الأشباه والنظائر للسبكي المجلد الثاني
أصول كلامية ينبني عليها فروع
فقهية
أصول وسائل متنوعة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية:
أصول وسائل متنوعة:
أصل:
قال الشيخ أبو الحسن1 رضي الله عنه: السعادة والشقاوة لا
يتبدلان. ومعنى ذلك أن الاعتبار في الأعمال بالخواتيم2. فلا
ينفع من مات على الكفر تقدم قناطير من إيمان ولا يضر من مات
على إيمان قناطير من كفران.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يتبادلان، وتحرير المسألة في كتب
الكلام وقد ذكرناها محررة في كتاب منع الموانع.
وألفاظ الشافعي رضي الله عنه وفروعه تدل على القول، بما قاله
أبو الحسن.
__________
1 علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن
موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الشيخ أبو الحسن الأشعري
البصري إمام المتكلمين وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن دين
الله عز وجل والمصحح لعقائد المسلمين مولده سنة ستين ومائتين
وقبل سنة سبعين قال أبو بكر الصيرفي وهو في نظراء الشيخ أبي
الحسن كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري
فحجرهم في اقماع السمسم توفي في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة
وقيل سنة عشرين وقيل سنة ثلاثين.
- ابن قاضي شهبة 1/ 113، تاريخ بغداد 11/ 346، تبيين كذب
المفتري ص 128، شذرات الذهب 2/ 303، النجوم الزاهرة 3/ 259.
2 فالإيمان في الخاتمة يدل على أن صاحبه قدر له السعادة أزلا
والكفر في الخاتمة يدل على ما سبق في علم الله من شقاوته ويدل
على هذا وصف الله تعالى من مات على الإيمان بالسعادة ومن مات
على الكفر بالشقاوة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ
فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ
رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا
فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ} .
ويترتب على السعادة الخلود في الجنة ونوابعه وعلى الشقاوة
الخلود في النار ونوابعه فمقصود الأشاعرة السعادة والشقاوة من
حيث ترتب آثارهما في الآخرة.
(2/3)
أما ألفاظه. فقد قال رضي الله عنه في خطبة
الرسالة، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه.
وأما فروعه فقد قال في الحج ... 1
أصل:
العلم: "الاعتقاد الجازم المطابق لموجب" فما لا مطابقة فيه -من
الاعتقادات الجازمة ليس بعلم، فلا علوم لأرباب الضلالات وذوي
الجهالات. وهو بخلاف الظن؛ إذ لا تشترط المطابقة فيه2. فلو قال
لآخر: أنت تعلم أن هذا الإنسان -الذي في يدي- حر حكم بعتقه.
بخلاف ما لو قال: أنت تظن. نقله الرافعي عن الروياني عن بعض
الأئمة.
ولو قيل [أطلقت] 3 امرأتك؟ فقال: اعلم أن الأمر على ما تقوله.
ففي كونه إقرار بالطلاق وجهان. حكاهما الرافعي في فروع الطلاق
من حكاية الروياني عن جده أصحهما: ليس بإقرار، لأنه أمره أن
يعلم ولم يحصل هذا العلم. قلت: ويمكن تخريج هذا الفرع على أن
الأمر لا يستلزم الإرادة، فإنه طلب منه أن يعلم هذا الأمر ولم
يرده؛ إذ لو أراده لأنشأ إيقاع الطلاق.
ثم أقول: أمره أن يعلم ولم يحصل هذا العلم. فيه نظر، لأنه لما
أمره أن الأمر على ما يقول، ومراده بما يقول قوله: الآن طلقت
امرأتك، لأن يقول: "فعل مضارع حقيقة في الحال" وأيضًا فلا قول
له إلا ذلك؛ وإنما يكون الأمر [على] 4 ما قال الآن إذا كانت
الآن طالقًا. فظاهر العبارة أن هذا إقرار.
وقد يقال: ليس قوله إلا الاستفهام عن أنه هل طلق امرأته؟ فكأنه
قال: اعلم أن الأمر على الاستفهام الذي نقوله على أنه لو قال:
له على ألف - فيما أعلم [أو أشهد] 5 لزمه الألف، بخلاف ما لو
قال: فيما أحسب أو أظن. ذكره أبو سعد الهروي وشريح الروياني في
"أدب القضاء" قال أبو سعد: "لا انفصال للعلم عن الظن عند علماء
الأصول".
وذكر الرافعي المسألة الولى في آخر الباب الأول من الإقرار.
__________
1 بياض في آوب.
2 سقط في ب.
3 في حاشية "أ" أطلقتك.
4 سقط في "ب".
5 في ب وأشهد.
(2/4)
وأما الثانية: وهي فيما أظن أو أحسب؛ فلم
يذكرها غير أنه ذكر قبل ذلك بنحو ورقة فيما لو قال: لي عليك
ألف، فقال: أظن أو أحسب أنه ليس بإقرار.
وسبقه إليه البغوي في التهذيب. وهي غير هذه المسألة، لأنها
فيمن اقتصر على قوله في الجواب: أظن، ومسألتنا فيمن قال: علي
فيما أظن، فالمؤاخذة في مسألة أبي سعد وشريح أقرب منها في
مسألة البغوي والرافعي.
أصل:
اختلف في الاسم -هل هو المسمى؟ اختلافًا حررناه في كتاب "منع
الموانع" وحرره الشيخ الإمام رحمه الله في تفسيره في آخر سورة
الرحمن، ولا خلاف أنه غير التسمية وهنا فروع: منها.
قال صاحب التتمة: لو قال لها: اسمك طالق لم تطلق إلا أن يريد
الذات. وأعلم أن الصحيح. الذي عليه الأشعري في الأصول. أن
الاسم المسمى على تفصيل في أسماء الله تعالى مذكور في موضوعه.
وقضيته أن يطلق هنا.
فإما أن يكون صاحب التتمه فرعه على أنه غيره، وأما ما قاله
فلذلك1.
ومنها قال الرافعي -في فتاوى أبي الليث2- إن بعضهم قال: لو
قال: بسم الله لا أفعل كذا فهو يمين- ولو قال: بصفة الله، فلا،
لأن الأول من إيمان الناس".
قال الرافعي: ولك أن تقول: إذا قلنا: الاسم هو المسمى؛ فالحلف
بالله تعالى، وكذا إن جعل الاسم تسمية، وإن أراد بالاسم
التسمية لم يكن يمينًا، وقوله: بصفة اللهز يشبه أن يكون يمينًا
إلا أن يريد الوصف.
قلت: وفيه نظر. فلا قائل بأن الاسم التسمية، إنما الخلاف أنه
هل هو المسمى؟
وإذا كان هو المسسمى فلا فرق بين أن تقول: بالله أو باسم الله.
فليكن يمينًا، وإلى ذلك [الإشارة] 3 بقوله: إذا قلنا: الاسم هو
المسمى "فالحلف بالله" وتلك موافقة لمنقول أبي الليث فكيف
أخرجها مخرج الاعتراض عليه فالذي [يحمل] 4 من كلامه
__________
1 بياض في أ "ب".
2 نصر بن حاتم بن بكير الفقيه أبو الليث الشالوسي.
قال الحاكم: أقام بنيسابور لسماع المبسوط كتبًا عنه في مجسد
أبي العباس الأصم سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، قال المطوعي: هو
من أوائل أصحاب أبي العباس وأفاضلهم. ابن قاضي شهبة 1/ 119.
3 سقط في ب.
4 سقط في ب.
(2/5)
موافقة منقول أبي الليث إلا أن يريد بالاسم
التسمية، وقد يقال: لا يصح هذا الاستعمال، فلا نسمع إرادته
إياه، وقوله "بصفة الله" يشبه أن يكون يمينًا إلا أن يريد وصف
كلام لا يتبين لي معناه، ولا أدري ما وصفه غير صفته؛ فلينظر
ذلك.
أصل:
اختلف أئمتنا في الكلام فقال قدماؤهم: "حقيقة في النفساني مجاز
في اللساني". وهو عن أبي الحسن نصًا، وقيل مشترك بينهما. ولا
قائل منا بأنه مجاز في النفساني حقيقة في اللساني؛ إنما ذلك من
أقوال القدرية.
ومن أدلة أئمتنا قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ
لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} 1 وقوله تعالى:
{فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}
2. قال: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} وقول عمر يوم السقيفة "كنت
زورت في نفسي كلامًا" وقوله الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد ...
البيت، وقوله:
قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة ... حتى ألمت بنا يومًا ملمات
وهذا من مستنبطاتي وهو وبعض ما قبله؛ فلم أجدني سبقت إليه، ومع
هذا فالكلام في عرف الناس اللساني، وعليه يحمل يمين الحالف.
نعم ينبني على الكلام النفساني مسائل.
منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا
يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم" 3
فهل يقوله بلسانه أو بقلبه؟ فيه وجهان.
قال الرافعي: نقلًا عن الأئمة4. "يقوله بقلبه".
وقال الشيخ الإمام: "تيويب الشافعي يدل على أنه يقوله بلسانه".
وقال النووي في الذكار: "ولغات التنبيه أنه الأظهر". وقال في
شرح المهذب. "إن جمع بينهما فحسن".
__________
1 المجادلة "8".
2 سورة يوسف "77".
3 متفق عليه من رواية أبي هريرة أخرجه البخاري 4/ 188 في الصوم
باب فضل الصيام "164/ 1151" "163/ 1151".
4 انظر تصحيح التنبيه ص 47، نهاية المحتاج 2/ 331، شرح المهذب
69/ 356، تحفة المحتاج 1/ 690.
(2/6)
قلت: وهذه العبارة توهم أن القائل بذلك
يقتصر على اللساني ولا يجعل قوله: "في النفس" مطلوبًا. ولا أرى
بذلك قائلًا. بل الخلاف عندي [مردود] 1 إلى أنه هل يقتصر على
النفسي فيكون أبعد عن الرياء والسمعة. أو يضم إليه اللساني؟
فمن قال: يقوله بلسانه لا يمكنه أن يقول: لا يقوله بقلبه،
بخلاف من عكس وحكى الروياني في البحر وجهًا ثالثًا: إن كان في
صوم رمضان فبلسانه، أو النقل فبقلبه، واستحسنه، والمسألة
محذوفة من الروضة.
ومنها: الغيبة: وهي ذكر الشخص بما يكرهه.
قال الغزالي: في الإحياء، وتبعه النووي في الأذكار: إنها تحصل
بالقلب كما تحصل باللفظ".
تنبيه:
ليس مما نحن فيه اختلاف أصحابنا في صحة النذر. بالنية مجردًا
عن لفظ وما2 إذا نوى بقلبه التتابع في صوم منذور.
مسألة:
اتفق أئمتنا على أن المضطر إلى فعل ينسب إليه الفعل الذي اضطر
إليه. ثم اختلفوا في تعريفه.
فقال شيخنا أبو الحسن كرم الله وجهه: "المضطر الملجأ إلى
مقدوره لدفع ضرر متوقع بتقدير عدم المقدور الملجأ إليه".
وقال القاضي أبو بكر3: المضطر هو المحمول على ما عليه فيه ضرر
من مقدوراته لدفع ما هو أشر منه.
وزعمت المعتزلة أن المضطر لا ينسب إليه الفعل. وأنه هو الذي
يفعل فيه الغير فعلًا هو من قبيل مقدوراته. ثم اختلفوا:
__________
1 سقط في "ب".
2 وفي "ب" ما.
3 محمد أبو بكر بن الطيب بن محمد القاضي المعروف بالباقلاني
الملقب بشيخ السنة ولسان الأمة المتكلم على مذهب أهل السنة
وأهل الحديث وطريقة أبي الحسن الأشعري إمام وقته من أهل البصرة
وسكن بغداد وإليه رياسة المالكيين في وقته توفي في يوم السبت
لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة.
الديباج المذهب 2/ 228، وفيات الأعيان 4/ 269، تاريخ بغداد 5/
379، العبر 3/ 76، شذرات الذهب 3/ 168، شجرة النور 1/ 97،
ترتيب المدارك 4/ 585- 603.
(2/7)
فقال أبو علي الجبائي1: لا يشترط أن يكون
المفعول فيه غير قادر على مدافعة الفاعل. وقال ابنه أبو هاشم2:
"بل يشترط ذلك".
إذا عرفت هذا فقد اتفقوا على أن الملجأ قادر على ما ألجئ إليه،
وأنه لم يفعل غيره فيه فعلًا، لا خلاف بين الأشعرية والمعتزلة
في ذلك. وإن اختلفت عباراتهم في تعريفه بما هو مذكور في كتب
المتكلمين.
فالملجأ دون المضطر المعتزلة، ومثله عند الأشاعرة، ودونهما
المكره المذكور في كتب الفقهاء.
وعلى هذه الأصول من عدم اختياره بالكلية وصار كالآلة المحضة
فلا يتعلق به إثم، وهو المضطر عند المعتزلة كمن شد وثاقه وألقى
على شخص فقتله بثقله، أو كان على دابة فمات وسقط على شيء فإنه
لايضمن، وليس كالمكره، ولا كالمضطر.
ومن مسائل القاعدة:
المضطر لأكل الميتة يجب عليه أكلها على الصحيح، وفي وجه لا
يجب، وقد يوجه بأصول المعتزلة فيقال: "لا فعل للمضطر ولا
اختيار حتى يتعلق به إيجاب ويكتفي بضرورة الداعية عنده.
وقد أورد بعضهم على تعريف القاضي متناول الميتة حالة المخمصة
فإنه مضطر بنص الكتاب. ولا ضرر عليه في تناولها. وهو إيراد
منقدح عندي، وإن كان بعض المعنيين بالقاضي. قال:
__________
1 محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي من أئمة
المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره وإليه نسبة الطائفة
الجبائية له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب نسبته إلى حبى
من قرى البصرة اشتهر في البصرة ودفن بجبى سنة ثلاث وثلاثمائة.
له تفسير حافل مطول رد عليه الأشعري.
وفيات الأعيان 1/ 4180، البداية والنهاية 11/ 125، مفتاح
السعادة 2/ 35، الأعلام للزركلي 6/ 256.
2 عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي من أبناء أبان
مولى عثمان عالم بعلم الكلام من كبار المعتزلة له آراء انفرد
به وتبعته فرقة سميت بالهاشمية نسبة إلى كنيته أبي هاشم وله
مصنفات الشامل في الفقه وتذكرة العالم والعدة في أصول الفقه،
وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
وفيات الأعيان 1/ 292، البداية والنهاية 11/ 176، تاريخ بغداد
11/ 55، الأعلام 4/ 7.
(2/8)
إن كان المضطر نفسه تائقة للميتة فما خلا
أكله عن ضرر، وإلا فلا أسلم تسميته بالمضطر. فهذا عندي ضعيف،
فإنه مضطر بوضع اللسان ونص الكتاب وشهادة الحس وإن لم يكن
[تائقًا] 1.
وهذه القاعدة إذا ضم إلى فروعها فروع الإكراه تكاثرت جدًاز
والقول الفصل: إن الإكراه لا ينافي التكليف. ولذلك يأثم المكره
على القتل بالإجماع، ويجب عليه القصاص على الأصح.
وأما المضطر، فلا ريب أنه عند المعتزلة غير مكلف لانتفاء الفعل
منه، وأما عندنا فإنه مكلف، ثم ناحية التكليف فيه وفي المكره
قررناها في كتابنا "جمع الجوامع" وفيما علقنا عليه من شرح
إشكالاته المسمى "منع الموانع" فلا نعيده. غير أني صححت في
"جمع الجوامع" امتناع تكليف المكره كالملجأ والغافل والمختار
عندي الآن. الجريان مع الجماعة الأشعرية على أنه يجوز تكليفه.
وإن كان غير واقع. لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 2.
__________
1 في ب سقط.
2 قال السخاوي في المقاصد ص 228، حديث: "رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه" وقع بهذا اللفظ في كتب كثيرين من
الفقهاء والأصوليين حتى إنه وقع كذلك في ثلاثة أماكن من الشرح
الكبيرن وقال غير واحد من مخرجه وغيرهم: إنه لم يظفر به، ولكن
قد قال محمد بن نصر المروزي في باب طلاق المكره من كتاب
الاختلاف، يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رفع الله
عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، وما أكرهوا؛ غير أنه لم يسق له
إسنادًا ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان: وابن عدي في الكامل
من حديث ابن فرقد، عن أبيه عن الحسن عن ابي بكرة مرفوعًا بلفظ:
رفع الله عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ والنسيان، والأمر يكرهون
عليهن جعفر وأبوه ضعيفان، لكن له شاهد جيد أخرجه أبو القاسم
الفضل بن جعفر التميمي المعروف بأخي عاصم في فوائده، عن الحسن
بن أحمد أو الحسين بن محمد على ما يحرر، وكلاهما ثقة عن محمد
بن المصفى، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي عن عطاء بن
أبي رباح عن ابن عباس بلفظ: رفع الله والباقي كلفظ الترجمة
ورواه ابن ماجه وابن أبي عاصم ومن طريقه الضياء في المختارة
كلاهما عن محمد بن المصفى به لكن بلفظ: وضع بدل رفع ورجاله
ثقات، ولذا صححه ابن حبان ورواه البيهقي وغيره إلا أنه فيه
تسوية الوليد فقد رواه بثر بن بكر عن الأوزاعي فأدخل بين عطاء
وابن عباس عبيد بن عمير أخرجه الطبراني والدارقطني والحاكم في
صحيحه من طريقه بلفظ: تجاوز بدل وضع، قال البيهقي: جوده بشر بن
بكر، وقال الطبراني في الأوسط: لم يروه عن الأوزاعي يعني
مجودًا إلا بشر تفرد به الربيع بن سليمان وله طرق عن ابن عباس،
=
(2/9)
ومن قواعد الفقهاء ما قدمناه في القواعد
العامة وأحلنا فيه على هذا المكان "والإكراه يسقط أثر التصرف"
وهذا موضع تحقيقه.
فأقول: من صدر على يديه شيء. ولا أقول: فعل، لأن الفعل يستدعي
فاعلًا وسنذكر ما لا نسميه فعلًا بالجملة الكافية كحركة
المرتعش.
إذا عرفت هذا فذلك الشيء إما أن يصدر باختيار منه وإرادة له
فهو المختار؛ سواء أكان حبه واختياره -بصدوره عنه- ناشئًا من
قبل نفسه وداعية قلبه. أو دعاء إلى ذلك داع- من سائل أو غيره،
فرب من يفعل ما يكره حياء من السائلين وإسعافًا للطالبين. أو
حبًا لأن يقال فعل. وهذه أمور لا تخرجه عن كونه مختارًا.
وأما أن يصدر لا باختيار؛ فإما أن يكون بكراهة حملته على إصدار
ذلك الفعل أو لا.
إن لم يكن فإما أن يكون له شعور بما صدر أو لا، إن لم يكن فهو
الغافل من نائم.
__________
= بل للوليد فيه إسنان آخران رواه محمد بن المصفى عنه عن مالك
عن نافع عن ابن عمرو عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن عقبة بن
عامر، وقد قال ابن أبي حاتم في العلل: سألت أبي عنها فقال: هذه
أحاديث منكرة كأنها موضوعة، وقال في موضع آخر: لم يسمعه
الأوزاعي من عطاء؛ إنما سمعه من رجل لم يسمعه، أتوهم أنه عدب
الله بن عامر الأسلمي، أو إسماعيل بن مسلم، وقال: ولا يصح هذا
الحديث ولا يثبت إسناده، وقال عبد الله بن أحمد في العلل، سألت
أبي عنه فأنكره جدًا وقال: ليس يروي هذا إلا عن الحسن عن النبي
صلى الله عليه وسلم، ونقل الخلال عن أحمد قال: من زعم أن الخطأ
والنسيان مرفوع؛ فقد خالف كتاب الله، وسنة رسول الله؛ فإن الله
أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة، يعني من زعم ارتفاعها عن
العموم في خطاب الوضع والتكليف، وقال محمد بن نصر -عقب إيراده
له كما تقدم: إلا أنه ليس له إسناد يحتج بمثله، ورواه العقيلي
في الضعفاء في حديث الوليد عن مالك، ورواه البيهقي، وقال: قال
الحاكم، هو صحيح غريب تفرد به الوليد عن مالك، وقال البيهقي من
موضع آخر: إنه ليس بمحفوظ عن مالك، ورواه الخطيب في ترجمة
سوادة بن إبراهيم من كتاب الرواة عن مالك، وقال بعد سياقه: من
جهة سوادة عنه: سوادة مجهول والخير منكر عن مالك. انتهى،
والحديث يروي عن ثوبان وأبي الدرداء، وأبي ذر، ومجموع هذه
الطرق يظهر أن للحديث أصلًا، لا سيما وأصل الباب حديث أبي
هريرة في الصحيح من طريق زاررة بن أوفى عنه بلفظ: إن الله
تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، وزاد في آخره، وما استكرهوا
عليه ويقال إنه مدرجة فيه وقد صحح ابن حبان والحاكم وغيرها هذا
الخبر كما أشرت إليه، وقال النووي في الروضة وفي الأربعين إنه
حسن وبسط الكلام عليه في تخريج الأربعين وكذا تكلم عليه شيخنا
في تخريج المختصر وغيره.
(2/10)
ونحوه. وإن كان له شعور. ولكن لا ينسب إليه
ذلك الشيء فذلك كالمرتعش بتحريك يده. ولا يقال: إنه حركها. وإن
كان بكراهة وحمل حامل له على أن يفعل؛ فإن كان لا يجد مندوحة
عن الفعل البتة ولا مخلصًا منه فهو الملجأ.
والفرق بينه وبين المرتعش عسير. فليجعلا قسمًا واحدًا.
ومن صوره من ألقى من شاهق فوقع على إنسان فقتله؛ فهو لا يجد
بدًا من الوقوع ولا اختيار له فيه؛ وإنما هو آلة محضة كالسكين،
فهذا لا يقول أحد: إنه مكلف ولا ينسب إليه فعل.
نعم تردد الذهن فيمن ألقى من شاهق وعلى الأرض طريحان، ولم
يدهشه الإلقاء، وطرح بنفسه في حالة الإلقاء من ناحية أحدهما
إلى ناحية الآخر، فسقط عليه فقتله، هل يكون قائلًا بهذا العذر،
والأقرب أن هذا إن تصور فهذا كالمكره على أحد شيئين ففعل
أحدهما وسنتكلم فيه.
وإن وجد مندوحة عن الفعل، ولكن بالصبر على إيقاع ما أكره به؛
فالضابط في هذا أن ينظر إلى تلك المندوحة، فإن كانت في نظر
العقلاء أشد مما أكره عليه فهذا مكره.
وذلك كمن قال له قادر على ما يتوعد به: طلق زوجتك وإلا قتلتك.
ففي نظر العقلاء تقديم طلاق الزوجات على زهوق ألأرواح وإن لم
يكن في نظر العقلاء أشد، كمن قيل له اقتل زيدًا وإلا منعتك
الطعام والشراب يومًا واحدًا، لا تقتل بين ما يتحقق الإكراه
فيه وما لا يتحقق. وقد بان بهذا أن الملجأ لا فعل له ولا يقبل
التكليف والمكره له فعل واختيارية قدم بها على ما أكره عليه
على ما توعد به؛ فهو كالمختار فلا يمتنع في العقول تكليفه؛ غير
أن الشارع رفقًا بنا ونظرًا إلينا وشفقة علينا رفع هذه المشقة
عنا، وقال ما حاصله: "إن كل مندوحة تكون أشد من المكره عليه لا
أكلف الصبر عليه وارفع معها آثار ذلك الفعل، وأصيره كلا فعل
البتة" وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "وما
استكرهوا عليه".
فإن قلت: إذا كان المكره والمختار سواء في الاختيار فما الفرق
بينهما.
