؛ حكى الإمام آخرهما في توكيل الجاني ليجلد
نفسه، واستبعده -من جهة أنه متهم في إيلام نفسه- قال الرافعي:
والمذهب في الكل المنع.
قلت: وأقرب الكل إلى الصحة استيفاء الدين؛ إذ لا محذور فيه
والصور مشتركة في اتجاه المستوفي والمستوفى منه غير أن بعضها
ليس فيه زيادة على ذلك فيسهل
__________
1 في "ب" وكذا الجد.
(1/261)
أمرها؛ وذلك كاستيفاء الدين، وبعضها فيه
زيادة على ذلك، وهي إذن المؤجر للمستأجر في العمارة؛ ففيه -مع
اتحاد المستوفي والمتسوفى منه- يمكنه من الصرف وهي زيادة سهلة
-قد تحتمل- وأما قطع الطرف فأشد من ذلك، وأشد منه قتل النفس؛
فإن الشرع فيما يظهر لنا -يأبى ذلك، وينبغي أن يقال: لا يصح
التوكيل، ولا يجوز لمن عليه القود أن يفعل ذلك بنفسه، وبتقدير
الصحة هل نقول: إنه [يملك] 1 أن يقبض من نفسه بعدما كان ممنوعا
منه؟ فيه بحث يتخرج، أن توكيله فيه [هل] 2 تفويض يقتضى تمليكه
هذا الفعل، ونعني بتمليكه إياه جعله مستحقا أن الفعل ذلك
بنفسه، وبتقدير جعله تمليكا هل نقول يسقط القصاص عنه؟ فإنه لا
يملك على نفسه إزهاقها. وملكه ذلك يقتضي سقوط الحق، وبتقدير
كونه كذلك هل نقول: إن التوكيل فيه -وإن بطل؛ فلا يبطل عموم
كونه أباح له ذلك؛ فليسقط القود، ويكون هذا التوكيل فيه كالعفو
في كل ذلك نظر يجر إلى سقوط القود عمن وكل في استيفائه من نفسه
وإن لم يصح التوكيل.
وإلى وقوع عتق من وكله مولاه في أن يعتق نفسه، والأقرب إلى
كلام الأصحاب أنه لا يعتق، وأن القود لا يسقط. وفي كتاب
الوكالة من شرح المنهاج للوالد رحمه الله، لو قال وكلت من شاء
في عتق عبدي صح وكذا أفتى فيمن قالت أذنت لمن شاء من عقاد
البلد في تزويجي وفرق بينه وبين توكيل من شاء في البيع: فإن
البيع يتعلق الفرض فيه بعين البائع.
ولو تم ما قلته -أنا- من البحث، لكان يمكن أن يقال: توكيل من
شاء -بالعتق- إعتاق، وما أظن أصحابنا يسمحون بذلك، ولم يتعرض
الأصحاب للتفريع على بطلان الوكالة في القصاص، أنه هل يقع
قصاصا والظاهر أنه لا يقع.
وفي باب استيفاء القود إلى أن المستحق لا يستقل بالقطع والإذن
دون إذن الإمام -فلو فعل وقع الموقع وأنه لو استقل المقذوف
باستيفاء الحد -بإذن القاذف أو دونه- ففي الاحتساب وجهان فإن
لم يحتسب.
[فإن] 3 مات منه، وكان بغير إذنه، وجب القصاص أو بإذنه فلا
قصاص وفي
__________
1 في "ب" ملك.
2 في "ب" هو.
3 في "ب" فلو.
(1/262)
الدية خلاف كذا في الرافعي، ولك أن تقول:
قوله إن كان بغير إذنه وجب القصاص إن كان الضرب كما أمر الشارع
فهو لا يقبل، وإن قبل فهو شبه عمد فلا قصاص.
ومنها: لو وكله في إبراء نفسه؛ ففي الصحة وجهان، قال في البحر
وإذا صح فليبرأ على الفور؛ فإن أخر لم يصح.
قلت: كأن ألحقه بتفويض الطلاق، وفي الروضة إذا قلنا: إنه تمليك
فإنه يشترط إيقاعه على الفور.
فروع السابر والمستور، والسواك والمستاك، والساجد [والمسجد] 1
تقدمت الإشارة إليها.
وهذه فروع منها:
"مطالب هو المطالب، وعاقد هو المعقود عليه ومدع هي المدعي
عليه" منها قد يكون مطالبا ومطالبا، فيما لو أجر لمؤجره العين
المؤجرة؛ فالأصح الصحة، ثم يطالبه بتسليم العين ويطالب بذلك.
ومنها: قد يتحد العاقد والمعقود عليه، فيما لو وكل عبدا أن
يشتري له نفسه من مولاه؛ فإنه يصح على الصحيح مطلقا، وقال
الماوردي: ظاهر المذهب أنه لا يصح، وفصل القاضي الحسين بين أن
يأذن له مولاه. أو، لا.
ومنها: لو وكل السيد عبده في بيع نفسه، أو هبتها أو رهنها، أو
وقفها. قال الرافعي في باب مداينة العبيد: إن له إجارة نفسه
بإذن مولاه وكذا بيعها ورهنها -في الأصح- وفي الكتابة خلاف.
ومنها: مدع ومدعي عليه، فيما لو توكلا في الخصومة من الجانبين،
قال الرافعي: "الأصح المنع".
والمسائل كلها من آثار اتحاد القابض والمقبض، وقد تقدم ذكر ما
يستثنى منها.
وأما طردها: أعني الصور التي لا يتحد فيها القابض والمقبض، وقد
ذكر اتحاد القابض والمقبض في شراء الأب لابنه من مال نفسه
وبالعكس، وفيما لو وكل الموهوب منه الغاصب، أو المستعير، أو
المستأجر بقبض ما في يده من نفسه.
__________
1 في "أ" المسجود والمثبت من "ب".
(1/263)
وهنا ذكر الشيخ أبو حامد وغيره أنه يصح.
وإذا مضت مدة يتأتى فيها القبض بريء الغاصب والمستعبر من
الضمان. وفي مؤنة الرهن. إذا قال: كان الراهن غائبا ولا مال
له، وقال المرتهن: أنا أنفق وأرجع.
وفي عامل المساقاة وفي هرب الجمال.
وفيما إذا انهدم الوقف الرافعي: يجوز للإمام أن يأذن للناظر في
الاستقراض، أو الإنفاق على العمارة -من مال نفسه، وليس له
الاستقراض دون إذن.
قلت: ويحتاج إلى الفرق بينه، وبين ولي اليتيم؛ إذ له أن يقترض
له.
ومنها: مؤنة التعريف في اللقطة:
ومنها: نفقة اللقيط.
ومنها: إذا احتاجت الوديعة إلى نفقة؛ فأنفق من غير إذن الحاكم
إذا لم يقدر على إذنه؛ ففي الرجوع أوجه في "الحاوي" ثالثها
يرجع إن أشهد.
ومنها: لو خالع بحضانة ولده -وصححناه- فله أن يأمرها بصرف
الطعام والشراب لولده.
وفي "الشامل" أنه ينبغي جريان خلاف فيه من الملتقظ إذا أذن له
في الإنفاق على اللقيط من ماله بشرط الرجوع.
ومنها: الطفل إذا امتنع الأب من الإنفاق عليه فأنفقت الأم من
مالها -على قصد الرجوع- وأشهدت، رجعت، وإلا. فوجهان؛ كذا قال
الرافعي ولعل ذلك إذا لم يكن قاض.
ومنها: في نفقة القريب إذا امتنع القريب، في كلام الرافعي أن
القريب يستقرض على قريبه، وينفق على نفسه؛ فهذا مستقرض لنفسه
على غيره.
وقد ذكروا الإشهاد في هذه الصور، ولم يتكلموا على [أنه ما] 1
يشهد -لوضوحه- إلا في المساقاة.
قال الرافعي: يشهد على العمل: أو [على] 2 الاستئجار، ويدل
الأجرة بشرط الرجوع؛ فإن لم يتعرض للرجوع فهو كترك الإشهاد
قاله في الشامل.
__________
1 في "ب" ماذا.
2 سقط في "ب".
(1/264)
قلت: فليأت نظيره في كل إشهاد، وفي الذخائر
-في مسألة الوديعة أنه يشهد في كل نفقة.
ومنها: قال القاضي أبو سعد: إذا التقط هريسة فله الخيار بين
الأكل والبيع، ثم يعزل القدر مدة التعريف، ثم يتصرف فيها،
وقيل: لا يعزلها بل يعرفها بدون ذلك، وهذا قبض من نفسه لغيره.
ونظيره من اختلط له درهم بدرهم غيره؛ فيقسم بنفسه -حكى عن ابن
عبد السلام وفي المغصوب إذا غصبه مثله.
ومنها: في المعتدة المستحقة للسكنى -إذا غاب الزوج ولا مسكن
له.
قال الرافعي: إن أذن لها الحاكم أن [تكري] 1 المسكن من مالها،
أو تستقرض عليه، جاز.
ومنها: أجره بقدر من الدراهم، ثم أذن له في صرفها إلى العمارة
تقدمت.
ومنها: أذن لها الزوج في النفقة من دين له عليها -وهي موسرة-
صح، أو معسرة فلها الفسخ؛ لأنها منظرة.
ومنها: إذا ظفر بجنس حقه، أوبعوضه جاز له أخذه وبيعه، واستيفاء
حقه من ثمنه لمسيس الحاجة، قال ابن عبد السلام: فقد قام في حقه
مقام قابض ومقبض، وفي بيعه مقام وكيل وموكل.
ومنها: لو أراد أخراج زكاة الفطر عن الصبي ليعود عليه.
قاعدة: الاستثناء الشرعي قد يلحق بالاستثناء اللفظي أو الحسي،
وقد لا يلحق.
والفروع فيه متبددة، ولصاحب التهذيب في الحديثة المساقاة عليها
الكلام -سنذكره- استحسنه النووي، واعترضه ابن الرفعة بكلام
طويل.
ولوالدي رحمه الله تصنيف في قسمة الحديقة عمله [بالديار] 2
المصرية، ثم أملى علي -في الشام- تصنيفا سماه "الرياضة الأنيقة
في قسمة الحديقة" اعترض في كل منهما كلام البغوي، وكلام ابن
الرفعة، وارتضى لنفسه طريقة نفيسة، وأتى ببديع من القول.
__________
1 في "ب" تكتري.
2 في "ب" في الديار.
(1/265)
حاصلة: أن الاستثناء الشرعي لا يضر؛ سواء
كان المستثنى عينا أو منفعة بخلاف اللفظي.
وفي كلام الإمام والغزالي والبغوي ما يقتضي إلحاق الشرعي
باللفظي، وقد نازعه الشيخ الإمام فيه، وبيانه بصور ذكر -هو-
رحمه الله تعالى فيما أملاه علي كثيرا منها، وضممت أنا إليها
غيرها.
منها: بيع الأمة المزوجة صحيح، ولو باعها فاستثنى1 منفعة بضعها
لم يصح.
ومنها: "بيع العين المستأجرة صحيح" ولو باع دارا واستثنى
منفعتها شهرا، ولم يصح على الصحيح فيهما.
ومنها: إذا باع نخله [مؤبرة] 2 وبقيت الثمرة للبائع، ثم حدث
طلع جديد في تلك السنة؛ فالأصح أنه للبائع لا للمشتري -مع
الاتفاق على صحة البيع.
ومنها: إذا باع ما يجز مرارا [كالعنب] 3 والقصب، فجزتها
-الظاهرة عند البيع- للبائع، وما يحدث بعد، هل هو للبائع. أو
للمشتري؟ وجهان حكاهما الماوردي، مع الاتفاق على صحة البيع.
وجزم الرافعي بأن الظاهرة للبائع، والحادثة للمشتري وفرق بين
هذه المسألة والمسألة السابقة بوجهين.
أحدهما: أن الطلع له حد ينتهي إليه، ولا حد للرطبة.
والثاني: أنه لا منفعة للمشتري في قطع الثمرة. وللبائع منفعة
في ترك قطعها.
والرطبة في قطعها فائدة للمشتري وفي ترك قطعها فائدة للبائع،
وبذلك يندفع عن الرافعي الاختلاف في كلامه.
ومنها: إذا باع حاملا بولدين، بعد وضع أحدهما وبقاء الآخر
مختبأ؛ ففي كون المجتز للبائع أو للمشتري، قولان.
نعم: [قال الإمام] : إذا حكمنا بأن الولد للبائع؛ فيجب الحكم
بفساد البيع في الأم - على ظاهر المذهب".
__________
1وفي "ب" واستثنى.
2 في "ب" زيادة وعليها ثمرة.
3 في "ب" كالقط.
(1/266)
وهذا جار على ما اقتضته طريقته من أن
الاستثناء الشرعي كاللفظي.
ومنها: ذكر صاحب التهذيب، وسبقه إليه صاحب المهذب أن التين
والعنب إن ظهر بعضه، فالظاهر للبائع، وغير الظاهر للمشتري
وتوقف الرافعي والنووي في هذه الصورة.
قال صاحب الوافي: ولم أجد للأصحاب في المسألة غير ما ذكره
الشيخ يعني صاحب المهذب.
ومنها: لو باع العبد إلا يده أو رجله مثلا لم يصح، ولو كان
مستثنى شرعا- كما لو استحق قطع اليد عن قصاص أو سرقة صح، ولا
خيار للمشتري إن علم؛ لكن ينظر -هنا- أن المبيع هل ورد على هذا
المستحق فلا يكون من قبيل ما نحن فيه، أو لم يرد؟ الذي يظهر
الأول، وأنه مع ذلك يستحق القطع.
ومنها: لو باع الماشية إلا شاة الزكاة، لم يصح. للجهل
بالمستثنى المؤدي إلى الجهل بالمبيع، ولو باعها كلها -وقد وجبت
فيها الزكاة- صح، ويد الساعي ممتدة إلى أخذ شاة الزكاة؛ فهي
مستثناة شرعا وقد نص عليهما الشافعي في الأم في أبواب البيع،
في باب [النقباء] 1 في البيع والمبحث هنا -عن شاة الزكاة-
والحالة هذه، هل ورد العقد عليها ثم الساعي يفسخه، أو لم يرد
العقد ثم على البائع ضمانها للمشتري، وكذلك إذا بيع من عليه حد
فزمان استيفاء الحد منه مستثنى شرعا، وإن كان لو استثنى هذا
الزمان -لفظا- لأبطل.
ومنها: لو باع دارا عليها حق، ووضع جذعا أو أجرا ما صح، ولصاحب
الحق استيفاؤه وهي منفعة مجهولة مدتها مستثناة شرعا، ولو
استثناها بلفظه لم يصح.
قاعدتان:
قال الأصحاب في باب الصلح: "الأجل لا يلحق ولا يسقط".
أما قولهم: "لا يلحق" فإشارة إلى القاعدة الأولى، وهي أن الحال
لا يتأجل".
__________
1 في "أ" المستثنى والمثبت من "ب".
(1/267)
قال الشافعي رضي الله عنه في مختصر المزني
في باب النهي عن بيع وسلف وهي آخر مسألة في هذا الباب: "ولو
كان له على رجل حق -من بيع غيره- حال فأخره به مدة كان له أن
يرجع متى شاء؛ وذلك لأنه ليس بإخراج شيء من ملكه، ولا أخذ منه
عوضا، فيلزمه، وهذا معروف له [لا يجب] 1 أن يرجع فيه" انتهى.
وهنا صور يقع فيها وجوب تأخير الطلب لأمر خارجي -ليس لذات
الدين- فيعتقد أن الحال [يؤجل] 2 وليس كذلك.
منها: قال الرافعي في باب العقود المنهية -بعدما ذكر أن الحال
[لا يؤجل] 3: "لو أوصى من له دين حال على إنسان بإمهاله مدة
فعلى ورثته إمهاله تلك المدة لأن التبرعات بعد الموت تلزم؛
قاله في التتمة، وسكت الرافعي عن هذا.
وضم الناس إلى هذه الصورة، ما إذا أنذر أن لا يطالبه إلى شهر؛
فإنه طاعة، يلزمه الوفاء به.
واعلم أن هذه الصورة في التتمة أيضا، والعجب عدم ذكر الرافعي
لها، وهي التي قبلها في التتمة، في موضع واحد.
وهذا لفظ التتمة، قال عقيب4 ذكر ما نقله الرافعي عنه:
"الثامنة: إذا كان له حق حل أجله فقال: إن شفى الله مريضي، أو
رجع غائبي، فلله علي أن لا أطالبه شهرا؛ فالحكم فيه كما لو نذر
عيادة المرضى وتشييع الجنائز. انتهى.
ولا فرق بين الحال ابتداء وبأجل5 بعدما كان موجلا، في أن كلا
منهما لا يتأجل، وقد قال الرافعي -قبل هذا- ولو حل الأجل، فأجل
البائع المشتري مدة، أو زاد في الأجل- قبل حلول الأجل المغصوب-
فهو وعد لا يلزم، كما أن بدل الإتلاف لا يتأجل -وإن أجله.
انتهى بلفظ الروضة.
__________
1 في "ب" لا يجب له.
2 في "ب" تأجل فيها.
3 في "ب" لا يتأجل.
4 في "ب" عقب.
5 في "ب" فاضل.
(1/268)
وأقول: هاتان الصورتان -الوصية والنذر- ليس
فيهما تأجيل حال؛ بل تأخير الطلب مع الحلول، فلا ينقضان
القاعدة.
ونظيرهما: المديون المعسر، يجب إنظاره، وليس هناك تأجيل، وكذلك
إذا حل الدين، وجب تأخير الطلب به إلى فتح الصندوق وإحضار
القفل أو المال من البيت، وكذا من دون مسافة القصر، وكذا إلى
بيع سلعة على ما ذكر الأصحاب في باب الكتابة وليس في شيء من
هذا تأجيل الحال، ولا فرق بين هذه الصور ومسألة الوصية والنذر؛
إلا أن الأجل فيهما معلوم، ولا أثر لذلك، ولو أن الناذر - في
هذه المسألة مات؛ فهل لورثته المطالبة، لأن الدين حال والناذر
قد مات -وهم لم ينذروا- أو عليهم الإمهال؛ لأن الحق انتقل
إليهم؟ هكذا فيه نظر واحتمال.
فصل:
وأما قولهم: "ولا يسقط فإشارة إلى القاعدة الثانية، وهي أن
المؤجل لا يصير حالا".
ومن ثم أسقط من عليه المؤجل الأجل لم يسقط - على الصحيح
واستخرج الأصحاب في باب الصلح من كون الأجل لا يلحق ولا يسقط
أنه لا يصح الصلح من حال على مؤجل وعكسه.
فإن قلت: فقد قالوا -فيمن صالح من مؤجل على حال، وعجل المؤجل:
أن الأداء صحيح "وكيف يصح الأداء ولم يحل المؤجل".
قلت: لا تعلق لصحة الأداء بحلول الأجل فإن من عليه دين مؤجل أن
يؤديه حالا -ولا يخرجه ذلك عن كونه مؤجلا؛ لأنه متبرع: بخلاف
ما يلزمه.
واعلم أن المطلقين لصحة الأداء -في هذه الصورة- الإمام
والرافعي ومن تبعه.
وقد قيده الشيخ الإمام رحمه الله بما إذا عرف بطلان الصلح؛ فإن
ظن صحته استرد قطعا، قال: ولا يخرج على الخلاف فيما لو رهن
معتقدا أو وجوب الرهن لأن الرهن عقد، بخلاف الدفع، والقصد
معتبر في الدفع دون العقد.
(1/269)
وهذا الذي قاله الوالد متعين، يجب أن يكون
الفتيا عليه. وهذه صور يضطر فيها إلى الحكم على المؤجل بحكم
الحلول، وإن شئت قل: يضطر فيها إلى صيرورة المؤجل حالا، وتقع
-حينئذ- مستثناة من هذا الأصل.
منهاك الموت يحل به الدين المؤجل لخراب الذمة.
ومنها: إذا استرق الحربي، حل عليه المؤجل نص عليه؛ فيقضي من
ماله -الذي يغنمه القائمون- دينه.
ومنها: إسقاط من عليه الدين الأجل -على وجه- وقد صدرنا [به] 1
القاعدة.
ومنها: حلول الدين بالفلس- على قول.
ومنها: حلوله بالجنون- على قول.
قاعدة: "الشرط الذي يقتضيه العقد لا يضر".
كالبيع بشرط الإقباض، وكما إذا شرط في الرهن أن يباع المرهون
في الحق، وعبارة المحاملي أنه يصح، وقد تكلمنا عليها في شرح
المختصر في مسألة التعليل بعلتين، وقلنا: إن الصواب ما ذكره
الإمام والغزالي والرافعي وغيرهم من أن شرط مقتضي العقد لا
يضر، ولا ينفع، استشهدنا له بأن تدبير المستولدة لا يصح.
ومن غرائب مسائل القاعدة قول البغوي في فتاويه: لو تزوج من وقع
اليأس من احتمالها الجماع بشرط إلا يطأها، صح الشرط؛ لأنه
يقتضيه العقد.
قال: وكذلك إذا كانت لا تحمل في الحال، وشرط أن لا يطأها إلى
مدة الاحتمال.
ثم يستثنى من هذه القاعدة الأمة إذا خالعت زوجها بمال، وشرطته
إلى وقت العتق؛ فإنه يفسد، ويرجع بمهر المثل- بعد العتق- مع
كون هذا الشرط مقتضي العقد؛ فإنه لو خالعها على مال [ثبت] 2،
ولم يطالبها الآن بشيء وإنما يطالبها عند العتق.
__________
1 سقط من "ب".
2 في "ب" ثبت.
(1/270)
قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في باب
الخلع: "وهذا عجيب، شرط يوافق مقتضى العقد يبطله، ولذلك لو شرط
في البيع الإنظار بالثمن إلى اليسار؛ لكن ذلك ليس من مقتضيات
العقد، بل من مقتضى الشرع، ولا فرق، لأن الشرط الموافق للشرع
لا يفسد".
قلت: وكذلك إذا استأجر اليهودي [شهرا] 1 على عمل؛ فالثبوت تقع
مستثناة من الاستيفاء، أو المسلم فأوقات الصلوات تقع مستثناة
وكذلك أوقات القيلولة والراحة بالنسبة إليهما؛ فلو صرح بمقتضى
ذلك في أصل العقد كان مبطلا -على ما حرره الشيخ الإمام رحمه
الله- غير أنه يقول: هذه الأوقات ليست متخللة بين أوقات
الإجارة حتى تكون كإجارة العقب -ويجري فيها ما في تلك من
الخلاف- بل المنفعة كلها للمستأجر مستحقة بمقتضى العقد ثم عليه
توفيره عن العمل تلك الأوقات، ويظهر أثر ذلك فيما لو استعمله
في تلك الأوقات؛ فلا يجب عليه أجرة زائدة -كما أشار إليه
البغوي وصرح به الشيخ الإمام.
والحاصل أن ما [بقي] 2 مستثنى لو صرح به لأبطل؛ إنما المبطل ما
إذا أراد خروج هذه الأوقات من العقد -بالكلية- قال: فهذا ينبغي
أن يبطل العقد.
[وأقول] 3: قول الأصحاب: إنه يجوز الاستثناء للخدمة نهارا -دون
الليل- أما إذا أراد أن هذه الأوقات يقع توفيره فيها على العمل
-مع كون عقد الإجارة واردا عليها؛ فهذا تصريح بمقتضى العقد.
فلا يضر، وبهذا يتبين أن ذكر مقتضى العقد لم يضر، وأن هذه
الصورة لا ترد عليه، ولا يقال: أغفل ذكرها؛ لأنه حقق في شرح
المنهاج أن هذه الأوقات مستثناة من الاستيفاء لا من الاستحقاق،
وإن شئت [قل] 4 من استيفاء المملوك، لا من الملك، وليست متخللة
بين أوقات الإجارة، حتى تكون كإجارة العقب، ولا يطرقها الخلاف
الذي في إجارة العقب؛ فيظهر أثر ذلك فيما لو استعمله في تلك
الأوقات، [ولا] 5 يجب عليه أجره زائدة وبه صرح البغوي في
القيلولة، وفيما لو
__________
1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
2 في "ب" تقع.
3 وفي "ب" وأول.
4 في "ب" قلت.
5 في "ب" فلا.
(1/271)
أسلم الذمي، وأتى عليه بعد إسلامه يوم
السبت فيقول الشيخ الإمام: إنه يجب عليه العمل فيه، وأنه يتجدد
له بالإسلام استحقاق توفيره أوقات الصلوات وفيما لو استأجر
حائضًا؛ فلا يستثنى أوقات الصلوات في حقها.
لكن إذا تقرر هذا؛ فأقول: ينبغي أن يقال مثله فيما إذا خالعت
الأمة وشرطت المال إلى العتق فيقال: إن أرادت أن الاستحقاق
موقوف على زمان مجهول قيبطل، وليس ذلك مقتضي العقد، وإن أرادت
أن عليه إمهالها؛ فهذا لا يبطل، وهو الذي اقتضاه الشرع في هذا
العقد فلا استثناء.
ونظير ذلك إذا قال: أنكحتكها على ما أمر الله به عز وجل، من
إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، مقيدا الإيجاب به، قال الشيخ
أبو محمد: يبطل لأنه نكاح بشرط.
والأصح الصحة: لأنه مقتضي العقد، وفصل الإمام فقال: إن أجراه.
[شرطا] 1 ملزما، فالوجه البطلان وإن قصد الوعظ، لم يضر، وإن
أطلق احتمل، واحتمل.
قلت: وهذا الذي قاله الإمام يشبه2، ما قاله الشيخ الإمام في
الأوقات المستثناة إذا صرح بها في أصل العقد؛ غير أن في تفصيل
الإمام رحمة الله نظر لأن صورة مسألة النكاح أن يقيد الولي
الإيجاب بهذا الشرط -ويقبل الزوج مطلقا- أو مكررا له، وإذا
ذكره على سبيل الوعظ لم يكن مقيدا؛ إلا أن يعني بالتقييد مجرد
ذكره في اللفظ، لا قبله وهذا هو المعنى - على ما يدل عليه سياق
الرافعي.
فصل:
أما الشرط الذي لا يقتضيه العقد فيصح، إن كان من مصلحته؛ سواء
مصلحة البائع -كالرهن والكفيل- والمشتري ككونه كاتبا، وضمان
الدرك ومصلحتهما - كالخيار لهما.
وقضية هذا أنه إذا أجره أرضا ليزرع القمح، ولا يزرع غيره، يصح
العقد
__________
1 في "ب" لفظ.
2 في "ب" زيادة الذي.
(1/272)
والشرط، وهو ما صححه الوالد رحمه الله- بعد
أن حكى في المسألة ثلاثة أوجه عن مجرد القاضي أبي الطيب.
وإن لم يكن من مصلحته؛ فإن لم يتعلق به غرض يورث تنازعا، كشرط
أن لا يلبس إلا الخز، ولا يأكل إلا الهريسة؛ فالذي نص عليه
الشافعي رضي الله عنه أنه لا يصح.
وأما ما قطع به الإمام الغزالي -من أنه لا يفسد- محجوج بما
حكيناه من النص، وقد اقتضى كلام الرافعي والنووي أنهما لم يجدا
في المسألة غير كلام الإمام الغزالي؛ لأنهما اقتصرا عليه، وذكر
الرافعي الفساد بحثا من قبله -معتضدا بكلام صاحب التتمة، وقال
ابن أبي الدم: سمعت بعض الفقهاء يذكر أن الفساد وجه.
قلت: وقد أغنانا الله بما ذكرناه من النص عن تحقيق البحث:
والوجه وأما ابن الصلاح؛ فإنه استشكل ما ذكره الغزالي؛ فقال:
الأجود أن يقرأ قوله: بشرط أن لا يأكل إلا الهريسة بالثاء
[ثالثة] 1 الحروف خطابا للمشتري، كيلا ينازع منازع في عدم
الغرض -على تقدير تصويره- فيما إذا اشترط للعبد المبيع.
قلت: وفي كلام النهاية والبسيط تأييد له وعبارة الإمام بشرط أن
لا يلبس بعده إلا الخز، أو ما ضاهى ذلك من الاقتراحات، وفي
نسخة معتمدة رأيتها -من البسيط- بما ذكره ابن الصلاح؛ لكن قد
ينازع منازع في حكمه- ولو كان خطابا للمشتري.
ويقول: قد يتعلق به غرض، ولذلك أصل وهو ما إذا أعطاه درهما،
قال ادخل به الحمام؛ فقد قال القفال: إن كان غرضه تحصيل ما
عينه لما رآه به من الشعث والوسخ، لم يجز صرفه إلى غير ما
عينه، وسكت عليه الرافعي، وحكى النووي في التعيين -عن فتاوي
القاضي الحسين- وجهين، وقريب منها مسألة أبي زيد في الكفن،
وإذا صح تعلق الغرض به فلم لا يفسد كالمسألة المنصوصة.
وأما ما تعلق به غرض لأحدهما، وليس من مصلحة العقد، كشرط أن لا
يقبض ما اشتراه، فيبطل.
__________
1 في أ، ب ثانية.
(1/273)
ويستثنى شرط عتق العبد؛ فالمذهب صحة البيع
والشرط جميعا.
فائدة: إذا عرفت أن شرط مقتضى العقد لا يضر ولا ينفع، علمت أن
ما هو حاصل وإن تلفظ به اللافظ؛ فلا يضر ذكره، وهذا ليس على
إطلاقه، بل قد لا يضر، كما مثل، وقد يضر، كما إذا نوى المتوضئ
رفع الحدث والتبرد؛ فإنه يبطل على وجه مع أن التبرد المنوي
حاصل -وإن لن ينوه- ولكن المذهب الصحة.
ونظير المسألة: الإمام إذا كبر ورفع صوته ونوى إعلام المأمومين
جاز وإن كان لو رفع الصوت ولم ينو الإعلام، حصل، فنيته لا تؤثر
ويقرب من ذلك بعتك إن شئت فالمذهب الصحة، ولا يضر لفظ التعليق
على المشيئة؛ لأنه لو لم يشأ لم يشتر.
تنبيه: قد يتردد في أن الشيء مقتضى العقد أو لا فيورث ذلك
ترددا في أن شرطه هل يبطل أو لا؟
وبيانه بصور.
منها: إذا كان العلو والسفل لواحد، فباع العلو وحده صح وهل
للمشتري أن يبني فوق العلو؟ وجهان في الحاوي، قال الشيخ
الإمام: ينبغي أن يكون أصحهما المنع؛ لأن الهواء حق لصاحب
السفل؛ وإنما خرج عنه البناء عن الهيئة الموجودة عند البيع
-ذكره في باب الصلح- وإن شرط أن لا يبني، صح، وليس له البناء
قاله الماوردي.
قلت: فهذا بيع بشرط لم يضر، وكان يتجه أن يقال: إن كان من
مقتضى العقد صح، وإلا فلا، وإن شرط أن يبني صح- خلافا للمزني.
قاعدة: الاعتبار في تصرفات الكفار باعتقادنا لا باعتقادهم.
خلافا لمالك -ومن ثم إذا أتونا بما نتيقن أنه من ثمن خمر لا
نأخذه في الجزية- خلافا لمالك وإذا ذبحوا حيوانا وفتشوا كبده؛
فوجدوه ممنوا- أي ملصوق الكبد بالأضلاع -نأكله- خلافا لمالك-
حيث حرمه، لكونه حراما عندهم.
قاعدة: حمل اللفظ إلى ما يتبادر إلى الذهن أولى.
ومن ثم يحمل على الحقيقة ما لم يترجح المجاز بشهرة أو غيرها
كما لو قال: لا آكل من الشجرة فإنه يحمل على ثمرها، وإن كان
خلاف الحقيقة لترجحه.
(1/274)
وهذا في شهرة تصير الحقيقة مرجوحة بالكلية،
أما شهرة لا تمنع استعمال الحقيقة فهي مسألة المجاز الراجح،
والحقيقة المرجوحة، وفيها المذاهب المعروفة.
قاعدة: اللفظ موضوع -عندي- لأعم من الصحيح والفاسد ولا يحمل
عند الإطلاق إلا على الصحيح.
وهذه قاعدة حققتها في باب المناهي من شرح المختصر، وأغرب
الرافعي؛ فقال في كتاب الإيمان -عند الكلام على قول الوجيز-
ولو قال: لا أبيع الخمر من النوع الثالث ما نصه "وسيأتي خلاف
في أن لفظ العبادات، هل يحمل على الصحيح؟ كما إذا حلف لا يصوم،
ولا يصلي" انتهى.
والخلاف غريب، لم أره حكاه قبل ولا بعد.
قاعدة: اللفظ إذا أطلق -اسما- على شيئين، وجود أحدهما يعقب
وجود الآخر؛ فإنه يحمل على الأول ولا يجعله الإطلاق مجهولا1
على الأصح، "ومن ثم لو وقت السلم بجمادي أو ربيع، أو العبد،
ينزل على الأول.
قاعدة: لا يثبت حكم الشيء قبل وجوده.
هذا هو الأصل، ولكن اختلف الأصحاب في المشرف على الزوال، هل
يعطي حكم الزائل؟ وربما قالوا: "المتوقع هل يجعل كالواقع؟ أو
ما قارب الشيء هل يعطي حكمه؟
وهي عبارات عن معبر واحد، وربما جزموا بإعطائه حكمه؛ وذلك نقض
على الأصل، لقوة أصل آخر عليه، اجتذب ذلك الفرع، وانتزعه، وهذا
شأن كل المستثنيات من القواعد -كما حررناه في الأصل- وإليه
[أشار] 2 بقول الشافعي رضي الله عنه: "والقياس قياسان: أحدهما
في معنى الأصل؛ فذلك الذي3 لا يحل لأحد خلافه، ثم قياس أن يشبه
الشيء بالشيء وموضع الصواب عندنا -والله أعلم- أن ينظر فأيهما
كان أولى لشبهه؛ صيره إليه إن أشبه أحدهما في خصلتين والآخرة
في خصلة، ألحقه بالذي هو أشبه في خصلتين. انتهى.
__________
1 في "ب" محمولا.
2 في "ب" الإشارة.
3 سقط في "ب".
(1/275)
مثال إعطاء المشرف حكم الزائل، تحريم وطء
المشتري الجارية المبيعة بعد التحالف وقبل الفسخ -وفيه وجهان
مرتبان على الوجهين في تحريم الوطء بعد الترافع إلى مجلس الحكم
[والتحالف] 1 والمصحح من هذين -الحل والتحريم- بعد التحالف
أولى، وربما لم يعطوه حكمه كبيع العبد المريض والجاني؛ فإنه
صحيح مع الإشراف على الزوال - وذلك هو الجادة؛ فلا يطلب له علة
تخصه.
قاعدة: الزائل العائد، كالذي لم يزل، أو كالذي لم يعد" 2.
في أكثر صوره خلاف منتزع الأصل من قولين منصوصين فيما إذا قال
لعبده: إذا جاء رأس الشهر فأنت حر، ثم باعه، ثم اشتراه- ثم جاء
رأس الشهر ففي العتق قولان وهما يشبهان الخلاف، أيضا -فيما إذا
علق طلاق زوجته بصفة ثم أبانها، ثم جدد نكاحها، ثم وجدت الصفة.
ومن مسائله:
لو أفلس بالثمن، وقد زال عن المبيع وعاد، هل للبائع الفسخ؟
ومنها: لو وهب لولده وزال ملك الولد وعاد، هل للأب الرجوع؟
ومنها: لو عاد التبذير بعد ما بلغ رشيدا؛ فالأصح يعيد القاضي
الحجر ولا يعود بنفس التبذير.
ومنها: لو بيع شقص، فارتد الشريك، وقلنا: الردة تزيل الملك؛
فإن عاد إلى الإسلام، وعاد ملكه، ففي ثبوت ذلك3 تردد عن الشيخ
أبي علي، يتجه تخريجه على الزائل العائد، والظاهر المنع.
ومنها: إذا نقص بعض الأربعين في الخطبة وعادوا -وقد مضى ركن-
فهذا الزائل العائد كالذي لم يعد قطعا، وتبطل الخطبة، وإن سكت
ولم يطل الفصل إلى أن عادوا؛ فهو كالذي لم يزل وتصح وإن طال
فقولان، أصحهما البطلان، وإن نقصوا في الصلاة: بطلت مطلقا على
أظهر الأقوال، وهو كثير، ومن أماكن الجزم، القاضي إذا سمع
البينة، ثم عزل، ثم ولي؛ فلا بد من استعادتها، أما إذا خرج عن
محل ولايته ثم عاد؛ ففي استعادتها وجهان.
__________
1 في "ب" قبل التحالف.
2 المنثور 2/ 178، الأشباه للسيوطي 176.
3 في "ب" الشفعة.
(1/276)
ولو باع النصاب في أثناء الحول، ثم استرده
بسبب جديد، لم يقل أحد بأنه كالذي لم يزل حتى تجب الزكاة في
ذلك الحول؛ فلذلك قضى الشيخ الإمام [بعدم] 1 اطراد القاعدة،
ولم يرها أصلا يعتمد، وخرج ابن الرفعة عليها الوجهين فيما لو
أدى الضامن الدين ثم وهبه رب الدين منه، هل يرجع على الأصيل
[المضمون] 2 عنه؛ فإن قلنا: كالذي لم يزل، لم يرجع على الأصيل
المضمون عنه وإلا رجع.
وضعف بناء [الرافعي] 3 أياهما على القولين، فيما لو وهبت
الصداق من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول، من حيث إن الهبة لو
فقدت ووقع الطلاق؛ لكان الشطر عائدا: للزوج بعينه، قال: فهبته
منه تعجيل ما4 سيجب، وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه.
قلت: وتخريج القولين -في هبة الصداق- على القاعدة ظاهرة، ولهذا
يظهر تخريج مسألة الضمان عليهما.
فإن قلت: فلم احتجب إلى الواسطة.
قلت: لعله لما ذكره ابن الرفعة.
قاعدة: لا فرق في ضمان المتلف بين العلم والجهل.
ولا يرد ما إذا استعمل العارية -بعد الرجوع- جاهلا به؛ حيث لا
تجب عليه الأجرة فيما إذا ذكر القفال: "وإذا أمر السلطان رجلا
بقتل رجل -بغير حق- والمأمور لا يعلم؛ حيث لا دية على القاتل.
وإذا جن المحرم، ثم قتل صيدا؛ حيث لا جزاء واجب في الأظهر من
القولين.
وإذا قتل مسلما -ظن كفره- بدار الحرب؛ فالأصح لا تجب الدية.
وإذا رمى إلى مسلم تترس به المشركون؛ حيث لا دية إذا جهل
إسلامه.
وإذا باشر الولي [القصاص] 5 من الحامل جاهلا بحملها فالأصح أن
الدية على السلطان.
__________
1 في "ب" بعد.
2 في "ب" المعتمد.
3 سقط من "ب".
4 في "ب" لما.
5 في "ب" الاقتصاص.
(1/277)
وإذا أباح له ثمرة بستان، ثم [رجع؛ فأكل
بعد الرجوع قبل العلم حيث لا يغرم في أحد الوجهين وإنما] 1 ذلك
لما ذكرناه في الأصل.
قاعدة: كل ما لا يعلم إلا من جهة الشخص، يقبل قوله فيه ومن ثم
مسائل:
منها: يقبل قولها في الولادة والحيض وشكك بعضهم في كون هذين لا
يعلمان إلا من جهتها، وادعى إمكان إقامة البينة عليهما، وهو في
الحيض متعذر، وفي الولادة غير متعذر.
ومنها: إذا علق طلاقها بالمشيئة أو الرضا، أو الإرادة [أو
إضمارها] 2 بعضه، ونحو ذلك. ومنها تصديق الأب في دعوى الاحتياج
إلى النكاح - على الصحيح.
ومنها: إذا ادعت أنها حامل وقف الميراث.
ومنها: يكف عن قتل مدعيه الحمل إذا وجب عليها القصاص.
ومنها: إذا قال: أخرج يدك؛ فأخرج اليسار، فقطع ثم اختلفا، فقال
المخرج: قصدت بأخراجها قطعها عن اليمين. وقال القاطع: بل
أبحتها، صدق المخرج.
ومنها: إذا باعه صاعا من صيعان مجهولة الجملة ثم اختلفا؛ فقال
المشتري أردت الإشاعة، وقال البائع: [بل] 3 أردت معينا؛
فالأرجح أن القول قول البائع.
وأمثلة كثيرة وعد منها بعض الطلبة إذا قال لزوجته: إن علمت كذا
فأنت طالق -متوهما أن علمها لا يعلم إلا من جهتها، وأن قولها
فيه مقبول فتطلق إذا قالت: علمت.
والفرع لا أعرفه مسطورا، ومما حفظته وعلقته من فوائد أخي
الإمام المحقق بهاء الدين أبي حامد شيخنا وبركتنا أطال بقاءه
"أنه ينبغي أن لا تطلق بقولها علمت؛ لأن [إحدى] 4 قيدي العلم
المطابقة الخارجية، ولا يقبل قولها فيه؛ لإمكان إقامة البينة
عليه؛ فلا بد أن يعلم من خارج وقوع ذلك الشيء.
قلت: وهذا حق، ويشهد له أن الرجل لو قال لآخر: أنت تعلم [أن] 5
العبد الذي في يدي حر، حكم بعتقه، نقله الرافعي عن خط
الروياني، عن بعض الأئمة،
__________
1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
2 في "ب" اختيارها.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" أحد.
5 في "ب" زيادة هذا.
(1/278)
محتجا بأنه لو لم يكن حرا، لم يكن المقول
له عالما بحريته، وقد اعترف السيد بعلمه.
وهذا بخلاف ما لو قال: أنت تظن، ويشبهه، ما رأيته في أدب
القضاء لشريح الروياني "أنه لو قال: علي ألف -فيما أظن أو
أحسب- لم يلزمه، وإن قال: فيم أعلم أو أشهد، لزمه. ويستثنى من
هذه القاعدة مسائل:
منها: لا يصدق السفيه في دعوى توقان نفسه واحتياجه للنكاح.
ومنها: لا تصدق1 في دعوى الحمل حتى يدفع إليها النفقة.
ومنها: إذا اختلف الزوجان في أنه نوى الطلاق إذا أتى بلفظ
الكناية؛ فإن القول قول الزوج2.
قاعدة: قال أبو عاصم العبادي في أدب القضاء، وتبعه أبو سعيد
الهروي في أواخر كتاب الإشراف: "لا يقتص من نفسه لغيره إلا في
مسألتين".
إذا أكل اللقظة، وأخذ الثمن من نفسه وصار أمانة، قال أبو سعيد:
"يعني إذا أخذ قيمته من نفسها وعرفها -فهي أمانة- في أحد
الوجهين.
والثانية: إذا قال [اقبض ما لي] 3 عليك من الدين؛ فأسلم في
كذا، صح قال ابن سريج4: والمذهب أنه لا يصح - انتهى.
قلت: أما مسألة اللقطة إذا أكلها؛ فالأصح -على ما ذكر الرافعي
[ووقف] 5 فيه الشيخ الإمام -وجوب التعريف بعد ذلك، قال الإمام:
إلا أن يكون في الصحراء.
والأصح أنه لا يجب - بعد ذلك [الإقرار] 6 القيمة لأن ما في
الذمة، لا يخشى هلاكه وإذا أفرز كان أمانة في يده، ولعل
الوجهين اللذين أشار أبو عاصم إليهما بقوله: فهي أمانة -في
الوجهين هما هذان، ولا يريد أن الخلاف في كونه أمانة؛ بل في
أنه هل يفرز، أو لا.
فإن قيل: بالإفراز، كان أمانة، ثم على القول بوجوب الإفراز -
قول أبي عاصم أنه يقبض لغيره من نفسه - غريب، والمحفوظ أنه
يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض عن صاحبه، وللإمام احتمال في أن
الملتقط يقيم نائبا عن المالك.
__________
1 في "ب" زيادة السفيه.
2 في "ب" فإن الزوج لا يصدق.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" قاله ابن سريج.
5 في "ب" وتوقف.
6 في "ب" إفراز.
(1/279)
هذا ما في الرافعي، والذي في تعليق القاضي
الحسين، أنها على وجه الإفراز - توضع عند عدل؛ فلا أعرف من قال
بأن الملتقط يقبض من نفسه لغيره، غير أبي عاصم.
وأما مسألة السلم: فمقالة ابن سريج غريبة وما أراها إلا
المسألة التي ذكرها الرافعي في باب الوكالة؛ حيث قال: إذا قال
لرجل أسلم في كذا وأد رأس المال من مالك، ثم ارجع علي: "قال
ابن سريج: يصح ويكون رأس المال قرضا -على الأمر- وقيل: لا يصح؛
لأن الإقراض لا يتم إلا بالإقباض، قال النووي.
قلت: الأصح -عند الشيخ أبي حامد وصاحب العدة- أنه لا يصح وهو
نص الشافعي في الصرف.
قال الشيخ أبو حامد: وما ذكره أبو العباس سهو وبقيت مسائل:
منها: قول الرافعي فيما [إذا] 1 أجره داره بدراهم معلومة، ثم
أذن له في الصرف إلى العمارة [أنه يجوز] 2، وقد قدمناه في
قاعدة: "اتحاد القابض والمقبض"، وذكرنا بحث ابن الرفعة فيه وما
فيه من النظر.
أقول - هنا: إن مقالة ابن سريج، تؤيد قول الرافعي، وفي قول أبي
عاصم: "المذهب أنه لا يصح ما يرد عليه" وهو القياس.
ومنها: إذا باع مال نفسه لولده -المحجور- فإنه يقبض من نفسه
لولده.
قاعدة: كل ما أنقص العين أو القيمة - نقصا يفوت به غرض صحيح
ويغلب في أمثاله عدمه؛ فهو عيب يرد به المبيع".
قال الرافعي: إنما اعتبر نقصان العين للخصاء؛ فإنه يرد به -وإن
لم ينقص القيمة-[لكونه] 3 أنقص العين إنما لم نكتف بنقص العين
واشترط فوات غرض صحيح؛ لأنه لو قطع من فخذه أو ساقه - قطعة
يسيرة، ولا تورث شيئا، ولا تفوت غرضا، لا يثبت الرد.
واعترضه ابن الرفعة، بأن في تصويره عسرا؛ فإن آثار الجرح تثبت
الخيار - كما نقله في الإشراف.
__________
1 في "ب" لو.
2 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
3 في "ب" لأنه.
(1/280)
وفيه نظر: فإنه هذا لا يسمى جرحا، وإن فرض
أنه يسمى -ولم يندمل فذاك ينقص القيمة، ويفوت به غرض.
ثم قال الرافعي: ولهذا قال صاحب التقريب: إن قطع من أذن شاة ما
يمنع التضحية، ثبت الرد، وإلا؛ فلا.
واعترضه ابن الرفعة بأنه تبع في ذلك الإمام، وأن بعضهم اعترض
الإمام فيه -بأن الإمام نفسه خطأ من يعتبر العيب بالضحايا؛ إذ
مقصود العيب المال، ومقصود الضحايا حسن النظر وكمال الصورة-
ولك أن تدعي تلازمهما غالبا، ثم قوله: إن قطع من أذنها بما
يمنع التضحية يقتضي أن قطع بعض الأدن- منه ما يمنع من التضحية،
ومنه ما لا يمنع والأصح أن إبانة جزء من الأدن يمنع الأجزاء،
وفي التعريف أيضا احتراز عما إذا وجد العبد والجارية مختونين؛
فإن فات جزء من أصل الخلقة بالختان، لكن فواته مقصود دون
بقائه؛ فلا رد به -إذا كان قد اندمل- وإنما اشترط كون الغالب،
في أمثاله عدمه، لأن الثيابة -مثلا- في الإماء معنى ينقص
القيمة، لكن لا رد به إذا كانت كبيرة، في سن -لا تغلب فيه
البكارة- لأنه ليس الغالب فيهن عدم الثيابة.
ومن مسائل القاعدة:
عدم نبات عانة الجارية - حدث ذلك في زمن القاضي أبي عمر
المالكين وقضى بأنه عيب. وذكر اثنان من أصحابنا وهما الهروي
"في الإشراف" والقاضي شريح الروياني في كتاب "أدب القضاء"
[قالا] 1: إنه عيب وفيه -عندي- نظر، وأقصى ما يشبه به الحيض،
فإن من لا تحيض ترد بهذا العيب، لدلالته على ضعف في الخلقة؛
فإن كان يقال: إن عدم إنبات العانة يدل على فساد المنبت فهو
عيب، لكنني لا أعتقد ذلك وكون المبيع مما قيل إنه موقوف وإن لم
يثبت ذلك فائدة: عرفت الضابط في عيب المبيع، وقال النووي في
تهذيب اللغات، العيب ستة أقسام، عيب المبيع، ورقبة الكفارة
والغرة، والأضحية، والهدي، والعقيقة، وفي أحد الزوجين، وفي
الإجارة. وحدودها مختلفة.
- ففي البيع ما ينقص المالية، أو الرغبة، أو العين.
- وفي الكفارة ما يضر بالعمل إضرارا بينا.
- وفي [الأضحية والهدي2 والعقيقة] ما ينقص اللحم.
__________
1 في "ب" وقالا.
2 في "ب" تقديم وتأخير.
(1/281)
- وفي النكاح ما ينفر عن الوطء، ويكسر سورة
التوقان.
- وفي الإجارة ما يؤثر في المنفعة تأثيرا يظهر به تفاوت في
قيمة الرقبة؛ لأن العقد على المنفعة وعيب الغرة كالمبيع.
قلت: ولم يذكر عيبًا بل الدية، وعيب الزكاة وعيب الصيد في
الإحرام وعيب الصداق إذا طلقها قبل الدخول لدخولها فيما ذكره
فليتأمل.
قاعدة: كل عيب يوجب الرد على البائع، يمنع الرد إذا حدث عنه
المشتري.
قال الرافعي: إلا في الإبل، قال ابن الرفعة والوالد رحمهما
الله، ولعله احترز به عما ذكره ابن الصباغ، من أنه لو اشترى
عبدا له أصبع زائدة، فقطعه؛ فإنه يمنع الرد، أي: وإن كان قطع
الأصبع الزائدة، إذا وجد في يد البائع، واندمل، لا يرد به
المشتري، كما قاله المتولي والبغوي.
قاعدة: ذكرها الإمام في كتاب البيع، وأشار إليها الرافعي في
باب التفليس "الحمل يندرج في كل عقد معاوضة صدر بالاختيار"
كبيع الجارية المرهونة والرد بالعيب، والرجوع بسبب الفلس، أو
انتفاء العوض كالرهن والهبة - ففي التبيعة قولان.
فإن قلت: قضية هذا أن يجري قولان في العتق لانتفاء [العوض] 1
ولا خلاف أنه إذا أعتق حاملا، تبعها الحمل.
قلت: ليس العتق من العقود، والكلام فيما هو عقد، على أن
الرافعي.
قال في مكان: إن الوصية عقد، وإذا كانت عقدا، كان العتق عقدا؛
ولكن ذلك غير مسلم.
قاعدة: ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح.
وهذه القاعدة قد تنقض بما نقله الرافعي عن صاحب التتمة -ساكتا
عليه- أن الزوج المختلع إذا وكل محجورا في قبض المال من
الزوجة؛ ففعل كان مضيعا له وتبرأ المرأة بالدفع -مع أن توكيل
المحجور في القبض لا يصح لكن الشيخ الإمام قال: هذا إذا كان
العوض معينا أو كان الطلاق معلقا بدفعه، أما إن كان الخلف على
مال. في ذمتها - فينبغي أن لا يصح القبض وإذا أتلف ضاع على
المرأة.
__________
1 في "أ" الفرض والمثبت من "ب".
(1/282)
قاعدة: متلقاة عن شيخ أبي إسحاق الشيرازي
رحمه الله: كل خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال؛ فهو على
الفور.
قال المتكلمون على احترازاته:
إنه احترز بقوله: "ثبت بالشرع" عن خيار الشرط في المبيع.
وبقوله: لدفع الضرر عن المال عن خيار الأمة إذا أعتقت تحت عبد
إذا قلنا: ليس الخيار على الفور - وعن خيار المرأة في المطالبة
بالفيئة أو الطلاق في الإيلاء والخيار بين القصاص والدية، وعن
خيار المجلس؛ فإنه ليس لدفع الضرر، بل قد لا يكون ضرر أصلا وعن
خيار العنة أيضا.
فاشتملت هذه القاعدة على خيار العيب؛ فإنه على الفور ولذلك قال
في المهذب: فيما إذا وجد بالمشتري عيبا؛ فأراد الرد لم يؤخره،
فإن أخره من [عذر] 1 سقط الخيار؛ لأنه خيار ثبت -بالشرع- لدفع
الضرر عن المال، فكان على الفور كخيار الشفعة.
واشتملت -أيضا- على الشفعة- ولذلك قال في باب الشفعة- من
المهذب أيضا إن أخر الطلب -من غير عذر- سقط؛ لأنه على الفور،
فسقط بالتأخير من غير عذر كالرد بالعيب. وهو موضع معروف
بالإشكال عندهم -والمحققون يبحثون- عند الانتهاء إلى هذا
الإشكال- علما منهم أن هذا الشيخ - الذي هو أستاذ أرباب الجدل-
لا يفعل ذلك سدى، وأقصى ما انتهوا إليه - قولهم: قاس العيب على
الشفعة، لورود الخبر فيها، وعكس في الشفعة؛ لاتفاق أكثر
العلماء على أن الرد بالعيب -على الفور- بخلاف الشفعة ونظيره
قياس القراض على المساقاة لورود الخبر فيها، وعكسه الإجماع على
القراض.
وقال الشيخ الإمام، في تكملة شرح المهذب: إن من تأمل كلام
الشيخ في باب الشفعة، حكم بعدم صحة السؤال؛ فإنه لم يقس كونها
فورية على الرد بالعيب؛ وإنما قاس سقوطها -بالتأخير عليه وهما
غيران ثم اعترض على نفسه، بأن الفورية إن لزمها
__________
1 في "ب" من غير عذر.
(1/283)
السقوط بالتأخير، لم يحتج في الشفعة إلى
قياسه على الرد بالعيب؛ وإلا فلا يكفي، في الرد بالعيب- القياس
على الشفعة.
قال: "وقد خطر لي -في الجواب عن ذلك والاعتذار عن المصنف في
جعله سقوط الشفعة بالتأخير، بعد تقدير كونه على الفور مقيسا
على الرد بالعيب- مسألة غريبة، نقلها أبو سعد الهروي عن تعليق
البندنيجي، إن الشافعي نص -في اختلاف العراقييين- على القول
الصحيح، إن الشفعة على الفور، أن للشفيع خيار المجلس.
فلعل الشيخ أبا إسحاق، اطلع على النص القائل "بأن الشفعة لا
تبطل بالعفو، ما دام في المجلس" -على قول الفور- ولا شك أن
التأخير. أولى بعد البطلان؛ فأراد أن يدفع ذلك بالقياس على
الرد بالعيب، وبهذا ينتفي السؤال عنه.
قال الشيخ الإمام: على أني نظرت باب الشفعة -من اختلاف
العراقيين نظرا؛ فلم أر هذا النص فيه، وهو غريب مشكل ولكنه في
نصوص الشافعي لأحمد بن بشرى. وهو قضية اختلاف الأصحاب في ثبوت
خيار المجلس في الشفعة".
قلت: وهو وجه مصرح به.
ثم يستثنى من هذه القاعدة خيار التصرية فإنه يمتد ثلاثة أيام
-على ما صححه [الشيخ] 1 الإمام -خلافا للرافعي والنووي، وهو
خيار ثبت بالشرع، لدفع الضرر عن المال لكن الشيخ الإمام أجاب
عن إيراده على القاعدة "بأنه خيار شرع، لا خيار عيب أي ثابت
بالحديث؛ ولذلك يثبته مع العلم، وإذا كان كذلك فلا يكون لدفع
الضرر عن المال".
قاعدة: ذكرها الإمام في باب الرد بالعيب في فصل التدليس وجعلها
ضابطا لما يحرم من التدليس وما لا يحرم.
من علم شيئا يثبت الخيار فأخفاه، أو سعى في تدليس فيه فقد فعل
محرما؛ فإن لم يكن السبب مثبتا للخيار فترك التعرض له لا يكون
من التدليس المحرم.
قلت: ولك أن تختصر هذه العبارة فتقول: "يحرم إخفاء ما يثبت
الخيار دون ما لا يثبت"، وقد كان يختلج في الذهن أن ما لا يثبت
الخيار أولى بالتحريم؛ إذ لا استدراك لفارطه بخلاف مثبت
الخيار.
__________
1 سقط في "ب".
(1/284)
ونص الشافعي رضي الله عنه -حيث قال: "وكذلك
المدلس قد عصي الله تعالى والبيع لازم الثمن حلال" يدل التحريم
كل تدليس.
وهذا نص حكاه الماوردي في الحاوي: قبيل فصل تلقي الركبان، وحكى
أن أبا علي بن أبي هريرة رحمه الله تعالى كان يقول: "إن ثمن
التدليس حرام لا ثمن المبيع؛ ألا ترى أن المبيع إذا فات رجع
على البائع بأرش عيب التدليس؛ فدل على أنه أخد منه بغير
استحقاق" انتهى.
وهذا الذي حكاه عن ابن أبي هريرة1 غريب، ومعناه أن الزيادة
بسبب التدليس محرمة لا جملة الثمن.
ولم يذكر صاحب البحر هذا -مع كثرة استقصائه لكلام الحاوي- ثم
إن الإمام رحمه الله قال- بعد ذكر هذه القاعدة: "ومما لا يجب
التعرض له ذكر القيمة؛ فليس البائع مقيدا -في الشرع- بأن يبيع
الشيء بثمن مثله قال: وهذا ينبني على ما ذكرناه؛ فإن الغبن
بمجرده -إذا- اطلع على المشتري لا يثبت له خيار - انتهى.
وقد حكى الشيخ الإمام رحمه الله هذا كله عن الإمام في أوائل
باب الرد بالعيب من تكلملة شرح المهذب - ساكتا عليه.
وأقول: إن أراد الإمام أنه لا يجب على البائع ذكر قيمة المبيع
-في نفسه- فهو حق، وليس عدمه تدليسا البتة، وإن أراد ما إذا
اشترى بغبن، ثم أراد البيع -في باب المرابحة- فالصحيح وجوب ذكر
الغبن؛ لكن صحح الإمام والغزالي عدم وجوبه؛ فالإمام جار على
أصله غير أنه أشار إلى هذه المسألة بقوله: "إذ الغبن -بمجرده-
إذا اطلع عليه المشتري لا يثبت له خيار"، إن أراد به الغبن في
المبيع من حيث هو إذا اشتراه بدون قيمته ولم يبعه مرابحة ولا
أخبر بالثمن فصحيح وليس مما نحن فيه.
__________
1 الحسن بن الحسين القاضي أبو علي بن أبي هريرة البغدادي أحد
الأئمة من أصحاب الوجوه تفقه على ابن سريج وأبي إسحاق المروزي
ودرس ببغداد وروى عنه الدارقطني وغيره وتخرج به جماعة من
الأصحاب مات ببغداد في رجب سنة خمس وأربعين وثلاثمائة -ابن
قاضي شهبة 1/ 126، تاريخ بغداد 7/ 98، وفيات الأعيان 1/ 358،
شذرات الذهب 2/ 370، البداية والنهاية 11/ 304، ابن السبكي 3/
256.
(1/285)
وإن أراد الغبن في المرابحة -حيث يخبر
بالثمن- ففيه إشارة إلى أنا إن وجبنا الإخبار عند ذكر الثمن
فلم يخبر لا يثبت الخيار.
ويمكن تخريج وجهين في ذلك -مما إذا صاحبه- فإن1 في ثبوت الخيار
للمشتري وجهين أصحهما -عند النووي- ثبوته.
وفي القاعدة طردا وعكسا مسائل:
منها: من علم بالسلعة عيبا لم يجز له أن يبيعها حتى يبين
عيبها. وشذ المحاملي والروياني فقالا: إن ذلك يستحب.
قال الشيخ الإمام -في تكملة شرح المهذب: "وهي عبارة رديئة
موهمة"؛ فلا يقول أحد -له علم- بعدم الوجوب وإن باع- ولم يبين
العيب، ثبت الخيار.
ومنها: لو اشتراه بدين -من مماطل- وجب الإخبار عنه في بيع
المرابحة.
ومنها: لو اشتراه من ابنه الطفل وجب الإخبار.
ومنها: يجب على البائع الصدق في قدر الثمن، وفي الأجل والشراء
بالعرض وبيان العيب حادث عنده؛ فلو قال: بمائة فبان بتسعين
فالأظهر أنه يحط الزيادة وربحها وأنه لا خيار للمشتري.
قاعدة: من كان القول قوله في شيء، كان القول في صفته وعبارة
أبي سعد الهروي عن هذا -في الإشراف- "من قبل قوله في أصل؛ غير
أنه الظاهر أن المراد واحد فلا تقف في ذلك.
ومن ثم لو قال: بعتك الشجرة -بعد التأبير- فالثمرة لي، وقال
المشتري: بل قبله فلي فالقول قول البائع، ومسائل يطرد عدها.
وذكر القاضي أبو سعد: أنه استثنى من هذه القاعدة ثلاث مسائل:
إحدها: مسألة الخياط - إذا قال المالك: أذنت في قطع الثوب
قميصًا. وقال الخياط: بل قباء - على القول [بتصديق] 2 الخياط:
__________
1 في "ب" ولكن.
2 سقط في "ب".
(1/286)
والثانية: دفع إليه ألفا ليتصرف فيها فقال
القابض: كانت قراضًا فلي قسط من الربح، وقال الدافع: بل
مضاربة.
قال الثقفي1: القول قول الدافع الجرجاني: القول قول القابض،
وقال المحاملي الكبير: يتحالفان. قلت: والمجزوم به -في شرح
المنهاج للوالد رحمه الله- قول الثقفي جريا على أصل القاعدة.
وهو ما في الشرح والروضة فيما إذا قال: وقعت وكالة قفال
العامل: بل قراضا.
وحكى النووي -في زيادة الروضة- وجهين في أيهما تقدم بينة
العامل إذا ادعى أن المدفوع قراض أو المالك إذا قال: بل هو قرض
وفي الرافعي وغيره فيما إذا قال: على عقد وهذا فارق مسألة أبي
سعد وشريح؛ فإن الأبضاع والقراض عقد واحد فالتحالف فيه أظهر.
والثاني: أن القول لمدعي الهبة. والثالث: التحالف. وهذه
الأوجه: التي حكاها أبو سعد - حكاها شريح في "أدب القضاء"،
ولعله من أبي سعد تلقاها. وفي نسختي -من "أدب القضاء" لشريح-
موضع، وقال المحاملي الكبير: يتحالفان ما نصه، وقال في الكبير:
يتحالفان وكنت أحسب أنه يعني "بالكبير" النهاية -على اصطلاح
أهل خراسان- فكشفت "النهاية"؛ فلم أجد فيها تصريحا بذلك وذكرت
هذا كله في كتابي "التوشيح"؛ فلما وقفت الآن -على كتاب أبي سعد
ووجدت فيه ما رأيت غلب على ظني أن نسختي -من كتاب شريح- سقط
منها لفظ " المحاملي" وزيدت لفظة "في"؛ وإنما قال "قال
المحاملي الكبير كما قال أبو سعد".
والمحاملي الكبير -هو الشيخ أبو الحسن- إمام قديم في زمان
الإصطخري ذكرناه في كتاب الطبقات. والثالثة: غاب الزوج سنة
وادعى أنه طلق -بائنا- في صدر مدة الغيبة وكذبته وطالبته
بالنفقة. قال أبو سعد: القول قولها في حقها، وقوله في أصل
الطلاق. قلت: كلام الأصحاب يشهد له، ويتجه أن يقال: لا تجب
النفقة - تبعا لقوله في الطلاق -وقد قدم أبو سعد- قبل هذا
بقريب من ثلاث أوراق في المرتدة بعد الدخول تقول: أسلمت
__________
1 محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب أبو علي
الثقفي الحجاجي النيسابوي الفقيه الإمام الزاهد الواعظ تفقه
على محمد بن نصر ويقول ابن خزيمة رحمه الله عنه ما يحل لأحد
منا بخراسان يفتي وأنت حي ولد سنة أربع وأربعين ومائتين ومات
في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، النجوم الزاهرة 3/
267، ابن قاضي شهبة 1/ 118، شذرات الذهب 2/ 315، العبادي ص63،
ابن السبكي 3/ 192.
(1/287)
وفي وقت كذا في النفقة -حكاية قولين:
أصحهما: القول للزوج لأن الأصل عدم الرجوع إلى الإسلام.
