الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات في أصول الفقه [التَّعَارُض وَالتَّرْجِيح]
قَالَ: (وَأما الْأَدِلَّة فَيقدم الْجَلِيّ على الْخَفي،
والموجب للْعلم على الْمُوجب للظن، وَالْقِيَاس الْجَلِيّ على
[الْقيَاس] الْخَفي، فَإِن وجد فِي النُّطْق مَا يُغير
الأَصْل، وَإِلَّا: استصحب الْحَال) .
أَقُول: لما فرغ من الْحَظْر وَالْإِبَاحَة: شرع فِي كَيْفيَّة
اسْتِعْمَال الْأَدِلَّة وَهُوَ: الْبَاب الْخَامِس عشر،
فَأَشَارَ رَحمَه الله إِلَى أَنه إِذا تعَارض دليلان على
الْمُجْتَهد: قدم الْجَلِيّ على الْخَفي كَرِوَايَة عَائِشَة -
رَضِي الله عَنْهَا -: (إِذا التقى الختانان فقد وَجب الْغسْل)
ثمَّ قَالَت: فعلته أَنا وَرَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- فاغتسلنا.
(1/239)
فَهَذِهِ مُقَدّمَة على رِوَايَة أبي
هُرَيْرَة حِين روى: (المَاء من المَاء) ؛ لِأَن أَزوَاجه أعلم
بِهَذَا من الرِّجَال.
وَكَذَا يقدم الدَّلِيل الْمُوجب للْعلم على الْمُوجب للظن
كالدليل من الْكتاب، وَالسّنة المتواترة على الْآحَاد؛ فَإِن
سنَنه الآحادية لَا تفِيد إِلَّا ظنا، فَكَانَ الدَّلِيل
الْقطعِي مقدما على الظني.
وَكَذَا يقدم دَلِيل النُّطْق على دَلِيل الْقيَاس؛ لِأَنَّهُ
أقوى؛ فَإِن الدَّلِيل إِذا ورد من الْكتاب، أَو السّنة قدم
على الْقيَاس؛ إِلَّا إِذا دلّ الْقيَاس على الْخُصُوص
فَإِنَّهُ مقدم كَمَا سبق من حمل الْعُمُوم على الْخُصُوص.
(1/240)
وَكَذَا يقدم الْقيَاس الْجَلِيّ على
الْقيَاس الْخَفي.
والجلي هُوَ: الَّذِي يفهم بديهياً عِنْد سَمَاعه من غير تَأمل
كقياس الْعلَّة مقدم على قِيَاس الشّبَه، كَمَا سبق: أَن
قِيَاس الشّبَه أخْفى مِنْهُ.
وَكَذَا يقدم الْقيَاس الَّذِي توَافق عِلّة أَصله أصولاً
كَثِيرَة على مَا توَافق أصولاً قَليلَة.
وَأما قَوْله - رَحمَه الله -: " فَإِن وجد فِي النُّطْق مَا
يُغير الأَصْل، وَإِلَّا: فيستصحب الْحَال " [ف] فِيهِ نظر؛
لِأَنَّهُ قيد اسْتِصْحَاب الْحَال بِعَدَمِ وجود النُّطْق -
فَقَط -، بل لَا يجوز اسْتِصْحَاب الْحَال إِلَّا عِنْد عدم
وجود النُّطْق والفهم وَالْقِيَاس وَالله أعلم
(1/241)
[شُرُوط الْمُفْتِي، أَو الْمُجْتَهد]
قَالَ: (وَمن شَرط الْمُفْتِي: أَن يكون عَالما بالفقه أصلا
وفرعاً [خلافًا] ومذهباً، وَيكون كَامِل الْأَدِلَّة فِي
الِاجْتِهَاد، عَارِفًا بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي [استنباط]
الْأَحْكَام من نَحْو، ولغة، وَمَعْرِفَة الرِّجَال،
وَتَفْسِير الْآيَات الْوَارِدَة فِي الْأَحْكَام
وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِيهَا) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْأَدِلَّة: شرع فِي بَيَان شُرُوط
الْمُفْتِي، وَهُوَ الْبَاب السَّادِس عشر، فَقَالَ: " من
شُرُوط الْمُفْتِي: أَن يكون عَالما بالفقه أصلا وفرعاً ".
أما الْمُفْتِي: فَهُوَ اسْم فَاعل فِي أفتى يُفْتِي: إِذا
بَين الْحق عِنْد السُّؤَال.