فإن قلت: قال القاضي في كتاب التقريب: "والفرق بينهما أن
المختار مطلق
(2/11)
الدواعي والإرادات، والمكره مقصور الدواعي
والإرادة على فعل ما أكره عليه. لا يختار غيره"؛ فإن قيل: ولم
صارت هذه حاله؟
قلنا: لما يخافه من عظيم الضرر، فهذا يدفع [أعظم] 1 الضررين
بأدونهما، ودواعيه مقصورة عليه لأجل ذلك. انتهى وهو صحيح ولا
فرق إلا هذا.
وكون الشارع لم يكلفه الشطط بالصبر على ما هدد به. ثم قال له:
"ولئن فعلت المكره عليه كان فعلك كلا فعل، لمكان الإكراه".
فللشارع في المكره لطفان خفيان -إسقاط حكم الفعل الناشئ عنه،
وعدم التكليف بالصبر على ما توعد المكره عليه- وهذه من خصائص
هذه الأمة المشرفة بنبيها الكريم على الله. محمد المصطفى صلى
الله عليه وسلم بأبي وأمي إنه لرؤوف رحيم. ونبي كريم. ومن ثم
قال صلى الله عليه وسلم: "ورفع عن أمتي الخطأ".
ولو كانت حقيقة الإكراه تنافي التكليف لما افترق الحال فيه بني
أمه وأمه. وهنا تنبيهات:
أحدها: هذا الإكراه الذي أسقط الشارع حكمه لا بد من بقاء
حقيقته ليتحقق في نفسه، وقد ينضم إليه ما لا يزيل حقيقته؛ فلا
اعتبار به، أو ما يزيل الحقيقة فلا يسقط حكمه، إذ ليس هناك
إكراه.
وهذا كمن قيل له: طلق زوجتك، فقال: طلقت زوجاتي كلهن [فيقع] 2
عليهن، لأنه مختار لا مكره.
وقد ينضم إليه ما يتردد الذهن في أنه مزيل لكونه إكراهًا أو
غير مزيل، فيقع الخلاف في أنه هل يسقط أثر التصرف به أو لا
يسقط؟ وأمثلته فيالفئقه كثيرة، ونحن نذكر هنا فرعًا واحدًا،
وهو المكره على أحد شيئين. كمن قيل له: طلق إحدى زوجتيك وإلا
قتلتك، وحمل على تعيين إحداهما لا على إبهام الطلاق، إما هذه
أو هذه. وإلا قتلتك، فقال: طلقت هذه، فهل هذا اختيار، لأن
إيثاره لهذه على تلك. وقد كان قادرًا على العكس، يدل على أنه
مختار لفراقها، وليس باختيار؛ لأنه لا يجد مندوحة عن واحدة
منهما، ولو عين الأخرى لجاء فيها هذا القول بعينه.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" ليقع.
(2/12)
فيه وجهان:
أولهما: هو الأصح عند الرافعي والنووي.
والثاني: هو الأرجح في نظري، ولا فرق عندي بينه وبين المكره
على قتل معينة إلا أن هذا يجد محيصًا عمن طلقها برفيقتها، وذاك
لا يجد إلا بنفسه، وليس هذا الفرق بطائل؛ فإن القول في المختص
بها مقول في رفيقتها، وكل قول انعكس بنفسه بطل من أصله.
وقول من ادعى أنه مختار. إن إقدامه على هذا دليل على اختياره
لفراقها دون تلك مختل.
ولكنا نقول في جوابه: لم قلتم: إن الداعي إلى تعيينها ترجيح
فراقها، وقد يكون هجم على ذكرها هجمًا، وهذا يتفق كثيرًا لمن
حمل على شيء من شيئين، وقد أعوزه الفكر والذعر عن الميز
بينهما. وإن سلمنا أن الداعي إيثار فرؤاقها، فالذي آثره إنما
هو ذكرها على ذكر تلك، لا حب فراقها على حب فراق تلك. وإن
سلمنا أن فراقها عنده بتقدير التعارض راجح على فراق تلك؛ فهذا
موضع نظر لا أتذمم فيه ترجيحًا.
التنبيه الثاني:
وقد عرفت أن شرط الإكراه مرفوع الحكم أن يكون المتوعد فيه. في
نظر العقلاء أشد من المكره عليه، والمعنى بنظر العقلاء ما شهد
له الشرع بالاعتبار. فعرف من هذا أن الإكراه لا يرفع حكم
القصاص، ولا يرفع الإثم عن المكره.
بيانه: أن نفسه ونفس من أكره على أن يقتله مستويان في نظر
الشارع؛ فإيثاره نفسه ناشئ عن شهوات الأنفس وحظوظها ومحبتها
للبقاء في هذه الدار أزيد من بقاء غيرها، وهذا القدر ليس من
نظر العقلاء، أعني عقلاء الشرع الذين يتقيدون به فيما يأتون
ويذرون.
وبهذا خرج كثير من المسائل التي سنذكرها فيما استثنى من قول
"الإكراه يسقط أثر التصرف".
فإذا قيل لنا: يستثنى الإكراه على القتل؛ فإنه لا يسقط أثر
التصرف بدليل الإثم إجماعًا والقصاص على الصحيح.
(2/13)
قلنا: ليس هو من حيث إيثار نفسه مكرهًا بل
مختارًا، ومن ثم أثم وأقتص منه، ولا هذا النظر الذي نظره وآل
به إلى تقديم نفسه على غير [لمشهود] 1 له من الشعر بالاعتبار،
فإن الكفاءة في القصاص شرعًا منحصرة في الإسلام والحرية
والبعضية، والله أعلم.
التنبيه الثالث:
شرط كون الإكراه مرفوع الحكم أن يكون مرتبًا على فعل المكلف،
فإن الشارع جعل فعله حينئذ. كلا فعل. فإن كان الحكم مترتبًا
على أمر حسي غير فعل المكلف ولو كان ناشئًا عن فعله، فلا يرفع
حكم الإكراه. بل الإكراه حينئذ لأن موضع الإكراه الفعل ولم
يترتب عليه شيء، وموضع الحكم الانفعال. ولم يقع2 عليه الإكراه.
وإن كان هو أثر الفعل فالشارع قد يرتب الحكم على الفعل، وقد
يرتبه على الانفعال، وهو في الأول. من خطاب التكليف الذي رفع
شفقة علينا عند الإكراه. وفي الثاني من خطاب الوضع والأسباب
والعلامات. فكيف يرتفع؟
وبهذا خرج الإكراه على الرضاع وعلى الحديث. فإذا أكره امرأة
حتى أرضعت خمس رضعات حرم ذلك الإرضاع، لأن الحرمة منوطة بوصول
اللبن إلى الجوف حتى لو حلبت قبل موتها وأسقى الصبي بعد موتها،
حرم.
التنبيه الرابع:
شرط كون الإكراه مرفوع الحكم أن يكون بغير حق، فهو موضع الرخصة
والتخفيف من الشارع، أما إذا كان بحق. فقد كان من حق هذا
المكره أن يفعل، فإذا لم يفعل أكره ولم يسقط أثر فعله وكان
آثمًا -على كونه أحوج [على] 3 أن يكره.
وهذا كالمرتد والحربي يكرهان على الإسلام فإسلامهما صحيح وهما
آثمان بكونما أحوجًا إلى الإكراه عليه، ثم الإسلام إن وقع
فيهما -عند الإكراه باطلًا كما وقع ظاهرًا، فهو يجب ما قبله.
وإلا فحكمهما في الظاهر حكم المسلمين، وفي الباطن هما كافران
لما أضمراه من خبث الطوية.
ووقع النظر فيمن [لم يكن كفره] 4 بفساد العقيدة بالامتناع عن
التلفظ [بكلمة الشهادة مع القدرة عليها إذا تصور مثل هذا وأكره
على التلفظ] 5 بكلمة الحق فهل
__________
1 في "ب" مشهود.
2 في "ب" ليقع.
3 في "ب" إلى.
4 في "ب" فمن لم يكره كفره.
5 سقط في أوالمثبت من ب.
(2/14)
يصح باطنًا كما يصح ظاهرًا لأن اللفظ وافق
العقيدة، ولا اعتبار بما توسط من الإكراه أولًا. لأن الإكراه
أسقط حكم هذا التلفظ. والتلفظ إما شرط في الإيمان أو شرط منه
فكأنه غير متلفظ.
والأقرب عندي هذا الثاني، لكن يكاد يكون فرض مثل هذا فرض
بمستحيل.
والمسألة قريبة الشبه بما إذا أراد المكره على الطلاق إيقاع
الطلاق، والأصح أنه يقع لحصول اللفظ والإرادة.
ويقرب منها ما إذا قال: طلق زوجتي وإلا قتلتك فطلق، فقد صحح
الشيخان وقوع الطلاق. قالا لأنه أبلغ في الأذن، وفيه وجه أنه
لا يقع، لأن الإكراه يسقط حكم اللفظ.
وفي الوكيل بالطلاق إذا أكره عليه احتمالان للروياني أبي
العباس؛ غير أن الانصراف عن التلفظ بكلمتي الشهادة من غير عذر
ينبغي أن يكون كفر أقطعًا.
التنبيه الخامس:
كذا وقع في عبارة الفقهاء. والإكراه بحق ولم يقولوا: الإكراه
على حق. وبينهما فرق. فإن [كل] 1 مكره بحق مكره على حق وليس كل
مكره على حق مكرهًا بحق، ألا ترى أن الذمي الذي أكره على
الإسلام أكره على حق، ولكن ما أكره بحق؛ إذ ليس من الحق إكراه
مثل هذا، ولهذا كان الصحيح أنه لا يصح إسلامه؛ فكأن الأصحاب
عدلوا عن التعبير بالإكراه على حق إلى الإكراه بحق لأنه أعم.
فإن قلت: لو قال ولي الدم لمن عليه القصاص: طلق امرأتك وإلا
اقتصصت منك، لم يحصل الإكراه، على ما جزم به الرافعي في كتاب
الطلاق، وهذا إكلاه بحق وليس إكراهًا على حق، وأما كونه
إكراهًا بحق فلأن القصاص حق المكره.
وأما كونه ليس على حق فلأن الطلاق ليس حق المكره حتى يحمل
عليه.
فبان بهذا الفرع أن شرط الإكراه أن لا يكون حلالًا؛ وإلا فلا
يحصل إكراه، وخرج منه أنه ينبغي أن يقال: الإكراه على حق. ولا
يقال: الإكراه بحق.
قلت: ليس الإكراه -حيث المتوعد به حلال. واقعًا بحق، بل هو
واقع بباطل. فإن مستحق القصاص ليس له أن يكره به على الطلاق؛
إذ ليس الطلاق من حقه، فالجار
__________
1 في "ب" فكل.
(2/15)
والمجرور في قولنا: الإكراه بحق ليس معناه
أن يكون المكره به حقًا؛ بل أن يكون الإكراه نفسه حقًا، ولا
يكون الإكراه حقًا إلا على حق كإكراه القاضي المفلس على بيع
ماله عند من يرى ذلك وهو الرافعي والنووي، أما الشيخ الإمام
فعنده أن القاضي يتولى البيع بنفسه، فليصور في غير ذلك. واعلم
أن ما جزم به الرافعي من أن الإكراه بالقصاص ليس بإكراه فيه
نظر. والذي ينبغي أن يكون هنا إكراهًا.
التنبيه السادس:
قد تقدم الكلام على المستنى من قولهم، "الإكراه يسقط أثر
التصرف" في أوائل الكتاب، ومن هنا يتحقق الجواب عن سبب ما
استثنى.
أصل:
اتفق أئمتنا على امتناع مقدورين قادرين خالفين أو مكتسبين -أما
بين قادرين- خالق ومكتسب فلا يمتنع.
ووافقهم أبو الحسن البصري من المعتزلة1، وأطبقت المعتزلة سواء
على جواز ذلك وعليه أكثر الحنفية، وهي من آثار مسألة خلق
الأفعال.
وقد تخرج عليه مسألة فقهية تعاكس فيه التخريج وهي قطع الأيدي
باليد الواحدة؛ فمن منع ذلك. وهم الحنفية- قالوا: كل واحد من
الفاعلين فاعل بمقدور نفسه فيختص كل منهم بالقطع الذي مقدوره
دون مقدور صاحبه، فكان قطع كل جزء قطعًا على سبيل الانفراد؛
فلم يكن قطعًا لليد بكمالها -فكيف تقطع يده [في] 2 مقابلها.
فيقال للحنفية: هذا كلام من يمنع مقدورين "بين" قادرين وأثرًا
عن [مأثورين] 3 وأنتم لا تمنعونه، فلم يكن اللائق بكم القول
بذلك.
وإذا قيل لهم هذا. قالوا هم: "معاشر الشافعية أنتم تمنعون
مقدورًا بين
__________
1 هو الحسين بن علي بن إبراهيم أبو عبد الله البصري الحنفي
المعتزلي كان مقدمًا في الفقه والكلام، ولد سنة ثلاث وتسعين
ومائتين "هـ" وقيل سنة ثمان وثمانين وصنف التصانيف الكثيرة
منها المعرفة، والرد على ابن الراوندي وغير ذلك وتوفي يوم
الجمعة لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة تسع وستين وستمائة هـ.
- تاريخ بغداد 8/ 73، شذرات الذهب 3/ 68، الفوائد البهية ص 31.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" مؤثرين.
(2/16)
مكتسبين؛ فلم قطعتم الأيدي باليد الواحدة
وأصولكم تأباه".
والجواب عن هذا قد قررناه في شرح المختصر في تضاعيف الكلام على
مسألة التعليل بعلتين. والحنفية يوافقون على [قتل] 1 النفوس
بالنفس الواحدة ويعتقدون بين النفوس والأيدي فرقًا وليس الأمر
عندنا على ما يزعمون.
فرع: قال: من حملت منكن هذه الخشبة فهي طالق -وهي خفيفة تستقل
كل واحدة بحملها، فحملتها [منهن واحدة- طلقت] 2.
مسألة:
المأثور عن شيخنا أبي الحسن [رحمه الله] 3 أن العقل العلم، وعن
القاضي أنه بعض العلوم الضرورية، وقال قوم: العلم الضروري.
وعن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: هو آلة التمييز. وقال إمام
الحرمين في البرهان: ما جزم عليه أحد من علمائنا غير الحارث
المحاسبي4. فإنه قال: العقل غريزة يتأتى بها درك العلوم وليست
[منها] 5، وقد اختلف كلام الإمام في تعريف الحارث المحاسبي
هذا. فإنه ارتضاه في البرهان. وفي الشامل حكاه. ثم قال: إنه لا
يرضاه، وإنه يتهم النقلة عنه فيه وأطال في رده بما لسنا له
الآن.
والمختار عندنا في تعريف العقل، أنه ملكة يتأتى بها درك
المعلومات.
ثم اختلف أئمتنا في محله: فالمعروف عن الشافعية أن محله القلب.
وهو الصحيح الذي دلت عليه صرائح الكتاب والسنة، قال تعالى:
{لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 6 وقال تعالى: {فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وقال تعالى: {قُلُوبٌ لَا
يَفْقَهُونَ
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" كرم الله وجهه.
4 الحارث بن أسد أبو عبد الله المحاسبي أحد مشايخ الصوفية وشيخ
الجنيد إمام الطريقة، ويقال إنما سمي المحاسبي لكثرة محاسبته
لنفسه ذكره أبو منصور التيمي وقال هو إمام المسلمين في الفقه
والتصوف والحديث والكلام وكتبه في هذه العلوم أصول من ينصف
فيها توفي ببغداد سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
ابن قاضي شهبة 1/ 59، تهذيب التهذيب 2/ 134، مرآة الجنان 2/
142، شذرات الذهب 2/ 103، النجوم الزاهرة 2/ 316، تاريخ بغداد
8/ 211.
5 سقط في "ب".
6 الحج 46.
(2/17)
بِهَا} 1 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة" 3، الحديث.
وذكر إمام الحرمين، في النهاية في باب أسنان إبل الخطأ أنه لم
يتعين للشافعي. رضي الله عنه محله.
وذهب قوم إلى أن محله الدماغ "وهو المعروف عن أبي حنيفة رضي
الله عنه".
وقيل: "لكل حاسة منه نصيب" قال الأستاذ أبو إسحاق: هو أحد قولي
أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه. قلت: وفي كلام الإمام في باب
أسنان إبل الخطأ، ما يقطع بأن العقل ليس محل اليدين. إذا عرفت
هذا ... 4.
مسألة:
قال أئمتنا من طوائف أهل السنة. إن الحل والحرمة والطهارة
والنجاسة وسائر المعاني الشرعية ليست من صفات الأعيان.
فإذا قلنا: هذا حلال أو حرام، طاهر أو نجس؛ فليس ذلك راجعًا
إلى نفس الذات ولا إلى صفة نفسية قائمة بها، بل هو من صفات
التعليق، وصفة التعليق لا تعود إلى وصف في الذات.
فليس معنى قولنا: الخمر حرام ذاتها ولا تجرع الشارب إياها؛
وإنما التحريم راجع إلى قول الشارع في النهي عن شربها، وذاتها
لم تتغير، وهذا كمن علم زيدًا قاعدًا بين يديه؛ فإن علمه. وإن
تعلق بزيد، لم يغير من صفات زيد شيئًا، ولا أحدث لزيد صفة ذاتز
وذهب من ينتمي إلى أبي حنيفة رضي الله عنه -من علماء الكلام-
إلى أن الأحكام الشرعية صفات للمحل، ورأوا أن التحريم والوجوب
راجعان إلى ذات الفعل المحرم والواجب. والمسألة مقررة في أصول
الديانات وينبني عليها فروع.
__________
1 الأعراف 179.
2 ق "37".
3 متفق عليه من رواية النعمان بن بشير البخاري 1/ 126 في
الإيمان/ باب فضل من استبرأ لدينه "52" وفي 4/ 290 "2051"
ومسلم 3/ 1219 في المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات "107/
1599".
4 بياض في الأصل.
(2/18)
منها: أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} 1 و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُم} 2 ونحوه. هل هو مجمل.
فمن قال: [بإضافة الحل والحرمة إلى الأعيان نفي الإجمال ويلزمه
الوقوع فيه] 3. لأن الذات إذا كانت محرمة فينبغي أن يصادف
التحريف ما لاقاها من الأفعال، حتى يحرم النظر إلى الأم، وغير
ذلك مما لم يقل به أحد.
ومن لم يقل بذلك أثبت الإجمال غير أنه يدعي في اللفظ عرفصا
عامًا يقضي بأن المراد العفل المقصود من الذات لا نفسها.
فانظر كيف تأدى مذهبنا -الذي مقتضاه في الآية الإجمال- إلى عدم
الإجمال بما طرأ من العرف العام؟ وكيف تأدى مذهبهم الذي مقتضاه
عدم الإجمال- إلى الإجمال بما أدى إليه القول بعدم الإجمال من
أمور فجمع على أنها غير مقصودة. فصار المراد عندنا تحريم أكل
الميتة. وترحيم نكاح الأمهات، وهو معقول من العرف وسياق الكلام
يدرأ عنه الإجمال.
وإذا كان المحرم أكل الميتة فقط فيجوز التزود من الميتة لمن لم
يرج الوصول إلى الحلال من المضطرين، وكذا لمن رجاه على الأصح
إذ المتزود غير آكل.
ومنها: أن المعقود عليه في النكاح عندنا منفعة البضع. ولا
نقول: أنها في حكم الأجزاء.
وقال أبو حنيفة: بل هو عين المرأة بوصف الحل، وهو وجه ضعيف
عندنا، ومعناه أنها منافع جعلت في حكم الأجزاء، وحرف المسألة
أن منافع البضع عندهم أجزاء حكمًا، وعندنا بل منافع حكمًا كما
هي منافع حسًا، والمسألة مقررة في الخلافيات، ومن ثم نقول:
يقبل النكاح الفسخ بالعيوب كما يقبله عقد الإجارة.
ونقول: وطء المشتري الجارية المشتراه مثل استخدامها لا يمنع
الرد بالعيب.
ونقول: الخلوة لا تقرر المهر، لأن المعقود عليه المنفعة ولم
يتسوفها، ومجرد الخلوة لا يقتضيها والحر لا يدخل تحت اليد.
وهم لما قالوا: المعقود عليه عينها. جعلوا تسليمها نفسها مع
التمكن بالخلوة -
__________
1 المائدة 30.
2 النساء 23.
3 سقط في ب.
(2/19)
كافيًا. والأصل في المسائل كلها: أن قولنا:
"هذه المسألة حلال" ليس معناه كون الحل صفة عين عندنا، حتى
تكون عينها معقودًا عليها؛ بل إن الانتفاع بها حلال.
وعندهم بل معناه أن العين حلال بناء على أن الحل من صفات
الأعيان.
مسألة:
الحسن والقبح بمعنى ترتب المدح أو الذم عاجلًا، والثواب أو
العقاب آجلًا -شرعي ولا عقلي، خلافًا للمعتزلة ومن وافقهم من
فقهاء الفرق.
وفيه مسائل: منها:
النجش حرام على الناجش وإن لم يعرف بالخبر الوارد فيه.
قال بعض أصحابنا: لأن تحريم الخداع يعرف بالعقل، واعترضه
الرافعي بأن ذلك ليس معتقدنا، وأجبنا عنه في شرح المختصر بأنه
لم يقل: "إن العقل حرم" حتى يقال له: ليس ذلك معتقدنا؛ بل إنه
أدرك التحريم وعرفه، والعقل إدراك لا محالة واعلم أن ما عزاه
الرافعي إلى المختصر من أن الشافعي رضي الله عنه أطلق القول
فيه بتعصية الناجش، وشرط في البيع على البيع للتأثيم العلم
بالنهي- لعله تبع فيها الإمام فإنه عزال إلى الشافعي ذلك لكنه
لم ينص على ذكر المختصر، والذي في المختصر والأم اشتراط العلم
بالنهي في الموضعين.
ومنها: من لم تبلغه الدعوة مضمون بالدية والكفارة ولا يجب
القصاص على قاتله على الصحيح؛ إذ ليس هو مسلمًا.
ومنها: إسلام الصبي الصحيح عندنا أنه لا يصح، لأن صحته فرع
تقدم الإلزام به، ولا إلزام مع الصبي شرعًا.
وقال أبو حنيفة رحمه الله" يصح بناء على أن العقل يوجب على
الصبي والبالغ العاقلين".
ومنها: لا ينعقد نذر صوم يوم العيد وأيام التشريق ولا يصح صومه
للنهي عنه.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: "يصح" لأن مطلق الصوم عبادة،
فيكون حسنًا، فيستحيل أن ينهي عنه لعينه، فيجب صرف النهي إلى
أمر وراءه كترك إجابة الداعي مثلًا. قال: ولا يلزم على هذا
الصوم في الحيض والنفاس، فإن ذلك من باب النفي لا من باب
النهي، ومعنى النفي إخبار الشرع بانعدام هذه العبادة شرعًا
زمان الحيض، لقيام المنافي وهو حدث الحيض والنفاس.
(2/20)
وأطال الحنفية في هذا، ولا يصح لهم فرق،
وما بالهم يعقلون كون الحيض مانعًا، ولا يعقلون كون العيد
مانعًا ولا احتجاج على الشرع فله أن يجعلهما مانعين.
ومنها: شهادة بعض أهل الذمة على بعض لا تقبل، وقال أبو حنيفة
رحمه الله: تقبل، لأن المانع من القبول تهمة الكذب، وقبح
الكذب، ثابت عقلًا فكل متمسك بدين يجتنبه.
أصل:
ذهب الإمام فخر الدين إلى أن الحياة "قوة النفس والحركة
واعتدال المزاج" وهذا رأي لبعض الفلاسفة. والذي عليه أئمتنا.
أنها معنى زائد على ذلك به، يستعد العضو لقبول الحس والحركة؛
فهي عرض على كل قول -ومن ثم لو قال لها "حياتك طالق" لا تطلق
وهو الصحيح.
أصل:
الصحيح احتياج الممكن -في حالة بقائه- إلى المؤثر.