والثاني: قول المرأة لأن القول في أصل الإسلام مقبول منها
فليكن كذلك.
وفيه "ولا بد من مجيء هذا الخلاف في هذه الصورة - أيضا" وما
حكاه من القولين نظيره إذا قال: أسلمت أولا؛ فلا نفقة لك وادعت
العكس. وأصح الوجهين في أواخر نكاح المشركات -من الرافعي
وغيره- أنها المصدقة لأن النفقة كانت واجبة -وهو يدعي مسقطا؛
لكن هذه العلة تصلح أن تكون فرقا بين المسألتين، والمسألة موضع
النظر.
وليت شعري إذا كان أبو سعد يستثنى -على وجه أو قول- فلم لا ذكر
مسألة ما إذا قال: أكريتك؛ فقال: بل أعرتني ونظائرها -مما صح
فيه أن القول قول المالك- وقد بقيت على أبي سعد مسائل- أهمل
استثناءها- ولعل بعضها أحق مما ذكره- بالذكر.
منها: الأصح أن القول قول مدعي صحة البيع دون فساده -مع أنهما
لو اختلفا في أصل البيع فالقول قول البائع.
ومنها: لو اختلفا في النقصان، وتغيير المبيع عما كان عليه؛
فالقول قول المشتري.
ومنها: لو قال الغاصب: كان العبد أقطع وأنكر المالك؛ فالقول
قول المالك في الأصح.
ومنها: قد ملفوفا وادعاه ميتا وأنكر الولي، صدق الولي في
الأظهر.
ومنها: قطع طرفه وادعى أنه كان أشل، صدق المجني عليه.
ومنها: قال الراكب أعرتني وقال المالك: بل أجرتك، صدق المالك
على المذهب.
ومنها: عمل له عملا وقال: "شرطت لي عوضا"، وأنكر فالقول قول
المعمول له ومنها: إذا قال: "كانت الألف المدفوعة -إلى وديعة-
وقد تلفت، وقال المالك: بل قرض" قال البغوي: القول قول المدفوع
إليه.
ومنها: دفع إليه دراهم واختلف في ذكر البدل؛ فالقول قول الآخذ
-قاله الرافعي، وفيه وجه قال النووي- أول القرض "إنه متجه".
ومنها: قال "هي قراض" فقال "بل قرض" صدق العامل -في أحد
الوجهين- في "الروضة" و"شرح المنهاج".
ومنها: قال: "قراض" فقال: "بل ابضاع" ذكرها شريح، وفيها أوجه.
(1/288)
ومنها: قال "وهبتك بعوض"؛ فقال: "بلا عوض"
رجح النووي أن القول قول من نفاه.
ومنها: بعت أشياء، وقال: "بعوض" فأنكر المبعوث إليه صدق وفيه
للرافعي بحث، يظهر أن يقال: إن اختلفا في أصل شغل الذمة مع
الاتفاق على ثبوت اليد؛ فإن [اختلفا] 1 في أن ثبوتها بحق أو لا
فالقول قول المالك لأن الأصل لم يصدر منه ما يقتضي -[حينئذ
هذا] 2.
وإن اتفقا على أنها بحق، ثم اختلفا في شغل الذمة فالقول قول من
ينفي الشغل لاعتضاده بالأصل. وإن اتفقا على الشغل ثم اختلفا في
صفته؛ فالذي يظهر أن القول أيضا قول من لو أنكره لقبل إنكاره
لأن من كان القول قوله في شيء كان القول قوله في صفته وإن
اتفقا على الشغل ولكن اختلفا في ارتفاعه فالقول قول من يدعي
بقاءه.
قاعدة: تتصل بالقاعدة قبلها أنا ضبطتها بعد ما تبددت عليها
فروعها وانتشرت؛ فإن كانت كما فهمت ورتبت فالله المسؤول أن
ينفع بها؛ وإلا فهو المسؤول أن يوضح لي الحق إذا اختلف الآخذ
والمأخوذ منه فإن كان اختلافهما في أصل شغل الذمة مع الاتفاق
على ثبوت اليد فلا يخلو إما إن يختلفا في أن ثبوتها هل هو بحق
أو لا فإن كان الأول؛ فالقول قول المأخوذ منه لأن الأصل أنه لم
يصدر منه ما يقتضي ثبوت هذه اليد ويدل على هذا أن الصحيح فيما
إذا قال المالك غصبتني، وقال ذو اليد أعرتني أن القول قول
المالك، وإن كان الثاني وهو ما إذا اتفقا على أنها تثبت بحق ثم
اختلفا في شغل الذمة؛ فإما أن يكون ثبوتها لغرض المأخوذ منه أو
لغرض الآخذ. أو لغرضهما جميعا أو يقع الخلاف في ذلك.
قاعدة: قال القاضي أبو عاصم وشرحه أبو سعد الهروي في الأشراف
كل عقد فيه عوض علق بصفة لا يقتضي إطلاق العقد تلك الصفة فسد
بالتعليق إلا في مسألة واحدة.
قاعدة: ذكر الإمام رحمه الله -في باب معاملات العبيد- أنه لا
احتكام للسادة على ذمم العبيد؛ فلا يملك السيد إلزام ذمة العبد
مالا ولو أجبره على ضمان [لم يصح] 3 ولو أجبره على أن يشتري له
متاعا لم يصح الشراء. وإن كان محل الديوان -التي تلزم العبد
بالإذن- الكسب، وهو ملك السيد ولكن لا استقلال للاكتساب في
هذا.
__________
1 في "أ" تفقا والمثبت من "ب".
2 في "ب" حقيقة يد هذا.
3 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
(1/289)
الباب ما لم يتحقق تعلق الدين بأصل الذمة.
ولو أقر السيد عليه بجناية قصاص، وأنكر العبد وآل الأمر إلى
مال؛ فلا تعلق له في الذمة ونقل الشيخ الإمام هذا كله في شرح
"المنهاج" ساكتا عليه.
قاعدة: لا يدخل عبد مسلم في ملك كافر أبدا. واستثنى الشيخ أبو
حامد -"في الرونق" وتبعه تلميذه المحاملي في اللباب- ست صور
ونحن بلغنا بالمستثنى نيفا وأربعين.
فمنها: الإرث.
ومنها: يسترجعه بالإفلاس.
ومنها: يرجع في هبته لولده.
ومنها: إذا رد عليه بعيب.
ومنها: إذا قال: أعتق عبدك عني فأعتقه وصححناه.
ومنها: إذا كاتب عبده الكافر فأسلم العبد ثم عجز عن النجوم فله
تعجيزه. وهنا وقف الشيخ أبو حامد والمحاملي وشكك النووي في
هذه، بأن المكاتب لا يزول ملكه؛ فيقال: "تجدد بالتعجيز"-
وعبارة الشيخ أبي حامد "لا يجوز ترك مسلم في ملك كافر ولم يقل:
لا يدخل- وبه يندفع الإيراد؛ ولكن هذا الترك ليس مطلقا فإنا
نأمره بعد التعجيز بالإزالة. وأجاب الشيخ صدر الدين بن المرحل
بأن لنا خلافا في إلحاق المكاتب بالحر أو بالعبد في مسائل؛
فلعل المحاملي جرى على قول من يجعله كالحر ثم لعل مسألته؛ إنما
فرضها فيما لو [ملك] 1 المكاتب عبدا مسلما ثم عجز المكاتب؛
فإنه يدخل في ملك السيد ما كان للمكاتب؛ فلعل المحاملي أشار
إلى أن هذا العبد يدخل في ملك السيد لحصوله تبعا كالرد بالعيب
ولم يرد المكاتب نفسه.
قلت: هذه صورة أخرى ولكنها غير مراد المحاملي وشيخه أبي حامد
فإن لفظهما صريح في إرادة المكاتب نفسه.
ومنها: إذا اشترى من يعتق عليه زادها النووي.
ومنها: أن يبيع عبدا مسلما ثم تقابل المشتري؛ فإنه لا يجوز -إن
جعلنا الإقالة بيعا؛ فإن جعلناها فسخا وهو الصحيح فعلى الوجهين
في الرد بالعيب كما قاله الرافعي.
__________
1 في "ب" ملك.
(1/290)
ومنها: إذا كان بين كافر ومسلم عبد مسلم
مشترك؛ فأعتق الكافر نصيبه وهو موسر سرى عليه؛ ذكره البغوي
وهاتان زادهما ابن المرحل.
ومنها: عاشرة -زادها ابن أخيه الشيخ زين الدين [محمد] 1 مدرس
الشامية البرانية بدمشق رحمه الله، وهي إذا جاز له نكاح الأمة
وكانت لكافر فالأصح الجواز وينعقد الولد مسلما- على ملك
الكافر.
ومنها: أن يرجع إليه بتلف مقابلة -قبل القبض.
ومنها: أن يبيع الكافر مسلما بثوب، ثم يجد بالثوب عيبا؛ فله رد
الثوب واسترداد العبد على الصحيح.
ومنها: [إذا] 2 تبايع كافران عبدا كافرا فأسلم العبد قبل القبض
- ثبت للمشتري الخيار [إن] 3 قلنا يمتنع عليه قبضه. كذا قاله
الإمام وامتناع قبضه صححه الرافعي والنووي؛ فإذا فسخ فقد دخل
العبد المسلم في ملك البائع الكافر.
ومنها: إذا باع الكافر عبدا مسلما لمسلم -بشرط الخيار للمشتري-
فإن الصحيح أن الملك لمن له الخيار، وبالفسخ يملكه الكافر.
ومنها: أن يرده عليه -لا بالعيب، بل لفوات شرط كالكتابة
ونحوها.
ومنها: إذا اشترى ثمارا بعبد كافر فأسلم ثم اختلطت، وفسخ
العقد.
ومنها: إذا باع ثوبا على أنه هروي مثلا بعبد كافر؛ فلم يكن
هروبا فإن له الرد على قياس ما تقدم.
ومنها: إذا باع الكافر عبده المسلم، وكان مغصوبا من قادر على
انتزاعه فعجز، أو غصب قبل قبضه فللمشتري الخيار، ويفسخ البيع
ويعود إلى ملك الكافر.
ومنها: إذا باع الكافر عبده [الذي أسلم عنده] 4 من مسلم رآه
قبل العقد دون حالة العقد؛ فالأصح الصحة - تفريعا على قول بيع
الغائب ثم إذا وجد العبد متغيرا واختار الفسخ ملكه الكافر.
ومنها: باع عبده المسلم لمسلم ثم تشاحا في التسليم ومال
المشتري غائب إلى مسافة القصر، لم يكلف البائع الصبر إلى
إحضاره والأصح أن له الفسخ. فيفسخ ويملكه.
__________
1 سقط من "ب".
2 سقط من "ب".
3 في "ب" "إذا".
4 سقط من "ب".
(1/291)
ومنها: إذا اشترى بعبده المسلم صبرة فظنها
على السواء، ثم بان تحتها دكة ففي تبين بطلان العقد وجهان
أصحهما: لا ولكن للمشتري الخيار كالعيب والتدليس.
ومنهاك إذا جعل الكافر عبده الكافر رأس مال السلم في شيء؛
فانقطع ذلك الشيء -بعد أن أسلم العبد المذكور- فإن للذي جعله
رأس مال السلم فسخ العقد وإذا فسخ العقد انقلب العبد إليه
ضرورة.
ومنها: إذا أقرض عبده الكافر فأسلم في يد المقترض يجوز المقرض
-الكافر- أن يرجع فيه كما جوزنا له بالرجوع في الهبة.
ومنها: في القراض إذا اشترى العامل الكافر عبيدا كفارا للقراض؛
فأسلموا وفسخ عقد القراض ثم قسم هو والمالك العبيد؛ فإن قضية
المذهب صحة ذلك، وإذا تميزت حصة العامل عبيدا ملكها بجريان سبب
الملك، والمذهب أن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة.
ومنها: إذا التقط كافرا بشرطه وهو إما عدم التمييز أو في وقت
النهب والغارة وأسلم ثم أثبت الكافر أنه كان ملكه؛ فإنه يرجع
فيه لأن التمليك بالالتقاط كالتمليك بالقرض.
ومنها: إذا التقط عبدا صغيرا لا يميز في موضع لا مسلم فيه
وعرفه وتملكه ثم بلغ وأسلم وظهر مالكه ينبغي أن يرجع فيه -كما
يرجع فيما وهبه لولده.
ومنها: إذا وقف على كافر أمة فأسلمت، ثم حملت وأتت بولد، بعد
الإسلام؛ فإنه يكون مسلما تبعا لأمه، ويدخل في ملكه فإن نتاج
الجارية الموقوفة ملك الموقوف عليه - على الصحيح.
ومنها: إذا أوصى بمنافع الجارية الكافرة ونتاجها؛ فأسلمت ثم
حملت وأتت بولد فإنه يكون ملكا له.
ومنها: إذا اشترى مسلما بشرط العتق -على وجه.
ومنها: إذا أقر بحرية عبد، ثم اشتراه لكنها داخلة في قول
النووي: إذا اشترى من يعتق عليه.
ومنها: إذا أتت مكاتبة بولد من نكاح أو زنا -بعد أن أسلمت- ثم
عجز السيد مكاتبة؛ فإن الجارية وولدها ينقلبان إلى ملك السيد
وهذه داخلة فيما ذكره الشيخ صدر الدين في بحثه مع النووي.
(1/292)
ومنها: إذا نكح عبد كتابي أمة لكتابي ثم
أسلم ثم وطئها فالولد مسلم مملوك لسيدها. وهي نظير الصورة التي
زادها الشيخ زين الدين -ولد أخي الشيخ صدر الدين- وزين الدين
هو جامع "الأشباه والنظائر" المنسوبة إلى عمه وله فيها زيادات
يسيرة، مميزة عن كلام عمه بلفظ "قلت".
ومنها: إذا أسلمت مستولدة الكافرة ثم حملت وأتت بولد -من نكاح
أو زنا؛ فإنه يكون مملوكا له، ويثبت للولد المذكور حكم
الاستيلاد.
ومنها: إذا أسلمت جارية ثم حملت من غيره بنكاح أو زنا، ثم
استولد قبل زوال ملكه عنها؛ فإنه يكون ملكه.
ومنها: إذا وطئ الأب الذمي جارية الابن المسلمة فاستولدها فإنه
يقدر دخولها في ملكه قهرا.
ومنها: إذا جعل العبد صداقا لكافرة فأسلم في يدها، ثم اقتضى
الحال رجوعه إلى الزوج -قبل الدخول- بإسلام وغيره من الأسباب.
ومنها: إذا تزوجها على عبد فأسلم في يدها ثم اطلع على عيب بها.
ومنها: إذا اطلعت على عيب به فلكل الفسخ، ويرجع العبد إليه.
ومنها: إذا فسخ الصداق بالتحالف بعد إسلامه.
ومنها: إذا أصدقها عبدا كافرا [وشرط وصفا] 1 من نسب أو غيره
-أو شرطت- هي- فيه وصفا فخرج خلافه بعد إسلام العبد، ثم فسخ
النكاح فالقياس انقلابه إلى الزوج.
ومنها: إذا طلقها قبل الدخول -بعد ما أسلم العبد في يدها؛ فإنه
[يرجع] 2 نصفه إليه ويؤمر بالإزالة.
ومنها: إذا أسلمت المرأة قبل الدخول وقد أسلم العبد في يدها؛
فإنه يرجع إلى ملك الزوج، لسقوط مهرها لحصول الفرقة من جهتها.
ومنها: إذا حضر الكفار الجهاد -بإذن الإمام- وحصلت الغنيمة،
وكانت نسوة فأسلمن، أو عبيدا كفارا فأسلموا بعد الغنيمة -
فاختار الغانمون التملك فالمذهب أن الغنيمة - تملك بالاختيار.
وقضيته: أن للإمام أن يرضخ للكافرين -من النسوة والعبيد- وأنه
إذا رضخ له
__________
1 في "ب" وشرطت الزوجة وصفا.
2 في "ب" رجع.
(1/293)
جارية ملكها أو عبدا ملكه؛ فإنه جرى سبب
الاستحقاق بحضور الوقعة، ويحتمل أن يقال: يعوضه ما لا يرضخ له
شيئا من ذلك، وهذا هو الأظهر رأيا ونظرا.
ومنها: إذا كان بين كافرين عبيد من نوع واحد -بعضهم مسلمون،
وبعضهم كفار فاقتسماها وانحصر المسلمون في حصة أحدهما، وقلنا
[القسمة] 1 إفراز فقضية المذهب صحة القسمة، ومعلوم شيوع الملك
قبل ذلك، وإنما بالقسمة انحصر؛ فقد دخل بعض عبد مسلم في ملك
كافر، كما قلنا فيما إذا أعتق الموسر الكافر نصيبه من عبد مسلم
مشترك، ولا فرق بين دخول البعض والكل.
قاعدة: كل ما صح الرهن به صح ضمانه وما لا فلا إلا2 ضمان
العهدة ورد الأعيان المضمونة يصح ضمانها، لا الرهن بهما على
الأصح فيهما وهنا مسائل:
منها: ضمان المجهول باطل -في الجديد- والرهن بالمجهول لا أعرفه
مسطورا.
ومنها: إذا منعنا ضمان المجهول؛ فضمن الدراهم التي على فلان
جاهلا بمبلغها فهل يصح في ثلاثة؟ لدخولها في اللفظ، أو يأتي في
الرهن مثله تردد فيه الشيخ برهان الدين بن الفركاح.
ومنها: في ضمان إبل الدية خلاف فليكن الرهن بها مثله، وجزم
الرافعي بجواز رهن العاقلة بالدية بعد تمام الحول.
ومنها: اختلفوا في ضمان الزكاة عمن هي عليه فليجر الخلاف في
الرهن بها، وجزم الرافعي بجواز رهن الملاك بالزكاة بعد تمام
الحول.
ومنها: اختلفوا في ضمان نجوم الكتابة ولا أعرف مسطورا في الرهن
بها.
ومنها: اختلفوا في ضمان الثمن في مدة الخيار؛ فليجر هذا الخلاف
في الرهن.
قاعدة: من لم يجن لا يطالب بجناية من جنى. ويستثنى ضمان
العاقلة الدية، وأن الأصح في المحرر الضمان.
قاعدة: كل تصرف يقع من المشتري شراء فاسدا فهو كتصرف الغاصب
والعين في يده كالمغصوب عند الغاصب إلا في مسائل:
منها: أن الغاصب إذا وطئ المغصوبة عالما وجب عليه الحد. وفي
الشراء
__________
1 في "ب" الحصة.
2 الأشباه والنظائر للسيوطي 461.
(1/294)
الفاسد لا يجب إذا استند الفساد إلى شرط
فاسد أو كون الثمن خمرا إلا على احتمال الإمام؛ وإنما يجب إذا
اشترى بميتة أو دم.
ومنها: إذا استولد الغاصب عالما بالتحريم لم ينعقد الولد حرا
بخلاف المشتري شراء فاسدا.
ومنها: ثبوت كونها أم ولد في أحد القولين إذا ملكها يوما من
الدهر. بخلاف الغاصب، وقد اقتصر الروياني في الفروق والجرجاني
في المعاياة على استثناء هذه الصور الثلاث.
ومنها: أن الولد -في الشراء الفاسد- تجب قيمته يوم الولادة
-تلف أم بقي لانعقاده حرا، وفي الغصب- إذا تلف- يضمن بالأقصى.
والفرق أنه لما انعقد حرا، لم يكن متقوما بعد ذلك.
ومنها: المقبوض بعقد المعاطاة على المذهب له حكم المقبوض بعقد
فاسد على الصحيح؛ فيطالب كل من المتعاطيين صاحبه. بما دفعه إن
كان بقايا وبضمانه عند التلف فإن ماثل الثمن القيمة خرجه
الغزالي على مسألة الظفر، وقال الشيخ أو حامد: لا مطالبة لواحد
منهما وتبرأ ذمتهما بالتراضي واستشكله الرافعي بسائر العقود
الفاسدة؛ فإنه لا براءة وإن وجد التراضي.
ومنها: قال الماوردي -في الصلح: لو باع عبدا بيعا فاسدا، وقال
لمشتريه: أذنت لك في عتقه، فأعتقه المشتري بإذنه لم يعتق قال؛
لأنه إذنه إنما كان مضمونا بملك العوض، فلما لم يملكه بالعقد
الفاسد، لم يعتق عليه بالإذن. وقاس عليه: ما إذا صالحه من ألف
-قد أنكرها- على خمسمائة، وأبرأه من الباقي لزمه -في الحكم- رد
الخمسمائة، ولم يبرأ منها؛ حتى لو أقام بينة الألف، كان له
استيفاء جميعها. انتهى كلامه في أوائل الصلح، ونقله عنه الشيخ
الإمام في باب الصلح، وقال: إنه لا شك فيه يعني -بالنسبة إلى
مسألة الصلح، وسكت على مسألة البيع.
وحاصله: أن العتق لم ينفذ؛ لأن المشتري إنما يعتقه، بناء على
أنه ملكه وأنه يعتقه عن نفسه والمالك؛ إنما أذن ظانا ذلك. فإن
سلم هذا للماوردي فنظيره في الغصب قول المالك للغاصب أعتق هذا
العبد -مشيرا إلى المغصوب- وهو يظنه غير عبده المغصوب. وقد
أطلق الأصحاب -في باب الغصب- أن المالك إذا قال للغاصب أعتق
عني أو مطلقا فأعتقه عتق، وبرئ الغاصب.
(1/295)
ومنها: المذهب أن المشتري شراء فاسدا، لا
يجوز له حبس المبيع إلى استرداد الثمن؛ كذا أطلقوه، وحكوا عن
الإصطخري خلافا، واقتضى كلام الرافعي -في موضعين من باب
الضمان- ترجيح الحبس، وسمعت الشيخ الإمام يقول- ومسألته عن
ذلك: إن فسد بشرط فله الحبس، وإن فسد بخروجه عن ملك الغير فلا؛
هذا حكم البيع الفاسد.
وقالوا: للغاصب أن يحبس المغصوب لاسترداد القيمة المأخوذة
-للحيلولة- وحكاه القاضي الحسين عن النص، ورجع الرافعي التسوية
بين البابين وهو اختيار الإمام فلا استثناء على هذا.
ومنها: لو باع ماشيته السائمة بيعا فاسدا فعلقها المشتري، قال
في التهذيب: فهو كعلف الغاصب، وصححه الشيخ الوالد رحمه الله في
شرح المنهاج؛ فعلى هذا يجري في قطعه الحول الأوجه في علف
الغاصب، وأصحها أنه يقطع؛ ولكن قال ابن كج: عندي أنه يقطع يعني
-ولا يجري فيه خلاف الغاصب قال: لأنه مأذون له؛ فهو كالوكيل
بخلاف الغاصب.
فعلى طريقة ابن كج افترق البيع الفاسد والغصب، ولم يصحح
الرافعي والنووي من الطريقتين شيئا، كأنهما اكتفيا بأن الفتيا
على أنه كالغاصب؛ سواء ثبت الخلاف أم لا، والشيخ الإمام صحح
طريقة التهذيب كما عرفناك.
ومنها: أن غرس الغاصب وزرعه، غير محترم مطلقا، وأما المشتري
شراء فاسدا ففرق بين أن يكون عالما فيكون غير محترم أو جاهلا
فلا يقلع مجانا على ما جزم به الرافعي والنووي في كتاب الرهن.
ومنها: لا يصح بيع السيد عبده المكاتب، ولا النجوم التي عليه
على المذهب؛ فلو باعه أو باعها فأدى النجوم إلى المشتري بعد
البيع فأصح القولين أنه لا يعتق، والقول الثاني -هو منصوص
[المختصر] 1 أنه يعتق لأن السيد سلطه على القبض فأشبه الوكيل
وقيل هذا: لا يجيء في المشتري من الغاصب عبدا مكاتبا أو النجوم
التي عليه، بل لا يعتد بقبض المشتري جزما وهو أيضا بيع فاسد-
إلا أن المشتري غاصب أيضا- لبناء يده
__________
1 في "ب" في المختصر.
(1/296)
على يد الغاصب، ولهذا الخلاف أصل، وهو أن
ما استتبع الصحيح هل يستتبع الفاسد.
قال ابن الرفعة في باب الوضوء من المطلب: وفيه خلاف أصله بيع
السيد نجوم الكتابة -إذا قبضها المشتري- فوجه صحة العتق يضمن
البيع والإذن في القبض ووجه عدمه أن تبع للبيع؛ فلما لم يصح
البيع لم يتبعه الإذن. ولمثل ذلك ثار الخلاف فيما إذا باع
المشتري ما اشتراه في زمن الخيار ولم يصححه منه هل يكون ذلك
مبطلا لخياره كما لو صح البيع أو لا؟
قال ابن الرفعة: ومثله يجوز أن يقال: فيما إذا غلط من حدث إلى
حدث فنواه؛ فإن اعتبرنا اللازم ارتفع حدثه، وإن اعتبرنا الأصل
لم تصح نيته. قلت: وهي قاعدة يعبر عنها بأن "من كان مالكا
لتصرف يصح منه فعله، إذا فعل فعلا يتضمن ذلك التصرف المملوك
لكن بطريق فاسد، هل يصح؟ وفيه خلاف في صور:
منها: الحوالة بالثمن وعليه في مدة الخيار- والأصح يصح؛ فإن
قلنا لا يصح ففي انقطاع الخيار وجهان.
ومنها: الأب إذا باع العين التي وهبها لابنه -من غير تصريح
بلفظ الرجوع هل يكون رجوعا؟ وجهان.
قاعدة: تقرب من القاعدة، قبلها: ما يفيد الاستحقاق إذا وقع لا
على وجه التعدي هل يفيده إذا وقع على وجه التعدي؟ وفيه خلاف في
صور جمع بعضها النووي في زيادة الروضة في باب إحياء الموات،
وقال: سبقت مسائل تتعلق بها في الصيد قلت: والذي جمعه في مسائل
غيره ذكره في أصل الروضة -تبعا للرافعي- في باب الوليمة وفي
المسائل كثرة.
[ومنها] 1: إذا دخل الماء المباح دار إنسان، لم يكن لغيره أخذه
من داره؛ لامتناع دخول الإنسان ملك غيره بغير إذنه؛ فلو فعله؛
فهلك يملك؟ فيه وجهان أصحهما أنه يملك. وكذا لو دخل السمك مع
الماء حوضه ذكره الرافعي في باب الوليمة.
__________
1 سقط في "ب".
(1/297)
ومنها: لو أحيا واحد أرضا -حماها الإمام-
لم يجز؛ ولكن يملكها بالإحياء على الصحيح.
ومنها: إذا تحجر مواتا؛ فجاء آخر وأخياه، ملكه على الأصح
المنصوص لكونه حقق سبب الملك -وإن كان ظالما- كما لو دخل في
سوم أخيه واشترى.
والثاني: لا يملك.
والثالث: إن انضم إلى التحجر إقطاع السلطان لم يملك.
والرابع: إن أخذ المتحجر في العمارة لم يملك.
ومنها: إذا عشش الطائر في ملكه، وأخذ الفرخ غيره؛ فالأصح أيضا
أنه يملكه.
قال النووي: وكذا لو توحل ظبي في أرضه، وأو وقع البلح فيها
ونحو ذلك.
ومنها: إذا أذن جماعة على الترتيب؛ فالأول أولى بالإقامة إذا
لم يكن مؤذن راتب أو كان [السابق] 1 هو المؤذن -فإن سبق غير
المؤذن الراتب فهل يستحق ولاية الإقامة فيه وجهان:
أحدهما: نعم لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: [من أذن فهو
يقيم] 2 وأظهرهما: لا لأنه مسيء بالتقديم.
ومنها: لو وقع في حجره شيء من الثمار، لم يكن لغيره أخذه؛ فلو
أخذه ففي ملكه وجهان قال في: أصل الروضة: وميلهم إلى منع الملك
أكثر. يعني في هذه المسألة، وفي دخول السمك مع الماء حوضه،
وفيما إذا عشش الطائر في ملكه فأخذ فرخه غيره، وفيما إذا وقع
البلح في ملكه فأخذه غيره -قال: والأصح أن المحيي يملك والفرق
أن المتحجر غير مالك؛ فليس الإحياء تصرفا في ملك غيره بخلاف
هذه الصور.
قاعدة: قال الشيخ أبو الحسين الفناكي3- من قدماء أصحابنا من
تلامذة الشيخ
__________
1 سقط في "ب".
2 أخرجه أحمد في المسند 4/ 169 ضمن مسند زياد بن الحارث
الصدائي رضي الله عنه وأبو داود 1/ 514 في الصلاة/ باب الرجل
يقيم والترمذي 1/ 383 في الصلاة/ باب من أذن؛ فهو يقيم حديث
"199" وابن ماجة 1/ 237 في الأذان/ باب السنة في الأذان حديث
717 والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 339.
3 أحمد بن الحسين أبو الحسين الرازي الفناكي بفاء مفتوحة ونون
مشددة وكاف مكسورة ولد بالري، وتفقه على أبي حامد الإسفراييني
وأبي عبد الله الحليمي وأبي طاهر الزيادي وسهل الصعلوكي ودرس
ببروجرد ومات بها سنة ثمان وأربعين عن نيف وتسعين سنة.
قال ابن الصلاح رحمه الله: رأيت له كتابا سماه المناقضات
مضمونه الحصر والاستثناء منه قريب من
(1/298)
أبي حامد في كتاب له يسمى المناقضات: من
اشترى شيئا شراء صحيحا لزمه الثمن؛ إلا في مسألة واحدة وهي
المضطر يشتري الطعام بثمن معلوم فإنه لا يلزم الثمن؛ وإنما
تلزم قيمته، ذكره أبو علي الطبري، واحتج له بأن النبي صلى الله
عليه وسلم "نهى عن بيع المضطر"1 قلت: وهذا فيه نظر، فإن المضطر
إن تمكن من أخذ الطعام قهرا والحالة هذه -فعدل إلى الشراء لزمه
المسمى- ولو زاد على ثمن المثل بلا خلاف كذا صرح بنفي الخلاف
فيه الرافعي.
ويتجه أن يخرج [فيه] 2 خلاف من الخاف في الإكراه على قتل أحد
الرجلين.
وأيضا فقد أجرى البغوي الخلاف في وجوب المسمى، أو ثمن المثل،
فيما إذا وجد ميته، وطعام الغير فاشتراه بالزيادة إمكان عدوله
إلى الميتة بأن عجز -فالأقيس عند الرافعي، النووي وصححه القاضي
أبو الطيب- لزوم الثمن المسمى أيضا؛ لأنه التزمه بعقد لازم،
وصحح الروياني أنه لا يلزمه قال: لأنه كالمكره. قال الرافعي:
وهو أقرب إلى المصلحة. وفرق الماوردي بين زيادة تشق على المضطر
لإعساره فلا يلزمه، وزيادة لا تشق فلا يأتي ما قاله أبو علي
إلا على ما صححه الروياني بشرط أن يقول بصحة البيع، وقد قال
الرافعي أنه الذي يفهم من إيرادهم قال؛ ولكن الوجه نصب الخلاف
في صحة العقد لمعنى الإكراه. وفي تعليق الشيخ أبي حامد ما
يبينه وبه صرح الإمام فقال: "الشراء بالثمن الغالي هل يجعله
مكرها حتى لا يصح الشراء منه، فيه وجهان أقيسهما المنع. انتهى
كلام الرافعي مختصرا، وقوله: أقيسهما المنع تابع في الإمام
فإنه قال هكذا. قال في النهاية ولعله في ذلك حال عند لا حاكم
بأنه أقيس [وهكذا] 3 كلام الفناكي، وقوله: "إن هذا الشراء
صحيح" صريح في الرد على الرافعي؛ لأنه قال بصحة الشراء -مع
إلزام القيمة- وعزاه إلى أبي علي الطبري، وكلام الرافعي يقتضي
أنه من يلزم القيمة يجعل المشتري مكرها والبيع فاسدا، ولو كان
كذلك لقيل لأبي علي
__________
1 تلخيض ابن القاضي في المعنى ابن قاضي شهبة 1/ 222، ابن
السبكي 3/ 7، هداية العارفين 1/ 77، معجم المؤلفين 1/ 207.
1 أحمد في المسند 1/ 116، أبو داود في السنن 3/ 255 في كتاب
البيوع/ باب في بيع المضطر حديث "3382".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" وهذا.
(1/299)
الطبري: ما ذكرت من الاستثناء غير مستقيم؛
لأن صحة البيع مع عدم لزوم الثمن -مما لا يجتمعان، وما ذكره من
الحديث -رواه أبو داود من حديث علي كرم الله وجهه، وفي سنده
مقال وبتقدير ثبوته. قال الخطابي: "يحتمل أن يعني -بالمضطر-
المكره"، وهذا يؤيد ما ذكره الإمام والرافعي، قال: "ويحتمل أن
يعني به من باع في ضرورة من دين ركبه أو نحو ذلك -فلا يباع- من
حيث المروءة؛ لكن يعان، أو يقرض ويستمهل، وفي هذه الحالة إن
بيع صح، وكان مكروها" قلت: ويكون بيع المضطر، مصدرًا مضافًا
إلى المفعول، أي لا يباع المضطر بل يبذل له الطعام مجانا -كما
هو وجه لأصحابنا- لأن البذل واجب فلا يؤخذ عليه عوض أو يقرض
ويستمهل كما قال. أو يقال: المضطر من لا يتحمل حالة التأخير
إلى مماكسة البيع، لمسيس [الجوع] 1؛ فلا يجوز أن يباع -ويؤخر
الطعام عنه إلى تقرير الثمن- بل يبادر إلى إطعامه [أو] 2 حاله
لا تتحمل التأخير، ثم إذا أطعمه تجب القيمة، وقال القاضي أبو
الطيب: لا يجب العوض هنا؛ سواء وجب العوض أم لا؛ فالقول بهذا
الاحتمال فيه أخذ للحديث على ظاهره، وفي الحديث إرشاد إليه؛
فإن لفظه أن عليا رضي الله عنه قال: سيأتي على الناس زمان
عضوض، يعض الموسر على ما في يديه -ولم يؤمر بذلك قال الله
تعالى {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ويبايع المضطرون،
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر؛ هذا لفظ
أبي دواد عن علي كرم الله وجهه وسياقه يشهد لتحريم أن يباع
المضطر -كما أولناه- فإن ضم إليه عدم لزوم العوض -كما قال
القاضي أبو الطيب- كان أوفق للظاهر وللسياق.
[قاعدة] 3: لا يتوالي ضمان عقدين في شيء واحد. وهذه القاعدة
ذكرها الأصحاب -عند الكلام على بيع المبيع قبل القبض؛ فاتهم
عللوا منعه من حيث المعنى بشيئين؛ هذا أحدهما ووجهوه بأن
المبيع مضمون على البائع للمشتري وإذا نفذ المبيع منه، صار
مضمونا عليه للمشتري. الثاني: فيكون الشيء الواحد مضمونا له
وعليه في عقدين، قال إمام الحرمين في "النهاية" ولا حاجة إلى
هذا -مع الخبر- يعني أن الاعتماد في منع بيع ما لم يقبض -على
الأخبار لا المعنى. وقال بعد ذلك بيسير: "الغالب على هذا الأصل
[التعبد] 4 وتبعه الرافعي -حيث قال: "والاعتماد على الأخبار
واختاره الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في باب الرهن من شرح
المهذب. واعترض على هذا
__________
1 في "ب" للجوع.
2 في "ب" إذ.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" البعيد.
(1/300)
المعنى بأن المعنى بكونه من ضمان البائع
-أنه لو تلف انفسخ البيع وسقط الثمن- فلم لا يجوز أن يصح البيع
ثم لو تلف عند البائع ينفسخ البيعان، ويسقط الثمنان، وتبين أنه
هلك على ملك من هلك في يده. ورده ابن الرفعة: بأن مراد الأصحاب
بتوالي الضمانين أنه لو هلك لانقلب إلى ملكه قبل التلف.
قلت: وهذا أشار إليه الإمام في النهاية قال ابن الرفعة: وحينئذ
يكون قبل ملكه منقلبا إلى ملكه وملك بائعه في آن واحد؛ وذلك
محال وإلى هذا الإشارة بقول الشيخ الإمام في شرح المنهاج في
توضيح هذه القاعدة ما نصه: "وقد يتلف قبل القبض؛ فيقدر انقلابه
من ملك المشتري الثاني، إلى [ملك] 1 المشتري الأول، ومنه إلى
البائع -قبل التلف- ويستحيل ملك الشخصين في زمن واحد.
قلت: وقد يقال أن انقلابه إلى ملك البائع الأول، يسبق إلى ملك
البائع الثاني؛ لأن ملك الثاني مرتب على ملك الأول؛ فلم يلزم
اجتماع مالكين في آن واحد، ثم ما ذكره ابن الرفعة والشيخ
الإمام -من أن منع توالي الضمانين لكونه يؤول إلى اجتماع
مالكين في آن واحد، لم أر التصريح به لغيرهما والذي اقتصر
عليه، أكثر من وقفت على كلامه من الأصحاب ما ذكرناه من كونه
يصير مضمونا له، وعليه عبارة الإمام في "النهاية"، وذكر
الفقهاء -في ضبط المذهب- أن الضمانين لا يتواليان وعنوا به أنا
لو قدرنا نفوذ بيع المشتري قبل القبض -لكان مضمونا على الباشع
الأول للمشتري، ثم يكون مضمونا على المشتري الأول للمشتري
الثاني. انتهى.
فالذي أفهمه من توالي الضمانين، أنه لا يورد عقد ضمان، على عقد
ضمان -قبل لزومه واستقراره- لما يؤدي إليه من صيرورته مطالبا
ومطالبا في شيء واحد.
ثم ينشأ التردد في إجارة المبيع قبل القبض؛ فالراجح -عند
الغزالي- الصحة؛ لأن مورد عقد الإجارة [عين] 2 مورد عقد البيع؛
فلا يكون مطالبا مطالبا في شيء واحد، لأنه في البيع مطالب
بتسليم الرقبة وفي الإجارة بالمنفعة فلم يتحدا؛ فلم يتوالى
ضمانا عقدين في شيء واحد.
وبتقدير القول: بأن المعقود عليه في الإجارة الرقبة - كما هو
رأي أبي إسحاق
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" غير.
(1/301)
فليست الإجارة عقد ضمان، والمحدود كونه
طالبا ومطالبا في عقد ضمان والراجح -عند المعظم- عدم الصحة
لضعف الملك- ولأن التسليم فيها مستحق كما في البيع، ومن ثم
أيضا منع ابن سريج -فيما نقله الرافعي عنه أن يؤجر
المستأجرالعين المستأجرة من آجرها؛ محتجا بأن المكري مطالب
بالتسليم -مدة الإجارة- فإذا اكترى ما اكترى، كان مطالبا
ومطالبا في عقد واحد؛ وذلك لا يحتمل إلا في حق الأب والجد في
مال الصغير، والأصح الجواز -لا لمنع هذه العلة، بل القياس على
بيع المبيع من بائعه -قبل قبضه- فإنا نقدر أن المستأجر ملك كل
المنفعة دفعة على الصحيح.
وصورة المسألة: الإجارة بعد تسلميه العين المأجورة، أما قبله
فقال القاضي أبو الطيب في التعليقة: المذهب منعه من المكري
والأجنبي، وصحح النووي صحة أجارته للمؤجر، ثم الذي نقله القاضي
أبو الطيب في التعليقة عن ابن سريج أنه يجوز [اكتراؤها] 1 من
المكري وغيره قبل التسليم، وقد يقال كيف يجوز ابن سريج
اكتراؤها من المكري قبل قبضها2، وهو ما نقله عنه الرافعي، وقد
تكلمت على هذا السؤال في كتابي المسمى "منع المشاجرة في بيع
العين المستأجرة".
إذا عرفت هذا فقد قال [ابن الرفعة] 3 في مسألة الإجارة من
الآجر: لو علل المنع بتوالي الضمانين لكان أقوى من كونه مطالبا
ومطالبا. قال: وإنما قلت ذلك بناء على أن المتسأجر يملك كل
المنفعة دفعة على الصحيح؛ فإنه إذا كان كذلك اقتضى أن العين لو
تلفت لعادت إلى ملك الآجر -قبل التلف- وإذا استأجرها وتلفت،
اقتضى أن تعود المنافع إلى ملك آجرها وحينئذ تصير مملوكة له،
ومملوكة لمؤجره أو منتقلة وعائدة إليه وهو محال "انتهى".
وهو كلام قويم -على أصله- في تفسير توالي الضمانينن مما فسره؛
إلا أن دعواه في استحالة كونها منتقلة وعائدة إليه -ممنوعة، ثم
يقال له: أين الضمان في الإجارة وكأنه لا يعني بالضمان كونها
عقد ضمان؛ بل نحو ما ذكره القاضي أبو الطيب في "التعليقة" حيث
قال: وقال أبو العباس بن سريج: يجوز أن يكريها من المكري وغيره
لأن قبض الدار المستأجرة لا تنقل الضمان بدليل أنها إذا انهدمت
في يد المكتري، كان الضمان على المكري -دونه- انتهى.
ومن فروع القاعدة -على ما فهمه ابن الرفعة والشيخ الإمام-
المسألة التي
__________
1 في "ب" اقراؤها.
2 في "ب" زيادة القاضي أبو الطيب ويمنعه بعده.
3 سقط في "ب".
(1/302)
[قبلها] 1 ونقلها الرافعي -في الباب الثاني
من الضمان- عن الأستاذ أبي منصور، وهي: ما إذا قال [للمضمون
له] 2 بعت منك هذا العبد بما ضمنته عن فلان. قال الرافعي: ففي
صحة البيع وجهان -حكاهما الأستاذ أبو منصور البغدادي. انتهى.
وقد يستشكل وجه المنع؛ قال ابن الرفعة: ولعل مأخذه تناقض
الأحكام؛ فإن مقتضى الصحة دخوله في ملك المشتري، الذي هو رب
الدين؛ بدلا عن دينه، الذي هو في ذمة الضامن، وعند ذلك يحكم
ببراءة الأصيل، وعند الحكم بها يقدر أن ما حصلت به البراءة؛
فقد دخل في ملك المضمون عنه -قبل دخوله في ملك رب الدين، وملك
المضمون عند بمجرد البيع، والشيء الواحد لا يقتضي إثبات ملكين
على مملوك واحد - باعتبار كله لا باعتبار بعضه. انتهى.
قلت: والصواب أن دخوله في ملك الأصيل، يسبق دخوله في ملك رب
الدين؛ فلم يجتمع مالكان على شيء واحد.
ومنها: الرهن والهبة قبل القبض، رجح الشيخ الإمام صحتهما، ورجح
الرافعي والنووي فسادهما ومن الأصحاب من فرق بين أن يكونا مع
البائع أو غيره، ومن فرق بين ما قبل نقد الثمن وبعده، وادعى
الشيخ الإمام، في باب الرهن من "شرح المهذب" أن تصحيحه لهما
ناشئ عن اختياره [البعيد] 3 واعتماد الخبر دون المعنى. في بيع
المبيع قبل القبض، وقد يقال: لو كان ما علل به -من اجتماع
مالكين- صحيحا لما جازت الهبة، ولا امتنع الرهن؛ لأن الهبة
تنقل الملك، والرهن لا ينقله ولا قائل بذلك، فإن من جوز الرهن
قبل القبض جوز الهبة ومن منع منع فلا يفصل [بينهما4.
قاعدة: المثلي مضمون بمثله، والمتقوم بالقيمة5. واستثنى من
المثلي مسائل:
منها: لبن المصراة. واعتذر الشيخ الإمام رحمه الله بأن إعطاء
الثمن ليس من باب المعاوضات فلا استثناء.
ومنها: الماء فإنه مثلي -على جزم به الرافعي في النصب- ولا
اعتبار بإيهام عبارته في باب إحياء الموات أنه متقوم. ثم إذا
تلف الماء في مفازة وظفر به صاحبه في
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" تعبد.
4 في "ب" فيهما.
5 روضة الطالبين 5/ 8، الأشباه والنظائر 200/ 180.
(1/303)
موضع لا قيمة للماء فيه؛ فإنه يطالبه بقيمة
[الماء في] 1 المفازة؛ فإذا اجتمعا في تلك المفازة أو مثلها
ففي وجوب رد المثل، واسترداد القيمة وجهان فعلى القول بعدم
الوجوب يقع الاستثناء، وعلى القول بالوجوب هو ما جزم به صاحب
التتمة -لا استثناء والقيمة [إنما هي] 2 للحيلولة.
ومنها: [إذا] 3 تراضيا على أخذ قيمة المثلي -مع وجوده- فوجهان
أصحهما -عند الوالد رحمه الله- الجواز لكنه أشار إلى أنه لا
يستثنى؛ لأن يعلل الجواز بأنه اعتياض عما ثبت في الذمة من
المثل.
ومنها: لو وجد المثل بأكثر من ثمن المثل، فالمرجح -عند النووي-
وبه جزم الشيخ أبو إسحاق -العدول إلى القيمة؛ لكن رجح الوالد
رحمه الله أنه لا يعدل.
ومنها: اللحم فإنه يضمن بالقيمة -كما صححه الرافعي وغيره في
باب الأضحية- مع أنه مثلي.
ومنها: الفاكهة -فإنها مثلية- على ما اقتضاه تصحيح المشايخ
الثلاثة: الرافعي والنووي والوالد -في باب الغصب، والأصح أنها
تضمن بالقيمة.
ومنها: المقبوض بالبيع الفاسد.
أطلق أكثر الأصحاب -منهم الرافعي- أنه يضمن بالقيمة، وحكى
الماوردي وجها فيما إذا كان مثليا أنه يضمن بالمثل، قال: ولكن
الأصح أنه يضمن بالقيمة وإن كان مثليا؛ لأنه لم يضمنه وقت
القبض بالمثل؛ بل بالعوض، بخلاف الغصب. وطرده في المقبوض
بالسوم، والتحالف بعد هلاك المبيع، وكل عقد مفسوخ؛ فزعم أن
المثلي يضمن -في الكل- بالقيمة. لكن ذكر الشيخ الإمام رحمه
الله في "شرح المنهاج" في باب حكم المبيع قبل القبض أن الصحيح
-الذي نص عليه الشافعي في مواضع [من] 4 الأم وغيرها، واقتضاه
القياس -خلاف ما؛ قاله الماوردي وأجاب عما قاله الماوردي [بأن
الضمان] 5 بالعوض زال بالفسخ، وصار كما لو لم يرد عليه عقد.
ومنها: المستعار -إذ قلنا بالأصح وهو أنه يضمن بقيمة يوم
التلف- وكان مثليا ضمن بالقيمة، صرح به صاحب المهذب والماوردي؛
ولكنه منعه الشيخ الإمام.
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" لو.
4 في "ب" في.
5 في "ب" في أن الضمان.
(1/304)
فصل:
ويستثنى من المتقوم مسائل:
منها: إذا اقترض متقوما؛ فالأصح أنه يرد مثله في الصورة، إلا
في نحو الجوهر والحنطة المختلطة بالشعير -إن جوزنا قرضهما؛
فإنهما يضمنان بالقيمة صرح به الماوردي، ونقله عنه الوالد رحمه
الله في "شرح المنهاج" وصوبه.
ومنها: من عجل الزكاة، وثبت الاسترداد إلى آخر الحول، والمعجل
تالف، ضمنه بالمثل -وإن كان متقوما- صححه الشيخ الإمام ورد جزم
الرافعي بأن المتقوم يضمن بالقيمة.
ومنها: لو صار المتقوم مثليا كمن غصب رطبا -وقلنا: إنه متقوم-
فصار تمرا وتلف.
وقال العراقيون: يضمن مثل التمر، وقال الغزالي: يتخير بين مثل
الثمن وقيمة الرطب وقال البغوي: إن كان الرطب أكثر قيمة لزمه
قيمته وإلا لزمه المثل قال الوالد رحمه الله: وهو أشبه.
قاعدة: قال ابن القاص: كل ما جاز بيعه فعلى متلفه القيمة1.
واستثنى المرتد ووافقه القفال، وضم -إلى المرتد- المتسحق قتله
في المحاربة. قلت: والذي أفهمه من لفظ القيمة -هنا- الضمان،
والمعنى أن متلف ما يجوز بيعه يضمنه بقيمته إن كان متقوما
وبمثله إن كان مثليا -لا خصوص القيمة المقابلة للمثل- والإلزام
أن يضمن متلف المثل المتقوم، ولا يقول بهذا أحد، وسنحكي عن ابن
الرفعة ما يقتضي أنه قد فهم خلاف هذا.
فصل:
وما لا يجوز بيعه فلا قيمة على متلفه.
قاله ابن القاص، والقفال أيضا وعزاه ابن الرفعة في البيع من
المطلب إلى الجمهور ولمعترض أن يورد على القفال حبة الحنطة؛
فإنه أوجب على متلفها مثلها -مع أن بيعها لا يجوز وهذا
الاعتراض جار على ما فهمناه من أن المعنى بالقيمة هنا عوض
المتلف، قيمة إن كان متقوما، ومثلا إن كان مثليا. ومنع ابن
الرفعة وورد هذا على
__________
1 المنثور 3/ 107.
(1/305)
القفال- زاعما أنه وافق على عدم إيجاب
القيمة لعدم إمكانها بخلاف المثل.
يعني فاستمر قوله: لا قيمة على متلفه؛ لأن الواجب -هنا- المثل
لا القيمة إذ لا قيمة. وهذا يقتضي أنه فهم أن المعنى بالقيمة
مقابل المثل، وقد قلنا: أنه لا يستمر ويلزم عليه أن يضمن -ما
يجوز بيعه من المتلفات ... بالقيمة ولا قائل به والذي أعتقده
أن المراد بالقيمة هنا العوض، وحبه الحنطة لا تضمن -عند
الجمهور- لأنها لاتباع فلا عوض لها، وهي جارية على القاعدة
وخلاف القفال -فيها- لا يرد على ابن القاص. واتباع القفال له
"شرح التلخيص" لكونه يجري معه على كلام الأصحاب، وليس له أن
ينقض عليه اجتهاده في نفسه.
قاعدة: الرهن أمانة في يد المرتهن [غير مضمون] 1.
قال الشيخ أبو حامد: والمحاملي: إلا في ثمان مسائل: قلت: وهي
أكثر.
فمنها: إذا رهن المغصوب من الغاصب الأصح أن حكم الضمان باق.
ومنها: المرهون إذا تحول غصبا.
ومنها: المقبوض على السوم إذا تحول رهنا.
ومنها: المقبوض بالبيع الفاسد [إذا تحول رهنا] 2.
ومنها: المبيع المقابل فيه، إذا رهنه منه قبل القبض.
ومنها: إذا خالعها على شيء ثم رهنه منها قبل القبض.
قاعدة: كل مرهون لا يسقط الدين بتلفه.
قال الإمام في "النهاية" إلا في مسألة واحدة -على وجه- وهي:
ما إذا شرط كون المبيع نفسه رهنا بالثمن، وقلنا: يصح الشرط،
فإن المبيع على هذا يكون مرهونا عند البائع، مضمونا عليه بحكم
العقد؛ فإن ضمان العقد لا يزول إلا بالقبض.
قال الإمام: ولا يتصور -على مذهبنا- مرهون يسقط الدين بتلفه
إلا هذا ولكن لا يسقط بسبب تلف الرهن -من حيث كان رهنا- بل
بتلف المبيع من حيث كان مضمونا على البائع. انتهى.
وتبعه الغزالي في البسيط.
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
(1/306)
قاعدة: فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان
وعدمه1. قال القاضي الحسين: إلا ما شذ عن ذلك وهو عقد الشركة
إذا كانت صحيحة؛ فعمل كل واحد منهما في مال صاحبه. لا يكون
عمله مضمونا وإذا كانت فاسدة يكون مضمونا وعكس هذا المسابقة
على الخيل أو الرمي صحيحها يكون مضمونا بخلاف فاسدها.
قال ابن الرفعة: والمقبوض في الهبة الفاسدة مضمون -على وجه-
بخلاف الصحيحة.
قلت: ومسائل أخرى:
منها: صحيح الوديعة لا ضمان فيه على المودع، ولو أخذها من صبي
أو مجنون ضمن.
ومنها: إذا قال: قارضتك على أن جميع الربح لي -وقلنا: هو قراض
فاسد، لا يستحق شيئا على الأصح -وإن ربح- وفي القراض الصحيح
يستحق المسمى فصحيحها مضمون بخلاف فاسدها في هذه الصورة.
ومنها: لو عرض العين المستأجرة على المستأجر، فامتنع من
[تسلمها] 2 إلى أن انقضت المدة، استقرت الأجرة، ولو كانت
الإجارة فاسد لم تستقر صرح به صاحب التهذيب.
ومنها: إذا نكح امرأة نكاحا صحيحا، وماتت من الولادة، لم
يضمنها -بلا خلاف- ولعله إجماع- ولو كان النكاح فاسدا؛ ففي
ضمانها قولان في البحر.
فائدة: ليس مرادنا -من قولنا: الفاسد كالصحيح في الضمان أنه
يجب فيه المسمى كما في الصحيح؛ بل أنه مثله في أصل الضمان؛
فيجب -في الإجارة الفاسدة- أجرة المثل ونحو ذلك، لا خصوص
المسمى.
فلا يجب المسمى في شيء من العقود الفاسدة إلا في مسألة واحدة
وهي ما إذا بذل الكافر مالا على الدخول في حرم مكة فإن الإمام
لا يجيبه فإن فعل فالصلح فاسد؛ فإن فعل أخرج وثبت العوض المسمى
بخلاف الإجارة الفاسدة فإنه إنما ثبتت فيها أجرة المثل، فإنه
هنا استوفى في العوض، وليس لمثله أجره وإن دخل -ولم ينته إلى
الموضع المشروط- وجبت الحصة من المسمى.
__________
1 الأشباه والنظائر 283، نختصر قواعد العلائي 1/ 315.
2 في "ب" تسليمها.
(1/307)
قاعدة: المفلس لا يلزم بتحصيل ما ليس
بحاصل، ولا يمكن من تفويت ما هو حاصل ويستثنى من الأول: ما إذا
لزمه دين -وهو عاصي بسببه- فإنه يلزمه الاكتساب لوفائه، على ما
ذكره أبو عبد الله العزاوي.
قاعدة: قال ابن الصباغ في الشامل في باب التفليس بعدما ذكر أن
المفلس إذا باع نخلا وأطلعت وأفلس المشتري قبل تأبير النخل؛
فرجع البائع في الأصول هل يتبعها الطلع فيه قولان: أحدهما يتبع
كما يتبع في المبيع والثاني: لا والفرق أن البيع يصدر
بالاختيار؛ بخلاف فسخ البيع ما نصه قال أصحابنا كل موضع أزال
ملكه باختياره على سبيل العوض تبع الطلع، وكل موضع أزال ملكه
بغير اختياره؛ فهل يتبع فيه قولان كالرد بالعيب وقد ذكر
الرافعي والمتأخرون معنى هذا أيضا.
فائدة: كل دين مستقر ثابت في الذمة تجوز الحوالة عليه إلا
الإبل الثابتة في الذمة بالجناية. وكل دين غير مستقر لا تجوز
الحوالة عليه إلا الثمن في مدة الخيار.
قاعدة: أصح القولين أن حجر المفلس حجر مرض لا سفه ولا رهن،
والقول بأنه حجر رهن: استنبطه الوالد رحمه الله وخرجه وليس
منصوصًا ولا نعني -بقولنا: إنه حجر مرض ثبوت أحكام حجر المرض
كلها، وكذلك في كل ما يغلب فيه أحد الجانبين على الآخر كقولنا:
الظهار طلاق أو يمين واليمين المردودة إقرار أو بينة وأشباه
ذلك.
ولو صح لك هذا -هنا- أن المريض يسوغ له الإقدام على التصرف
ويحكم بصحة تصرفه ظاهرا ولا خلاف أن المفلس ممنوع من التصرف،
وإن قيل بتنفيذه فيما بعد. فإن قلت: فإذا كان كذلك، فلا فائدة
في هذه القاعدة وأمثالها؛ إذ لا فائدة غير إجراء الأحكام على
قضية قاعدتها.
قلت: قال الشيخ الإمام -فيما عمله من تكملة شرح المهذب: بل
فائدته معرفة حقيقة ذلك الشيء، وسره والمقصود به. قال: والفقيه
يعلم أن الشيئين المتساويين -في الحقيقة وأصل المعنى- قد تعرض
لكل منهما عوارض تفارقه عن صاحبه، وإن لم تغير حقيقته الأصلية؛
فالفقيه الحاذق يحتاج إلى [تيقن] 1 القاعدة الكلية في كل باب،
ثم ينظر نظرًا خاصًا في كل مسألة ولا يقطع شوقه عن تلك القاعدة
حتى يعلم "هل تلك المسألة يجب سحب القاعدة عليها أو تمتاز بما
[ثبت] 2 له تخصيص حكم - في زيادة
__________
1 في "ب" أن ينص.
2 في "ب" يثبت.
(1/308)
أو نقص -وفي هذا تتفاوت رتب الفقهاء؛ فكم
من واحد متمسك بالقواعد -قليل الممارسة للفروع ومآخذها يزل في
أدنى المسائل، وكم [من] 1 آخر مستكثر في الفروع ومداركها قد
أفرغ جمام ذهنه فيها -غفل عن قاعدة كلية، فتخبطت عليه تلك
المدارك وصار حيران، ومن وفقه الله بمزيد [من2] العناية- جمع
له بين الأمرين؛ فيرى الأمر -رأي العين- انتهى كلامه ذكره في
باب التفليس.
قاعدة: [كل] 3 ما لو صرح به أبطل فإذا أضمره كره. ومن ثم يكره
تزويج امرأة بقصد الطلاق -عند الإحلال لزوج آخر وهل قصد إقراض
-المشهور أنه يرد بأكثر مما اقترض فيه وجهان.
تنبيه: ذكر الشيخ الإمام الوالد رحمه الله هذه القاعدة في شرح
المنهاج في مسألة التحليل، وقال: ينبغي أن لا تؤخذ على
إطلاقها؛ فإن مثل بيع الجمع بالدراهم وشراء الخبيث بها لا
يكره".
قال: وقد يقال: إذا احتج الأصحاب بأن الله تجاوز عن حديث
النفس4 لعدم البطلان؛ فينبغي أن لا تثبت الكراهة أيضا؛ لكنا
نقول: هذه الحديث -وإن احتج به الأصحاب ففيه ما لم يتكلم أو
يعمل فإن كان المقصود- ما لم يتكلم بالذي حدثت به نفسها أو
يعمل به- فيصح الاحتجاج به.
وإن أخذ مطلقا؛ فقد يقال: إن هذا حديث نفس -قارنه عمل- كما إذا
التقى المسلمان بسيفهما أثم القاتل لصدور حرصه على القتل، وإن
لم يحصل ما حرص عليه؛ ولكن قارن حرصه عمل وهو وسيلة إليه، وهنا
قارن حديث النفس عمل؛ لكنه ليس وسيلة إلى الحرام بل إلى الخلاص
عنه فلم يحرم وأما الكراهة: فإن قصد بتلك الحيلة معنى المفسدة
المنهي عنها شرعا فتقوى الكراهة؛ وإلا فلا، ومسألة الخبيث من
القسم الثاني. هذا كلام الوالد رحمه الله.
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 يشير إلى ما أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله إن الله تجاوز
عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم.
البخاري 5/ 160 في العتق/ باب الخطأ والنسيان "2528".
(1/309)
قاعدة: كل خيار يرجع إلى الحظ والمصلحة،
يجوز التوكيل فيه، وكل خيار يرجع إلى الإرادة والشهوة لا يوكل
فيه وفيما تردد بينهما تردد فمن الأول: خيار الشرط والعيب
والخلف، ومن الثاني: خيار من أسلم على أختين أو أكثر من أربع،
ومن الثالث: خيار الرؤية- على القول بتجويز بيع الغائب.
قاعدة: كل متصرف عن الغير فعليه أن يتصرف بالمصلحة، وفي وجه
-حكاه الإمام، والغزالي، والروياني- أن الواجب عدم المفسدة؛
فإذا استوت المصلحة والمفسدة لم يتصرف على الأول، ويتصرف على
الثاني وفيها مسائل:
منها: إذا استوى في نظره المصلحة والمفسدة في أخذ الشقص
المشفوع وتركه لليتيم؛ ففي أخذه الوجوب وهو أغربها - والجواز،
والتحريم.
ومنها: وهي مما يرد نقضا -إذا شرط في البيع الخيار لأجنبي لم
يلزم الأجنبي رعاية الحظ، قال الرافعي: هكذا ذكروه، ولناظر أن
يجعل شرط الخيار إنما ما إذا جعلناه نائبا عن العاقد.
ومنها: إذا جن المكاتب -وله مال- قال الأصحاب: يؤدي الحاكم عنه
بالنجوم وقيده الغزالي بما إذا كانت الحرية مصلحته؛ بخلاف ما
إذا كان يضيع بالعتق وحاول الرافعي وابن الرفعة تبقية كلام
الأصحاب على إطلاقه، وإبقاؤه على إطلاقه تكون صور كون العتق
مفسدة واردة نقضًا على القاعدة.
والرافعي قال: إن القيد قليل الفائدة -مع قولنا: إن السيد إذا
وجد له ما لا يستقل بأخذه؛ إلا أن يقال: إن للحاكم منعه من
الأخذ- والحالة هذه وقال ابن الرفعة: لو قيل: للحاكم منعه لكان
قليل الفائدة أيضا لأن السيد حينئذ يتمكن من الفسخ. فيسترجع
المال والعبد، ويتمكن من عتقه يعني عتقا يصادفه لا مال معه؛
وإلا فهو يتمكن من العتق دائما فيقع منه فررنا قال: فيصح إذا
ما قاله الأصحاب، قلت: ولمانع أن يمنع جواز عتقه -والحالة هذه-
ويقول: إذا منعه الحاكم من الأخذ لم يقدر على غير الفسخ الموجب
لبقاء العبودية التي هي الآن مصلحة أما العتق- حيث لا ضرر-
فلا، ولكن هذا لا نجد في كلام أكثر الأئمة مساعدا عليه غير ما
في حفظي عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: [إن] 1 من
أعتق العبد -في زمن الغلاء المفرط- إذا أدى إلى ضيعته- لا
__________
1 في "ب" من أن أعتق.
(1/310)
يجوز ولا أعرف للشيخ عز الدين سلفا في ذلك؛
إلا أن يكون هذا القيد الذي ذكره الغزالي هنا.
ومنها: إذا اتفق في ماله فرضان في نصاب -كالمائتين- فيها أربع
حقائق وخمس بنات لبون، وهما موجودان عند المالك؛ فالمذهب وجوب
الأغبط المساكين، وقال ابن سريج: لا يجب، بل يستحب قال: "إلا
أن يكون ولي يتيم فيراعي حظه".
قلت: فعلى هذا يأخذ المتصرف للمساكين غير الأغبط -وهو خلاف
مصلحتهم- لمعارضة مصلحة يتيم معين؛ فكان وجوب التصرف بالمصلحة
مقيدًا بعدم المعارض.
قاعدة: ما لا يستحق بالشيء، لا يستحق به ذلك الشيء؛ ذكرها
القاضي الحسين، والرافعي، وغيرهما في باب الشفعة، ومن ثم لو
كان بعض الدار وقفًا؛ فباع صاحب الطلق منها نصيبه، لم يكن
للموقف عليه الشفعة على الأصح، وإن قلنا: إن الموقوف عليه يملك
الموقوف، وأنه يقبل القسمة.
ومن أصحابنا من علل المنع بأن الموقوف عليه لا يملك، وأن الوقف
لا يفرز بالقسمة عن الطلق؛ ولكن قضية إيراد الرافعي ترجيح
العلة التي جعلناها قاعدة.
ولما ذكر القاضي القاعدة، خرج عليها فرعا -في جارية نصفها قن،
ونصفها أم ولد- نقله عنه الشيخ الإمام في شرح المنهاج وتكلم
عليه.
ومن فروع القاعدة -أيضا دار ثلثها ملك لزيد وثلثها ملك لعمرو،
وثلثها وقف على خالد، فباع أحد المالكين نصيبه. هل تثبت للآخر
الشفعة، قال الوالد رحمه الله: ينبغي أن يقال إن جوزنا قسمة
الوقف عن المالك وهو اختيار النووي -ثبت لانتفاء العلة التي
ذكرها القاضي؛ ولأنه ملك وإن لم تجوزه -وهو المشهور- فلا شفعة
لعدم توقع الضرر بالمقاسمة.