وَقَوله: " أَن يكون عَالما بالفقه " فِيهِ نظر؛ لِأَن
الْفِقْه نتيجة الِاجْتِهَاد، فَلَو كَانَ الْفِقْه شرطا
للمجتهد: لزم الدّور، لَكِن يجب أَن يكون عَالما بالأصول و
[هِيَ] النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة الْمُتَعَلّقَة
بِالْأَحْكَامِ دون المواعظ، والقصص، وَأُمُور الْآخِرَة؛
فَإِن الْمُفْتِي لَا يفْتَقر إِلَى مَعْرفَتهَا، بل يفْتَقر
إِلَى معرفَة النُّصُوص؛ ليميز بَين
(1/242)
الظَّاهِر والمأول، والناسخ والمنسوخ،
وَغير ذَلِك.
وَلَا يشْتَرط أَن يكون حَافِظًا لكتاب الله - تَعَالَى -
وَلَا لمسائل الْأَحْكَام مِنْهُ، بل يَكْفِي الْعلم بهَا
ليطلبها عِنْد مواقعها.
وَلَا [بُد] لَهُ من معرفَة الْقيَاس وأنواعه؛ ليميز مَا يجوز،
وَمَا لَا يجوز.
وَلَا بُد أَن يكون عَالما بالفروع، وَهِي مسَائِل آحَاد
تتَعَلَّق بهَا الْأَحْكَام؛ إِذْ لَا يشْتَرط أَن تكون
الْأَحْكَام - كلهَا - بالتواتر، بل قد يحكم بالآحاد فِي بعض
الصُّور؛ فَإِن عليا - رَضِي الله عَنهُ - أَخذ بقول
الْمِقْدَاد - فَقَط - فِي نَجَاسَة الْمَذْي، وَعدم وجوب
الْغسْل.
(1/243)
أَن يكون عَالما بِخِلَاف الْعلمَاء من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن بعدهمْ.
وَلَا يشْتَرط معرفَة الْخلاف بَين الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة،
بل أَن يكون عَالما بِمذهب من الْأَرْبَعَة ليفتي عَلَيْهِ
ويقلده.
بِخِلَاف الْمُجْتَهد الْمُطلق فَذَلِك لَا يجوز لَهُ تَقْلِيد
غَيره، بِخِلَاف الْمُفْتِي.
وَأَن يكون كَامِل الْأَدِلَّة، أَي: صَحِيح الذِّهْن بَصِير
الْعقل بِحَيْثُ لَا يتشوش إِدْرَاكه عِنْد اخْتِلَاف
الْأَدِلَّة وتعارضها؛ ليوثق بقوله، وَلَا يتهم.
(1/244)
وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ بكامل الْأَدِلَّة
مَا يذكرهُ - بعد - مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي [استنباط]
الْأَحْكَام من النَّحْو، واللغة، إِلَى آخِره، فَيعلم من
النَّحْو والتصريف مَا يحْتَاج - فَقَط - لَا غوامضه وشواهده،
وَمن اللُّغَة مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ من آيَات
الْأَحْكَام الَّتِي فِي الْكتاب وَالسّنة.
وَلَا بُد من معرفَة الرِّجَال؛ ليَأْخُذ بِرِوَايَة الْعدْل،
دون الْمَجْرُوح، لَكِن لَو أَخذ. من الصَّحِيحَيْنِ: جَازَ
الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا من غير معرفَة رجالهما.
وَلَا بُد أَن يكون عَالما بتفسير الْآيَات وَالْأَخْبَار
الْوَارِدَة فِي الْأَحْكَام؛ ليتَمَكَّن بالإفتاء مِنْهَا
وَالله أعلم.
[مَا يشْتَرط فِي المستفتي]
قَالَ: (وَمن شَرط المستفتي: أَن يكون من أهل التَّقْلِيد،
فيقلد الْمُفْتِي فِي الْفَتْوَى،
(1/245)
وَلَيْسَ للْعَالم أَن يُقَلّد، وَقيل:
يُقَلّد) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْمُفْتِي: شرع فِي بَيَان
المستفتي، وَهُوَ الْبَاب السَّابِع عشر.
فَقَوله: " من شَرط المستفتي: أَن يكون من أهل التَّقْلِيد "
احْتِرَاز عَمَّن اجْتمعت فِيهِ شَرَائِط الِاجْتِهَاد، فَلَا
يجوز لَهُ أَن يُقَلّد.