مسألة:
اختلاف الصفة هو كاختلاف العين؟ فيه نظر واحتمال يتخرج عليه
أنه هل يكفر منكرو صفات الباري سبحانه وتعالى؟
وقد أخذ ابن الرفعة الخلاف في التكفير من اختلاف قول الشافعي
رضي الله عنه في من نكح امرأة على أنها مسلمة فلم تكن؛ فإن
القول بالصحة -وهو الصحيح الجديد- مأخذه أن المعقود عليه معنى
لا يتبدل بالخلف كاختلاف العين ولو اختلفت العين كما لو قالت:
زوجني من زيد، فزوجها من عمرو، لم يصح.
ووافقه الشيخ الإمام على هذا التخريج إلا أنه استشكله -فإن
الأصح فيما إذا قال: بعتك هذا الفرس وكان بغلًا، عدم الصحة.
ولقائل أن يقول في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} 1 الآية دالة
على أن الجهل بالصفة جهل بالموصوف؛ وإلا فهم يؤمنون باليوم
الآخر وإن كذبوا الرسل، وفي القرآن آيات صريحة
__________
1 التوبة 29.
(2/21)
في أن أهل الكتاب يكذبون باليوم الآخر مع
أنهم يقولون: إنهم يؤمنون به.
أصل:
اختلف أئمتنا في أن الأفعال المحكمة هل تدل على كون فاعلها
عالمًا بها؟
كذا عبارتهم فاعلها، ولو قالوا: من صدرت على يديه كان خيرًا؛
فإن تسميته فاعلها -مع اختلافهم في أنه هل فعلها- مما لا
ينبغي.
إذا عرفت هذا فقد آل بهم خلافهم إلى اختلافهم في أن النائم هل
يفعل؟
قال إمام الحرمين في الشامل: إن من سلك مسلك الأدلة -وزعم أن
الإتقان يدل على علم المتقن. منع صدور أفعال محكمة من النائم.
إلى أن قال: ومن أبطل طريق الاستدلال وأسند العلم إلى الضرورة
لم يمتنع عنده صدور أفعال محكمة من النائم.
ثم قال: وهذا في الأفعال الكثيرة المتقنة؛ فأما القليل من
الأفعال فلم يمنع أحد من أصحابنا أن يتصور من النائم ذكره بعد
ما نقل أن المعتزلة أجمعوا على النائم يفعل القليل وأن القول
فيمن استمرت به الغفلة كالقول في المغمور في النوم.
ثم قال: وذهب القاضي -في جميع المحققين- إلى أنا نجوز وقوع
القليل، ولا نقطع بأن الصادر من النائم مقدور له، بل يجوز أن
تكون حركاته ضرورية وأن تكون اختيارية، وأطال الإمام في هذا
-وعليه مسائل منها:
لو دبت صغيرة فارتضعت من كبيرة نائمة أخيل انفساح النكاح على
الصغيرة خلافًا للداركي.
أصل:
نبحث فيه عن معنى السبب والعلة.
قد كثر تداول هاتين اللفظتين على لسان حملة الشريعة. من
المتكلمين والأصوليين والفقهاء واللغويين والنحاة، وربما وقع
في بعض الأذهان أن السبب هو العلة، وليس كذلك؛ بل الفرق بينهما
كامن عند أهل اللسان وأهل الشرع، أما أهل اللسان، فقال
اللغويون: السبب كل شيء يتوصل به إلى غيره، ومن ثم سموا الحبل
سببًا. وذكروا أن العلة المرض وحدث يشغل صاحبه عن وجهه. واعتل
عليه بعلة [إذا] 1 إعاقته عن أمر، وكلمات يدور معناها على أمر
يكون عنه أمر آخر.
__________
1 في "ب" أن.
(2/22)
ولا حرج عليك إذا قلت: أمر يؤثر في أمر آخر
لأنك هنا متكلم على المعنى اللغوي، ولأنا لا نعنى بالتأثير
الاختراع بل ما عنه عادة الأثر بلا تخلف.
وذكر النحاة ما يؤخذ منه أنهم يفرقون بينهما حيث ذكروا أن
اللام للتعليل، ولم يقولوا للسببية، وقال أكثرهم: الباء
للسببية ولم يقولوا للتعليل، [وهذا تصريح بأنهما غيران] 1.
وقال ابن مالك: الباء للسببية والتعليل، ومثل للسببية بقوله
تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} 2
وللعلة بقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا} 3.
وذكروا أيضًا الاستعانة، ومعنى الاستعانة غير معنى السب
والعلة.
فإن قلت: اكتشف لي الغطاء عن ذلك، لينفع في فهم ما أنت بصدده.
قلت: الباء الداخلة على الاسم، الذي لوجوده أثر في وجود
متعلقها- ثلاثة أقسام. باء الاستعانة، وباء السبب. وباء العلة.
وذلك لأنها إن صح نسبة العامل إلى مصحوبها مجازًا فهي باء
الاستعانة، نحو كتبت بالقلم، وتعرف أيضًا بأنها الداخلة على
أسماء الآلات.
وإلا فإن كان المعلق إنما وجد لأجل وجود مجرورها فهي باء العلة
نحو "فبظلم" ألا ترى أن وجود التحريم ليس إلا لوجود الظلم
وتعرف بأنها الصالحة غالبًا. لحلول اللام محلها.
وذكر غالبًا ليخرج نحو غضبت له، وغضب له. وإلا يكن المتعلق
كذلك فهي باء السببية نحو {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ
رِزْقًا لَكُمْ} ألا ترى أن إخراج الثمرات مسبب عن وجود الماء
ولم يكن لأجل الماء بل لأجل مصلحة العباد.
وبهذا التقسيم علمت أن باء الاستعانة لا تصح في الأفعال
المنسوبة إلى الله تعالى؛ فهذا منتهى قول الناقلين عن العرب.
__________
1 وفي "ب" قال ابن مالك: الباء للسببية والتعليل وهذا تصريح
بأنهما غيران.
2 إبراهيم "32".
3 النساء "60".
(2/23)
وأما أهل الشرع فالسبب والعلة يشتركان
عندهم في ترتيب السبب والمعلول عليهما، ويفترقان من وجهين.
أحدهما:
أن السبب ما يصلح الشيء عنده. لا به والعلة ما يحصل به.
وأنشد ابن السمعاني في كتاب القواطع على ذلك قول الشاعر1:
ألم تر أن الشيء للشيء علة ... يكون به كالنار تقدح بالزند
ولكنه اختار في تعريف السبب أنه ما يوصل إلى المسبب مع جواز
المفارقة بينهما.
قال: وقيل إنه مقدمة يعقبها مقصود لا يوجد إلا بتقدمها ولا أثر
لها فيه ولا في تحصيله، [قال] 1: وهذا كالحبل سبب إلى [الوصول]
2 إلى الماء ثم الوصول بقوة النازح لا بالحبل، وكذلك الطريق
سبب إلى الوصول إلى المكان المقصود ثم الوصول بقوة الماشي لا
بالطريق. وحل القيد سبب لفرار المقيد، والفرار بقوته لا
بالحبل.
قال: ويمكن الاستدلال على ذلك بقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي
اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} 3 فجعل ضرب القتيل بلحم بعض البقرة سبب الحياة؛
فلا أثر لذلك في الحياة، وكذلك ضرب موسى البحر بالعصا. فدل هذا
على أن السبب هو الموصل مع جواز المفارقة.
وأطال ابن السمعاني في تعريف السبب والعلة والشرط وعقد لذلك
بابًا مستقلًا.
والثاني، بأن المعلول يتأثر عن علته بلا واسطة بينهما والشرط
يتوقف الحكم على وجوده، والسبب إنما يفضي إلى الحكم بواسطة أو
وسائط.
ولذلك يتراخى الحكم عنها حتى تؤخذ الشرائط وتنتفي الموانع.
وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها. إذا لا شرط لها، بل متى
وجدت أوجبت معلولها بالاتفاق حكى الاتفاق أمام الحرمين
والآمدي4 وغيرهما، ووجهوه بدلائل كثيرة.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" للوصول.
3 البقرة 73.
4 علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي سيف الدين الآمدي
شيخ المتكلمين في زمانه ومصنف الأحكام ولد بآمد سنة إحدى
وخمسين وخمسمائة، ويحكى عن ابن عبد السلام أنه قال: ما تعلمنا
قواعد البحث إلا منه، وقال أبو المظفر بن الجوزي لم يكن في
زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام توفي رحمه الله في صفر
سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
قبان قاضي شهبة 2/ 79، وفيات الأعيان 2/ 445، شذرات الذهب 5/
144.
(2/24)
فإن قلت: هذا إنما هو في العلة العقلية.
قلت: الشرعية تحاكي العقلية أبدًا لا يفترقان إلا في أن تلك
موجبة بنفسها، وهذه ليست موجبة- فإن قلت: فما معنى قولكم العلة
الموجبة إذا كان الإيجاب للعلل على أصولكم.
قلت: قال إمام الحرمين في الشامل ما نصه: ليس المراد بقولنا
العلة توجب المعلول، أنها تثبته كما تقتضي القدرة حدوث
المقدور؛ ولكنا أردنا بالإيجاب تلازم العلة والمعلول، واستحالة
ثبوت أحدهما دون الثاني. انتهى.
وهذا في الحقيقة هو الفرق الأول الذي أشرنا إليه بين العلة
والسبب؛ فإن المسبب لا يلزم السبب لجواز تخلفه لمانع أو فقد
شرط، والعلة سالمة من ذلك، فالملازمة فيها موجودة أبدًا.
وأما الفرق الثاني:
فقد ذكره الإمام في الشامل أيضصا قبل ذلك، وحكى عن المعتزلة
أنهم قالوا [جميعهم] 1 "يجوز وجود السبب وانتفاء المسبب إذا
تحقق مانع من وجود السبب".
وأنهم قالوا: الحكم تحب مقارنته للعلة، ولا يجب مقارنة السبب
للمسبب؛ بل يجب استنجازه عنه. انتهى.
وهو المعنى بقولنا: "إن السبب لا يفضي إلى الحكم إلا بواسطة"
إذا عرفت هذا فقول النافذ طلاقه: "أنت طالق"؛ فإنه يستعقب ووقع
الطلاق من غير توقف على شرط. وقوله: "إن دخلت الدار فأنت طالق"
سبب؛ فإنه لا يفضي إلى الحكم إلا بواسطة دخول الدار.
وترى السبب منصوبًا، والمسبب مفقودًا، ولا كذلك العلة.
__________
1 في "ب" بأجمعهم.
(2/25)
وأعلم أن الأصوليين لم يعتنوا بتحقيق الفرق
بين العلة والسبب، وربما وقع في كلامهم أنهما سواء، لأن مقصدهم
الوصف الذي ترتب بعده الحكم وله مدخل فيه، وليس ذلك إنكارًا
منهم للفرق، بل لما لم يحتاجوا إليه لم يذكروه، وهو واقع لا
محالة.
واستعمله الغزالي رحمه الله في الفقيات على نحو ما أيدناها،
فقال في الجراح.
الفعل الذي له مدخل في الزهوق إن لم يؤثر في الزهوق ولا فيما
يؤثر فيه فهو الشرط وإن أثر فيه وحصله فهو العلة كالقد والجزء
وإن لم يؤثر في الزهوق ولكن أثر في حصوله فهو السبب كالإكراه،
ولا يتعلق القصاص بالشرط، ويتعلق بالعلة وكذا بالسبب على تفصيل
فيه.
واعترضه الرافعي بأنه لم يف بهذا الاصطلاح في الشرط والسبب
لكونه سمى الحفر سببًا في الغصب وشرطًا في الجراح.
وأجاب عنه ابن الرفعة بأنه إنما جعل الحفر شرطًا في الجراح
وسببًا في الغصب؛ لأن الضمان ترتب على الحفر إذا انعدمت
التردية، وفي الجراح لا يجب القصاص به إذا انعدمت، ويؤيده أنه
في باب الديات جعل الحفر سببًا لتعلق الدية به. وهو جواب صحيح،
حاصله أن الحفر صالح للسببية وللشرطية، فإذا ترتب عليه المسبب
كان سببًا وإلا كان شرطًا، والقصاص لا يترتب فلا يكون بالنسبة
إليه. سببًا بل شرطًا، والضمان ترتب فيكون بالنسبة إليه سببًا
وهذا حسن، وعند هذا نقول: أعلم أن الوسائط بين الأسباب
والأحكام تنقسم إلى مستقلة وغير مستقلة.
فالمستقلة بضاف الحكم إليها ولا يتخلف عنها وهي العلل.
وغير المستقلة: منها ما له مدخل في التأثير ومناسبة إن كان في
قياس المناسبات وهو السبب، ومنها ما لا مدخل له، ولكن إذا
انعدم ينعدم الحكم وهو الشرط بهذا يتبين لك ترقي رتبة العلة عن
رتبة السبب، ومن ثم يقولون: إن المباشرة تقدم على السبب، ووجهه
أن المباشرة علة، والعلة أقوى من السبب، ومن ثم لو فتح زقًا
بمحضر من مالكه فخرج ما فيه والمالك يمكنه التدارك فلم يفعل
فوجهان.
أحدهما: يضمن كما لو رآه يقتل عبده أو يحرق ثوبه فلم يمنعه.
والثاني: لا، والفرق أن القتل والتحريق مباشرة، وفتح الزق سبب.
والسبب يسقط حكمه مع القدرة على منعه.
(2/26)
ونظير المسألة: إذا صالت عليه البهيمة،
وأمكنه الهرب ولم يهرب ففي الضمان وجهان، وقد يكون الضمان في
مسألة البهيمة أرجح منه في الزق؛ لأن الإنسان قد تحصل له عند
الصيال -دهشة تشغله عن الدفع.
تنبيه:
لا يسحب أن الشرط أضعف حالًا وأنزل رتبة من السبب، بل الشرط
يلزم من عدمه العدم، وهو من هذه الجهة أقوى من السبب، إذا
السبب لا ملازمة بينه وبين المسبب. انتفاء وثبوتًا، بخلاف
الشرط.
ومن ثم قال القفال الكبير. فيما نقله ابن السمعاني عنه:
"الطريق في التمييز بين العلة والسبب والشرط أنا ننظر إلى
الشيء؛ فإن جرى مقارنًا للشيء أو غير مقارن ولا تأثير للشيء
فيه دل على أنه سببه، وأما الشرط فهو ما يختلف الحكم بوجوده
وعدمه، هو مقارن غير مقارن للحكم كالعلة سواء -إلا أنه لا
تأثير له فيه؛ وإنما هو علامة على الحكم من غير تأثير أصلًا.
وقال ابن السمعاني: "الشرط ما يتعين الحكم بوجوده". قال:
والسبب لا يوجب تغيير الحكم، بل يوجب مصادفته وموافقته. ثم ذكر
كلام القفال الذي ذكرناه. وليس مرادهما أنه يوجب الحكم.
مسألة:
قال علماؤنا: الشرط إذا دخل على السبب ولم يكن مبطلًا كان
تأثيره في تأخير حكم السبب إلى حين وجوده، ولا في منع السببية.
مثاله: إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو أنت طالق [إن] 1
دخلت الدار فالسبب قوله: أنت طالق، والشرط الداخل عليه. وهو
قوله: إن دخلت، مقدمًا كان أو مؤخرًا. لا يؤثر شيئًا في قوله:
"أنت طالق" بل في حكمه.
وإنما قلنا: ِإنه لا يؤثر في "أنت طالق" لأن "أنت ط الق" ثابت
مع الشرط كما هو ثابت بدونه، ولكن الشرط أوقف حكمه ومنعه؛ فكان
أثر الشرط في منع حكم العلة لا في نفس العلة، بدليل أنه لو لم
يقترن به الشرط ثبت حكم العلة. وربما عبروا عن هذا بأن الشرط
لا يبطل السببية ولكن يؤخر حكمها فالسبب ينعقد ولكن الشرط
يوقفه. ويؤخر حكمه فإذا ارتفع الشرط عمل السبب عمله. ومن ثم
يقولون: الصفة وقوع لا إيقاع
__________
1 سقط في "ب".
(2/27)
ويقول الشيخ الإمام الوالد رحمه الله: إن
دخلت الدار فأنت طالق، إنشاء للتعليق لا تعليق للإنشاء، ومعنى
هذا أن السببية انعقدت في الحال، وحكمها تأخر بمقتضى الشرط إلى
وجود الصفة.
وأقول أنا: إذا دخلت الدار طلقت، لكونه قال: إن دخلت الدار
فأنت طالق، لا لكونها دخلت. فأفهم هذا فلقد ذهل عنه ذاهلون،
وأعلم أن أحدًا منا لا يقول: إنها طلقت لدخولها؛ بل إنما طلقت
بالتعليق وحده لما انتفت عنه الموانع.
فإن قلت: فقد قال الفقهاء: التعليق مع الصفة تطليق.
قلت: ليس معناه أن الصفة جزء من التطليق، بل إنها شرط يوقف
الحكم ويؤخر من أجلها وليس كل ما توقف عليه الحكم علة ولا جزء
علة.
هذا هو الحق: فالعلة فعل الزوج فقط. الذي يتصرف تارة بالتنجيز
وتارة بالتعليق وليس لفعل الزوج أثر.
وربما يقولو: الموقوف على دخول الدار، الطلاق لا التطليق.
وربما قالوا أيضًا: المعلق الطالقية نزولًا لا الطالقية سببًا.
وقد عرفت ما يعنون بهذه العبارات كلها.
والحاصل أن تعليق الطلاق عندهم بمنزلة من يتخير الوكالة ويعلق
التصرف على شرط لا بمنزلة من يعلق أصل الوكالة.
فإن قلت: حاصل هذا الكلام أن التعليق إيقاع وتطليق، والمجزوم
به -في كلام الإمام والغزالي والرافعي والنووي ما نصه ومن لفظ
الروضة نقلته "إن مجرد التعليق ليس بتلطليق ولا إيقاع ولا
وقوع".
قلت: قد أطال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في كتاب التحقيق:
في مسألة التعليق الذي رد به على ابن تيمية1 وهو من نفائس
كتبه.
__________
1 أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم
الخضر النميري الحراني الدمشقي الحنبلي أبو العباس تقي الدين
ابن تيمية شيخ الإسلام ولد بحران كان كثير البحث في فنون
الحكمة داعية إصلاح في الدين آية في التفسير والأصول، فصيح
اللسان، قلمه ولسانه متقاربان له مصنفات عديدة انتفع بها أهل
العلم على مختلف منحاهم:
الدرر الكامنة 1/ 144، البداية والنهاية 4/ 135، النجوم
الزاهرة 9/ 271، الأعلام 1/ 144.
(2/28)
الكلام على جواب هذا بما حاصله أن ذلك لا
يدفع كون التعليق سببًا وهو المدعي هنا.
وصرح به الأصحاب عند كلامهم على أن العزم عند الرجوع -هل هو
على شهود التعليق أو الصفة؟ فقالوا: التعليق موقع والصفة محل.
قال: والشافعية قد يمنعون إطلاق الإيقاع على التعليق، لاعتقاد
أن الإيقاع، يستعقب الوقوع، لا لإنكار كون التعليق سببًا.
قال: وللمسألة التفات على مسألة التكوين والمكون.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: "الشرط إذا دخل على السبب منع
انعقاده سببًا في الحال". وربما قالوا: الشرط داخل على نفس
العلة وأصلها، لا على حكمها.
قالوا: والشرط يحول بين العلة ومحلها؛ فلا تصير علة معه.
فحرف المسألة بيننا وبينهم أن الشرط هل يمنع انعقاد سبب الحكم
حتى يكون الحكم عند انتفاء الشرط مستندًا إلى البقاء على الأصل
لا إلى انتفاء الشرط أو لا يمنع انعقاد العلة بل يمنع وجود
حكمها حتى يكون الدال على انتفاء الحكم صيغة الشرط. وهذا أصل
عظيم في الخلافيات. عظم فيه تشاجر الفريقين، وعليه مسائل.
منها: تعليق الطلاق أو العتق بالملك باطل عندنا؛ لأن التطليق
المعلق سبب وقوع الطلاق، والتعليق أثر في تأخير حكمه مع بقاء
سببه.
وإذا بقيت السببية لزم أن يكون المحل مملوكًا، فإن اتصال السبب
بالمحل المملوك شرط لانعقاده، ليكون السبب مفضيًا إلى الحكم
عند وجود الشرط.
ولهذا لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق لم يصح، لأن
السبب لا يفضي إلى حكمه وإن وجد الشرط.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يصح، لأن التطليق معلق بالشرط،
فلم يكن سببًا لوقوع الطلاق فلا يشترط له ملك المحل، بل ينقعد
التطليق يمينًا، لأنه إن قصد بها لمنع فهو موجود بوقوع الطلاق
عند وجود الشرط، وكذا إن قصد الطلاق، لأنه أضاف الطلاق إلى
الملك وكان كلامه مقيدًا فانعقد صحيحًا. هذا حاصل كلامهم.
(2/29)
فإن قلت: قرر لي وجه اشتراط كون السبب لا
ينعقد حتى يتصل بالمحل المملوك؛ فإنه مما يتوقف فيه النظر، إذ
قد يقول قائل: ينعقد السبب وإن لم يتصل بمملوك.
قلت: لا حاجة بك هنا إلى تقرير هذا، بل يكفيك اتفاق الفريقين
عليه؛ فإن الإمامين متفقان عليه، ولذلك اتفقا فيما ول قال
لأجنبية: "إن دخلت الدار فأنت طالق" على أنها لا تطلق، وإن
دخلت وهي زوجة؛ وإنما اختلفا في أنه هل وجد السبب في صورة
النزاع أو لم يوجد؟
وبهذا يعلم أن من يحتج على الخصوم، بما رواه أبو داود من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "ليس على رجل طلاق فيما لا يملك ولا عتاق فيما لا يملك
ولا بيع فيما لا يملك"1 لا تتم له الحجة حتى يثبت أن التعليق
قبل الملك كائن فيما لا يملك، وإلا فأبو حنيفة رضي الله عنه
يقول له: "أنا قائل بموجب الحديث، وأنا لا أجعل عملية الطلاق
فيما يملك لأني لا أعقد السبب في الحال. فتأمل ذلك -فيه- تعرف
مقدار معرفة مأخذ الأئمة.
فلو اتفق الإمامان على انعقاد السبب لاتفقا على عدم الصحة، أو
على عدم انعقاده لاتفقا على الصحة، ولكنهما اختلفا، فالشأن في
تثبيت أحد القولين قبل الاستدلال بالحديث.
نعم: أصحابنا يروون من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال لي عمل
لي: أعمل لي عملًا حتى أزوجك ابنتي فقلت: إن تزوجها فهي طالق
ثلاثًا، ثم بدا لي أن أتزوجها، فأتيت النبي صلى الله عليه
وسلم، فسألته فقال لي: "تزوجها؛ فإنه لا طلاق إلا بعد نكاح"،
فتزوجتها. فولدت لي أسعد وسعيد2..
__________
1 أخرج أحمد في المسند 2/ 190، وأبو داود في السنن في كتاب
الطلاق/ باب في الطلاق قبل، النكاح حديث "2190"، والترمذي 3/
486 في الطلاق باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح "1181"، والنسائي
في السنن 7/ 12 في الإيمان والنذور، والحاكم في المستدرك 2/
204- 205 في كتاب الطلاق.
2 الدارقطني في السنن 4/ 36 في كتاب الطلاق "97".
(2/30)
ومن حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أنه سئل عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق،
قال: طلق ما لا يملك1.
وهذان: لا سيما الحديث الثاني -صريحان في مذهبنا، وقد رواهما
الدارقطني؛ غير أن في سندهما مقال. ولقد تأملت هذه المسألة
وأعملت فيها فكري واختبرت قريحتي وتلوت ما عندي من العلم. فلم
أنته إلى ما يثلج له الصدر من ظن غالب؛ بل إن مذهب الشافعي رضي
الله عنه، في هذه المسألة عندي راجح رجحانًا [لست] 2 معه على
ثقة من التزحزح بما يحدث من الشبهات.