قلت: وإن أثبتنا الشفعة فيحتمل أن تثبت له الشفعة في الثلث
كله، ويحتمل أن تثبت في السدس.
وقد نازع ابن الصباغ في صحة العلة ونقضها ابن الرفعة؛ فصاحب
الجزء الكبير يأخذ بالشفعة -دون صاحب الجزء الصغير- بالعكس.
قاعدة: قال الشيخ أبو محمد -فيما نقله عنه ولده الإمام في
النهاية: "كل ما لا
(1/311)
يؤخذ في مقابلة الدين إلا [معارضة] 1؛ فلا
تجوز الحوالة عليه وكل ما يؤخذ استيفاء -من غير احتياج إلى
الرضى- تجوز الحوالة عليه [إن] 2 كان دينا، وكل ما يجوز
استيفاؤه؛ ولكن يشترط فيه الرضى ففي جواز الإحالة غير خلاف
والظاهر المنع.
وقال العراقيون: كل ما هو ذوات الأمثال [يجوز إحالة الدين فيه
على مثله، وما ليس من ذوات الأمثال] 3- إذا فرض دينا مع اتحاد
الجنس والنوع فهل تصح الإحالة عليه؟ فيه وجهان.
قاعدة: كل ما لو قارن لمنع فإذا طرأ فعلى قولين، كما لو أسلم
فيما يعم، فانقطع في محله ففي الانفساخ قولان، وكالفسق فإنه
يمنع ولاية الإمامة ابتداء، وإذا طرأ. لم يعزل على الصحيح
وتستثنى مسائل:
منها: الرضاع: لو قارن ابتداء النكاح لمنعه، ولو [طرأ] 4 لقطعه
أيضًا ولا خلاف فيه.
ومنها: العدة، لو قارنت ابتداء النكاح لمنعته، ولو طرأت في
أثنائه في وطء الشبهة لم تقطعه، ولا خلاف فيه.
فصل:
هذه القاعدة ينقضها شيء، يعده العادون في القواعد، ويندرج فيها
شيء يعده آخرون في القواعد.
أما الذي ينقضها فقولهم: كل تصرف يمنع ابتداء الرهن، يفسخه إذا
طرأ عليه قبل القبض -ولم يحكوا- في ذلك قولان؛ فلم يطرد دعوى
القولين، قال الوالد [رحمه الله] 5 في "شرح المهذب" وهذا مطرد
-لا ينقضه شيء- ولا يرد أن الأصح عدم الانفساخ بتخمير العصير،
وجناية العبد، وإباقة، وكذا بموت العاقد عند الرافعي والنووي
خلافا للشيخ الإمام. قال الشيخ الإمام: وإنما لم ينقض الرهن
لأن كلامنا في التصرفات، لا في كل ما يمنع الرهن.
قال: وأما عكس هذا الضابط فيستثنى منه الرهن من غير قبض- على
المنصوص
__________
1 في "ب" بمعاوضة.
2 في "ب" إذا.
3 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
4 في "ب" لو طرأت.
5 ساقط في "ب".
(1/312)
وأمور أخر على وجه. وأما الذي يندرج في
القاعد؛ فإنه قد يغتفر في الدوام، ما لا يغتفر في الابتداء
ومسائلها كثيرة وهي من أصلها خارجة عن القواعد، وانظر كيف
أتينا بلفظ "قد" التي لا تستعمل غالبا إلا للتقليل وفهمه ابن
مالك1 من قول سيبويه2، وتكون قد بمنزلة ربما قال الهذلي، وقد
أترك القرن مصفرا أنامله: كأن أثوابه محت بفرصاد كأنه قال:
ربما هذا نص سيبويه.
قال ابن مالك: فإطلاقه أنها بمنزلة ربما موجب للتسوية بينهما
في التقليل والصرف إلى المعنى. انتهى وهو الصحيح عندي.
واعترض شيخنا أبي حيان3 -رضي الله عنه- بأن سيبويه لم يبين
الجهة التي فيها "قد" بمنزلة "ربما"؛ فلا يدل ذلك على التسوية
في الأحكام -فيه نظر؛ فإن ظاهرة كون الشيء بمنزلة الشيء،
والمساواة في الأحكام كلها إلا ما تعين خروجه.
ثم اعترض شيخنا ثانيا بأنه قد يستدل بكلام سيبويه على نقيض
التقليل، وهو التكثير؛ لأن الإنسان لا يفخر بشيء يقع منه على
سبيل التقليل والندرة؛ وإنما يفخر بما
__________
1 محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك العلامة الأوحد جمال
الدين أبو عبد الله الطائي الحياني نزيل دمشق ولد سنة ستمائة
أو سنة إحدى وستمائة، قال الذهبي: وصرف همته إلى إتقان لسان
العرب حتى بلغ فيه الغاية وحاء قصب السبق وأربى على المتقدمين،
وكان إماما في القراءات وعللها وصنف فيها، وأما اللغة فكان
إليه المنتهى في الإكثار من نقل غريبها واطلع على حواشيها،
وأما النحو والتصريف فكان فيه بحرًا لا يجاري وحبرًا لا يباري
توفي رحمه الله في شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، ودفن
بالصالحية بتربة ابن الصائغ.
- ابن قاضي شهبة 2/ 149، فوات الأعيان 2/ 227، النجوم الزاهرة
7/ 243، شذرات الذهب 5/ 339، الوافي بالوفيات 3/ 359.
2 وهو عمر بن عثمان بن قنبر وسيبويه كلمة فارسية معناها رائحة
التفاح ولد سنة 148هـ في إحدى قرى شيراز، ثم انتقل إلى البصرة
وأخذ عن الخليل ويونس وأبي الحطاب الأخفش؛ فكان إمام البصريين
وله مناظرات مع الكسائي ومن مصنفاته كتابه الشهير المسمى
بسيبويه في النحو لم يضع قبله ولا بعد مثله. بغية الوعاة 2/
229، وفيات الأعيان 3/ 462.
3 محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الإمام أثير الدين أبو
حيان الأندلسي الغرناطي النفري نسبة إلى نفرة قبيلة من البربر
نحوي عصره ولغويه ومفسره ومحدثه ومقرئه ومؤرخه وأدبيه كذا وصفه
السيوطي في البغية.
ولد بمطخشارش مدينة بغرناطة في آخر شوال سنة أربع وخمسين
وستمائة، وله من التصانيف البحر المحيط؛ غير ذلك بغية الوعاة
1/ 280 "516"، شذرات الذهب 10/ 111، حسن المحاضرة 1/ 534،
الدرر الكامنة 5/ 70. ابن السبكي 6/ 31.
(1/313)
يقع منه على سبيل الكثرة؛ فتكون "قد" هنا
بمنزلة "ربما" في الكثرة انتهى؛ ففهم أن "قد" -في البيت-
للتكثير، وهذا ما فهمة الزمخشري1 من البيت، وتابعهما الشيخ
جمال الدين عبد الله بن هشام2، وزاد فقال في كتابه -المغني- ما
نصه: "الرابع -يعني من معاني التكثير- قال سيبويه في قول
الهذلي: قد أترك القرن مصفرا أنامله ...
وقاله الزمخشري في {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ} .
قال: أي ربما نراه، ومعناه تكثير الرؤية ثم استشهد بالبيت
"انتهى".
قلت: وهذا لم يقله سيبويه؛ وإنما فهمه عنه أبو حيان وليس جازما
به -كما رأيت- كلامه؛ بل قاله معارضة لفهم ابن مالك، وهو معارض
بفهم ابن مالك وغاية الأمر أن فهم أبي حيان، طابق فهم الزمخشري
من البيت وهذا لا يكفي في تسويغ النقل عن سيبويه -أنه قال: إن
"قد" في البيت للتكثير- مع كون كلامه محتملا، وفهم منه آخر
المجتهدين في النحو وهو ابن مالك- التقليل.
ثم أقول: الحق ما فهمه ابن مالك؛ فإن الفخر يقع بترك الإنسان
قرنه كأنه أنامله محت بفرصاد - ولو في وقت واحد.
وقول شيخنا الإنسان لا يفخر إلا بما يصدر منه إلا على سبيل
الكثرة -جوابه: أن ذلك فيما يمكن جريانه قليلا وكثيرا؛ فلا
يفخر بقليله بل بكثيرة. وأما ما لا يتفق إلا نادرا ذلك فيما
يمكن جريانه قليلا وكثيرا؛ فلا يفخر بقليله بل بكثيره. وما ما
لا يتقن إلا نادرا فإنه يقع الافتخار منه بالقليل؛ لاستحالة
الكثرة وترك الإنسان قرنه -بهذه الصفة- لا
__________
1 محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري أبو القاسم جار الله كان واسع
العلم كثير الفضل غاية الذكاء وجودة القريحة متفننا في كل علم
معتزليا قريا في مذهبه مجاهرا به ولد في رجب سنة سبع وتسعين
وأربعمائة، وله من التصانيف الكشاف في التفسير والفائق في غريب
الحديث وغير ذلك. بغية الوعاة 2/ 279-280، إنباه الرواة 3/
265، البداية والنهاية 12/ 219، الجواهر المضيئة 2/ 160، لسان
الميزان 6/ 4، النجوم الزاهرة 5/ 274، وفيات الأعيان 4/ 254.
2 عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن يوسف أبو محمد جمال
الدين بن هشام من أئمة العربية ولد سنة ثمان وسبعمائة، قال ابن
خلدون: ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية
يقال له: ابن هشام أنحى من سيبويه ومن تصانيفه المغني وعمدة
الطالب، رفع الخصاصة عن قراءة الخلاصة وغير ذلك.
توفي في ليلة الجمعة خامس ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة.
شذرات الذهب 6/ 190، الأعلام للزركلي 4/ 147، الدرر الكامنة 2/
308، مفتاح السعادة 1/ 159، النجوم الزاهرة 10/ 336.
(1/314)
يستحيل كونه كثيرا؛ وإنما يتفق نادرا فلذلك
يفتخر به لأن القرن هو المقاوم للشخص؛ فلو فرض مغلوبا -معه- في
الغالب، لم يكن قرنا له؛ [فلا] 1 المرء قرنا إلا عند المقاومة
غالبا ثم يفتخر بأنه غلب قرنه.
فتقول: لما كان قوله: القرن يقتضي أنه لا يغلب قرينة؛ لأن هذا
شأن القرينين غالبا. موهما التعارض ثم قضى بأنه قد يغلبه
-حملنا ذلك على الندرة، صونا للكلام عن التدافع والتناقض.
وقلنا: المراد تركه تركا لا يخرجه عن كونه قرنا -وذلك هو الترك
النادر لئلا يكذب آخر الكلام أوله.
ونحو هذا: قول بعض النحاة -في الرد على من ادعى أن "قد" ترد
للتقليل مستشهدا بقولهم: "قد يصدق الكذوب، وقد يجود البخيل"
إنما "قد" هنا - للتحقيق، لا للتقليل، والتقليل لم يستفد -في
المثالين- من "قد" بل من قولك: الكذوب يصدق، والبخيل يجود؛
فإنه إن لم يحمل على أن صدور ذلك -منهما- قليل، كان فاسدا، إذ
آخر الكلام يناقض أوله؛ فنقول -كذلك- في قوله "قد أترك القرن
... "؛ إنما المراد التقليل لأنه إن لم يحمل على التقليل [كذب
آخر الكلام أوله] 2 وهو إثبات أنه قرن -وعند ذلك أقول: قد أطلت
الكلام في "قد" وغرضي حاصل بدونها؛ فإن لفظ "الاغتفار" - في
قولهم: "يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء" مبني [على]
3 أن أصل المؤاخذة به، لولا ورود المغفرة عليه؛ فمن أدخل في
القواعد -قولهم: "قد يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء"
وقولهم: "قد يغتفر الشيء تابعا، ولا يغتفر أصل"؛ فليس على
بصيرة من فهمه، وهو كمن يدخل المعفو عنه -في باب النجاسة- في
أقسام الطهارات.
والتحقيق: أن وجود الشيء في الدوام بمنزلة وجوده في الاتبداء؛
إلا ما استثنى والمستثنى لا يكون هو القاعدة. وهنا قسمان:
أحدهما: أن يستوي وجود الشيء ابتداء ودواما، وهو الأصل وذلك
على ضربين: أحدهما: أن يكون ذلك جزما، نحو قطع نجاسة الماء
القليل بطريان الكثرة عليه وقطع النكاح بطريان الرضاع المحرم،
وكذا وطء أبيه، أو ابنه زوجته بشبهة، وبوطئه هو أمها أو ابنتها
بشبهة، وطريان ملك الزوج للزوجة أو بعضها. وبالعكس وهو كثيرا
جدا. والثاني: أن يكون كذلك ولكن على الأصح من
__________
1 في "ب" فلا يكون.
2 ف "ب" أول الكلام.
3 في "ب" غير.
(1/315)
الخلاف مثل طريان الكثرة على الماء القليل
المستعمل، وطريان الشفاء على المستحاضة في أثناء الصلاة،
وطريان الردة -والعياذ بالله تعالى- على المحرم فيبطل نسكه،
وطريان قصد المعصية على سفر الطاعة حتى لا يترخص، وعكسه حتى
يترخص، وطريان نقصان عدد الجمعة في أثنائها -كما لو انفضوا-
فتبطل الصلاة، وإذا طولب المولى بالفيئة أو الطلاق؛ فوطئ ولم
ينزع، كما غيب، بل مكث؛ فالصحيح لاحد لأن الابتداء كان مباحًا
وهو أيضًا كثير.
القسم الثاني: أن لا ينزل منزلة الابتداء: وهذا هو الخارج، وهو
أيضا على ضربين أحدهما: أن يكون ذلك جزما -وهو قليل- مثل طريان
الإحرام والردة وعدة الشبهة على النكاح، وطريان الإسلام على
السبي فإنه لا يزيل الملك وطريان اليسار، ونكاح الحرة، والأمن
من العنت على حر نكح أمة بالشروط؛ خلافا للمزني في اليسار،
ونكاح الحرة، وطريان إباق العبد؛ فإنه لا يفسخ البيع؛ مع كون
الإباق يمنع صحة البيع ابتداء، ولو ابتلت الحنطة المرهونة
وتعرضت للفساد لم ينفسخ عقد الرهن. وإن قلنا: رهن ما يتسارع
إليه الفساد باطل، ولو رأى المتيمم الماء في أثناء الصلاة
أتمها، إن كانت مما يسقط فرضها بالتيمم، وهو مانع في ابتداء
الصلاة ولو أسلم عبدا لكافر لم ينفسخ عقد البيع، بخلاف ما لو
كان مسلما ابتداء.
وثانيهما: أن يكون فيه خلاف، والأصح أنه لا يترك، وهو أكثر من
القسم قبله مثل: القدرة على الماء في أثناء الصلاة، ونية
التجارة بعد الشراء، وطريان ملك الابن على زوجة الأب؛ فإنه لا
يفسخ به النكاح وإن كان ملك الابن مانعا من عقد الأب، ومثله
إذا تزوج العبد بجارية ولده ثم أعتق، وإذا بنى جدارًا ملاصقًا
للشارع -مائلًا؛ فسقط ضمن ما يتولد من سقوطه، وإن مال -بعد أن
بناه مستويًا وقبل التمكن من الهدم أو الإصلاح- فالأصح لا
يضمن، ولو سفه في الدين -دون المال لم يحجر عليه في الأصح، وإن
قلنا: لو قارن ذلك البلوغ اقتضى دوام الحجر، ولو جرت قسمة ثم
استحق جزء شائع لم يبطل في غيره على الأصح، لو أراد بعض
الشركاء -في الابتداء- أن ينفرد بالقسمة لم يمكن.
إذا عرفت هذا: فكل من عد الاعتقاد في الدوام أصلا من أصول
القواعد فقد أساء الفهم عن الأئمة وأسوأ منه فهما وأسفه رأيًا،
ونظرًا من يعد في القواعد المسائل القليلة التي وقع فيها عكس
هذه المسائل، وهو ما دعت إليه الضرورة من اغتفار الشيء في
(1/316)
الابتداء دون الدوام؛ فإن ذلك مستثنى من
القاعدة المشهورة التي أشار إليها الإمام في باب التفليس. وهي
أن "ما منع الدوام منع الابتداء". وقد ذكرها الشيخ الإمام رحمه
الله في باب التفليس من "شرح المهذب"؛ [فقال] 1: لم أر أحد من
الفقهاء استثنى من هذه القاعدة شيئا إلا ابن الرفعة؛ فإني
سمعته يقول إلا لقرابة تمنع دوام الملك دون ابتدائه.
قال الشيخ الإمام: وهي مسألة مليحة تستفاد في نقض القاعدة على
المذهب قال: وألحقت أنا بها الجنون، يمنع دوام أجل الدين على
قول ولا يمنع ابتداءه. على ما قاله الإمام، ومثله يأتي في باب
الفلس2 والتحقيق عدم الاستثناء، أما الجنون والفلس، فالقاطع
طريانهما. وأما القرابة فليست مانعة من الملك بل موجبة للعتق
بدليل قوله صلى الله عليه وسلم $"فيشتريه فيعتقه" فملك القريب
كإعتاقه قاطع لا مانع. انتهى كلام الوالد.
وقد ذكرت -أنا- في كتاب "التوشيح" مسائل غير هاتين، وأنا
أسردها ثم أعقبها بذكر مسائل -توهم بعض الطلبة أنها من ذلك-
وليس كما توهم.
فمنها: هاتان الصورتان.
ومنها: إذا زوج عبد بأمته لم يجب مهر، وقيل: يجب ثم يسقط؛ فعلى
هذا يفتقر في الابتداء ما لا يفتقر في الدوام.
ومنها: لو وجب القصاص على رجل، فورث القصاص ولده، قيل: يجب ثم
يسقط وقيل: لا.
ومنها: لو أحرم زال ملكه عن الصيد على الأصح ولو اشترى المحرم
صح في وجه.
ومنها: لو تكفل ببدن ميت، صح، أو حي فمات انقطعت الكفالة في
وجه.
ومنها: على وجه -لو أحرم مجامعا، انعقد إحرامه صحيحًا، ثم إن
نزع -في الحال- صح؛ وإلا فسد، ولو صدر الجماع في أثناء الإحرام
أفسد النسك.
ومنها: إذا أذن لجارية ثم استولدها؛ ففي بطلان الإذن اختلاف
بين أصحابنا.
قال الرافعي: واتفقوا على أنه يجوز أن يأذن -ابتداء- للمستولدة
فهذا ما أحفظه وأما ما أظن أنه منها، وليس منها فصور.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" المفلس.
(1/317)
ومنها: كان شيخنا الحافظ تقي الدين أبو
الفتح السبكي يعد منها ما لو تناديا بالبيع متباعدين فإنه يصح.
قال إمام الحرمين: ويحتمل أن لا يثبت لهما خيار المجلس؛ لأن
طريان التفرق قاطع للخيار، فالمقارن يمنع ثبوته قال: ويحتمل أن
يقال: يثبت ما داما في موضعهما.
قال ابن العم رحمه الله: فعلى هذا اغتفر في الابتداء ما لو وقع
في الدوام لم يغتفر.
قلت: الاحتمال الثاني هو الحق، وفيما ذكره أبو الفتح نظر، فإن
هذا ليس بتفريق بل هو مجلسهما، والتفرق عندنا الانفصال عن مجلس
العقد. نعم قد يركب منه لغز؛ فيقال اثنان تعاقدا البيع، فثبت
لهما خيار المجلس -وهما متباعدان- فلما تقاربا وضمهما مجلس
مختصر، زال، أو يقال متفارقان، ثبت لهما الخيار؛ فلما اجتمعا
زال.
ومنها: إذا طلع الفجر على الصائم -وهو مجامع- فنزع، صح صومه
[ولو جامع] 1 في أثناء الصوم بطل.
قلت: ولا يصح عد هذه الصورة؛ فإن المغتفر في الابتداء - النزع
فلم يحصل به فطر، وفي الدوام الفطر لا يحصل بالنزع بل بالإيلاج
فلم تتحد الصورة؛ وإنما يصح التنظير لو وجدت صورة يغتفر في
الابتداء ثم توجد بعينها في الدوام ولا تغتفر.
ومنها: وطء من علق الثلاث على الوطء؛ فإن الطلاق يقع في أول
الإيلاج، فاغتفر في الإيلاج ابتداء، ومن البينونة، ولم يغتفر
دوامه بل يجب النزع ولباحث أن يمنع كون ابتداء الإيلاج محرمًا؛
إذ لا يصادف طلبه ولذلك التفات على أن العلة هل هي مع المعلول.
بل أقول: ولو قلنا: إنها مع المعلول، فالعلة نفس الإيلاج لا
ابتداؤه إلا أن يقال ذات الإيلاج لا ابتداء لها ولا انتهاء
وللبحث في ذلك مجال - لسنا الآن.
قاعدة: قال ابن القاص: كل من وجب عليه الحبس بدين فقال صاحب
الدين لا
__________
1 سقط في "ب".
(1/318)
يحبس -وأنا ألازمه كانت الملازمة أحق إلا
أن يقول المديون: احبسني وامنعه من ملازمتي؛ فينظر.
إن كان لا يريد الملازمة خوف الشهرة -بلا ضرر يدخل عليه [في
ذلك لم يمنع من ملازمته. وإن كان يمتنع من ذلك لضرر يدخل عليه]
1 في وضوئه وطهوره رد إلى الحبس؛ لأن الملازمة تكون في المسجد
فإذا طال ذلك ضربه البزاز والطهور واستدل على أنه لا يمنع -في
القسم الأول- بقوله صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد يحل عرضه
وعقوبته" 2.
وبتسميته أسيرًا قال الشيخ الإمام -رحمه الله- في باب التفليس
من شرح المهذب.
وفي هذا الاستدلال إشارة إلى أن صورة المسألة في حبس العقوبة
أما حبس الاستكشاف: فينبغي إذا طلب المديون الحبس وترك
الملازمة يجاب من غير تفصيل.
والرافعي رحمه الله نقل هذا الفرع عن ابن القاص، وقال: إن
الملازمة أخف ويمكن إلا أن يقول أنه تشق عليه الطهارة والصلاة؛
فقد يتوهم من كلامه أن الطهارة على سبيل المثال وأن مشقة
الشهرة مثلها. قال الشيخ الإمام: وقد عرفت أن كلام ابن القاص
يدفع هذا أو يوهم ويبين أن الملازمة قد تكون أثقل.
قال: وكلام ابن القاص هذا يشعر بأن المراد من الملازمة ملازمته
في مكان واحد كالمسجد ونحوه وهي قريبة من معنى الحبس وكلام
غيره يقتضي أن معناها. أن يكون معه؛ حيث كان -من غير منع من
التردد في حاجته- وهي أخف- وإن كان فيها إضجار. والصيمري3 قال:
ولرب الدين ملازمته بنفسه وبوكيله، وهذا مطلق وكلام ابن القاص
مفصل.
__________
1 سقط في "ب".
2 أخرجه أحمد في المسند 4/ 222-388-389 وأبو داود 4/ 313 في
الأقضية/ باب الحبس في الدين "3628" والنسائي 7/ 316 في
البيوع/ باب مطل الغني وابن ماجة 2/ 811 في الصدقات/ باب الحبس
في الدين والملازمة "2427" والبخاري تعليقا 5/ 62 في كتاب
الاستقراض/ باب لصاحب الحق مقال وأورده الهيثمي في موارد
الظمآن ص283 في البيوع/ باب في المطل "1164" والحاكم في
المستدرك 4/ 102 في الأحكام/ باب لي الواجد، وقال صحيح الإسناد
ووافقه الذهبي.
3 عبد الواجد بن الحسين أبو القاسم الصيمري البصري أحد أئمة
الشافعية، وأصحاب الوجوه حضر مجلس.
(1/319)
وقال القفال الكبير1: إذا طلب الحبس ورضي
الطالب بالملازمة ولم يحبس؛ لأن الحبس إن كان للاستيثاق وكشف
الحال فهو إلى رأي الإمام -يحتفظ به وإن كان للعقوبة فلا حق
للمطلوب فيه، وأنه إذا لزم منع الاضطراب في أموره ولا يمنع مما
لا بد منه -من دخول الخلاء ونحوه- ولا يمنع في الحبس أو موضع
الملازمة من أن يبيع ويشتري. ويصلي تطوعا ويعمل العمل من خياطة
ثوب أو غيرها.
قاعدة: قال أبو الحسن الفناكي: كل من غصب شيئا لزمه رده أو رد
قيمته إلا مسألة واحدة وهي: أن يسجر التنور ليخبز فيه قيمة آخر
من الخبز فيلزمه قيمة الحطب، [وليس ما غصب] 2 ولا قيمة ما غصب؛
لأنه غصب خبزا وعليه قيمة الحطب ومن أصحابنا من قال: عليه
الخبز. ومنهم من قال: إن عليه أن يسحر التنور ويحميه كما كان.
قلت: وصور الزبيري -في كتاب المسكت- المسألة بأن يصيب عليه آخر
ماء فيطفيه، وحكى الأقوال إلا أنه حكى بدل القول: بأن عليه
الخبز قولا: أن عليه قيمة الجمر، واستشكل الأقوال الثلاثة. أما
القول بأن عليه قيمة الجمر، قال فلأنه لا قيمة له معروفة، ولا
يكال، ولا يوزن وأما القول بأنه يحميه، كما كان فلأنه لا ضابط
له.
__________
القاضي أبي حامد المروذي وتفقه بصاحبه أبي الفياض البصري أخذ
عنه الماوردي، قال إسحاق: ارتحل الناس إليه من البلاد وكان
حافظا للمذهب حسن التصانيف ومن تصانيفه الإيضاح والكفاية
والإرشاد شرح الكفاية، قال ابن الصلاح: كانت وفاته سنة ست
وثمانين وثلاثمائة.
والصيمري بصاد مهملة مفتوحة ثم ياء ساكنة بعدما ميم مفتوحة
ضمها بعضهم منسوب إلى صيمرة نهر من أنهار البصرة عليه عدة قرى
ابن قاضي شهبة 1/ 184-185، الشيرازي ص104، الأسماء واللغات 2/
265.
1 محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر الشاشي القفال أحد أعلام
المذهب وأئمة المسلمين مولده سنة إحدى وتسعين ومائتين وسمع من
أبي بكر بن خزيمة وابن جرير والبغوي وغيرهم وهو أول من صنف في
الجدل الحسن من الفقهاء، وقال الحاكم: كان أعلم أهل ما وراء
النهر "يعني في عصره" بالأصول وأكثرهم رحلة في طلب الحديث.
توفي في ذي الحجة سنة خمس وستين وثلاثمائة، ابن قاضي شهبة 1/
148، الشيرازي 91-92، وفيات الأعيان 3/ 338، الأسماء واللغات
2/ 282، النجوم الزاهرة 4/ 111، شذرات الذهب 3/ 51.
2 في "ب" وليس هو ما غصب.
(1/320)
وأما القول بأن عليه قيمة الحطب [فإن
المطفي لم يستهلك الحطب] 1؛ وإنما أتلف الجمر بعد خروجه عن
الحطبية. قال: كما أن من أحرق ثوبا ليتخذ رماده حراقا فأتلفه
رجل، لا تجب عليه قيمة الثوب قبل الإحراق.
ثم قال الزبيري: أقرب ما يقال وجوب قيمة الجمر فإن له قيمة؛
فإن قلت: فإذا انتهى إلى حد لا قيمة له فلا شيء عليه إلا
الإثم، وإن بقي بعد الإطفاء فحم ينتفع به، نظر إلى قيمته
حاميًا وإلى نقصه حين صار فحما ووجب ما بينهما من التفاوت.
وذكر الزبيري أيضا -في المسكت أنه لو برد ماء في يوم صائف؛
فألقى فيه رجل حجارة محماة أذهبت برده، فقال قوم: لا شيء عليه
لأن هذا ماء على هيئته، وتبريده ممكن.
وقيل: يأخذ هذا المعتدي ما أسخنه، ويضمن مثله باردا.
وقيل: ينظر إلى ما بين القيمتين في هذه الحالة فيضمن به.
قال: "وقول الأولين مشكل؛ لأن هذا أتلف بمنفعة مقصودة، فصار
كما لو نسج ثوبا، أو ضرب لبنا فأعادهما إلى حالهما الأول" قال:
على أن بعضهم ارتكب في هذين أيضا أنه لا يضمن ما نقص، وهو
بعيد، ومنهم من قال يضمن مثل الثوب منسوجا، ومثل اللبن مضروبا
ويرد على هؤلاء أن فيه إزالة الملك عن المالك، ودخوله في ملك
الآخر بمجرد التعدي، ويرد على من قال: يضمن ما بين القيمتين
باردا أو مسخنا أن الماء ربوي؛ فإذا أخذ ماءه ومعه دراهم لما
نقص وقع في محذور الربا، كما قيل فيمن كسر درهما مضروبا لغيره
ثم نقصت قيمته بقيراط من الذهب يحكم عليه به، وشنعوا على قائله
بأنه ربا؛ والحق أنه لا محذور لأن مالك الدراهم والماء لم يزل
ملكه عنهما، ثم يعود إليه مع غيره؛ حتى يقع في الربا فلا شناعة
في نفس الأمر.
قال: ولو ألقى في ماء أسخنه رجل قطعة ثلج لينتفع به، فيه
كالمسألة قبلها.
قال: ولو بل خيشا ونصبه ليتبرد به، فجاء رجل وأوقد عنده نارا
حتى نشف وحمى، قال بعضهم: عليه قيمة الماء الذي بل به، وقال
غيره عليه قيمة الانتفاع به مدة بقائه باردا.
وقال آخرون: لا شيء عليه إلا الإثم.
__________
1 سقط في "ب".
(1/321)
قال: وأعدلها القول الثاني؛ لأنه أتلف
منفعة مقصودة.
قاعدة: قال الأصحاب في باب الغصب: كل يد ترتبت على يد الغاصب
فهي يد ضمان فيتخير المالك -عند التلف- بين مطالبة الغاصب وبين
ما ترتبت يده على يده سواء على الغصب أم لا ثم إن علم الغصب،
فهو غاصب من الغاصب، وإن جهل فسنذكر حكمه في القاعدة الثالثة
لهذه القاعدة.
وفي هذه القاعدة تنبيهات: أحدها: أن محلها اليد المقصود بها
الاستيلاء لواضعها، أما التي يقصد بها واضعها الحفظ للمالك فلم
يقصدها. وقد علم من ترجيح الرافعي والنووي أنه ليس لآحاد الناس
انتزاع المغصوب وعلى هذا فمنتزعه غاصب؛ ولكن الذي نص علي
الشافعي رضي الله عنه أن لآحاد الناس انتزاع المغصوب، وقال
الشيخ الإمام الوالد رحمه الله: إنه الحق. والراجح عندي الفصل
بين من ظهر منه أنه لو وجد سبيلا إلى الرد لرد؛ فلا ينتزع منه
لئلا يكون المنتزع ناقلا للعين من الضمان إلى الأمانة بلا نص.
فائدة: ومن لم يظهر من ذلك فيجب الانتزاع، وذكرت هذا التفصيل
في التوشيح وقلت: إنه ينبغي تنزيل النص عليه.
التنبيه الثاني: محل القاعدة يد ترتبت، أما تصرف غير ذي اليد
ممن هو كالآلة فلا يضمن إذ لا يد في الحقيقة، وذلك كمن رفع
كتاب شخص من بين يديه قاصدا أن ينظره ويرده في الحال؛ فإنه لا
يضمن. قاله القاضي الحسين وطرد الإمام ذلك في الدنانير
المغصوبة التي تمر بأيدي النقاد، وليس من فعل هذا توكيل الغاصب
لأن التوكيل منفرد باليد، والنقاد لا ينفرد باليد بل هو بلحاظ
من الدافع فلا يد له البتة.
فإن قلت: قد قالوا فيمن غصب شاة وأمر قصابا فذبحها جاهلا
بالحال، وكذا كل من استعان به الغاصب كطحن الحنطة وخبز العجين
أن القرار على الغاصب، وفي هذا شاهد لما ذكرتم؛ غير أن تضمين
هؤلاء -وإن لم يكن القرار عليهم- يرد على قولكم: أنهم كالآلة،
ولما ذكر في النقاد، ومن رفع كتابا.
قلت: قال الوالد رحمه الله الضمان -هنا- بطريق الجناية- لا
بطريق الغصب فلا يرد البتة.
التنبيه الثالث: قولهم: "غاصب من الغاصب" فيه مناقشة لفظية،
فإن الغاصب هو
(1/322)
المستولي على حق الغير عدوانا والآخذ من
الغاصب لم يستول على حقه ولا تعدي عليه؛ وإنما هو غاصب من
المالك باستيلائه على المال الذي كان عند الغاصب وليس بخصوص
الأخذ من الغاصب مدخل في الغصب، وقد يبنى على هذا أن الغاصب هل
يخاصم؟ والمعروف أنه لا يخاصم سواء قلنا: يخاصم المرتهن
والمستأجر أم لا إذ لا حق له البتة، وعن الماوردي أنه يخاصم،
وأنا أميل إليه، ويشهد له أن للضامن حبس الأصيل إذا حبس -وإن
لم يثبت له عليه علقة على وجه صححه الشيخ الإمام- ليرهقه إلى
تخليصه، وهكذا الغاصب إذا كان مقصده إرهاق الآخذ منه إلى
تخليصه ورأيت بعد ذكري لهذه المناقشة -في كتاب الأشراف للقاضي
أبو سعد الهروي- حكايتهما.
التنبيه الرابع: قولكم أن المالك. عند التلف يتخير بين مطالبة
الغاصب، وغاصب الغاصب لم تبينوا حاله عند بقاء العين، وقد يفهم
من هذا الإطلاق أنه لا يطالبهما إذا كانت العين باقية؛ وإنما
يطالب من هي عنده، لانحصار حقه فيها، والذي يظهر أنه يطالب
غاصب الغاصب بالعين ويطالب الغاصب بقيمة الحيلولة وهل يطالبه
بنفس العين مع العلم بأنها ليس عنده، وأنه ليس له أن ينتزعها
من غاصبه؛ إذ لا حق له فيها ولا ولاية عليها.
فيه نظر واحتمال يجر إلى أنه طالبه المالك بها هل يجعل مطالبته
إياه بها إذنًا له في مطالبة الغاصب منه، وهل يجعل هذا الإذن
ناقلًا له -إذا قبضها- من حكم الضمان إلى الأمانة؛ فلينظر في
هذه الخواطر.
قاعدة: ذكرها الأصحاب ضابطا للمكان الذي يضمن فيه الذي أثبت
يده على يد الغاصب عن جهل: "من أثبت يده على يد الغاصب جاهلا
فإن دخل على أن يضمنه لم يرجع أو على أن لا يضمنه؛ فإن لم
يستوف مقابلة كالمستودع من الغاصب فيرجع به والقرار على
الغاصب، وفي وجه لا يطالب المودع أصلا، وفي ثالث يستقر عليه
الضمان وإن استوفاه، كأكل طعام مغصوب قدمه إليه الغاصب فقولان:
أصحهما -وهو الجديد- أن القرار عليه لا على الغاصب؛ إلا أن
يقول الغاصب -مع التقديم هو لي، ثم يغرم المغصوب منه الغاصب؛
فإنه لا يرجع على الآكل خلافا للمزني لأنه يقوله "هو لي" اعترف
بأنه مظلوم، والمظلوم لا يرجع على غير من ظلمه.
قاعدة: من صح تصرفه في شيء تدخله النيابة صحت وكالته فيه
وعبارة التنبيه: "ومن لا يجوز".
(1/323)
مأخذ من مآخذ باب الوكالة. "هل الاعتبار
بحال التوكيل أو بحال إنشاء التصرف، فيه خلاف يشبه الخلاف الذي
قدمناه في أوائل القواعد في أنه "هل الاعتبار بحال التعليق أو
بحال وجود الصفة؟ غير أنه لا تعليق فيما نحن فيه. وفيه مسائل:
منها: وكله بطلاق امرأة سينكحها، أو بيع عبد سيملكه؛ ففي صحته
وجهان وعند ذكرهما أشار الرافعي إلى هذا المأخذ.
ومنها: وكل المحرم حلالا في أن يقبل له نكاح امرأة؛ فهل يصح
ويقبل له بعد التحلل إن اعتبرنا حال التوكيل لم يصح في الأصح.
ومنها: إذ قال: وكلتك في مخاصمة كل خصم يحدث له وفيه وجهان
حكاهما الماوردي.
ومنها: لو وكل الولي في التزويج قبل استئذان المرأة المعتبر
إذنها.
قال صاحب التهذيب: لا يصح مع قوله -في التوكيل بطلاق زوجة
سينكحها- "أنه يصح" وهذه منه مناقضة حاول ابن الرفعة الاعتذار
عنها في المطلب في باب الوكالة بما يطول ذكره.
ومنها: لو وكله في طلاق امرأته فلم يطلقها حتى مرض الموكل فهل
يكون كالطلاق في المرض فيه وجهان: قال صاحب الذخائر: "مآخذهما
أنه هل ينظر إلى وقت التوكيل أو الإيقاع؟
ومنها: قال: أعتقوا عني عبدا فكان هناك خنثى مشكل لم يجز
إعتاقه [عنه] 1 فإن زال إشكاله فوجهان في البيان.
فائدة: لا يفارق الصلح البيع إلا في مسائل: قال صاحب التلخيص
هي اثنتان، وقال الغزالي [ثلاث] 2 وهي أكثر.
منها: صلح الحطيطة لا يصح بلفظ البيع ويصح بلفظ الصلح على
الأصح.
ومنها: قال ابن القاص: لو صالح أهل الحرب من أموالهم على شيء
جاز ولو صالح مسلما من ماله على [شيء] 3 لم يجز.
ومنها قال -أيضا- يجوز الصلح عن أرش الجناية لا بلفظ البيع
وأنكره الشيخ
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" زيادة فقط.
3 في "ب" على شيء مما يليه.
(1/324)
أبو علي وقال: إن كان ملعوم القدر والصفة.
جار باللفظين وإلا امتنع بهما، وإن علم القدر دون الوصف ففيه
خلاف.
وهو في الحقيقة منع لا تفصيل؛ وذلك لأن صاحب التلخيص إنما تكلم
في معلوم القدر والصفة ومن ثم قال الشيخ الإمام: "من وقف على
كلام صاحب التلخيص عرف أن كلام الشيخ أبي علي ليس تفصيلا لما
أجمله؛ بل إفادة لأحكام مسائل.
ومنها: قال البويطي -من قبل نفسه لا من عند الشافعي- "إذا وجب
لرجل على رجل يمين، فافتدى منه بمال جاز، ووافقه النووي وقال
الوالد رحمه الله: يشهد له ما في البخاري في القسامة في
الجاهلية وافتداء رجل يمينه ببعيرين.
قال: فإن صح ما قاله فهي صورة أخرى يستعمل فيها لفظ الصلح دون
البيع لكن في الحاوي ما يخالفه.
قال الوالد رحمه الله: وهو الذي يظهر.
فائدة: قال الوالد رحمه الله: ما يبذل العوض بسببه إن كان
مالا؛ فهو البيع وإلا فالافتداء بحق كالخلع أو بباطل كفك
الأسير وكل من البيع والافتداء إن جرى بعد منازعة سمى صلحا
وإلا فلا.
قاعدة: قال صاحب التنبيه: "من لا يجوز تصرفه لا يجوز توكيله
ولا وكالته إلا الصبي المميز؛ فإنه يصح وكالته في الإذن في
دخول الدار وحمل الهدية".
قلت: أما التوكيل فقد ذكرت في التوشيح أنه يستثنى منه مسائل:
منها:......
فصل:
وأما الوكالة فقد اقتصر الشيخ على استثناء الصبي [المميز] 1
فيما [ذكرت] 2 وبقيت مسائل بعضها في التوشيح.
منها: السفيه فإنه لا يقبل النكاح لنفسه -بلا إذن- ويقبل لغيره
في الأصح.
ومنها: السفيه -أيضا- فإنه يجوز أن يكون وكيلا عن المرأة في
اختلاعها من زوجها ويصح، وتبين إذا أضاف المال إليها؛ لأن
الحجر على السفيه لدفع الضرر عنه ولا ضرر عليه في قبول هذا
الخلع.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" ذكر.
(1/325)
نقله الرافعي في الخلع عن صاحب التتمة.
وقيد به قول صاحب التهذيب أن السفيه لا يتوكل عن المرأة في
الخلع فقال: [هذا] 1 فيما إذا أطلق لا فيما أضاف إليها وهو
واضح، ولا يخفى أنه لا يخالع عن نفسه فقد خاز كونه وكيلا فيما
لا يمكنه أن يتولاه عن نفسه.
ومنها: الكافر في شراء المسلم والمصحف لمسلم وكذا في طلاق
المسلمة ذكرها الرافعي في الخلف. هذا كلامي في التوشيح وأشرت
بما ذكره الرافعي -في الخلع- إلى قوله يجوز أن يكون وكيل الزوج
الزوجة -يعني في الخلع- ذميا لأن الذمي قد يخالع المسلمة
ويطلقها؛ ألا ترى أنه لو أسلمت المرأة وتخلف الزوج فخالعها في
العدة ثم أسلم يحكم بصحة بصحة الخلع. انتهى وتبعه عليه النووي
وابن الرفعة والوالد رحمهم الله تعالى.
وقد يقال: قوله "ألا ترى" إلى آخره يدفع الاستثناء؛ فإن جعله
إياه ممن يطلق المسلمة يدفع كونه لا يملك طلاقها؛ فإنه -حينئذ
ما صار وكيلا إلا فيما له -على الجملة- أن يفعله غير أنا نقول:
توقف صحة الخلع إسلامه تنبئك على أنه لا يصح مع كفره وقوله:
"ذميا" ليس للاحتراز عن الحربي، ولو قال كافرا كان أحسن وبلفظ
الكافر صرح الماوردي في الحاوي وعليه دل الشافعي وهو واضح.
ويستثنى أيضا لو وكل حلال محرما في أن يوكل حلالا بالتزويج على
الأصح عند الرافعي والنووي لكن الأصح عند الوالد رحمه الله
خلافه وفيما لو توكلت المرأة في طلاق غيرها أو في أن توكل من
يزوج.
أصل مستنبط: ما لا تدخله النيابة من التصرفات هل يكون التوكيل
فيه فعلا له يؤاخذ به الموكل فيه خلاف لا على الاطراد والعموم
بل في صور:
منها: الأصح أنه لا يصح التوكيل في الإقرار فإن وكل -على هذا-
لم يكن مقرا على الأصح.
ومنها: التوكيل بالحوالة لا يصح وهو يصير محيلا بالتوكيل فيه
وجهان؛ قاله القاضي الحسين وخالف فيه صاحب التهذيب.
ومنها: المشهور صحة التوكيل في عقد الضمان، وقال القاضي لا
يجوز وهي يصير بذلك ضامنا فيه وجهان.
__________
1 سقط في "ب".
(1/326)
ومنها: يجوز التوكيل بعقد الوصية ومنعه
القاضي الحسين، قال لأنها قربة قال: وهل يصير بذلك موصيا يحتمل
وجهين.
فصل:
يقرب من هذه النظائر -على العكس- القادر على رفع الشيء هل يكون
جحوده إياه رفعا له فيه خلاف في صور:
منها: لو جحد الوكيل كونه وكيلا؛ فهل يكون ردا لها فيه أوجه
أحدها: وهو ما أطلق الرافعي في باب النذر تصحيحه - ارتفاع
الوكالة بالإنكار.
[قاعدة: اختلف الأصحاب في أنه "هل الاعتبار بحال التوكيل أو
بمال إنشاء التصرف اختلاف جعل بعضهم أصله من مسائل أصول
الديانات أن التكليف هو يتوجه حال المباشرة أو قبلها؟ "وليس رد
هذه القاعدة على هذا الأصل -عندي- بمرض؛ فأنا أسرد فروعها
ليتبين ذلك فمن فروعها: لو وكله بطلاق زوجة سينكحها، ولو وكل
المحرم حلالا في قبول النكاح، هل يصلح ويقبل له بعد التحلل؟
ولو وكله في مخاصمة كل خصم يحدث له، [وهذه فيها وجه في الحاوي]
1.
قاعدة: قال القاضي الحسين رحمه الله: "ما لا يستحق بالشفعة لا
يستحق به الشفعة"، وجعل هذا علة قولهم في أرض نصفها وقف ونصفها
طلق أنه لا يثبت للموقوف [عليه] 2 الشفعة وهو الصحيح وتبعه
الرافعي فقال: "إن الوقف لا يستحق الشفعة فلا تستحق به
الشفعة"، والأصح عند الوالد رحمه الله أن علة كون الموقوف عليه
لا يملك الوقف على المذهب؛ فليس بشريك في الملك والشفعة إنما
تثبت لشريك الملك، وهذه هي التي اختارها ابن الصباغ".
ولو قلنا: بأن الموقوف عليه يملك؛ فشرط الشفعة قبول القسمة،
والوقف لا يفرز بالقسمة عن الملك على أشهر الوجهين.
وهنا تنبيهان: أحدهما: يتخرج على ما تعلق به الوالد من العلة
وما تعلق به الرافعي وتبعه النووي إذا قلنا الموقوف عليه يملك،
وقلنا بما اختاره النووي من أن الوقف يقسم عن الملك فالوالد
يقول تثبت الشفعة حينئذ؛ لانتفاء العلة والرافعي والنووي
يقولان لا تثبت لما رجحاه من العلة؛ فإن الوقف لا يؤخذ بالشفعة
فلا يؤخذ به. وكذلك
__________
1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
2 في "ب" على.
(1/327)
إذا كانت درا ثلاثا، ثلثها وقف، وثلثاها
لاثنين فباع أحدهما نصيبه هل يثبت للآخر الشفعة؟
قال الشيخ الإمام: ينبغي أن يقال بالجواز إن جوزنا القسمة
لانتفاء العلة التي ذكرها القاضي، وبالمنع إن لم نجوز لعدم
توقع الضرر بالمقاسمة، [ولذلك] 1 أطلق صاحب التنبيه وغيره أن
ما ملك بشركة الوقف لا شفعة فيه.
التنبيه الثاني: هذه القاعدة ضعفها ابن الصباغ ونقضها ابن
الرفعة بصاحب الجزء الكبير؛ فإنه لا يأخذ الجزء الصغير -الذي
لا ينقسم- منه، لعدم توقع القسمة ولا عكس ومن الغريب أن القاضي
الحسين قال: بعد أن ذكر [هذه] 2 القاعدة: "وعلى هذا نقول
الجارية التي نصفها قن ونصفها أم ولد فإن استولدها معسر فوقفنا
الاستيلاء على حصته لو أعتق صاحب النصف الذي هو أم ولد نصيبه
لم يسر إلى ما هو قن؛ لأن صاحب النصف القن إذا أعتق نصيبه لم
يسر إلى ما هو أم ولد منها: [كما] 3 لا يسري إلى الغير.
قاعدة: ما يبذله الشفيع من الثمن للمشتري مقابل لما [يبذله] 4
المشتري "على ما ذكر ابن الدم أنه المفهوم من كلام الأصحاب وهو
قول القفال، وقال القاضي الحسين: "إنه في مقابلة الشقص"؛
فالمشتري عند القفال كأنه ناب عن الشفيع في الشراء أو أقرضه
الثمن وأحوجه إلى هذا دلالة الحديث؛ على أن الشريك أحق
بالشفعة. فكأن الشفيع نازل منزلة المشتري قال ابن أبي الدم:
"وهذا الخلاف ينبغي أن يكون قاعدة باب الشفعة" وعلى هذه
القاعدة يتخرج مسائل:
منها: خيار المجلس للشفيع وجواز التصرف قبل القبض وأخذ ما لم
يره والملك نقضًا للقاضي عند قوله تملكت وبالإشهاد ولخوف
الزيادة والحط وانحطاط مقدار الأرش، وغير ذلك من مسائل كثيرة.
من أهمها إذا كان الشفيع وارثا، والبائع مريض وفي الثمن محاباة
وقبض الشقص إذا كان عليه صفائح من ذهب، والثمن فضة -على ما
تفقه ابن الرفعة، وإن كان المنقول اشتراط القبض فيه. والتصحيح
مختلف في هذه الفروع لسبب يخص الفروع في نفسها.
__________
1 في "ب" كذلك.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 في "ب" يعدله.
(1/328)
تنبيه: قال الوالد رحمه الله: مما يشكل على
القفال في تقديره أن المشتري أقرض الشفيع الثمن أنه لو كان
كذلك لكان الواجب -فيما إذا اشترى الشقص بمتقوم- المثل الصوري
كالقرض، لا القيمة؛ فالأشبه على قاعدته أن يقدر أن الشفيع
أتلفه عليه، وعلى قاعدة القاضي يجعل معيارا لا غير قلت: لا شك
أن القفال يقدر كأنه أتلف؛ فإن الأصحاب صرحوا بأن المتقولم لا
يؤخذ بالمثل الصوري -هنا- وإن أخذ في القرض كذلك. فقال صاحب
التتمة: الشفيع لا يؤخذ بالمثل صورة، بخلاف ما قلناه في القرض
على أحد القولين -لأن القرض مشروع للإرفاق؛ فلو لم نوجب الجنس
امتنع الناس عن القرض فيفوت الرفق المطلوب.
وأما الأخذ بالشفعة فسببه الإتلاف "والمقومات -عند الإتلاف-
تضمن بالقيمة". انتهى.
وقال أعني صاحب التتمة بعد ذلك إذا استقرض شقصًا فالشفيع يأخذ
الشقص بقيمته بلا خلاف لأن المستقرض يضمنه بالقيمة على المذهب
الصحيح، وعلى القول الآخر يجب عليه رد المثل على سبيل الإرفاق
والشفعة ملحقة بالإتلافات. انتهى.
وهذا الفرع نقله عنه الرافعي وهو بناء منه على جواز قرض الشقص
من دار وقد نقله [عنه] 1 قبل ذلك، وصرح به أيضا في كتاب التتمة
قبل ذلك جازما به وخرج من هذا أن للقفال أن يقول إنما يلزمه رد
المثل صورة أن لو كان قرضا حقيقيا وهذا ملحق بالقرض وليس هو
إياه فلا يلزم.
قاعدة: قال القاضي حسين كل يد كانت يد ضمان وجب على صاحبها
مؤنة الرد، وإن كانت يد أمانة فلا.
قلت: وأغرب أبو إسحاق العراقي شارح المهذب فزعم أن مؤنة رد
المبيع بعد الفسخ بالعيب على المشتري، ويستثنى من العكس
الإجارة على ما صحح النووي في تصحيح التنبيه أنه يجب مؤونة
ردها على المستأجر وهي أمانة، ومن الطرد إذا غصبها من ذمي على
ما صححه الرافعي والنووي يجب ردها ثم في وجوب مؤونة الرد خلاف؛
لكنهما صححا وجوبها.
__________
1 في "ب" زيادة الرافعي.
(1/329)
قواعد باب الإقرار:
وخص بالتبويب لكثرة قواعده، وفيها ما هو منصوص أصل منصوص؛ قال
الشافعي رضي الله عنه: أصل ما أبني عليه الإقرار أني لا ألزم
إلا اليقين وأطرح الشك ولا أستعمل الغلبة.
وهذه العبارة المنصوصة أجود من كل العبارات الشارحة لها وأوضح،
وأقصى ما ذكروا فيها أن مراده باليقين أعم من الظن الغالب،
وادعى ابن القاص استثناء مسألتين من هذا الأصل، واستثنى غيره
غيرهما، ونحن نورد المستثنيات.
قاعدة: قال صاحب التلخيص: كل سكران يصح إقراره إلا اثنين.
أحدهما: المكره على الشرب.
والثاني: من ظن المسكر غير مسكر.
قال أصحابنا في ما حكاه القفال عنهم ونقله عن صاحب البحر ساكتا
عليه هذا إذا ظن جنس المشروب غير مسكر، أما من عرف أن جنسه
مسكر؛ ولكن ظن أن ذلك القدر لقلته لا يسكر فإقراره صحيح.
قلت: وهذا بعض ما في الرافعي وكتب المتأخرين؛ إذ الذي فيها أن
من لم يعلم أن المشروب من جنس ما يسكر معذور، ومن لم يعلم أن
المشروب من جنس المسكر أعم من أن يظنه غير مسكر، أو يكون ساذج
أقدم على شرب شيء مجهول ولا يلزم من مسامحة من ظنه غير مسكر
مسامحة من لا ظن له البتة.
والذي اعتقده أن إطلاق الرافعي محمول على تقييد ما نقله القفال
عن الأصحاب؛ فلا يسامح إلا من ظن الجنس غير مسكر أما من لا ظن
له أصلا فحقه البحث ولا يسامح.
قاعدة: قال صاحب التلخيص -في باب الإقرار- ما نصه، "وإذا كان
له على رجل في ذمته مال، فأقر به لغيره.
جاز في الحكم إلا في ثلاثة".
- إذا أقرت المرأة بصداق على زوجها.
- وإذا أقر الزوج بما خالع عليه امرأته.
- أو أقر بما وجب له من أرش الجناية عليه في بدنه. انتهى.
(1/330)
والعلة في ذلك أنه يختص بمن وجب له، ولا
يجوز أن يثبت في الابتداء لغيره- بخلاف سائر الديون.
قلت: وكلام صاحب التلخيص -كما رأيت- صريح في أن محله الديون؛
فيقر بدين ثبت له في ذمة الغير؛ إلا في هذه المسائل، وعلى هذا
جرى الجرجاني فقال -في المعاياة بعد ذكر هذه المسائل: "هذا إذا
قلنا لا يصح بيع الدين في الذمة، وأن الحوالة تفتقر إلى رضى
المحال عليه؛ فإن قلنا يصح بيع الدين، وأن الحوالة تصح من غير
رضا؛ فأقر به لغيره في هذه المسائل وعزاه إلى بيع أو حوالة،
وصح [وإذا] 1 أطلق فعلى قولين -بناء على القولين فيمن أقر
للحمل بمال غير منسوب إلى جهة". انتهى.
وما قاله "من تخريج ذلك على الإقرار بالدين -سبقه إليه الإمام
الحرمين، وظن ابن أبي الدم أن الإمام تبع الجرجاني في ذلك،
ويشبه أن يكون الأمر بالعكس؛ فإن الجرجاني -صاحب المعاياة-
متأخر عن الإمام، وما ذكره من الجزم بالصحة فيما إذا أسنده إلى
جهة حوالة أو بيع [صححناه] 2 وحكاية القولين فيما إذا أطلق،
وأنهما مبنيان على الإقرار المطلق للحمل، هو ما نقله الرافعي
عنه، واقتصار الرافعي على نقله عن الجرجاني عجيب؛ فإن الأكثرين
من الأصحاب ذكروه كما ذكر الجرجاني، والجرجاني متبع لهم، منهم
القفال -في شرح التلخيص- وغيره.
نعم: بقيت مسألة مليحة، وهي [ما] 3 إذا لم يطلق ولم يسند إلى
جهة معينة؛ بل قال: صار ذلك إليه وقد صر بها الماوردي، فقال:
"يصح قوله: صار ذلك إليه في الصداق والخلع، ويكون في أرش
الجناية على حالين، وإن كان دراهم ودنانير، صح، وإن كان إبلا،
فلا".
واعلم: أن الراجح -فيما إذا أطلق الإقرار للحمل- الصحة، فيخرج
من ذلك أن ما ذكره صاحب التلخيص لا يجيء إلا على الضعيف؛ فمن
ثم حمل الأئمة ما ذكره -كما قال الرافعي- على ما إذا أقر بها
عقيب ثبوتها، بحيث لا يحتمل جريان ناقل، ثم اعترض الرافعي ذلك.
بأن سائر الديون -أيضا- كذلك فلا ينتظم الاستثناء بل الأعيان
بهذه المثابة؛ حتى لو أعتق عبده ثم أقر له السيد أو غيره -عقيب
الإعتاق- بعين أو دين، لم يصح؛ لأن أهلية الملك لم تثبت له إلا
في الحال. ولم يجر بينهما ما يوجب المال.
__________
1 في "ب" ان.
2 في "ب" ان صححناه.
3 سقط في "ب".
(1/331)
قلت: ولي بحث مع الرافعي، ومع الأكثرين،
ومع الأئمة.
فأقول: قول الرافعي رحمه الله: "سائر الديون كذلك" غير مسلم؛
لأن سائر الديون ممكن ثبوتها ابتداء للمقر له، بخلاف هذه
الثلاثة، وكلام ابن القاص فيما لا يجوز أن يبت في الابتداء لغي
المقر، كذا فهمه القفال وغيره -من الأئمة-[عنه] 1؛ ومن ثم
أقول: جعل الأكثرين في هذه الديون الثلاثة إذا أطلق الإقرار
بها على القولين فيمن أقر للحمل وأطلق، مستدرك من قبل أن لابن
القاص أن يقول لا يلزم من صحة الإقرار المطلق للحمل، صحة
الإقرار المطلق بهذه الديون؛ لأن الحمل يصح أن يثبت له ابتداء
ما أقر به له بميراث ونحوه، وأما هذه الديون فلا يصح ثبوتها
-ابتداء- لغير المقر؛ فقد يقال لا يصح الإقرار المطلق بها لأن
الأصل عدم الناقل، ومجرد الاحتمال لا يصلح دفعا لهذا الأصل،
بخلاف الحمل فإن الاحتمال فيه أقوى لكونه يصح أن يثبت له
ابتداء؛ فلسنا على ثقة من [أن] 2 المقر له ثبت له ذلك، ثم
انتقل عنه بل جاز أن لا يكون ثبت له البتة. يكون الحكم به
للمقر له مستندا إلى احتمال الناقل وحده، ولست أدعي أن الصحيح
عدم صحة الإقرار المطلق بهذه الديون؛ بل أقول: هو أولى بعد
الصحة من الإقرار للحمل -وإن اشتركا في الصحة.
وأقول -أيضا- قد يقول ابن القاص بهذه التفرقة؛ فلا يصح الإقرار
المطلق لهذه الديون كما هو ظاهر كلامه، وإن صححه في الحمل.
وإذا عرفت هذا، عرفت أن حمل الأئمة كلامه على ما إذا أقر بها
عقب ثبوتها؛ بحيث لا يحتمل جريان ناقل، فيه نظر، لأنه -كما
عرفناك- يقول: "وإن طال المدى بعد ثبوتها" فاحتمال الناقل فيها
أضعف منه في الحمل.
فهذا تمام الكلام على قول الرافعي: "سائر الديون كذلك" وأما
قوله: "بل الأعيان بهذه المثابة ... " إلى آخره، فهو -أيضا-
مبني على ما حمل الأئمة كلام ابن القاص [عليه، وقد قلنا: أن
لابن القاص] 3 أن يجري كلامه على إطلاقه؛ فلا يتعين حملهم، ولا
تكون الأعيان بهذه المثابة نعم: قد يقال: كما لنا ديون لا يقر
الإنسان بها لغيره، كذلك لنا أعيان بهذه المثابة، وهذه إلحاق
وزيادة، لا إيراد، وكان -حينئذ- ذكر ما ألحقه الماوردي بهذه
الصور أولى؛ إذ ألحق بهذه الصور الثلاث ما إذا أقر مالك البهمة
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
3 سقط من "ب".
(1/332)
بحلها لغيره قال: ولو قال في هذه الصور:
"صار ذلك إليه" لم يصح أيضا؛ فإن أراد الماوردي الاعتراض عل
ابن القاص؛ فليس بجيد؛ لأن كلامه في الديون لاقى الأعيان، وإن
أراد إلحاق العين بالدين فهي فائدة جديدة -لا تعلق لها بابن
القاص، ثم لك أن تقول: يصح ثبوت الحمل ابتداء للغير كحامل أو
وصي مالكها بحملها لزيد ثم مات، وقبل الموصى له الوصية؛
فالوارث المالك [الحمل] 1 يقر بالحمل لزيد، وهو مالك بهيمة صح
إقراره بحملها لغيره، والحمل لم يثبت له ابتداء.
فإن قلت: هب أنه لم يثبت [له] 2 ابتداء؛ إلا أنه -أيضا- لم
يثبت للمقر له ابتداء، بل للميت الموصي، وتنزيل وارثه منزلته،
أولى من تنزيل الموصي له؛ فإما أن نقدر أنه ثبت للوارث ثم
انتقل عنه، فيتجه كلام الماوردي، وإما أن لا نقدر ذلك؛ فلا يصح
الاعتراض -أيضا- لعدم [صحة] 3 ثبوته للمقر ابتداء.
قلت: نفرض ذلك في رجل أوصى بما ستحمله هذه الجارية فإن الصحيح
صحته فإذا حملت، وأقر به الوارث للموصى له؛ فقد أقر بما يثبت
للمقر له ابتداء؛ فلا يتأتى كلام الماوردي في هذه الصورة، ولا
ينبغي أن نورد على ابن القاص إلا دين -غير هذه الصور الثلاث-
لا يمكن ثبوته ابتداء للمقر.
وقد خطرت لي صورة، وهي الفقراء إذا انحصروا في بلد، ووجبت
الزكاة في مال بعض أهل البلد، وفرعنا على القول بتعليقها
بالذمة؛ فإنهم إذا أقروا بذلك القدر الواجب لمن ليس من أهل
الزكاة؛ فقد أقروا بما لا يصح ثبوته ابتداء للغير؛ فينبغي -على
قول ابن القاص- أن لا يصح، بل قد يقال بذلك على كل الأقوال،
لأن الذمة ليست خلوا -وإن قلنا- بتعلق الشركة أو الرهن.
وصورة ثانية: وهي الحر المؤجر نفسه إذا أقر بما له من الأجرة
في ذمة المستأجر؛ إلا أنه قد يقال: جاز أن يكون المقر له
استأجر نفس هذا الحر قبل أن يستأجره المستأجر الثاني، وأذن له
أن يؤجر نفسه عنه، فأجر نفسه عنه، فالأجرة ثابتة للمستأجر
الأول، والحر واسطة، فلم يمتنع ثبوت المقر به للغير.
فائدة: كثيرا ما يقع أن شخصًا يقر بأنه لا حق له في هذا الوقف،
أو أن زيدا هو المستحق دونه، ويخرج شرط الوقف مكذبا للمقر،
ومقتضيًا لاستحقاقه، فيظن بعض
__________
1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
2 سقط من "ب".
3 سقط من "ب".
(1/333)
الأغبياء أن المقر يؤاخذ بإقراره والصواب
أنه لا يؤاخذ؛ سواء علم شرط الواقف، وكذب في إقراره، [أو] 1 لم
يعلم، فإن ثبوت هذه الحق له لا ينتقل بكذبه [والله أعلم] 2.
قاعدة: قال الشيخ الإمام رحمه الله في شرح المنهاج: "ما لا
يدخل في البيع لا يدخل في الإقرار، وما يدخل في البيع يدخل في
الإقرار إلا الثمار غير المؤبرة فإنها على الصحيح -تدخل في
البيع- ولا تدخل في الإقرار.
قلت: وإلا خاتم فيه فص؛ فإنه يدخل في البيع وفي الإقرار.
ظاهر نص الشافعي -وهو الأصح عند البغوي- لا يدخل الفص.
مسائل أخرى فيها كثيرة:
واعلم أن التعبير عن هذه القاعدة بهذه العبارة هو الصواب، وعبر
بعض الأصحاب بعبارة أخرى مدخولة، وقد بين الوالد -رحمه الله-
ذلك في شرح المنهاج.
وذكر الرافعي -بعدما رأى انتشار المسائل- أن الضابط "أن ما لا
يتبع [في] 3 البيع ولا يتناوله الاسم فهو غير داخل، وما يتبع
ويتناوله فهو داخل وما يتبع ولا يتناوله الاسم فوجهان، وقصد
بهذا القسم الأخير - الثمار غير المؤبرة.
قال الوالد رحمه الله: ولكنه يرد عليه ثياب العبيد؛ فإنها لا
يتناولها الاسم وفي دخولها في البيع خلاف، ولا نعرف أحدًا قال
بدخولها في الإقرار من جهة التبعية، نعم في دخولها فيه خلاف من
جهة اليد قال: ولا جرم أن الإمام قيد الضابط المذكور بأن تكون
العين التي لا يتناولها الاسم متصلة بما يتناوله الاسم، وثياب
العبيد منفصلة عنه.
وأورد ابن الرفعة على الرافعي ما حكى ابن سريج أنه إذا أقر
لرجل بجارية، رحمه الله: "وقد يجاب عن هذا بأنه ليس لأجل
التبعية في الإقرار بل لأن ملك الأم يقتضي ملك الولد حتى يثبت
خلافه ... ".
قاعدة: قال القاضي أبو سعد: ضمني كل إقرار مثل صريحه، واستشهد
بمسألتين:
__________
1 في "ب" أم.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
(1/334)
إحداهما: قال الزوج: أخبرتني الرجعية
بانقضاء عدتها -وهي لم تدع ذلك- فرجعتها، صحت المراجعة، ولأن
الخبر ينقسم إلى صدق وكذب ولم يعين خبرها في جانب الصدق إذا لم
يصدقها في ذلك؛ فصار كما لو صرح بأنها أقرت كاذبة، فإن ادعت
انقضاءها وكذبها وراجعها في تلك الساعة -قبل تحليفها- فإن حلفت
تبين بطلان الرجعة، وإن نكلت وحلف هو، تبين صحة الرجعة على
ظاهر المذهب. انتهى ملخصا.
وفيه كلامان:
أحدهما، أنه لم يتبين لي صحة الاستشهاد منه؛ فإن قوله:
"أخبرتني بقضاء العدة، إذا لم يتضمن التصديق، لا يتضمن
التكذيب؛ وإنما اقتضى التكذيب مراجعته إياها بعد ذلك، ومراجعته
ليست إقرارا، بل هي إنشاء الرجعة.
ولو جعل هذه المسألة مستثناة من القاعدة، لكان متجها، ووجهه أن
اعترافه بإخبارها بانقضاء العدة يتضمن أن لا رجعة له؛ لأنه
اعترف بإقرارها بما جعلها الشارع مؤتمنة عليه، لكنا جعلنا له
الرجعة؛ فلم يعط ضمني الإقرار حكم صريحه.
والثاني: أن حكم المسألة فيه إشكال، ونقلها فيه إشكال، وبيان
إشكال الحكم ما ذكرناه من أن الخبر وإن لم يستلزم الصدق لكن
اعترافه بأنها أخبرت اعتراف بأن لا رجعة له، وليس له عليها غير
اليمين على ما ائتمنها عليه الشارع؛ فكيف نمكنه من الرجعة.
ولعل صورة المسألة: أن تكذبه في أنها أخبرته، أو أن تقول:
أخبرته؛ ولكني كنت كاذبة، والواقع أن عدتي لم تنقض.
وعلى هذا الوجه: نقل المسألة الرافعي في آخر باب الرجعة -فقال
وعن نصه- في الأم لو قال: أخبرتني بانقضاء العدة، ثم راجعها
مكذبا لها؛ فقالت -بعد ذلك- ما كانت عدتي منقضية، وكذبت نفسها،
فالرجعة صحيحة، لأنه لم يقر بانقضاء العدة، وإنما أخبر عنها.
انتهى.
وكشفت عن هذا النص؛ فوجدت -في مبسوط البيهقي- ولو طلق امرأته
ثم قال: أعلمتني بأن عدتها قد انقضت [ثم راجعها، لم يكن هذا
إقرارا بأن عدتها قد
(1/335)
انقضت] 1؛ لأنها قد تكذبه فيما أعلمته،
وتثبت الرجعة إذا قالت المرأة، لم تنقض عدتي، وفي رواية
البويطي وقد قيل ولا رجعة له، لإقراره بانقضاء العدة. انتهى.
وعزاه إلى الجديد، وفيه تأييد لنقل الرافعي، لتقييده ثبوت
الرجعة بما إذا قالت المرأة: "لم تنقض عدتي؛ غير أن لفظه -كما
رأيت- أعلمتني، لا أخبرتني، وما أرى أن مراده بالإعلام إلا
الإخبار، فهما سواء، ولو أراد حقيقة الإعلام -وهو تحصيل العلم
الذي هو الاعتقاد الجازم المطابق- لما أثبت له الرجعة بعد ذلك
بحال لا2 يكون قد صدقها في انقضاء العدة؛ فلا يسمع بعد ذلك
منه- أنها لم تنقض وإن وافقته المرأة.
ويدل عليه نص الشافعي رضي الله عنه عقب- هذا؛ إذ قال البيهقي:
"وقال الشافعي رضي الله عنه في الكتاب" وإن قال: قد انقضت
عدتها، وقالت هي: انقضت، ثم قالت: كذبت، لم يكن له عليها رجعة؛
لأنه أقر بانقضاء عدتها، وكذلك لو صدقها بانقضاء العدة ثم
كذبها، لم يكن له عليها رجعة. انتهى.
ثم قال القاضي أبو سعد:
والمسألة الثانية: مسلم تحته مسلمة وكتابية بالنكاح؛ فقال
للمسلمة: ارتديت وللكتابية أسلمت، وأنكرتا جميعا، بطل نكاحهما،
لزعمه أن الكتابية ارتدت بإنكارها الإسلام، وضمني الإقرار3.
قلت: وصورة المسألة أن يكون ذلك قبل الدخول، وقد نقل الرافعي
الفرع قبيل كتاب الصداق عن فتاوي البغوي، وهو شاهد جيد، وفي
ظني أن الشواهد على هذه القاعدة كثيرة، وينبغي أن يقال ضمني كل
إقرار معتبر مثل صحيحه، وأما الإقرار الذي لم يعتبر فهل يثبت
ما تضمنه، فيه نظر؛ وذلك كما إذا أقر بطلاقها واحدة وارتجعها،
وادعت أنه طلقها ثلاثا، ثم اعترفت بصدقه وكذبت نفسها؛ فقد نص
الشافعي، رضي الله عنه على أنها يحل [بها] 4 الاجتماع معه نقله
ابن الرفعة في المطلب عن الماوردي في آخر باب الرجعة -فإذا مات
هذا الزوج؛ فالأقرب -على ما ذكره الشيخ الإمام الوالد رحمه
الله في فتاويه أنها ترثه، وإن كان قد سبق منها الاعتراف بأنه
أبانها ثلاثا؛ لأن ذلك الاعتراف لم يعتبر، بل ألغاه الشارع.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" لأنه.
3 وفي "ب" وضمني الإقرار لصريحه.
4 في "ب" لها.
(1/336)
بل قال الشيخ الإمام: "فيما لو طلقها طلقة
خلعا، وادعت هي أنها ثالثة -تحتاج إلى محلل- ثم رجعت عن ذلك
وزوجت منه بغير محلل، أن الأقرب ثبوت الزوجية والميراث" ذكره
-أيضا- في الفتاوي.
وكذلك لو كان له على رجل ألف؛ فقال اشتريت منك دارك بتلك الألف
وقبضته وأنكر من عليه وحلف، يجوز له مطالبته بالألف، ولا
مبالاة بما تضمنته دعواه من صدور عقد الشراء والقبض؛ لأن العوض
لم يسلم له، وهو بخلاف ما إذا قالت: اختلعت نفسي منك على صداقي
فخالعتني، وأنكر؛ فلا رجوع لها بالصداق؛ لأن الفرقة التي حصلت
بالخلع لا ترتفع بزعمها -ذكره البغوي في الفتاوى وأطال في
الفرق- وذكر بعده بقليل "أنها إذا قالت: خالعتني على الصداق؛
فأنكر، فالقول قول بيمينه ثم للمرأة مطالبته بالصداق" انتهى.
وكان صورة الأولى أن تقول: التمست منك الخلع على الصداق فأجبت
التماسي، وحصلت لي1 البينونة، والانطلاق من حبالك، فينكر؛ فلا
طلبة لها بالصداق لأنها -فيما تزعم- قد حصلت على غرضها.
وصورة الثانية: أن يقول التمست مني فأجبتك إلى الصداق فتنكر،
فلها صداق، لأنها لم تعترف بحصول القصد من الانطلاق من حبالاته
وفي القاعدة -كيف صورتها- مسائل:
منها: لو قال: عقدنا بشهادة فاسقين فأنكت؛ فلا يقبل قوله
بالنسبة إلى إسقاط المهر ولا خلاف أنه لا يرثها إذا ماتت لأن
قوله عقدنا بفاسقين يتضمن ذلك.
ومنها: ما ذكره أبو سعد الهروي في هذه الكتاب لو قال طلقتها من
سنة قبل قوله بالنسبة إلى الطلاق دون إسقاط النفقة والكسوة،
وكان ينبغي له أن يستشهد على هذه القاعدة بهذا الفرع؛ فإن قوله
طلقها من سنة- إقرار بطلاقها، يتضمن الإقرار بأن لا نفقة ولا
كسوة؛ فهو كصريح قوله: لا نفقة علي ولا كسوة، ثم ذلك لا يقبل
منه لو صرح به؛ فكذلك إذا جاء ضمنيا، وقد نازعناه في حكم هذا
الفرع بحثا في قاعدة- "من كان القول قوله في شيء، كان القول
قوله في صفة ذلك الشيء-" المتقدمة في أوائل البيع،
__________
1 في "ب" زيادة منك.
(1/337)
غير أن قول الأصحاب فيما إذا قال: "عقدنا
بشهادة فاسقين" لا يقبل قوله بالنسبة إلى إسقاط المهر، ليشهد
له، ولذلك مسائل كثيرة.
قاعدة: قال أبو عاصم: "كل قول في عقد إيجاب أو إقرار، إذا عقب1
بالتخصيص من الاستثناء ونحوه صح إلا إذا قال: يا زانية طلقتك
إن شاء الله -[يكمل من الأشراف للهروي ويحرر] 2.
قاعدة: قال الدبيلي3 -في أدب القضاء- إذا أقر بشيء4 صريحا، ثم
أنكر ما صرح به، أو أثبت خلافه بالبينة، لا يقبل، وإن أطلق ثم
ادعى صفة توجب5 بطلان ذلك المطلق -من بيع أو نكاح ونحوه- لم
تقبل دعواه بمجردها ولكن ببينة".
ولك أن تختصر هذه العبارة فتقول: "إذا أقر بالشيء صريحًا، ثم
أنكره لم يقبل -وإن أقام [عليه] 6 بينة -[وإن أقر به مطلقا ثم
ادعى قيدا يبطل الإطلاق، لم يقبل إلا ببينة".
مثاله: أحال بدين، ثم قال: لم تصح الحوالة؛ لأنها كانت عن بيع
فاسد، لم يقبل منه، ولو أقام بينة بذلك، قبلت، وبطلت الحوالة؛
لأنه لم يعترف- أولا: بصحة البيع؛ بل أثبت فساد أصل الحوالة،
فلم يكذب اعترافه ببينة، وفالبينة -في الحوالة- إنما كانت في
اختلاف الصفات، لا في نفي الاصل.
بخلاف ما لو اعترف بصحة الحوالة، ثم ادعى فسادها، لا يقبل- وإن
أقام البينة] 7. ولو طلق امرأته ثلاثا، ثم قال: لم يقع لأن
العقد كان فاسدا، وأقام بينة بالمفسد،
__________
1 في "ب" عقد.
2 سقط في "ب".
3 علي بن أحمد أبو الحسن الدبيلي صاحب أدب القضاء أكثر ابن
الرفعة النقل عنه ويعبر عنه بالزبيلي بفتح الزاي، ثم باء موحدة
مكسورة، قال السبكي: إنه الذي اشتهر على الألسنة قال الأذرعي:
الصواب دبيلي ومن قال الزبيلي فقد صحف. ابن قاضي شهبة 1/ 268،
ابن السبكي 3/ 290، هداية العارفين 1/ 680.
4 في "ب" بالشيء.
5 في "ب" البطلان.
6 سقط في "ب".
7 من قوله وإن أقر به مطلقا إلي وإن أقام البينة سقط في "ب".
(1/338)
فإن كان قد أقر -قبل الطلاق- بصحة النكاح،
لم تسمع دعواه، ولا بينته، وإلا سمعنا؛ لأنه إذا ادعى الزوجية،
فإقامة البينة -بعدم الولي أو غيره- من المفسدات، لا يكذب ما
سبق، بل يثبت، وصفا آخر يلزم منه الفساد، وصار كما لو أقر أن
في ذمته -لفلان- قفيز حنطة سلما ووصفه وذكر محل تسليمه، ثم
قال: كان سلما باطلا؛ لأن الثمن كان دينا في ذمتي، فجعله رأس
مال السلم؛ فإن [كان] 1 ذلك، لا يقبل، لأنه يطلب إبطال عقد
السلم الذي أقر بصحته؛ فلو أقام بينة بذلك، قبلت، لأنها لم
تناقض ما ذكره، بل زادت وصفا.
هذا كلام الدبيلي، وقد زاد الإمام هذه القاعدة بيانا، فقال:
"من أقر صريحا بما جاز استناده إلى يقين ثم رجع، لم يقبل
رجوعه، وكذا إذا لم يتصور استناده إلى يقين إذا كان ابتداء من
غير خصومة، وإن كان في أثناء خصومة؛ ففي مؤاخذته خلاف".
واحترزنا بقولنا: "صريحا" عن بائع يدعي -بعد البيع- أن المبيع
موقوف فالمنصوص سماع دعواه وبينته -وهو المحكي في باب الدعاوي
من الروضة عن حكاية القفال عن العراقيين- وقد نصره الشيخ
الإمام في شرح المنهاج قبيل باب الشركة، وقال: ليس الإقدام على
العقود كالإقرار الصريح؛ لأن الإنسان قد يعقد بأدنى ظن، ولا
يقر إلا بظن قوي2؛ فليس الفعل في رتبة صريح القول.
قال: "وقد رأيت -من الحكام وأكابر الفقهاء- من3 يغلط في ذلك،
ويلزم الناس بمقتضى عقود تقع منهم -مع غلبة الظن وصدقهم وعذرهم
ولم يقم على ذلك دليل من كتاب ولا سنة ولا قياس". انتهى.
قلت: ويؤيده ما قاله الروياني -فيمن باع شيئا، ثم ادعى أنه لم
يكن ملكه: أنه إن لم يقل -عند البيع- هو ملكي؛ بل اقتصر على
البيع سمعت دعواه" وعزاه إلى النص.
قلت: ورأيت الشيخ أبا حامد نقله عن الشافعي رضي الله عنه في
كتاب الغصب فقال: "قال الشافعي رضي الله عنه": إن كان ذكر -حين
البيع- أنه ملكه وجرى ذلك في عرض كلامه، لم تسمع بينته؛ وإلا4
سمعت لأن مجرد البيع ليس تكذيبا لبينته، لأنه قد يبيع ملكه
وملك غيره".
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
4 في "أ" ولا.
(1/339)
وهنا مسائل:
منها: باع عبدا وأحال بثمنه، ثم اتفق المتبايعان والمحتال في1
حريته أو ثبتت بيينة:
قال البغوي والروياني: "لا يتصور أن يقيم المتبايعان البينة؛
لأنهما كذباها بعقد البيع". واعتمده النووي في باب الحوالة من
الروضة وهو يخالف ما ذكره في الدعاوى.
ومنها: اثنان على كل منهما خمسة، ضمن كل منهما الآخر، ثم أدى
أحدهما خمسة، واختلف هو ورب الدين -هل هي عن الضمان أو الأصالة
فالقول قول المؤدي، ثم قيل، لا يطالبه بالضمان؛ لأنه يناقض
قوله الأول، والأصح يطالبه، ثم له توجيهان.
أحدهما: أن صاحب الدين يقول: بتقدير الصدق عليك خمسة الأصالة،
وبتقدير عدمه خمسة الضمان، فالخمسة ثابتة على التقديرين.
والثاني: أنه بنى على خيال انكشف له؛ فلا يبطل حقه كما لو ادعى
أن ما اشتراه مغصوب؛ فقال: هو ملكي وملك من اشتريت منه، فأقيمت
البينة؛ فإنه يرجع على البائع بالثمن على الأصح -إن كان قد
اعترف له بملكه -لكونه بناه على ظاهر، وصح -بالبينة- خلافه.
ومنها: مسألة الغصب هذه.
ومنها: ادعى على زيد، وعلى غائب ألفا من ثمن مبيع مقبوض ونحوه،
وأن كلا منهما ضمن ما على الآخر وأقام بينة، وأخذ الألف من
زيد. نص أنه يرجع على الغائب بنصف الألف، قال الجمهور: "هذا
إذا لم يكن من زيد تكذيب البينة، وإلا فلا يرجع" وهذا هو
الأصل، وقال وقال ابن خيران: "يرجع" وقال الإمام: "إن دام على
الإنكار فلا".
ومنها: إذا ادعى الضامن الأداء ولم يقم بينة، وحلف رب المال
أنه لم يؤد، بقيت مطالبته بحالها؛ فإن أخذ، فقيل: لا يرجع،
والأصح أنه يرجع، وهل يرجع بالمغروم أولا: لأنه مظلوم بالثاني،
أو بالثاني؛ لأنه المسقط للمطالبة؟ وجهان، قال النووي ينبغي أن
يرجع بأولهما.
__________
1 في "ب" على.
(1/340)
ومنها: إذا قال: لا بينة لي حاضرة ولا
غائبة، أو كل بينة أقمتها فهي زور، ثم جاء ببينة، سمعت في
الأصح.
ومنها: إذا قال الضامن للمضمون له أبرأت الأصيل فحلف وغرم
الضامن؛ فله مطالبة الأصيل، في الأصح وكذا لو قال: كنت أبرأته
قبل ضماني ويجري الوجهان في كل دعوى محتملة يناقضها عقد سابق.
ومنها: غصب1 العين المستأجرة، ثم أقر بها المكري للغاصب من
المستأجر الآخر؛ ففي قبول إقراره في الرقبة قولان، فإن قبلنا؛
ففي بطلان حق مستأجر أوجه، يفرق -في الثالث- بين كون المال في
يد المكري أو المقر له، ولا ينزع من هو في يده، والأظهر- من
الخلاف أنه يقبل إقراره في الرقبة دون المنفعة.
ومنها: قال البغوي في الفتاوى: "لو قالت أنا موطوءة أبيك لم
يقبل قولها -إن كان بعد التمكين أو زوجت منه بإذنها- فلو
خالعها ثم أراد نكاحها لم يجز، لأن نكاحها يكون بإذنها، ولا
يجوز لها أن تأذن بعد الإقرار -بأنها موطوءة الأب. انتهى. وهي
مسألة حسنة.
ومنها: قال: لا حق لي على فلان، ثم أقام بينة بحق؛ ففي قبولها
وجهان- حكاهما شريح الروياني في أدب القضاء عن جده.
ومنها: قال لا حق لي في هذا العبد، ثم أقام بينة على الشراء
قال العبادي: "لا يقبل حتى يقول: إنه اشتراه منه بعد الإقرار"،
وقال شريح -في أدب القضاء: "وعندي أنها تقبل إذا كان بعد
احتمال تلقي الملك منه".
ومنها: إذا اعترف بعد الدافع، ثم جاء بدافع، يسمع.
ومنها: إذا قال: اشتريته بمائة، ثم قال: بل بمائة وعشرة، ولم
يبين -للغلط- وجها محتملا، والمسألة مشهورة.
ومنها: إذا طلق امرأته ثانية؛ فقالت: هي ثالثة، فكذبها، أو
كذبت هي نفسها وزوجت منه بغير محلل، ثم مات عنها وطلبت ميراثها
منه؛ فبين ابن الرفعة والشيخ الإمام نزاع طويل في المسألة
مذكور في فتاوى الشيخ الإمام، وفيها نص الشافعي رضي الله عنه،
قال الشيخ الإمام: والأقرب ثبوت الزوجية والميراث.
__________
1 في "ب" غصبت.
(1/341)
ومنها: وهو ما تعم به البلوى- يعترف بأنه
لا حق له في هذا الوقف ثم يتبين -بعد تأمل شرائط الوقف أو
غيره- أنه مستحق؛ فلا شك عندي في أنه لا يؤاخذ باعترافه
السابق، ويشهد له ما تقدم من الفروع؛ بل هو أوضح منها فإن
الشروط ومدلول ألفاظ الواقفين تخفي كثيرا على العلماء؛ فضلا عن
غيرهم وهو كمن يعترف ببنوة شخص -مع احتمال السن- فإن تكذيب
الحس والشرع سواء في دفع الإقرار، وجعله لغوا.
ومنها: لو ادعى على شخص أنه منفرد بالقتل ثم على آخر أنه شريك
فيه أو منفرد به، لم تسمع الدعوى الثانية، غير أن الثاني لو
صدقه في دعواه؛ فالأصح يؤاخذ به، لأن الحق لا يعدوهما.
ومنها: لو ادعى القتل على رجل، وأقسم عليه، وأخذ المال؛ فجاء
آخر وقال: إن المأخوذ منه المال مظلوم؛ فإني أنا القاتل، فإن
لم يصدقه الوارث لم يقبل، وإن صدقه فعليه رد ما أخذ، وهل
الدعوى على الثاني؟ لا، ربما بني الدعوى الأولى على ظن حصل له
زال عنه بإقرار الثاني، وتجدد له يقين أو ظن -أقوى من الأول-
أن الثاني هو القاتل، أو ليس له الدعوى عليه لأن الدعوى على
الأول اعترف ببراءة غيره؟ في المسألة قولان.
ومنها: إذا تزوجت ثم ادعت [أن] 1 بينها وبين الزوج محرمية، فإن
تزوجت برضاها، لم يقبل، لتضمن إذنها حلها، لكن إن ذكرت عذرا
لغلط أو نسيان سمعت دعواها على المذهب.
ومنها: أنكر الوديعة فقامت عليه بينة بها فقال: أودعني ولكن
تلفت أو رددتها؛ فأظهر الوجهين سماع بينته على تلفها.
قال الرافعي: "وينبغي أن نفرق بين أن نبين للغلط وجها محتملا
أو لا - كما قيل في ألفاظ المرابحة" قال ابن الرفعة: "والفرق
من وجهين، أحدهما أن ما ادعاه المودع ثانيا- وإن خالف قوله
أولا: ما أودعتني، فرب المال يوافقه، والحق لا يعدوهما؛ فإذا
صدقه، سلمت البينة من تكذيب؛ فعمل بموجب قولها في الرد والتلف،
ولا كذلك في مسألة المرابحة؛ فإن القول الثاني المخالف للقول
الأول لم يصدقه الخصم عليه، لو صدقه عليه لألزم بموجبه من غير
بينة.
__________
1 سقط من "أ" والمثبت في "ب".
(1/342)
والثاني: أن المقر به في المرابحة إثبات
بينة إلى محسوس، بقوى المرتب عليه لبعد خلافه، وما ذكره في
مسألة الوديعة نفي محض- يجوز أن يكون مستندا إلى العدم الأصلي
وتكون البينة حاصلة، ويجوز خلافه فضعف المرتب عليه فلم يؤثر".
ومنها: لو تزوج امرأة ثم اعترف الزوج بفسق الشاهدين، وأنكرت
المرأة فرق بينهما، وهل الفرقة طلاق أو فسخ، فيه وجهان.
قال ابن الرفعة: "وينبغي -إذا كان بعد الدخول- أن لا يقبل قوله
كما قلنا فيما إذا ادعت المرأة أن بينهما رضاعا محرما بعد
التزويج، وكانت مجبرة؛ بل مقتضى قولهم، أنها إذا كانت قد تزوجت
بإذنها أن لا يقبل قولها في التحريم بالرضاع ونحوه أن لا يقبل
قول الزوج في ذلك إذا كان قد قبل نكاحها بنفسه.
قلت: وفيه نظر؛ فإن النكاح حق الزوج، فقيل قوله في إسقاطه، وإن
تبع إسقاطه كون ذلك فسخا -على وجه، وفارق المرأة لا يقبل.
منها: إذا تقدم منها ما يقتضي الاعتراف؛ لأنه حق الزوج عليها
وقد اعترفت به فلا يقبل منها ما يقتضي سقوطه.
ومنها: قال القفال في فتاويه: "إذا رأينا ضيعة في يد رجل يدعي
أنها وقف عليه، ولا تصير وقفا، ونقرها في يده، لحق اليد لا
لقوله: هذا وقف؛ لأنها لا تصير وقفا بذلك؛ لأن الإنسان لا يقدر
أن يقف على نفسه، فلو أراد بيعها فله ذلك، بخلاف ما لو قال
وقفها علي فلان فإنه لا يجوز له بيعها.
قلت: وما ذكره من جواز البيع مشكل، ثم فيه تأييد لفتوى ابن
الصلاح فيمن أقر بملك في يده أنه وقف عليه ثم على جهات أنه لا
يثبت الوقف بذلك لكن لا يلزم من عدم الثبوت عدم المؤاخذة
بالإقرار؛ فهذا مشكل، والذي ينبغي أن يؤاخذ بمقتضى اعترافه
توقيفها، نعم له فيما بينه وبين الله تعالى -إذا كان يعرف كذب
نفسه- أن يقدم على بيعها.
وأما مسألة الوديعة؛ فقد يقال: لا يمنع من الإقدام على ما
اعترف بأنه وديعة، لإمكان إذن له من المودع، والقول قول متعاطي
العقود كما رأينا عينا في يد شخص يعترف أنها لغيره، ويدعي أنه
وكيل في بيعها؛ فإنه يجوز شراؤها منه -وإن لم تثبت وكالته-
فالأمر في مسألة الوديعة يمكن أن تكون على ما قال القفال،
بخلاف مسألة الوقف؛ فإن قوله فيها لا يظهر.
(1/343)
تنبيه: قد يعبر عن هذه القاعدة بغير هذه
العبارة؛ فيقال: من ذكر لفظا ظاهرًا في الدلالة على شيء ثم
تأوله، لم يقبل تأويله في الظاهر.
وهذه عبارة شيخ الإسلام -عز الدين بن عبد السلام- رحمه الله
تعالى وقال: إنه يستثنى منها صور يكون أقراره فيها مثبتا.
أصل: ذكره القاضي أبو عاصم "من باشر عقدا أو باشره عنه من له
ذلك، ثم ادعى ما ينقضه، لم يقبل" كما باع عبدا من إنسان، ثم
قال: لم يكن ملكي أو طلق امرأة ثلاثا بمشهد الحاكم، ثم أراد
بتزوجها بولاية الحاكم فامتنع الحاكم، لإيقاعه الثلاث بين يديه
فقال: المطلق، لم يكن الطلاق وقفا: لأنها لم تكن زوجتي؛ لأنه
أراد إلغاء عقد وقع بإنشائه- وهو عند التطليق.
قلت: أما من باع عبدا ثم قال: لم يكن ملكي -فهي مسألة التي
قدمناها فيمن باع شيئا، ثم قال: لم يكن ملكي عن الروياني، وهذه
القاعدة نظير القاعدة المتقدمة عن الدبيلي، وقد أطلنا القول
فيها؛ غير أن تلك فيمن أقر لفظا، وهذه فيمن أقر فعلا.
وقد قال القاضي أبو عاصم: إن هذه تطرد في جميع المسائل إلا في
مسألتين:
إحداهما: رهن عبدا ثم ادعى أنه باعه قبل الرهن، أو أعتقه أو
رقفه أو لم يكن مملوكا لي؛ بل كنت غصبته من زيد، ففيه قولان:
أحدهما: لا يقبل لمناقضته؛ فصار كما إذا باع عبدا ثم قال: كنت
أعتقته أو وقفته.
والثاني: لا يقبل، لأن الإقرار لا في ملكه؛ بخلاف البيع قال:
"وإذا أجر عبدا ثم ادعى فساد الإجارة بهذه المعاني؛ فهو أيضا-
على القولين، وعلى أن القول قول المالك فهل عليه يمين؟ فيه
قولان"....
قال: "والمسألة الثانية: باع القاضي على الغائب عبده في دينه،
ثم حضر الغائب، وقال: كنت أعتقته قبل ذلك، ففي قبول قوله
قولان.
أحدهما: لا؛ لأن العقد صدر من نائبه؛ فصار كما لو باع وكيله ثم
قال: كنت أعتقته قبل البيع.
والثاني: يقبل، لأن نيابة الوكيل -عنه- اختيارية، ونيابة
القاضي شرعية.
قاعدة: في مسائل التقديم والتأخير، وهل النظر إلى أول الكلام
أو إلى آخره".
منها: إذا قال: أعتقت هذا العبد عن كفارتي بألف عليك، لم يجزئه
ولا فرق بين أن يقدم في الجواب ذكر الكفارة، بأن يقول: أعتقت
هذا العبد عن كفارتي بألف عليك
(1/344)
أو يقدم ذكر العوض؛ فيقول: أعتقته على أن
لي عليك ألفا عن كفارتي.
وعن أبي إسحاق وجه: "إنه إذا قدم ذكر الكفارة أجزأه وسقط
العوض" قال الرافعي -وقرب هذا الوجه في التتمة بما قيل: "إنه
لو سمع المتيمم إنسانا يقول: عندي ماء أودعنيه فلان، بطل
تيممه، ولو قال: أودعني فلان ماء لا يبطل".
قلت: كذا حكاه الرافعي في كتاب الظهار ولم يذكره في باب
التيمم، ويمكن الفرق بين المسألتين بأنه في التيمم إذا سمع
عندي ماء توهمه، والتيمم يبطل بمجرد توهم الماء.
ومنها: مسألة التيمم هذه.
ومنها: إذا قال: أزيد أن أقر بما ليس علي لفلان على ألف. أو
قال ما طلقت امرأتي وأريد أن أقر بطلانها قد طلقت امرأتي
ثلاثًا؛ قال الشيخ أبو عاصم "لا يصح إقراره، ولا شيء عليه"،
وقال صاحب التتمة: "الصحيح أنه تلزمه كقوله: له علي ألف لا
تلزمني".
ومنها: لو قال: له علي ألف من ثمن خمر لزمه الألف -في الأظهر،
ولو قدم الخمر فقال: من ثمن خمر له علي ألف، لم يلزمه شيء
قطعا، كذا في الرافعي والروضة.
ومنها: إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فعلى ألف، لم يلزمه شيء
قطعا.
وإن قدم المقر به؛ فقال: علي ألف إذا جاء رأس الشهر؛ فالمذهب
أنه كذلك.
ومنها: لو قال: علي ألف مؤجل، قبل على المذهب، وقيل: يلغي
التأجيل. وهذا إذا كان موصولا؛ فإن ذكر الأجل مفصولا، لم يقبل
قطعا.
ومنها: لو قال: له علي ألف لا تلزمني؛ فهو إقرار.
ومنها: لو قال: أنت طالق الطلقة الرابعة؛ ففي وقوع الطلاق
وجهان حكاهما الرافعي في فروع الطلاق.
ومنها: لو قال: هذا العبد لفلان، ثم ادعى أنه اشتراه منه، لم
يصح للمضادة -وعن ابن سريج أنه يسمع، ولو قال: هذا العبد لفلان
وقد اشتريته منه -متصلا- كان مسموعا؛ لأن العادة جرت أنه يراد
به- كان لفلان، ذكر ذلك شريح في أدب القضاء.
ومنها: إذا قال: كل امرأة لي طالق غيرك، قال الشيخ الإمام رحمه
الله في باب
(1/345)
الإقرار من شرح المنهاج: "لا تقل فيها
والذي استقر رأيي عليه أنه إن قدم غيرًا فقال: كل امرأة لي
غيرك طالق، لم تطلق، وإن أخر قال: كل امرأة لي طالق غيرك -ولا
امرأة له غيرها- طلقت، وهكذا أقول في إلا" انتهى.
ونقل -أعني الشيخ الإمام- في فتاويه عن القاضي الحسين أنه قال
في فتاويه غير المشهورة، في كل امرأة لي غيرك طالق، ولا امرأة
له غيرها -أن هذا- على سبيل الشرط لم يقع؛ لأنه استثناء منها،
فيصير كأنه قال: أنت طالق، إلا أنت ثم قال: "قلت -أنا- كيف
ينبغي أن لا يقع".
قلت: ونقل الرافعي عن فتاوي القفال أنه لو قال: كل امرأة لي
طالق إلا عمرة، ولا امرأة له غيرها، طلقت، لأنه مستغرق.
وهذا يؤيد الشيخ الإمام، وليست هذه المسألة مسألة منهاج النووي
وغيره من المختصرات، وهي: ما إذا خاصمته زوجته فقالت: تزوجت؛
فقال كل امرأة لي طالق، وقال: أردت غير المخاصمة -حيث يقبل ذلك
منه لأنه لم يدخل امرأته في هذا الكلام حتى يقال: إنه بإخراجها
-بعد إدخالها- صار الاستثناء مستغرقا، بل أطلق لفظا مريدا به
من لا يقع عليه، وساعدته قرينة الحال فصدق.
ومنها: قال: يا زانية، أنت طالق ثلاثا، كان له أن يلاعن، وإن
قال أنت طالق ثلاثا يا زانية، لم يكن له لعان، وفرق الجرجاني
وغيره بأنه في الأولى قذف زوجته، وفي الثانية قذف أجنبية.
ومنها: لو قال أحد الاثنين: مات أبي كافرا؛ لأنه كان يشرب
الخمر ويأكل لحم الخنزير.
قال الرافعي في باب الردة: فقد حكى -في التهذيب- فيه قولين
أحدهما: لا يورث منه، لإقراره بكفره، والثاني: يورث لأنه فسره
بما يبين خطأ اعتقاده وهذا أظهر.
قلت: وترجيح التوريث مشكل؛ فإن الأصح، في ألف من ثمن خمر- لزوم
الألف، ومؤاخذته -هنا- أولى؛ لأن بعض الناس قد يعتقد الخمر
ثمنا ولا يعتقد أحد أن شرب الخمر وأكل الخنزير يوجب الكفر إلا
أن يكون قريب عهد الإسلام.
ومنها: لو قال لغريمه: أحللتك من مالي، وأبرأتك منه في الدنيا
دون الآخرة.
قال الحناطي -في فتاويه: "يبرأ في الدارين" قال: "والساقط في
حكم الدنيا، لا
(1/346)
بقاء له في الآخرة" قال: ولا يرد الإبراء
بهذا الشرط؛ لأن السقوط في العقبى يتبع السقوط في الدنيا.
قلت: ولا يبعد أن يقول قائل: إن هذا القيد يبطل الإبراء إلى
آخر الكلام.
ومنها: لو خالع بمائة على أن له الرجعة فرجعي بلا مال. وقيل
بائن بمهر المثل: ويشبه أن يخرج وجه أنه يلغو، أو لا يقع شيء
من القول في "له علي ألف من ثمن خمر"؛ فإن شرط الرجعة في الخلع
فاسد للمضادة فيفسد، كما قلنا إن شرط الخيار في النكاح يبطله،
ونحوه ...
قاعدة: "من أنكر حقا لغيره ثم أقربه قبل" إلا في مسائل:
منها: إذا أنكرت المرأة الزوجية، ثم أقرب فلا يقبل في الأصح.
قاعدة: "من ملك الإنشاء ملك الإقرار، ومن لا، فلا".
قاعدتان: ذكرهما الأصحاب -في باب القراض- عن أبي العباس بن
سريج رحمه الله تعالى.
القاعدة الأولى: "كل لفظة كانت خالصة لعقد، حمل إطلاقها عليه؛
فإن وصل بها ما ينافي مقتضاه، بطل".
فمن هذه القاعدة: إذا قال قارضتك على أن الربح كله لك فالصحيح
أنه قراض فاسد؛ لأنها لفظة خالصة لعقد القراض الذي مقتضاه
الاشتراك في الربح؛ فإذا وصل بها قوله: على الربح كله لك -فسد
لمنافاة ذلك لمقتضاه، وقيل: قراض صحيح نظرأ إلى المعنى.
ومنها: إذا قال: أبضعتك على أن الربح كله لك، ففيه الوجهان،
لأن معنى الأبضاع أن يكون الربح كله للمالك، ولا حق للعامل
فيه، بل هو وكيل متبرع فقوله في هذه الصيغة: على أن الربح كله
لك- زيادة تنافي معنى الأبضاع.
ومنها: إذا قال: بعتك بلا ثمن، وكذا إذا قال: أسلمت إليك هذا
الدرهم في هذا الثوب ونظائرهما من مسائل اللفظ والمعنى. لك
-هنا- أن تبحث فتقول: لا نسلم أن نحو -بعتك بلا ثمن- من هذا
القبيل؛ فإن بعتك ليس -بمجرد- خالصا للعقد؛ إذ ذكر الثمن ركن
في البيع، والمعنى باللفظة الخالصة، ما تعمل عملها لولا انضمام
ما انضم إليها.
ويمكن الجواب عن هذا، بأن يقال: ليس هذا هو المراد بالخلوص، بل
المراد
(1/347)
أن تكون اللفظة يفهم منها عقد خاص، وأن
يوقف وجود أثره على أمر وراءها وهب يفهم منها البيع، وتوقف
حصوله على ذكر الثمن لا يمنع من هذا الفهم، كما أن حصوله متوقف
-أيضا- على القبول وأشياء آخر.
وإذا تأملت هذا البحث الذي حركته لك -سؤالا وجوابا- ترددت في
أن القول بالبطلان في قوله: بعتك بلا ثمن -هل منشاه تجرد
اللفظة عن ذكر الثمن، أو نفي الثمن عنها؟ فيحتمل أن يقال
بالأول، والأقرب الثاني، ويشهد له أن التعليل بالوصف الوجودي
أولى من العدمي، وذكر نفي الثمن وجودي، والتجرد عن إثباته
عدمي.
وأن من قال بالصحة، وجعلها هبة -نظرا إلى المعنى- إنما أخذ ذلك
من قوله: بلا ثمن- لا من التجرد؛ فدل على أن النزاع في أنها
بيع فاسد أو هبة ناشيء عن نفي الثمن لا عن التجرد؛ فدل أن
-بعتك- يفهم منها البيع لولا انضمام عدم الثمن؛ فكانت من قبيل
القاعدة.
فإن قلت: لا فرق بين بعتك بلا ثمن وقارضتك على أن الربح لك؛
فإن تجرد "قارضتك" عن ذكر الربح كتجرد "بعتك" عن ذكر الثمن.
قلت: ليس كذلك، بل تجرد "بعتك" لا صحة للبيع معه؛ إذ "البيع
بلا ثمن" غير معقول، ولا يعرف الثمن إلا بذكره، فما لم يذكر لم
يكن، بخلاف القراض، فإنه -وإن أطلق- يمكن أن يقال: أن له مرادا
-وهو جعل الربح نصفين- كما هو أحد الوجهين فيما إذا قال: هذه
الدار لزيد وعمرو حيث يجعلها بينهما نصفين، ولذلك لا يختلف
الأصحاب في بطلان البيع المجرد عن الثمن واختلفوا في القراض.
القاعدة الثانية:
قال أبو العباس رضي الله عنه: كل لفظة وضعت لعقدين فأكثر، لم
ينصرف إطلاقها إلى شيء؛ فإن عقبها ببعض ما يصلح1 لتلك العقود
أخلصها له.
واستشكل الشيخ الإمام -رحمه الله-[قوله] 2 "وضعت لعقدين"،
وقال: إن أراد الاشتراك اللفظي لم تطابق المسألة التي ذكر فيها
هذه القاعدة وهي قول رب المال للعامل: تصرف والربح كله لك؛
فإنه تصرف متواطئ لا مشترك -وإن حمل على أنه
__________
1 في "ب" لتلاف.
2 سقط من "ب".
(1/348)
بالتواطؤ أشكل قوله: لم ينصرف إطلاقها إلى
شيء؛ إلا أن يحمل على شيء بعينه، فيصح.
قلت: إنما أراد التواطؤ، ومعناه- أنه لا يتعين له واحد من
محامله وفي القاعدة مسائل:
منها: المسألة التي ذكر فيها أبو العباس هذه القاعدة، وهي إذا
قال: تصرف والربح كله لك؛ فهو قرض؛ لأنه تصرف محتمل، وقد وصله
ببعض ما يصلح للقرض، فيخلص له.
ومنها: إذا قال: تصرف بالبيع والشراء وجهان حكاهما صاحب البحر
في أنه إبضاع أو قراض فاسد.
وتنازع الشيخ الإمام وشيخه ابن الرفعة؛ فقال الشيخ الإمام:
"أرجحهما" الأول، وقال ابن الرفعة مقتضى القاعدة أن لا ينصرف
إلى شيء معين1 قال الشيخ الإمام "إنما لا ينصرف إلى شيء معين،
أما المعنى المشترك بينهما فمحقق.
قاعدة:
ذكر الشيخ أبو علي رحمه الله أن من الأصول المطردة في المسائل
"كل ما ضمن كله بالقيمة، ضمن بعضه ببعضها" إلا في مسألة واحدة،
وهي: إذا عجل زكاة ماله ثم تلف ماله قبل الحول، وكان ما عجل
تالفا، يغرم المسكين قيمته، وإن كان معينا ففي الأرش وجهان.
وحكى الرافعي في هذا الباب التحالف، عن الشيخ أبي علي عند ذكره
أن البيع إذا كان بعد التحالف قائما ولكن معيبا، يرد مع الأرش
وهو قدر الناقص من القيمة؛ لأن الكل مضمون على البائع بالثمن؛
فكذلك البعض وقال: هذه المسألة قدمناها في موضعها وميل الشيخ
[الإمام] 2 إلى اطراد الأصل فيها".
قلت: ولكن الصحيح خلافه، وقد ضم إليها الشيخ الإمام مسألة أخرى
ذكرها في باب التحالف -من شرح المهذب- وهي: المستعار إذا تلف
كله في يد المستعير في غير الوجه المأذون -ضمنه على المشهور،
وكذا إذا تلف جزؤه على الأصح؛ فعلى الأوجه الأول. تستثنى هذه
المسألة.
__________
1 سقط من "ب".
2 سقط من "ب".
(1/349)
قلت: ومسألة ثالثة -إذا اطلع على عيب
المبيع فرده، وقد تلف الثمن في يد البائع والثمن متقوم، ضمنه
بقيمته وإن لم يتلف ولكن نقصت صفته -كالشكك المشكك ونحوه-
فالأصح لا غرم وفي هذه الصورة يتعين الرجوع بالناقص من غير أرش
ولا يمكن المالك من طلب البدل.
ومن ثم مسائل أخر -يضمن فيها الكل بالقيمة ولا يضمن البعض
ببعضها؛ ولكن لا يتعين فيها أخذ الناقص؛ بل يتخير بينه وبين
البدل -وقد عدها الشيخ الإمام في كتاب الزكاة من شرح المنهاج،
شيخه ابن الرفعة في التحالف وقالا -جميعا- ما حاصله: أنها لا
ترد لوقوع التخيير فيها وقصرا القاعدة على ما يتعين الرجوع فيه
إلى الناقص؛ ولكن كلام الإمام في النهاية يقتضي تعميم القاعدة؛
فمن تلك المسائل:
الصداق إذا تعيب في يد الزوجة، ثم طلق قبل الدخول، ل يلزمها
الأرش؛ بل الزوج مخير بين الرجوع في الشطر ناقصا أو الانتقال
إلى البدل.
ومنها: اللقطة إذا حضر مالكها وقد تعييت، تخير -على أحد
الوجهين- بين أن يقنع [بها] 1 ولا أرش، وأن يأخذ بدلها.
ومنها: إذا رد المبيع وقد تعيب في يد البائع كذلك.
ومنها: إذا جرى التحالف، وقد تعيب المبيع، فتشبث الشيخ أبو علي
بخلاف في التخيير بين البدل وبين أن يقع به بلا أرش.
ومنها: القرض إذا تعيب في يد المقرض، وقال الماوردي: إن كان
الواجب المثل تخير المقرض بينه وبين مثله سليما ولا أرش، وإن
كان الواجب القيمة رجع فيه بالأرش.
هذا ما استثناه ابن الرفعة، ودفع الشيخ [الإمام] 2 هذه الصورة
بأن القاعدة في المتقومات لا المثليات -فلا تورد صورة المثلي
في القرض، وأما المتقوم فهي جارية على الأصل.
قال الشيخ الإمام: "ومنها: غريم المفلس إذا وجد العين ناقصة
نقصانا غير مضمون؛ فإن شاء رجع فيها بلا أرش، وإن شاء ضارب.
هذا منتهى الكلام على طرد هذه القاعدة.
__________
1 في "ب" به.
2 سقط في "ب".
(1/350)
قال الإمام: "وهي منعكسة أيضا؛ فإن المبيع
إذا غاب في يد البائع لا يلزم البائع للمشتري أرش العيب؛ لأن
المبيع لو تلف في يده لم تلزمه قيمته، بل الحكم الانفساح" "قال
ابن الرفعة" والعكس لا يخرج منه شيء يعلمه الآن، نعم: المشتري
من الغاصب إذا تلفت العين في يده وغرم قيمتها لا يرجع بها على
الغاصب ولو تعييت في يده وغرم الأرش يرجع بها على الغاصب على
قول، ومع هذا يصح أن يقال: يد ضامنه يستقر عليها ضمان الكل،
ولا يستقر عليها ضمان البعض "قال الشيخ الإمام رحمه الله
[يعني] 1.
قلت: ثم مسألة أحسن من هذه تخرج من العكس، وهي وطء الراهن
الجارية المرهونة إذا أحبلها ونقص قيمتها بالولادة يلزمه
الأرش، وفي وجوب قيمتها -إذا ماتت في الولادة- وجهان: والكلام
حيث ينفذ الاستيلاد.
ضابط: يضبط العين التي يرد عليها عقد الإجارة "كل عين ينتفع
بها مع بقاء عينها منفعة مباحة مملوكة معلومة مقصودة تضمن
بالبدل، وتباح بالإباحة فإيراد عقد الإجارة عليها جائز قطعا،
ومتى انتفى بعض هذه الأمور؛ فقد يبطل قطعا وقد يجيء خلاف".
واحترزنا بقولنا -يضمن بالبدل- عن الكلب وجلد الميتة، وبقولنا:
تباح بالإباحة- عن منفعة البضع، وبقولنا: مملوكة عن منفعة
الكلب؛ فإنها مباحة -غير مملوكة- على ما قاله الشيخ أبو حامد،
وشبهه بالمستعار، وفي وجه آخر -أن منفعته مملوكة حكاه
الماوردي، وخرج عليها جواز إجارته للصيد. وقد نظمت شرائط
المنفعة في الإجارة في قولي:
شرط المنافع في الإجارة أن تكو ... ن مباحة معلومة في الحال
ذا قيمة يتمكن استيفاؤها ... بالعقد واقعة لباذل مال
مقصودة التسليم لا تتضمن اسـ ... ـتهلاك عين مقصدا بمقال
وقبل شرح هذه الأبيات نقول: قال الجرجاني: منفعة الكلب مباحة
غير مملوكة، ومنفعة [التزين] 2 بالدراهم مملوكة غير مقصودة،
ومنفعة الثوب ونحوه مملوكة مقصودة والثلاثة مباحة، ومنفعة
الغناء والزمر وحمل الخمر -لا للإراقة- محرمة في الأصح في
المسألتين، ثم نقول في شرح الأبيات....
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
(1/351)
قاعدة: "الحر لا يدخل تحت اليد"1.
صرح به الأصحاب في مواضع كثيرة، ولم أجد في كلام الأصحاب ولا
في الشريعة دليلا عليه، والغزالي [رحمه الله] 2 لما حكى في باب
الغصب -الوجهين في أن منفعة بدل الحر هل يضمن بالفوات كما يضمن
بالتفويت؟ قال في "الوجيز" وهو تردد في ثبوت يد غيره عليه حتى
ينبني عليه جواز إجارة الحر -عند استئجاره- إن قلنا تثبت اليد،
وأنه بتسليم نفسه [إليه] 3 هل تتقرر أجرته.
واعترضه الرافعي "بأن من قال: تضمن بالفوات وجهه بأن منافعه
تضمن بالعقد الفاسد، فأشبهت منافع الأموال "قال" ويحكي هذا
-يعني القول بأنها تضمن عن [ابن] 4 أبي هريرة، وأن من قال: لا
تضمن وهو الصحيح ووجهه بأن الحر لا يدخل تحت اليد فمنافعه تفوت
تحت يده بخلاف الأموال، من قال: ليس لمستأجره أن يؤجره ولا
تقرر أجرته بالتسليم -وهو القفال-[ووجهه] 5 بأن منافعه لا تدخل
تحت اليد، ولا تدخل منافعه في يد المستأجر وضمانه إلا عند
وجودها قال: هكذا أورد النقلة توجيه الخلاف في المسائل الثلاث
ولم [يجعلوا] 6 دخول الحر تحت اليد مختلفا فيه؛ ولكن القائلين
بجواز إجارة المستأجر وتقرير الأجرة، كأنهم بنوا الأمر على
الحاجة والمصلحة، والغزالي جعله مختلفا فيه، وبنى الخلاف في
المسائل على التردد في دخوله تحت اليد ولم أعثر على ذلك لغيره"
انتهى ملخصًا.
وقد يؤيده أنه لو كان مبينًا [على] 7 ما ذكر الغزالي لكان
الأكثر، على أن مستأجره لا يؤجره، وإن أجرته لا تتقرر؛ لأن
الأكثر على أنه لا يدخل تحت اليد أو الكل، لكن الأكثر على أن
له أن يؤجره، وأن أجرته تتقرر كما نقل الرافعي فيهما.
واعلم أن الشيخين الكبيرين -ابن الرفعة والوالد- رحمهما الله
جريا على كلام الرافعي ولم ينازعاه، زاد الشيخ الإمام الوالد
بعدما ذكر جزم الأصحاب هنا بأن أحد المتداعيين زوجية امرأة، لا
يدعي على صاحبها بل عليها -"أن الرافعي حكى في كتاب
__________
1 المنثور للزركشي 2/ 43.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 سقط في "ب".
5 في "ب" وجها.
6 في "ب" يحطوا.
7 في "ب" كما.
(1/352)
النكاح وفي باب الرجعة وجها أن أحد
المتداعيين يدعي على الآخر، وقال ما معناه: لا يقال: إن هذا
الوجه يقتضي دخولها تحت يده؛ إنما الدعوى لكونه حائلا بينه
وبينها.
وهذا منه مبالغة في تأييد قول الرافعي: أن الحر لا يدخل تحت
اليد وأقول: لا دليل على هذا، ولم يعلل ابن أبي هريرة، الذي
عزا إليه الرافعي القول بأن منافعه تضمن بالفوات -بما ذكر
الرافعي؛ بل بما يؤيد الغزالي وهذه عبارته في شرح مختصر
المزني، قال: "وقد قال الشافعي [رضي الله عنه] 1 في كتاب
السير: لو أكره الإمام مشركا على أن يخرج معه ... " أجرة مثله
من يوم أكرهه على الخروج إلى يوم جاهد".
فمن أصحابنا من قال: "إن الحر تضمن منافعه -أيضا- بالمنع كما
تضمن منافع العبد" ومنهم من قال -وهو الصحيح- "أن منافعه لا
تضمن إلا بالتناول؛ فأما بالمنع منها فلا تضمن، وتأول المسألة
على أنه إنما ضمن أجرة المثل من يوم أكرهه؛ لأنه اتصل يعمل
تناوله منه -وهو الجهاد- ولو انفرد ذلك عن العمل لم يحكم له
بشيء" انتهى.
وقد تضمن أن ابن أبي هريرة صحح ما صححه الرافعي، فليحمل قول
الرافعي، وحكي عن ابن أبي هريرة2 أنه يحكي عنه حكاية الوجه لا
القول به.
غير أن الذي رأيته -في البحر للروياني، وفي الشامل لابن الصباغ
أن ابن أبي هريرة يختار أنها تضمن -كما هو ظاهر نقل الرافعي،
ولعل هؤلاء اطلعوا على نقل ابن أبي هريرة؛ غير الذي في تعليقه،
وعلل -في- البحر التضمين بمثل ما علل ابن أبي هريرة؛ فقال:
منافعه تضمن بالإجارة؛ فتضمن بالغصب كمنفعة العبد".
ولم أجد من اعتل بعلة الرافعي -وهي: أن منافعه تضمن بالعقد
الفاسد إلا صاحب التتمة؛ فقد علل بذلك، وذكر نص الشافعي في
السير، وأنه يدل لهذا الوجه، ولعل الرافعي -من صاحب التتمة-
أخذ هذه العلة؛ فإنها ليست في كلام الإمام، وباقي كلام الرافعي
في كلام الإمام، وإذا وقفت على ما علل به ابن أبي هريرة، من
تشبيهه بالعبد، ومعه صاحب البحر، ولعله أيضا في حاوي الماوردي؛
فإن صاحب البحر كثيرا ما يتبعه -علمت أن ما أشار إليه الغزالي
-من دخول الحر تحت اليد على هذا الوجه-
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
(1/353)
صحيح، وهذا موضع غرضنا من كلام ابن أبي
هريرة رحمه الله.
فنقول: أن فيه تأييدا للغزالي، وقول الرافعي: "إن الغزالي جعل
دخوله تحت اليد مختلفا فيه" عليه فيه مناقشة من قبل أن الغزالي
لم يجعل ذلك؛ وإنما قال: "وهو تردد في ثبوت يد غيره عليه" وهذا
منه بحث لا نقل، وقد أيدناه بالمنقول، وقوله: "كأنهم بنوا
الأمر على الحاجة والمصلحة" قلنا هذه العلة غير كافية في
الحكم؛ فليس من الحاجات أن مستأجر الحر يؤجره، ولا تقرر أجرته،
ورب مستأجر لا يؤجر؛ فالأرجح عندي -والعلم عند الله- أن الحر
يدخل تحت اليد، ولذلك نقول فيمن حبس رجلا ومنعه الطعام والشراب
حتى مات أنه قاتله.
فإن قلت: فيلزمكم إيجاب أجرته عليه مدة الحبس.
قلت: قد قيل بذلك، وعلى هذا يسقط السؤال، وعلى القول بعدم
الوجوب -وهو الأرجح- فسببه أن فوات المنفعة وقع هنا تابعا، ومن
ثم أجد نفسي تميل إلى ترجيح دعوى أحد المتداعيين نكاح امرأة
على صاحبه، كما يدعي عليها، وإن1 لم أجسر على ترجيحه.
ومما يدل على دخول الحر تحت اليد هذا النص الذي حكاه ابن أبي
هريرة وصاحب التتمة، وبمقتضاه جزم الأصحاب في كتاب السير؛ إذ
صرحوا بأن الإمام إذا أكره أهل الذمة وأخرجهم قهرا، وحملهم على
الجهاد، وجبت لهم أجرة المثل؛ فكيف يخرج [عنه ولا] 2 موجب.
وقوله: "أنه أول على أنه اتصل بالعمل" يقال عليه: أليس قد ضمنه
الأيام التي قبل العمل فيلزم أن من حبس حرا شهرا، واستعمله في
اليوم الآخر منه، تجب عليه أجرة الشهر، وما أظن القائلين بأن
منفعته لا تضمن بالفوات يقولون ذلك، وإن قالوا به كان حجة لنا
عليهم في دخوله تحت اليد، وصاحب التتمة لم يقدم على تأويل النص
بشيء.
فائدة: كلام ابن أبي هريرة الذي حكيته [لك] 3 سمى فيه ما يسميه
الرافعي بالفوات منها وما يسميه بالتفويت تناولا، وهو -لعمري-
حسن؛ فإن الفوات -نفسه- لا يضمن [إلا] 4 أنا نقدر أن الغاصب
منعه، [وكذلك] 5 التفويت يقدر أن يتناول تلك
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" عنهم بلا.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" إلا لأنا.
5 في "ب" وذلك.
(1/354)
المنفعة فالتعبير بهذا أحسن مما عبر به
الغزالي والرافعي من الفوات، والتفويت، وبعض أصحابنا -أظنه
الماوردي- عبر بالتفويت عما يعنيه الغزالي والرافعي بالفوات،
وعبر بالاستهلاك عما يعنيانه بالتفويت، هو أيضا حسن؛ ولكن
تعبير ابن أبي هريرة أحسن.
فائدة أخرى: اليد تستعمل لمعان: أحدها: الجارحة كما1 في قوله
تعالى: {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ} 2 {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ} 3، {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4، وهذا
المعنى هو الذي يستعمله الفقهاء في باب الوضوء، وباب صفة
الصلاة عند ذكر رفع اليدين ووضعهما ونحو ذلك، وباب السرقة،
وثانيها: القوة والقدرة، نحو: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 5،
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} 6، {يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 7، {أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ} 8، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ} 9 وهذا المعنى هو المراد من قولهم: "القبض فيما
يتناول باليد التناول" وهو المراد بقولهم: "يد العبد يد سيده"
وبنوا عليه أن المرتهن لا يستنيبه في قبض الرهن، وهو المراد
بدخول المضمونات تحت اليد، ولا يخفى أنه يمكن في الحر؛ فمن صار
حرا تحت قبضته وقهره لم لا يقال: إنه تحت يده، أما قوله تعالى:
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
10.
فجاز "أن يراد الأول، حتى لا يعطى إلا بجارحته صغارا له.
ومن ثم قال بعض أصحابنا: "إن الذمي لا يوكل في إقباض الجزية"
وجاز أن يراد الثاني، وحسن أن يرادا جميعا- ويحمل اللفظ على
حقيقته ومجازه.
وثالثها: ابتداء النعمة: نحو "بل يداه مبسوطتان11، وكقولنا
لفلان عند فلان يده".
ورابعها: جملة الإنسان، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ
يَدَاكَ} 12، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 13، {بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} 14.
__________
1 في "ب" مما.
2 الأعراف 195.
3 المائدة "7".
4 المائدة "38".
5 يس "71".
6 الملك "1".
7 سورة ص "75".
8 البقرة "237".
9 البقرة "237".
10 التوبة "29".
11 المائدة "64".
12 التوبة "10".
13 الشورى "30".
14 البقرة "95".
(1/355)
وإذا علمت موارد اليد -وأنه لا يصح أن يعني
منها في باب الغصب ونحوه غير المعنى الثاني، وأنه لا ينافي
الحرية -ظهر لك أن الحر لا يدخل تحت اليد؛ فإن قلت: أنت فيما
تختاره من دخول الحر تحت اليد خارج إما عن الأصحاب كلهم، كما
ذكره الرافعي -وإما عن جماهيرهم- كما اعترفت.
قلت: أما الخروج عن جمهورهم؛ فلا أستطيع إنكاره، ولكن حسبنا يص
صاحب المهذب1 -رضي الله عنه- بعدما أفسدنا تأويل من أول نصه.
فإن قلت: فما تقول في الحر، أيقطع سارقه؟
قلت: لا، ولكن لا لكونه لا يدخل تحت اليد بل لكونه غير مال،
وكذلك لو غصب صغيرا أو كبيرا، لم تجب قيمته؛ إذ لا قيمة له.
فإن قلت: لو كان معه مال، أو عليه ثياب، أو في عنقه قلادة.
قلت: حكوا -في باب الغصب- وجهين في صغير عليه ثياب أو حلي هل
يدخل تحت يد الغاصب؟
قال ابن الرفعة: [محلهما صبي] 2 لا قدرة له على الحفظ".
ويؤيده من السرقة ما سنحكيه. وقالوا -في السرقة- لو كان مع
الصبي مال، أو في عنقه قلادة تبلغ نصابا فلا قطع3 على الأصح
لأنه في يد الصبي، وأطلق الجمهور الوجهين وصورهما الإمام في
نائم أو مربوط عند الحمل.
فإن قلنا: بالضمان -فواضح؛ وإلا فسببه أن هذه الأمور تابعه غير
مقصودة بالغصب والسرقة -كما تدخل ثياب العبد في بيعه- على
الخلاف [فيه] 4 وإن لم تكن من مسماه.
والوجه -عندي تخصيص الخلاف بمن5 قصد بأخذ الصبي "ذاته" أما إذا
قصد "ثيابه"؛ فينبغي أن يكون غاصبًا وسارقا لها قطعا.
ولو نام على بعير -على أمتعة- فأخذ السارق بزمامه وأخرجه عن
القافلة وجعله في
__________
1 في "ب" المذهب.
2 في "ب" محلها.
3 في "ب" زيادة "على الصبي".
4 سقط في "ب".
5 في "ب" فمن.
(1/356)
مضيعة؛ فالأصح عندهم أنه إن كان حرا فلا
قطع؛ لأن المتاع والبعير في يده، أو عبدا فالقطع، لأن العبد
-في نفسه- مسروق، والثاني: القطع مطلقا، الثالث: عدم القطع،
الرابع: التفرقة بين أن يكون الراكب قويا -لا يبالي بالسارق-
أو ضعيفا- يبالي به- ولعله أرجح، وهو يؤيد تخصيص ابن الرفعة
محل الوجهين المتقدمين.
تنبيه: كثيرا ما يسأل عن موت الزوجة في الطلق، لم لا توجب
الدية على زوجها؟ وللناس فيه كلام.
والجواب: عندي أن الوطء كان مستحقا لمن لا يدخل تحت اليد وهي
الحرة، وقولنا: لمن لا يدخل تحت اليد يجري على طريقة الجمهور
في ذلك وهو قيد يخرج.
قاعدة: "لا يجتمع على عين واحدة عقدان لازمان".
من ثم ضعف قول أبي إسحاق المروزي: "أن مورد الإجارة العين" ولم
يمتنع بيع العين المستأجرة، وهو الصحيح، لاختلاف المورد.
فإن قلت: أليس -يجوز للسيد إيجار جارحته المزوجة، ثم لا يجوز
للزوج منعها من المستأجر؛ لأن يده يد السيد في الانتفاع، وهذا
الإيجار عقد لازم ورد على عقد التزويج اللازم من جهته؛ فقد
اجتمع عقدان لازمان.
قلت: حكى صاحب المحيط -وهو محمد بن يحيى تلميذ الغزالي- خلافا
في أن المعقود عليه -في النكاح- منافع البضع، أو ذات المرأة؟
وبنى عليه استقرار المهر بالوطء في دبرها.
وعلى القول بأن المعقود عليه منافع البضع، لم يتوارد عقد
الإجارة والتزويج على محل واحد؛ فيشابه بيع العين المستأجرة،
واستئجار المزوجة للإرضاع حيث يجوز بإذن الزوج قطعا، وبغير
إذنه -على وجه- وإنما امتنع بغير إذنه -على الأصح- لاستغراق1
أوقاتها بحقه، لا لورود عقدين لازمين فإن موردهما مختلف، ولا
حق للزوج في لبنها.
وعلى القول بأن المعقود عليه -في النكاح- ذات المرأة؛ فالمقصود
مختلف، ولا مزاحمة بين مقصود العقدين.
__________
1 في "ب" باستغراق.
(1/357)
ولو أجرت نفسها -ولا زوج لها- ثم نكحت في
المدة، صح قطعا، والإجارة بحالها، والأصح جواز استئجار الزوج
امرأته لإرضاع ولده منها، كما يستأجرها بعد البينونة، كما
يستأجرها لغير ذلك.
وقد عرف وجه خروج هذه المسائل [من] 1 القاعدة -وهو اختلاف
المورد والغرض- فلم يتزاحم العقدان.
والخلاف الذي حكاه محمد بن يحيى [حكى] 2 ابن السمعاني ثلاثة
أوجه، في أصحابنا اختلفوا في المعقود عليه -في النكاح فقيل:
"هو الحل" والأصح "أنه عقد على عين لاستيفاء نوع منفعة مخصوصة"
انتهى، وصحح الشيخ الإمام في -شرح المنهاج، في باب الإجارة
-أنه حل، وأن المهر في مقابلة الحل.
من مسائل القاعدة: ذكر الشيخ الإمام في -شرح المنهاج- في مسألة
إكراء العقب "لو أراد المالك أن يؤجر الدابة لآخر الزمان الذي
لا يستحقه الأول "قال": يحتمل المنع؛ لأن العين الواحدة لا يرد
عليها متجانسان، والأقرب الجواز؛ لأن المعقود عليه المنافع،
ومنفعة ذلك الزمان إذا لم تكن مستحقة، جاز ورود العقد عليها.
ومن مسائل القاعدة: في باب المسابقة -لو مر مار بجماعة
يتناضلون فقال لواحد: إن أصبت بهذا السهم فلك دينار، نص
الشافعي أنه يستحق بالإصابة.
قال الإمام: "وهذا يدل على انقطاع هذه المعاملة عن الإجارة إلى
أجرة قد يفهم به اجتماع عقدين الذي إليه يستحق الدينار بجعل
الجاعل، ويستحق في المعاملة الأصلية ما كان يستحقه".
ومنها: منع الوالد استئجار العكامية للحج، وقد ترد عليه
المسألة السابقة؛ إلا أن ينفصل عنها بكلام الإمام.
قاعدة: الصحيح -من القولين3 أن العارية مضمونة" قال ابن القاص
في "التلخيص" إلا واحدة.
__________
1 في "ب" عن.
2 سقط في "ب".
3 من قوله في الاصطلام إلى قوله الصحيح من القولين سقط من "أ"
والمثبت "ب".
(1/358)
وقال الجرجاني في "المعاياة" والروياني في
"الفروق" إلا في مسألتين إحداهما: إذا أحرم وفي ملكه صيد
وقلنا: زال ملكه بالإحرام؛ فإذا أعاره لم يضمنه المستعير؛ لأنه
لا ملك له.