أما رجحانه: فلأني أظن أن حديث "ليس على الرجل طلاق فيما لا
يملك". ظاهر فيما يتبادر إلى الفهم منه من أنه لا يعلق إلا من
يطلق. ومعتضد بهذين الحديثين وإن كانا غير صحيحين وبما يؤيدهما
من أحاديث آخر، ولأني أظن أن الشرط لا يمنع انعقاد السببية.
غير أن ظني هذا، دون ما ظننته من الحديث، فلو ترقت دلالة
الحديث عندي على مرامي، إلى درجات غلبة الظن لترقي بسببها ظني
أن الشرط لا يمنع انعقاد السببية استدلالًا بالفرع على الأصل،
لكن لم يترق، وللبحث مجال في منع الشرط انعقاد السببية؛ فهذه
المسألة مما استخير الله فيه وأسأله التوفيق لوجه الصواب،
وأعرف رجحان مذهب الشافعي رضي الله عنه، لكنه كما علمت رجحانًا
لا أستطيع معه على الفتيا به. ويتلوه مذهب الإمام أحمد رضي
الله عنه في إحدى الروايتين "عنه" أنه يجوز تعليق العتق قبل
الملك، ولا يجوز تعليق الطلاق فهو عندي أرجح من مذهب أبي
حنيفة، لما عرف من التشوف إلى العتق، ومن وقوعه في غير مملوك
بالسراية.
ويتلوه مذهب أبي حنيفة فيجواز تعليق الأمرين، ولولا الأحاديث
الظاهرة في خلافه لكان عندي أرجح المذاهب، ولولا أن صحيحها غير
صريح في مرامنا، وضعيفها لا تنهض به الحجة لكان أضعف المذاهب.
__________
1 الدارقطني في السنن 4/ 16 في الطلاق حديث "47"، قال صاحب
التنقيح: حديث باطل فيه أبو خالد الواسطي هو عمرو بن خالد وهو
وضاع، وقال أحمد ويحيى هو كذاب.
2 سقط في ب.
(2/31)
وأضعفها مذهب مالك رحمه الله، فإنه فرق بين
التعميم والتخصيص، ولا وجه له فيما يتبين لي.
وأضعف من مذهب مالك مذهب ابن حزم1؛ فإنه وافق أبا حنيفة على أن
الشرط يمنع انعقاد السبب، ثم زاد فقال: "يمنعه مطلقًا"، ومن
قال: "لا يقع الطلاق المعلق رأسًا" وعليه أبو عبد الرحمن
الشافعي المعتزلي2 ولعلهما خرقًا إجماع الأمة.
وقد حاول الشيخ الإمام القضاء عليهما بذلك في كتابه التحقيق،
وذكر أن هذا الذي عليه ابن حزم ليس هو مذهب إمامه داود، وذكر
أن مذهب شريح فيمن قال: "أنت طالق إن دخلت الدار" أنه يلزمه
الطلاق دخلت أم لم تدخل.
قلت: وتلخص من هذا أن الشرط الداخل على السبب قاطع له عند ابن
حزم وأبي عبد الرحمن أحدهما يصير الكلام لغوًا، ويقابله قول
شريح: "إنه يفسد في نفسه ولا يعترض السبب فيعمل عمله".
ولكن شريح يقصر على ما إذا بدأ بالسبب قبل الشرط، ولا بقوله
فيما إذا عكس فقال: "إن دخلت فأنت طالق".
وفقهاء الفرق لا يلغون الشرط. ثم اختلفوا، فأشدهم إعمالًا [له]
3 الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: "إنه منتصب سببًا في الحال".
وأبو حنيفة يقول: "سيصير سببًا في ثاني الحال، وأما في الحال
فلا هو سبب ولا هو منهي".
__________
1 الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح
بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الفارسي الأصل ثم الأندلسي
القرطبي اليزيدي ولد الإمام أبو محمد في آخر يوم في رمضان سنة
أربع وثمانين وثلاثمائة بقرطبة.
قال الذهبي: كان ينهض بعلوم جمة ويجيد النقل ويحسن النظم
والنثر وفيه دين وخير ومقاصده جميلة ومصنفاته مفيدة.
سير أعلام النبلاء 18/ 194، البداية والنهاية 12/ 98، دائرة
المعارف الإسلامية 1/ 254، وفيات الأعيان 3/ 325.
2 أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز البغدادي.
حدث عن الشافعي والوليد بن مسلم الثقفي، ابن السبكي 2/ 64.
3 سقط في "ب".
(2/32)
ومنها: الصحيح عندنا، في رجوع الشهود -أن
العزم على شهود التعليق دون شهود، الصفة في الطلاق والعتق لأن
السبب.
وفي وجه، رآه مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه عليهم جميعًا،
ولعل قائل هذا من مذهبنا يجعل الصفة جزء علة، وهو احتمال
للوالد رحمه الله ذكره في كتاب "التحقيق" ثم صرح بأن الأرجح
أنه شرط فليس جزء علة، وهو الحق كما قدمناه.
ومنها قال ابن الحداد: إذا قال أحد الشريكين للعبد: إذا دخلت
الدار فنصيبي حر، وقال الآخر مثل ذلك فدخل عنق "عليهما" ولم
يحك صاحب البحر سواه، ولو لم يكن التعليق ينعقد سببًا في الحال
لكان الوجه التفصيل بين أن يقول الشريك بعد شريكه أولًا؛ فإن
قالا معًا فالأمر كذلك، وإلا فتأخر قول أحدهما يوجب سبق انعقاد
قول صاحبه سببًا لنصيبه.
فيشبه أن يقال: إذا دخل عتق على الأول، لأن السبب انعقد له قبل
صاحبه، فيسري عليه إذا كان موسرًا.
ومنها خيار الشرط يورث خلافًا لأبي حنيفة رضي الله عنه أن
الخيار لا يمنع نقل الملك؛ بل الملك حاصل وينتقل إلى الوارث،
والثابت بالخيار، حق الفسخ والإمضاء؛ وذلك حق شرعي أمكن
انتقاله إلى الوارث كما في الرد بالعيب.
وعندهم خيار الشرط صفة حسية تقوم بالمختار والثابت به يشبه نقل
الملك واستيفائه وهي صفة من صفاته تفوت بفواته.
ومنها: أن كلًا من المتعاقدين مستبد بالفسخ في خيار الشرط،
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: غير مستبد، بل لا بد من حضور
شريكه في العقد.
وحرف المسألة أن الخيار عندنا عبارة عن ملك فسخ العقد، وليس
بمانع من انعقاد البيع، سببًا للملك. وعندهم عبارة عن استيفاء
أحد الجانبين.
ومنها: البيع بشرط الخيار ينعقد سببًا لنقل الملك في الحال؛
وإنما يظهر تأثير الشرط في تأثير حكم السبب، وهو اللزوم الذي
لولا دخول الشرط لثبت -وهذا على القول المنصور في الخلاف. وهو
انتقال الملك إذا كان الخيار لهما.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ينعقد سببًا لنقل الملك. بل
دخول الشرط
(2/33)
منع كونه سببنًا في مدة الخيار؛ فإذا سقط
الخيار وزال الشرط انعقد حينئذ سببًا.
وحرف المسألة ما ذكرناه من أن حقيقة الخيار عندنا ملك فسخ ما
ثبت، وعنده استيفاء ما كان.
ومنها: التكفير قبل الحنث يجوز عندنا لانعقاد السبب، ولا يجوز
عندهم لا بالمال ولا بالصوم، لأن اليمين معلقة بالشرط، وهو
الحنث. فلا ينعقد سببًا في حق الكفارة حتى يوجد الحنث.
وإذا تأملت هذه المسائل عرفت أنا غفلنا سببًا تخلف عنه مسببه
لقيام مانع أو تخلف شرط؛ فلم يمنع انعقاد الأسباب، وإن تأخرت
المسببات.
والخصوم لم يعقلوا ذلك فمنعوه، ولعلهم لا يفرقون بين العلة
والسبب؛ فمن ثم يقولون: "لا يتأخر السبب عن مسببه، ولا يتوقف
على شرط [فإن المعلوم لا يتأخر علته ولا يتوقف على شرط] 1
صحيح.
وقد ذكر أئمتنا أن العلة الموجبة على القول بها -لا يجوز أن
يكون إيجابها لمعلولها مشروطًا بشرط، قال إمام الحرمين في
الشامل: والخائضون في العلل متفقون على ذلك.
وأما قولهم: إن السبب والعلة سواء. فلسنا نوافقهم عليه؛ بل هما
مفترقان، وسنعقد لذلك مسألة على الأثر ونبين وجود السبب
وانتفاء المسبب لمانع، ولا كذلك العلة.
فائدة: علمت الأصل العظيم الذي عظم فيه تشاجر الفريقين في
الخلافيات وتبين لكل رأينا فيه، وقد حاد الإمام عنه في الفرع
الشهير -وهو تعليق الوقف بالموت، ونحن نذكره ملخصًا.
فنقول: استفتي في زمن الأستاذ أبي إسحاق في رجل قال: وقفت داري
على المساكين بعد موتي، فأفتى الأستاذ بوقوع الوقف بعد الموت
وقوع العتق في المدير وساعده أئمة الزمان. قال الإمام: وهذا
تعليق على التحقيق، بل هو زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرف بعد
الموت. [قال الرافعي: وهذا كأنه وصية] 2 يدل عليه أن في فتاوي
__________
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
2 سقط في ب.
(2/34)
القفال أنه: لو عرض الدار على البيع صار
راجعًا عنه.
قال الشيخ الإمام: وقول الإمام: إنه تعليق على التحقيق صحيح؛
غير أن التعليق بالموت في التمليكات يصح وصية [بالوقف] 1
فالوقف أولى، وقوله: إنه زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرف بعد
الموت، يقال له: الوصية والتدبير كذلك، والحق أنه ليس واحد
منهما إيقاع تصرف بعد الموت، وذلك أن التعليق عندنا تصرف ناجز
الآن، وأثره يقع عند وجود الصفة، وعند الحفية يقدر كالنازل عند
وجود الصفة ويرد عليهم التدبير.
فالذي قاله الإمام: من أنه إيقاع تصرف بعد الموت، يشبه ما
يقوله الحنفية، والذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه وذكره
الأصحاب صحة الوقف كما أفتى به الأستاذ. وكاد الشيخ الإمام
يدعي الإجماع عليه، قال: وإن كان ابن الرفعة حاول إثبات خلاف
فيه فذلك غير صحيح، قال: وينبغي أن تجعل هذه المسألة أصلًا من
الأصول أعني تعليق الوقف بالموت، قال: "ولا يخالف فيها حنفي
ولا غيره"..
فروع: قد يتخيل أنها ترد نقضًا على أصلنا:
منها: لو علق الراهن [على] 2 عتق المرهون بفكاك الرهن، نفذ عند
الفكاك، وإن لم ينفذ عتق الراهن المنجز، لأن مجرد التعليق لا
يضر بالمرتهن وحين يترك لا يبقى له حق.
وقد يقال: كيف سوغتم تعليق من لا يملك التنجيز فإن الراهن
المعسر لا ينفذ عنقه على الصحيح وكذا الموسر على قول.
والجواب: أن عدم نفاذه ليس إلا لتعلق حق المرتهن، ولذلك لو أذن
المرتهن نفذ، فالمقتضى قائم، ولكن منع منه مانع لم يوجد في
صورة التعليق؛ فليس كالتعليق بل الملك إذ لا مقتضى هناك، ولو
علق الراهن العتق بصفة أخرى وحدت بعد فكاك الرهن، فالأصح
النفوذ.
ومنها: إذا قال العبد لزوجته: إن فعلت كذا فأنت طالق ثلاثًا ثم
عتق ثم فعلته، فالأصح وقوع الثالثة، والخلاف جار.
ولو علق فقال: إن عتقت فأنت طالق ثلاثًا. والأصلح أيضًا وقوع
الثالثة.
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
(2/35)
ولا خلاف في تعليق عتق الراهن بالفكاك أنه
ينفذ -وفرق الإمام بفرق خدش فيه الرافعي بما لا يخدشه، وقد
أطال الشيخ الإمام رحمه الله في شرح المهذب- الكلام عليه بما
لا نطيل به.
وحاصل الفرق أن التعليق في الرهن مع قيام المقتضى وفي الطلاق
قبله والشيخ الإمام وشيخه ابن الرفعة متفقان على صحة هذا الفرق
مخالفان الرافعي في قوله: لعلك لا تنقاد إليه.
ومنها: الإيلاء لا يصح إلا من زوج؛ فلو حلف على ترك وطء أجنبية
كان يمينًا محضة. فإن نكحها فلا إيلاء- وهذا جار على القاعدة
في أن التصرف قبل الملك لاغ.
غير أن لنا وجهًا أنه إذا نكحها صار موليًا وعليه السؤال فمن
قائل: إن منزعه جواز التعليق في النكاح قبل الملك وهو قول حكاه
صاحب التقريب يوافق الحنفية، وهذه طريق الإمام الغزالي. وعلى
هذا سقط السؤال.
ومن قائل: إنه جار مع القول بأن التعليق قبل الملك باطل، وهو
قضية طريقة الرافعي لأنه احتج بأن اليمين باقية وهي المانعة من
الوطء، وعليها صاحب التتمة وكلام القاضي أبي الطيب في التعليقة
-دال لها- فإنه جزم بها الوجه في الإيلاء مع تضعيفه للقول
بالتعليق قبل الملك.
غير أن الرافعي ذكر هذا الوجه الذي في الإيلاء -نسبة ناسبون
إلى رواية صاحب التقريب، وصاحب التقريب إنما روى التعليق قبل
الملك فيما يظهر؛ فالجمع بين أنه رواه صاحب التقريب وأنه مفرع
على المذهب جمع بين ما في النهاية وما في التتمة ولا يجتمعان
فيما يظهر.
فرع:
لقاعدة الشروط الداخلة على الأسباب هو في نفسه أصل من الأصول
الفقهية، الشروط المعلق عليها كلها، عند الإطلاق تحمل على حياة
الشخص المعلق -ولك أن تقولك الحياة شرط للشروط المعلق عليها؛
فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت حر. فلا يعتق حتى يدخل الدار في
حياة السيد، وإن مات انقطع حكم التعليق.
وقال مالك: لا ينقطع بل يعتق بدخوله بعد موت السيد، ولعل هذا
منه مخالفة لهذا الأصل على الإطلاق أو في باب العتق بخصوصه.
(2/36)
وهذه القاعدة ذكرها الوالد رحمه الله
استطرادًا في كتاب اعتراض الشرط على الشرط. وقد يعترض عليها
بما إذا قال: إن مت فأنت حر بعد موتي بشهر؛ فإن حكم التعليق لا
ينقطع بالموت بل يتوقف العتق على انقضاء الشهر، وكذا إذا قال
إن مت فأنت حر إن شئت، الصحيح يوقف العتق على مشيئة العبد بعد
موت مولاه.
أصل قاطع 1:
لا يجوز عقلًا اجتماع علتين على معلول واحد. وهذا الأصل مهدنًا
له في شرح المختصر، وناضلنا عنه وادعينا قيام القاطع عليه،
وحكمنا عليه بأن مخالفه محجوج ببراهين العقول، ونزلنا عليه من
الفروع الفقهية، ما يرتفع عن همم الزمان. وحظ هذا الكتاب أن
يقول: "هذه قاعدة مضطردة منعكسة لا سبيل إلى انتقضاها بشيء من
الصور سواء عرفت هذه العلة بالمؤثر أم بالعرف أم بالباعث،
وكلام العقلاء في جميع العلوم من المتكلمين والأصوليين والنحاة
والفقهاء متطابق على هذا، وما هي عندي إلا قاعدة كامنة في
أفئدة العقلاء.
أما المتكلمون فواضح تطابق آرائهم عليها.
وأما النحاة؛ فلو عددت لك ما يدل على ذلك لأكثرت وخرجت عن
مسائل الفقه، ويكفيك قولهم: "لا يجتمع عاملات على معمول واحد".
وأما الفقهاء فقد أكثرت في شرح المختصر من كلامهم، وسأتحفك هنا
بمقدار نافع.
وأما الأصوليون، فاختلافهم فيه إنما نجده عند نظرهم في المسألة
بخصوصها ثم إذا خاضوا بعيدًا عنها وجدت أفئدتهم تحوم حول
المنع.
فإن قلت: فقد وضح اختلافهم الشديد فيها وأكثر المتأخرين -منهم-
على الجواز.
قلت: [علم] 2 أنه رب قاعدة مستقرة في الأذهان، غائبة عند
المناظرة عليها عن العيانن بل يحاول الإنسان -إذ ذاك، دليلًا
عليها فلا يجده، فيجنح، إلى إنكارها، وحسه وعقله يكذبانه ولو
أعطي التأمل حقه ورزق من التوفيق ما يؤيده لوجد الدليل، على ما
هو مركوز في طباعه إذا كان حقًا، أو لحما الله ذلك من قبله إذا
كان باطلًا.
__________
1 هذا الأصل سقط من ب.
2 سقط من "ب".
(2/37)
ولست بالمطيل هنا في الكلام على ذلك بعد ما
أطلت في الشرح والعرض الآن، إنه لا يوجد، وصفان -فصاعدًا- يحسن
أن يضاف الحكم إلى كل منهما لو انفرد إلا والحال إذا ذاك على
وجهين.
أحدهما:
أن يتعاقبا: وحينئذ فقد يضاف الحكم إلى الول منهما كما في
السببين إذا اجتمعا؛ فقد قال الأصحاب في الجراح: "يعول على
الأول منهما". وتكلمنا على ذلك في قاعدة الأسباب.
ونظيره في العبادات أنا نقول: من أحدث ثم أحدث حدثًا على حدث
لم يتخللهما طهارة أن الحديث الثاني لم يفعل شيئًا.
ويظهر أثر ذلك -إذا فرعنا على القديم في أن سبق الحدث لا يبطل
الصلاة، أنه لو أخرج باقي الحدث عمدًا لم تبطل صلاته؛ بخلاف ما
لو ابتدأ عمدًا حدثًا ثانيًا فإنها تبطل على الصحيح فيهما في
تفاريع القديم.
وقد يضاف إلى الثاني فقط كما في اجتماع السبب والمباشرة وقد
يضاف إلى أخيلهما وأنسبهما سواء كان الأول أو الثاني.
فعلى التقارير كلها لا يضاف إليهما جميعًا، ولئن أضيف إليهما
جميعًا فالإضافة إلى المجموع منهما، وكل منهما جزء غلة لا علة
مستقلة، فلا اجتماع لعلتين على معلول واحد.
ولئن أضيف إلى كل منهما على سبيل الاستقلال ولن ترى ذلك إن شاء
الله في صورة من الصور عن إمام من أئمة الهدى، فالصادر حكمان
لا حكم واحد، كل مضاف إلى علته؛ فلا اجتماع لعلتين على معلول
واحد
الوجه الثاني:
أنه يوجد الوصفان معًا -وهو غمرة هذا البحر وموضع التحقيق من
هذه المسألة- فإما أن يبطل علمهما بالكلية، أو يعمل أنسبهما
وأخيلهما إن كان فيهما أنسب وأخيل أو يعمل واحد منهما لا بعينه
أو يعمل مجموعهما، أو يعمل كل منهما، ولكن يكون الناشئ حكمان
لا حكم واحد.
فهذه خمس طرق لا سادس لها، وليس في شيء منها إعمال علتين
مستقلتين؛ بل إما [لا أعمال] 1 فلا حكم فرارًا من العمل
بعلتين، وإما إعمال ولكن حكمان فلا يعود
__________
1 في ب الإعمال.
(2/38)
على معلول واحد، وإما [إعمال] 1 ولكن العلة
واحدة لا لعلل، والشريعة على هذا جارية قادرة، وفروع الفقه
عليه دائرة داره.
وأنا أضرب لك من الأمثلة ما يوضح الفرض، ويكشف الصدى عن القلب،
وآتيك بصور لم تتهيأ إلا لمن طوف متون الفقهيات وخاض لججها.
وها أنا أفرد الطرق طريقًا طريقًا، وهو [صنع] 2 ليس من صنعي في
شرح المختصر، وإن كان ذلك أفحل.
[القول3 في أحكام تتأخر عن أسبابها. ولا يمكن القول بمقارنتها
لها.
منها: بيع الخيار يتأخر فيه نقض الملك إلى انقضاء الخيار على
أحد الأقوال.
ومنها: الطلاق الرجعي مع البينونة.
ومنها: الوصية يتأخر نقلها في الملك في الموصي به إلى بعد
الموت.
ومنها: السلم والبيع إلى أجل تتأخر عنه المطالبة إلى انتهاء
الأجل] .
فصل:
فيما ازدحم عليه علتان فكان ازدحامهما سبب دمارهما وإهمالهما
ولو على وجه.
وفيه مسائل:
منها: لو اتحد الخاطب وأوجب كل واحد من الوليين النكاح له معًا
صح على الصحيح، ويتقوى كل واحد من [الإيجابين] 4 بالآخر.
وحكى العبادي عن القاضي وغيره أنه لا يصح؛ لأنه ليس أحدهما
أولى بالاعتبار من الآخر فتدافعا.
ومنها: الخنثى إذا أمنى من ذكره وحاض من فرجه؛ فقد نص الشافعي
رضي الله عنه على أنه لايبلغ، وأنه لابلوغ له إلا باستكمال خمس
عشرة سنة.
ولكم تأول الأكثرون هذا النص، وكاد الشيخ الإمام [الوالد] 5
يجنح إلى ظاهر
__________
1 في ب الإعمال.
2 في ب صنيع.
3 من قوله القول في أحكام يتأخر فيه إلى قوله انتهاء الأجل.
4 في ب الجانبين.
5 سقط في ب.
(2/39)
النص فقال في باب الحجر: "وقفت على النص،
وتأويله صعب، وقال في باب الإقرار: تأويله [مشكل] 1.
ومنها: وكل اثنين في خلع امرأته -هذا على ألف وهذا على ألفين
فأوقعها الخلع معًا. بأن صدر خطابهما لها معًا؛ فقالت: قبلت
منكما أو كانت وكلت وكيلين فطلق كل واحد من وكيلي الزوج [مع
واحد من وكيلي الزوجة] 2 قال البغوي في الفتاوي، لا يقع شيء
لأن الخلع من جانب الرجل معارضة، فهو كما لو وكل وكيلًا ببيع
عبد بألف وآخر ببيعة بألفين فباعًا معًا لا يصح.
ومها: إذا قال لشريكه الموسر: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر في
حال إعتاقك.
فسنذكر هذا الفرع في مسائل العلة هل تفارق المعلول، وتذكر فيه
احتمال اندفاع اللفظ. ويمكن توجيه اندفاعه بتزاحم العلتين
اللتين تقتضي [كل منهما ما] 3 تقتضيه الأخرى؛ فإنا لا ندري
حينئذ عمن يقع العتق ولا لمن الولاء.
ويمكن توجيه أعمال السراية بأنها أقوى لكونها قهرية فتكون من
قسم أعمال الأصل، وإلى هذا ذهب القفال والشيخ أبو علي؛ ولكن
عللاه بعلة أخرى سنذكرها في تفارق العلة والمعلول. ويمكن عكسه
بأن اللفظ أقوى من الحكم، وهو أيضًا من أعمال [أخيل] 4
العلتين، وهو المنقول عن القاضي أبي الطيب في هذا الفرع كما
سيأتي في موضعه، ونقله الروياني عن عامة الأصحاب.
__________
1 في ب شكل معًا.
2 سقط في ب.
3 في ب منهما مثل ما.
4 في ب أحد.
(2/40)
القول فيما ازدحمت
عليه علتان إحداهما أنسب وأخيل فأعملناها:
ولنبتدئ في ذلك بحديث "الخراج بالضمان" فأقول: قد علل سيد
الأولين والآخرين وأعلم الخلق أجمعين -محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم. بأنسب العلتين عند ازدحامهما. وفي ذلك دلالة على
أنه لا يعلل بهما حينئذ؛
وإنما قلت: إنه علل بالأخيل، لأنه لما قال له الرجل المردود
عليه بعده بعيب، بعد ما شاء الله أن يقيم عند المشتري. يا رسول
الله: قد استعمل غلامي، قال صلى الله عليه وسلم:
الخراج بالضمان1، يعني. ما خرج من الشيء من عين ومنفعة وغلة؛
فهو للمشتري عوض ما كان عليه من ضمان الملك؛ فإنه لو تلف
المبيع كان بضمانه؛ فالغلة له لتكون الغنم له في مقابلة الغرم.
فإن قيل: لو كان الخراج في مقابلة الضمان لكانت الزوائد قبل
القبض للبائع، ثم العقد أو الفسخ؛ إذ لا ضمان حينئذ، ولم يقل
بذلك أحد؛ وإنما يكون له إذا تم العقد.
فالجواب: أن الشيخ الإمام رحمه الله ذكر في شرح المنهاج أن
الحكم قد يعلل بعلتين، فالخراج يعلل قبل القبض بالملك وبعده
بالضمان والملك جميعًا.
قال: واقتصر صلى الله عليه وسلم على التعليل بالضمان لأنه أظهر
عند البائع وأقطع لطلبه واستبعاده أن الخراج للمشتري؛ فقيل له:
إن الغنم في مقابلة الغرم.
قلت: ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة بعد
القبض الضمان وإن كانت قبل القبض الملك، لأنه لما ازدحم بعد
القبض علتان -وهما الملك والغرم علل بأنسبهما وهو الغرم بخلاف
ما قبل القبض فإنه لم يكن إلا واحدة فاحتيج إلى أعمالها. وهذا
ما أوردناه للتنبيه عليه.
فإن قيل: لو كانت العلة الضمان لزم أن تكون الزوائد للغاصب،
لأن ضمانه أشد من ضمان غيره، وما كانت العلة أنسب وأشد إلا
وكان الحكم فيها أولى، وهذا بحر إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
قلنا: المعنى بالضمان ها هنا ضمان الملك لا مطلق الضمان؛ وذلك
مقرر في مكانه، وهذا وضع المذهب وعلى أرباب الخلاف تقريره،
وكان الغرض منه التطرف إلى أنه لا ينبغي -عند اجتماع وصفين
أحدهما أنسب- أن يقال هما علتان؛ بل العلة الأنسب فإن طلب منا
دليل شرعي؛ فحسبنا صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى
هذا عمل الفقهاء وإليه أشار الرافعي في كتاب الطهار في الكلام
على تكفير الكافر بالإعتاق لما تكلم على قول
__________
1 الشافعي في المسند 2/ 144 في البيوع باب فيما نهى عنه من
البيوع "481" وأحمد في المسند 6/ 49- 80- 116 وأبو داود في
البيوع/ باب فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا "3508/
3510" والترمذي 3/ 581- 852 في البيوع باب ما جاء فيمن يشتري
العبد ويستغله ثم يجد به عيبًا "1285/ 1286" وقال حسن صحيح،
النسائي 7/ 254 في البيوت/ باب الخراج بالضمان "2243"، الحاكم
2/ 15 وصححه وأقره الذهبي.
(2/41)
الغزالي: "يصح الإعتاق والإطعام من الذمي
تغليبًا لجهة الغرامات؛ فقال: قوله تغليبًا لجهة الغرامات
-أشار به إلى ما ذكره الإمام: إن الكفارة فيها معنى العبادات
لما يتعلق بها من الإرفاق، وفيها معنى المؤاخذات والعقوبات،
وغرضها الأظهر الإرفاق، وما يناط بسببين الأظهر منهما يستقل،
كالحد فإنه ممحص وزاجر ويجب على الكافر زاجرًا، وإن لم يكن
ممحصًا انتهى.
وما نقله عن الإمام كذلك -رأيته في النهاية، وعزاه إلى الأصحاب
[فقال] 1:
قال الأصحاب: العبادات المالية يتعلق بها غرض الإرفاق وسد
الحاجات والتقرب إلى الله تعالى والغرض الأظهر منها الإرفاق،
وما نيط بسببين قد يستقل بأظهرهما، كالحد يمحص ويزجر ثم يثبت
على الكافر زاجرًا وإن لم يكن ممحصًا. انتهى.
ولك أن تقول هذا- من الإمام [يحسن] 2 لكونه يمنع شرط اجتماع
علتين؛ فإذا اجتمع وصفان أحدهما أظهر تعلق به لا محالة.
أما الغزالي والرافعي فيما يظهر فلا يمنعان ذلك؛ فقد جرى
الإمام على أصله، وجرهما استباعه فاقتفيا أثره وغفلا عن
أصلهما، وكثيرًا ما يقع مثل ذلك للمقتفين آثار مشايخهم
يخالفونهم في أصل ثم يغلبهم الألف على ما تلقفوه منه فيجرون
معه في التفريع.
فإذا قلت: فحينئذ لا متعلق لك، إذ هذا الصنيع صنيع الإمام
[وحده] 3 فمن أين يثبت لك أنه إذا اجتمع وصفان تعلق بأظهرهما.
قلت: قد نقله عن الأصحاب وعزوه إلى الأصحاب.
فائدة: لم يذكرها الرافعي، وأقول: إن نص الشافعي يؤيد ذلك؛ إذ
قال رضي الله عنه في الأم بعدما ذكر أن الذي إذا زنى يحد ما
نصه: والحدود كفارة للمسلمين، ونحن نحده إذا زنى انتهت. وسيأتي
مبسوطًا في أصول الفقه، فانظر كيف جعل العلة في حد المسلم.
التكفير، ولا كذلك حق الكافر. [فإن قلت إذا نقله] 4 عن الأصحاب
__________
1 في ب فقد قال.
2 سقط في ب.
3 في ب معه.
4 سقط في ب.
(2/42)
فما جر الغزالي والرافعي على استتباعه بل
تبعًا للأصحاب.
قلت: الأصحاب لما ظهر من صنيعهم التعليق بأنسب الوصفين دلنا
ذلك منهم على أن العلتين لا يعملان جملة، وإن ذلك مركوز في
طباعهم السليمة كما قدمناه؛ فمن منع اجتماع علتين نفعة ذلك ولم
يحتج إلى اعتذار عنه بخلاف المجوز كالغزالي.
فصل:
ثم ما ادعيته من التعليل بأخيل الوصفين هو صنيع أصحابنا قاطبة،
عراقيين وخراسانيين؛ وذلك في مسائل:
منها: القاتل المرتد ازدحم على قتله علتان: القتل فنأخذ
قصاصًا، والردة فنأخذه تطهير للأرض من المفسدين -ولا يمكن
إعمالهما لضيق المحل عنهما، ولو ارتفع أحدهما بأن يتوب عن ردته
أو يعفو عنه ولي الدم- لعملت الأخرى عملها.
غير أن الغرض ازدحام العلتين، فنعمل علة القصاص ونسلمه إلى ولي
الدم، والسر في ذلك أن غرض الشارع من تطهير الأرض من المفسدين
حاصل بإزهاق روحه بأي طريق فرض، وغرض ولي الدم من التشفي لا
يحصل إلا بمباشرة القتل، فيسلم إليه.
ولم يقل أحد بأعمال العلتين وأن القتل يقع عن الأمرين.
ونظيره لو قطعت يمناه ووجب فيها القصاص ثم سرق سرقة توجب
القطع، قال الإمام في النهاية قبيل كتاب الأشربة؛ فقد ازدحم
على يمناه الحد والقصاص، ولكن القصاص يقدم وهذا متفق عليه.
انتهى.
ومنها لو اجتمع عليه قطع السرقة وقطع المحاربة، فقد ازدحم عليه
علتان، وهما حقان لله تعالى. فقد يقول القائل فيمن قدمناه -من
القاتل المرتد والسارق الذي وجب عليه القصاص في اليد- إنما قدم
القصاص لتغليب حق الآدمي، فإن حق الله في العقوبات يتعرض
للسقوط بالشبهات.
فنقول:
أولًا: هذا لا يضرنا، فإن غرضنا أن لا يعمل العلتان ولنقدم
أحدهما بأي طريق اتجه.
(2/43)
ثانيًا: قد أتيناك بصورة ألحقنا فيها من
جنس واحد، وقد قال الأصحاب: تقطع يده اليمنى للسرقة. وربما
قالوا: للمحاربة.
وهذا برهان واضح لدرء العلتين وتبين أثره في قطع الرجل مع اليد
فاختلفوا فيه على وجهين.
أحدهما: يؤخر إلى أن تندمل اليد، لأنها مقطوعة للسرقة والرجل
للمحاربة، ولا موالاة بين حدين، قال إمام الحرمين: وكان لا
يستحق في الحد إلا الرجل.
وأصحهما -وهو المنصوص- يقطع ولا مبالاة بالموالاة كما لو لم
يوجد إلا المحاربة، قال الرافعي: والقطعان قد نجعلهما عن
المحاربة إدارجًا لقطع السرقة في قطع المحاربة.
وقد نقول: هذا عن السرقة، وهذا عن المحاربة، لكن العضوين
مقطوعان كما لو لم يوجد إلا المحاربة، فزيادة الجناية لا تمنع
من الموالاة. انتهى.
فانظر كيف كان كلامه بين احتمالات ليس منها إعمال العلتين، ولم
أجد لأحد من أصحابنا تشبثًا بإعمال العلتين غير صاحب التنبيه؛
فإن عبارته: "قطعت يده اليمنى للسرقة والمحاربة" وهي محمولة
على ما ذكره في المهذب حيث قال: وهل تجوز الموالاة؟ فيه وجهان.
أحدهما: الجواز، لأن قطع الرجل مع قطع اليد حد واحد فجاز
الموالاة بينهما.
الثاني: لا يجوز قطع الرجل حتى تندمل اليد فإن قطع الرجل لقطع
الطريق وقطع اليد للسرقة وهما سببان مختلفان؛ فلا توالي بين
حديهما.
فانظر كلامه رحمه الله ما أحسنه قد بين فيه أنه لم تعمل
العلتان، وتحصلنا منه على اختلاف بين أصحابنا في أن اليد تقطع
للسرقة أو المحاربة وعليه ينبني قطع الرجل معها- قبل الاندمال،
فمن قال: تقطع للمحاربة لم يرتب في قطع الرجل معها.
وأما من قال: "تقطع للسرقة" فيحتمل أن تؤخر لئلا يقع توالي بين
حدين، ويحتمل أن يقال: لا تؤخر؛ لأنه لو لم يقطع للسرقة لقطع
للمحاربة وقطعت الرجل، وزيادة الجناية لا تمنع الموالاة.
ومنها: إذا اشترط المتبايعان الخيار ثلاثًا فقد يتخيل -ما لم
يفترقا- اجتماع خيار المجلس وخيار الشرط وفي المسألة وجهان.
(2/44)
أحدهما: قال الإمام في آخر باب الشرط: الذي
يفسد البيع وإليه ميل النص أكثر وقال الماوردي: إنه ظاهر
المذهب أن ابتداء خيار الشرط في حين التفرق.
وعلى هذا فقد قدم خيار المجلس عند الازدحام، وما ذلك إلا لأنه
أنسب، لأنه ثابت بالشرع، وما يثبت بالشرع أولى مما يثبت بالشرط
وهذه قاعدة [سنذكرها إن شاء الله تعالى] 1.
ومنها: إذا اشترى المستأجر العين المستأجرة ففي انفساخ إجارته
وجهان: قال ابن الحداد: تنفسخ -قال الرافعي: ويعبر عن هذا بأن
الإجارة والملك لا يجتمعان.
قلت: وليس كذلك. فإن هذا التعبير يستدعي أن يمتنع طريان
الإجارة على الملك كما امتنع عكسه عند ابن الحداد، وابن الحداد
لا يقول به كما بينته في كتاب [لي] 2 في هذه المسألة سميته
"رفع المشاجرة في بيع العين المستأجرة" وبينت أن المحذور عند
ابن الحداد أن اجتماعهما على وجه خاص وهو أن يملك ثم يكتري،
ولا عكسه.
وفيه مباحث تتعلق بما نحن فيه لا بأس بالوقوف عليها، فلتقع
الإحالة عليها، والاكتفاء بالإشارة هنا إليه.
ومنها: لو استولد مدبرته، فالذي أورده أكطثر سلف الأصحاب
وخلفهم أنه يبطل التدبير، لأن الاستيلاء أقوى، فيرتفع به
الأضعف كما يرتفع النكاح بملك اليمين.
ومنها تدبير المستولدة، فإنهلا يصح، لأن الاستيلاد أقوى من
التدبير، وقد ذكرنا هذا في أوائل الكتاب في قاعدة "أن الثاتب
بالشرع أولى من الثابت بالشرط" وشبهناه [من نذر] 3 أن يأتي
بالفرائض. وقد قال الأصحاب قاطبة لا يصح.
ومنها: إذا قالت المرأة لزوجها طلقني بكذا، وارتدت عقب سؤالها
فأجابها على الاتصال بحيث تقارن زمان الردة وزمان الجواب، فقد
وجد سببان للبينونة في زمان واحد.
__________
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب"، وبعد ذلك بياض في ب.
2 في كتاب لي صنفته.
3 في ب شبهناه بالمرتد وأن يأتي بالفرائض.
(2/45)
قال الوالد رحمه الله تعالى في باب الخلع:
"الذي يظهر ثبوتها بالانفساخ في زمن الردة واندفاع الطلاق
والمال".
قال: ولم أر للأصحاب كلامًا في ذلك؛ وإنما أطلقوا أنه إذا
أجابها على الاتصال وكان قبل الدخول، تعجلت الفرقة بالردة، ولا
يقع الطلاق، ولا يلزم المال.
وقيد الشيخ الإمام الوالد رحمه الله هذا بما إذا سبقت الردة
الجواب.
قال: وإن سبقها الجواب فلا شك في وقوع الطلاق ولزوم المال، ولا
أثر للردة لتأخرها، ولو تقارنا فقد ذكرناه.
ومنها: شرط مقتضى العقد لا ينفع ولا يضر، وذكر المحاملي أنه
صحيح؛ فإن عنى أن ذكره لا يفسد العقد فحق، وإن عنى أنه يؤثر
شيئًا فغير مسلم. وقد تكلمنا عليه في شرح المختصر.
ومنها: عبد مشترك بين مالكين وكل أحدهما صاحبه في عتق نصيبه؛
فقال نصفك حر، ولم يرد نصيبه ولا نصيب شركيه، بل أطلق؛ فقد
ازدحم على [عتق] 1 نصف مبهم علتان متى عملت إحداهما بطلت
الأخرى فعلى أي النصفين يحمل؟
فيه وجهان: قال النووي لعل أقواهما الحمل على النصف المملوك لا
الموكل فيه.
قلت: وقد يوجه بأن تصرفه فيما هو ملكه أتم؛ فكانت علته أنسب
وأخيل، ولا يتصور في هذه المسألة، جعلهما جزء علة، ولا أن
العلة أحدهما.
ونظير المسألة -وكل المرأة في الخلع إذا أطلق ولم يضف إليها
ولا إلى نفسه ولا نوى شيئًا، قال الغزالي: يحمل على الوكالة،
وللرافعي فيه بحث.
وأقول: الحمل على الوكالة هنا أرجح منه في مسألة العتق، لأن
خلع الأجنبي نادر بخلاف الوكيل، ولا كذلك عتق المالك، لأن عتق
المالك أسرع إلى النفوذ، إذ لا مدفع له، بخلاف الوكيل، لاحتمال
أن يكون عزل، والعتق منسوب إيه شرعًا فيحمل على المالك.
ومنها: إذا كان للوارث دين على الميت وليفرض في حائز ليتضح ولا
يتوقف معه الفهم.
__________
1 في ب غير.
(2/46)
فنقول: من له دين من الحائزين في ذمة
موروثه قد يتخيل ازدحام ملكه لما ورثه الميت بسببين الإرث
والدين -والحق أنه إنما يرثه بالإرث لا بالدين؛ لأنه جهة الإرث
أقوى، ولا تتوقف على شيء، وجهة الدين تتوقف على إقباض وتعويض،
وهما متعذران لأن التركة ملكه. وهنا واقعة: وهي أنه يسقط من
دين الوارث أبدًا ما يلزمه أداؤه من ذلك الدين ولو كان لأجنبي
وهو نسبة إرثه من الدين إن لم تزد على التركة، وما يلزم الورثة
أداؤه منه [إذا] 1 زاد ويستقر له نظيره من الميراث، ويقدر أنه
أخذه ثم أعيد إليه عن الدين، ويرجع على بقية الورثة ببقية ما
يجب أداؤه منه على قدر حصصهم، وقد يفضي الأمر إلى [التفاضل] 2
إذا كان الدين لوارثين؛ فإذا كان الوارث حائزًا ولا يدين لغيره
ودينه مساو للتركة أو أقل سقط، وإن زاد سقط مقداره وبقي
الزائد.
هكذا حققه الشيخ الإمام -رحمه الله- في تصينف له في الواقعة
سماه "منية الباحث عن دين الوارث".
قال: ويأخذ التركة في الأحوال إرثًا [وقيل] 3 يقدر أنه أخذها
دينًا، لأن الدين مقدم، ويسقط لدخول التركة في ملكه، فإن الدين
لا يمنع الإرث -ويستحيل ثبوت الشخص على نفسه، فأحوجنا ملكه
لها- ومن جملتها الدين، لأنه يرث الدين كما يرث العين، إلى
تقدير الانتقال، وهو تقدير محض لا حقيقة له.
هكذا قرره الشيخ الإمام وغلط فيه فقفهاء زمانه قاطبة واستشهد
عليه بقول ابن الحداد وغيره.
تنبيه:
فيما يظن فيه ازدحام علتين أعمل أضعفهما.
قال الأصحاب: من ختن الصبي -من ولي أو أجنبي- في سن لا يحتمله
لزمه القصاص إلا الأب والجد، قال الرافعي: للبعضية، ولك أن
تقول: لو كان انتفاء القصاص هنا للبعضية للزمك استثناء الحر
يختن العبد للحرية والمسلم يختن الكافر، وإن كان الكافر لا
يطلب ختانه -للإسلام فكان ينبغي إما أن يستنثي الثلاث أو يترك
ذكرها اكتفاء بما علم- في أوائل الجراح- من انتفاء القصاص عند
هذه الأمور.
فإن قلت: فما العلة الموجبة لتخصيص ذكر الأب والجد؟
__________
1 في ب إن.
2 في بب التقاص.
3 سقط في ب.
(2/47)
قلت: قوة الولاية أو مطلق الولاية على ما
سنحرره.
فإن قلت: لم عدلتم عن التعليل بالبعضية؟
قلت: لوجهين -أصولي وفقهي.
أما الأصولي: فلأن الأبوة مانع من [ثبوت] 1 القصاص ولا ينبغي
أن يعلل بالمانع ما أمكن التعليل بالمقتضى فإن قلت: لم قلت: أن
الأبوة مانع من ثبوت القصاص. وهلا قلت أنها مقتضى لعدمه.
قلت لوجهين. تحقيقي وجدلي.
أما التحقيقي: فلأن الأبوة لو كانت مقتضيًا عدم القصاص لعارضها
القتل المحض العمد العدوان المقتضى للقصاص ولتكافأ، أو احتيج
انتفاء القصاص، إلى مرجح -وهذا بخلاف ما إذا جعلته مانعًا، فإن
لا تحتاج إلى مرجح من خارج.
فافهم هذا السر، فهو دقيق يظهر [لك] 2 به جعل الأصوليين الأبوة
مانعًا للثبوت لا مقتضيًا للانتفاء، وربما زلت أقدم أقوام في
هذا المقام لذهولهم عن هذا السر، وحاولوا جعل الابن مكافئ،
ليتوصلوا إلى انتفاء القصاص.
والتحقيق وبه صرح الغزالي -أن الأب مكافئ للولد- لأنه مكافئ
لأخيه الذي هو عم الولد. وكافئ المكافئ مكافئ. فلا احتياج إلى
دعوى عدم المكافأة؛ فإنه لم يتعارض هنا علتان، وليس إلا علة
قام معها مامع من أن تعمل عمله.
ومن فوائد ذلك أن لا نحتاج في إثبات الضمان على الوالد إلى
دليل يتجدد؛ بل نقول: وجوب الدية ثابت ثبوت القصاص، فإن منع
مانع من ثبوت القصاص لم يمنع من ثبوت الدية، وتكون مستفادة، من
المقتضى للقصاص الذي لم يعارضه فيها مانع.
وهذا بخلاف ما إذا جعلنا الأبوة علة لانتفاء القصاص، فإنها لا
تدل على ثبوت الدية، ولا على نفيها، ولا يمكن أخذ ثبوتها حينئذ
من علة ثبوت القصاص، لأنه قد عارضها معارض أبطل عملها.
لا يقال: إنما أبطل عملها في القصاص، لأنا نقول: إن قلنا:
الدية متأصلة فيحتاج إلى دليل يخصها. وإن قلنا بدل عن القصاص،
فالقصاص ها هنا لم يجب
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" ولكن.
(2/48)
أصلًا، فلا يطلب له بدل. وفي الكتاب مباحث
كثيرة أضربت عنها طلبًا للاختصار.
وأما الجدل: فلأنا لو جعلناها مقتضية للعدم، لعللنا الحكم
العدمي بالوصف الوجودي، ولئن جاز ذلك، على خلاف فيه فإنما يحسن
حيث لا يمكن سواه، أما إذا أمكن تعليل الوجودي بالوجودي فهو
أولى.
فهذا إتمام الكلام على الوجه الأصولي من الوجهين المقتضيين
لعدولنا عن التعليل بالبغضية. وأما الفقهي: فلأنا لو عللنا
بالبعضية لما فرقنا في الضمان - إذا كان ختان الصبي في سن [لا
يحتمله] 1 بين أن يكون الخاتن أصلًا من أصوله أو وليًا غيره،
لكنا فرقنا قطعًا، فإن القول بأن الأصل لا يضمن -في السن
المحتمل- هو الصحيح.
وأما غير الأصل: فإن كان سلطانًا ففيه وجهان، رجح الإمام منهما
عدم الضمان أيضًا، ولم يرجح الرافعي في الشرح شيئًا- لكن في
المحرر تبع الإمام.
ولا يخفى أن تضمين الإمام أقرب من تضمين الأب والجد، وبذلك صرح
الإمام في النهاية، وإن كان فيه غير ما ذكرناه فهي مسألة لم
أجدها مصرحًا بها في غير الحاوي للماوردي، وهو وإن قال فيها
بعدم الضمان فلا ينكر أن تضمينه أقرب من تضمين الإمام.
فاختلاف هذه المراتب، مع اتفاقها في الحكم على الأصح. دليل على
أن التعليل بالولاية أولى.
فإن قلت: أبو لاية الأبوبة تقللون أم بمطلق الولاية؟
قلت: إن ألحقنا غير الأب به فبمطلق الولاية وإلا فبولاية
الأبوة لقوتها.
وقد نظرنا إليها في باب الحجر، حيث فرقنا بين دعوى الصبي بعد
بلوغه على الأصل ودعواه على الوصي. وقد يقال: يعلل في الأب
بولاية الأبوة ثم يلحق به غيره لمطلق الولاية.
ولكن يلزم على هذا أن يقال: إلحاق غير الأب به قياس أدون
كإلحاق التفاح بالبر في الربا ولا محظور في ذلك.
وإذا وضح لك ما أبديت من التقرير علمت أنه ليس لقائل أن يقول:
إذا كانت
__________
1 في ب يحتمله.