قلت: ولا يصح استثناء هذه؛ فإنه لا معير في الحقيقة. والثانية:
وهي التي اقتصر على ذكرها ابن القاص -إذا استعار عينا ليرهنها
فتلفت في يد المرتهن؛ فإن المستعير لا يضمنها على الأصح؛ لأن
سبيله سبيل الضمان.
قلت: وفاتهما مسائل:
منها: المستعير من المستأجر؛ فلا ضمان عليه، وكذا المستعير من
الموصي له بالمنفعة.
ومنها: العارية التالفة بالاستعمال: كما إذا انمحق الثوب، فلا
ضمان في الأصح.
ومنها: لو تلفت بإعارة المالك في شغله كما إذا أرسله في حاجته
وأعاره دابة ليركبها في هذه الحاجة، وكذا لو لقيه في الطريق
ومع دواب فأركبه دابة ليحفظها.
فائدة: الوقف منزلة بين العتق والبيع -شابه العتق من حيث
القربة، ومن ثم كان الصحيح أنه ينتقل إلى الله تعالى، وشابه
التمليك، ومن ثم قبل بانتقاله إلى الموقوف عليه.
وإذا عرفت أنه منزلة بين المنزلتين عرفت أنه لا سبيل إلى
تقديمه على العتق؛ فمن ثم ضعف قول ابن الضباغ في تصرفات
المفلس. لو وقف وعتق، أن العتق يفسخ قبل الوقف، وكان الأصح قول
صاحب البيان أن [المفسوخ] 1 [أولا] 2- الوقف لقوة العتق
وسرايته.
على أن هذا القول عن ابن الصباغ لم ينقله إلا صاحب البيان
فتبعه النووي، وزاد فعزاه إلى الشامل، وليس في الشامل إلا جعل
العتق والوقف في قرن واحد -نبه على ذلك إسماعيل الحضرمي -وذكره
الوالد في "شرح المهذب" وبسط الكلام عليه، وبين ما به يعرف أن
هذا الكلام لم يقل به ابن الصباغ ولا غيره".
ومن3 أيضا -كان لنا قول: أن العتق يقدم في تبرعات الموصي
المزدحمة
__________
1 في "ب" الموسوع.
2 في "ب" إنما هو.
3 في "ب" من ثم لنا.
(1/359)
على غيره ولم يجئ في الوقف نظيره. وقد
أثارت منزلة الوقف بين المنزلتين- ترددا في مسائل:
منها: البيع بشرط العتق صحيح على الصحيح، وبشرط الوقف فيه
وجهان: "قال الرافعي: أصحهما لا".
ومنها: الصحيح -في عتق الراهن- الفرق بين الموسر والمعسر، وفي
وقفه طريقان: أحدهما كالعتق، وأظهرهما: القطع بالمنع.
ومنها: بيع المبيع قبل قبضه باطل، وعتقه الأصح صحته، ولو وقفه
ففي التتمة: "إن قلنا: يفتقر إلى القبول، فكالبيع؛ وإلا
فكالعتق".
وقال الماوردي: "إنه كالعتق" وكذلك قال في الصدقة، وخالفه
الشيخ الإمام فيها -إذا لم تصل بالقبض، ولم يكن بإذن بائع له
حق الحبس، ولم تتلف في يد المتصدق عليه.
ومنها: عتق أحد العبدين صحيح، وفي وقفه وجهان: أصحهما الصحة.
فائدة: هل الصدقة مثل الوقف لأنه صدقة، أو دونه؟ "
لا أحفظ فيه؛ إلا أن الماوردي قال: "لو تصدق بالمبيع -قبل قبضه
كان كما لو وقفه" ووافقه الشيخ الإمام "إذا اتصلت الصدقة
بالقبض وكانت بإذن البائع، أو حيث لم يبق له حق الحبس، أو تلفت
في يد المتصدق عليه. قال: "أما بدون ذلك فلا" قال: "وإباحة
الطعام للفقراء كالصدقة".
قلت: فأفهم قوله: "للفقراء" أن مسألة الماوردي مختصة بالصدقة
على الفقراء، وهو محتمل.
ويحتمل أن يقال: إذا كان من أصلنا الصدقة على الغنى وأنها
قوية؛ فلا فرق، والصدقة على الغنى كالوقف، فينبغي إباحة
الطعام؛ فإن إطعام الطعام من حيث هو- قربة.
أصل: اختلف الأصحاب في أن الوديعة عقد أو إذن مجرد: قال الإمام
"ليس له فائدة حكمية" وقال ابن الرفعة: "بل له فوائد" ذكر
الإمام- نفسه منها فائدتين في باب الزيادة في الرهن".
قلت: ونحن نجمع ما يحضرنا منها.
(1/360)
[منها] 1: في كون ولد الوديعة وديعة وجهان:
قال الإمام -في باب الزيادة- "ينبنيان على أن الوديعة عقد أم
لا"؟
ومنها: لو أودع وشرط شرطا فاسدا قال الإمام: "فمن جعلها عقدا
أفسدها، ولا بد من أئتمان جديد؛ وإلا كان كما لو طيرت الربح
ثوبا إلى داره، ومن لم يجعلها عقدا ألغي الشرط الفاسد، وأبقى
موجب الإيداع.
ومنها: بانعزال المودع بعزلة نفسه في غيبة المودع وجهان:
إن قلنا: "الوديعة عقد" انعزل وتبقى أمانة، وإن قلنا: "ليست
بعقد" فلا ينعزل؛ لأن ابتداءه بالفعل، فكذا رفعه.
ومنها: إذا أكره صاحب المال شخصًا على قبول الوديعة.
فإن قلنا: "عقد"، لم يثبت حكم الإيداع، وإن قلنا: "إذن مجرد
ثبت حكمها، وهو المروي عن ابن أبي هريرة.
ومنها: لو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد أودعتك هذا.
قال الرافعي: "فجواب الروياني في -الحلية- قال: "والقياس
تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة "قال ابن الرفعة"، ولعله
فرعه على أن الوديعة ليست بعقد" -كذا في المطلب، وقال في
"الكفاية" نقلا عن الروياني- إذا قال: أودعتك هذا -بعد شهر-
صح، صرح به في "البحر" وفي حليته- انتهى.
وفرق بين العبارتين، فإن "إذا جاء رأس الشهر؛ فقد أودعتك" نص
في التعليق، بخلاف "أودعتك بعد شهر" فإنه يشبه تنجيز العقد،
وتعليق التصرف.
والذي رأيته -في "البحر" للروياني- العبارة التي نقلها
الرافعي، ولم أجد التي نقلها ابن الرفعة.
قاعدة: "كل أمين فالقول قوله في الرد على من ائتمنه".
ومن ثم يصدق المودع والوكيل بغير جعل، وأمثلته كثيرة، وكذا
الوكيل بجعل وعامل القراض -على الصحيح فيهما. وقولنا: "على من
ائتمنه" يخرج به دعواه الرد على من لم يأتمنه؛ فلا يقبل، ومن
ثم لو ادعى قيم اليتيم أو الوصي دفع المال إليه بعد البلوغ، أو
ادعى الوكيل الرد على رسول المالك؛ فلا يقبل -على الصحيح- في
الكل،
__________
1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
(1/361)
ولا يقبل دعوى من طيرت الربح ثوبا إلى
داره، والملتقط الرد على المالك، ولا دعوى المودع الرد على
وارث المودع.
ثم يستثنى من القاعدة: المستأجر والمرتهن؛ فالأصح أنه لا تقبل
دعواهما الرد؛ لأنهما قبضا المنفعة [لمصلحة نفسهما] 1؛ فأشبها
المستعير ولك أن توضح القاعدة بتقسيم فتقول:
القابض لمجرد المقبوض منه تقبل دعواه الرد قطعا، وهو أمين،
كالوكيل بلا جعل.
والقابض لمحض مصلحة نفسه لا تقبل دعواه الرد جزما، وهو ضامن.
والقابض لمصلحة المقبوض منه ومصلحة نفسه، فيه خلاف، والترجيح
فيه بحسب ترجيح ذكروه.
قاعدة: "كل من ضمن الوديعة بالإتلاف ضمنها بالتفريط في الحفظ"
إلا الصبي فإنه يضمن بالإتلاف -على الأصح- ولا يضمن بالتفريط
-وجها واحدا- لأن عقد الوديعة لا ينعقد معه كذا قال الجرجاني.
قاعدة: "كل إيجاب يفتقر إلى القبول لا يجوز وقوع القبول فيه
بعد الموت. قال الجرجاني: "إلا الوصية" قال "وكل من ثبت له
القبول بطل بموته إلا الموصى له؛ فإنه إذا مات قبل القبول قام
وارثه مقامه.
قاعدة: قال صاحب التلخيص: "كل ما كان يمتنع من صغار السباع؛
فليس لواحد أن يتعرض لها" ومن أخذها فهو ضامن حتى يسلمها إلى
السلطان، أو يردها على صاحبها، إلا واحدة: وهي ضالة الهدي
يجدها أيام مني أو قبلها، يأخذها ويعرفها أيام مني، فإذا خاف
أن يفوته وقت النحر نحر، قال الشافعي: "واجب إلى بعد تعريفها
-أن يرفعها إلى حاكم حتى يؤمر بنحرها"، وفي المسألة قول آخر:
"أنه لا يأخذها بناء على أنه لا يجوز التعرض لكبار البهائم في
الصحراء"، واعترض الرافعي بأن الاستثناء غير منتظم -وإن جوزنا
الأخذ- لأن الأخذ الممنوع هو الأخذ للتملك، وهذا لا يؤخذ
للتملك.
فائدة: قال ابن الرفعة في " الكفاية" في باب إحياء الموات:
"أسباب الملك
__________
1 سقط في "ب".
(1/362)
ثمانية: الميراث، والمعاوضات، والهبات،
والوصايا والوقف، والغنيمة، والإحياء، والصدقات".
قلت: بقيت عليه أسباب أخر.
منها: تملك اللقطة بشرطه.
ومنها: دية القتيل يملكها أولا: وكذلك يوفي منها دينه.
ومنها: الجنين، الأصح أنه يملك الغرة.
ومنها: خلط الغاصب المغصوب بماله، أو بمال آخر -لا يتميز- موجب
لملكه إياه- على الصحيح عند1 الرافعي والنووي.
ومنها: الصحيح أن الضيف يملك ما يأكله، وهو يملك بالوضع بين
يديه أو في الفم، أو بالأخذ، أو بالازدراد يتبين حصول الملك
قبيله؟ وجوه وقد يجاب بدخولها في الهبة.
ومنها: ما ذكره الجرجاني في "المعاياة".
والروياني في "الفروق" من أن السابي إذا وطيء المسبية، كان
متملكا لها" وهو [غريب] 2 عجيب.
ومنها: الوضع بين يدي الزوج المخالع على الإعطاء؛ فإذا قال: إن
أعطيتني ألفا فأنت طالق، كفى الوضع بين يديه على الصحيح
والصحيح أنه يملك به، وقال الشيخ أبو علي: "يبدل بمهر المثل"
وفي كلام الماوردي ما يخرج منه وجه ثالث -"أنه يستحق بالوضع
ووقوع الطلاق بتلك الألف. أو ألفا أخرى"، وقد يجاب عن هذه
الصورة بدخولها في المعاوضات.
فصل في حقيقة الذمة:
نتبين به أن ذمة الميت خربت- أي لا ذمة له.
قال علماؤنا: "الذمة معنى مقدر في المكلف قابل للالتزام
واللزوم".
وطريق من يقول: "هي معنى في حامل المكلف له -بالشغل والفراغ-
دناءة وشرف؛ فإن نظف -وقد تكدر- نظف، وإن بقي ألقي على الحيف.
وهذا المعنى جعله الشرع مبنيا على أمور:
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" عجيب غريب.
(1/363)
منها: البلوغ، فلا ذمة للصغير.
منها: الرشد؛ فمن بلغ سفيها لا ذمة له.
ومنها: عدم الحجر؛ فمن اجتمعت له هذه الشروط رتب الشرع عليها
تقدير معنى فيه، يقبل إلزامه أو روش الجنايات، وأجر الإجارات،
وأثمان المعاملات، ونحو ذلك من التصرفات، ويقبل التزامه؛ فإذا
التزم شيئا مختارا من قبل نفسه لزمه. وإذا فقد واحدا من هذه
الشروط لم يقدر الشرع فيه معنى.
وأما أهلية التصرف: فحقيقتها قبول يقدره صاحب الشرع في المحل
وسبب هذا القبول المقدر التكليف والرشد.
قاعدة: "فيما ينتقل من الحقوق إلى الوارث وما لا ينتقل".
كل ما كان متعلقا بالمال، أو يدفع [به] 1 ضررا عن الوارث في
عرضه؛ فإنه ينتقل إلى الوارث، وما كان متعلقا بنفس الموروث
وشهوته وعقله لا ينتقل إلى الوارث. والسر في الفرق: أن الورثة
يرثون المال، فيرثون ما يتعلق به تبعا له وكذلك العرض بين
الوارث والموروث فيهما مناسبة.
وأما عقل الميت وشهوته نفسه فأمور لا تورث، فلا يورث ما يتعلق
بها.
فمن القسم الأول:
خيار الشرط، وخيار المجلس، خيار الإقالة، وخيار التصرية، والرد
بالعيب وخيار الخلف، وخيار الشفعة، وحق القصاص، وحق الراهن،
وقبول الوصية، وإذا مات واحد من الغانمين انتقل حقه إلى ورثته
[لأنه ثبت له الملك أو حق الملك، وإذا مات المتحجر انتقل حقه
إلى ورثته] 2 وحكم الإقالة والتحالف مع الوارث كحكمها مع
المورث.
وأما حد القذف، وقصاص الأطراف والجراح ومنافع الأعضاء فتنتقل
-أيضا- إلى الوارث وإن لم تكن مالا، لأجل شفاء غليل الوارث بما
دخل على عرضه من قذف مورثه، أو الجناية عليه.
وأما القصاص النفس؛ فإن قلنا: "العلة مع المعلول" فهو من هذا
القبيل -يورث، لأنه يثبت للمجني عليه قبل موته، ثم ينتقل عنه.
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
(1/364)
وإن قلنا: "سابقة" فليس من هذا؛ لأنه لا
يثبت للوارث ابتداء لأن استحقاقه فرع زهوق النفس، فلا يقع
للوارث إلا عقب موت المورث.
ومن القسم الثاني:
وهو ما لا ينتقل للوارث: اللعان، وقد كان يختلج في الذهن أنه
ينبغي ثبوته له دفعا عن النسب الذي اشترك الوارث والموروث فيه؛
غير أنه لما رجع إلى أمر يعتقده المورث لا يشاركه فيه غيره، لم
ينتقل.
وكذلك: الفيئة بعد الإيلاء لا تورث لتعلقه بشهوته، والعود بعد
الظهار، واختيار أربع من خمس فصاعدا -أسلم عليهن- ومن ثم لا
يجوز التوكيل فيه، وفي سائر ما يتعلق بالشهوة.
وكذلك لا ينتقل إلى الوارث قضاؤه على متبايعين جعلا له الخيار
في الإمضاء أو الفسخ.
وكذلك ما بيده من قضاء ومناصب، كما لا ينتقل اجتهاده وعلمه
ودينه لا ينتقل شيء منها إلى الوارث؛ لأنه لم يرث [سيده] 1
وأصله لو قال لزوجتيه: إحداكما طالق؛ ففي قيام وارثه مقامه -في
التعيين- خلاف شهير.
وهنا مسائل:
منها: قال المتولي: لو ذهب لوالده شيئا فمات الواهب، لا ينتقل
حق الرجوع إلى الورثة؛ لأنهم لا يرثون العين، فلا يرثون الخيار
فيها، كما لا يرث حق النكاح، ولا الولاء.
واستدل الحنفية بهذا على عدم إرث خيار المجلس، وأجاب الغزالي
بأنها سلطنة لا تثبت إلا للأب -على قياس الولايات- لأنه لا
يسقط بقوله: "أسقطت" كولاية التزويج؛ فهو من لوازم الأبوة
والخيار يقبل السقوط بالإسقاط قلت.
فائدة: قال المتولي -في باب الخيار في تعريف ما يورث وما لا
يورث: "كل حق لازم متعلق بالمال يورث بوراثة المال" واعترضه
النووي بخروج حد القذف والقصاص والنجاسات المنتفع بها كالكلبب
والسرجين.
__________
1 في "ب" مستنده.
(1/365)
فائدة: إذا تعدد الوراث؛ فهل يتعدد الحق
المتنتقل إليهم عن مورثهم اعتبارا بهم، أو يتحد اعتبارا به؟ ثم
إما أن يتوزع عليهم وإما أن يسلك سبيل آخر.
فيه تردد في مسائل:
منها: إذا ورثوا خيار المجلس لم ينقطع خيار بعضهم بمفارقة
الآخر -على الأصح- فكل منهم في هذا بمنزلته، ولو فسخ بعضهم
انفسخ العقد في الكل علي الأصح، ولو فسخ بعضهم في نصيبه،
واختار الآخر في نصيبه قال مجلي: "لم يكن لهم ذلك -وجها واحدا-
وفي الحاوي وجه.
ومنها: إذا ورثا العبد المبيع فوجدا به عيبا؛ فالأصح لا ينفرد
أحدهما بالرد، ولو سلم أحدهما نصف الثمن لم يلزم البائع تسليمه
النصف.
ومنها: لو قضى أحد الوارثين حصته من الدين المرهون به رهن؛ ففي
انفكاك نصيبه قولان.
ولو مات المديون فقضى بعض الورثة نصيبه، قال الإمام: "لا يبعد
تخرجه على الرهن".
ومنها: أقر بعضهم بالدين وأنكر البعض.
ومنها: لو عفا بعضهم عن حد القذف.
فائدة: [قال الجرجاني1: يورث بالقرابة من الطرفين إلا في أربع
مسائل:
ابن الأخ يرث العمة، ولا ترثه العمة2.
والعم يرث بنت الأخ - ولا ترثه هي3
وابن العم يرث بنت العم، ولا ترثه هي4.
والجدة ترث ولد ابنتها، ولا يرثها هو5.
قال الجرجاني: "ويورث النكاح من الطرفين إلا في المبتوتة في
المرض؛ فإنها ترث المطلق -في قول- ولا يرثها هو".
__________
1 من قوله قال الجرجاني. إلى قوله ثبت الولاء من الطرفين سقط
من "أ" والمثبت من "ب".
2 مختصر العلائي 1/ 394، الأشباه والنظائر "500"؟
3 المصدران السابقان.
4 المصدران السابقان.
5 المصدران السابقان.
(1/366)
قال: "ويورث بالولاء من طرف واحد- وقد يتفق
من طرفين بأن يعتق حربي عبده الحربي، ثم يقهر سيده على نفسه؛
فإذا أعتقه ثبت الولاء من الطرفين] .
فائدة: قال البندنيجي: "الحقوق ثلاثة أضرب:
حق يثبت لجميع الورثة وإذا عفوا إلا واحدا ثبت له، وهو القذف
والشفعة والغنيمة. قلت: والولاية على اللقيط على الصحيح.
وحق يثبت للجماعة -على الاشتراك- والكل حصته أولا: وهو المال.
وحق يثبت على الاشتراك ويسقط بعفو البعض وهو القصاص.
(1/367)
القول في المناكحات:
قلت: القول في ربع المناكحات
قاعدة: "النكاح لا يفسد بفساد الصداق"1.
وفيه مسائل:
منها: لو وكل في نكاح امرأة وسمى مهرا؛ فزاد الوكيل، قال إمام
الحرمين قبيل باب الخلع في المرض: اختيار الشيخ أن النكاح لا
ينعقد، وقال بعض الأصحاب: ينعقد والرجوع إلى مهر المثل، والحكم
بالانعقاد بعيد في هذا الطرف". انتهى.
وأظنه يعني بالشيخ -هنا- القفال؛ ففي كلامه -هنا- ما يشير
إليه، وذكر صاحب البيان المسألة في باب ما يصح به النكاح،
وقال: قال الصيمري:
"قال شيخ من أصحابنا: يبطل النكاح، والصحيح أنه يصح ولها مهر
مثلها" انتهى.
وفي الرافعي -قبيل الفصل السادس: فيما يجب على الولي -ولو وكل
رجلا بقبول نكاح امرأة وسمى مهرا، لم يصح القبول بما زاد عليه.
قاعدة: كل عضو حرم النظر إليه، حرم مسه بطريق أولى2 ويستثنى:
الطبيب -إذا اجتاج إلى المس دون النظر؛ فإنه لا يباح له إلا ما
احتاج إليه.
وفرج الزوجة -فمسه جائز قطعا، وفي نظر الزوج إليه الخلاف
المعروف وقد استدركه الوالد -رحمه الله- وحمل القاعدة على أن
المراد الاجتناب، والوالد لم يذكر الطبيب "فلتحمل القاعدة أيضا
على أن المراد ما عدا الضرورات.
قاعدة: من حرم نكاحها على التأبيد -بسبب مباح لحرمتها- فهي
محرم يجوز
__________
1 الأشباه والنظائر للسيوطي "477".
2 السيوطي "475"، المنثور 3/ 114.
(1/367)
النظر إليها ويختلي بها ولا تنقض الوضوء
واحترزنا بالحرمة عن الملاعنة.
ويستثنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلسن من المحارم كما
دل عليه كلام الرافعي في الظهار، وصرح به غيره.
قاعدة: داعية الطبع تجزئ عن تكليف الشرع "وبعضهم يقول": الوازع
الطبيعي مغن عن الإيجاب الشرعي "وعبر الشيخ الإمام" رحمه الله
عن القاعدة في كتاب النكاح بأن "الإنسان يحال على طبعه ما لم
يقم مانع".
ومن ثم لم يرتب الشارع على شرب البول والدم وأكل العذرة والقيء
-حدا اكتفاء بنفرة الطباع عنها، بخلاف الخمر والزنا والسرقة
لقيام بواعثها؛ فلولا الحد لعمت مفاسدها.
[وفي] 1 القاعدة مسائل؛
منها: لا يجب القسم بين النساء.
ومنها: لا يجب على الرجل وطء زوجته، وشذ القول بوجوب الوطأة
الأولى لتقرير المهر، وقضاء الوطأة في القسم فيما إذا دخل في
نوبة واحدة ووطئها، أما المولى2: فواجبه أحد الأمرين من الوطء
أو الطلاق.
ومنها: إقرار الفاسق -على نفسه- مقبول؛ لأن الطبع يزعه عن
الكذب فيما يضر بنفسه أو ماله أو غرضه.
ومنها: عدم اشتراط العدالة في ولاية النكاح على وجه اختاره
كثير من أصحابنا، منهم الشيخ عز الدين، محتجا بأن الوازع
الطبعي يزع عن التقصير في حق الولي عليه.
ومنها: عدم وجوب الحد بوطء الميتة -وهو الأصح- قالوا: "لأنه
مما ينفر عنه الطبع، وما ينفر عنه الطبع لا يحتاج إلى الزجر
عنه.
ومنها: ليس النكاح من فروض الكفايات خلافا لبعض الأصحاب،
ومستندا هذا الوجه النظر إلى بقاء النسل، وقد رده الشيخ الإمام
بهذه القاعدة، وقال: "في النفوس من الشهوة ما يبعثها على ذلك،
فلا حاجة إلى إيجابه3 والإنسان يحال على طبعه ما لم
__________
1 وفي "ب" ومن.
2 في "ب" الولي.
3 في "ب" فلا حاجة إلى إيجابه من القواعد.
(1/368)
يقم مانع "ثم مال الشيخ الإمام إلى قتل أهل
قطر رغبوا عن سنة النكاح وإن لم يكن واجبا.
قاعدة: "لا يزوج مسلم كافرة" إلا في مسائل:
منها: كافرة لا ولي لها مناسب؛ فيزوجها الحاكم بالحكم؛ لأن
الكافرة والمسلمة مستويان في الحكم1.
قاعدة: قال الإمام -في الكلام على تقديم الطعام للضيف في
الوليمة -"ليس في الشرع إباحة تقضي إلى اللزوم إلا النكاح؛
فإنا قد نختار أن المعقود عليه -في النكاح- ليس مملوكا؛ إنما
هو مستباح فيستحق" انتهى.
ذكره ردا على والده في تصحيحه أن الضيف لا يملك، وأن الوجوه
المحكية -في أنه بماذا يملك؟ وجوه في أن الإباحة هل تلزم حتى
لا يكون للمضيف رجوع؟ قال الإمام: "وهذا لا بأس به" قال: "ولكن
الأصح أن الإباحة لا تنتهي إلى اللزوم ما لم يفت المستباح". ثم
ذكر هذه القاعدة.
قلت: وقد يضم إلى النكاح الصور التي تلزم فيها العارية؛ فإنها
إباحة تفضي إلى اللزوم، ثم نبحث عن قوله "تقضي إلى اللزوم".
هل معناه: إلى لزومها -في نفسها- على المبيع؛ فإن المرأة
يلزمها يدل البضع المستباح حق، والمعير -في الصور المشار إليه-
يلزمه أيضا حكم العارية؟
أو معناه: تفضي إلى اللزوم من جهة المستبيح فإن الزوج تلزمه
لوازم النكاح -من المهر وغيره- ولذلك قال البغوي: "حتى يكون
الشيء غير واجب ويقتضي واجبا -كالنكاح- يقتضي النفقة والمهر".
ذكره في الكلام على ركعتي الطواف، وعلى هذا فيضم إلى النكاح
إعارة الدلو لاستقاء المحدث الماء، والسترة للعاري في الصلاة؛
فإنه يلزمه2 قبولهما على الأصح.
أو معناه اللزوم الطرفين؛ حتى لا يجوز للمبيح الرجوع ولا
للمستبيح الرد؟ وعلى هذا يضم إلى النكاح إعارة الدلو والرشاء،
وللمعير العوض -كما صرح به
__________
1 انظر الاعتناء القاعدة التاسعة عشرة من كتاب النكاح.
2 في "ب" يلزم.
(1/369)
القاضي الحسين؛ حيث قال: "يتعين عليه
الإعارة، كما يتعين على المستعير ويجب"، وعلى هذا لا يتم رد
الإمام على والده؛ فإنه -وإن منع المضيف من الرجوع- فلا سبيل
له إلى القول بأن الإنسان المضاف يتعين عليه القبول والأكل.
ثم هذا منه -والحالة هذه- قول بأن النكاح من العقود اللازمة من
الطرفين، وهو ما ادعاه النووي، وقال: "يمكن الزوج من رفعه
كتمكن المشتري من إزالة الملك بالبيع" والمعروف -في المذهب- أن
النكاح عقد جائز، وحكى ابن الصباغ -في كتاب الوكالة- وجهين في
أنه لازم أو جائز.
قاعدة: "إتيان القبل والدبر سواء في الأحكام"1:
إلا في مسائل:
منها: الحل ومنها: الإحصان2، فإنه فضيلة لا تنال برذيلة.
ولا تحصل به فيئة الإيلاء، ولا ينفي العنة ولا يبطل استنطاق
البكر وأما النسب، فاختلفت فيه عبارة الرافعي.
ومنها: حلف لا يطأ زوجته؛ فوطئها في الدبر قال الإمام: "والذي
أراه الحنث" نقله الرافعي في الإيلاء، وحكى الغزالي في الفتاوى
-ورجح عدم الحنث3.
__________
1 روضة الطالبين 7/ 120-204، البيجرمي على الإقناع 3/ 449.
2 وصورته أن يتزوج رجل بامرأة فيطأها في دبرها دون فرجها ثم
يطلقها وإذا زنا بامرأة بعد ذلك وجب الجلد دون الرجم.
3 ومنها الدم الخارج من الدبر لا يكون حيضا بخلاف القبل.
ومنها: لا يثبت به نسب وصورته أن يطأ رجل امرأة في دبرها فقط،
ثم أتت بولد لم يثبت به نسب على الصحيح.
ومنها: إذا وطئ البالغ الجارية المبيعة في دبرها لا يكون فسخا.
ومنها: عدم الكفارة في وطء الدبر في أيام رمضان بإفساد الصوم
من غير خلاف رجلا كان أو امرأة ذكره ابن الرفعة في مطلبه في
كتاب الصيام.
ومنها: إذا وطئها في دبرها بعد طهرها ثم طلقها لا يكون رجعيا.
ومنها: أنه لا يجب بالوطء في الدبر المسمى للزوجة على وجه
الصحيح خلافه.
ومنها: أنه لا يجوز رؤية الدبر بخلاف القبل للزوج وعند النظر
إلى فرج الزانيين وعند الشهادة على الولادة.
ومنها: أن مس الدبر لا ينقض الوضوء على القديم بخلاف القبل.
ومنها: أن الزوج يحد بوطء زوجته في دبرها على وجه ويعزر على
الصحيح. =
(1/370)
قاعدة: "فرقة النكاح -قببل الدخول-[إذا] 1
كانت بسبب من جهة الزوج -كطلاقه وإسلامه وردته- سقط نصف المهر،
وإن كان من جهتها كإسلامها وردتها -سقط جميع المهر".
والناس يستشكلون على هذا الفسخ بالعيب قبل الدخول؛ فإنه يسقط
جميع المهر -سواء فسخ هو بعيبها، أم فسخت هي بعيبه؛ لأنها هي
المختارة، قال النووي "في روؤس المسائل"، وهذه مشكلة، وهذا
الإشكال قوي فإن الفسخ بالعيب إما أن يغلب فيه جانب الفاسخ، أو
جانب من به العيب، وعلى التقديرين لا يسقط جميع المهر بكل حال؛
وإنما يسقط كله في حال وبعضه في حال.
ثم أجاب النووي رحمه الله: بأن مقتضى الفسوخ تراد العوضين من
الجانبين، وقد رد عليها الزوج بضعها بكماله، فيرد عليه المهر
بكماله.
وأما الطلاق -فإنما بقي لها فيه نصف المهر؛ لأنه ليس فسخا؛
وإنما [هو] 2 تصرف في الملك.
وأما وجوب النصف بإسلامه وردته، فلشبهه الطلاق من حيث إيذائها
وكسرها بذلك من غير سبب من جهتها؛ فوجب النصف جبرا لذلك. بخلاف
الفسخ؛ فإنها إن فسخت فهي المختارة، فلم يحصل لها أذى، بل حصل
لها سرور بتحصيل غرضها وإن فسخ الزوج فهي سببه؛ فالأذى حصل
بسببها. انتهى: وهو مأخوذ من كلام الشيخ -عز الدين ابن عبد
السلام: وبقي ما إذا كان الفسخ بسببهما جميعا -كردتهما معا
والخلع الواقع بينهما، والصحيح فيهما التشطير.
وأما إذا كان لا من جهة واحدة منهما -وهي مسألة ابن الحداد
والقفال- ولم
__________
= ومنها: عدم العدة بوطء في الدبر فقط.
ومنها: العنين إذا وطئ زوجته في دبرها فقط لم يسقط خيارها.
ومنها: عدم وجوب غسلها بخروج مني الزوج من دبرها بعد غسلها من
الوطء في دبرها.
ومنها: عدم إثبات طهارة بالوطء في الدبر.
ومنها: عدم إفساد الحج بالوطء في الدبر والصحيح التسوية.
ومنها: شرط عدم الوطء في القبل في صلب العقد فإنه يفسره بخلاف
الدبر.
1 في "ب" أن.
2 سقط من "ب".
(1/371)
يذكرها الرافعي في باب الصداق عند الكلام
في التشطير، وابن الحداد يقول فيها بالسقوط دائما، والقفال
يقول بالتشطير.
وفيها صور:
منها: إذا أسلم أبو الصغيرة فتبعته فانفسخ النكاح. قال ابن
الحداد "يسقط"، وقال القفال: "يتشطر". كذلك نص عليه في شرح
الفروع، ونقله الشيخ أبو علي الإمام عن بعض الأصحاب، ولم يصرحا
بذكر القفال وهو عجيب.
وكذلك حكى ابن الرفعة الخلاف في باب الصداق من "الكفاية" غير
مذكور فيه القفال.
ومقتضى كلام الرافعي الجزم بقول ابن الحداد في هذه؛ إذ قال في
باب المتعة فيما إذا وقع إسلامها تبعا؛ فإنه لا متعة جعل ذلك
فرقة كائنة من جهتها، ولكن [رجح] 1 فيما إذا ورث زوجته أو
بعضها -عدم سقوط المهر، وصرح بمخالفة ابن الحداد فيه وهو يقتضي
إيجابه الشطر؛ كذا قاله في كتاب النكاح قبل فصل الدوريات، وقد
تكلمت على المسألة ونظائرها -مبسوطا- في الطبقات في ترجمة ابن
الحداد، فلنلخص هنا إن شاء الله.
قاعدة: قال الرافعي في باب نكاح المشركات: "ذكر الأصحاب عبارة
جامعة؛ فقالوا: الرق والحرية إذا تبدل أحدهما بالآخرة؛ فإن بقي
من العدد المعلق بكل واحد -من الزائل والطارئ- شيء، أثر الطارئ
وكان الثابت العدد المعلق به -زائدا كان أو ناقصا- وإن لم يبق
منهما جميعا، لم يؤثر الطارئ، ولم يغير حكما.
ذكر ذلك فيما إذا كان تحت الكافر إماء؛ فأسلم معه اثنان ثم عتق
ثم أسلم الباقيات؛ فإنه ليس له إلا اختيار اثنتين، وإن أسلمت
واحدة عتق ثم أسلم2 الباقيات؛ فله اختيار أربع.
والفرق: أنه إذا لم يسلم معه [إلا] 3 واحدة، لم يكمل عدد
العبيد؛ فإذا عتق فله استيفاء ما للآخر، بخلاف ما إذا أسلمت
اثنتان.
قال: وشبهوا الصورتين بما إذا طلق العبد امرأته طلقتين ثم عتق.
لم يملك بالعتق
__________
1 في "ب" راجح.
2 في "ب" اسملت.
3 سقط في "ب".
(1/372)
طلقة ثالثة، بخلاف ما لو طلقة [واحدة] 1 ثم
عتق. ربما إذا أعتقت الأمة في عدة الطلاق -قبل [استكمال] 2
قرءين؛ فإنهما تكمل ثلاثة أقراء.
"وإن [أعتقت] 3 -بعد تمامها- لم يلزمها شيء".
كذا قال الرافعي، والصحيح -عنده وعند غيره- أن الطلاق إن كان
بائنا، لم تكمل ثلاثة أقراء؛ بل تكتفي بقرءين.
وعلى هذا الأصل قال ابن الحداد: لو طلق الذمي زوجته طلقتين ثم
التحق بدار الحرب ناقضا للعهد فسبي واسترق ونكح تلك المرأة
بإذن مالكه، يملك عليها طلقة؛ لأنه بقي من العدد الزائل شيء
ولم يبق من العدد الطارئ شيء فلم يؤثر الطارئ.
ولو كان قد طلقها طلقة؛ فإذا نكحها، لا يملك عليها [إلا] 4
طلقة؛ لأنه [قد] 5 بقي من العدد الزائل طلقتان، ومن العدد
الطاريء طلقة، فكان الثابت حكم الطارئ -وهو الرق هنا- والصحيح
عند الأصحاب.
غير أن الشيخ أبا علي استدرك على ابن الحداد اشتراطه لحاق
الذمي بدار الحرب؛ لأن استرقاقه ليس موقوفا على ذلك؛ فإنه6 قد
يفعل ما ينقض العهد ويسترق -وإن لم يلحق بدار الحرب- أو لعله
يرى أن من نقض عهده بغير قتال يرد إلى مأمنه، وهو أحد القولين.
والاعتراض سهل؛ فإن ابن الحداد لم يذكر اللحوق بدار الحرب على
سبيل التقييد للمسألة؛ بل لكونه الغالب في الوقوع. إذا عرفت
هذا، فهذه القاعدة يستثنى منها مسائل:
منها: العبد إذا زنى فأقيم عليه بعض الحد وبقيت عليه عشرة، ثم
عتق؛ فإنه لا يقام عليه تمام حد الأحرار، بل تمام الخمسين فقط.
ومنها: الذمي إذا زنى، فأقيم عليه أربعون أيضا، ثم التحق بدار
الحرب [ثم استرق] 7 فإنه لا يكمل عليه حد الأحرار، بل حد
العبيد وقياس القاعدة تكميل حد الأحرار.
قلت: [كذا] 8 نص القاضي الحسين، ونقل ابن الرفعة عنه ذلك نقل
الموافق
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" كمال.
3 في "ب" عتقت.
4 سقط في "ب".
5 سقط في "ب".
6 في "ب" لأنه.
7 سقط في "ب".
8 سقط في "ب".
(1/373)
له، ولا يتجه هذا الثاني إلا على القول بأن
الذمي إذا زنى ثم أسلم يحد، وهو رأي أبي ثور والذي نص عليه
الشافعي -كما نقل النووي عن ابن المنذر أنه يسقط عند الحد
بالإسلام، ورأيت الدارمي حكى في "الاستذكار" في المسألة وجهين
في باب حد الذميين "إذا كان يسقط بتمامه؛ فالذي يظهر أن سقوط
ما بقي منه أولى، وأحرى".
ومنها: إذا نكح أمة وقلنا: إن لها نصف ما للحرة من الثلاث أو
السبع في حق الزفاف -فعتقت بعدما بات عندها ليلتين؛ فإنه لا
يكمل لها ما للحرة -ذكره الرافعي في باب عشرة النساء.
ومنها: لو عتقت الأمة المطلقة في عدة الطلاق البائن، تكمل عدة
أمة، لا عدة حرة- على الجديد الصحيح.
فائدة: "كل من وطيء أمة بغير ملك يمين -عالما بأنها أمة- فولده
منها رقيق إلا في مسألة واحدة: وهي: العربي إذا تزوج أمة -على
القول بأن العرب لا يسترقون.
فائدة: كل امرأة تدعي عنه زوجها، تسمع دعواها إلا الأمة إذا
كان زوجها حرا؛ لأنها لو سمعت لبطل خوف العنت، فيبطل النكاح؛
فكان سماع الدعوى فيه مؤديا إلى سقوط النكاح المؤدي إلى
سقوطها، فأثبتنا النكاح وأسقطنا الدعوى.
فائدة: كل امرأة علق زوجها طلاقها على صفة؛ فلها أن تحاكمه في
وجود تلك الصفة ووقع الطلاق بها "إلا الصورة المتقدمة -وهي
الأمة المزوجة بحر علق طلاقها على كونه عنينا؛ فليس لها أن
تحاكمه؛ إذ لو حققت دعواها، خرجت من الزوجية؛ فلا يصح يمينه
بطلاقها، ولا دعواها -ذكره الجرجاني في المعاياة والروياني في
الفروق.
قاعدة: قال صاحب البيان: "كل موضع حكمنا فيه بالفرقة بين
الزوجين؛ فذاك فسخ لا طلاق". وينتقض بما إذا توافق الزوجان على
أن العاقد والشهود فسقة؛ فإن الفرقة تحصل بينهما، والأصح أنها
فرقة طلاق.
قاعدة: "كل زوجة جمعها من زوجها -في الشرك- الإسلام، وهي بحيث
يحل ابتداء نكاحها، أقرت، وإن كان بحيث لا يحل له ابتداؤه، لا
تقر".
قاعدة: قال الغزالي "كل من بها عذر طبعي أو شرعي لا تستحق
القسم" واستثنى الرتقاء، فلها عذر طبعي وهي تستحقه.
(1/374)
قاعدة: قال الأصحاب في باب الصداق: الزيادة
المتصلة تتبع الأصل إلا في الصداق. ومعنى ذلك: أنه إذا ثبت
الرجوع في عين فزيدت زيادة متصلة -كالسمن وتعلم القرآن
والحرفة- لم تمنع تلك الزيادة الاستقلال بالرجوع، كما إذا أفلس
المشتري بالثمن؛ فإن البائع يرجع في المبيع بزيادته المتصلة،
وكذا الواهب في الموهوب والمشتري إذا رد المبيع بعيب، يرجع في
العوض مع الزيادة المتصلة [ولا] 1 كذلك الصداق؛ فإن الزيادة
المتصلة فيه تمنع استقلال الزوج بالرجوع حيث ثبت له الرجوع في
نصف الصداق، ويثبت لها الخيار؛ فإن أبت تجبر، ويعدل الزوج إلى
نصف القيمة من غير تلك الزيادة، وإن سمحت أجبر على القول على
الصحيح؛ فصار الصداق مستثنى من قولهم: "إن الزيادة المتصلة
تتبع الأصل".
قلت: ويستثنى أيضا -على وجه- الهبة المطلقة إذا قلنا: تقتضى
الثواب فلم يثب، وكان للواهب الرجوع بدون الزيادة المنفصلة
وكذا المتصلة -على وجه- فيبذل الموهوب له القيمة، ويمسك
الموهوب، والأصح خلافه جريا على القاعدة.
ويستثنى أيضا -على ما ذكر الدارمي في الاستذكار -اللقطة بعد
التملك، إذا جاء صاحبها وقد زادت زيادة غير متميزة؛ فإنه ذكر
أن له الخيار بين إعطائها زائدة أو القيمة.
لكن هذا غريب، والمجزوم به -في كتب الرافعي والنووي وابن
الرفعة والشيخ الإمام رحمهم الله تعالى- أن الزيادة المتصلة
تتبع اللقطة.
قاعدة: "الوطء لا يخلو عن عقر أو عقوبة".
واستثنى الروياني في "الفروق" ثلاث مسائل:
إحداها: إذا زوج عبده [بأمة2 بعد إذن وليه] 3.
والثانية: إذا فرضت المرأة بضعها في دار الحرب ثم أسلما، فدخل
بها وهما يعتقدان أن [لا] 4 مهر.
والثالثة: المحجور بالسفه إذا تزوج بغير إذن وليه ووطئ5؛ فلا
شيء عليه بالوطء على الأصح، كما لو اشترى سلعة من عالم بحاله.
وفي القديم: لها مهر مثلها بعد فك الحجر عنه، جعله كالجناية.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" بأمته.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" إلا.
5 في "ب" ونظر.
(1/375)
قلت: [وقد] 1 قيد النووي -في فتاويه-
المسألة بما إذا تزوج رشيدة، أما إذا تزوج سفيهة، قال: "فيجب"
ولم أر هذا القيد في غير فتاويه، وقد أهمل الروياني مسائل:
منها: وطء النبي صلى الله عليه وسلم فمن خصائصه عليه أفضل
الصلاة والسلام أنه لا يجب عليه المهر -وإن كان العقد بلفظ
الهبة.
ومنها: إذا أعتق المريض أمته -وهي ثلثه- وتزوج بها، ومات،
وطالبت بالمهر؛ فيجب لها منه بسقط ما عتق، ويبطل النكاح
بخروجها عن كونها الثلث؛ فإن الاعتبار بالثلث بعد وفاء الدين.
وإذا لم تخرج من الثلث [رق] 2 بعضها، وحينئذ لا يصح تزويجها
للحر فأما إذا أعتقت عن المهر، فيصح النكاح.
ومنها: إذا استرق الكافر مسلما وجعله صداق امرأته وأقبضها إياه
ثم أسلما، فإن الحر ينتزع من قهرها، وجنح الرافعي -في بحثه إلى
أنه لا يجب مهر [مثل] 3.
ومنها: إذا وطئ المسلم حربية بشبهة؛ فلا عقوبة؛ إذ لا إثم ولا
عقر.
ومنها: إذا وطئ ميتة بشبهة؛ فلا عقوبة للشبهة ولا مهر.
قاعدة: كل حيض يحرم الطلاق. ويستثنى مسائل:
منها: حيض الحامل -على القول- أنها تحيض وهو الأصح فإن طلاقها
فيه لا يحرم، لعدم التأدية إلى طول العدة.
قال الرافعي: عن إسحاق "أنها كانت ترى الدم -وجعلناه حيضًا-
فقال لها: أنت طالق للسنة، لا يقع عليها الطلاق حتى تطهر".
قال: وعلى هذا فللحامل حال بدعة كما للحائل.
قلت: [وإذا] 4 تم هذا كان طلاق الحائض الحاصل بدعيا عند أبي
إسحاق، وبه صرح صاحب المهذب وغيره من النقلة عن أبي إسحاق،
وتبعهم في الروضة؛ فإن كان الحامل له تصريح صاحب المهذب فحسن
-لكنه خروج عن نظم الرافعي- فإنه لم يصرح بهذا؛ وإنما قاله
فيمن قال أنت طالق للسنة": "ولعل ذلك لأن لفظ السنة محمول -عند
الإطلاق- على المتعارف في الشرع -وهو غير حائض- وحيض الحامل
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" ردت.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" زاد.
(1/376)
صورة نادرة لا يشملها الإطلاق1، ولا يكون
مراده منه؛ فلست2 على ثقة3 بأن4 أبا إسحاق رحمه الله يحرم
الطلاق في حيض الحامل من هذا النظم الذي نظمه الرافعي؛ إنما
يحمل لفظ السنة على ما وراء5 الحيض.
وإذا عرفت هذا؛ فقول الرافعي: "حال بدعة" لا يتجه، إلا أن
يكون6 أبو إسحاق يحرم طلاق7، الحامل، ولم ينقل عنه ما يقتضي
ذلك، لما ذكرت.
ومنها: إذا قال: أنت طالق في آخر حيضك فالأصح أنه سني -مع
وقوعه في الحيض".
فائدة: قال الرافعي -في [باب] 8 القسم والنشوز -"اجتماع الحرة
والأمة إنما يتصور بأن ينكح حرة على أمة"، وكذلك السبب الثاني
في تجدد النكاح؛ حيث: قال لا يتصور إلا في العبد؛ فإن له أن
يدخل الأمة على الحرة" وتبعه النووي.
والحصر غير مسلم، فالأصح الجواز فيمن تحته حرة لا تعفه
-كالرتقاء [والقرناء] 9.
قاعدة: من باب التعليق بالشروط -لا تختص بالطلاق؛ غير أن
الطلاق أمس بذكرها، لكثرة التعليق فيه -الطلاق لا يقبل
الإيقاع10 بالشرط وإن قبل الوقوع الشرط. أي التعليق على شرط.
وهو عكس البيع ونحوه -فإنه يقبل الإيقاع بالشرط، ولا يقبل
التعليق على شرط- بدليل أنه لو قال: بعتك على أنه كذب صح، ولو
قال: إن كان كاتبا فقد بعتكه فهو باطل -على ما جزم به ابن أبي
الدم- وخرج فيه ابن الرفعة وجهين من الوجهين في "إن كانت
المولودة لي بنتا فقد زوجتكها"، وهذه القاعدة أشار إليها
الغزالي -في كتاب الخلع- حيث قال: "الطلاق لا يقبل الشرط قال
ابن الرفعة": معناه -لا يقبل الشرط في الوقوع وإن قبله في
الإيقاع- والفرق بينهما يتضح بالمثال؛ فإنه لو قال: أنت طالق
بشرط أن لا تدخلي الدار أو على أن لا تدخلي الدار، وقع في
الحال -وإن لم يوجد ذلك، ولو
__________
1 في "ب" الطلاق.
2 في "ب" فليست.
3 في "ب" يقين.
4 في "ب" فإن.
5 في "ب" ورد.
6 في "ب" كان.
7 في "ب" زيادة "الحائض".
8 سقط في ب.
9 سقط في "ب".
10 في "ب" زيادة "بلا بالشرط".
(1/377)
قال: أنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق حتى
تدخل "انتهى".
والغزالي -رحمه الله- توصل بذلك إلى قوله: "في قول الزوج: أنت
طالق على أن لي عليك كذا -أنه يكون رجعيا" قال: "لأن الشرط في
الطلاق- يلغو إذا لم يكن من قضاياه، كما إذا قال: أنت طالق على
أن لا أتزوج بعدك؛ فإما ذهابه إلى كونه رجعيًا فالصحيح خلافه.
وأما معنى قوله: "الشرط في الطلاق يلغو" فما ذكرناه عن ابن
الرفعة، والحاصل: أن الطلاق -بعد وقوفه- لا يقف على شرط؛ لأن
وقوفه عن الوقوع مع وقوعه محال، وهذا بخلاف ما لو نجز الوكالة
وعلق التصرف على شرط فهو توكيل صحيح، وهو إيقاع عقد بشرط؛ فمثل
هذا لا يكون في الطلاق؛ فإن المرأة لا تكون مطلقة ثم يكون
طلاقها الواقع واقعًا على شرط.
تنبيه: ما ذكرناه -من توجيه قول الغزالي: "الطلاق [لا يقبل] 1
الشرط في الإيقاع لكن في الوقوع والبيع عكسه" -وهو أقصى ما ذكر
المفسرون لكلامه، ومنهم الوالد رحمه الله؛ غير أنه قال: "لا
يلزم من هذا ما قصده الغزالي من جعل -طلقتك على أن لي عليك
ألفا- رجعيا؛ فإنه إذا أوقع الطلاق [مع] 2 هذا الشرط -لم يوقعه
مطلقا، فلا يقع رجعيا؛ بل يقع كما أوقعه -على جهة المعاوضة-
وهذه الصيغة صالحة لأن تستعمل في المعاوضة بخلاف ما إذا ذكرها
شرطا مجردا -من غير معاوضة".
قلت: وهذا حق، ويدل على أنه لو قال: بعتك على أن تعطيني عشرة،
صح البيع -كما صرح به الرافعي في الباب الثاني من كتاب الصداق-
فنزل قوله: "على أن تعطيني" منزلة باء العوضية؛ فكذلك ينبغي أن
ينزل هنا ذلك، وعبارة الغزالي -في باب الخلع أوائل الباب
الثالث- "والطلاق لا يقبل الشرط" انتهى، وفي حواشيه- وأظنه من
كلام ابن الصلاح الشرط على قسمين: شرط تعليقي، وشرط إلزامي،
فالطلاق يقبل التعليق والعوض، ولا يقبل الشرط الإلزامي، بخلاف
البيع؛ فإنه لا يقبل التعليق، ويقبل الشرط الإلزامي، كقوله:
بعتك هذا العبد بشرط أنه كاتب". انتهى.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" "من".
(1/378)
فائدة تتعلق بهذا:
قال شيخ الإسلام -عز الدين عبد عبد السلام- في مجموع له ما
نصه: مسألة الأفعال على قسمين:
منها: ما يقبل الشرط والتعليق عليه كالصوم على رأي الإمام
الشافعي رضي الله عنه؛ فإنه يقبل الشرط، بأن يشرع في الصوم
ويقول: إن أبطلته بطل -والتعليق عليه- بأن يقول: إن فعلت كذا
فعلي صوم. ومنها ما لا يقبل التعليق ويقبل الشرط وهو البيع
فييع ويقول لي الخيار ثلاثًا ولا يقبل "إن جاء فلان فقد بعتك"؛
لأن هذا الشرط أثبته الله تعالى في أصل البيع فحصل باشتراطه.
والطلاق عكس هذا -يقبل التعليق ولا يقبل الشرط- كما لو قال أنت
طالق على أن عليك ألفا؛ فإنه لا يلزمها شيء.
ومنها: ما لا يقبل الشرط ولا التعليق عليه.
أما الشرط: فإذا تزوجها على أن لا نفقة لها؛ فإن الشرط يسقط.
وأما التعليق: فإن يقول: إذا جاء فلان فقد تزوجتك.
قاعدة: ذكرها ابن القاص في تليخصه، فتبعه عليها الشيخ أبو حامد
في "الرونق" والمحاملي في "اللباب" والروياني في "الفروق"،
والجرجاني في "المعاياة" وأكثر من صنف في هذا النوع كل من علق
طلاقه بصفة، لم يقع طلاقه -ذاك المعلق- من غير وجود الصفة إلا
في أربع مسائل:
إحداها: أن يقول -لحامل أو صغيرة أو آيسة أنت طالق للسنة أو
للبدعة فيلزمه [من ساعته] 1 لأن لا سنة لهن ولا بدعة، قال ابن
القاص: "هذا نص قوله" قلت: يعني حكم المسألة؛ إلا أن الشافعي
رضي الله عنه نص -هنا- على أن الطلاق معلق وأنه وقع بدون
الصفة؛ فإن ذلك لم يتقدم أحد به ابن القاص فيما أحسب، وستعرف
ما فيه.
فائدة: "كل رجعية يجوز رجعتها في عدتها" قال الجرجاني: "إلا
واحدة، وهي رجعية وطئها المطلق في عدتها -وقد بقي عليها قرء
واحد- فإنه يجب عليها استئناف العدة ثلاثة أقراء، ويجوز
مراجعتها في القرء الأول، لأنه بقية عدة الطلاق، ولا يجوز
مراجعتها في القرءين الأخيرين، لأنها عدة الوطء -بالشبهة- لا
عدة الطلاق".
__________
1 سقط في "ب".
(1/379)
قلت: ولا يصح هذا الاستثناء؛ لأنها في
القرءين الأخيرين غير رجعية، إذ قد حصلت البينونة بانقضاء
القرء الثالث، ولكن تصوير "رجعية لا يجوز رجعتها في عدتها" بقي
الرجعية الحامل من مطلقها، إذا وطئت بشبهة فإن الزوج ليس له
رجعتها في مدة اجتماع الوطء بها -كذا قال الروياني فيما نقله
الرافعي عنه- قال: "لأنها حينئذ خارجة عن عدة الأول، وفراش
لغيره؛ فلا تصح الرجعة في تلك الحالة، واستدركه على إطلاق
الأصحاب "أن للزوج رجعتها قبل الوضع".
قاعدة: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام"1.
وهذا رواه جابر الجعفي "حديثا" -وجابر ضعيف- عن الشعبي عن ابن
مسعود، وهو منقطع -قاله البيهقي- والأمر كما قال: وعورض -أيضا-
بما رواه ابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر "لا يحرم الحرام
الحلال".
وليس بمعارض؛ لأن المحكوم به -في الأول- إعطاء الحلال حكم
الحرام تغايبا واحتياطا، ولا صيرورته -في نفسه- حراما، ومن ثم
لو اشتبهت منكوحته بأجنبيات محظورات لم تحل، وإذا أكل الكلب
المعلم من الصيد -في موضعه- فالصحيح يحرم، لحديث عدي بن حاتم2،
ورجح الجمهور التحريم فيما إذا أصاب صيدا وغاب ثم وجده ميتا
-وليس فيه أثر غير سهمه ورجح النووي الحل.
وشذ عن القاعدة مسائل:
منها: إذا رمى سهما إلى طائر فجرحه ووقع ثم وجد ميتا؛ فإنه
يحل.
ومنها: إذا كان الثوب منسوجًا من حرير وكتان وكانا على السواء؛
فإنه حلال في الأصح.
ومنها: إذا اختلط ملكه بملك غيره وعسر التمييز، كما إذا اختلطت
حمامة واحدة
__________
1 تقدمت هذه القاعدة برمتها قبل قاعدة سد الذرائع.
2 إنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرسلت
كلبك المعلم فاذكر اسم الله تعالى فإن أمسك عليك فأدركته حيا
فاذبحه وإن أدركته قد قتله ولم يأكل منه فكله وإن أكل فلا تأكل
فإنما أمسك على نفسه، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا
تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم
الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت
وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل.
البخاري 1/ 279 في الوضوء حديث "175" وفي 9/ 609 في الذبائح
والصيد حديث "5483" وفي 9/ 610 "5484" "5486" ومسلم 3/ 1531 في
الصيد والذبائح "6/ 1929".
(1/380)
بحماماته؛ فله أن يأكل -بالاجتهاد- واحدة
واحدة حتى تبقى واحدة كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمره.
والذي حكاه الروياني "أنه ليس له أن يأكل واحدة منها حتى يصالح
ذلك الغير أو يقاسمه" هذا لفظ الروضة، والذي أعتقده
أن اختلاط ثم الغير بثمره يطرقه الخلاف في الحمام.
قاعدة: "من جهل حرمة شيء مما يجب فيه الحد أو العقوبة، وفعله،
لم يحد وإن علم الحرمة وجهل الحد والعقوبة، حد، أو عوقب"، ومن
ثم وجب الحد على من شرب الخمر عالما بتحريمها جاهلًا وجوب الحد
دون من شربها يظنها خلا أو يعرفها خمرا ولكن يحسبها حلالًا
-إذا كان مثله ممن يجهل ذلك.
وظهر ضعف سؤال من قال: "كيف لا يخرج الشافعية -في وجوب القصاص
في المثقل- وجهين، إقامة لخلاف أبي حنيفة "رحمه الله" فيه مقام
الشبهات الدارئة للحدود" كما أن لهم وجها أن وطء المرتهن
الجارية المرهونة بإذن الراهن لا يوجب الحد -وإن علم التحريم-
لما روي عن عطاء بن أبي رباح من تجويز إعارة الجواري والوطء
بالإذن".
قال هذا السائل: "فاعتبار خلاف أبي حنيفة أولى من اعتبار خلاف
عطاء".
وهذا سؤال: ساقط، يظهر ضعفه بتأمل لفظ القاعدة؛ فإن هذا الوجه
-على ضعفه- إنما قال: "خلاف عطاء شبهة، لقوله "بالحل لا
بالحرمة -مع سقوط الحد، وهو حق [وإليه أشار أبو سعد الهروي
بقوله في غوامض الحكومات الصحيح من مذهبنا أن الشبهة العاملة
في درء الحد، تنشأ عن قوة تقابل الأدلة، لا عن مجرد اختلاف أهل
العلم" انتهى] 1.
وأبو حنيفة لم يقل بحل القتل بالمثقل، ولا يقول بذلك أحد؛
وإنما قال بسقوط القصاص، فكان القائل بالمثقل عالما بالحرمة
جاهلا بالعقوبة؛ فلا ينفعه جهله بها، بخلاف الجاهل بالحرمة -من
أصلها- ولو أثر الجهل بالحرمة حتى في الضمانات التي أصلها على
أن لا يفرق الحال فيها بين العلم والجهل -فلم يؤثر التعزير
فيها- مع العلم بالتحريم.
__________
1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
(1/381)
قال الأصحاب -في غاصب أمر غيره بإتلاف
المغصوب أو إحراقه ونحوهما؛ ففعله جاهلا بأنه غاصب- "أن المذهب
القطع باستقرار الضمان على المتلف وأنه لا يخرج على القولين في
الأكل من الغاصب؛ لأن ما فعل هذا حرام، بخلاف الأكل، ولا أثر
للتعزير مع التحريم".
وشذ عن القاعدة مسائل:
منها: إذا قتل من يعتقد عدم مكافأته، كحر يقتل عبدا، أو مسلم
يقتل ذميا ثم تقوم البينة بأنه كان قد أعتق، أو أسلم؛ فلا قصاص
عليه -على قول.
ومنها: وطئ جارية ظنها مشتركة بينه وبين غيره؛ فإذا هي غير
مشتركة وقلنا بالصحيح -وهو أنه لا يجب الحد بوطء المشتركة- فهل
يجب الحد هنا؟ تردد فيه الإمام، ورجح النووي وجوبه؛ لأنه علم
التحريم فكان من حقه الامتناع.
ومنها: إذا وطأ الجارية مشتريها بشراء فاسد - لكون الثمن خمرا
أو لاشتمال العقد على شرط فاسد- فلا حد؛ لاختلاف العلماء في
حصول الملك بالبيع الفاسد؛ مع أنه لم يبح أحد الوطء فيه ومن ثم
استشكل الإمام عدم الحد.
ومنها: لو باد أحد ابني المقتول وقتل الجاني بغير الإذن الآخر،
قبل عفوه؛ فالأظهر لا يجب القصاص للشبهة، والأصح أن الشبهة
كونه صاحب حق في المستوفي. وقيل: قول بعض علماء المدينة: "أن
انفراد كل من الورثة جائز"، والقول الثاني: إنه يجب القصاص؛
فعلى هذا يقع الاستثناء، فإن بعض علماء المدينة قال: بالحل كما
عرفت، ثم لم يعتبر خلافه.
ضابط مسائل الخلع:
فإن منها ما يقع الطلاق فيه بالمسمى.
ومنها: ما يقع بمهر المثل.
ومنها: ما يقع رجعيًا.
ومنها: ما لا يقع أصلًا.
قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله: "فالذي يقع الطلاق فيه
بالمسمى أن يكون الصيغة والعوض صحيحين". والذي يقع بمهر المثل:
أن تكون الصيغة صحيحة والفساد في العوض، والذي يقع رجعيًا: هو
الذي يكون الفساد فيه من جهة الصيغة ويكون الطلاق فيه من جهة
الزوج منجزًا.
(1/382)
والذي لا يقع: هو الذي يكون الطلاق فيه
معلقًا ولم يوجد شرطه.
قاعدتان: عزاهما الرافعي -في كتاب الظهار- إلى الأئمة فذكر
أنهم قالوا: "ما يقبل التعليق -من التصرفات- يصح إضافته إلى
بعض محل التصرف" وأخصر من ذلك قول الغزالي في "الوجيز": "ما
يقبل التعليق يكمل مبعضه قالوا: وما لا يقبله لا يصح إضافته
إلى بعض المحل".
فمن مسائل القاعدة الأولى:
الطلاق والعتق:
ومنها: الحج فإن تعليقه بحاضر يصح؛ كقوله: أحرمت كإحرام زيد،
وكذا بمستقبل بأن يقول: إذا أحرم فأنا محرم، أو إذا طلقت الشمس
-على وجه مال الرافعي إلى ترجيحه؛ حيث قال: "وقياس تجويز تعليق
أصل الإحرام بإحرام الغير، تجويزه"؛ ولكن نازعه الشيخ الإمام،
وقال: قوله "أنا محرم كإحرام زيد لا تعليق فيه بحاضر ولا
مستقبل، بل جازم بإحرام بصفة إنما التعليق بالحاضر أن يقول: إن
كان محرما فقد أحرمت، وهو لا يصح".
قلت: وهو حسن، وبتمامه لا تدخل المسألة فيما نحن فيه، إذا لم
يكن لنا حج معلق؛ غير أن الأصحاب يلقبون مسألة -الإحرام بإحرام
زيد- مسألة تعليق الإحرام، وكأنهم يعنون أن المعلق خصوص
الإحرام، لا عمومه فلذلك صح العموم، والذي نقله الشيخ الإمام
رحمه الله عمومه لا خصوصه؛ فلذلك قال: "لو كان تعليقا لما صح"،
وبيان ذلك أن إذا قال: أحرمت بإحرام زيد؛ فهو كما قال الشيخ
الإمام- جازم بأصل الإحرام لكنه -كما قال الأصحاب- معلق، لخصوص
كونه بإحرام زيد، وهو كما فصل علي "كرم الله وجهه"، ولذلك يقول
الأصحاب -فيما إذا لم يكن ذلك الغير محرما أنه ينعقد أصل
الإحرام، وما ذاك إلا لأنه لا تعليق فيه، وبهذا صرح القاضي أبو
الطيب، في "التعليقة"؛ حيث حكى وجهين فيما إذا علق الإحرام
بطلوع الشمس ثم قال: "ويفارق قوله: إحراما كإحرام زيد؛ لأن أصل
الإحرام انعقد في الحال؛ وإنما علق صفة على شرط يوجد في ثاني
الحال، فلم يضره" انتهى.
وإذا تجلى لك ذلك علمت أنه لا إحرام معلق كما حاوله الشيخ
الإمام، بل صفة فيه -كما قررناه- لكن كلام الرافعي صريح في
تسميته تعليقا وسبقه جماعة -منهم
(1/383)
صاحب البحر؛ فسوى بين أنا محرم غدًا أو
أحرمت كإحرام زيد، ثم قال صاحب البحر: "وعلى هذا قال أصحابنا:
لو قال أحرمت يوما أو يومين، صح وانعقد مطلقا كالطلاق، ولو
قال: أحرمت بنصف نسك انعقد كامل كما لو قال: أنت طالق بنصف
طلقة".
ونقل النووي هذا في "شرح المهذب"، وقال: "إن فيه نظرًا، وأنه
ينبغي ألا ينعقد؛ لأن الحج من باب العبادات، والنية الجازمة من
شرطها، بخلاف الطلاق، لبنائه على الغلبة والسراية وقبول
[الأخطار] 1 والتعليق". فإن قلت -معترضا على النووي- لو كان
كما ادعيت من أنه لا بد فيه من نية جازمة، لما قبل التعليق،
وقد قال الأصحاب: بأنه يقبله، وأنت من جملتهم إذا صححت قول
المرء: "أحرمت كإحرام زيد"، وسميته تعليق الإحرام، وبذلك صرح
صاحب التتمة؛ حيث قال: "إذا صح تعليقه بإحرام الغير صح تعليقه
بالشرط كالإطلاق"2.