(2/49)
الأبوة علة والولاية علة فالتعليل بالولاية
عند الازدحام -إعمال للأضعف. لأنا قد بينا أن الأبوة ليست
بعلة، فضلأا عن أن تكون أولى من الولاية.
وبتقدير أن تكون علة فقد ازدحم على الأب الولي ثلاثة أوصاف،
أعمها كونه وليًا، وأخص منه كونه وليًا بالأبوة، وأخص من هذا
الأخص منه كونه أبًا، فيلتحق ذلك بما ازدحم عليه علتان -عامة
وخاصة- وتظهر فائدة ذلك بما إذا كان الأب غير ولي -بأن كان
فاسقًا- فأقدم على الختان، فلا قصاص عليه حينئذ لكونه أبا، لا
لكونه وليًا، إذ لا ولاية حينئذ، بل لمانع الأبوة، وهنا يحتاج
إلى التعليل بالبعضية ولا في الأب الولي.
فصل:
فيما ازدحم عليه علتان لا يترجح إحداهما على الأخرى وظهر الحكم
بعدهما، فحكمنا بأنهما جزءًا علة واحدة، والعلة حينئذ المجموع،
أو أن العلة إحداهما لا بعينها، أو نقول: بأن كلا منهما علة
مستقلة؛ غير أن الواقع حكمان لا حكم واحد، فلا اجتماع لعلتين
على معلول واحد أبد الآباد وغوص الغائصين ودهر الداهرين. ومن
أمثلة هذا الفصل:
من مس ذكره وأجنبية في وقت واحد، ولا أقول: من مس وبال؛ فإنه
يختلج في الذهن تقديم علة البول.
ومنها: عتق الراهن والموسر واقع، لكونه مالكًا موسرًا وبهذه
خرج المعسر، والذي يظهر أن العلة في هذه الصروة مجموع المالكية
مع اليسار.
فإن قلت: يعارض وصف المالكية تعلق حق المرتهن.
قلت: معارضة جزء العلة لا ينهض بدفع العلة عن عملها؛ فإن
المالكية في الأصل علة مستقلة وإنما صارت جزءًا بانضمام وصف
اليسار إليها، فنشأ عنه أن عتق المعسر عنه لا يجوز، فإذا عورض
هذا الجزء لم يتدفع.
وفقه المسألة: أن حق المرتهن وإن تعلق بالعين فغرضه الأعظم
التوصل إلى ماله، وعو عند ذي اليسار حاصله فاضمحلت معارضته.
وليس هذا منا نظرًا إلى معنى المالكية كما يقوله مالك. وإن كنا
نختاره -ولكنه أمر وراء ذلك وهو جرار لم أذكره في شرح المختصر
بل اقتصرت أنا حينئذ بقسط وصف المالكية.
(2/50)
والمختار عندنا في الجواب الآن ما ذكرناه
في شرح المختصر من الفقه، وتحققنا به ما تطول إعادته هنا، فعلى
من أراد البسط في هذه المسألة أن ينظر فيه.
ومنها: لو قال لنسائه الأربع من حملت منكن هذه الخشبة فهي طالق
فحملها ثلاث منهن، وهي خفيفة تستقل كل منهم بحملها- في فروع
الطلاق من الرافعي لم تطلق واحدة منهن، وقيل: يطلقن.
قلت: فأما القول بأنه لا تطلق واحدة منهن ففيه دمار للعلتين
عند ازدحامهما، وهو يؤيد منع اجتماع العلتين.
وأما القول بأنهن يطلقن. جميعًا فلا وجه له إلا أن كل واحدة
[منهن] 1 حملت، وهو مكابرة في المحسوس، لأن [المجموع] 2 حاصل
بقوى كلهن، وإن كانت كل واحدة لو انفردت لأثرت، فالوجه بعدم
الطلاق البتة، وإن كانت ثقيلة لا تستقل كل واحدة بحملها، كذا
في الرافعي، وينبغي أن يقول: ولا اثنين، قال: طلقن.
وأقول: وينبغي أن لا تطلق واحدة منهن لأن الحامل مجموعهن لا كل
واحدة منهن، والمحلوف عليه كل واحدة لا المجموع.
فصل:
فيما ازدحم عليه علتان - عامة وخاصة.
وقد يقال فيما هذا شأنه: إن العلة العامة لعمومها، وتسقط
الخاصة عن درجة الاعتبار مطلقًا وقد يقال: العلة في موضع
الخصوص الخاصة، وفيما عداه العامة. وفي هذا إجحاف وإخراج لوصف
العموم عن صلاحية العلة في موضع الخصوص بلا داع. ومن يجمع بين
العلتين لم يبال بهذا، ويقول كلا الوصفين علة، ولهذا أمثلة:
منها: عتق الراهن عند من ينفذ إذا كان موسرًا أو عند من لا
ينفذ إذا كان معسرًا، وقد تكلمنا على هذا في شرح المختصر؛
فلينظر.
ومنها: منفعة الدار والعبد ونحوهما تضمن بالتفويت والفوات تحت
يد عادية، كذا قالوا. وأنا أرى أن العلة الفوات لا التفويت،
وأن خصوص التفويت [يلغى] 3 وإلى
__________
1 سقط في "ب".
2 في ب المحمول.
3 في ب ملغي.
(2/51)
هذا أشار الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في
باب الغضب من "شرح المنهاج" ويدل له قول الأصحاب: "لو نقص
المغضوب بغير استعمال وجب الأرض مع الأجرة، ولو نقص بالاستعمال
كما لو بلي الثوب باللبس؛ فكذلك على الصحيح لأن الأجرة للفوات،
والأرض للنقص، وهما سببان مختلفان فيثبت موجبهما.
والثاني: لا يجب إلا أكثر الأمرين -من الأجرة والأرض لأن الأرض
بسبب الاستعمال فيتداخلان فهذا الوجه يشهد لأن العلة الفوات
دون التفويت؛ وإلا فكيف يكون التفويت غير مضمن والفوات مضمنًا،
لترددهم في التفويت، وجزمهم في الفوات شاهد لما قلته، ثم علة
الفوات مضطردة سالمة من النقص بخلاف التفويت؛ ألا ترى أنه لو
غصب عبدًا مرتدًا فقتله لم يجب عليه ضمانه، لو مات في يده
ضمنه، والفرق أن يقيم في الأول حد الله، وإن كان مفتاتًا على
نائب المسلمين -بخلاف الثاني.
ومثله لو لم يكن مرتدًا بل قال مولاه للغاصب أقتله فلو قتله لم
يضمنه، لو تلف في يده ضمنه صرح به الإمام في النهاية في باب
الأسير يؤخذ عليه العهد أن لا يهرب قبل باب إظهار دين الله.
ومنها: علة وجوب نفقة القريب على قريبه يتحصل من كلام الأصحاب
فيه وجهان:
أحدهما: أنه منزل منزلة نفسه للبغضية.
والثاني: يسار القريب المنفق.
واليسار أخص من الأول، والأرجح التعليل بالأعم، ويتخرج عليها
أنه هل يجب على القادر على الكسب الاكتساب لنفقة القريب؟
والأصح الوجوب لذلك.
واتفاق الأصحاب أو أكثرهم، على وجوب نفقة القريب على المفلس
المحجور، يدل على أن العلة ليست اليسار؛ بل مطلق الملك، وبه
صرح القاضي الحسين قال: ولا شك أن المفلس معسر، وإن أنفق على
قريبه فذلك لعلة المالكية.
فصل:
فيما ازدحم عليه علتان بينهما عموم وخصوص من وجه، العمل منهما
لما هو الأقوى في كل صورة بخصوصها. وله نظائر منها:
(2/52)
منها: إذا كان القاضي وصيًا على يتيم فهو
يتصرف له من حيث أنه قاض، وتلك صفة تعم هذا اليتيم وغيره من
اليتامى، ومن حيث أنه وصي، وتلك صفة تبقى وإن زالت صفة القضاء؛
فهي أعم من القضاء من هذا الوجه، لأنه إذا زال خصوص كونه
قاضيًا، بالنسبة إلى هذا اليتيم، بقي عموم كونه وصيًا لا يختص
تصرفه بزمن القضاء، والأقوى ما دام قاضيًا تصرفه بالوصية فإنه
تصرف بالخصوص.
فإن قلت: ماذا ينبني على هذا؟
قلت: إذا كان لليتيم حق ورثه من أبيه فهل له الحكم به؟
فيما ذكرناه يظهر أنه لا يحكم؛ لأنه إنما يتصرف بالوصاية ولا
قضاء فيها، ولو تصرف بالقضاء لكان حاكمًا والخصم هو الوصي "وهو
الوصي" فيكون خصم نفسه وهذا لا يضر.
فمن ثم رجح قول ابن الحداد في وصي على يتيم ولي الحكم فشهد عند
بمال لأبي الطفل على منكر أنه ليس له أن يحكم عليه؛ لأن من كان
خصمًا في حكومة لم يجز أن يكون حاكمًا فيها. كما لا يحكم على
غيره لنفسه، ولأنه لو شهد للصبي، الذي هو قيمه -بمال [لم يقبل]
1 ومن لا يشهد لشخص لا يحكم له.
وصحح الرافعي أن له الحكم، وذكر أن قول القفال، والقفال لم
يفصح به في شرح الفروع؛ وإنما الشيخ أبو علي نقله عنه في شرح
الفروع سماعًا، واحتج بأن القاضي يلي أمر الأيتام كلهم وإن لم
يكن وصيًا فلا تهمة.
قال ابن الرفعة: والصواب قول ابن لحداد.
قلت: والأمر كذلك، وقد بينته في الطبقات الكبرى في ترجمة ابن
الحداد.
فصل:
نختم به الكلام على التعليل بعلتين، قد يتعقب المحل علتان
مقتضى كل واحدة منهما مقتضى أختها، ونعلم أنهما غير مجتمعتين،
ونعلم أن إحداهما واقعة، والأخرى زائلة؛ غير أنا لا ندري عين
الذاهبة، ولا نميز بين الحاضرة والغائبة.
وهذا قد يقول من ينتهي إليه: هو من باب التعليل بأحدهما لا
بعينه. وليس
__________
1 سقط في ب.
(2/53)
كذلك لأن التعليل بالمبهمة فيما قدماه، هو
في مبهمة بين شيئين. قال قائل باجتماعهما وتأثيرهما، وقائل
بتأثير المجموع منهما، إلى غير ذلك مما قدمناه، وليس كلامنا
هنا فيه، بل في وصفين أجمع على انتفاء أحدهما ولم يعلم عينه؛
فهل يضر ذلك ويبطل الحكم للجهل بالمأخذ. أو لا؛ لأن مثل هذا
الجهل لا يضر، إذ كل منهما كافية في إقامة الحكم؟
هذا موضع تردد، وهذا يشهب القياس المركب، فإن المختلفين من
الأئمة من مأخذ إذا اجتمعت في صورة أجمعوا على حكمها -وإن أسند
كل الحكم إلى ما يعتقده، كما نقول: أجمع الإمامان على أن البكر
الصغيرة تجبر؛ فالشافعي لبكارتها، وأبو حنيفة لصغرها، ولكن
القياس المركب لا خلاف فيه بين الفقهاء، وهذا فيه تردد تلقفناه
من مسائل.
منها: لو اشترى زوجته بشرط الخيار فهل له وطؤها في مدة الخيار
لأنها لا تخرج عن كونها منكوحة أو مملوكة أولًا: لأنه لا يدري
بأي الأمرين يطأ؟ فيه وجهان: المنصوص منهما الثاني.
ومنها: لو أقر بحرية بعده في يد غيره زاعمًا أن ذلك الغير
أعتقه ثم اشتراه ومات العبد، وقد ترك مالًا وأولادًا ولا وارث
له بغير الولاء والمشتري مصمم على إقراره، فظاهر النص أن المال
يوقف فإن ولاءه لا يكون للمشتري لاعترافه بأنه لم يعتقه ولا
للبائع لزعمه أنه رقيق، وعليه جماعة من الأصحاب.
واعترض المزني فقال: للمشتري أخذ قدر الثمن. مما تركه، فإن فضل
شيء كان الموقوف هو الفاضل فقط؛ وإنما يأخذ قدر الثمن لأنه
مستحق له بكل حال، لأن المشتري إما كاذب، فالميت رقيق وما
يتركه فهو ملك مولاه أو صادق فللبائع إرثًا بالولاء وهو قد
ظلمه بأخذ الثمن وتعذر استرداده فإذا ظهر بماله كان له أن يأخذ
قدر حقه.
وافترق الأصحاب فرقتين:
فرقة خطأت المزني، ومن توجيهاتها أنه لا يردي بأي جهة يأخذ،
بجهة الملك أو بجهة الظفر، فمن ثم يمنع من الأخذ إلى ظهور
جهته، وفرقة: منها ابن سريج وأكثر مشايخ المذهب قالوا: الأمر
كما ذكره المزني.
(2/54)
وقد نص عليه الشافعي في موضع آخر، والفتيا
على هذا، فإن اختلاف الجهة لا ينبغي أن تمنع الأخذ بعد الاتفاق
على أصل الاستحقاق.
ومنها: قال لي عليك ألف ضمنته، فقال: ما ضمنت شيئًا، ولكن لك
على ألف من ثمن متلف ففيه خلاف، قال الرافعي في باب الإقرار
الأصح الثبوت وقطع النظر عن الجهة.
ومنها: قال: زوجتنيها [وقال] 1 بل بعتكها، قال الغزالي: إن كان
صادقًا حلت له باطنًا، وفي الظاهره وجهان لاختلاف الجهة.
قلت: قوله: إن كان صادقًا قيد لم يذكره الرافعي، ولقد أجاد،
فما لكونه صادقًا مدخل، هب أنه كاذب، فهي ملكه فتحل.
ومنها: قطع رجل ذكر خنثى وشفريه ولم يعف عن القصاص، بل قال:
سلموا إلي المستيقن منه؛ ففي وجه لا يسمل إليه شيء، قال
الغزالي في البسط: إذ لا تعرف جهته -أهو من دية أو حكومة، وهو
ظاهر كلام المزني. قال: وهو يلتفت على ما لو أدعى عليه.
تنبيه: ما قدمناه هو فيما إذا ما تعاقب على المحل وصفان عرفنا
أن أحدهما زائل، وقد يتعاقب وصفان لا يعرف زوال واحد منهما
ولكن يتردد فيه -وبيانه بصور.
منها: لو لم يكن له إلا وارث واحد وأوصى له بماله؛ [فوجهان] 2
أصحهما أنه يأخذ التركة إرثًا، والثاني يأخذه وصية.
وذكر صاحب التتمة: إن فائدة الخلاف تظهر فيما إذا ظهر دين.
فإن قلنا، يأخذها إرثًا فله إمساكها وقضاء الدين في موضع آخر،
وإن قلنا: وصية قضاء منها ولصاحب الدين الامتناع لو قضى من
غيرها، ووافقه الرافعي والنووي، وأطال ابن الرفعة والوالد
رحمهما الله الكلام على ذلك بما لا غرض لي الآن في حكايته.
قال النووي "ومن فوائده لو حدث في عين التركة، زوائد إن قلنا:
وصية لم يملكها، وإن قلنا: إرث ملكها على الصحيح.
__________
1 في ب فقال.
2 في ب وجهان.
(2/55)
واعترضه الوالد رحمه الله تعالى بأنا وإن
قلنا وصية فهو إذا قبل يتبين أنه ملك بالموت [على الصحيح] 1
الأصح فيستوي هو والوارث، وحيث قلنا: لا يملك الموصي له
الزوائد، فهي للوارث على الأصح، وعلى وجه تركه، والتركة
للوارث، فأيا ما كان فهي له. ثم قال [فلعل] 2 مراد الشيخ محيي
الدين رضي الله عنه أنه إذا قلنا: بالإرث، فالزوائد محكوم
بملكه لها من حين الموت، وإن قلنا: وصية، فلا يحكم بملكها حتى
يقبل، فإن قبل انبنى على الخلاف في وقت الملك.
[قال] 3 لكن يرد عليه ما أشرنا إليه من أنه إذا لم يملك
بالوصية ملك بالإرث.
فلعل مراده إن قلنا: وصية. لم يملكها بالوصية حتى يقبل فيتبين
قلت وجرت بيني وبين الوالد رحمه الله مباحثه في هذه المسألة
عند كتابته لها في باب الوصية وقرأتها عليه في درس الغزالية،
وقلت قد تظهر فائدة الخلاف فيما لو كانت جارية وانقضت مدة
الاستبراء، قبل قبوله الوصية، فإن قلنا تملكها "إرثًا" جاز له
الوطء -وإن قلنا: "وصية" فهو ما لم يقبل غير مالك بالوصية؛
فينبغي أن لا يجوز له الوطء حتى يرد، فيعلم أنه حينئذ يطأ يملك
الإرث، وإلا فما لم يرد لا ندري بأن الملكين يطأ فيمتنع وطؤه
على الوجه القائل بنظيره فيمن اشترى زوجته بشرط الخيار.
ثم ذكر الوالد رحمه الله ما إذا أوصى لكل وارث بقدر حصته على
الإشاعة وأن الوصية تلغو وأن الرافعي قال: يجيء فيه، قال: وفقه
الرافعي صحيح، والحق في المسألتين أن الوصية لاغية لمخالفة أمر
الشرع.
قال: ومن يقول بالصحة لعله يقول: إن ذلك موافق لحكم الشرع في
الوارث، الواحد الجميع، فهو بالوصية مقرر لحكم الشرع [لا
مخالف] 4.
[قال] 5 ويجتمع على ملك الوارث سببان، الميراث بأمر الله،
والوصية بأمر الموصى الذي لم يقم دليل على منع الشرع له في هذه
الصورة لعدم اختلاف الأحكام، فيستند الحكم إليهما أو إلى
أحدهما على الخلاف في اجتماع علتين. قال: وعلى هذا [ينزل] 6
الوجهان.
__________
1 سقط في ب.
2 في ب لعل.
3 سقط في أوالمثبت من ب.
4 في ب مخالفًا.
5 سقط في ب.
6 في ب يقول.
(2/56)
قلت: وهذا فقه صحيح، وهو مقصودي بذكر هذا
الفرع، فإن هذه حينئذ صورة يتعاقب عليها وصفان لا يعلم هل هما
مجتمعان فيعمل فيهما ما يعمل في اجتماع علتين أو إنما الموجود
أحدهما؟
ووددت لو قال قائل: يملك الوارث الثلث بالوصية والثلثين
بالإرث، لأنه ليس للميت سلطان في الوصية إلا بالثلث، ثم هذا
الثلث إذا رده يحتمل أن يقال: إنه يرد إلى الوارث فيعمل فيه ما
تقدم.
ووددت لو قيل: إنه لا يعود إليه لأن الميت حجزه عن أن يرثه
بإيصائه به إليه ويكون كمن أوصى بالثلث ولم يبين الجهة مع
إخراجه الوارث.
فليتأمل فيها حركت من البحث؛ فإني لا أذكر أن مثله وقع بين يدي
الشيخ الإمام رحمه الله.
أصل: العلة تسبق المعلول زمانًا عند أقوام من الفقهاء، وعليه
الشيخ الإمام الوالد رحمه الله، وتقاربه عند آخرين، ولعلهم
الأكثر، وهو المنقول عن الشيخ أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه
وسمعت الشيخ الإمام يستدل له بقوله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 1.
وهو استنباط حسن.
وفصل قوم فقالوا: [العقلية لا تسبق الوضعية والوضعية تسبق] 2.
وربما قال بعضهم: الوضعية تسبق إجماعًا.
وإنما الخلاف في العقلية وعليه يدل كلام القفال والشيخ أبي علي
حيث قالا: فيما حكاه عنهما الرافعي في باب العتق "المعلق لا
يقارب المعلق عليه، بل يتأخر بلا شك"، وسنحكي ذلك في مسألة،
إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر معه -ولكن هذا فيه نظر، والخلاف
واقع.
وقد صرح به ابن الرفعة في كتاب الطلاق، ثم ألحق استواء العقلية
والوضعية، وإليه أشار الغزالي في الوسيط، في الطلاق. فإن
الوضعية أبدًا تحاكي العقل، لا فرق إلا أن تلك مؤثرة بذاتها،
ولذلك لا نقول بها، إذ لا مؤثر عندنا إلا الله تعالى.
وقال الغزالي في الوسيط في فصل التعليق بالتطليق ونفيه، وقد
تكلم على مسائل3 من العلة والمعلول سيأتي بعضها: "هذا كلام
دقيق عقلي، وربما يقصر نظر الفقيه عنه".
قلت ورأيت في كلام بعضهم أن أزمنة الأحكام المضافة إلى الأسباب
أربعة أقسام: مقارن ومتقدم ومتأخر ومختلف فيه، وهأنا أذكر ما
ذكره ثم أتكلم عليه.
__________
1 الزمر "42".
2 في أالعقلية لا تسبق الوضعية وقيل تسبق والمثبت من "ب".
3 ما بين القوسين سقط من "آ" والمثبت من "ب".
(2/57)
القول في أحكام
تقارن في الزمان أسبابها:
منها: الأسباب الفعلية بأسرها كالاحتطاب والاختشاش والاصطياد
لحياة المباح وكالشرب والزنا والسرقة للحدود، كذا قال بعض
المتأخرين.
قال: وكذلك التعاليق اللغوية؛ فإنها أسباب وهذا في التعاليق
يقابل دعوى القفال، والشيخ أبي علي أن المعلق يتأخر قطعًا،
والذي يظهر التوسط بين هذين المتقابلين والقول بأن التعاليق من
محل الخلاف -أتقارن أو تسبق العلة فيه المعلول، وكذلك الذي
يظهر في الأسباب الفعلية.
غير أن هذا شيئًا وجدته في كلام الذي كان يقال: إنه شافعي
زماننا، الشيخ شمس الدين بن عدلان، رحمه الله، ولعله من كلام
[القرافي] 1 أخذه، وأنا لا أسلم ذلك، ووجدت في كتاب "البحر"
للروياني قبل باب الرجعة بنحو ورقة ما نصه.
فرع: اختلف أصحابنا في الطلاق الواقع بالقول، هل هو واقع معه
أو عقيبه؛ فقال بعضهم: يقع مع القول، وقال بعضهم: يقع عقيبه،
لأن تعلق الطلاق به [كتعلق] 2 الملك بالبيع، فكما يقع الملك
عقيب3 كذلك الطلاق "انتهى".
وفي هذا دلالة على أن الملك يقع عقيب البيع لا معه وفاقًا،
وكذلك [يقاس] 4 عليه، ولا يظهر عند التحقيق فرق بين البيع
والطلاق.
وقد يقال: لما تركب البيع من إيجاب وقبول توقف تحققه على تمام
الصيغتين بخلاف الطلاق. ولا تحقيق في هذا؛ فإن حقيقة البيع متى
تحققت كان الخلاف فيها، أقاربها الملك أم تعقبها.
__________
1 في "ب" العراق.
2 في ب لتعليق.
3 في "ب" عقيب البيع.
4 في "ب" قاس.
(2/58)
ثم قال صاحب البحر عقيب هذا: وعلى هذا فلو
قال: أنت طالق في حال لفظي بهذه اللفظة هل يقع الطلاق؟
على الوجه الأول يقع: ولا تأثير لهذا القيد لثبوت مقتضاه دونه،
وعلى الثاني: لا يقع حال اللفظ، وهل يقع عقيبه؟ يحتمل اعتبارًا
بقوله لامرأته: أنت طالق في الشهر الماضي، وفيه خلاف.
- القول في أحكام يضطر الفقيه إلى الحكم بتقدمها على أسبابها
وإن كان ذلك، عند اللمتكلم -مستنكرًا في بادئ الرأي.
منها: إتلاف البيع قبل القبض؛ فإنك تقدر الانفساخ قبل تلفه
ليقبل المحل الفسخ، إذ [المعدوم] 1 لا يقبل انقلابه لملك
البائع.