قلت: لا مخلص عن هذا الاعتراض إلا بما قال الشيخ الإمام من أنه
لا تعليق في قولنا: أحرمت كإحرام زيد وقضية هذا [أن] 3 لا يصح
قوله: أحرمت بنصف نسك- وإليه أشار النووي، وقول الروياني -إنه
يصح- جاز على أصله من أن -أحرمت كإحرام زيد- تعليق، والقاعدة
أن ما قبل التعليق بصح إضافته إلى بعض محله.
قال الأصحاب: ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا مسألة واحدة، وهي:
الإيلاء يقبل التعليق -مع كونه لا يصح إضافته إلى بعض ذلك
المحل إلا الفرج4.
قال القاضي شرف الدين البارزي5: والوصية يصح تعليقها ولا يصح
أن تضاف إلى المحل.
قلت: وثالثة: وهي التدبير يصح تعليقه؛ بل لا يكون إلا كذلك،
ولو قال: دبرت يدك أو رجلك لم يصح -على أحد الوجهين.
وأما القاعدة الثانية: وهي أن ما لا يقبل التعليق لا تصح
إضافته إلى بعض ذلك المحل كالنكاح والرجعة؛ فيستثنى منها
مسائل:
منها: الكفالة لا يصح تعليقها ويصح إضافتها إلى بعض المحل على
الأصح فيهما [وينعكس على وجه] 6 فيما لو اتحد العامل.
__________
1 في "ب" الاحتكار.
2 في "ب" الإطلاق.
3 سقط في "ب".
4 في ب "للفرج".
5 في ب زيادة "وثانية وهي".
6 سقط في "ب".
(1/384)
ومنها: القذف لا يعلق؛ فلو قال: [إذا1]
دخلت الدار فأنت زان لم يكن قاذفا، ولو قال: زنا قبلك أو دبرك
كان قاذفا.
ومنها: تعليق الفسخ غير جائز -ذكروه في نكاح المشرك، ولو اشترى
عبدين فوجد بأحدهما عيبا وقلنا: لا يفرد المعيب بالرد فرده كان
ردا لهما على أحد الوجهين.
ومنها: لا يصح تعليق الرجوع، في التدبير -إن قلنا: يرجع القول
كما جزم به الرافعي، ولو قال: أرجعت في رأسك ففي كونه رجوعًا
في جميعه وجهان في الحاوي.
قاعدة: قال القفال رحمه الله: كل كفارة سببها معصية؛ فهي على
الفور وهذا وإن أطلقه القفال إطلاقا -ففيه خلاف سيحكيه هو
نفسه؛ فإنا سنحكي عنه وجهين:
نقول: إنهما جاريان في كل كفارة وجبت بعدوان، بل ليس هو جاريا
على الصحيح، في كل الصور؛ إذ صريح كلام الرافعي -في موضع من
الظهار أن كفارة الظهار على التراخي والظهار معصية.
وقد يدفع هذا بأن السبب هو العود أو مجموعهما -على الخلاف في
ذلك والعود ليس بحرام غير أن هذا إن اعتذر به عن كفارة الظهار،
فما الاعتذار عن بقية الكفارات؟
وظاهر كلام الرافعي أن الكل على التراخي؛ إذ قال في الموسر لا
يجد الرقبة: "ليس له العدول إلى الصوم في كفارة القتل واليمين
والجماع في نهار رمضان، بل يصبر" قال: "لأن الكفارة على
التراخي" قال "وفي كفارة الظهار وجهان: لتضرره بفوات
الاستمتاع" وللشيخ الإمام الوالد رحمه الله بحث نفيس ذكره في
تفسير سورة2 المجادلة عند ذكر هذه القاعدة.
ومن فروع القاعدة ما قرره الرافعي في كتاب الصداق من أنه "لا
يجوز لولي الصبي أن يعتق عن من ماله في كفارة القتل"؛ فإن ذلك
قد يوجه بأنه لا معصية من الصبي، فلا فورية؛ فلا يعتق الولي،
ويؤيده قول الرافعي -أيضا- في الحج فيما إذا وجبت الفدية على
الصبي، أنه ليس للولي أن يكفر عنه بالمال؛ لأنه غير متعين -على
القول بجواز افتدائه بالصوم- لكن الذي صرح به القاضي الحسين في
[كتاب] 3 الوصية والبندنيجي في الأيمان، واقتضته عبارة الإمام
واقتصر عليه الرافعي والنووي في
__________
1 في "ب" إن.
2 سقط في "أ" المثبت من "ب".
3 سقط من "ب".
(1/385)
باب كفارة القتل أن الولي يعتق عنهما وبذلك
يحصل في جواز تكفير الولي من [مال] 1 الصبي بالعتق خلاف، قال
ابن الرفعة: "قد يجري في المجنون، وقد يقال: لا؛ بل يقطع
بالجواز إذا كان جنونه مطبقا؛ لأنه ليس له غاية تنتظر بخلاف
الصبي "قال": والأشبه إن كان القتل منها في صورة الخطأ منع
الإخراج في الحال، لعدم الفورية، وإن كان في صورة العمد -وقلنا
أنه كان لخطأ- فكذلك، وإن قلنا: كالعمد فيخرج منه خلاف على أن
ذلك يجب على الفور أم لا؟ كما هو مذكور في كتاب الحج".
قلت: حاصل كلام ابن الرفعة أنه إذا كانت الكفارة على التراخي
تمنع الولي من الكفارة في العتق، وهذا فيه نظر [إذ] 2 لا يلزم
من عدمه الفورية وجوب التأخير؛ بل المبادرة -حينئذ- قد يقال:
أنها أولى كما في كل واجب على التراخي، وكما يجوز له أن يوفي
دينه، وإن لم يطالب صاحب الدين بالوفاء، وقلنا: والحالة هذه
-أنه لا يجب إلا بالطلب طلبا لبراءة ذمته؛ فالذي أراه جواز
إعتاق الولي من مال الصبي في الحال -وإن كان في صورة الخطأ.
ومنها: لو أفسد الحج ووجب القضاء؛ فالأصح أنه على الفور، قال
القفال: "والوجهان جاريان في كل كفارة وجبت بعدوان" قال:
والكفارة بلا عدوان على التراخي قطعا....
قاعدة: "لا يجوز للمسلم أن يدفع مالا إلى الكفار المحاربين".
قال الشيخ أبو حامد: "إلا في ثلاث صور".
قلت: وهي أكثر.
منها3: إذا أحاط العدو بالمسلمين، وفيهم ضعف عن مقاومتهم.
ومنها: إذا كان في يد الكفار أسرى من المسلمين؛ فيجوز افتداؤهم
منهم بالمال، قال الروياني: وفي وجوبه وجهان: أصلهما المضطر
إلى الميتة. هل يجوز له الأكل، أو يجب؟
قلت: إن كان محل الوجهين في الآحاد فهو غريب، والمجزوم به -في
الرافعي والروضة وغيرهما- أن فداء الأسير مستحب، وإن كان
الإمام فأغرب وأغرب بل الوجه الجزم بالوجوب، والتخريج على أكل
الميتة ضعيف؛ فإن فوات نفس المضطر -
__________
1 في "أ" مسائل.
2 في "ب" فإن.
3 في "ب" فمنها.
(1/386)
على الإيمان -أسهل في نظر الشرع من بقاء
المؤمن تحت ذل الأسر في أيدي الكفار؛ ولا سيما من يخشى عليه
فتنة الدين.
ومنها: لو قال الأسير للكافر: أطلقني على كذا ففعل، أو قال
الكافر افتد نفسك بكذا ففعل، لزمه ما التزم.
ومنها: إذا جاءت امرأة -من الكفار- مسلمة في زمن الهدنة وكانت
مزوجة فيهم؛ فإن الإمام يغرم مهرها -على قول ضعيف- والصحيح
خلافه.
ومنها: مسألة العلج1؛ فإن قال كافر للإمام: أدلك على قلعة كذا
على أن تعطيني منها كذا؛ فعاقده على ذلك جاز.
قاعدة: ذكرها القاضي الحسين، وتبعه كثير من الخراسانيين منهم
الغزالي في كتاب الكفارات، والرافعي في باب الردة ما يصير
المسلم به كافرا إذا جحده -يصير الكافر به مسلما إذا اعتقده.
قال القاضي: "إلا في مسألة وهي: اليهودي إذا قال: عيسى رسول
الله صلى الله عليه وسلم [فإنا لا نحكم] 2 بإسلامه؛ لأن قومًا
من الكفار -وهم النصارى- يقولون به، والمسلم إذا جحد نبوة
عيسى، كفر.
قلت: وفي مسألة اليهودي قول أنه إذا أقر برسالة عيسى عليه
السلام يجبر على الإسلام؛ لأن المسلم لو جحد رسالته كفر -حكاه
الرافعي عن نقل البغوي، وقد جزم البغوي -قبله- بأن اليهودي لا
يحكم بإسلامه -وإن قال: لا إله إلا الله- حتى يقر بأن محمدا
رسول الله، ونقله عنه الرافعي.
واعلم أن قول النصراني -الذي يعتقد أن رسالة نبينا صلى الله
عليه وسلم خاصة: محمد رسول الله كقول اليهودي: لا إله إلا
الله.
فائدة: من ملك العفو عن القصاص في النفس، ملك العفو عن المال
إلا أن يثبت القصاص دون المال؛ وذلك في مسائل، ولك أن تقول: لا
يثبت قصاص يمتنع الانتقال عنه إلى المال إلا في مسائل حصرها
الجرجاني في أربع [مسائل] 3.
منها: إذا قطع يدي رجل فاقتص منه فيهما ثم سرى القطع إلى
النفس؛ فليس له بعد ذلك إلا القتل، ولا دية له.
__________
1 في "ب" الصلح.
2 في "ب" فإنه لا يحكم.
3 سقط في "ب".
(1/387)
ومنها: إذا كان لرجل عبدان فقتل أحدهما
الآخر، فللسيد أن يقتله، وليس له العفو على مال؛ إذ لا يثبت له
عليه [مال] 1 إلا في الكتابة.
ومنها: قطع يهودي يدي مسلم فاقتص منه فيهما ثم سرت إلى نفس
المسلم؛ فلوليه أن يقتص من اليهودي، وليس له أن يعفو على مال
-على الأصح- لأنه قد أخذ يدي اليهودي بإزاء يديه؛ فلم يبق له
شيء من الدية وكالمسألة الأولى وفي الوجه الآخر له ثلثا الدية؛
لأنه يثبت له دية المسلم، وقد أخذ يدي يهودي، فقيمتهما ثلث
الدية، قيبقى الثلثان.
قلت: هذا الوجه هو الذي صححه الرافعي والنووي.
ومنها: أن تقطع امرأة يدي رجل فيقتص منها فيهما ثم يسري القطع
إلى نفسه، فلوليه أن يقتص منها، وليس له أن يعفو على مال في
الأصح عند الجرجاني "وصحح الرافعي والنووي أن له نصف الدية".
هذا ما استثناه الجرجاني ولا يخفى أنه في الصورة الأولى يثبت
له أن يعفو على الدية؛ ولكنه اختار القصاص، فسقطت الدية، ولم
يعد لما صارت الجناية نفسًا. ويمكن أن يصور2 قصاص ثبت ولا دية
معه بالكلية فيما إذا قطع يدي شخص ثم حز رقبته؛ فحز الرقبة
موجب القصاص دون الدية؛ لأنها ثبتت بقطع اليدين، فلما صارت
الجنابة نفسا سقطت.
ثم اعلم أن وراء ما ذكر الجرجاني صورًا.
منها: إذا قتل المرتد مرتدًا فإن القصاص واجب -على الأصح- وفي
الدية وجهان: أرجحهما -على ما اقتضاه إيراد الرافعي عدم
الوجوب.
ومنها: إذا قتل ذمي مرتدا؛ فالأظهر القصاص وعلى القول بوجوبه
فلا دية على الأصح.
ومنها: العبد المرهون إذا جنى على طرف سيده، فلسيده القصاص،
والصحيح أنه ليس له العفو على مال؛ لأن السيد لا يثبت له على
عبده مال، وقال ابن سريج: "له العفو على المال ويتوصل به إلى
فك الرهن".
وهنا سؤال حسن نتوصل إلى ذكره بذكر مسألة ترشد إليه فتقول: إذا
باع أحد
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" زيادة "قصاص".
(1/388)
الشركاء نصيبه من العقار لأحدهم -كما إذا
كان العقار بين ثلاثة أنفس أثلاث- فباع أحدهم نصيبه من أحد
شريكيه فللآخر أخذ السدس فقط كما لو كان المشترى أجنبيًا هذا
هو الصحيح، وقال ابن سريج: "له أخذ جميع الثلث، لأنا لو جعلنا
للمشتري أن يأخذ بالشفعة كان1 له أن يأخذ من نفسه ملك نفسه.
فإن قلت: كيف قال الأصحاب -هنا- بأن له أن يأخذ من نفسه وقالوا
في الرهن: لا يثبت له دين على عبده، وكيف عكس ابن سريج؟ قلت:
لم يقل الأصحاب -هنا- "إن له أن يأخذ من نفسه"؛ وإنما له دفع
الشريك عن الأخذ عن نفسه؛ لأن الشفعة إنما ثبتت لدفع الضرر،
ولو أخذه الشريك لتضرر، ودفعه الضرر عن نفسه فالأخذ ممكن وهناك
يلزم ثبوت المال له على ملكه، وهو مستحيل، وابن سريج عكس، وهو
على طريقه واضح لأنه يقول -في الشفعة: أنه يلزم منه أن يأخذ من
نفسه -[على] 2 [تصويره] 3 هو فلذلك منع وأما في الجناية؛ فلأنه
لو لم يثبت له ذلك الأذى إلى حصول المحذور وهو فوات حق الجناية
بالكلية، ويقدم المرتهن.
قاعدة: قال الإمام في كتاب الصداق في الكلام على التفويض "ومن
الأقيسة الجلية الكلية في قواعد الشرع أن من تملك إسقاط العوض
بعد ثبوته له، إذا سقط على إتلاف المعوض كان تسليطه عليه
متضمنا إسقاط العوض".
ولذلك نقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتله، فقتله، لم يلزم
القاتل للمالك -الآذن- عوضًا، وكذلك إذا قال للجاني اقطع يدي،
فإذا قطعها، لم يلزم عوضًا.
ذكرها توجيها لقول القاضي: إن المفوضة إذا قالت لزوجها: طأني
ولا مهر عليك، أنه لا يمتنع أن نقول: إذا وطئها لا يجب المهر
"قال: وخرج القاضي -هذا- على قول الشافعي فيما إذا قال [الراهن
للمرتهن] 4 أذنت لك في جماع هذه الجارية المرهونة، فواقعها
ظانا الحل، فلا مهر".
قلت: وليقع النظر -هنا- في مسائل.
منها: ذهب الإمام فيما إذا خفر الغاصب بئرًا ومنعه المالك من
طمها أن منعه ليس رضا بها، وخالفه المتولي. وهي قضية هذه
القاعدة.
__________
1 في ب "لكان".
2 في ب زيادة "على ما".
3 في "ب" يصوره.
4 في ب "تقديم وتأخير".
(1/389)
ومنها: لو أذن أحد الشريكين للآخر في وطء
الجارية المشتركة، لم يمتنع المهر- مع أنه سلطه على إتلاف
المعوض.
قلت: هذه تستثنى من القاعدة -مع ما فيها من أن المأذون فيه ليس
محض حق الإذن.
قاعدة:
"الاعتبار في تصرفات الكفار باعتقادنا لا باعتقادهم".
خلافا لمالك رحمه الله وبعض أصحابنا -كما تدل عليه فروعهم،
وجزم الوالد رحمه الله- في كتاب كشف الغمة بالأول، وقال: [لا]
1 يثبت لنا قط في مسألة من المسائل -أن اعتقادهم يؤثر في حل
ولا حرمة ولا ملك ولا عدم ملك "قال": وقد نص الشافعي والأصحاب
[رضي الله عنهم] 2- على الكتابي لو ذبح حيوانًا يرى تحريمه
-كالإبل- ونحن نرى حله، جاز لنا أكله؛ خلافا لمالك: "قال":
وهذا مما يدل على أنه لا اعتبار باعتقاده أصلا قال: وتردد
العلماء في أن ذلك يكون حراما عليهم -لا بشرعهم- بل يكونهم لم
يؤمنوا، أو لا يكون [حراما] 3 عليهم؛ لأنه قد نسخ قال: وكلام
الشافعي [رضي الله عنه] 4 يقتضي الثاني، وأطال الشيخ الإمام في
تقرير القاعدة. وعلى القاعدة يتخرج مسائل:
منها: إذا أتانا الذمي بما نتيقن أنه من ثمن خمر عن الجزية،
قال مالك رحمه الله: يؤخذ، وقال أصحابنا: لا يؤخذ، وحكوا وجهين
فيما إذا كان لمسلم على ذمي دين؛ فباع الذمي خمرا بحضرته، وقبض
ثمنها ودفعه إلى المسلم عن دينه، هل يجبر على قبوله؟ أصحهما
عند المشايخ الثلاثة -الرافعي والنووي والوالد "رحمهم الله"
-أنه لا يجبر؛ بل لا يجوز له القبول، [قال الوالد رحمه الله
ورأيته منصوصًا في "الأم"] 5 قال: وقطع به الغزالي وجعل محل
الوجهين إذا قال: إنها من ثمن خمر؛ لأنه قد يكذب "قال الشيخ
الإمام والصواب إثبات الوجهين"، ثم جعل الشيخ الإمام الوجهين
خلافًا في أنه هل تملك تلك الدراهم، وقال: "الأصح أن ثمن خمر
لا يملك ولا يجوز قبوله، وينبغي إجراء الوجهين في الذمي يحضر
ثمن الخمر عن الجزية".
ومنها: إذا ذبح الكافر حيوانا وفتش كبده [فوجده] 6 ممنوا، أي
ملصوق الكبد
__________
1 في ب "لم".
2 سقط في "ب".
3 في ب "محرما".
4 سقط في "ب".
5 سقط في ب.
6 في ب "فوجد".
(1/390)
بالأضلاع. قال مالك: يحرم لكونه حراما
عندهم، وقال أصحابنا: لا يحرم.
ومنها: لو غصب ذمي ذمية واتخذها زوجة -وهم يعتقدون غصبها
نكاحًا- لم يقر؛ لأن على الإمام دفع قهر بعضهم بعضا، بخلاف
الحربي والمستأمن، فإن الصحيح التقرير؛ إذ ليس فيه إلا إقامة
الفعل مقام القول، بأشبه سائر وجوه الفساد.
وقال القفال: "لا يقر؛ إذ لا عقد" وقول القفال -هذا- أقرب إلى
هذه القاعدة.
ومنها: لا فرق عندنا -في حل ذبائح أهل الكتاب- بين ما اعتقدوا
إباحته كالبقر والغنم أو تحريمه كالإبل، خلافًا لمالك رحمه
الله.
وقد قدمنا للمسألة ولا بين من يعتقد من اليهود أن عزيرًا ابن
الله ومن النصارى أن المسيح ابن الله أو لا كما قال الأكثرون
من أصحابنا فيما نقل الماوردي، وحكى وجهًا آخر -أنه لا تحل
ذبائحهم قال: "وهو الأظهر عندي، وبه أقول؛ لأن هؤلاء كالمرتدين
فيما بين اليهود والنصارى وليس هذا من أصل دينهم الحق".
ويستثنى من القاعدة مسائل:
منها: نكح مشركة مفوضة، وهم يعتقدون أن لا مهر للمفوضة بحال ثم
أسلما فلا مهر -وإن كان إسلامها قبل الدخول؛ لأنه استحق وطا
بلا مهر.
قاعدة:
المماثلة في القصاص مرعية بمعنى أن من قتل بفعل من الأفعال؛
فولي الدم بالخيار بين أن يستوفي بالسيف أو بمثل فعله وهذه
قاعدة بالغ أصحابنا في المحافظة عليها؛ بحيث انتهوا إلى أن
قالوا إنا إذا قلنا يستوفي القصاص في الجائفة؛ فلو قال أجيفة
ثم أعفو عنه إن لم يمت لم يمكن؛ وإنما يمكن إذا قال أجفته ثم
أحز رقبته، وهذا مشهور في المذهب رأيت الشافعي رضي الله عنه
عليه في الأم ففيها قبل ولاة القصاص ما نصه قال الشافعي: رضي
الله عنه، ولوكانت المسألة بحالها فجرحه جائفة مع قطع يديه
ورجليه؛ فمات فقال ورثته فجرحه جائفة ولا نقتله لم يتركوا؛
وذلك أنهم إنما يتركون إذا قالوا نقتله بما يقاد منه في
[الجناية] 1. أما ما لا يقاد فلا يتركون وإياه انتهى.
وكذلك هو في مختصر المزني قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أجافه
أو قطع ذراعه فمات كان لوليه أن يفعل مثل ذلك على أن يقتله.
وأما على أن لا يقتله فلا يترك وإياه انتهى وأنت إذا وقفت
__________
1 سقط في "ب".
(1/391)
على هذين النصين وتصفحت كتب الأصحاب
وتعاليق المشايخ، ثم رأيت الرافعي قد اقتصر على عزو المسألة
إلى تهذيب البغوي قضيت العجب من ذلك.
وإذا عرفت هذا فيستثنى من القاعدة مسائل ضابطها أن تؤدي
المماثلة إلى محذور شرعي.
منها: القتل باللواط الأصح يستوفي بالسيف لا بخشبة [تشبه] 1
الذكر.
ومنها: الخمر كذلك.
ومنها: السحر.
ومنها: البول.
ومنها: إذا قتله بسيف مسموم بقيت ويمنع من الغسل والدفن؛ ففي
القصاص بمثله احتمال وجهين للماوردي.
ومنها: إذا شهد أربعة على محصن بالزنا فرجم، ثم رجعوا أو واحد
منهم؛ فهل يرجم الراجع أو يتعين السيف أو رجمه فيه وجهان؛
حكاهما القاضي الحسين في باب حد الزنا.
ومنها: إذا ذبح كالبهائم فهل يفعل به مثل ذلك ذكرت في كتابي
التوشيخ أن الماوردي في الحاوي وغيره اقتضى إطلاقهم عدم ذلك
لما فيه من هتك الحرمة، وأنه محمول [عندي] 2 على ما إذا لم يكن
الجاني قد فعل ذلك. أما إذا فعله فالمماثلة جائزة، وأقول الآن
يحتمل تخريج وجهين في ذلك فيما إذا قتله بمسموم ويمنع من الغسل
والدفن لمعارضة حق الله تعالى؛ فإن هتك الحرمة حق الله وقد نهى
الشرع عن المثلة لذلك.
قاعدة:
من لا مدخل له في الجناية لا [مطالب] 3 بجناية جانيها إلا في
فرعين لا أحفظ لهما ثالثًا.
أحدهما: العاقلة في ضمان الدية؛ غير أن الدعوى بالدية الواجبة
عليهم تكون على الجاني لا عليهم ثم هم مطالبون بعد ثبوتها على
الجاني كذا رأيته مصرحًا به في كتاب أدب القضاء لابن القاص في
باب صفة اليمين على البت وهو مقتضى قول الرافعي في أثناء النظر
الثاني في القسامة من باب دعوى الدم؛ حيث قال: وإذا أقسم السيد
فإن كانت الدعوى على حر أخذ الدية من ماله في الحال إن ادعى
العمد المحض وإن ادعى الخطأ
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" عندي محمول.
3 في "ب" يطالب.
(1/392)
أو شبه العمد أخذها من عاقتله في ثلاث
سنين. انتهى.
فجعل الدعوى على الجاني والمطالبة مختلفة؛ فإن قلت: قد قال
الرافعي بعد ذلك بنحو ورقتين مطلق القتل لا يفيد مطالبة
القاتل؛ بل لا بد من ثبوت العمدية ولا مطالبة العاقلة بل لا بد
من ثبوت كونه خطأ أو شبه عمد.
قلت: كلامه هذا في المطالبة بالواجب ليستوفي منه وهناك في
المدعى عليه ويشبه أن يخرج مسألة الدعوى على أن الدية تجب على
الجاني ابتداء ثم تحملها العاقلة أوعلى العاقلة ابتداء وفي ذلك
وجهان.
قال الرافعي: ويقال قولان.
قلت: وإنما جعلهما الرافعي وجهين لما حكاه عن الإمام من قوله
ليس تردد القول مأخوذًا من نص صاحب المذهب؛ ولكنه مستقي من
تصاريف كلامه في التفريعات، قال الإمام في النهاية ونظيره
كثير؛ فإن النقل تارة لفظا وتارة من جهة المعنى والاستنباط
انتهى.
وقال ابن الرفعة: بل هما منصوصان في الأم ثم قال الإمام، وقد
قدمنا مثل هذا التردد في زكاة الفطر إذا أداها الغير عن الغير
وأشرنا إلى قريب منه في كفارة الوقاع في نهار رمضان تفريعًا
على أجد القولين.
قلت: وفي تفاريع حلق الحلال رأس المحرم تردد في مثل ذلك الفرع
الثاني على قول هو الحلال أو الحرام يحلق رأس المحرم والمحلوق
نائم أو مغمي عليه أو مكره؛ فأصح القولين أن الفدية على الحالق
والثاني على المحلوق؛ لأنه المرتفق به وعلى هذا فقد طولب
بجناية ما لا مدخل له فيها.
أما الصبي المحرم بإذن الولي إذا قتل صيدا فإن الضمان على
الولي في الأصح؛ ولكن ذلك لأن الولي مدخلا حيث أذن ولو صح
إيراد هذه الصورة لكان أولى منها السيد بأمره عبده [الأعجمي] 1
بقتل شخص والعبد يجني في يد سيده حيث يطالب سيده
__________
1 في "ب" الأعمى.
(1/393)
بأحد الأمرين من الفداء أو تسليمه في
الجناية والمكره يكره إنسانًا على القتل ومسائل المتسبب مع
المباشر كلها.
قاعدة:
قال الجرجاني كل قتل مضمون بأخذ ديته مضمون بالكفارة وكل قتل
غير مضمون لا [يؤخذ] 1.
قاعدة:
ذكرها الرافعي في الجراح في مسألة المبادرة، وفي باب حد الزنا
أيضا:
كل جهة صححها بعض العلماء وحكم بحل الوطء بها؛ فالظاهر أنه لا
حد على الواطيء بتلك الجهة، وإن كان لا يعتقد الحل.
وهذه القاعدة ذكرها الإمام أيضا في النهاية في فصل جمع فيه
تفاصيل المذهب في الشبهات المؤثرة في دفع الحدود؛ فقال ما نصه:
القاعدة المعتمدة في المذهب أن كل جهة صار إلى تصحيحها والحكم
بإفضائها إلى الإباحة صائر من أئمة الشريعة؛ فإذا حصل الوطء
بها فالمذهب انتفاء الحد وإن كان المقدم عليها لا يرى استحلال
الوطء بتلك الجهة انتهى.
وقد أورد الرافعي في باب الزنا أن المذهب وجوب الحد على
المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونة بإذن الراهن [وقد] 2 يعتقد
التحريم والمحكي عن عطاء في هذه الصورة الإباحة.
قال الرافعي فقياس هذه القاعدة أن يجعل خلافه شبهة دارئة للحد
[وكأنهم يصححوا] 3 النقل عنه، وإن قيل انعقد الإجماع بعده؛
فهذا قد ذكر مثله في نكاح المتعة فيلزم أن يحكم بوجوب الحد
انتهى ملخصًا.
وقد ذكر ابن الرفعة في الكفاية والشيخ الإمام في باب الرهن من
شرح المهذب أن النقل لم يصرح عن عطاء زاد الشيخ الإمام، ولو صح
فليس بشبهة لضعفه، قال: والحد لا يدرأ بالمذهب؛ وإنما يدرأ بما
يتمسك به أهل المذاهب من الأدلة وليس لعطاء متمسك انتهى.
قلت: وهو حق وإن كان ظاهره يخدش في القاعدة؛ إذ يقال ليس كل
جهة حللها بعض العلماء بشبهة بل كل جهة كان لمستند القائل
بحلها بعض القوة، وهذا هو
__________
1 في "ب" يوجد.
2 في "ب" وهو.
3 في "ب" لم يصححوا.
(1/394)
الصواب فالمأخذ الضعيف لا يلتفت إليه، وقد
سبق الإمام رحمه الله في النهاية الشيخ الإمام إلى هذا؛ فقال
بعد أن ذكر ما نقلناه عنه في هذه القاعدة وبعد أن حكى قولًا
للشافعي أن الوطء في المتعة ممن لا يستحله يوجب الحد.
وقال: إنه قريب من [القديم] 1 في الأملاك المقترنة بالأساليب
المحرمة ما نصه والتثريب عندنا أن كل عقد ليس فساده من
المظنونات، وإن عزي إلى بعض الأئمة؛ فيجري هذا القول فيه ونكاح
المتعة منه؛ فإن الذي استمر عليه مذاهب علماء الأمة أن نكاح
المتعة أبيح، ثم نسخ، وقد قيل رجع ابن عباس عما ينسب إليه من
إباحته وكل عقد لا يمكن القطع بفساده ويلحق الكلام فيه
بالمظنونات؛ فهو شبهة لدرء الحد كمذهب أبي حنيفة في نكاح بلا
ولي، ومذهب مالك في انعقاده بغير شهود ولا يجري القول الذي
ذكرناه في هذا الصنف انتهى.
وحاصله أن المخالف في أمر مظنون يعتبر مخالفته والمخالف في أمر
مقطوع أو مقارب للقطع لا يعتبر خلافه، وينبغي أن يكون الضابط
ما ينقض فيه قضاء القاضي؛ فكل ما لا ينقض يكون عذرًا، وكل ما
ينقض لا يكون عذرًا، وأما قول الرافعي إنه قيل: انعفد الإجماع
بعد عطاء؛ فقد قيل مثله في نكاح المتعة بن ابن عباس؛ فأنى
يستويان وعطاء لم يثبت النقل عنه وابن عباس ثبت عنه؛ ولكن قيل
رجع والأصل عدم رجوعه فاعتبار خلافه مستمر على الأصل.
وأما عطاء فالأخذ بقوله أخذ بما لم يثبت، ودل الاتفاق بعده على
عدمه فتأمل ذلك، فيه يندفع كلام الرافعي، وأيضًا فمتمسك ابن
عباس على الجملة أقوى من متمسك عطاء أو أقل ضعفًا؛ فلا يلزم من
عدم اعتبار الأضعف عدم اعتبار الضعيف، وهذا مستمد من قول الشيخ
الإمام الحد لا يدرأ بالمذاهب إلى آخره. ومن مسائل القاعدة.
إذا نكح مجوسية أو وثنية قال البغوي: وجب الحد، وقال الروياني
في جمع الجوامع: [ومودع البدائع] 2 لا حد فإن في نكاحها خلاف.
قال الرافعي: وهذا هو القياس إذا تحقق الخلاف قال ابن الرفعة:
وكأنه فهم أن ما أشار إليه الروياني من الخلاف بين الأئمة لا
بين أصحابنا، وليس الأمر كذلك؛ لأن بعض أصحابنا جوز نكاح
المجوسية.
__________
1 في "ب" المنقول القديم.
2 سقط في "ب".
(1/395)
قلت: ما أدري من أين له أن الرافعي فهم أن
الخلاف بين الأئمة [لا بين أصحابنا] 1، وليس في الكلام ما يرشد
إليه، وكأن ابن الرفعة استبعد أن يكون الرافعي فهم أن الخلاف
بين أصحابنا، ثم يقال معه بوجوب الحد؛ فإن الخلاف المذهبي أقوى
من الخلاف غير المذهبي، وهذا غير لازم؛ بل قد يكون خلاف مذهبي
في غاية السقوط والأقوال الشاذة، قد تكون في المذهب كما قد
تكون خارجة، وممن ذهب إلى أن للحاكم أن يزوج الحرة المجوسية من
أصحابنا القدماء الإمام أبو بكر الفارسي صاحب عيون المسائل؛
نقله أو عاصم العبادي في الطبقات.
قاعدة:
من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة عزر، كذا قال صاحب التنبيه
وتبعه الرافعي والنووي وغيرهما، ولم يشترط الماوردي والغزالي
ابتغاء الكفارة وتبعهما صاحب التعجيز.
وقد اشتملت هذه القاعدة على ثلاث دعاوى؛ إحداها تعزير ذي
المعصية التي لا حد فيها ولا كفارة، ويستثنى من ذلك مسائل:
منها: ما لا يفيد فيه إلا الضرب المبرح على ما حكاه الإمام عن
المحققين؛ قال: لأن الضرب بالمبرح مهلك فلا سبيل إليه وغيره لا
يفيد؛ فلا يفعل وجرى في الروضة على هذا، وحذف بحثا للرافعي
صحيحًا أرى أنه عمدة المذهب، وهو أنه يشبه أن يضرب ضربًا غير
مبرح إقامة لضرورة الواجب وإن لم يفد.
قلت: ويشابه قول المحققين ما نقله الرافعي عن الإمام فيمن قتل
نحيفًا بضربات تقتل مثله غالبًا وتيقنًا أو ظنا ظنًا مؤكدًا أن
الجاني في جسمه وقوته لا يهلك بتلك الضربات أن الوجه القطع
بأنه لا يضرب تلك الضربات؛ لأنها لا تقتله وإنما يراعي
المماثلة إذا توقعنا حصول الاقتصاص بذلك الطريق فيعدل إلى
السيف هنا ابتداء، وكذلك يشابهه ما قال صاحب التتمة من أن موضع
الخلاف في أنا هل ابتداء استعمال خشبة فيمن قتل باللواط فيما
إذا كان موته متوقعًا من المقابلة بمثل ما فعل. أما إذا لم
نتوقع وكان موت المجني عليه لطفولية ونحوها فلا معنى للمقابلة.
ومنها: قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: إن الأولياء
لا يعزرون على الصغائر بل تقال عثراتهم وتستر زلاتهم.
__________
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
(1/396)
ومنها: وهو يشهد لما قاله ابن عبد السلام
ما رأيته في الشامل لابن الصباغ في باب جامع السير فيما إذا
كتب بعض المسلمين إلى المشركين بخبر الإمام أن الشافعي رضي
الله عنه، قال: إن كان فاعل هذا من ذوي الهيئات عذر ولم يعزر
لحديث حاطب بن أبي بلتعة.
منها: حكى ابن الرفعة وجهًا أن قاذف ولده لا يعزر.
ومنها: من وطئ امرأته في دبرها؛ فإنه لا يعزر في أول مرة؛ فإن
عاد عزر نص عليه الشافعي رضي الله عنه وذكره صاحب التهذيب
والروياني.
ومنها: قال القاضي أبو حامد المروزي فيمن دخل من أهل القوة
الحمى الذي حماه الإمام؛ فرعى ما شيته أنه لا يعزر مع كونه
عاصيًا.
ومنها: على وجه إذا وطئ السيد المكاتبة لا يعزر وإن علم
التحريم.
ومنها: ما أطلقوا أن الزكاة يجب دفعها إلى الإمام الجائر بعد
طلبه بلا خلاف، وإنه إذا غلها من الجائر لم يعزر؛
فيجمع من الإطلاقين أنه يعزر على هذه المعصية؛ لكن الوالد رحمه
الله يقول: إن أوجبنا الدفع بعد الطلب فغلها ينبغي أن يعزر.
الدعوى الثانية: أن متى كان في المعصية حد أو كفارة ينتفي
التعزير، وهذه تستثنى منها مسائل:
منها: من أتى بهيمة في رمضان؛ فإنه يجب عليه مع القضاء العقوبة
والكفارة؛ ذكره صاحب التهذيب والعقوبة هي التعزير؛ لأن الصحيح
أنه لا حد على واطئ البهيمة.
ومنها: الجماع في نهار رمضان؛ فإن فيه مع الكفارة التعزير، قال
ابن يونس في شرح التعجيز وعبارته يعزر المفطر ولو المفكر.
انتهى.
وأرى أنه أخذه مما حكيناه عن صاحب التهذيب.
ومنها: اليمين الغموس يجب فيها التعزير في الكفارة؛ قاله شيخ
الإسلام: عز الدين ابن عبد السلام في القواعد، والشيخ تقي
الدين ابن الصلاح في فتاويه، قال ابن عبد السلام: لجرأته على
ربه والكفارة لمخالفة موجب اليمين، وإن كان مباحًا أو مندوبًا.
قلت: فالاستثناء حاصل بكل حال.
منها: قال ابن عبد السلام أيضا من زنا بأمة في جوف الكعبة وهو
صائم معتكف
(1/397)
محرم أثم1، ولزمه العتق والبدنة والحد
للزنا والتعزير لقطع الرحم وانتهاك حرمة الكعبة.
ومنها: قال ابن الصباغ في أوائل الجراح كل مكان قلنا لا يجب
فيه القصاص؛ فإن القائل يعزر ويلزمه البدل والكفارة.
ومنها: قال الفوراني بقطع يد السارق ويعزر أيضًا قال مجلي في
الذخائر؛ فإن أراد بالتعزير تعليق يده في عنقه فحسن أو غيره
فمنفرد به.
قلت: وإن أراد تعليق اليد فقد يقال هو تتمة الحد لا تعزير كما
هو وجه في حسم اليد المقطوعة بالزيت المغلي.
ومنها: قال ابن داود في شرح المختصر إذا قتل الرجل من زنا
يأهله في الحالة التي هو فيها زان لم يعزر، وإن اقتات على
الإمام بل يعزر لأن الغيظ والحمية حمله عليه.
قلت: ونقل الخطابي في معالم السنن أن الشافعي رضي الله عنه نص
على أنه يحل له قتله والحالة هذه فيما بينه وبين الله تعالى،
وإن كان يقاد به في الحكم؛ فعلى هذا استثناء [غير الأول] 2.
ومنها: [غير ما تقدم] 3 والكلام فيه كالكلام في هذه الصورة إذا
استوفى ولي الدم القصاص بغير إذن الإمام لم يعزر على وجه قال
ابن الرفعة لعل مأخذه تجويز الاستبداد.
قلت: وقد ثبت في التوشيح أن الأمر كذلك فلا استثناء.
ومنها: الزيادة على أربعن في الخمر إلى ثمانين تعزير على
الصحيح والأربعون حد فاجتمعا.
ومنها: نص الشافعي رضي الله عنه كما حكاه ابن الرفعة في حواشي
الكفاية أن الأب يجب عليه بقتل ابنه الدية والكفارة والعقوبة.
قلت: وإليه أشار ابن الصباغ بقوله الذي حكيناه عنه إن كل مكان
لا يجب فيه القصاص يعزر القاتل ويلزمه البدل والكفارة.
تنبيه: عرفناك أن الماوردي والغزالي لم يذكرا الكفارة وعبارة
المارودي التعزير تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود وقريب
منها عبارة الغزالي في البسيط فلا يرد
__________
1 في "أ" "ب" أثم سنة وستة أيام.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
(1/398)
عليهما ما أوردناه على غيرهما من الصور
التي اجتمع فيها التعزير والكفارة ثم من ذكر الكفارة لا أدري
هل يقتصر القول عليها أو يعمم كل غرم؛ فيقول لا تعزير مع الغرم
كفارة كان أو غيرها.
هذا هو الأظهر فيما أفهمه ويرد حينئذ أيضًا مع ما قدمناه من
أفطر عاصيًا في رمضان بغير الجماع؛ فإن عليه مع القضاء
والتعزير الفدية على أصح الوجهين؛ كذا قال البغوي في التهذيب
قال: لأنها لما وجبت على المرضعة مع كونها معذورة فإنه يجب على
غير المعذور أولى انتهى.
والصحيح عند الرافعي والنووي والوالد رحمهم الله أن الفدية لا
تجب؛ فلا إيراد إلا على ما صحيح البغوي؛ فإنه جمع بين الفدية
والتعزير ولكن الفدية غير الكفارة.
قاعدة:
قال بعض أصحابنا من يحد [بقذف] 1 الغير يقتل بقتله ومن لا فلا.
قاعدة:
فيما جمع من فتاوى القفال وغيره أن سقوط حد القذف عن القاذف
وعدم حد الزنا على المقذوف لا يجتمعان إلا في مسألتين.
إحداهما: إذا أقام القاذف بينة على زنا المقذوفة وأقامت هي
بينة أنها عذراء.
والثانية إذا أقام شاهدين على إقرار المقذوف بالزنا، وقلنا
الإقرار بالزنا لا يثبت بشاهدين؛ ففي سقوط الحد عن القاذف
[وجهين] 2 والظاهر سقوطه قال الرافعي: وكان المراد ما سوى صورة
التلا عن؛ فإن الزوجين إذا تلاعنا اندفع الحدان.
ولو أقام البينة على إقرار المقذوف بالزنا سقط عنه الحد؛ فلو
رجع المقذوف عن الإقرار سقط عنه حد الزنا ولا يقبل رجوعه في حق
القاذف، ولا يلزم وهذه مسألة أخرى اجتمع فيها سقوط حد القذف عن
القاذف وعدم الحد على المقذوف.
قال النووي مراد القفال لا يسقط حد القذف. [عن القاذف وعدم
الحد على المقذوف] 3 مع أنه لا يحكم بوجوب حد الزنا إلا في
المسألتين؛ فلا يراد عليه الأخيرتان؛ لأنه وجب فيهما حد الزنا
ثم سقط بلعانهما أو بالرجوع، ولهذا قال وعدم حد الزنا على
المقذوف ولم يقل وسقوط حد الزنا، كما قال وسقوط حد القذف؛
فالحاصل أنه لا يسقط حد القذف ويمتنع حد الزنا إلا في مسألتين
ولا يسقط حد القذف وحد الزنا إلا في أربع.
__________
1 في "ب" تقتل.
2 في "ب" وجهان.
3 سقط في "ب".
(1/399)
والمراد السقوط يحكم الشرع لا بعفوه ونحوه
قلت: وقد دقق النووي في جوابه إلا أن لمعترض أن يقول الصورة
الأولى من صورتي القفال وجب فيها حد الزنا ثم سقط؛ فهي وزان
صورتي الرافعي ثم بتقدير أن مراده ما ذكره النووي؛ فرد ما إذا
قذفه وطالبه المقذوف بالحد فادعى أن المقذوف زنا وطلب يمينه،
وقلنا بالصحيح أن يحلف فنكل فحلف القاذف؛ فإنه يسقط حد القذف
ولا يجب حد الزنا على المقذوف، ولذا لو قذف من لا وارث له على
قول. ولك أن تقول للرافعي لم اقتصرت على ما ذكرت من الصورتين
مع وجدان ما ذكر فيما إذا شهد عليه أربعة بالزنا؛ ولكنهم فسقه
بفسق مجتهد فيه وكذا المقطوع به على الأصح عند صاحب العدة،
وكذا لو ارتد المقذوف أو سرق بعد القذف على خلاف فيهما وغير
ذلك.
قاعدة:
قال بعض أصحابنا كل وطء يعصي الله تعالى به يبطل الحصانة وما
لا فلا وحكاه القاضي الحسين طريقة في المذهب؛ ولكنه منقوض
بصور.
منها: لو كان المقذوف مفعولًا به في دبره لم تبطل حصانته على
ما حكاه الرافعي عن التهذيب؛ ولكن ذكر أنه أعني صاحب التهذيب
رأى أنه يبطل به لوجوب الحد عليه. قلت: وقد حكى القاضي الحسين
في باب الشهادة على الحدود وجهين في ذلك.
قاعدة:
من وجب عليه القصاص في النفس إذا فات لموت وله تركة انتقل جميع
الدية إلى تركته.
قال الجرجاني: إلا في مسألتين. لا يجب في إحداهما شيء، ويجب في
الأخرى نصف الدية؛ فأما الأولى فهي إذا قطع يدي رجل فسرى إلى
النفس فقطعه [ولي المقتول ولم يمت فإن] 1 له قتله، وإن مات فلا
شيء في تركته؛ لأنه لما مات فإن المحل ثبت له دية واحدة، وقد
أخذ يدين بقيمتهما.
والثانية إذا قطع يد رجل؛ فاقتص منه فسرى القطع إلى نفس
المقطوع أولًا، ثم سرى إلى نفس الجاني؛ فإنه لو كان باقيًا
لكان يقتص منه وقد ثبت في [تركته] 2 نصف الدية؛ لأنه قد استوفى
منه يدا بقيمة نصف الدية.
فائدة:
كل ولي القصاص إذا عفا وثبت له المال كان المال له دون غيره.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "أ" يده.
(1/400)
قال الجرجاني إلا في مسألة واحدة.
وهي أن يجني رجل على عبد ويعتق العبد بعد الجناية، ثم تسري إلى
نفسه وأرش الجناية مثل دية حر أو أكثر؛ فإن ولي العبد بالخيار
بين أن يقتص أو يعفو وإذا اختار المال كان لسيده دونه؛ لأن
الجناية وجدت في ملكه ووجب الأرش حال الجناية، ثم لما سرت إلى
النفس، وكان له من الأرش مثل دية النفس لم يجب على القاتل أكثر
من دية واحدة؛ فكان ذلك للسيد.
فائدة:
كسر العظم موجب الحكومة قال الجرجاني في المعاياة والروياني في
الفروق إلا في ثلاث مسائل؛ فإنه يجب فيها أرش [مقدار] 1 مقدر.
أحدها: كسر الترقوة أو الضلع؛ فإنه يجب فيه جمل على قول.
والثانية كسر ظاهر السن دون سنخة ففيه خمس من الإبل والثالثة
من هشم ولم يوضح؛ فعليه عشر من الإبل على أحد الوجهين؛ لأن دية
الهاشمة إنما زيدت على دية الموضحة للهشم، وقد وجد فيه مثل
هذين الوجهين والذي أعتقد أن لفظ عشر من الإبل وفي الوجه
الثاني تجب الحكومة.
قلت: وجه الحكومة معروف ووجه عشر من الإبل. [لا أعرفه والصحيح
المنصوص أن في الهاشمة بلا إيضاح خمسا من الإبل] 2؛ وإنما
القول فيما3 إذا نقل العظم من غير إيضاح؛ فالواجب الحكومة أو
عشر من الإبل في كتاب المعاياة والفروق غلط من الناسخ صوابه
خمس والكلام يستقيم معه.
فائدة:
لا يجب قذف الزوجة إلا في مسألة واحدة إذا ولدت ولدا اعتقده من
الزنا.
قاعدة:
فيما ينقض فيه قضاء القاضي وما لا ينقض، وقد تكلم فيها
الأصوليون والفقهاء بما لا نطيل شرحه وحلول الإمام في النهاية
ضبطه بضابط غير معروف تفاصيله في غاية العسر؛ فقال: كل مسألة
يتعلق القول فيها بالقطع؛ فمن حاد عن مدرك الصواب نقض عليه
حكمه، وكل مسألة لا مستند لها من قاطع؛ فإذا جرى حكم الحاكم
فيها بمذهب وهو في محل التحري ومساق الظن؛ فلا نقض قال: ثم
حقيقة القول في هذا يستدعي الإحاطة بمدارك القطع ولا مطمع في
الخوض فيها إلا على قدر الحاجة. وذكر ما لا
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" وإنما القول بالعشر.
(1/401)
تطيل به ونقتصر على كلام نفيس تلقفناه من
أنفاس ذلك الحبر العالم الشيخ الإمام رضي الله عن وأرضاه،
وجمعنا في الجنة وإياه على موائد فضله بمحضر من نبيه صلى الله
عليه وسلم ومرأى ومسمع، وقد ذكرناه1 في شرح المنهاج البيضاوي؛
وحاصله أن العلم بعد الحكم بمقارنة ما يقطع بتقديمه على مستند
الحكم موجب لنقضه والعلم بمقارنة ما يظن تقديمه فيه وجهان:
ومقارنة ما يمنع الحكم بالشيء ومقابلة يوجب التوقف فيه للشيخ
الإمام رحمه الله فيه احتمالان، وبيان هذا القول أن الحاكم إذا
حكم، ثم انقدح له ما لو كان مقارنا لمنع الحكم؛ فهو على أقسام
أحدها أن يكون أمرًا متجددًا لم يكن حالة الحكم مثاله أن يباع
مال يتيم بقيمته لحاجة ويحكم بصحة البيع، ثم تغلوا فترتفع
قيمته فلا اعتبار لهذا؛ لأن الشرط البيع بالقيمة ذلك الوقت لا
بعده. قلت: فما قولكم فيمن أجر على يتيم أو آخر وقفًا بمقتضى
قيمته في الحالة الراهنة وحكم بها الحاكم، ثم ارتفعت في أثناء
المدة هل ينقض وينفسخ، وإن قلتم بذلك فقد نقضتم بأمر متجدد؛
وذلك هو مقتضى فتيا ابن الصلاح فيمن استأجر شابًا بأجره مثله،
ثم تغيرت الأحوال وطرأت أسباب توجب زيادة أجرة المثل أنه يتبين
بطلان العقد.
قلت: الصواب أنه لا ينقض، وقد أفتى النووي بخلاف ما أفتى به
ابن الصلاح وكلامه في المنهاج صريح في ذلك؛ حيث قال: وإذا أجر
الناظر فزادت الأجرة في المدة وأظهر طالب الزيادة لم يفسخ
العقد في الأصح.
فإن قلت: قد استدل ابن الصلاح بأن الشاهد لم يصب في شهادته؛
لأن تقويم المنافع في مدة ممتدة إنما يصح إذا استمرت الحال
الموجودة حالة التقويم. أما إذا لم يستمر فيتبين أن المقوم لها
لم يطابق تقويمه المقوم قال وليس هذا التقويم السلع الحاضرة.
قلت التحقيق أن القيمة إن لم تتغير ولكن ظهر طالب بالزيادة؛
فلم يتبين بطلان شهادة الشاهد والقول بانفساخ العقد ضعيف لا
وجه له إلا قول من يقول: إن القيمة ما تنتهي إليه الرغبات وهو
شيء حكاه ابن أبي الدم وجهًا ليس في كلام ابن الصلاح في هذه
الحالة وإن تغيرت، وفيها تكلم ابن الصلاح فالإجارة صحيحة إلى
وقت التغير، وكذا بعد التغير فيما أعتقده، ويحتمل على بعد أن
يقال طرآن الارتفاع كأمر حادث في العين
__________
1 في "ب" ذكر.
(1/402)
المستأجرة؛ فوجب الفسخ أو الانفساخ، ثم في
انعطافه على ما مضى ما في الفسخ بعروض خلل في المعقود عليه،
وبتقدير أن يعتقد ما قاله ابن الصلاح؛ فليس هذا أمرًا متجددًا؛
بل عنده أنه يتبين خطأ الشهود.
الثاني أن يحكم باجتهاده لدليل أو أمارة ثم يظهر له دليل
وأمارة أرجح من الأول، ولا ينتهي ظهوره إلى ظهور النص فلا
اعتبار به أيضًا وإن كان لو قارن لوجب الحكم به لأن الحكم
بالراجح وإن كان واجبًا لكن الرجحان حاصل الآن، ولا ندري لو
حصل ذلك الاحتمال عنده حالة الحكم هل كان يكون عنده راجحًا أو
مرجوحًا، والاعتبار إنما هو بالرجحان حال الحكم ولا يلزم من
الرجحان في وقت الرجحان في غيره لتفاوت الظنون بحسب الأوقات
وأما اعتقاد الرجحان؛ فقد يكون في وقت قطعا رجحان أمر عنده في
الماضي وهو من الأمور الوجدانية ليس مما نحن فيه نعم سيأتي قسم
منه.
الثالث أن يظهر دليل أو أمارة تساوي الأول فبطريق [الأولى] 1
لا اعتبار به، وإن كان لو قارن لمنع الحكم.
الرابع أن يظهر أمر لو قارن لمنع ظنًا لا قطعًا كبينة الداخل؛
فإن في تقديمها على بينة الخارج خلافًا؛ فهو أمر مظنون مجتهد
فيه ولكن الحاكم الذي يراه اجتهادًا أو تقليدًا قاطع بظنه
ووجوب العمل به؛ فلو قارن لوجب الحكم به وهو يعلم من نفسه أنه؛
إنما يحكم به فإذا حكم للخارج معتقدا أنه لا بينة للداخل، ثم
حلت البينة؛ فقد ظهر أمر لو قارن لمنع ظنا والظن السابق معلوم
الآن، وهذا هو اعتقاد الصواب الذي أشرنا إليه من من قبل، وقد
اختلف أصحابنا ها هنا في النقض على أوجه أصحها عند الرافعي
والنووي والوالد رحمهم الله النقض؛ لأن هذا الحاكم الذي عنده
أن بينة الداخل مقدمة لما حكم للخارج لعدم علمه ببينة الداخل
كان كالحاكم بالاجتهاد مع وجود النص فكما ينقض بظهور النص ينقض
بذلك؛ لأنه عالم بظنه وبأنه إنما حكم معتقدا عدم بينة الخارج؛
فهو قاطع بما كان يمنعه من الحكم لو قارن ووجه عدم النقض أن
تقديم بينة ذي اليد ليس مقطوعا به كالنص؛ وإنما هو أمر اجتهادي
فالنقض به كنقض الاجتهاد بالاجتهاد وهذا هو الذي قال القاضي
الحسين إنه الذي استقر عليه رأيه بعدما أشكلت عليه المسألة
وتردد فيها نيفًا وعشرين سنة.
والوجه الثالث في المسألة التفصيل بين ما قبل التسليم وبعده
لتأكد الحكم
__________
1 في "ب" الأول.
(1/403)
بالتسليم وصورة المسألة كما بيناه إذا علم
أنه إنما حكم للخارج بناء على عدم بينة الداخل؛ فإن احتمل أنه
حكم بها بناء على تقديم بينة الخارج، وكان من أهل الترجيح، أو
أشكل الحال فالأصح لا ينقض.
الخامس أن يظهر معارض محض من غير مرجح كما إذا حكم للخارج
ببينة، ثم جاءت بينة لخارج آخر فهذه البينة لو قارنت لمنعت
الحكم للتعارض؛ فإذا ظهرت بعد الحكم فلوالدي رحمه الله
احتمالان:
أحدهما: أن يقال إنه لظهور الأمارة المساوية فلا ينقض به قطعًا
ومال إلى ترجيحه قال كما لا يحكم إلا بمستند؛ [فلا] 1 ينقض إلا
بمستند.
والثاني: وذكرت في شرح المنهاج أنه الأرجح عندي أنها ليست
كالأمارة المساوية لأن مساواة تلك مظنونة، ويجوز أن تضعف في
وقت آخر ويستمر رجحان الأمارة المحكوم بها لعدم الوثوق بالظن،
ويجوز أنها لو ظهرت له وقت الحكم لكانت مرجوحة غير مساوية.
وأما البينة إذا عارضت أخرى بمساواتها معلومة مأنوس منها من
الترجيح؛ فلا يبقى لاحتمال استمرار ذلك الحكم أو غيره فيرد
الأمر إلى ما كان عليه قبل ظهور الحكم، ونقف لقطعنا [باستواء]
الجانبين بخلاف الأمارات التي لا يوثق بحال الظنون فيها فإنه
لو لم يمض الحكم فيها [أدى] 3 إلى عدم استمرار الأحكام وأن لا
يحكم بشيء قلت: وقد وجدت هذين الاحتمالين قولين من مخرجات ابن
سريج؛ إذ نقل الرافعي في أواخر باب الدعاوى والبينات فيما إذا
قال السيد لعبده إن قتلت فأنت حر وتنازع [بعده] 4 العبد
والوارث هل مات مقتولا أو حتف أنفه وأقام العبد بينة أنه قتل
في رمضان فحكم القاضي بها، ثم شهد شهود أنه مات في شوال عن ابن
سريج تخريج قولين في نقض الحكم وتنزيله منزلة ما لو شهدت
البينات معًا، وشبه ذلك ما إذا بان فسق الشهود وقد يرى هذا
التشبيه إلى ترجيح النقض ويصير الأمر على ما كان عليه قبل
الحكم واقتضى ظاهر كلامه أن المسألة فيها نزاع بين ابن الصلاح
والوالد رحمهما الله وهي ملك، واحتيج إلى بيعه على يتيم فقامت
بينة بأن قيمته مائة وخمسون فبيع بها وحكم بصحة البيع ثم قامت
بينة أخرى أن قيمته حينئذ مائتان [فقال] 5 ابن الصلاح بعد
التمهل أياما إنه ينقض
__________
1 في "ب" لا.
2 في "ب" غير واضحة.
3 في "ب" وأتى.
4 سقط في "ب".
5 في "ب" قال.
(1/404)
الحكم ويشبهه بما قطع به صاحب المهذب من
أنه لو حكم للخارج على صاحب اليد ببينة.
فإن الحكم ينقض، وقال الوالد رحمه الله لا ينقض وصنف في
المسألة كتابًا سماه المعارضة في البينة المتعارضة، وذكر أن
هذا ليس كمسألة صاحب المهذب؛ فإن النقض هناك لمعارضة بينة
راجحة ولا يلزم من النقض بالأرجح النقض بالمثل وبينة ذي اليد
فيها احتمال أن يكون النقض بها لترجحها باليد أو باليد لترجحها
بها أو بمجموعها، وعلى كل من التقادير الثلاثة لا تكون العلة
موجودة في المسألة التي قاسها ابن الصلاح فقياسها عليها غير
صحيح لعدم الاشتراك في العلة على هذه التقدير الثلاثة وهذا فرق
صحيح، وقد قدمنا في ومسألة صاحب المهذب ثلاثة أوجه:
ولا شك فيما ذكره الشيخ الإمام؛ غير أني أعجب من عدم إلمامه
بهذين القولين اللذين خرجهما ابن سريج وهما عين مسألته، ومسألة
ابن الصلاح وأعجب من ابن الصلاح أيضًا في ذلك وهما نص مسألته؛
فليعجب من حبرين كبيرين بين وفاتهما فوق المائة سنة ترددت
بينهما مسألة وأداراها في دوريتهما وتمهلا فيها أيامًا وهي
مسطورة في الرافعي لم يقنع فيها بوجهين؛ بل بقولين خرجهما شيخ
المذهب فلهما دائران في الوجود بقريب من خمسمائة سنة الأمر
السادس أن يظهر نص أو إجماع أو قياس بخلافه فينقض الحكم؛ لأن
ذلك مقطوع به فلم ينقضه بظن؛ وإنما نقضه بالدليل القاطع على
تقديم النص والإجماع والقياس الجلي على الاجتهاد؛ فهو أمر لو
قارن العلم به لوجب تقديمه قطعًا فلذلك نقض به وما ذكرناه من
النقض عند مخالفة القياس الجلي ذكره الفقهاء وعزاه الغزالي في
المستصفى إليهم، ثم قال: فإن أرادوا به ما هو في معنى الأصل
مما يقطع به؛ فهو صحيح وإن أرادوا به قياسًا مظنونًا مع كونه
جليًا فلا وجه له؛ إذ لا فرق بين ظن وظن وهذا في تبين خطأ
سنذكرها. قلت: وجزم الشيخ الإمام في مخالف ليس على الإطلاق بل
لا بد أن يكون الظن المستند إليه ظنا محكمًا كذا صرح به
الرافعي، ولعله أشار بالظن المحكم إلى ما قاله الإمام في
النهاية أنه إذا خالف خبرًا صحيحًا نقله الآحاد أو قياسًا
جليًا؛ فقد يفضي الأمر إلى النقض وذكر ما حاصله فيما فهمته عنه
أن خبر الواحد إن لم يقبل التأويل أو كان تأويله في مقام
التأويلات البعيدة التي لا مبالاة بها؛ فالحاكم بخلافه ينقض
حكمه ومثل لذلك مخالف حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه وخيار المجلس
والمصراة والعرايا. قلت: والذي أقوله أن مخالف خبر الواحد إن
(1/405)
كان ممن يرى تقديمه على القياس فالنقض عليه
ظاهر؛ وإلا فينبغي أن ينظر في القياس الذي حكم به فإن كان بحيث
لا يقدم هو عليه خبر الواحد فلا وجه للنقض، وقد يجمع هذا كله
قول الشيخ الإمام النص، ويقال: لا نص إلا فيما لا يقبل التأويل
ولا يعارضه قياس يكون مقدمًا عليه عند من حكم به، وأما مخالف
القياس الجلي؛ فإن كان ممن يعتقده حجة، وكان الظن المستتار منه
أقوى مما حكم به؛ فلا شك في النقض ولعل هذه الصورة هي مراد من
ينقض في القياس الجلي، ولذلك شرط الرافعي أن يكون الظن
المستتار منه محكمًا، وإن كان ممن ينكر القياس رأسًا فأتكلم
عليه في فصل يخصه.
فائدة:
كان الشيخ الإمام رحمه الله يقول وذكره في كتاب المعارضة إنما
ينقض لتبين خطأ به والحاكم منصوب؛ لأن يحكم بحكم الشرع وأحكام
الشرع منوطة بأسباب تتعلق بوجودها ووجودها يثبت عند الحاكم
بطريق شرعي والخطأ لا يعدو هذه المواطن الثلاثة:
أحدها: أن يكون في الحكم الشرعي بأن يكون حكم بخلاف النص أو
الإجماع أو القياس الجلي فينقض لتحقق الخلل في الحكم، وليس
معنى النقض الحل بعد العقد بل الحكم ببطلان الحكم المتقدم
وبيان أنه لم يقع صحيحًا؛ لأنه ليس بحكم الشرع والحاكم ثابت
الشرع؛ فلا يصح منه الحكم بغير حكمه ولفظة نقض الحكم هنا
متمكنة؛ لأن المقصود إبطال ذات الحكم الذي وقع.
الثاني: أن يحصل الحكم على سبب غير موجود، ويظن القاضي وجوده
بينة زور ونحوها؛ فإذا انكشف ذلك ينقض في بعض المواضع بالإجماع
وفي بعضها وفي بعضها بخلاف فيه والخطأ هنا في السبب ووضع الحكم
في غير متمكنة؛ فإنا لم ننقض الحكم في ذاته لخطأ به؛ وإنما
نقضناه عن ذلك المحل وأخرجنا المحل عنه فالخطأ في السبب لا في
الحكم والمخطئ هنا هو الشاهد لا الحاكم، وللحاكم نوع من الخطأ
وهو ظنه وجود السبب الحاصل بالبينة.
الثالث: أن يكون الخلل في الطريق كما إذا حكم بشهادة كافرين؛
فإذا تبين ذلك ينقض سواء كان المشهود به صحيحا أم لا؛ لأن
المعتبر من الحكم ما كان بطريقه الشرعي؛ فإذا كان بغير طريقه
فقد حصل الخطأ في الطريق فينقضه والخطأ هنا من القاضي في
اعتقاد عدالة الشهود، وقد يكون ذلك مرتبًا على بينة التزكية،
وقد يكون على ظنه إذا عدلهم بعلمه ولفظة النقض هنا [كهي] 1
قبله وإن كان الفقهاء أطلقوا النقض على الجميع وهو الصحيح ولو
حكم
__________
1 سقط في "ب".
(1/406)
بشهادة فاسقين اعتقد عدالتهما نقض على
الصحيح كالكافرين، وقيل: لأنه إنما يتبين بطريق ظني فيصير كنقض
الاجتهاد بالاجتهاد وقريب منه ما ذكرناه في النقض ببينة
الداخل، ولو بان دليل ظني معارض لدليل حكمه؛ فلا التفات إليه
قطعًا؛ لأنه اجتهاد غير مستقر بل يجوز أن يصير الراجح مرجوحًا
والمرجوح راجحًا، ولو بان تعارض بينتين من غير ترجيح فيحتمل أن
يقال هو معارض الدليلين، ويحتمل أن يقال تعارضهما مستقر عند من
لا يرى الترجيح في البينات وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه
فيقطع بالاستواء المانع من ابتداء الحكم، وقد تلخص أنه متى بان
الخطأ قطعا نقض قطعًا أو ظنا؛ ففي بينة الداخل مع الخارج ينقض
في الأصح وفي الدليلين لا ينقض والفرق أن الظن في اليد مقطوع
به فهو اعتقاد رجحان، وفي الدليلين رجحان اعتقاد وليس مقطوعًا
به ولو لم يتبين الخطأ؛ بل التعارض المجرد عن القطع والظن
كقيام بينة بعد الحكم بخلاف البينة التي ترتب عليها الحكم؛ فقد
تقدم أن الراجح عند الشيخ الإمام من احتمالين وجدناهما قولين
عدم النقض لعدم تبين الخطأ قال: وكيف ينقض حكم محتمل الصواب
وحين صدر كان عن مستند.
تنبيه: كل هذا إذا قضى بمستند ثم ظهر له الخلل إما في المستند
أو في المقضي به أو الطريق أما إذا قضى على جهل؛ فالخلل هنا في
الحاكم لا في الحكم. قال الشيخ الإمام رضي الله عنه: فمن حكم
بغير علم نقض حكمه وإن صادف الحق وهو أحد القاضيين اللذين في
النار بشهادة الحديث؛ كذا ذكره في شرح المنهاج قبيل باب ما
يحرم من النكاح عند الكلام فيما إذا أعتق أمته في مرض موته ثم
تزوجها واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم ورجل حكم للناس على
جهل، وذكره أيضًا في كتاب المعارضة، وقال لفظة النقض هنا
متمكنة أيضًا كما هي فيما إذا ظهر الخلل في نفس الحكم؛ لأن
المقصود إبطال فعل الحاكم وتبقية الأمر في الحكم على ما كان
عليه حتى يصدر ذلك الحكم من أهله كما يبطل تصرف من ليس بوكيل.
قلت: بل أبلغ فإن تصرف من ليس بوكيل ربما جاء فيه قولي
الفضولي؛ [فهذا] 1 لا يطرقه خلاف الفضولي؛ فإنه إنما حكم على
أنه ثابت الشرع ولسانه لسان الشرع فإذا لم يكن كذلك لم يكن من
الشرع في شيء فلا نفاذ له، وقد قال في التنبيه وإن كان القاضي
قبله لا يصلح للقضاء تنقض أحكامه كلها أصاب فيها أو أخطأ. فإن
قلت فقد اختلف الأصحاب فيمن اشتبه عليه ماء طاهر بنجس فتوضأ
__________
1 في "ب" وهذا.
(1/407)
بأحدهما من غير اجتهاد، ثم بان أن ما توضأ
به هو الطاهر فاختيار الشيخ أبي إسحاق وجماعة منهم النووي أنه
لا يصح وضوءه لتلاعبه، وهذا يوافق ما ذكرتم من النقض وإن صادف
الحق لكن اختيار ابن الصباغ والغزالي أنه يصح، كما لو أدى دينه
بما يشك فيه ثم تبين أنه ملكه وهذا يخدش في النقض. قلت: كلا
فإن حكم الحاكم لا يناسب تصرف الإنسان في نفسه؛ لأن ذلك يسنده
إلى الشرع وهذا كاذب مخطئ حيث أقدم على جهل فما كل من حكم بحق
محقا؛ بل إنما يكون محقا إذا كان قد حكم عن علم كما شهد به
الحديث، ومن ثم ينقض قضاء من لا يصلح، وإن صادف الحق والصور
ثلاث تصرف الشخص على غيره، وينبغي أن يكون عن علم وأحق الناس
بذلك الحكام، ثم الأولياء على درجاتهم وسيأتي من كلام الغزالي
فيمن زوج بناء؛ على أنه حاكم فبان أنه أب أنه لا يصح والصورة
الثانية تصرفه على نفسه في مكان يضر فيه الشك وهو الأول ومن ثم
أنه على هذين الوجهين اللذين حكينا فيهما خلاف الشيخ أبي إسحاق
وابن الصباغ لو صلى قبل البيان، ثم تبين بعد الصلاة لم تصح
الصلاة للشك. والثالثة تصرفه على نفسه لا في مكان يضر فيه الشك
كمن باع مال أبيه على ظن أنه حي؛ فإذا هو ميت فلا يضر ومن
الخلل في الحاكم أيضًا ما لو وليت القضاء امرأة ففي قضائها
وجهان حكاهما الروياني في البحر عن حكاية جده، وأن الإصطخري
ذهب إلى النقض.
فائدة:
كل ما ذكرناه فيما إذا بان له بعد الحكم ما لو كان مقارنًا
لمنع وأوقف عن الحكم بما حكم أو أوجب1 الحكم بضد ما حكم؛ فإن
بان له دليل آخر موافق للدليل الأول [لفقدانه النص ثم وجد النص
كما حكم به، وإما أن لا يكون كذلك كما إذا بان له بعد الحكم
بقياس صحيح؛ بحيث لو كان موجودًا عنده عن الحكم بالأول لاستند
إليه لا إلى ذلك الدليل، وهذا كما إذا حكم بقياس صحيح] 2؛
فينبغي أن يقال إنه لم يظهر معه خطأ الأول؛ فإما أنه يكون
الثاني قياس آخر فإن كان الأول فهي المسألة التي وقعت بمدينة
أصبهان في حدود السبعين وأربعمائة حكم حاكم في حادثة باجتهاده
ولم يعلم بالنص فيها، ثم ألقاه كما حكم به فاستفتى شيخ
الشافعية بأصبهان في ذلك الزمان وهو أبو بكر محمد بن ثابت
الخجندي فأفتى بأن الحكم نافذ واستفتى أبا نصر بن الصباغ فأفتى
بأنه ينفذ من حين وجود النص كذا نقل ولد أخيه أبو منصور في
الفتاوي التي جمعها من كلام عمه المعروفة بفتاوي صاحب الشامل
ابن الصباغ وهي مسألة غريبة لم أجدها في
__________
1 في "ب" إذا وجب.
2 سقط في "ب".
(1/408)
غير هذه الفتاوي والذي يترجح عندي ما قاله
الخجندي؛ فإنه لما أعياه النص جاز له العمل باجتهاده؛ فإذا
صادف الصواب كان نافذا وكان وجود النص سعادة وتوفيقا، ويحتمل
أن يقال لا ينفذ أصلًا [لأنه يتبين] 1 أن القياس فاسد
الاعتبار؛ إذ لا قياس مع النص لكن هذا ضعيف؛ فإن فساد اعتبار
القياس إنما يكون لو كان على خلاف النص، أما إذا كان على
وفاته، وكان ارتكابه لفقدان النص وقت الاحتياج إليه فلا محذور
فيه ولا يظهر في هذه المسألة غير هذين الاحتمالين قول الخجندي
وهو الأرجح وهذا الاحتمال، وأما قول ابن الصباغ ينفذ من حين
وجود النص؛ فإن أراد أن الحاكم إذا وجد النص جدد الحكم بمقتضاه
ليكون مستندا إليه؛ فهو قريب وإن أراد أنه ينفذ من غير حكم
متجدد ويكون قبله فاسدا فلا وجه له، والذي أراه في مثل هذا ما
قاله الخجندي، وأن الحاكم يجدد حكما بمثل الحكم الأول ولا ينقض
الأول وسيأتي من كلام الوالد رحمه الله ما يؤيد هذا، وإن كان
الثاني؛ فهذا لا ضرر فيه وسواء كان القياس الذي ظهر له ثانيًا
أجلى وأوضح من الأول أم لم يكن؛ فإنه لا يزيد الحال إلا
تأكيدًا والفرق بين هذا وما قبله أن هناك ظهر ما لو علمه وقت
الحكم لما استند إليه، وأما هنا وإن كان أجلى فليس بلازم أن
يكون استناده إليه ولا هو بمتيقن أنه يكون أجلى وقت الحكم؛ لأن
الجلاء قد يختلف باختلاف الأوقات هذا كله إذا لم يظهر خطأ
الأول وإن ظهر أن الأول خطأ فهذه الحادثة وقعت في زمان الشيخ
الإمام الوالد رحمه الله، وسأذكر كلامه فيها بعد ما أقول قد
يقال إن هذا لم يقض على جهل؛ لأنه إنما قضى حين قضى به بما ظنه
مستندًا، ولم يقض بباطل لأن هذا الذي ظهر له نفي عنده اعتقاد
أن الحق كما قضى به وإن لم يكن بالدليل الذي قضى به ورأيت لابن
الرفعة ترددًا في ذلك قال لأنه ليس من باب العقود التي يعتمد
الظنون وإن بان الأمر بخلافه قال وهذا بخلاف ما إذا أذنت لحاكم
في تزويجها بناء على أنه لا ولي لها إلا الحاكم فبان أنها
ابنته لصلبه؛ فإنه يصح لوجوده من أهله من ظن الصحة هذا كلام
ابن الرفعة وأقول الأرجح النقض؛ لأن هذا المستند إذا لم يكن
عند الحكم حاضرا وقد بان بطلان ذلك المستند فما كان أقدم إلا
بغير مستند وكأنه أقدم على جهل أو بغير علم وبهذا صرح الشيخ
الإمام رحمه الله في كتاب النكاح من شرح المنهاج عند الكلام
على مسألة ابن الحداد في الأمة المعتقة في المرض هل لوليها
تزويجها بعد تردد كان منه في ذلك ذكره في المسألة المعروفة
بوقف الطيفاء وهي حادثة من حوادث باب الوقف استفتى فيها قديما
وأطال
__________
1 في "ب" لأتبين.
(1/409)
عليها الكلام وكان فيها حاكم حنبلي حكم
مستندا إلى ما ظنه مستندا في مذهبه فبين الشيخ الإمام أنه أخطأ
على مذهبه، وأنه لا مستند فيما ذكره ثم تبين له مستندًا غير ما
ذكره يصح التمسك به قال بعد فراغ التقرير منه ما نصه بقي نظر
آخر وهو أن الحاكم الحنبلي إذا لم يستند إلى ذلك؛ ولكن استند
إلى ما ذكره أصحابه وقد ذكرنا أنه لا دليل فيه هل يكون موافقة
حكمه لما ذكرناه من الدليل مانعًا من نقضه أو لا هذا محتمل
والأقرب أنه لا يصلح أن يكون مانعا؛ فإن من شرط صحة الحكم
الاستناد إلى دليل صحيح فإن وجدنا اسجال الحاكم مطلقا غير
مستند إلى سبب ووجدنا دليلًا صحيحًا لم يكن لنا نقضه ويحسن
الظن به، ونعتقد أنه استند إلى ما ظهر لنا من الدليل أو إلى
دليل مثله وإن بين المستند ورأيناه غير صالح ولا تشهد [قواعد]
1 الشريعة [بصحته] 2؛ فينبغي أن ينقض ويحكم حكما مستندا إلى
دليل صحيح لكن أرى من باب المصلحة أن لا ينقض، وينفذ لئلا يجسر
الناس على نقض أحكام الحكام ويجعل التنفيذ كأنه حكم منشئ مستقل
ولو حكم الحاكم المنفذ بحكم مبتدأ موافق لحكم الأول وبقي الأول
على حاله كان أولى وأجمع للمصالح والله أعلم. انتهى.
نقلته من خطه.
وأما من ظهر ابنه الحاكم؛ فقد قال الغزالي في الفتاوى الأظهر
فيها البطلان؛ لأن الرضا معتبر في هذه التصرفات والألفاظ تراد
للدلالة على الرضا ولا يدل اللفظ على الرضا في هذه الصورة.
انتهى.
ولك أن تمنع كون اللفظ يدل على الرضا في هذه الصورة؛ فإن الجهل
بها لا ينافي الرضا بمطلق النكاح من هذا الزوج بهذا العاقد وما
ذكره شبيه بقوله فيما إذا قال الغاصب لمالك العبد المغصوب
اعتقه؛ فاعتقه جاهلًا وما ذكره فيما إذا قال لامرأته أنت طالق
وهو يجهل أنها امرأته؛ فإن له بحثًا في أن الطلاق لا يقع بنزع
إلى هذا المأخذ والأصح فيهما النفوذ ويقرب من المسائل ما لو
خطب زيد إلى قوم وعمرو إلى آخرين، ثم جاء زيد إلى الآخرين
وعمرو إلى الأولين وزوج كل فريق من جاءه، وقد قال ابن القطان
فيما نقله الرافعي: أن المسألة وقعت في أيام ابن الشايب ببغداد
فأفتى الفقهاء بصحة النكاحين؛ فإن قلت: فليكن الأرجح في
[مسألة] 3 الغزالي صحة النكاح لما ذكرتم من المسائل. قلت: قد
خطر لي هذا ثم توقفت لأن العاقد في مسألة الغزالي القاضي وهو
مطلوب بالاحتياط فوق ما يطلب في سائر الأولياء. [مأمور أن لا
يقدم على
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" لصحته.
3 سقط في "ب".
(1/410)
عقد إلا عن بصيرة بينة، وكذلك لا يعقد
بمستورين بخلاف سائر الأولياء] 1 على كلام في ذلك؛ فيقول ينبغي
البطلان فيه، كما قاله الغزالي؛ لأن لسانه لسان الشرع بخلاف
سائر الأولياء.
تنبيه: قدمنا أنه لا نقض في المسائل الاجتهادية المختلف فيها؛
فهل يلحق بها ما يقع للناس من حوادث ليس فيها خلاف للمتقدمين؛
وإنما فيها آراء تتجاذب قد كان يقع في الذهن أنها مثل الأول
فلا ينقض [فيه] 2؛ ولكن قال الشيخ الإمام رضي الله عنه ومن خطه
نقلت في المسألة التي أشرت إليها؛ إنما يطلق المختلف فيه على
ما فيه خلاف لمن تقدم، وأما ما يقع لنا من صور المسائل وتتجاذب
الآراء فيها فلا يقال: إنها من المختلف فيه؛ بل ينبغي أن ينظر
فيها فإن اتضح دليل عليها اتبع؛ وإلا فلا وإن حكم حاكم منها
بحكم ولم يكن عليه دليل ينبغي جواز بعضه، وإن كان عليه دليل لم
ينقض. انتهى.
ومن خطه نقلت وقد تستغرب هذا ولا غرابة فيه؛ بل الأمر إن شاء
الله كما قال، وعليه تحمل أقضية صدرت من شريح وغيره نقضها علي
وغيره في مسائل لم يكن يقدم فيها خلاف ولا عليها دلالة قاطعة.
فائدة:
إذا استثنيت ما به ينقض الحكم قيبادر إلى تدارك ما كان من حقوق
الله تعالى، وأما حقوق الآدميين فهل عليه تعريف الخصمين
ليترافعا إليه فينقض الحكم عن ابن سريج: لا وعن سائر الأصحاب
الوجوب قلت: ويشبه أن يقال إن بان الخطأ في الحكم نفسه وجب
رفعا لليد العادية، ولا يكون فيه خلاف وإن بان في الطريق؛ فهو
موضع النزاع وهذا كله إذا بان ما يوقف عن الحكم أو يوجب الحكم
بالضد؛ فإن بان خطأ دليل الأول مع ظهور دليل يوافقه ونفي
اعتقاد إلى محكوم3؛ حتى وإن بان بطلان الطريق فلا ينبغي أن يجب
الإعلام لعدم فائدته، ولو ترك الخلاف على هذه الأحوال لم يكن
به بأس.
تنبيه: الصور التي اختلف فيها الأصحاب في النقض فيها قيل إنها
تقرب من ستين صورة ونحن نعد ما حصرنا منها.
فمنها: لو قضى قاض بصحة نكاح المفقود زوجها قال الرافعي:
فالأشهر وهو ظاهر النص أنه ينقض [والثاني المنع] 4، قال القاضي
الروياني وهو الصحيح [وقرب] 5 من
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" محكوم به.
4 سقط في "ب".
5 في "ب" قريب.
(1/411)
هذا الخلاف الخلاف في نقض حكم من قضى بحصول
الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس أو سقوط الحد عمن نكح
أمة ووطئها. قلت: وقرب من هذا الخلاف يعني الروياني، وقد وقفت
على كلامه في البحر، وعزا ذلك إلى القفال؛ فقال: قال القفال:
عد أصحابنا مسائل ينقض الحكم فيها.
منها: حكم من قال أكثر اللعان يقوم مقام الكل وإن زوج الأمة لا
يلاعن لنفي الولد، وأن لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف،
وأن من تزوج بأمة ووطئها مع العلم بتحريمها لا بحد، وأن النكاح
بغير ولي جائر والحكم شهادة الفاسق والحكم بجواز بيع أم الولد
والحكم بأن لا تقبل شهادة القاذف [العاصي] 1 بعد التوبة؛ لأن
الخطأ ظاهر في هذه المسائل بدليل قاطع ونص الشافعي رضي الله
عنه على نقض الحكم في مسألة واحدة، وهي الحكم بصحة نكاح
المفقود ومن أصحابنا من قال لا ينفذ حكمه في شيء من هذه
المسائل؛ لأن الخطأ فيها ظهر بقياس الشبه، وهذا هو الصحيح
والنص في مسألة المفقود غريب، ولعله ذكره تعليقا للقول فيه لا
اعتقادًا. انتهى.
كلام البحر ملخصًا قال الرافعي:
ومنها: قضاء الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا بالتنفيذ الذي
يجوزه، وفي ذكاة الجنين قيل: إنه منقوض لظهور الأخبار وبعدها
عن التأويلات التي يدعونها، وكذلك في القتل بالمثقل؛ لأنه على
خلاف القياس الجلي في عصمة النفوس، وهذا ما أورده الإمام
الغزالي وبمثله أجاب محققون في الحكم بصحة النكاح بلا ولي وفي
بيع أم الولد. وثبوت حرمة الرضاع بعد الحولين وصحة النكاح
بشهادة الفاسقين من غير إعلان ونكاح الشغار ونكاح المتعة، وفي
الحكم بقتل المسلم بالذمي وبأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في
الأطراف وبحرمان التوارث بين المسلم والكافر وترد الزوائد مع
الأصل في الرد بالعيب على ما ذهب إليه ابن أبي ليلى ومن
الأصحاب من منع [البعض] 2، وقال: هي مسائل اجتهادية والأدلة
فيها متقاربة، قال القاضي الروياني وهو الصحيح، وكذلك ذكره
القاضي ابن كج في الحكم ببطلان خيار المجلس وينقض قضاء من حكم
بالاستحسان الفاسد. انتهى كلام الرافعي [ملخصًا.
وفي الروضة نظيره وأنت تراه لم يجزم بغير النقض بالحكم لنقض
بالاستحسان الفاسد] 3، ولا أدري ماذا يعني به فإن كل
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" النقض.
3 سقط في "ب".
(1/412)
استحسان عندنا فاسد وليس كل استحسان ينقض
فيه القضاء؛ فيحتاج هذا إلى [تحرير] 1، ولعله يشير إلى
مبالغاتهم في الاستحسان، وليس للرافعي تصريح بتصحيح النقض أو
عدمه ولا للنووي ولا للشيخ الإمام في شيء من هذه المسائل؛ غير
أن الشيخ الإمام صحح في مسألة النكاح بلا ولي النقض، وقال أنا
أستحي أن يدفع إلى نكاح صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
إبطاله، ثم أقره على الصحة وهذا يتعدى إلى ما كانت الأخبار
واردة فيه وورودها في النكاح بلا ولي، وقال الرافعي في القصاص
في قتل المسلم بالذمي أن الوجه عدم النقض، وقد رأيت السمائل
التي ذكرها الرافعي وعزا إلى الروياني فصحح عدم النقض فيها ولس
في كلام الروياني منها إلا ما حكيته لك، ولا يلزم من النقض في
بعض النقض في بعض آخر؛ بل لا بد من النظر في كل فرع بخصوصه ومن
المسائل المختلف في البعض فيها [أيضا] 2، لو قضى القاضي بأن
يقاد الولد بولده قال ابن كج ينقض حكمه؛ قال الرافعي: وليكن
هذا في الموضع الذي يساعد فيه ذلك، قال ابن الرفعة يعني لأنه
خلاف الإجماع قال ولو كان كذلك لم يحتج ابن كج إلى التنبيه
عليه. قلت: كيف لا يحتاج إلى التنبيه عليه وقد عمم ابن كج
وعزاه، ثم ليس انتفاء خلاف مال موجبًا لثبوت الإجماع؛ ففي ذهني
أن من العلماء من يقتل الوالد بالولد مطلقا فليحرر ذلك ويحتمل
أنه ينقض من قضى به، وعندي أن ابن كج إنما أراد القضاء بالموضع
الذي يحالف فيه مالك؛ فإنه ذكر قبله مسألة أبي حنيفة في قتل
الحر بالعبد، وذكر أنه لا ينقض ثم ذكر أن القضاء بقتل الوالد
بالولد ينقض فما أرى إلا أنه رأى قوة خلاف أبي حنيفة وضعف خلاف
مالك في هاتين المسألتين فلم ينقض في تلك ونقض في هذه وفي هذا
وأعود إلى ما قاله ابن الرفعة والأرجح عندي عدم النقض فيهما،
وإليه أشار الرافعي بل لم يقم عندي إلى الآن دليل على النقض في
شيء من صور الخلاف القوي الجائزة وغاية الأمر أنها خالفت صريح3
الآحاد؛ بل وفيها ما خالف مستفيض الأخبار وإنما قلت الخلاف
القوي الجائز لأحترز عن الضعف الذي لا يجوز الإقدام عليه؛ فإنه
لا اعتبار به ولا مقابلة وذلك مثل من قضى بأن الطلاق الثلاث لا
يقع كما هو محكي عن الشيعة أو بعضهم؛ فإن هذا الحكم ينقض على
الصحيح عند أصحابنا كما ذكره الروياني في البحر في أوائل كتاب
الطلاق، وحكى أن بعض أصحابنا [كما ذكره الروياني في البحر] 4
قال لا ينقض وهذا ضعيف لأن
__________
1 في "ب" التحرير.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" صريح أخبار.
4 سقط في "ب".
(1/413)
المسألة إجماع ولا اعتبار بالخلاف الحادث
قال الروياني وعلى النقيض؛ فإذا وطئها لزمه الحد ولم يثبت نسب
ولا عدة وهو اختيار الإمام والذي انتهى كلام الروياني وما
اختاره والده هو الحق، وحكى الروياني في كتاب القصاص عن حكاية
والده وجهين فيما لو وليت القضاء امرأة هل تنقض أحكامها، وأن
الإصطخري قال بالنقض وهذا خلل في القاضي لا في المقضي به فإن
قلت فلم قلتم بنقض حكم من حكم بخلاف خبر الواحد. قلت: الذي
أعتقده وعليه دل كلام الغزالي في الأصول أن ذلك مخصوص بمن لم
يطلع عليه وقضى بقياس لا يقوى على معارضته، وأما من اطلع على
خبر الواحد وزعم له معارضًا ولو قياسًا وزعم أن القياس مقدم
على خبر الواحد كما هو شهير في الأصور؛ فكيف ينقض قضاؤه وإن
كنا لا نصوبه ابتداء لكن تخطئتنا له [ليست] 1 إلا بالاجتهاد
والقول بنقض الحكم بخلاف خبر الواحد؛ [إنما هو في خبر الواحد]
2 المثير ظنًّا محكمًا [فالمنقوض في أخبار الآحاد ما خالف ظنا
محكما] 3 ناشئا عنها لا ما خالفها مطلقا؛ كذا اقتضاه كلام
الرافعي وهو الظاهر، ويلزم من نقض فيما ذكرناه من الصور أن
ينقض الحكم ببطلان الأوقاف لشهرة صحتها بين الصحابة والعصر
الأول وإن نقض الحكم ببطلان بيع المدبر لمخالفته الحديث الصحيح
في بيع النبي صلى الله عليه وسلم مدبرًا في دين كان على صاحبه؛
فلينقض في هذه الصورة وبيع الخمر من الذمي لمنابذته الأحاديث
الصحيحة في النهي عن بيع الخمر، وإن قال النهي يوجب الصحة أو
لا يقتضي الفساد؛ فلم لا صححه من مسلم وإن حاول فرقًا فهو على
ضعفه زاد بصحيح الحديث، ومن ثم قال الربا لا يجري في دار الحرب
بين مسلمين لم يهاجرا ولا في الحفنة والحفنتين من الطعام وأدلة
الكتاب والسنة تردهما، وأن النبيذ يحل منه ما لا يسكر وإن
البائع ليس أحق بسلعته عند الفلس وبيع المصراة ومنع الفسخ
بعيوب النكاح وإسقاط الحد في إباحة الجواري، وأن الجماع من غير
إنزال لا يوجب الغسل، وأن الحامل المتوفي عنها زوجها لا تنقضي
عدتها بوضع الحمل، وأن ربا الفضل مع القبض [في التصرف4 جائز،
وأن الوقف يباع إذا تخرب وأنه يناقل به وإن كان عامرًا إلى غير
ذلك من مسائل عن أبي حنيفة أكثرها والبقية عن غيره
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 من قوله في التصرف جائز إلى قوله فإن قوله فإن قلنا لا يحل
ولم يجز الطلب: سقط في ب.
(1/414)
من العلماء لا أقول بالنقض فيها؛ وإنما
أقول تلزم من نقض في تلك أن ينقض فيها ولعله يلتزمه فإني لم
أجد عنه خلافه كما لم أجد وفاقه.
فائدة: إنما ذكر القفال وغيره من أصحابنا هذه المسائل التي قيل
بالنقض فيها عندما بلغهم أن الحنفية قالوا ينقض قضاء الشافعي
في الحكم بشاهد ويمين وبالقرعة بين العبيد في العتق وبحل متروك
التسمية عمدًا وبالبداية في القسامة بيمين المدعي؛ فقال
أصحابنا قلتم فيما حكي عنكم لا ينقض حكم مخالف نص الكتاب
والسنة والقياس الحق إذا لم يكن مجمعًا عليه، ثم نقضتم موافق
السنن الصريحة والأقيسة الصحيحة؛ فمن عد بربا ممن ينقض الحم
بشاهد ويمين والقرعة بين العبيد ونحوهما مع صفة الحديث فيه، ثم
يحكم بالنكاح بلا ولي ونحوه منابذة لصريح نطق النبي صلى الله
عليه وسلم؛ فمن العجائب إنكار ما وردت به السنة من القرعة من
إثبات حل الوطء بشاهدي زور يعلم الزوج الثاني أنهما شاهدا زور.
ومنها: قول الخصوم إذا منع الذمي دينارا من الجزية انتقض عهده،
ولو جاهر بسب الله أو بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه
أو حرق المصاحف وخرب المساجد أنه لا ينتقض.
ومنها قولهم يباح القرآن بالعجمية ولا يروى الحديث بالمعنى على
ما ذكر بعضهم.
ومنها: إسقاطهم الحد عن من استأجر امرأة لرضاع ولده فزنا بها
أو استأجرها ليزني بها وإيجابهم الحد على من وطئ امرأة في
الظلمة يظنها امرأته فظهرت أجنبية.
ومنها: منعهم السنة الثابتة في إلحاق النسب بالعتاقة مع
إلحاقهم نسب ولد امرأة تزوجها وهي بالمشرق ممن هو بأقصى المغرب
وبينهما من المسافة ما لا يقطعها النسر، وقال: تزوجت فلانة وهي
طالق ثلاثًا عقب القبول، ثم جاءت بولد فقالت هو منه.
ومنها: إلحاقهم الولد في هذه الصورة مع قولهم ما ذكرناه فائدة
قولنا ينقض القضاء المخالف للظن المحكم من خبر الواحد وحمل
قياس ونحوهما يشمل كل ما كانت بشبهة الحاكم فيه ضعيفة، وفيه
مسائل لم يصرح بها الأصحاب فنذكرها.
منها: جزم الشيخ في باب الإجازة من شرح المنهاج بنقض حكم من
حكم ببيع الموقوف إذا انهدم، كما هو قول الحنابلة أو عوده إلى
ورثة الواقف كما هو قول محمد بن الحسن بها.
(1/415)
تنبيه: ما لا ينقض هل يمضي وينفذ أم يعرض
عنه فيه خلاف حكاه المحاملي وجماعة قولين وطائفة أخرون منهم
الرافعي وجهين، والعمل على التنفيذ وهو ما رجحه الرافعي، وكان
الشيخ الإمام يتوقف فيه ثم استقر رأيه على ما حكيناه عنه في
كتاب ترشيح التوشيح.
خاتمة: ما لا ينقض قضاء القاضي فيه إذا حكم به لمن لا يعتقده
هل يحل باطنًا وجهان حكاهما الأصحاب فيما إذا قضى الحنفي بشفعة
الإمام رحمهم الله فيها تصريح بتصحيح في كتبهم المشهورة، وقد
ذكرها الرافعي في كتاب الشفعة وفي كتاب القضاء وفي باب
الدعاوى، وفي باب دعوى الدم والقسامة وفي كتاب موجبات الضمان،
وعزا الشيخ الإمام في باب الشفعة من شرح المنهاج تصحيح الحل
إلى القفال وأبي عاصم والبغوي وأكثر الفقهاء وتصحيح التحريم
إلى الأستاذ أبي إسحاق والإمام الغزالي والأصوليين؛ قلت:
والرافعي لم ينسب صريحا إلى الأكثر شيئًا؛ حتى يقال: إنه عليه
بل نسب الحل إلى جماعة والتحريم إلى ما ذكرنا وقال في باب
القسامة ميل الأئمة إلى ثبوت الحل باطنا، وكذلك قال في أثناء
كتاب الدعاوي ميل الأكثرين إلى الحل باطنا وغاية ما يؤخذ من
ذلك ميل الرافعي إلى الحل، وقد يؤخذ منق قوله من باب موجبات
الضمان ميله إلى التحريم؛ فإنه قال وصرحوا بأن خلاف جار في كل
ما اتصل بحكم من المسائل الاجتهادية؛ فإن قلنا لا يحل لم يجز
الطلب] ؛ وإلا فلا بأس بالتخيير بين البيع عليه وإجباره على
البيع وهو حينئذ إكراه بحق، وقد سكت الشيخ الإمام في كتاب
البيع على قول القاضي أبي الطيب وغيره إن شاء القاضي باع وإن
شاء عزر وحبس إلى أن يبيع وذهب ابن الرفعة إلى أنه إذا لم يثبت
عند القاضي ملك [المفلس] 1 للأعيان بالبينة؛ وإلا اكتفينا
باليد فيظهر أن يجبره على البيع بنفسه أو بوكيله لتعينه طريقًا
إلى إيصال الحقوق [إلى أربابها] 2 ورده الشيخ الإمام بأنه [إن]
3 لم يجز للقاضي البيع؛ فكيف يجوز له الإجبار والإجبار حكم
صريح بخلاف الفعل، وليس المفلس مطلق التصرف حتى نقول نجبره على
وفاء الدين من حيث الجملة وهو يبيع بل هو محجور.
فائدة:
ذكرها الإمام في باب التفليس حاصلها أنه ليس كل ما يجوز للشاهد
أن يشهد به يجوز للحاكم أن يحكم به؛ فإن الشاهد قد بني على ظن
لا يبني على مثله
__________
1 في "ب" الفلس.
2 في "ب" لأربابها.
3 في "ب" إذا.
(1/416)
الحاكم صونا لمنصبه عن التهمة، ولأن الحكم
لما فيه من الإلزام وإنهاء الأمر أشد الشهادة؛ هذا أقوله تفقها
من عندي، والذي ذكره الإمام رحمه الله في الشهادة بالإعسار
والأملاك والتعديل وحصر الميراث أنها أمور لا يمكن استنادها
إلى اليقين؛ فإن في الإعسار [هنا] 1 لا سبيل معه إلى العلم
اليقيني وغاية التعديل [هي] 2 الأسباب الخارجة والأملاك بناء
الأمر على ظواهر يضعها العلماء من اليد والتصرف، ثم قال فكأنا
نشترط استناد الشهادة إلى اليقين فيما يمكن اليقين [منه] 3
كالأقوال والأفعال التي تتعلق بها الحواس، ثم قال ومن لطيف
الكلام في ذلك أن كل ما تستند الشهادة فيه إلى اليقين لو علمه
القاضي بنفسه اختلف القول في جواز قضائه بعلمه، ولو انتهى
القاضي فيما [أعلم] 4 فيه إلى منتهى يشهد فيه كالأصول التي
ذكرناها؛ فلا يحل له القضاء، وإن كان يحل له أن يشهد بما أحاط
به وظهر عنده فليتأمل الناظر هذا؛ فإنه من أسرار القضاء انتهى
وتكلم عليه الشيخ الإمام رحمه الله في شرح المهذب كلامًا
طويلًا حاصله بعد ما استشكله، وقال لم لا يحكم القاضي في
الإعسار والملك والميراث بعلمه كما يحكم بالتعديل، وأجاب بأن
التعديل حكم بأن المعدل مقبول القول على كل أحد فأشبه الرواية:
أما [الإعسار والميراث] 5 والملك فأحكام على أشخاص معينين بما
لا ينتهي إلى اليقين؛ فقويت التهمة فيه فلو فرضنا انتهاءه إلى
اليقين خرج على القضاء بالعلم، ولا أظن الإمام يخالف في ذلك؛
وإنما كلامه فيما لا ينتهي إلى اليقين قلت: بل بذلك صرح حيث
قال: هذه أمور لا يمكن استنادها إلى اليقين؛ وإنما الشيخ
الإمام ينازعه في امتناع استنادها إلى اليقين، ويقول قد يتفق
ذلك قال: والصواب ما ذكره الإمام من عدم تخريج الإعسار ونحوه
على القضاء بالعلم؛ فإن ذلك [في] 6 العلم المقطوع، ولا يلزم أن
يطرق الظن واستدل عليه بعكسه قال؛ فإنهم قالوا إذا منعنا
القضاء بالعل؛ فكان سبب العلم تواترًا جاز على أحد الوجهين
لعدم التهمة، ثم قال في أخر كلامه بعد ما ذكر أن قضية كلام
الرافعي تخريج القضاء بالعم في الإعسار والملك والميراث على
الخلاف أنه المختار عنده، وقد يقال بين تصويب الشيخ الإمام
كلام الإمام7 واختياره كلام الرافعي ثانيا [مباينة] 8 فالجواب
أنه لا يمنع طروق الخلاف؛ وإنما عند أن الخلاف في القضاء
__________
1 في "ب" سقط.
2 في "ب" ففي.
3 في "ب" فيه.
4 في "ب" لا علم.
5 في "ب" الميراث والإعسار.
6 في "ب" من.
7 في "ب" الإمام أولا.
8 في "ب" مناقاة.
(1/417)
باليقين أقوى من الخلاف في القضاء بالإعسار
فليتأمل كلامه.
تنبيه: فيما حكيناه من كلام الإمام إشارة إلى أن المعنى بالعلم
في قول الأصحاب هل يقتضي1 بعلمه اليقين لا الظن المؤكد؛ وذلك
يرد على الرافعي؛ حيث قال إن الأئمة مثلوا القضاء بالعلم الذي
هو محل القولين مما إذا ادعى عليه مالا، وقد رآه أقرضه أو سمعه
أقر بمال ومعلوم أن رؤية الإقراض وسماع الإقرار لا يفيد اليقين
بثبوت المحكوم به وقت الحكم؛ فيدل على أن ليس المراد بالعلم
اليقين بل الظن المؤكد، وقد رد الشيخ الإمام رحمه الله2 على
الرافعي، وقال: ليس كذلك بل المراد باليقين يقين السبب الذي به
الحكم وهو الإقراض أو الإقرار، ولو ظنهما ظنا مؤكدا لم يحكم
بلا خلاف. وأما استصحاب حكم السبب إلى وقت القضاء [قضى] 3 في
جميع الحجج، ولا يقال فيه ظن، وإن كان ظنًّا في الحقيقة
بالمحكوم به وقت القضاء؛ إلا أن الفقهاء لا يريدون ذلك.
قلت: ولذلك يقولون في اليقين لا [يرتفع] 4 بالشك ومعلوم أنه لا
شك مع اليقين القاطع؛ فلو عنوا باليقين القاطع لم صح أن
يعتقدوا مجامعته للشك قال الشيخ الإمام ومتى أخذنا بعموم كلام
الرافعي في الاكتفاء بالظن المؤكد ورد عليه قول الإمام: إنه لا
يحكم بذلك في الإعسار والميراث والملك والصواب ما قاله الإمام؛
فإنه لا يلزم من اختلاف القول في القضاء بالعلم المقطوع أن
يختلف في الظن لأنه ينضم إلى التهمة ضعف المدرك وقد ذكروا في
عكسه إذا قلنا يمتنع القضاء بالعلم؛ فكان سبب العلم تواترًا
يجوز على أحد الوجهين لعدم التهمة وما ذاك إلا؛ لأنه إذا قوي
المدرك وانتشر ضعفت التهمة وعكسه إذا ضعف المدرك قويت التهمة؛
فلا يحكم به ثم ذكر قضاء القاضي في التقويم ببصره [في] 5 نفسه
وميل الرافعي إلى جريان الخلاف فيه، وإن الإمام قال فيه بالمنع
على خلاف ما ظن به الرافعي، ثم قال [انتظم] 6 كلام الإمام على
قاعدة واحدة يعني في منع القضاء بالظن في الإعسار والميراث
والملك والتقويم [ثم] 7 قال: والرافعي رجح في التقويم الحكم
بالعلم ولم يتعرض للإعسار، ويلزمه أن يقول بذلك فيه وإذا قال
به فيه؛ ففي الملك وحصر الورثة أولى. أما الملك فلاعتماده
أسبابا ظاهرة ولهذا لا يشترط
__________
1 في "ب" يقضي القاضي.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" فصحيح.
4 في "ب" يرفع.
5 سقط في "ب".
6 في "ب" انتظر.
7 سقط في "ب".
(1/418)
فيه الخبرة الباطنة. وأما حصر الورثة لأن
الحكم للوارث المعين لا ظن فيه وبقي غيره معتضدا بالأصل فعضد
ذلك ما عند الحاكم، وقد صرح الماوردي في الملك بأنه يجوز
للقاضي وتردد في الشاهد وفرق بأن الشاهد؛ إنما يعتمد العلم
والقاضي يبني على الحجة وهذا مخالف لكلام الإمام ومساعد
[لكلام] 1 الرافعي، وقد ينحل من ذلك صورا أحدها [الحكم] 2
بالعلم اليقيني المحسوس الحاصل وقت القضاء.
والثانية: علم سبب متقدم كإقراض وسماع إقرار لم يعلم ارتفاعه
وهاتان فيهما القولان.
الصورة الثالثة: الحكم بالعلم الحاصل بالتواتر قيل على القولين
وقيل يقطع بالجواز.
والرابعة: الحكم بالتعديل المذهب الجواز، وقيل على الخلاف.
والخامسة: الإعسار، قال الإمام: لا يحكم بالعلم فيه وقياس قول
الرافعي وهو المختار. السادسة: الملك وحصر الورثة كلام الإمام
يقتضي أنه كالإعسار قال الشيخ الإمام، وينبغي أن يكون أولى منه
بإجراء القولين.
السابعة: التقويم الأشبه عند الرافعي أنه على القولين، والذي
يظهر من اختيار الإمام أنه كالإعسار.
الثامنة: يعتمد العلم3 فيه [به] 4، وليس من القضاء بالعلم في
شيء التاسعة الجرح يعتمد العلم فيه قطعًا. انتهى كلام الشيخ
مختصرا.
وأقول: إذا كان سياق الرافعي يقتضي أن الإعسار على الخلاف، وهو
الذي صرح [به] 5 الشيخ الإمام باختياره أخيرًا؛ فقد [انضم] 6
كلامه على قاعدة واحدة غير أن المعنى بالعلم عند الإمام
اليقين؛ فمن ثم منع الإعسار والتقويم والميراث والملك وعند
الرافعي غلبة الظن؛ فمن ثم جوزها والشيخ الإمام وافق الإمام في
أن المعنى بالعلم اليقين ونازعه في كون هذه الأمور لا تفضي
إليه، وقال [وإن] أفضت إليه فهي من مسائل القضاء بالعلم هذا
كلامه أولا ثم مال آخرا إلى
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" اللون يعتمد.
4 سقط في "ب".
5 سقط في "ب".
6 في "ب" انتظم.
7 في "ب" إن.
(1/419)
ترجيح الحكم فيها بالعلم فلا يتبين [في] 1
جريان كلامه على قاعدة واحدة فليتأمل ذلك.
قاعدة:
الأموال الضائعة يقبضها القاضي حفظًا لها على أربابها قال
الأصحاب، ثم إما أن يبقيها، وأما أن يبيعها ويحفظ ثمنها وله
حفظها معزولة عن أمثالها في بيت المال، [وله] 2 أن يخلطها
بمثلها فإذا ظهر المالك غرم له من بيت المال، وهذه القاعدة هي
مأخذ الأصحاب في إيجابهم على القاضي قبول اللقطة إذا دفعها
إليه الملتقط وإن كان قد اختار التملك ثم بدا له، وقد يورد على
هذه القاعدة ما رواه البخاري تعليقًا ومسلم متصلا من حديث أنس
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق
مطروحة؛ فقال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها.
فسمعت الشيخ الإمام رحمه الله يقول سمعت شيخنا الدمياطي يقول:
سمعت قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز يقول كيف يقولون
الإمام يأخذ المال الضائع للحفظ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم
يأخذهما وأجاب بعض الناس بأنه إنما نفى في الحديث الأكل، وقد
يكون أخذها قال الشيخ الإمام.
وأنا أقول: إنما يأخذ الإمام المال الضائع الذي صاحبه متطلع له
أما ما يعرض عنه فيترك لكل من يريد أخذه فاندفع السؤال. قلت:
ومن ثم لم يجب في اللقطة تعريف ما انتهى [إليه] 3 في القلة إلى
حد يسقط تموله كحبة حنطة وحاول الرافعي تخريج وجه فيه ونازعه
ابن الرفعة والشيخ الإمام، وقد عرفت أن هذه المسألة التي نبه
عليها الشيخ الإمام في الحديث مستثناة من القاعدة؛ فإن قلت فقد
أوجبوا على الملتقط تعريف القليل وبالغ الشيخ الإمام؛ فأوجب
تعريفه سنة ولم يكتف بزمان يظن أن فاقده يعرض عنه غالبًا، وذكر
أن اكتفاء الرافعي والنووي به مخالف لمشهور المذهب؛ فكيف
استثنى من القاعدة ما لا يوافق أصله.
قلت: الحقير الذي أوجب الشيخ الإمام تعريفه سنة والرافعي
والنووي زمنًا يظن إعراض صاحبه عنه هو ما لم ينته في القلة إلى
حد يسقط تموله كما عرفناك ليس في المنتهى إلى ذلك إلا محاولة
الرافعي لتخريج وجه فيه لم يوافقه عليه لا ابن الرفعة ولا
الشيخ الإمام، وانظر إلى قول الرافعي والنووي يظن إعراض صاحبه؛
فإن فيه إشارة إلى أن ما كان الظن حاصلًا فيه قبل التعريف لا
فائدة في تعريفه ولا يعرف؛ فقد ظهر استثناء الحقير الذي يغلب
على الظن إعراض صاحبه عنه من
__________
1 في "ب" لي.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
(1/420)
القاعدة فلا يأخذه القاضي للحفظ ولا يعرفه
الملتقط إذا التقطه؛ بل لو أخذه للاستبداد به، ثم تردد الشيخ
في أنه [هل] 1 يملك بمجرد الأخذ كالاحتطاب أو بقصد [التمليك]
2، قال والظاهر الثاني وفي أنه إذا لم يقصده هل يخرج عن ملك
مالكه، قال: والظاهر بقاؤه حينئذ يدخل في معنى اللقطة؛ لكنها
لا تعرف، قلت: وبقيت مسائل أخر تستثنى من3 القاعدة.
منها: إذا أقر لمنكر فأصح الأوجه أنه يترك في يد المقر كما
كان، ثم اختلف في وجهه؛ فقيل: لأن يده تشعر بالملك ظاهرًا وقد
عارض الإقرار الظاهري إنكار المنكر فسقط، وقيل: لأنا لا نعرف
مالكه، ونراه في يد المقر فهو أولى الناس بحفظه وجمع الرافعي
في الشرح بين العلتين والأظهر منهما العلة الثانية ويتخرج
عليهما أن يد المقر بعد ذلك عليه هل هي يد ملك أو يد استحفاظ
[والأول] 4 قضية كلام صاحب المهذب، قال ابن الرفعة: والأشبه
الثاني لأن المقر ادعاه لنفسه لم يقبل عند الإمام والغزالي
فعدم الحكم له [به] 5 عند عدم الدعوى أولى قلت: نحن لم نقل أنه
يحكم له به؛ وإنما قلنا يبقى في يده يد ملك وفرق بين ذلك
والحكم به فتأمله، ثم على وجه الاستحفاظ يكون مستثنى من
القاعدة؛ فإنه مال لم يعرف مالكه ولم يقبضه القاضي بل تركه في
يد المقر وفي المسألة تتمة نذكرها قريبا في أخر الفرع عقيبها.
ومنها: على وجه قال الشيخ أبو محمد موضع الخلاف فيمن أقر لمنكر
ما إذا قال صاحب اليد هذا لفلان وكذبه، أما إذا قال صاحب اليد
للقاضي في يدي مال لا أعرف مالكه؛ فالوجه القطع بأن القاضي
يتولى حفظه وأبعد بعضهم فلم يجوز انتزاعه هنا أيضًا كذا نقل
الرافعي هنا وقال في باب دعوى الدم فيمن في يده مال حكم له به؛
فقال إنه مغصوب إن عين صاحبه انتزع منه، وإن لم يعين فهو مال
ضائع وفي مثله خلاف مشهور، وقال في باب الدعاوي أن من في يده
مال لو قال هو لرجل لا أعرفه ولا أسميه أن الأصح أنه لا ينتزع
من يده، وقال في باب الكتابة فيما إذا أتى المكاتب بالنجوم؛
فقال السيد هذا حرام وحلف المكاتب أجبرنا السيد [القول] 6 إنه
إن لم يكن عين مالكها7 لم
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" التملك.
3 في "ب" من هذه القاعدة.
4 في "ب" والأولى.
5 سقط في "ب".
6 في "ب" القبول.
7 في "ب" مالكا.
(1/421)
ينتزع من يده على الصحيح؛ فانظر هذه
المواضع وتلقف منها ما يستثنى من هذه القاعدة والجمع بين ما
قيل في الأبواب الثلاثة وما حكي عن الشيخ [أبي] 1 محمد في
الإقرار أن المقر في الأبواب الثلاثة محكوم عليه؛ فإقراره
بمجهول على خلاف الحكم مع تهمته فيه لا يسمع بخلاف مسألة الشيخ
أبي محمد؛ فإنه ليس متهما هناك.
ومنها: إذا كان المال الضائع في ذمة إنسان بأن جاء إلى القاضي،
وقال في ذمتي مال لا أعرف مالكه فقياس المذهب أنه لا ينزع ولا
ينقل من الذمة إلى الضمان نعم يجيء على طريقة الشيخ الإمام
التي نقلها عن النص وصححها وهي أن للآحاد انتزاع المغصوب أنه
ينزع، والحالة هذه والذي أراه في المغصوب ومن في يده مال ضائع
أنه إن خشي من بقائه في يده أو ذمته هلاكه انتزع، ولا يضر
انقلابه من الضمان إلى الأمانة لهذا الغرض وإلا فلا ويبقى على
الحكم الضمان؛ فليجتهد الحاكم فيما هذا شأنه وأقول هذا أيضًا
فيما إذا أقر لمنكر، وقلنا يبقى في يد المقر استحفاظًا؛ فأقول
إنما يبقى في يد المأمون على مثله والمشهور في مسألة [الإنذار]
2 للمنكر أن محل الخلاف إذا كان المقر به عينًا، أما إذا كان
دينًا؛ فلا يؤخذ بلا خلاف وذكر ابن يونس في شرح التنبيه أنه لا
فرق بين العين والدين، وقد تحرر ما ذكرناه مسألة مستثناة من
القاعدة على المذهب وهي الدين وعلى وجه، وهي مسألة الشيخ أبي
محمد وهو الوجه الذي أشار إليه الرافعي3 وأبعد بعضهم، وعلى
الأرجح وهي العين المقر بها لمنكر إذا قلنا يترك في يده
الاستحفاظ، وقد ذكرنا أن طريقة الاستحفاظ هي الأرجح؛ فإن قلت:
رجحان طريقة الاستحفاظ على رأي الإمام والغزالي واضح؛ فإنهما
يقولان لو رجع المقر له عن الإنكار وصدق المقر قبل وسلم المال
إليه؛ ولكن الأصح عند الرافعي والنووي عدم تسليمه إليه، وأنه
إنما يسلم إليه على الوجه البعيد القائل بأنه يجبر المقر له
على القبول، وعلى هذا فكيف يرجح قول الاستحفاظ قلت: أما قول
الرافعي والنووي أنه إنما يسلم إليه على الوجه البعيد؛ فقال
الشيخ الإمام فيه نظر؛ إذ لا حاجة إلى الرجوع حينئذ قال،
وينبغي أن يقال: إن قلنا يترك في يده ملكا؛ فهو إبطال الإقرار
فلا يسلم إليه، وإن قلنا استحفاظًا فلا يمتنع تسليمه للمقر له
إذا رجع، ولا يختص ذلك بالتفريع على الوجه البعيد، قال:
والصحيح أن الخلاف في قبول رجوع المقر له مطلق من غير بناء،
والأظهر منه عند الرافعي عدم القبول
__________
1 في "ب" أبو.
2 في "ب" الإقرار.
3 في "ب" الرافعي بقوله.
(1/422)
هذا ملخص كلام الشيخ الإمام وهو حق، وليس
[له] 1 فيه كما ترى موافقة الرافعي على تصحيح عدم القبول ولا
تصريح بمخالفة، وأقول إذا كان الأرجح التبقية استحفاظًا؛ فالذي
يظهر ترجيح القبول لا سيما إذا ادعى أنه كان غالطا وبين للغلط
وجهًا محتملًا ولا يؤاخذ بتكذيبه السابق، كما أنه يقبل رجوع
المقر نفسه على الأصح إذا قال كنت غالطًا كما في الوسيط
والمحرر والمنهاج؛ بل وإن لم يقل كنت غالطًا كما في الشرح
الكبير والشرح الصغير [ورجح] 2 الشيخ الإمام، وقال: ينبغي
إسقاط قيد الغلط من المحرر والمنهاج أو يقال: إنه لا مفهوم له؛
فقد ظهر أن الأرجح على قول الاستحفاظ القبول هذا إذا صدق المقر
له بعد ما كذب. أما عكسه إذا كذب بعد ما صدق؛ فلم أجده
مسطورًا، وقد يقال فيه إن تكذيبه بعد انفصال الخصومة غير معتبر
لكنه بمنزلة الإقرار بما في يده لمجهول؛ فيأخذه القاضي على ما
[قال] 3 الشيخ أبو محمد أو تبقيته في يده هذا إن أنكر كونه
لنفسه، ولم يقر بأنه لمعين؛ فإن أقر به للذي أقر له فهو إقرار
لمنكر فيبقى في يده على الأصح، وقد يقال لا يبقى في يده هنا
قطعًا سواء أقر به لمن أقر له أولا أو لمجهول؛ لأنا عرفنا سبب
وضع يده وقد زال بإقراره؛ فأما أن يعيده إلى من أقر أولا أو
[ينزعه] 4 القاضي قطعًا، وأقول الذي يظهر هنا أن القاضي
[ينزعه] 5 قطعًا ولا يبقيه في يده لما ذكرت من أنه عرف سبب وضع
يده، وهو إقرار الأول له مع تصديقه وقد زال تصديقه ولا يعيده
إلى الأول؛ لأنا إنما نبقيه في يده عند الإنكار أما بعد
الاعتراف ورفع يده؛ فلا نعيده إليه لأن في الإعادة إليه حكما
بثبوت يده، ولا وجه للحكم بذلك مع كونه مقرًّا للغير، وهذا
بخلاف التبقية عنده ابتداء؛ فإنها ليست بحكم له، وإن قلنا اليد
يد ملك كما بيناه آنفًا ورددنا به [كلام] 6 ابن الرفعة فتأمله،
وكل هذا إذا لم أجده مسطورًا أو أخص منه ما وقع عندي في
المحاكمات شخص أقر بعقار لآخر ملكًا، وصدقه المقر له، ثم مات
فعاد المقر يدعي على وارثه بذلك العقار، ويقول: إنما أقررت به
لمورثك مكرها، ولم يثبت الإكراه لكن كان من جواب الوارث أنه
وقف؛ فقلت: إن كان المورث قد أحدث الوقفية بعدما ثبت له
[المالكية] 7 فذاك؛ وإلا فهل هذا من الوارث تكذيب للمقر لأنه
يقول هي
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" ورجحه.
3 في "ب" قاله.
4 في "ب" ينتزعه.
5 في "ب" ينتزعه.
6 في "ب" بحث.
7 في "ب" الملكية.
(1/423)
ملك مورثك، [ونقول] 1 بل وقف وكلام الوارث
منزلة منزلة2 المورث؛ فيصير مكذبًا بعد التصديق فيعود المقر،
ويقول قد أكذبتني في إقراري لك بالمليكة فلتبق يدي على ما
أقررت به، ولا تنزع كمن كذب المقر ابتداء [وليس] 3 بتكذيب؛ لأن
المورث قد صدقه وانفصلت الخصومة؛ فلا يعود [يدعي] 4 الوارث
الوقفية هذا موضع نظر واحتمال5 قاعدة ليس كلما لا [معه] 6
الحالكم إذا وقع يجيب إليه أو بإذن فيه إذا طلب، ومن ثم فروع
منها الأصح أنه لا يجيب الشركاء إذا طلبوا قسمة ما لا تبطل
منفعته بالكلية إذا كسر فروع منها الأصح أنه لا يجيب الشركاء
إذا طلبوا قسمة ما لا تبطل منفعته بالكلية إذا كسر كالسيف؛
ولكن إذا اقتسموا بأنفسهم لم يمنعهم بخلاف ما تبطل منفعته
بالكلية كالجوهرة النفسية.
ومنها: قال الشيخ الإمام الوالد [رحمه الله لا] 7 يجوز للحاكم
الإجابة إلى بناء ما استهدم من الكنائس ولا الإذن فيه، وكاد
يدعي الإجماع على ذلك وإن كان لا يمنع عند إعادة ما استهدم من
كنيسة قديمة على الخلاف فيه.
ومنها: على القول بأن المشرك إذا انتقل إلى دين يقر أهله عليه
لا يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه قال الأصحاب
لا يقال له: أسلم أو عد إلى ما كنت8؛ بل يقال: له أسلم؛ فإن
عاد إلى غيره تركناه أصل يرد إليه قاعدة الكفارات من العبادات
جابر [وزاجر] 9 والمعنى بالجابر ما يجبر مصلحة فاتت ويستدركها؛
فهو داخل في جلب المصالح والمعنى بالزاجر ما يمنع من ارتكاب
مفسدة. أما محرمة أو مكرهة أو مصورة10 بصورة المحرم؛ فإنه رب
مفسدة انتفى التكليف فيها لعدم العلم ونحوه ولم يخرجها انتفاء
التكليف عن كونها مفسدة كما إن قتل غير المستحق دمه مفسدة، وإن
جاء من قبل [الخاطيء] الذي لا تكليف عليه؛ فإذا الزواجر من
[قبيل] 12 درء المفاسد فيكون الزاجر أعم من الجابر؛ لأن درء
[الفساد] 13 أعم من جلب المصالح كما ذكرنا في
__________
1 في "ب" وهو يقول.
2 في "ب" منزل منزلة كلام المورث.
3 في "ب" أو ليس.
4 في "ب" بدعوى.
5 في "ب" واحتمال منها.
6 في "ب" يمنعه.
7 سقط في "ب".
8 في "ب" ما كنت عليه.
9 في "ب" وزادوا.
10 في "ب" مقصورة.
11 في "ب" الحناطي.
12 في "ب" قبل.
13 في "ب" المفاسد.
(1/424)
أول الكتاب؛ غير أنا إذا قابلنا درء
[الفاسد] 1 بجلب المصالح أو الرواجر بالجوابر؛ فإنما يعني به
ما هو من الزواجر مقصور على درء المفسدة، وليس بجالب للمصلحة
إذا عرفت هذا؛ فقد اختلف في الكفارات أهي من الجوابر أو
الزواجر؛ فقال كثيرون: إنها جوابر لما فات من حق الله [تعالى
بدليل] 2 وجوبها على حافر البئر والنائم ونحوهما، ولأنها
عبادات للنية فيها مدخل؛ فلا تشبه الحدود والتعزيرات التي هي
زواجر محضة وقال أخرون بل هي زواجر عن الفعل التي وضعت بإزائه،
أما لفاعله أن يقع في مثله أو لغيره أن يفعل [مثل] 3 فعله،
وإذا جريت على هذا الأصل وصح لك أن إيجاب الكفارة في قتل العمد
واليمين الغموس أحق منه في إيجابها في قتل الخطأ وغير الغموس؛
سواء قلنا الكفارات زواجر أم جوابر؛ لأن [الزجر والجبر] 4
فيهما أولى منه في غيرهما غير أن الخصوم يتعلقون بشيئين
أحدهما: أن المعصية ربما ترقت على حد التكفير لغلظها في نفسها،
ولو استدل لهم مستدل بقوله تعالى: قاعدة [كل ما] 5 شرط في
الراوي والشاهد؛ فهو معتبر عند الأداء لا عند التحمل إلا في
مسائل:
منها: الشهادة في النكاح؛ فإن الشروط معتبرة عند التحمل أيضًا
لتوقف انعقاد العقد على حضور عدلين فإن قلت أليس يكفي حضور
مستورين على الأصح. قلت: لأن [ظاهرهما] 6 العدالة ولو تبين
خلافها فالنكاح باطل على المذهب.
ومنها: على قول ضعيف الصبي إذا تحمل الرواية فبلغ؛ فأدى لا
يقبل وهذا في الرواية، أما لو تحمل الشهادة فبلغ؛ فأدى فلا
نعرف خلافًا في قبول شهادته بل لو أداها في الصبا فرد، ثم
أعادها بعد البلوغ قبلت قطعًا.
ومنها: إذا وكله في البيع واشترط عليه الإشهاد.
ومنها: إذا وكله في قضاء دين فقضاه في غيبة الموكل، وجب عليه
الإشهاد؛ ولكن الأصح الاكتفاء بشاهدين ظاهرهما العدالة أو
بشاهد واحد فالاستثناء على وجه. وكذا إذا وكله في الإيداع.
فأودع ولم يشهد لم يضمن على الصحيح.
ومنها....
قاعدة:
مستند الشاهد إن كان إخفاؤه يورث ريبة تعين ذكره، فلا تقبل
الشهادة إلا
__________
1 في "ب" المفاسد.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" مثله.
4 تقديم وتأخير.
5 في "ب" كلما.
6 في "ب" ظاهرها.
(1/425)
بذكره، وإن كان ذكره يورث ريبة تعين إخفاؤه
فتردد الشهادة عند ذكره. وإن لم يتعلق ريبة [لا] 1 يذكره ولا
بإخفائه لم يضر واحد منهما، وإن تردد النظر في أنه هل يورث
ريبة؟ اختلف فيه، وقد تطلب قرينة تدفع الريبة من موافقة مذاهب
الشاهد للحاكم وفقهه ونحو ذلك.
فما يورث إخفاؤه ريبة؛ الجرح فلا يخفي اختلفا المجتهدين في
أسبابه، ثم اشتباه كثير منها على كثير من الناس، فمن ثم لم
يقبل إلا مفسرا2.
ومنها: إذا أخبره ثقة بنجاسة الماء أو شهد به شاهدان لم يقبل
ما لم يتبين السبب؛ إلا إذا كان المخبر أو الشاهد فقيها
موافقًا في المذهب.
ومنها: الشهادة باستحقاق الشفعة لا بد فيها من بيان السبب.
ومنها: الشهادة بأنه وارثه.
ومنها: الشهادة بالردة على ما صححه الشيخ الإمام الوالد وهو
الصحيح الذي اقتضى بصحته كلام الرافعي والنووي -وإن كانا رجحًا
الاكتفاء لإطلاق تصحيحه في باب الردة.
ومنها: الشهادة بانتقال الملك أصح الأوجه لا بد من بيان سبب
الانتقال.
والثالث: الفرق بين الفقيهين الموافقين وغيرهما.
ومنها: لو شهد أن بينهما رضاعًا محرمًا.
ضابط الاستفاضة:
اقتضى كلام أقوام أنها خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب. وعليه
دل كلام الرافعي في بعض المواضع؛ فعلى هذا هل هي التواتر
بعينه.
واقتضى كلام قوم أنها دونه، مع القطع بأنها فوق الظن المجرد،
وهذا ما اقتضاه كلام الرافعي في كتاب الشهادات في مستند علم
الشاهد؛ إذ حكى فيها أوجها أصحها "أنه خبر جمع كثير مع العلم
أو الظن القوي بقولهم ويؤمن
__________
1 سقط في "ب".
2 وأجاز أهل العلم التخريج صونا للشريعة ودفعا عنها.
3 قال الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا} .
(1/426)
تواطؤهم على الكذب؛ غير أن لك أن تقول:
إنما يؤمن التواطؤ على الكذب عند اليقين، وهذا نحو كلامه في
كتاب القضاء؛ إذ جعل فيه المستفيض دون المعلوم.
والذي يظهر أن المستفيض قد يكون معلومًا وقد يكون مظنونًا
قويًا؛ غير أنه إذا انتهى إلى العلم كان متواترًا، فإذا هو أعم
من التواتر، وإذا لم ينته إلى العلم فقد يعمل به وقد لا يعمل
به؛ لأنا نتطلب في بعض الأماكن مستفيضًا انتهى إلى درجة العلم،
وسيظهر لك ذلك.
وإذا عرفت هذا فنقول: قال أصحابنا: لا تقبل الشهادة بالاستفاضة
إلا في مسائل الموت والنسب. ولو من الأم، على الأصح، والوقف
والنكاح والولاء وولاية الوالي وعزلة الرضاع، وتضرر الزوجة،
والصدقات والإسلام والكفر والرشد والسفه، والحمل، والولادة
والوصايا، والحرية، وشراب قديم معروف بقوم، واللوث وكذا الغصب
-ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية وهو ظاهر، والدين وهو على
وجه حكاه الهروي في الأشراف.
ومنها: التعديل والجرح.
وهنا فوائد: أحدها: نقل الرافعي عن العدة أنه لو استفاض فسق
الشاهد بين الناس؛ فلا حاجة إلى البحث والسؤال وينزل المستفيض
منزلة المعلوم.
وسكت على هذا في الفصل الرابع في التزكية في كتاب القضاء، ثم
بعد ورقتين -ذكر أنه إذا استفاض الفسق وانتشر جاز الجرح به،
فيما حكى ابن الصباغ وصاحب التهذيب وغيرهما.
قلت: وليست هذه مسألة العدة؛ فتلك في أن الاستفاضة بفسقه تدفع
بها شهادته، أما إنشاء الحكم به: فهو مسألة ابن الصباغ وصاحب
التهذيب وليتنبه فيها لأمرين.
أحدهما: أنهما وغيرهما لم يجوزوا -ولا واحد منهم- الجرح بمجرد
الشياع والانتشار؛ بل لا بد -معهما- من حصول العلم، وبذلك صرح
الماوردي والبندنيجي، وإليه أشار -أيضا- ابن الصباغ وصاحب
التهذيب.
أما إذا لم يفد العلم اليقين؛ فلا يجوز اعتماده وهتك أعراض
الناس به، قال ابن الرفعة: وبهذا صرح الغزالي تبعًا للإمام في
مكان آخر قال: وهو الحق، لأنه مما يمكن.
(1/427)
الوقوف عليه، وليس من شأنه -إذا وقع- أن
تتناوله الألسن على مرور الزمان؛ فلا يقنع فيه بما لا يحصل
العلم من الاستفاضة، قال: ولهذا حكي عن الشيخ أبي حامد أنه
قال: السماع من الواحد والعشرة لا يجوز الشهادة به؛ لأنه لا
يصير به علما، وإن كان من مذهبه الاكتفاء في الاستفاضة بالسماع
من عدلين.
قلت: وكذلك قال صاحب البحر: وإنما لم يقيده الرافعي بالعلم؛
لأنه ذكر عقيبه أنه لا يجوز الجرح بناء على خبر الواحد والعدد
اليسير، وملعوم أنه لو اكتفى بالظن لاكتفى بالواحد، أو بالظن
القوي لاكتفى بالعدد اليسير.
وفي المهذب أنا اكتفينا بقول أصحاب المسائل جاز للواحد منهم أن
يعتمد فيما يشهد عند القاضي من الجرح والتعديل على قول واحد
إذا سكنت نفسه إليه.
وهو مأخوذ من الماوردي؛ لكنه مفروض في أصحاب المسائل، ثم هو
غير موافق عليه وما ذكره الشيخ أبو حامد وغيره في غير أصحاب
المسائل؛ فهذا أحد الأمرين.
والثاني: أنه مخصوص بالشاهد إذا استفاض عنه فسقه.
أما الحاكم لو استفاض فسقه؛ فهل للشاهد أن يشهد به؛ فهذا لم
أره مسطورًا، والذي أعتقده أنه لا يجوز؛ لأن الكلام بالبهتان
في أرباب الولايات كثير، وتقضي العادة بأنه لا يستفاد منه علم؛
بل ولا ظن قوي.