ومنها: قتل الخطأ فإن له حكمين:
أحدهما: يتقدم عليه وهو وجوب الدية؛ فإنها موروثة، والإرث لا
يعقل إلا ما تقدم فيه ملك الميت، وقدر ملكه لها قبل الزهوق-
وعلى هذا قول من لا يقول بأن الدية تجب للورثة ابتداء، وهو
الصحيح الظاهر.
وثانيهما: يقترن به، وهو وجوب الكفارة إذ لا ضرورة لتقدمها على
القتل، بخلاف تقدم الدية.
ومنها: إذ قال لغيره أعتق عبدك عني.
القول في المختلف [ففيه] 2 أيقارن العلة أم يتعقبها؟
وهو الأسباب القولية: كالبيع والعتق والإبراء والطلاق والأمر
والنهي، وأمثلته تكثر. وإذا نظرت ما قلناه عرفت أن محل الخلاف
إما مقصور على هذا أو مستتبع قليلًا من غيره.
ومن الفوائد هنا -شيء قيمه ابن الرفعة وفيه نظر؛ وذلك أن
الأصحاب قالوا: إذا قال طلقي نفسك إن ضمنت لي ألفًا، فقالت:
طلقت وضمنت، أو ضمنت وطلقت، بانت بالألف، وتكون البينونة ولزوم
الألف مقترنين في زمان واحد سواء قدمت لفظ الطلاق على الضمان
أو عكست، ولا يضر تعاقب اللفظين.
__________
1 في "ب" المعدم.
2 في "ب" فيه.
(2/59)
قال ابن الرفعة: ولا فرق بين أن يقول:
المشروط ترتب على الشرط، والمعلول على العلة أو لا.
فكِأنه فهم أن الخلاف في تقارن المعلول لا يطرق هذه الصورة من
مجرد قولهم "زمان البينونية والضمان واحد".
قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله -وفيما قاله نظر: وإنما
أراد الأصحاب أنه لا يتأخر أحدهما، ثم زمانهما مبني على الخلاف
في العلة مع المعلول والشرط مع المشروط؛ فعلى قول الترتيب يكون
عقب الثاني منهما، وعلى قول العية يكون مع آخر الثاني، قال:
ولعل هذا مراد ابن الرفعة.
قلت: وهذا هو الصواب، وقد ذهب الماوردي إلى أنها لا بد أن تقدم
الضمان على الطلاق لكونه جعله شرطًا فيه، والشرط متقدم على
المشروط، وفي هذا وفاء بالقاعدة.
غير أنا نقول: تقدم الشرط رتبة وزمانًا لا يقتضي ما ذكر من
تقديمها إياه في اللفظ لما عرفت.
فرع: نكح الكافر، لابنه الصغير، بالغة وأسلم أبو الطفل والمرأة
معًا، قال البغوي: يبطل النكاح لأن إسلام الولد حصل عقب إسلام
الأب؛ فتقدم إسلامها إسلام الزوج.
قال الرافعي: لكن ترتب إسلام الولد على الأب، لا يقتضي تقدمًا
ولا تأخرًا بالزمان؛ فلا يظهر تقدم إسلامها على إسلام الزوج.
قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله: وينبغي بناؤه على أن العلة
الشرعية متقدمة أو مقارنة.
قال: والصحيح عندهم المقارنة، وعليه يتجه قول البغوي. انتهى.
فرع: قال كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال لها أنت طالق،
وهي مدخول بها وقع الثلاث، قاله الأصحاب وقال الشيخ الإمام
الوالد رحمه الله كل هذا إن قلنا: العلة تتأخر عن المعلول، وإن
قلنا معه فإن جعلنا "ما" مصدرية غير ظرفية، فكذلك. وإن جعلناها
ظرفية لم يقع إلا طلقتان؛ لأنها إذا كانت ظرفية فالمعنى كل
(2/60)
وقت؛ فإذا قال: أنت طالق، وقع الطلاق
المنجز، وواحدة من المعلق كلاهما في وقت واحد ثم لا يقع في ذلك
الوقت ثالثة، لأنه لم يجعل في كل وقت غير طلقة واحدة، وبعد
انقضاء الوقت الأول لم يقع الطلاق؛ إذ لا تكرار في كل، وإنما
لها عموم فقط، فافهمه؛ فلقد اختلفت فيه نسخ "أحكام كل" وقد
أوضحته.
هذا إن قلنا: "المعلول مع العلة" وإن قلنا "متأخر" لم يقع إلا
طلقتان إذ جعلنا "ما" في "كلما" ظرفية -وسيعود للمسألة ذكر في
قسم أصول الفقه في باب العموم والخصوص.
فرع: قال: إن أعتقت غانمًا فسالم حر، ثم أعتق غانمًا في مرض
موته، ولم يخرج من الثلث إلا أحدهما فالمذهب المجزوم به في
المحرر والمنهاج في باب الوصية تعين [غانم] 1 للعتق ولا فرعه؛
لأنها لو خرجت على سالم ورق غانم لم يحصل شرط [عتق سالم] 2.
وبعضهم يقول في التوجيه: عتق سالم مرتب على عتق غانم والأسبق
أولى بالنفود.
قال الرافعي في [باب] 3 الوصية: ولكن سيأتي في الطلاق أن مثل
هذا الترتيب لا يقتضي سبقًا زمانيًا4؛ وإنما ثبتت الأولوية لما
هو الأسبق في الزمان.
فالتوجيه الأول أصح، وذكر أن الحكم فيما [قال] 5 فسالم حر في
حال إعتاق غانم كالحكم في المسألة، قال ابن الرفعة وسنعرف في
الطلاق وفي العتق في الفرع المذكور، خلافه، قال: وعجيب ذلك
منه، وفي الشامل أن القاضي أبا الطيب قال في تعليقه: إذا قال:
إذا أعتقت سالمًا فغانم حر في حال إعتاقي سالمًا، أن هذا لا
يصح لأن إعتاق سالم جعله شرطًا والمشروط لا يصح وجوده مع الشرط
ولا قبله.
وعن الشيخ أبي حامد نحوه إذا قال: ليس هذا بصحيح؛ لأن الإعتاق
هو الإيقاع، ولا بد من ترتيب الوقوع عليه، فيؤادي ذلك إلى أن
يسبق عتق غانم عتق سالم.
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 في "ب" بزماننا.
5 في "ب" فيما لو قال.
(2/61)
وقال الشيخ الإمام رحمه الله في باب الوصية
من شرح المنهاج: اعتراض الرافعي إنما هو على لفظ الأسبق؛ ولكن
تأويله [يرجع] 1 إلى معنى التعليل الأول، قال وأيضًا فكثيرًا
وأكثر الأصحاب على الترتيب الزماني على خلاف ما قال.
قلت الذي يظهر في مسألة إذا أعتقت غانمًا فسالم حر -التخريج
على أن العلة مع المعلول أو سابقة؟ فإن قلنا سابقة فقد يقال:
يتعين عتق غانم، وقد يقال -وهو الأظهر: لا يتعين لأن علة عتق
سالم ليس عتق غانم؛ بل إعتاقه، وفرق بين الإعتاق والعتق، فإن
الإعتاق إيقاع والعتق وقوع، والإعتاق سابق، وزمن عتق سالم
وغانم واحد، وإن قلنا بالمعية فلا يخفي أنها سابقة بالتربة،
وقد يقال: إنه كاف في تعيين غانم، وأما مسألة التقييد بحال
إعتاق غانم فيظهر أن يقال: إن قلنا: يسبق العلة المعلول؛ فهذا
اللفظ متدافع إذ شرط عتق هذا هو سبق عتق هذا، فكيف يكون مع؟
[فيفسد] 2 اللفظ ويخرج عن كونه علة، أو يخرج على ما إذا قال
"أنت طالق أمس" كما قدمناه عن صاحب البحر.
وإن قلنا: بالمعية؛ فقد يقال بالتدافع أيضًا، لأنه عتق سالم
معلل بعتق غانم لا بعتق بعضه، وعتقه جميعًا لا يمكن؛ لأن فيه
دفعًا لعتق غانم، والتبعيض يؤدي إلى أن لا توجد الصفة في سالم.
وإذا لم توجد لم يسبق لعتق غانم معارض؛ فيؤدي عتقه إلى عتقه،
وهو دور كما ترى، ولعل القاضي والشيخ إلى هذا التقرير أشارا.
وقد يقال: بتعيين عتق غانم لكونه علة وهي وإن لم تسبق المعلول
زمانًا سبقته رتبة فكانت أجدر، وقد توجد العلة بدون المعلول
لمانع، أما معلول بلا علة فمحال.
وبهذا يتبين لك أن المسألتين ليسا سواء؛ إذ لا يحتمل في الأول
بطلان اللفظ البتة. وهذا الاحتمال، في المسألة الثانية، يعضده
أن القاضي أبا الطيب نفسه قال هو وغيره كما نقل الرافعي في
كتاب العتق: إذا قال أحد الشريكين لشريكه الموسر: إذا أعتقت
نصيبك فنصيبي حر حال إعتاق نصيبك، وقلنا: السراية تحصل
بالإعتاق. أنه يعتق على الشريكين معًا.
قلت: ولا تدافع هنا، لأن هذا النصف يعتق بكل تقدير.
__________
1 في "ب" فيرجع.
2 في "ب" فليغسل.
(2/62)
وذهب القفال والشيخ أبو علي إلى أنه يعتق
على المقول له. قالا: لأن المعلق لا يقارن المعلق عليه؛ بل
يتأخر بلا شك.
وهذا غير مسلم لهما، ولا فرق بين المعلول وغيره، ولو قال: إن
أعتقت نصيبك فنصيبي حر، فأعتق، سرى، لأن السراية قهرية ولا
مدفع لها وموجب التعليق قابل للدفع بالبيع ونحوه، وقد بان لك
بهذا أن المسألتين ليسا سواء، وإن تعجب ان الرفعة من الرافعي،
لأجل المنقول عن القاضي يوجب تعجبًا منه لأجل المنقول ثانيًا
عن القاضي.
فرع:
قال لعبده: إن تزوجت فأنت حر ثم تزوج في مرض الموت بأكثر من
مهر المثل، ولم يمكن أن [ينفذ] 1 من الثلث كل من الزيادة على
المهر وقيمة العبد -بل أحدهما- فيقدم المهر؛ كذا قاله الأصحاب
وحاول الرافعي تخريجه على ترتيب المعلول على العلة، فإن قلنا
"بالمعية" وزع على الزيادة وقيمة العبد، وذكر أن الأصحاب صرحوا
بالتوزيع فيما لو قال: فأنت حر في حال تزويجي.
قلت: فأما تصريح بالفرق عن الأصحاب فهو شاهد للفرق في المسألة
قبلها على خلاف ما ادعاه هو، وأما ما حول تخريجه ففيه نظر؛ لأن
المعلق على التزويج لا المهر، والمهر معلول [التزويج] 2 كما أن
العتق معلوله، فزمانهما واحد، فإن كان المعلول مع علته فهما مع
[التزويج] 3 وإلا فهما بعده إلا أن نجعل نسبة المهر إلى
التزويج نسبة السراية إلى العتق لأنه قهري فيسبق العتق؛ لأن
معلق قابل للدفع كما تقدم في الفرع قبله.
[فرع4:
قال للمدخول بها؛ كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم قال: أنت
طالق، وقع الثلاث. كذا قالوه وقال الشيخ الإمام: هذا على قول
الترتيب وكذا على المعية إن جعلنا ما مصدرية غير ظرفية وإن
جعلناها ظرفية لم يقع إلا طلقتان لأنل المعنى "كل وقت" فإذا
قال: أنت طالق وقع المنجز وواحدة من المعلق كلاهما في وقت
واحد، به لا يقع في ذلك الوقت بالبينة لأنه لم يجعل في كل وقت
غير طلقة واحدة، وبعد انقضاء الوقت الأول لم يقع طلاق إذا لا
تكرار في كل وإنما لها عموم فقط] .
__________
1 في "أ" يتقدر والمثبت من "ب".
2 في ب التزوج.
3 في ب التزوج.
4 هذا الفرع سقط في "أ".
(2/63)
تنبيه:
إنما اختلفوا في تقدم الشرط مشروطه أو مقارنته أما تقدم
المشروط فمحال -لا يقوله عاقل- وظن التأدية إليه أحدنا فحصلت
به المسألة السريحية وهي: "إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثًا".
وقد كثرت التصانيف فيها -واشتهر إشكالها- قبل من زمن زيد بن
ثابت رضي الله عنه، وقيل: بل من زمن الشافعي رضي الله عنه،
وقيل المزني، وقيل ابن سريج.
وأخطأ من ظنها من مولدات ابن الحداد -وإن كانت في فروعه؛ فليس
كل ما في فروعه من مولداته، ومن العجيب قول ابن عبد السلام.
فيما نقله القرافي في أوائل الفروق.
(2/64)
أصول خمسة:
الدور، والجمع بين النقيضين، وتحصيل الحاصل محال، ونفي النفي
إثبات، ولازم النقيضين واقع. من نازع في شيء من هذه القواطع
فهو مصاب في عقله، ولكن الحال قد يضطر الفقيه إلى تقدير غير
الواقع واقعًا وعكسه.
الدور: أفرده من أصحابنا بالتصنيف، الأستاذ أبو إسحاق وأبو علي
الزجاجي، وافتتح كتابه بقوله تعالى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي
نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} 1 قال:
والآية أصل دفع الدور. وللأصحاب أعماله في قطعة يرجع حاصلها
إلى قطعه من أوله، كمن زوج عبده بحرة بصداق ضمنه في ذمته، ثم
باعه منها بذلك الصداق قبل الدخول، فلا يصح البيع.
ومن وسطه: كمن زوج أمته بعبد في مرض موته وقبض صداقها ثم
أعتقها والصداق باق في ملكه، وهو ثلث ماله، عتقت ولا تنجيز.
ومن آخره: كمن أعتق أمته في مرض موته -وهي ثلث ماله. ونكاحها،
لم يكن لها طلب المهر، ولا ميراث لها سواء أخرجت من الثلث أم
لم تخرج؛ لأن عتقها حينئذ وصية، والإرث والوصية لا يجتمعان.
أصل: الصحيح - عند أئمتنا وعليه أكثر المسلمين وجمهور
المتكلمين- أن المشار إليه بإنسان الهيكل المخصوص، ونعني به:
هذا البدن المتقوم بالروح.
__________
1 النحل "92".
(2/64)
وعبارة الشيخ أبي الحسن رضي الله عنه في
كتاب "الإيجاز" الإنسان هو هذه الجملة المصورة ذات الأبعاض
والصور، وحكى عليه إجماع المسلمين وأهل اللغة.
كذا في "شرح الإيجاز" للقاضي أبي بكر، وعزاه الأستاذ أبو منصور
البغدادي، في كتاب معيار الجدل -إلى أهل الحق وبدع من خالفه.
قال: وهؤلاء إذا سئلوا عن تعريف الإنسان قالوا: هو الجسد
المخصوص بهذه الصورة المخصوصة فإن سئلوا عن جبريل عليه السلام
-حين جاء في صورة دحية الكلبي- أجابوا بأن الظاهر منه كان على
صورة ظاهر الإنسان، ولم يكن باطنة حينئذ كباطن الإنسان -فلم
يكن إنسانًا.
قلت: ويمكن الجواب بأن نقول لم نعن بالإنسان -البدن بمجرده- بل
البدن المقوم بهذه الروح البشرية، وبهذا خرج جبريل في صورة
دحية الكلبي؛ فإن الصورة لدحية، ومقومها جبريل [حالة] 1 تشكله
بها، وهذا شيء يقع، ولم أجد في كلام الأئمة ما يؤيده، بل كلهم
لا يزيدون على أن الإنسان "الهيكل فقط" ويحكون القول -بأنه
مجموع الهيكل مع الروح، عن حسين النجار وهشام بن الحكم- وأنهما
قالا: ليس أحدهما إذا [انفرد] 2 عن صاحبه بإنسان.
كذا في شرح الإيجاز وغيره من كتب قدماء أصحابنا وهذا ظاهره أن
أصحابنا لا يجعلون للروح مدخلًا في مسمى الإنسان البتة لا
تفاقهم على رد هذه المقالة.
وذهب أبو حامد الغزالي إلى تضعيف القول بأن المشار إليه
[بإنسان] 3 الهيكل المخصوص، وتبعه الإمام فخر الدين ومتابعوه،
ثم اختلفت آراؤهم -بما لا غرض لنا في شرحه، مع اتفاقهم على أن
المشار إليه "الإنسانية المقولة لهذا الهيكل، وحلولها في
الهيكل كحلول الهيكل في الدار، لا يوجب دخوله في مسماها.
وهذا المذهب معزو إلى الحنفية، ولهذا أكثر أئمتنا في التغليظ
على من قال به.
واعلم أن هذا ليس هو مسألة الروح، وإن ظن كثير من الناس ذلك،
ولنا في تحقيق ذلك شرح لسنا له الآن،
وقد اختلف الفقهاء في مسائل تخرج على هذا الأصل.
__________
1 في "ب" حين.
2 في "ب" أراد.
3 سقط في "ب".
(2/65)
منها: قال علماؤنا -بناء على أصل أئمتهم:
الحل في النكاح يتناول هذا الهيكل بأجزائه المتصلة اتصال خلقه،
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ
أَهْلِهِنَّ} أضاف النكاح إلى ذواتهن والمعنى بالذات جميع
الأعضاء الموجودة لدى العقد.
فإن قلت: قدمتم أن الحل والحرمة ليسا من صفات الأعيان.
قلت: المعنى ذلك أن المحل ليس صفة قائمة بها؛ وإنما المراد به
الانتفاع، والمعنى هنا أن الانتفاع مضاف إلى البدن لا إلى
مقومه.
وقالت الحنفية على أصولهم: مورد الحل في النكاح، إنسانية
المرأة دون الأجزاء والأعضاء واحتجوا بأن الأجزاء الموجودة عند
العقد تتحلل وتتجدد، قالوا: ومن البعيد أن يقال: ورد النكاح
على شعورها، ثم كل شعره نبتت بعد النكاح يتعلق بها نكاح جديد
حتى يتجدد كل يوم منكوحة لم تكن حالة العقد، وهذا من منزهات
الكلم، ولو اعتبرنا في قضايا الشرع هذه الحالات، لقلنا: كل يوم
يتجدد نكاح جديد- وإن كان المعقود عليه الإنسانية، لأن النكاح
عرض وهو لا يبقى زمانين.
فإن قلت: سيأتي في مسائل الفقه، أن أبا حنيفة رضي الله عنه
-يرى أن المعقود عليه في النكاح- البضع فما باله لا يضيف الحل
إليه، بل إلى الإنسانية؟
قلت: المعنى هناك أن الموضع موضع البدل العوض مع عدم قطع النظر
عن الإنسانية، والمعنى هنا أن الإنسانية مورد الحل، وإن ورد
العقد على جسم متقوم بها، ومنها: للزوج غسل زوجته إذا ماتت،
لأنه عقد على بدنها، وبدنها باق فيمكن من غسله.
وقالت الحنفية: ليس له ذلك؛ لأن مورد العقد المعنى الزائل
بالموت المفارق للبدن، وإذا تجرد البدن عن مورد العقد فلا يعطي
حكمه إذا كان مورده قائمًا به وحالًا فيه.
ووافقوا على أن لها غسله إذا مات -مع قولهم أن الزوج غير معقود
عليه البتة، فما أكثر مناقضتهم لأصولهم.
ومنها: إضافة الطلاق إلى جزء من المرأة صحيح من حيث إنه محل
الطلاق كما أنه محل النكاح، ثم الأصح أنه يقع عليه ويسري إلى
سائر البدن -لا أنه من باب التعبير بالبعض عن الكل.
(2/66)
وقالت الحنفية: فيما نقل عنهم بعض
الخلافيين، لا يصح إضافة الطلاق إلى جزء المرأة لأنا لمعقود
عليه إنسانيتها، والخلاف جار في العتق.
ومنها: أن مستحق القصاص في النفس إذا قطع اليد وعفا عن النفس،
لم يلزمه أرش اليد سواء أوقف القطع أم سرى؛ لأنه استحق جملة
البدن فصارت الأطراف مهدرة بالنسبة إليه.
ولا يقال على هذا فامنحوا له قطع أطرافه لأن القصاص لما كان
مقابلة لم يجز له أن يفعل إلا ما فعل به، أو أن يزهق الروح
بطريق سهل، وليس له التعذيب من غير سبب.
وقال أبو حنيفة: "مورد استحقاق القصاص الروح لا الهيكل
المخصوص"؛ غير أنه يقع في بعض البدن توصلًا إلى إزهاقها؛ إذ لا
يمكن إزهاقها إلا كذلك، فإن وقف هذا الجرح ضمن، لأنه لما عفا
كان ظالمًا بقطع اليد، وإن سرى -لأنه تبين أن العفو وقع بعد
الاستيفاء- فلا أثر له.
ومنها إذا قال: إن رأيت زيدًا فأنت طالق، فرأته حيًا أو ميتًا
طلقت لأن موته لم يخرجه عن كونه زيدًا لأنه هذا الهيكل.
ومنها: لو قال روحك طالق، طلقت على المذهب، وحكى أبو الفرج
الزاز، فيه خلافًا مبنيًا على أن الروح جسم أو عرض.
ومنها: إذا وجد بعض الميت صلى عليه، وهل ينوي الصلاة على جملة
الميت أو على ما وجد منه؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي والأول هو
المجزوم به في الروضة، والثاني: قضية كلام أبي الطيب وجوز
الجيلي -شارح التنبيه- بناء الخلاف على أصل آخر حكى فيه
[خلافًا] 1 بين المتكلمين، وهو أن العضو البائن هل يحشر معه
ويدخل الجنة إن كان من أهلها.
تنبيه: قد يقول قائل: كلام أصحابنا في الفقه يدل على ما ذهب
إليه الغزالي والحنفية من أن الإنسان المعنى القائم بهذا
البدن، ولا مدخل للبدن في مسماه؛ لأنهم ذكروا أن نقصان اليد
ونحوها نقصان وصف لا جزء كما ذكروه في حكم البيع قبل
__________
1 في "ب" حكى هو فيه اختلافًا.
(2/67)
القبض، صرح بذلك الوالد رحمه الله في "شرح
المنهاج" أعني بأنه ليس نقصان جزء، وكل الأصحاب مصرحون بأنه
نقصان وصف.
فالجواب: أن المعنى بالوصف في كلامهم ما لا يتقسط الثمن عليهن
لا ما نحن فيه.
على أني لم أجد في كلام الرافعي التصريح بأن نقصان اليد ليس
نقصان جزء، بل ظاهر كلامهم أنه نقصان جزء ذلك الجزء وصف، لأنه
قسم الجزء إلى وصف، وهو ما لا يفرد بالقيمة، والمالية كيد
العبد. قال: وهو في معنى أن لا تباع الأوصاف، وإلى ما يفرد
كأحد العبدين وأحد الصاعين
أصل:
لازم النقيضين واقع لا محالة، وهذا أمر عقلي لا يقبل المكابرة؛
غير أن الحال قد يضطر الفقيه إلى الإعراض عن هذا الواقع،
فيجعله كأنه غير واقع، لما يترتب على الحكم بوقوعه من الخلل.
ونحن نذكر فروعًا من هذا النوع يتهذب بها النظر.
فنقول: إذا قال أحد الشريكين في عبد: إن لم تدخل الدار غدًا
فنصيبي حر، ومضى الغد ولم يعلم حالة واتفق الشريكان على الجهل
به، فيعتق النصف بتقدير واقع على التقديرين، وكذلك عتق الكل إن
كانا موسرين، وقلنا السراية لا تتوقف على أداء القيمة.
وهذه مسألة كبيرة، ومع ذلك ليست في شرح الرافعي؛ وإنما الذي في
الرافعي في مسألة الغراب ما قد يقالك إنه نظيرها، وليس بنظير،
والمنقول في مسألتنا هذه فيما إذا كانا موسرين عن أبي العباس
ابن سريج أن العبد يعتق والولاء موقوف ولا قيمة في الحال.
وعن أبي علي الثقفي أنه يعتق على الذي علق العتق بالعدم، وله
الولاء، ويغرم الثاني من نصيبه؛ لأن الأصل عدم الدخول.
وإن كانا معسرين فثلاثة أقوال:
أحدها: يعتق نصيب من علق بالعدم.
والثاني: يعتق نصيب العبد على الشيوع؛ لأنه معلوم يقينًا،
والنصف الثاني يبقى
(2/68)
بينهما على الرق، وهو يشبه قول القسمة في
تعارض البيتين.
الثالث: لا يعتق نصيب واحد منهما بناء على الأصل، كما لو طار
طائر فقال أحدهما إن كان غرابًا فنصيبي حر، وقال الآخر: إن لم
يكن غرابًا فنصيبي حر- وهما معسران فلا يحكم بعتق نصيب واحد
منهما كما جزم به الرافعي ومن بعده.
قلت: وما أحسب قوله: لا يحكم بالعتق، ولم يقل لا يعتق لأن
العتق واقع لا محالة إذ هو لازم النقيضين، وبذلك صرح الإمام في
النهاية؛ فقال: لا يحكم بالعتق في ظاهر الحكم، ولكن يعلم
باطنًا أنه قد عتق نصيب أحدهما انتهى.
وفائدته: فيما لو اجتمعا في ملك أحدهما بعد ذلك كما صرح به
الأصحاب.
ومن عين العتق في نصيب المعلق بالعدم أو قال يعتق نصف نصيب كل
منهما فقد قرر المحال؛ ولكن القائل بقسمة المعتق عليهما فقد
وقع في محال آخر، فإنه أعتق من لم يعتق قطعًا. ودعواه أنه يشبه
القول بالقسمة، في تعارض البيتين، ممنوعة فإن القسمة هناك قد
توافق الحكم في نفس الأمر، وهنا لا يمكن؛ إذ نحن على قطع بأن
نصيب أحدهما غير مشمول بالعتق، وليس فرضنا الآن في ذلك؛ وإنما
الكلام على القول بأنه لا يحكم بنصيب واحد منهما، فإنه قد
يتخيل أن هذا مناقض للقاعدة الكلامية في أن لازم النقيضين واجب
الوقوع، فنقول: هو واقع باطنًا غير أن الضرورة الجأت إلى الحكم
بعدم وقوعه ما دام الشك قائمًا، ألا ترى أنه إذا زال واجتمعا
في مسلك واحد يحكم عليه بعتق النصف.
إذا عرفت هذا فالكلام بعده في فائدته حسنة، وهي: أن هذه
المسألة التي حكينا فيها التفصيل والخلاف هل هي مسألة ما إذا
قال أحدا لشريكين إن كان هذا الطائر غرابًا فنصيبي حر، وقال
الآخر، إن لم يكن غرابًا فنصيبي حر، أو غيرها.
فإن لم تكن هي، فتلك في شرح الرافعي في باب العتق وفي كتاب
الطلاق، وحاصل ما ذكره فيها من المعسرين أنه لا يحكم بعتق نصيب
واحد منهما؛ فلو اشترى نصيب صاحبه حكم بعتق النصفين، لأنه
جمعهما مسلك واحد، ولو باعا النصفين من ثالث فكذلك، ولا رجوع
له على واحد منهما، لأن كلا منهما يزعم أن نصيبه مملوك.
وحكى الشيخ أبو علي أن بعض الأصحاب [قالوا] 1 إن أقدم على
الشراء عالمًا
__________
1 في "ب" قال.
(2/69)
بالتعليقين فلا رجوع له، وإلا فله الرد
بالعيب كما لو اشترى عبدًا ثم بان أن نصفه حر، وعلى هذا فيرد
العبد كله.
وأطال الرافعي في تفريع هذا، وقال في الموسرين: إن قلنا بتعجيل
السراية عتق العبد، لتحقيق حنث أحدهما، والسراية عليه، والولاء
موقوف، وإن قلنا: بتوقف السراية على أداء القيمة لم يحكم بعتق
شيء منه والحكم كما في المعسرين. انتهى ملخصًا.
وعلى تقدير كونها هي بكون الرافعي قد فاته فيها ما حكيناه من
الخلاف، وإن تكن غيرها فتكون قد فاتت الرافعي بالكلية.
والجواب: أن من الأصحاب من زعم أنها هي كما ذكر القاضي ٍأبو
سعد الهروي في الإشراف ومنهم من فرق بينهما، وهو الصواب.
ووجه الفرق أن احتمال كون الطائر غرابًا وكونه طائرًا آخر غير
غراب سواء ليس لأحدهما على الآخر رجحان؛ فلا يصح التمسك فيه
بالأصل، إذ ما من نوع من الطائر إلا ويقال فيه. الأصل أنه ليس
هذا، فيكون استعمال الأصل في هذا الأصل منعكسًا في نفسه؛ لأنك
إن قلت: الأصل أنه غير غراب؛ فكذلك الأصل أنه غير حمام وأنه
غير باز وأنه غير هدهد، وهكذا إلى أن ينتهي عدد كل طائر، وكل
شيء انعكس بنفسه لم يصح التمسك به.
فوضح أنه لا اعتماد على الأصل في مسألة الغراب، بخلاف عدم دخول
الدار، فإن التمسك فيها بالأصل مستقيم، ومن ثم عينه بعض
الأصحاب، وذهب إلى إلغاء العتق عليه حذرًَا من نفي النقيضين أو
إثباتهما.
ووضح بهذا أن مسألة الدخول ليست في الرافعي؛ بل لم أقف عليها
في شيء من تصنيف الرافعي والنووي، وابن الرفعة في المطلب، لم
يذكر مسألة الدخول ولا مسألة الغراب هذه. ومن فوائد هذا الرفع
أن الإمام لما حكى الوجه الذي حكاه الشيخ أبو علي -أنه يرد
بالعيب- قال:
هذا هو بين لا ينبغي أن يعد مثله من المذهب؛ لأنه لو جوزنا له
الرد لعاد كل واحد من الشريكين إلى نصيبه وزال العتق المحكوم
به.
قلت: وقد يستضعف عدم الرد ويقال: كيف يلزم بتوفير الثمن على ما
لم يسلم بسبب سابق موجود في يد البائع.
(2/70)
وعند هذا أقول: الحكم بالعتق إذا اشتراه
ثالث يحتمل أن يقال: إنه مستند إلى الزمان السابق، لكونه كان
الواقع [فيه] 1 باطنًا؛ غير أن معرفة [من يعتق2 عليه] أوجبت أن
لا يحكم به، وهذا يشبه القول بأن الوقوع فيما إذا قال: إحداكما
طالق [عند التعيين من حين قوله، إحداكما طالق] 3 لا من حين
التعيين، وعلى هذا قالوا: لا موقوف بين الشريكين، لتردد العتق
بينهما، وعلى هذا يتجه القول بالرد؛ لأنه تبين وجود الحرية في
يد البائعين، وإن كان الشراء سببًا للحكم بها، فالشراء وقع منه
بعد إيجابهما، ويحتمل أن يقال: إنه يستند إلى زمان المشتري،
ويكون العتق عليه والولاء له كما قيل في الطلاق المبهم، إنه من
حين التعيين، وهذا يؤيده أنه لو كان مستندًا إلى الزمان السابق
لعاد الإشكال الذي بسببه لم يحكم بالعتق فيما مضى؛ فإنه يؤدي
كما عرفت إلى وقت الولاء وغيره ويضعفه أنه لا مقتضى للعتق الآن
فإنه لم يصدر من المشرتي ما يوجبه وإنما صدر من البائعين، فإن
وقع عتق فليستند إلى سببه.
وبالجملة إذا استند إلى زمان المشتري اتجه أن لا يرد بالعيب
لأنه المعتق -في ظاهر الحكم- بهذا الشراء، وقد عادت إليه فائدة
الولاء.
فإن قلت: هل هذا كما إذا ارتد العبد في يد البائع وقتل عند
المشتري فيتخرج على الخلاف فيه.
قلت: الردة سبب وجد عند البائع مقتضية للقتل وإن لم يصدر بيع،
بخلاف ما نحن فيه؛ فإنه لو لم يصدر بيع لم يحكم بالعتق. فالقول
بالرد في الردة أوضح من هذا.
فرع:
قال شيخ الإسلام أبو الفتح بن دقيق العيد في كتاب "اقتناص
السوانح"، ذكر بعضهم أن المسألة السريجية إذا عكست انجلت،
وطريقه أن يقول: "متى طلقت فلم يقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله
ثلاثًا"؛ فإنه حينئذ متى طلقها وجب أن يقع الثلاث القبلية؛ لأن
الطلاق القبلي ثابت -حينئذ على النقيضين وقوع المنجز وعدم
وقوعه، وما ثبت على النقيضين فهو ثابت في الواقع قطعًا؛ لأن
أحدهما واقع قطعًا، فالمعلق به واقع قطعًا، وهذه مقدمة ضرورية
عقلية لا تقبل المنع بوجه من الوجوه، أصل المسألة في الوكالة
"انتهى".
وكتبت أنا -هذا في وقت في ورقة- وتركت بعض الأسطر بياضًا
كثيرًا، وألقيت
__________
1 في "ب" به.
2 في "ب" عين من يعتق.
3 سقط في "ب".
(2/71)
الورقة على فراش الشيخ الإمام -تغمده الله
برحمته ورضوانه- ثم عدت ثاني يوم فوجدته قد كتب بخطه عقيب خطي
ما نصه. ومنه نقلته "وهذا فيه نظر" وإنما يلزم وقوع الطلاق
المعلق، بالنقيضين المذكورين. لو قال: إن طلقتك فوقع عليك
طلاقي أو لم يقع فأنت طالق قبله ثلاثًا ثم يقول لها: أنت طالق؛
فحينئذ يحكم بأنها طلقت قبل ذلك التطليق عملًا بالشرط الثاني،
وهو عدم الوقوع، لأن الطلاق المعلق مشروط بأحد أمرين: إما
الوقوع، وإما عدمه في زمن واحد مستند إلى زمن واحد قبلي- ولا
يمكن الحكم بالوقوع القبلي استنادًا إلى الشرط الأول، وهو
الوقوع، للزم الدور.
وأما الوقوع في ذلك الزمان القبلي مستندًا إلى عدم الوقوع؛ فلا
محال فيه؛ إذ لا يمكن أن يقال: لو وقع فيه لوقع قبله، لأن إنما
يحمل القبيلة على القبلية المتسعة، التي أولها عقب التعليق، أو
على القبلية التي تستعقب الطلاق؟
فإن كان الأول: لم يمكن وقوع الطلاق قبله؛ لأنه يكون سابقًا
على التعليق، وحكم التعليق لا يسبقه وهذه فائدة فرضنا التعليق
على التطليق ونفيه بكلمة واحدة.
وإن كان الثاني: لم يكن أيضًا القول بالوقوع قبله استنادًا إلى
الشرط الأول؛ لأنه كما تتقيد القبلية القريبة بالنسبة إلى
الشرط الثاني كذلك تتقيد بالنسبة إلى الشرط الأول، فلا يكون
على تقدم الوقوع، على ذلك الزمان دليل، ولا له موجب، هذا كله
إذا كان التعليق بالنقيضين، وأن ما تعلق بالنقيضين واقع كما
توهمه القائل؛ بل لأن التعليق بالعدم وأنه لا مانع منه ولا
استحالة فيه حتى لو انفرد التعليق بالعدم كان كذلك فلا أثر
للتعليق معه على الموجود، وإن وقع في فرض المسألة، فافهم ذلك
"انتهى".
وذكر بعده كلامًا طويلًا إلا أنه لم يتمه، فتركت كتابته،
واقتصرت على هذا لحصول الغرض منه، وكتبته في الطبقات الوسطى في
ترجمة ابن دقيق العيد.
والشيخ الإمام وقف على هذه الطبقات، وعلى ترجمة ابن دقيق العيد
نفسها، وقرأ ما كتبته من خطه هنا، وسكت عليه، ثم رأيته بعد
موته رحمه الله ذكر المسألة في باب الوكالة من "شرح المنهاج"،
وقال هو جعله لازمًا للنقيضين وليس كل ما جعله لازمًا
[للنقيضين] 1 يصير لازمًا؛ لأن المانع من وقوعه يمنع اللزوم.
__________
1 سقط في "ب".
(2/72)
وإذا صححنا الدور فهو مانع من وقوع الطلاق
معلقًا ومنجزًا؛ لأنه يؤدي إثباته إلى نفيه. ثم اندفع في نحو
ما ذكره، هنا- من الفرق بين اتحاد الزمان وتعدده وتراخي أحد
التعليقين عن الآخر، واتساع القبيلة.
وذكرها أيضًا -في كتاب النكاح ونسبها إلى ابن دقيق العيد نفسه،
ولم يزد في تعقبه على أن قال: "وفيما قاله نظر لأنا نمنع صحة
التعليق الثاني إذا صححنا الأول؛ وإنما يكون الطلاق لازمًا
للنقيضين إذا علقه على كل منهما بكلمة واحدة "انتهى".
وحاصله: أن ما قاله الشيخ تقي الدين لا يندفع به الدور؛ لأنه
لو وقع الطلاق بما أخذ به من التعليق لزم وقوع الثلاث قبله
بالتعليق الأول، ومتى وقعت لم يقع بالثاني شيء، فالدور باق
بحاله، بخلاف ما لو جمع بكلمة واحدة فقال: إن طلقتك فوقع عليك
طلاقي أو لم يقع؛ فأنت طالق فإنه يقع، ولا يمكن أن يقال فيه:
إنه لو وقع لوقع قبله". لما قرره، ثم قال: إن الحكم بالوقوع
فيما فرضه هو، ليس لكون الطلاق معلقًا بالنقيضين؛ بل لأجل
التعليق بالعدم، حتى لو تجرد التعليق بالعدم فقال: إن طلقتك
فلم يقع فأنت طالق ثلاثًا وقع الثلاث.
هذا وجه كلامه ذكرته لتعقده على بعض الناس وليس بعده في
النفاسة شيء.
وقد وقفت على كلام لبعض الناس حسبته هو الأمر المستسهل عند
الشيخ الإمام، وما وراءه لا يستحق أن يذكر؛ فلم أحب أن أذكره،
ففي كلام الوالد كفاية، ثم قلت: لا بأس بذكره ليستفاد. قال
الشيخ [الإمام] 1 برهان الدين بن الفركاح -في الجواب عما ذكره
ابن دقيق العيد بعد الاعتراف بأنه دار بين الفقهاء ولم يذكر
فيه شيء مفيد، لا نسلم أن التعليق الأول مقتضاه وقوع القبلي،
وكيف يكون ذلك مقتضاه وهو مستحيل؛ فإنه لو وقع القبلي لم يقع
المنجز، وحينئذ يكون قد وقع المعلق بدون وجود المعلق عليه،
فوقوع المنجز يستلزم عدم وقوع القبلي لا وقوعه.
فإن قلت: لفظ التعليق اقتضى ما ذكرناه من استدعاء [وقوع المنجز
لعدم] 2 وقوع القبلي.
قلت لا وذلك لأن "هذا" العكس إنما هو كلام تقدير تصحيح الدور،
ومتى قلنا
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
(2/73)
بصحته فمعناه أن لو وقع هذا المنجز للزم
منه المحال وما لزم منه المحال محال.
فحينئذ التعليق الأول -على تقدير تصحيح الدور- يلزم منه امتناع
وقوع المنجز والمعلق جميعًا، لا أنه يستلزم وقوع القبلي على
تقدير وقوع المنجز.
وأما التعليق الثاني: فمقتضاه وقوع القبلي على تقدير وقوع
المنجز، وهذا ليس بمستحيل بمجرده ولكن وقوع القبلي على تقدير
عدم وقوع مستحيل للدور الصحيح المتقدم؛ فإن الكلام إنما هو على
تقدير تصحيح الدور المتقدم، وحينئذ يستحيل وقوع القبلي على
تقدير عدم وقوع المنجز لأنه لو وقع قبله الثلاث، ولو وقع
الثلاث لم يقع.
فرع: قال: أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم فعند ابن سريج
[أنه] 1 لا يقع الطلاق؛ لأنه إنما يتحقق ما جعله شرطًا للطلاق
بمضي اليوم، وإذا مضى اليوم لم يبق وقت الوقوع؛ فلا يقع وقال
الشيخ أبو حامد: يقع في آخر لحظة من اليوم، لأن الشرط عدم
التطليق في اليوم، والتطليق لفظ يقع في زمان يحتمله، فإذا لم
يبق من الزمان ما يتسع للتطليق فقد تحقق الشرط حينئذ فيقع
الطلاق، والوقوع حكم الشرع ولا يستدعي زمانًا يستدعيه التطليق،
[والشرط والجزاء] 2 لا يتصور اجتماعهما.
قلت: لفظ اليوم اسم زمان ممتد من الفجر إلى الغروب، وهو صادق
على كل جزء من أجزاءه؛ ففي الإثبات إذا قال: أنت طالق اليوم،
ولنفرض ذلك فيمن قال: أنت طالق اليوم، كذا يقع في أول جزء منه.
وفي النفي إذا قال: إن لم أطلقك يوم كذا لا يصدق -لكونه نكرة
في سياق النفي، حتى تغرب شمس ذات اليوم، فلما جعل عدم الطلاق
في ذلك اليوم موقعًا للطلاق فيه آل ذلك إلى التناقض؛ فإما أن
يقال: هذا منه3
متدافع فلا يقع شيء [وهو] 4 رأي ابن سريج أو يقال أمكن أن يحمل
قوله قوله إن لم أطلقك على العموم الذي لا يتم إلا بتمام اليوم
وقوله فأنت طالق على الوقوع في جزء منه لكون اطلاق، في الإثبات
-يصدق بجزء منه كما قلنا، بخلافه في النفي، فالمعلق الطلاق في
جزء من أجزاء هذا اليوم إذا انقرض جميع اليوم بغير طلاق
[وانقراض جميع اليوم
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" تقديم وتأخير.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" وهذا.
(2/74)
بغير طلاق] 1 يوجب أن لا يقع طلاق، وعدم
وقوع الطلاق يوجب أن يقع لوجود الصفة.
فجمع بينهما الشيخ أبو حامد وما فعله نظير ما يقال في تارك
الصلاة أنه يقتل إذا خرج وقتها عن صلاحية الأداء، وقيل: دخوله
في القضاء؛ لأنه في ذلك الوقت محقق أنه أخرجها عن وقتها، "إذا"
لم يبق منه ما يسعها أداء كما لم يبق من هذا اليوم ما يسعها
تطليقًا، فوسعها طلاقًا، فأمكن أن يحمل قوله: "إن لم أطلقك في
هذا الزمان فأنت طالق فيه، ويعني بزمان الطلاق غير زمن عدمه،
فلا تناقض، ويتجه الوقوع كما قال الشيخ أبو حامد.
إلا أني أقول [لكن] 2 أن يقال: يقع بعد مضي لحظة من أول اليوم
فإن اللحظة الأولى صدق فيه أنه لم يطلقها اليوم.
فإن قلت: عدم الطلاق اليوم يستدعي جميعه.
قلت: لا نسلم، ألا ترى أنه لو علق الطلاق على اليوم لاكتفى
بأوله.
فإن قلت: ذلك لأنه إذا وقع في أوله كان واقعًا في جميعه.
قلت: لعل الضرورة تلجئ -هنا إلى حمل اليوم على بعضه خشية على
الكلام من التهافت؛ فلا يكون وقوع الطلاق، في هذا الفرع، لازم
النقيضين.
ولو قال: إن تركت طلاقك [فأنت طالق] 3 ومضى زمان يمكنه أن يطلق
فلم يطلق -طلقت.
ومثله: لو قال: إن سكت عن طلاقك ذكرهما الرافعي ولا إشكال
فيهما -وإن تخيل أن كيف يقع الطلاق مع تركه والسكوت عنه.
فالجواب: أن زمن السكوت والترك لا طلاق فيه؛ وإنما هو صفة
لطلاق يقع عقيبه فهو كما لو قال [إن] 4 لم أطلقك فأنت طالق،
ومضى زمان يمكنه أن يطلق فلم يطلق "فإنا تطلق" ويكون زمان
الطلاق عقب زمان عدمه.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" يمكن.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" إذا.
(2/75)
فإن قلت: أي فرق بين هذه الصور الثلاث.
قلت: يظهر لي أن المعلق عليه -في إن لم أطلقك- عدم الطلاق، وفي
-إن سكت أخص منه وهو استحضار الطلاق، مسكوتًا عنه فكأنه أحضره
في ذهنه وأعرض عنه.
وفي -إن تركت- أخص من السكوت، وهو استحضاره ثم فعل الكف عنه
كذا يتبادر إلى فهمي.
ولك أن تقول: المعلق عليه، في إذا لم أطلقك وصف عدمي، وفي إن
تركت وإن سكت، وصف وجودي، ويوضحه أنه إذا مضت لحظة وهو تارك أو
ساكت تطلق، وإن كان قد علق بصيغة "إن".
وجاء هذا من كون الوصف وجوديًا مطلقًا، يصدق بصوره، بدليل أنه
لو قال، "إن لم أطلقك" امتد مدة العمر؛ فلو قال: تركت أو سكت
-وصفًا عديمًا لكان "إن لم أطلقك" وإن تركت طلاقك سواء؛ فلما
افترقا حكمًا دل على الفرق معنى.
وكذلك في "إذا لم أطلقك" [تقول] 1 إن الفور مستفاد من صيغة
إذا، وإذا ظهر هذا الفرق فأقول: ومما يوضح لك الفرق بين "إذا
لم أطلقك وإن تكرت طلاقك" أنه لو يكن تركت، ينبغي أن يقع في
الأول إذا لم يطلق. كما قالوه [فلا] 2 نظر.
وأما في السكوت والترك فينبغي أن [يتوجه] 3 منه في زمن عدم
التطليق ما ذكرناه من الإعراض عن الطلاق وفعل الكف عنه لتوجد
الصفة. وكأنهم إنما لم يذكروا ذلك لأنه لما نصب [تسبب] الطلاق
لم يسمع منه إرادة دفعه المخالفة للظاهر لأن الظاهر أنه لو
أعرض أو كف تطلق لأن الإعراض عن الطلاق قد صار سببًا للطلاق.
ولكن في هذا نظر؛ لأن الطلاق إذا كان واقعًا على التقديرين فلا
فائدة في الطلاق عند الإعراض وإنما يظهر هذا لو قال: إن تركت
أو سكت عن طلاقك فأنت طالق ثلاثًا أو ثنتين؛ فإنه يكون الإعراض
عن أصل الطلاق موقوعًا لأكثر من طلقة، فيقال: هلا. طلقت لما
عرضت لتدفع عنك الزائد عن الواحدة؟
ولكن في هذا نظر؛ ألا ترى أنه لو قال عقب هذا التعليق أنت طالق
طلقت المنجز لا ذاك المعلق فدل أن المعلق عليه ما ذكرناه
فليتأمل ما حررته من البحث وبه ظهر أنه ليس
__________
1 في "ب" لقول.
2 في "ب" بلا.
3 في "ب" يوجد.
(2/76)
الطلاق في شيء مما ذكرناه لازم النقيضين؛
إنما الأشكال ويسببه سيقت هذه المسائل إذا قال: إن لم يقع عليك
طلاقي الآن فأنت طالق الآن بهذا أقول: ينبغي أن لا يقع، وإن
كان طلاقها لازم النقيضين.
وقد يعارضني معارض بما نقله الرافعي عن إسماعيل اليوشنجي أنه
لو قال: أنت طالق حين لا أطلقك ولم يطلقها عقيبه. يقع الطلاق
في الحال.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين قال مصنفه، سقى
الله عهده صوب الرحمة والرضوان.
(2/77)
|