الفائدة الثانية:
هذا كله في استفاضة لها أصل؛ لأن هذا في معنى المتسفيض، ونعني
بما له أصل ما ينتهي الحال فيه إلى عدول معينين يخبرون عن
مشاهدة أدنى عددهم -كما علمت- أحد عشر، ولا يكتفي بمجرد شياع
لا يعرف أصله، وإليه الإشارة بقول الرافعي: لا يجوز الجرح بناء
على خبر الواحد والعدد اليسير، نعم له أن يشهد على شهادته بشرط
الشهادة على الشهادة. انتهى.
وهو صحيح، ذكره أكثر الأصحاب؛ غير أن الرافعي لم يعين مقدار
العدد اليسير، وقد قدمنا عن الشيخ أبي حامد وصاحب البحر أنهما
قالا: لا تكفي العشرة؛ فحينئذ [أقل ما يكفي] 1 أقل جموع الكثرة
وهو أحد عشر فليتنبه لذلك؛ فمن زعم استفاضة بدون هذا العدد فهو
جاهل.
الثالثة: الاستفاضة -على ما فهمت عن الأصحاب- غير السماع،
والسماع هو
__________
1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
(1/428)
الذي وقع في لفظ الشافعي رضي الله عنه،
والمراد به التواتر.
الرابعة: شرط العمل بالاستفاضة أن لا تعارض باستفاضة مثلها؛
فإن عورض بطل حكمه لأنا إن شرطنا العلم في الاستفاضة فالمعارضة
تدل على أنه لا استفاضة من الجانبين؛ لأن القاطعين لا
يتعارضان.
وإن قلنا: يكتفي فيها بالظن الغالب؛ فعند المعارضة ليس الظن
المستفاد من إحدى الاستفاضتين بأولى من مقابهما، وهذا مما لا
يتصور فيه خلاف.
قاعدة:
[من قبلت روايته أو شهادة في شيء] 1؛ فهل يكتفي بإطلاقه القول
في ذلك أو يكلف بيان السبب؟
التحقيق أنه لا يكلف [بيان السبب] 2 فيما لا تشتبه طرقه،
ويختلف فيه المجتهدون3، وهل يكلف فيما اشتبهت طرقه واختلف
المجتهدون فيها طلبًا للاحتياط ودرءًا لاحتمال يخالف اجتهاد
الشاهد والمشهود عنده واحتمال بناء الشاهد شهادته على ظن ليس
هو عند المشهود عنده كما هو عنده أو لا يكلف اكتفاء بأن الجاهل
بما هذا شأنه لا يقبل خبره، ولا شهادته في ذلك؟
وإذا كان عالما فهو يدري أين يضع قوله أو يكلف عدم ذكره لئلا
يورث ذكره إياه ريبة.
هذه احتمالات ثلاثة، والتحقيق فيها الاختلاف باختلاف الصور.
فمنها: الشهادة بالجرح والتعديل، والصحيح لا بد من بيان سبب
الجرح دون التعديل.
ومنها: ما إذا أخبره ثقة بنجاسة الماء أو شهد به شاهدان لم
يقبل ما لم يبين السبب؛ إلا إذا كان المخبر أو الشاهد فقيها
موافقًا في المذهب.
ومنها: لو شهد باستحقاقه الشفعة فلا بد من بيان السبب.
[ومنها لو شهد بأنه وارثه لا بد من بيان السبب] 4.
ومنها: لو شهد بالردة. رجح الرافعي والنووي القبول مع الإطلاق،
واقتضى كلامهما -في مواضع- أنه لا بد من بيان السبب، وهو
الصحيح عند الشيخ الإمام وإياه يصحح ويستشكل ما وراءه.
__________
1 تقديم وتأخير.
2 سقط في "ب".
3 في "أ" ويختلف فيه المجتهدين والمثبت من "ب".
4 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
(1/429)
ومنها: لو شهد بالموضحة الأصح القبول، وقال
القاضي الحسين: "لا بد من التعرض لإيضاح العظم"، وتردد فيما
إذا كان الشاهد فقيهًا وعلم القاضي أنه لا يطلق لفظ الموضحة
إلا على ما يوضح العظم.
ومنها: إذا شهدا بانتقال الملك إلى زيد ولم يبينا سبب
الانتقال؛ فأصح الأوجه عدم القبول، والثالث: إن كانا فقيهين
موافقين فلا حاجة إلى بيان السبب.
ومنها: إذا شهدا أن حاكمًا حكم بكذا ولم يعيناه فالأصح القبول.
ومنها: إذا شهدا أن بينهما رضاعًا محرمًا؛ ففي الاحتياج إلى
السبب وجهان:
الأكثر لا يحتاج، وتوسط الرافعي....
قاعدة:
الشيء الذي لا ينضبط أسباب الاطلاع عليه إذا أثارت أسباب
معرفته لبعض العارفين بها ظنًّا يسوغ له الشهادة بمقتضى ذلك
الظن -لم يجز أن يصرح به في شهادته؛ لأن ذكرى إياه بين يدي
الحاكم قد يورث الحاكم ريبة؛ إذ من الجائز أن لا يتبين عند
الحاكم الظن الذي أثاره عند الشاهد، لا سيما وقد يقوم عند
الشاهد إشارات تقصر عنها العبارات، ومن ثم قالوا فيما يشهد فيه
بالاستفاضة: أن الشاهد [لو] 1 صرح بأن مستندة الاستفاضة لم
يقبل؛ لأنه أضعف قوله بذكر مستنده.
وفي القاعدة مسائل:
منها: ما ذكرناه من أن الشاهد فيما يشه به فيه بالاستفاضة لا
يذكر مستنده.
قاعدة:
ذكر بعضهم أن أصل قاعدة مذهبنا "أن اللهو واللعب أصلهما على
الإباحة خلافًا لمالك".
وهذه العبارة لا أعرف أحدًا -من الأصحاب- قالها؛ ولكنها قضية
أن أصول الأشياء على عدم التحريم.
فائدة: قال الجرجاني في "المعاياة" والروياني في "الفروق": ليس
أم ولد يمتنع السيد من وطئها من غير تعلق حق زوج بها إلا في
مسألتين.
إحداهما: أن يشتري أخته من الرضاع ويطأها جاهلًا بالتحريم
ويحبلها؛ فإنها تصير أم ولد، ويمنع من وطئها للتحريم القائم
بينهما بالرضاع.
قلت: ولا حاجة إلى تقييد التصوير بأخوة الرضاع؛ بل لو اشترى
أخته من النسب
__________
1 في "ب" إذا.
(1/430)
ووطئها بشبهة صارت أم ولد، وحرمة الوطء
قائمة بل وطئها لا بشبهة صارت أم ولد أيضًا، وصار الولد حرًّا
نسيبا، وإن وجب التعزير على الأظهر والحد على قول، وصيرورتها
أم ولد وولدها نسيبًّا على كل من القولين.
كذا جزم به الرافعي في [عتق] 1 أمهات الأولاد؛ ولكنه في باب حد
الزنا- جعل ذلك طريقة مرجوحة؛ فقال: فإن قلنا: لا حد ثبت النسب
والمصاهرة؛ وإلا فلا، وقيل يثبت النسب وتصير الجارية أم ولد
بلا خلاف. انتهى.
قالا: والثانية: أن يكون لكافر أم ولد فتسلم؛ فإنه يمنع من
وطئها إلى أن يسلم.
قلت: وبقيت ثالثة: إذا وطئ الأب أم ولد ابنه بشبهة حرمت على
الابن على التأبيد ولم تحل للأب بحال.
فائدة:
ليس من لا يضمن شخصًا؛ ولكن يضمن طرفه إلا السيد مع مكاتبه إن
قتله لم يضمنه، وإن قطع طرفه ضمنه....
قاعدة:
قال صاحب التنبيه: "لا يصح الدعوى بمجهول إلا في الوصية".
وهذه القاعدة صحيحة، وقد طردها القاضي الحسين، ومنع الدعوى
بالمجهول في الوصية أيضًا؛ ولكن الصحيح خلافه، لئلا يضيع حقه؛
إذ لا طريق له غيرها وقول القاضي: يعين قدرًا ويدعي أن الموصي
أراده -كيف يستقيم ... والغرض أنه أوصى بمجهول.
وقد تورد -أيضا- الشعفة؛ فإن الشيخ الإمام رجح الدعوى بحقها،
وإن لم يعين للثمن قدرًا ولا ادعى المشتري به علما، وذكرا أن
قضية كلامهم تأباه.
قلت: وصرح بمنعه القاضي أبو سعد في "الأشراف"، وبتقدير جوازه
-على [مثال] 2 الشيخ الإمام- فالمدعي به ليس بمجهول لأنه حق
الشفعة؛ إنما المجهول شرطه وهو الوقوع بثمن معين.
وكذلك قد يورد ما إذا ادعى رب المال في المساقاة -على العامل-
خيانة لا لقصد تغريمه بل لرفع يده؛ ففي سماعها مجهولة وجهان في
"الحاوي" قال الشيخ الإمام -في باب المساقاة: "أصحهما سماعها"
قال: "وليس ذلك من مواضع المستثناة في سماع الدعوى بالمجهول؛
لأن هذا إنما هو دعوى خيانة، [وهو] 3 أمر معلوم، فيختلف
__________
1 في "ب" غير.
2 في "ب" على ما قال.
3 في "ب" وهي.
(1/431)
عليه، أو تقام به البينة. وإن شارك الدعوى
بالمجهول في الصورة.
وضم بعضهم -إلى الوصية- الإقرار؛ فإن الدعوى -بالإقرار بمجهول-
صحيحة على الصحيح.
ولك أن تقول: المجهول في الإقرار ليس مجهولًا من كل وجه، ومن
ثم يقول: "التحرير" في هذا الضابط "إن المجهول من الحقوق-
ضربان"؛ ضرب لا يكون ثابتا؛ وإنما يطلب ثبوته، وبعبارة أخرى
نقول: يكون ثبوته موقوفا على تعيينه، والمطلوب من الحاكم
[تعيينه] 1 وبعبارة ثالثة: نقول: يطلب من الحاكم إنشاء تقديره
فتسمع الدعوى به -مع الجهالة- بلا خلاف. وليس مما نحن فيه؛
وذلك كالمتعة والحكومة والمفروض للزوجة.
وضرب يكون [ناشئًا] 2 -لا يحتاج إلى إنشاء الحاكم إثباته ولا
في تعيينه وهو ثلاثة:
الأول: المجهول في نفس الأمر وهو المبهم كالوصية بمجهول.
الثاني: المجهول عند المدعي؛ ولكنه [معلوم] 3 في نفس الأمر.
وهو الإقرار بالمجهول والصحيح التحاقه بالأول.
الثالث: أن يكون معلوما عند المدعي؛ غير أنه يجهله على الحاكم
ولا يبينه له؛ فهذا هو الذي لا تصح الدعوى به، ولا يستثنى منه
شيء.
قاعدة:
"لا تصح الدعوى إلا من مطلق التصرف" ...
قاعدة: "قال الشيخ أبو علي رضي الله عنه: "كل ما صحت إقامة
البينة به صحت الدعوى به".
ونقضها ابن أبي الدم بصور تكلم عليها الشيخ الإمام في باب
الإقرار من شرح المنهاج.
قاعدة:
"كل دعوى يشترط فيها أن يكون متعلقة بشخص معين".
وفي وجه يستثنى الدم فإذا قال: قتله أحدهم -وهم جمع يمكن
اجتماعهم على قتله- حلفهم الحاكم. وصححه الغزالي في الوجيز.
والأصح -في المنهاج والروضة المعزو في الشرح الكبير إلى تصحيح
صاحب
__________
1 سقط في "ب".
2 في "أ" ناشئًا والمثبت من "ب".
3 سقط في "ب".
(1/432)
التهذيب -أن القاضي لا يجيبه. قال الرافعي:
ولم يورد جماعة من الأصحاب غيره.
وحاول ابن الرفعة موافقة الغزالي على تصحيح الأول؛ فقال في
"المطلب": ومأخذ الخلاف يشبه الخلاف في الدعوى المردودة للحاجة
كما إذا دفع ثوبًا قيمته خمسة ليبيعه بعشرة، ولم يدر هل باعه
[أو تلف] 1 أو هو باق، وقد نقل الغزالي عن القاضي أن القضاة
اصطلحوا على قبول هذه الدعوى، وقضية التشبيه أن يكون الأمر هنا
كذلك فلا جزم. قال في الوجيز: "إنه الصحيح"، وهو يوافق قول ابن
الحداد إذا أبهم الإيلاء بين امرأتين وحضرتا طالبتين للفيئة أو
الطلاق تسمع منهما -مع إبهام المستحقة -ويعضده اتفاق الأصحاب-
على سماع الدعوى-مجهولة- بالوصية؛ لأنه لو لم تصح الدعوى مع
الجهالة لأدى ذلك -في الغالب- إلى ضياع حقه؛ وذلك موجود في
القتل.
قلت: ولا يخفى على ابن الرفعة أن الإبهام فيما ذكره من الصور
ليس هو في المدعى عليه حتى يشابه ما نحن فيه؛ وإنما هو في
مسألة الثوب في المدعى به وكذلك في مسألة الوصية -الدعوى
بمجهول لا على مجهول، وفي مسألة الإيلاء الإبهام في المدعي
نفسه؛ فإن الدعوى -في الحقيقة- من أحدهما وهو مبهمة- لا منهما
ولا من معينة.
ولكن كأنه يشير إلى أنه لا فرق بين الجهل بالمدعي -كالمرأتين-
والمدعى به كالثوب، والمجهول الموصى به والفيئة أو [الطلاق] 2
-اللتين يطلب في الإيلاء إحداهما -والمدعى عليه كمسألة الدم.
وكان أوضح من استشهاد ابن الرفعة -التصحيح مع الإبهام بما
ذكره- أن يستشهد بقول الرافعي في طرق اللوث: "لو قال: القاتل
أحدهم -ولا أعرفه- لم يمكن الولي من القسامة، وله أن يحلفهم؛
فإن نكلوا بأجمعهم فأراد أن يحلف واحد منهم....
المسألة.
فإن جزمه بأن له تحليفهم يقتضي صحة الدعوى؛ لأن التحليف فرعها
ومن هذا يؤخذ أن الرافعي -في مسألتنا هذه؛ إما أن يكون موافقًا
للغزالي على ما صححه، أو لا تصحيح له في المسألة.
وإن في إطلاق النووي التصحيح -في أصل الروضة- نظر [ولم يحمل] 3
__________
1 في "ب" باعه وتلف.
2 في "ب" الإطلاق.
3 في "ب" أو لم يحمل.
(1/433)
النووي على ذلك إلا قول الرافعي: "إنه لم
يورد جماعة من الأصحاب غيره"، عزوا تصحيحه إلى صاحب التهذيب.
في هذه المسألة نتبيهات:
أحدها: أن الغزالي جعل -في الوسيط- محل الوجهين في أنه هل تسمع
الدعوى على واحد منهم -من أحد العشر مثلًا؟
وجعل الإمام رحمه الله محلها في التحليف؛ إذ قال: "ولو أشار
إلى جمع محصورين، وقال: أعلم أن قاتل أبي فيكم وأحلفكم واحدًا
[واحد] 1، هل له ذلك؟ على وجهين مشهورين.
أحدهما: ليس له ذلك؛ فإن اليمين [مرتب] 2 على الدعوى، وإذا لم
تتعلق الدعوى -الجارية- بالتحليف، لم ينتظم تحليفه.
والثاني: يحلفهم؛ لأنه يتطرق به إلى إظهار غرضه. قال ابن
الرفعة.
وهذا الإيراد قد يفهم أن الدعوى لا تسمع جزمًا؛ وإنما الخلاف
في طلب اليمين؛ وذلك أمر لا يعقل؛ فلذلك نصب الغزالي الخلاف في
الدعوى.
قلت: وإيراد الرافعي ومن بعده -إلى منهاج النووي- جار على قضية
ما أورده الإمام؛ فليتأمل.
وهذه عبارة المنهاج: فلو قال: قتله أحدهم لم يحلفهم القاضي في
الأصح، وقول ابن الرفعة: إن اليمين من غير دعوى لا يعقل، يعني
في الخصومات؛ وإلا فالشافعي يحلف رب المال إذا اتهمه في
الزكاة، ومسائل كثيرة يقع التحليف فيها من غير دعوى؛ ولكن ابن
الرفعة إنما أراد التحليف في الخصومة عند الحكام، ولا يرد عليه
ما قدمناه فيما إذا قال: "القاتل أحدهم"، ولا أعرفه حيث ذكرنا
أن له التحليف؛ فإن ذلك التحليف ليس إلا بعد الدعوى.
نعم لو كان الرافعي صحح أن الدعوى غير مسموعة، ثم قال: إن له
التحليف لأورد على ابن الرفعة لو أشكل على الرافعي، والحق أنه
لا يورد [اليمين] 3، وأن اليمين من غير دعوى في الخصومة غير
معقولة -كما ذكر ابن الرفعة.
لكن ذلك أن تقول: سلمنا أن التحليف من غير دعوى غير معقول؛ لكن
الدعوى من غير تحليف معقولة، كالدعوى على قيم اليتيم، وسائر
المسائل التي يقبل قول المرء
__________
1 في "ب" واحدًا فواحدًا.
2 في "ب" تترتب.
3 سقط في "ب".
(1/434)
من غير يمين؛ فإن يدعي عليه، ثم لا تؤول
تلك الدعوى إلى يمين، فما مستند الغزالي في وضعه الوجهين في
سماع الدعوى.
الثاني: قال الغزالي -في الوسيط- لكنهم لو نكلوا جميعًا أشكل
اليمين المردودة على الدعوى المبهمة. انتهى.
ولم يذكره الرافعي في "الشرح" ولم يبين ابن الرفعة في "المطلب"
حال هذا الكلام، وكان ذلك لوضوحه عنده.
وحاصله: أن النكول يقتضي اليمين المردودة، ولا سبيل إليها هنا؛
لأنه لم يعرف عين القاتل ليحلف أنه هو؛ فأورد الغزالي هذا
الإشكال على ما يصحح سماع الدعوى المبهمة -ولعله- من أجله- لم
يفصح في "الوسيط" بتصحيحها، وإن كان في "الوجيز" صححها.
وأنا أقول: هذا الإشكال مندفع.
أما إن قلنا: بأن النكول في القسامة لا يقتضي رد اليمين -وهو
وجه مفرغ على القول باقتضاء القسامة في القصاص [فواضح] 1؛ إذ
ليس كل نكول -والحالة هذه- مقتضيًا لرد اليمين.
وإما إن قلنا بالرد -وهو الصحيح- فأقول: لا رد هنا ولا إشكال؛
فرب ناكل لا ترتد اليمين -بعد نكوله- على المدعي؛ ألا ترى أن
ولي الصبي إذا ادعى له بشيء، وطلب يمين المدعي به ونكل؛ فإن
الولي لا يحلف.
فإن قلت: لأنا ننتظر بلوغ الصبي فنحلفه، ولا كذلك فيما نحن
فيه.
قلت: بل ننتظر أيضًا أنه يعين القاتل ثم يحلف، ونقول له: عين
من اتهمت واحلف.
فإن قلت: لو عينه [كان] 2 مجددًا دعوى غير تلك الدعوى،
والتحليف -حينئذ- فيها لا في تلك.
قلت: بل يحلف في تلك الدعوى بعينهما، ولا يكلف دعوى مجددة؛ لأن
التعيين لا ينافي الإبهام، كما أن الإطلاق لا ينافي التفصيل.
والصحيح المنصوص أنه إذا أطلق الدعوى يستفصله القاضي ولا يعرض
عنه بل
__________
1 في "ب" واضح.
2 في "ب" لكان.
(1/435)
يقول: أعمدًا قتلته أم خطأً؟ أمنفردًا أم
يشاركا لغيره؛ فدل أنه لا منافاة، ولو نافى التعيين والتفصيل
الإبهام والإطلاق. لم يسمعها لمناقضة الدعوى الثانية للأولى.
الثالث: الخلاف في الدعوى المبهمة يجري في دعوى -الغصب
والإتلاف والسرقة وأخذ الضالة- على أحد الرجلين أو الثلاثة،
ولا يجري في دعوى القرض والبيع وسائر المعاملات، وقيل: يجري
فيها أيضًا، وقيل: بل هو مقصور على دعوى الدم؛ [فهي] 1 ثلاث
طرق.
قاعدة: ذكرها الإمام في "النهاية" في باب القسامة: كل يمين لا
يمين بعدها في مراتب الخصومات فالنكول عنها هل يبطل حق الناكل؟
فيه خلاف، ومن ثم إذا ردت اليمين على المدعي فامتنع؛ فيسأله
القاضي عن سبب امتناعه؛ فإن لم يتعلل بشيء، أو قال: لا أريد أن
أحلف فهذا النكول يسقط حقه في اليمين، وهل يتمكن من استئناف
الدعوى وتحليفه في مجلس آخر حتى إذا نكل حلف المدعي أو لا
يتمكن من ذلك ولا ينفعه إلا البينة؟ فيه وجهان: قال العراقيون
والهروي أبو سعد والروياني بالأول، وقال الإمام والغزالي
والبغوي بالثاني؛ قال الرافعي: وهو أحسن وأصح لئلا تتكر الدعوى
في القضية الواحدة.
قاعدة: ذكرها الإمام في باب الدعوى والقسامة قال الأصحاب:
الأصل أن من نكل عن يمين في خصومته لا يحلف تلك اليمين
-بعينها- في ذلك المقام من تلك الخصومة.
وهل يحلف في مقام آخر من تلك الخصومة مع اتحاد المقصود؟ فيه
خلاف، ومن ثم لو علل المدعي امتناعه عن اليمين بعذر، ثم عاد
بعد مدة ليحلف، مكن منه وإن [تعلل] 2 أو صرح بالنكول؛ فقال
الغزالي والبغوي: يبطل حقه من الحلف. وليس له العود واستمر
العراقيون على أن له العود.
فلو أقام شاهدًا واحدًا في دعوى مال ولم يحلف معه؛ فحلفنا
المدعي عليه فنكل؛ فهل ترد اليمين على المدعي وقد امتنع عن
اليمين مع الشاهد؟ فيه قولان:
وكذلك إذا لم يكن -في دعوى المال- شاهد فرددنا اليمين على
المدعي بعد نكول المدعى عليه فنكل عن يمين الرد، ثم أقام
شاهدًا وأراد أن يحلف مع شاهد فهل له ذلك؟ فيه قولان:
__________
1 في "ب" فهو.
2 في "ب" وإن لم يعلل.
(1/436)
قاعدة:
ذكرها الإمام [في النهاية] 1 في باب دعوى الدم، وقال: إنها
ضابط تمس الحاجة إلى ذكره "كل نكول يتعلق به حق حلف حالف بعد
النكول إذا طهر فلا عود من الناكل".
ومن ثم إذا أراد المدعي عليه -بعد الامتناع- أن يعود فيحلف؛
فإن كان بعد أن حكم القاضي بأنه ناكل أو قال المدعي: احلف لم
يكن له الحلف، وإن أقبل عليه ليحلفه ولم يقل له -بعد- احلف،
فوجهان.
وإن لم يكن "شيء من ذلك؛ فله الحلف؛ حتى لو هرب المدعي عليه
قبل أن يحكم القاضي بأنه ناكل وقبل عرض اليمين على المدعي، لم
يكن للمدعي أن يحلف اليمين المردودة، وكان للمدعي عليه أن يحلف
إذا عاد.
قاعدة:
لا يقضي بالنكول واستثنى مسائل:
منها: الصبي يستأسر ويوجد قد أنبت ويدعي الاستعجال بالدواء،
ونقول الإنبات علامة البلوغ؛ فيحلف، فإن نكل جاز قتله.
منها: الذمي يسلم ويدعي أن إسلامه قبل السنة فلا جزية فيحلف
فإن نكل أخذت منه ومن مات من غير وارث فادعى له الإمام بدين
فنكل المديون، لزمه الدين.
ومنها: إذا ادعى رب المال أنه لا زكاة عليه ونكل، لزمته.
ومنها: إذا ادعى ولد المرتزق البلوغ لينزل في الديوان وحلف
فنكل لم ينزل.
واعلم أنه لا يصح استثناء شيء من هذه الصور، وقد عد الجرجاني
-في المعاياة- سبع مسائل وقال في أولها: "يحكم على الناكل بأصل
الوجوب لا بالنكول؛ فأشار إلى أنه لم يقع بنكول. وهو الصواب.
قاعدة:
قال الرافعي رحمه الله في باب الدعوى والبينات: "الحالف كل من
توجهت عليه دعوى صحيحة".
وقل قيل: من توجهت عليه دعوى لو أقر بمطلوبها ألزم به؛ فإذا
أنكر حلف عليه وقبل منه، ولا بد من استثناء صور عن هذا الضابط.
انتهى.
والعبارة الثانية -وهي قوله: "وقد قيل" إلى آخره- يحتمل شرحا
للعبارة الأولى؛ لأن الدعوى الصحيحة هي التي لو أقر بمطلوبها
ألزم به، وهذا ما فهمه الوالد رحمه الله، واستدل عليه بثلاثة
أمور.
__________
1 سقط في "ب".
(1/437)
أحدها: قوله "وقد"؛ فإنها ليست العبارة
المألوفة في ذكر الخلاف.
والثاني: قوله: "عن هذا الضابط" وما قال الضبطين.
والثالث: اقتصاره -في "المحرر" قلتك وكذلك في الشرح الصغير-
على العبارة الثانية؛ فلو كانت عنده ضعيفة لما اقتصر عليها.
ويحتمل أن يكون خلافا، وهذا ما فهمه النووي -إن كان في المنهاج
اتبع المحرر، ويدل على أنه فهم ذلك قوله -في الروضة- وقيل: "كل
من توجهت" إلى آخره؛ فحذف لفظ "قد" تصريحًا بالخلاف، ويؤيده أن
الإمام ذكر -عن القاضي الحسين ضابطًا فيما يجري فيه التحليف،
وحاصله أنه حكى وجهين:
أحدهما: أن حده أن يدعي حقا.
والثاني: أن ينفي دعوى ما لو أقر به ليقع إذا كان لا يؤدي إلى
فساد احترازًا عن منع تحليف الشاهد والقاضي.
فلعل قول الرافعي: "وقد قيل" -إشارة إلى هذا الوجه الثاني.
ثم يستثنى مسائل لا تحليف فيها مع صحة الدعوى وكونها لو أقر
بمطلوبها ألزم....
قاعدة:
قال الرافعي: "كل مكلف حنث في يمينه لزمته الكفارة حرًّا كان
أو عبدا". قال ابن الرفعة -في المطلب- وكذا قاله الغزالي قلت:
والرافعي أيضًا.
قال ابن الرفعة: ويطرقه سؤال؛ فإنه يقتضي اعتبار التكليف -حالة
الحنث- في إيجاب الكفارة، ولا نعلم خلافًا فيمن خلف على عبده
لا يدخل الدار فجن الحالف ثم دخل العبد، أنه يحنث، كما لو قال
لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق فجن ثم دخلت، ثم لو كان ذلك
معتبرًا لكان مخالفًا لقوله -أول الباب- "إن سبب وجوب الكفارة
اليمين"؛ فإن السبب إذا وجد في حالة التكليف لا يقدح في العمل
به وجود شرطه حال عدم التكليف.
والأصحاب حكوا قولين أو وجهين في أن الاعتبار في تعليق الطلاق
والعتق بحالة التعليق -كما هو الصحيح- أو بحالة وجود الصفة،
ولم يختلفوا فيما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر في حال
جنون السيد، أنه يعتق -كما ستعرفه في التدبير، وما نحن فيه
مثله.
(1/438)
نعم [يتجه] 1 ذلك على قول أبي حنيفة -الذي
حكيناه وجهًا لبعض الأصحاب أن السبب الحنث"؛ فإذا وجد حال
الجنون أمكن أن لا يؤثر، وكذلك إذا قلنا السبب اليمين والحنث.
والذي يظهر -أنا وإن قلنا وبذلك- فلا أثر له أيضًا؛ لأن إيجاب
الكفارة- على هذا -من باب الوضع والإجبار كغرامة المتلفات
وأروش الجنايات". انتهى.
قاعدة: "من حلف على فعل نفسه حلف من البت، وإن حلف على فعل
غيره فإن كان على إثبات فكذلك، وإن كان على نفي حلف على نفي
العلم.
قال الرافعي: وقد يختصر فيقال: اليمين على البت إلا أن يحلف
على نفي فعل غيره.
ويستثنى مسائل ليس منها شيء -عند التأمل- يستثنى؛ وإنما
ذكرناها لما يقع في الذهن من كونها مستثناة.
منها: لو ادعى على رجل أن عبدك جنى علي بما يوجب كذا؛ فأنكر
فالأصح يحلف على البت؛ لأن عبده ماله، وفعله كفعله.
ولو ادعى أن بهيمتك أتلفت لي زرعًا أو غيره -حيث يجب الضمان-
فأنكر حلف على البت؛ لأنه لا ذمة لها والمالك لا يضمن بفعل
البهيمة؛ بل بتقصيره في فعلها، وهو أمر يتعلق بفعل الحالف.
ومنها: لو نصب البائع وكيلًا ليقبض الثمن ويسلم المبيع فقال له
المشترى: إن موكلك أذن لي في تسليم المبيع، وترك حق الحبس
-وأنت تعلم- فأحد القولين: إنه يحلف على البت، واختاره أبو
زيد؛ لأنه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المبيع.
وأقواهما -عند النووي- أنه يحلف على نفي العلم جريًا على
القاعدة.
ومنها: لو مات عن ابن -في الظاهر- فقال آخر: أنا أخوك والميراث
بيننا؛ فأنكر حلف على البت؛ لأن الأخوة رابطة بينهما؛ فهو حلف
[لنفسه] 2.
ولو طالب البائع بتسليم المبيع -فادعى حدوث عجز عنه وقال-
للمشتري: أنت أعلم به؛ فأنكر، حلف على البت؛ لأنه يستبقي
بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه.
هكذا ذكر الصورتين ابن القاص ونازعه آخرون وقالوا: يحلف على
نفي العلم وصححه النووي.
__________
1 في "ب" يتحدد.
2 في "ب" في نفسه.
(1/439)
ومنها: ادعى -على الوارث- دينا على الميت؛
فأنكر الوارث العلم به، فأوجه
أصحها: يحلف على نفي العلم جريًا على القاعدة.
والثاني: على البت؛ لأن الظاهر اطلاعه عليه.
والثالث: الفرق بين تعهده حاضر أو غائبًا.
ومنها: إذا علق طلاقها على كون الطائر غرابًا؛ فادعت أنه كان
غرابًا، وأنها طلقت؛ فعليه أن يحلف على البت، أنه لم يكن
غرابًا، ولا يكفي أن يقول: لا أعلم كونه غرابًا أو نسيت الحال.
قال الرافعي: "ذكره الإمام، وفرق بينه وبين ما إذا علق طلاقها
على دخولها ودخول غيرها، وأنكر حصوله؛ حيث يكون الحلف على نفي
العلم بالدخول بأن الدخول -هناك- فعل الغير [والحلف على نفي
الغير] 1 يكون على [نفي] 2 العلم، ونفي الغرابية ليس كذلك بل
هو نفي صفة في الغير، ونفي الصفة كثبوتها في إمكان الاطلاع،
وإذا كان الشيء مما يطلع عليه -في الجملة-[لم] 3 تغير القاعدة
بأن يفرض بعذر أو عسر.
ولم يحك الغزالي -في الوسيط- وجه الفرق بل ذكر الحلف -على
البت- في مسألة الغراب، وعلى نفي العلم في مسألة الدخول ثم
قال: "هكذا قال إمامي وليس يتبين لي فرق بينهما أصلًا؛ بل
ينبغي أن يقال -عليه- يمين جازمة، أو نكول في المسألتين جميعا.
ولم يحك الرافعي كلام الغزالي هذا كأنه اكتفى بما ذكره من
الفرق.
وتكلم ابن أبي الدم -في كتاب أدب القضاء- على كلام الغزالي،
وقال: من العجب توجه بالعجز عن الفرق بين المسألتين، وعندي
الفرق بينهما ظاهرًا جدًّا، وذكر ما حاصله أن الدخول فعل
الغير؛ فيحلف نافية على نفي العلم، وكون الطائر غرابًا ليس فعل
الغير، بل هو تعليق على كون هذا الطائر المشاهد موصوفا بصفة
كونه غرابا وإذا لم يكن تعليقا على فعل الغير، بل تحقق حقيقة
كونه غرابًا حلف على من نفي تلك الصفة الحقيقية على البت بأن
هذه الصفة لم توجد قال: "ونظير قوله: إن كان هذا الطائر غرابًا
بعد مشاهدته والجهل بحقيقته تحقق دخول أحد.
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
(1/440)
رجلين إلى الدار والجهل بعينه؛ فيقول: إن
كان هذا الرجل الكائن في الدار زيدا فأنت طالق، فنافى كونه
زيدًا -بخصوصه- يحلف على البت كنظيره في مسألة الغراب، ونظير
مسألة الدخول من الغراب أن يعرف كون الواقف غرابًا، ثم يفقده
ويجهل هل طار أو مات، وكان قد حلف على طيرانه؛ فالنافي لطيرانه
هنا يحلف على نفي العلم "انتهى ملخصًا، [وهو حاصل ما ذكره
الرافعي] 1.
واعلم أن هذا الإمام الغزالي أجل قدرًا من أن يخفي عليه مثل
هذا الفرق والإمام أبو المعالي أرفع مقدار من أن يفرق حيث لا
فرق، والتمهل في النظر بين كلام هذين الحبرين أولى من
المبادرة، وأرى أن....2.
قاعدة: قال ابن القاص تجب اليمين في كل حق لابن آدم إلا في
أربعة مواضع.
قلت: ومراده أن من قبل قوله في شيء كان عليه اليمين إذا طلبت
منه إلا في مسائل، ولعل تعبيره -بحق لابن آدم- أصح لما سنبينه.
ولنفتتح بالأربع التي ذكرها ابن القاص.
منها: القاضي إذا ادعى عليه -بعد العزل- الحكم بباطل، وادعى
عليه بقيمة المتلف؛ فأنكر؛ فلا يمين عليه، قاله الشافعي رضي
الله عنه أيضًا.
والشاهد إذا ادعى عليه أنه شهدًا زورًا. وادعى عليه قيمة
المتلف؛ قاله ابن القاص تخريجًا.
ولو ادعى رجلان زوجية امرأة فأقرت لأحدهما ولم تحلف للآخر.
ولو ادعى عليه بشيء فقال: هو لولدي الصغير.
هذه الأربع التي ذكرها ابن القاص، وحكى في الثالثة والرابعة
قولًا قديمًا.
ومنها: لو قال: له شيء، ثم فسره بما لا يتمول -كقشر فستقة؛
فالصحيح يقبل قوله؛ ولكن بيمينه على القاعدة، ونص عليه الشافعي
رضي الله عنه هنا وصرح به الشيخ الإمام، وحاول ابن الرفعة
إثبات وجهين، ولم يتعرض الرافعي لذكر اليمين رأسًا.
ومنها: لو اختلف البائع والمشتري في عيب لا يمكن القول بقدمه
كجراحة طرية، وقد جرى البيع والقبض من سنة؛ فالقول قول البائع
في أنه حدث عنه عند المشتري بلا يمين.
__________
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
2 بياض الأصل في أ، ب.
(1/441)
ولو كان مما لا يمكن حدوثه -كأصبع زائدة
وقد جرى البيع أمس- فالقول قول المشتري في قدمه. كذا أطلقوه،
وينبغي أن يكون بلا يمين على قياس الجراحة الطرية.
قلت: وكان عدم اليمين هنا؛ لأن التكليف بها عبث للعلم بمضمون
الحال فكأنه لا حق للمدعي فيما ادعاه لا ظاهرًا ولا احتمالًا،
ومن هنا استحسن قول ابن القاص: "يجب اليمين في كل حق لابن
آدم"؛ فلا ينبغي أن يستثنى إلا [ما هو] 1 خارج من حق، ولو في
الظاهر"....
قاعدة:
كل يمين قصد بها الدفع لا يستفاد بها الجلب، "وقد يقال": كل
يمين كانت لدفع شيء [لا تكون] 2 لإثبات غيره. وفي القاعدة
مسائل:
منها: إذا ادعى العنين أو المولى الوطء، وأنكرت المرأة فهو
المصدق بيمينه؛ فإذا طلقها -بعد ذلك- وقال: هذا طلاق بعد
المسيس؛ فإنكم صدقتموني أني وطئتها، وأراد الرجعة وهي على
إنكار الوطء، قال ابن الحداد وأكثر الأصحاب. لا يمكن من الرجعة
والقول قولها فإن يمينه في الوطء كانت لدفع الفسخ فلا يستجلب
به الرجعة.
ومنها: إذا ادعى المودع تلف الوديعة عنده، وأنكر المودع التلف
فصدقنا المودع المودع، وقال: قد صدقتموني في التلف عندي وهو
الذي أوقعني في هذا الغرم؛ فإنا لا نمكنه من الرجوع، بل إذا
حلف المودع على أن الوديعة لم تتلف عنده وهو خائن يستقر الضمان
على المودع، ولا يلزم من تصديقه لدفع الضمان عن نفسه تصديقه
لإثبات الغرم على غيره.
ومنها: لو وجدنا دارًا في يد اثنين ادعى أحدهما أنها له،
والآخر أنها بينهما نصفين وصدقنا الثاني بيمينه؛ لأن اليد تشهد
له، ثم باع مدعي الكل نصيبه من ثالث؛ فإن أراد الآخر أخذ
بالشفعة وأنكر المشتري ملكه؛ فإنه يحتاج إلى البينة، ويمينه،
في الخصومة مع الشريك، أفادت دفع ما يدعيه الشريك لا إثبات
الملك له.
قد جمع الرافعي هذه النظائر في باب الإيلاء، وذكرها الشيخ أبو
علي في شرح الفروع في باب الوكالة وزاد نظائر أخرى، ونحن
نوردها فنقول:
ومنها: وكل رجلًا في البيع وقبض الثمن؛ فادعى الوكيل الإقباض
وأنكره الموكل صدق الموكل بيمينه.
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
(1/442)
ولو خرج المبيع بعد ذلك مستحقًا ورجع
الوكيل على المشتري بالثمن لم يكن للوكيل أن يرجع على الموكل
بنظير الثمن بناء على مالك الثمن؛ لأن يمينه -تلك- كانت لدفع
الغرم عنه؛ فلا تصلح لشغل ذمة الموكل، بل القول -الآن- قول
الموكل في عدم القبض مع يمينه.
وهذا الفرع من مولدات ابن الحداد، وقد فرع عليه ما- نذكره
عقيبه.
ومنها: إذا قال المشتري: العيب قديم وقال البائع: حادث؛ فصدقنا
البائع بيمينه ثم جرى بعده الفسخ بتحالف وأخذ البائع يطالب
المشتري بأرش العيب الذي أثبت حدوثه بيمينه، لم يكن له؛ لأن
يمينه صلحت للدفع فلا تصلح لشغل ذمة الغير؛ بل للمشتري الحلف
بأنه ليس بحادث الآن لدفع الأرش.
هذا تمام ما ذكره الشيخ الإمام أبو علي، وهذان الفرعان ذكرهما
ابن الحداد، وكذلك الفرع الأول.
ومنها: قذف رجلًا فطالبه بحد القذف فطلب [القاذف] 1 يمينه على
نفي كونه زانيًا فنكل ورد اليمين على القاذف؛ فحلف القاذف أنه
زنى اندفع عند حد القذف ولم يجب على المقذوف حد الزنا سواء
قلنا: يمين الرد كالإقرار أو كالبينة؛ لأن اليمين كانت لدفع حد
القذف عنه لا لإثبات الزنا على المقذوف.
ومنها: ما في الرافعي عن فتاوى البغوي من أنه لو تزوجها بشرط
البكارة فوجدها ثيبًا ثم اختلفا فقالت: كنت بكرا فاقتضني وقال:
بل كنت ثيبًا؛ فالقول قولها بيمينها لدفع الفسخ وقوله لدفع
كمال المهر.
ومنها: في مسألة الخياط الذي دفع إليه ثوبًا ليخيطه فخاطه قباء
وقال للمالك؛ كذا أمرتني، وقال المالك: بل أمرتك بقميص.
إذا فرعنا أن القول قول الخياط فحلف فلا أرش عليه قطعًا ولا
أجرة له على الأصح، وفي الوجه الآخر له الأجرة إتمامًا
لتصديقه.
فإن قلت: لكن قالوا -تفريعًا على المذهب وهو أن القول قول
المالك "أنه إذا حلف لا تلزمه الأجرة ويلزم الخياط أرش النقص
على المذهب وقضية ما ذكرتموه أن لا يلزم الخياط أرش النقص.
__________
1 زيادة يتم بها الكلام.
(1/443)
قلت: فرق الأصحاب بأن القطع يوجب الضمان ما
لم يكن بإذن وهو غير موجب للأجرة إلا بإذن.
قاعدة:
"كل ما جاز للإنسان أن يشهد به جاز له أن يحلف عليه ولا
ينعكس".
قاله الجرجاني والروياني، واستدلا بأن [باب] 1 اليمين أوسع إذ
يحلف الفاسق والعبد ومن لا تقبل شهادته ثم لا يشهدون.
وفيه مسائل:
منها: إذا أخبره صادقان أن فلانًا قتل أباه أو غصب ماله جاز له
أن يحلف ولا يشهد.
ومنها: لو رأى بخطه أن له دينًا على رجل أو أنه قضاه حقه؛ فله
الحلف إذا قوي عنده ولا يشهد.
قاعدة:
"كل حر يقبل خبره تقبل شهادته".
قال الجرجاني: "إلا واحدا، وهو من أخرج القذف مخرج الشهادة ولم
يتم العدد؛ فإنه ترد شهادته ويقبل خبره" وتبعه الروياني في
كتاب الفروق وهو غريب لم أجده في غير كلامهما.
وقضية رد شهادته أنه يرد خبره أيضًا إلا أن يتوب. نعم المذهب
أنه لا يشترط مدة الاستبراء ثم قولهما: "كل حر" إلى آخره لا
ينتقض بالصبي؛ فإن الأصح أنه لا يقبل خبره كما لا تقبل شهادته.
فصل:
من الكلمات الدائرة -في الفقه والأصول- أن الجرح مقدم على
التعديل.
لم يستثن أكثر الأصحاب من هذا إلا إذا قال المعدل: عرفت السبب
الذي ذكره الجارح؛ لكنه تاب منه وحسنت حالته. قالوا: فتقدم
بينة التعديل لأن معها زيادة علم؛ لكنهم، وإن لم يصرحوا
باستثناء عين هذه الصورة؛ فقد صرحوا بمأخذ المسألة [التي] 2
يدور معه حكم تقديم الجرح على التعديل، والتعديل على الجرح
فإنهم قالوا -على اختلاف طبقاتهم: إن الجارح إنما قدم لما عنده
من الزيادة على ما خفي على المعدل؛ وذلك لأن المعدل بيني على
ما هو الأصل الظاهر من حال المسلم، والجارح اطلع على ما نسخ
ذلك الأصل ونقل عنه.
__________
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
2 في "ب" الذي.
(1/444)
وشبه ذلك جماعات -من متقدميهم القاضي
الحسين ومن متأخريهم الرافعي- بما لو قامت بينة على الحق وبينة
على الإبراء تقدم بينة الإبراء.
واستثنى القاضي الروياني -في البحر- من تقديم الجرح مسألة زعم
أنه لا يستثنى سواها [وهي] 1 إذا جرحه اثنان في بلد، ثم انتقل
إلى بلد آخر وزكاة اثنان، أو جرحه اثنان في سنة، ثم زكاه آخر
في سنة فيقدم التعديل لزيادة العلم.
وهذه الصورة إن ضممتها إلى المسألة السابقة وجريت على ظواهر
الفقه دون دقائقه بادرت إلى القول بأن الجرح مقدم إلا في
مسألتين.
ثم لمانع أن يمنع كون الانتقال إلى بلد آخر يزيد علما؛ بل إن
حصلت زيادة فهي بالمدة التي تخللت بين بلدي الجرح والتعديل
فيحتمل صلاح حاله بعدها.
ولم يكن غرضنا من ذكر هذه [الصور] 2 إلا تعريفك أن المأخذ هو
الذي عليه المعول، وكذلك اعتقاد الروياني، ولا بد أن يكون له
قدوة في هذه المسألة أن مع التعديل في هذه المسألة زيادة علم
قدم التعديل؛ فدل على أن الحكم دائر مع زيادة العلم.
وعند هذا نسمح بذكر ما اقتضاه النظر من تدقيق الفقه؛ فإن هذه
المسألة مهمة كثيرة الوقوع -أعني تعارض الجرح والتعديل.
فأقول: فهما عن الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم واعتقاد أنه
الصواب، وأسأل الله أن يحميني من الغلط فيه والوهم عليهم: لا
يقدم إلا ما فيه زيادة علم فكل ما تضمن زيادة علم قدم -سواء
الجرح والتعديل غير أنه لما كان الغالب على الجرح أنه ناقل
وعلى التعديل أنه استصحاب أطلق القول بتقديم الجرح لذلك، ثم لم
يطلق إطلاقا بل أشير فيه إلى العلة التي يدور معهما الحكم كما
عرفت.
وصح باستثناء الصورتين اللتين نقلناهما. وليس الأمر مقصورا
عليهما، ولا قول المعدل: "عرفت السبب الذي ذكره الجارح؛ لكنه
تاب منه" بشرط؛ بل يكفي المعدل أن يخصم قول الجارح بعد اطلاعه
عليه بأن يقول: هو عدل ولا يقدح فيه قول هذا الجارح، ويقبل هذا
منه ويندفع به الجرح إذا كان ممن يعلم أن الجرح -عند الإطلاق-
يقدم على التعديل ويحمل على واحد من أمور التوبة بما جرح به أو
عداوة الجارح له
__________
1 في "ب" قال وهي.
2 سقط في "ب".
(1/445)
المانعة من قبول قول عليه، أو اعتقاد أن
الجارح واهم عليه أو كاذب وغير ذلك من الاحتمالات وهي كثيرة
جدا.
والحاصل: أنه متى عرفنا أن المعدل لم يبين على الأصل بل على
غيره قدمناه، فالدوران على الناقل وليس لخصوصية الجرح، ولا
يستطيع أحد أن يقول -فيمن بجرح زيد لكونه سكر في اليوم الفلاني
بدمشق وعارضهما شاهدان بأنه في اليوم المذكور كان بمصر: أن
بينة الجرح تقدم، وهذا أوضح من أن يخفى.
وهنا ثلاث مسائل يضطر الناس إليها:
أحدها: لو شهد شاهدان أن هذا الجارح شهد زورا وكاذب فيما شهد
به من الجرح، فالظاهر -عندي- أنه يكتفي بهذا ويندفع به الجرح،
ولكن لا يتجرح به الجارح، وهذا توسط بين كلامين مطلقين
لطائفتين من الأصحاب.
فإن قلت: فقد ذكر الرافعي -في جوامع أدب القضاء- أن شهادة
الزور إنما تثبت بإقرار الشاهد، أو بيقين القاضي، بأن شهد أنه
زنى بيوم كذا بالكوفة والقاضي رآه ذلك اليوم ببغداد، ولا يغني
قيام البينة على أنه شهد زورا، فقد تكون هذه البينة بينة زور.
قلت: هذا موافق لما قلت من أنه لا ينجرح به الجارح، ولم يقل
الرافعي ولا أحد -فيما علمت- أن الجرح يستمر، ولا يلتفت إلى
الشاهد بأن الجارح شاهد زور، بل نص الشافعي رضي الله عنه يدل
على أنه تثبت شهادة الزور بالبينة، إذ قال رضي الله عنه: "وإذا
علم من رجل -بإقراره أو بينة- أنه شهد عنده بزور عزره" وعليه
جرى جماهير المتقدمين من الأصحاب، وهي الطائفة التي أشرنا إلى
أن إطلاقها يقتضي الاكتفاء بقوله: هذا شاهد زور ويجرح به
الجارح، وتبعهم صاحب البيان.
لكن قال القاضي الحسين [في تعليقه] 1 في باب ما على القاضي في
الخصوم والشهود "ولو شهد بأن ذينك الرجلين شهدا بالزور فالقاضي
لا يسمع شهادتهما إلا أن يقولا يشهد أنهما أقرا أنهما شهدا
بالزور".
وهذا القاضي رأس الطائفة التي قلنا: إن إطلاقها يقتضي رد هذا
الكلام ولعل الرافعي جرى مع هذه الفرقة لكنهم لم يصرحوا بأن
حكم الجرح يثبت معها وإنما أرادوا أن الشهادة لا تسمع لإثبات
كون الشاهدين شهدا بالزور، ولعلها تحمل النص على ما إذا
__________
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
(1/446)
شهدت البينة على إقراره بالتزوير كما ذكره
القاضي الحسين. أو على بينة كشفت الحال كشفًا، ولم تطلق القول
إطلاقًا، وأما أنها لا تدرأ عن الشهود عليه ما شهد عليه به
-ولا ينبغي أن يرتاب في ذلك.
الثانية: وهي مما يؤيد التوسط الذي قلناه -قول الأصحاب: "الجرح
لا يقبل إلا مفسرًا" يعنون لا يقبل لإثباته؛ وإلا فإذا أطلق
الجارح جرحه، ولم يبين السبب توقفنا لأجله ولم نحكم بمقابله.
صرح به النووي في شرح مسلم وغيره، وهو دليل على قولنا فيمن شهد
أنه شاهد زور أنه يتوقف في شهادته لأجلها ولم نحكم بأنه شاهد
زور.
ورأيت في الإشراف -للقاضي أبي سعد الهروي: "أن الشاهد إذا قال
أنا مجروح قبل قوله، وإن لم يفسر"؛ فهذه تستثنى من قولهم: "لا
يقبل الجرح إلا مفسرا، وفيها -عندي- وقفة".
الثالثة: ليس كل عدل يقبل قوله في الجرح، وإن فسره بل ينبغي
التفحص في أمره والكشف عما لعله بينه وبين المشهود عليه من
عدواة أو منافسة تحمل إما على شهادة الزور أو على الظن بمجرد
السماع -مع حب أذى المشهود عليه- أو غير ذلك من الأغراض التي
كثرت في هذا الزمان.
وقد تكلمنا في كتابات الطبقات الكبرى في الطبقة الثانية في
ترجمة أحمد بن صالح المصري1 -على هذا كلامًا حسنًا.
والحاصل: أن كلام النظير في النظير أو من يقاربه، وكذا من
ينتمي إلى النظير يجب التوقف فيه جدًّا إلى أن يتضح غاية
الاتضاح. وقد قال شيخ الإسلام تقي الدين
__________
1 أحمد بن صالح المصري أبو جعفر الحافظ المعروف بابن الطبري،
كان أبوه من أهل طبرستان، وروى عن عبد الله بن وهب وعنبسة بن
خالد وابن عيينة وعبد الرزاق وغيرهم، روى عنه البخاري وأبو
داود والترمذي بواسطة، قال أبو نعيم: ما قدم علينا أحد أعلم
بحديث أهل الحجاز منه، وقال أبو زرعة: سألني أحمد من خلفت
بمصر، قلت أحمد بن صالح فسر بذكره وكان جامعًا يعرف الفقه
والحديث والنحو، وقال: العجلي ثقة صاحب سنة، وقال أبو سعيد بن
يونس ذكر النسائي فرماه وأساء الثناء عليه, وقال الخطيب احتج
بأحمد جميع الأئمة إلا النسائي، ويقال: كان آفة أحمد الكبر
ونال النسائي منه حفاء في مجلسه؛ فذلك السبب الذي أفسد الحال
بينهما، قال أبو سعيد بن يونس: ولد بمصر سنة 175، وقال البخاري
توفي في ذي القعدة سنة 248.
انظر: تهذيب التهذيب 1/ 39-40 ابن السبكي 2/ 6 وما بعدها.
(1/447)
ابن دقيق العيد1 أعراض الناس حفرة من حفر
النار وقف عليها طائفتان من الناس -المحدثون والحكام".
واشترط الوالد رحمه الله في العدل أن يكون بريئًا عن الأغراض
بحيث لا يحمله الهوى. ومن أهم ما يتعين الاعتناء به أمور
العقائد؛ فلقد حملت كثيرًا من الناس على الوقيعة في كثير منهم؛
فإن اختلافها أوجب العداوة بين أهلها، لتعصب أرباب كل عقيدة
لها، وفي أرباب الأهواء من يرى الكذب لنصر مذهبه؛ فليتق الله
حاكم نصبه الله بين المسلمين في طائفة هذه عقيدتها.
وقد شهد حاكم -من كبار من يخالف عقائد الأشعرية- على أشعري
بقضية يضحك السفهاء منها ويكذبها من يسمعها، وسئل الحاكم
-سرًّا- أتعتقد صحة هذا؟ فقال: لا؛ ولكنه أشعري -[بتعصب على
طائفتنا] 2-أردت أن أريح المسلمين منه.
وهذا الحاكم -بين تلك الطائفة- موصوف بالديانة، ومعنى الديانة
-عندهم- التصلب في معتقدهم والتعصب له بأي طريق فرض من حق
وباطل، وكل ما آل إلى نصره فهو حق عندهم، ولا مبالاة بسفك دماء
المخالفين فضلًا عن أغراضهم وأموالهم.
والحاكم الغر إذا رأى أن المبتدع إذا لم يكفره تقبل شهادته على
الأصح بين أن تقبل مطلقًا أو ترد مطلقًا على الخلاف.
وأنا أقول: محل التردد في شهادته على [أن] 3 لا يتوسم فيه أن
له عليه غرضًا، وذلك يختلف باختلاف المشهود به وعليه؛ فليس
المجسم أو الرافضي -مثلًا- إذا شهدا
__________
1 محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري الشيخ
الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح ابن الشيخ القدوة
العالم مجد الدين المنفلوطي المصري ابن دقيق العيد، ولد في
شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة تفقه على والده بقوص ثم على
سلطان العلماء العز بن عبد السلام، قال الذهبي في معجمه، وقال
قاضي القضاة بالديار المصرية وشيخها وعالمها الإمام العلامة
الحافظ القدوة الورع شيخ العصر، كان علامة في المذهبين
"الشافعي والمالكي" عارفًا بالحديث وفنوه سارت بمصنفاته
الركبان، وقال السبكي: لم ندرك أحدًا من مشايخنا يختلف في أن
ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، وأنه
أستاذ زمانه علمًا ودينًا، توفي في صغر سنة اثنتين وسبعمائة.
ابن قاضي شهبة 2/ 229 - مرآة الجنان 4/ 236 - النجوم الزاهرة
8/ 206 - البدر الطالع 2/ 229 - شذرات الذهب 6/ 5 - الطالع
السعيد 333.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" من بدل أن.
(1/448)
بدرهم في ذمة بقال من عرض الخلق بمنزلتهما
إذا شهدا على كبير من العلماء معروف بالرد على هاتين الطائفتين
مثلًا ... أنه شرب أو قذف1؛ إذ لا يستريب مجرب في أن هذه
الشهادة -منهما- مردودة.
فإن كانت الشهادة -في مثل هذا- لم تقبل جزمًا، وليس هذا من
تحري العدالة؛ بل هو رد لشهادة تحصل بمثلها الريبة.
ومن المهم أن أكثر المبتدعة لا يفحصون ببدعتهم ولا يتظاهرون،
ولو واجههم الإنسان أكذبوه وعاداهم، ولكن الحاكم البصير لا
يخفي عليه أهل العقائد فإن سيماهم في وجوههم.
فلا تحسب أني -إذا رددت شهادة المخالف في العقيدة على مخالفة
بما يشبنه- أتوقف على أن يثبت عندي عقيدة الشاهد فهذا عسر
جدًّا؛ بل اكتفى بغلبة الظن التي أجدها من نفسي، ثم الله يطلع
على ضميري إذ ذاك، وهو المسؤول في التوفيق والهداية.
ومتى شهد -مثلًا حنبلي المذهب على شافعي معروف بنصرة مذهب
الأشعري بأمر يشتبه في دينه، وأخذ الحاكم يتعلل ويقول من أي لي
اختلافهما في العقيدة، وبتقديره من أين لي أنه تحمل عليه في
الشهادة، وبتقديره فكيف -إذا رددته- أقبله في مكان آخر"؛ فهو
أخر بعيد عن شريعة الإسلام لا يصلح أن يكون حاكمًا بين اثنين
-بمجرد كونه حنبليًّا يغلب على الظن مخالفته لعقيدة الأشاعرة-
لكثرة ذلك في الحنابلة. ومجرد ذلك -مع ما يعهد من بعضهم- يغلب
على الظن تحمله.
ولا يلزم -من ردنا قوله من ظننا تحمله عليه- أنا نخرجه بالكلية
ونرده مطلقًا؛ بل ندفعه حيث نتهمه كما ندفع الشاهد بالتهمة.
قاعدة في تحقيق العدالة:
اعلم أن بين التقوى والعدالة عمومًا وخصوصًا.
والتقوى: أن يطاع الله ولا يعصى.
وحقيقتها: التحرز بطاعة الله من عقوبته.
وأصلها: اتقاء الشرك ثم اتقاء المعاصي ثم اتقاء الشبهات ثم
اتقاء الفضلات.
__________
1 في "ب" زيادة مثلا.
(1/449)
وقد يكون الصبي متقيًّا إذا وفقه الله؛
فليس من شرط التحرز عن العقوبة أن يكون الشخص بحيث يقع فيها،
وقد يتحرز الأمن. ثم قد يكون المتقي عدلًا وقد لا يكون.
قال الشيخ الإمام: "لأن اتقاء المعاصي -كبيرها وصغيرها- هو
التقوى؛ فإذا اتقى الكبائر -وكان عدلًا- لم يقدح فيه إتيان
الصغيرة؛ ولكنها تقدح في تقواه؛ فهذا عدل غير متق.
وقد يتقي ولا يكون عدلًا إذا لم يكن ذا هيئة راسخة في النفس
تحمل على ملازمة التقوى والمروءة.
قال الشيخ الإمام رحمه الله: "وكل من العدالة والتقوى قد تكون
للصبي -وإن لم نقبل شهادته؛ فالبلوغ شرط في قبول قوله لا في
عدالته".
فإن قلت: ما المرضي في حد العدالة؟ فإنكم عقدتم القاعدة له.
قلت: قد قبل: إنها هيئة راسخة تحمل على ملازمة التقوى
والمروءة.
ونقضه الشيخ الإمام بأن "إن أريد -بالتقوى- تقوى المعاصي دخلت
الصغائر وخرج مرتكبها -وإن لم يصر على العدالة. وإن أريد مطلق
التقوى دخل من اتقى الشرك وارتكب الكبائر في العدالة وكلاهما
غير صحيح".
قال: إلا أن يقال: إن الصغائر لا تقدح في إطلاق اسم التقوى
لعسر التحرز عنها وكون المؤمن لا يسلم من الذنب الفينة بعد
الفينة.
ثم قال الشيخ الإمام: لا بد عندي في العدالة من وصف آخر لم
يتعرضوا إليه، وهو الاعتدال عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه
عن اتباع هواه.
قال: فإن المتقي للكبائر والصغائر الملازم لطاعة الله وللمروءة
قد يستمر على ذلك ما دام سالمًا من الهوى؛ فإذا غلبه هواه خرج
عن الاعتدال وانحل عصام التقوى؛ فقال ما يهواه، وإبقاء هذا
الوصف هو المقصود من العدل، -كما يشير إليه قوله تعالى:
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 1،
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 2؛ فكم من صالح لا شك
في صلاحه من عصمته أن لا يحد، وفي نفسه أن لا يعصي؛ فإذا جرت
عليه المقادير وغلب هواه قامت نفسه فانبعث منها ما لا يبقى مع
الصلاح.
__________
1 سورة الأنعام "152".
2 سورة البقرة "143".
(1/450)
فلا بد أن يمتحن الصالح حتى يعرف حاله في
الرضا والغضب وعند الأغراض؛ فإذا استوى كلامه فهو العدل، وإلا؛
فليس بعدل وإن كان صالحًا قبل حصول ما يغيره.
فالعدالة: هيئة راسخة في النفس تحمل على الصدق في القول في
الرضا والغضب، ويعرف ذلك باجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على
الصغائر، وملازمة المروءة والاعتدال عند انبعاث الأغراض حتى
يملك نفسه عن اتباع هواه.
فقد رأيت من لا يقدم على ذنب فيما يعتقد، ثم يستر هواه على
عقله أعاذنا الله من ذلك".
انتهى كلام الشيخ الإمام بنصه.
وأقول: يشترط -مع ذلك- أن لا يكون متلبسا -حال الشهادة-
بمعصية، وإن كانت صغيرة تغتفر إذا لم يكن متلبسًا بها حال
الشهادة.
وهذا لأن المعاصي -من حيث هي- منافية للعدالة؛ إلا أنا اغتفرنا
الصغائر لقلة الصون عنها، ولا يقبل ذلك عند أداء الشهادة
فلمنصب الشهادة أهبة تنافي المعاصي عنده.
وكان هذا للمحافظة على هذا المنصب؛ فإن من يتلبس بالمعصية حالة
الشهادة كأنه لا مروءة له. وهذا الشرط قاله بعض أصحابنا بدليل.
مسائل:
منها: لو ادعى واحد على اثنين أنهما رهنا عنده عبدهما فزعم كل
أنه لم يرهن نصيبه وأن شريكه رهن وشهد عليه؛ ففي قبول شهادته
وجهان في الرافعي في باب الاختلاف في الرهن.
قال الشيخ أبو حامد: لا تقبل لأن المدعي يزعم أن كل واحد منهما
كاذب ظالم في الجحود وطعن المشهود في الشاهد مانع من قبول
شهادته، وقال الأكثرون تقبل لأنهما ربما نسيا وإن تعمدا
فالكذبة الواحدة لا توجب الفسق كذا علله الرافعي واحتمال
النسيان معنى صحيح، وأما قوله: لأن الكذبة الواحدة لا توجب
الفسق فيقال له: هب أنها لا توجب فسقا لكنها توجب رد الشهادة
لكونها معصية وقت الشهادة كما عرفت على أن صاحب البحر جزم في
باب من تجوز شهادته، ومن لا تجوز بأنه لو كذب عن قصد ردت
شهادته وإن لم يكن فيها بقوله ضرر. قيل: أو بهتان.
(1/451)
قال: لأن الكذب حرام بكل حال كان.
وقال القفال: إلا أن يقول ذلك على مذهب الكتاب والشعراء في
المبالغة في الكلام.
ومنها قال: القاضي الحسين في كتاب الطهارة في الأواني إذا جلس
شهود النكاح على حرير لم ينعقد النكاح بهم فقيل؛ لأنهم فسقة
واعترض بأنهم لا يفسقون به لأنه ليس بكبيرة والأشبه أن يعلل
بأنهم حال الشهادة ظهر منهم ما يضعف الوثوق بهم، وعلى هذا لا
تقبل شهادة برشد لابس الحرير؛ إذ حاله يقتضي أنه ليس برشيد
فليتجنب عن ذلك كله.
تنبيه: إذا تم هذا الشرط وهو عدم التلبس بالمعصية حال أداء
الشهادة؛ فقد يقال إنه داخل في عدم المروءة وليس بشرط جديد.
تنبيه: قد يستأنس بهذا الشرط بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا
يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فجعل لحالة الزنى رفعًا ليس
لها عند الانفصال وأوضح. هذا في حديث آخر فقال صلى الله عليه
وسلم ... 1 الحديث.
فصل:
إذا عرفت هذا علمت أن المعصية حال وقوعها من الفحش والوقع ما
ليس لها عند الانفصال عنها ومن ثم يجيء الشرط الذي ذكرناه
ولأجله أيضا مسائل.
منها: أن الكافر إذا صال يجب دفعه، ولا يجوز الاستسلام له ولو
كان ذميًّا.
قال الإمام: في الذمي الوجه القطع بذلك؛ لأنه بصياله ناقد
لعهده. فإن قلت: أليس من الأصحاب من يقول الذمة لا تنتقض
بالقيل قلنا: ذاك وجه ضعيف، ثم لا حرمة بالذمة القتال والصيال.
انتهى.
ففي قوله: لا حرمة للذمة حالة القتال ما ينبيء عن شدة رفع
المعصية حال وقوعها.
ومنها: لو وجد رجلًا يزني بامرأته جاز له التعجيل بقتله، وقد
قدمنا المسألة القواعد المطلقة عن الخاوي والبحر وغرضنا منها
أن صاحبي الحاوي والبحر قالا يحوز التغليظ حال وقوع المعصية.
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله:
أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية
__________
1 بياض في الأصل "ب".
(1/452)
|