بِخِلَاف الْعَاميّ فَيجوز لَهُ أَن يَأْخُذ دينه من غَيره؛
إِذا لَو كلف النَّاس - كلهم -[بِالِاجْتِهَادِ] : لبطلت
مَعَايشهمْ بِسَبَب اشتغالهم بأدوات الِاجْتِهَاد.
وَقَوله: " فيقلد الْمُفْتِي " يُشِير إِلَى مَسْأَلَتَيْنِ:
إِحْدَاهمَا: انه لَا يجوز للعامي أَن يُقَلّد كل أحد، بل لمن
يكون أَهلا للتقليد،
(1/246)
ليخرج عَن الْعهْدَة، ويتحملها الْمُفْتِي.
وَالثَّانيَِة: أَنه لَا يجوز أَن يُقَلّد الْعَالم بِمُجَرَّد
فعله؛ لاحْتِمَال أَن يكون ترخص فِيهِ: وَذَلِكَ بِأَن يرى
الْعَاميّ الْعَالم يفعل شَيْئا، فَلَا يقلده فِيهِ، بل يسْأَل
عَنهُ: إِن أفتاه بِهِ جَازَ، وَإِلَّا: فَلَا.
وَقَوله: " وَقيل: يُقَلّد " يُشِير إِلَى أَن الْعَالم يجوز
لَهُ التَّقْلِيد فِيمَا أشكل عَلَيْهِ.
وَبِه قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه،
وسُفْيَان
(1/247)
الثَّوْريّ.
وَالْأول: أظهر لِأَنَّهُ مُكَلّف بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال.
وَالله أعلم
(1/248)
[تَعْرِيف التَّقْلِيد]
قَالَ: (والتقليد: قبُول قَول الْقَائِل من غير حجَّة، فعلى
هَذَا: قبُول قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام يُسمى تقليداً،
وَمِنْهُم من قَالَ: التَّقْلِيد: هُوَ قبُول قَول الْقَائِل
وَأَنت لَا تَدْرِي من أَيْن قَالَ، فَإِن قُلْنَا: إِنَّه
عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَقُول بِالْقِيَاسِ فَيجوز أَن
يُسمى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام تقليداً) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْمُفْتِي والمستفتي: شرع فِي
بَيَان التَّقْلِيد، وَهُوَ الْبَاب الثَّامِن عشر، ثمَّ رسمه.
ثمَّ رسمه ب: أَنه قبُول المستفتي قَول الْمُفْتِي من غير ذكر
دَلِيل.
ثمَّ قَالَ: " فعلى هَذَا " أَي: فعلى هَذَا التَّعْرِيف يُسمى
قبُول قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام تقليداً؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَام رُبمَا أَخذ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأُمُور تَارَة،
وبالوحي أُخْرَى.
(1/249)
وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُور الشَّافِعِيَّة.
وَمنع آخَرُونَ وَقَالُوا: لَا يجوز لَهُ الِاجْتِهَاد؛
لِأَنَّهُ مَا كَانَ ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي
يُوحى، فَعلم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يَأْخُذ إِلَّا عَن
وَحي
(1/250)
فَلم يكن قبُول قَوْله تقليداً؛ إِذْ لم
يكن عَن اجْتِهَاد مِنْهُ.
وَلِهَذَا قَالَ: وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ قبُول قَول
الْقَائِل، وَلَا تَدْرِي من أَيْن قَالَ، وَقد علمنَا من
أَيْن قَالَ، وَهُوَ الْوَحْي.
فعلى هَذَا التَّعْرِيف لَا يُسمى قبُول قَوْله عَلَيْهِ
السَّلَام تقليداً، وَالله أعلم.
[حَقِيقَة الِاجْتِهَاد، وَمَسْأَلَة تصويب الْمُجْتَهد]
قَالَ: (وَأما الِاجْتِهَاد: فَهُوَ بذل الوسع فِي بُلُوغ
الْغَرَض، فالمجتهد إِن كَانَ كَامِل الْأَدِلَّة [فِي
الِاجْتِهَاد] فَإِن اجْتهد فِي الْفُرُوع وَأصَاب فَلهُ
أَجْرَانِ، وَإِن اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر وَاحِد،
وَمِنْهُم من قَالَ: كل مُجْتَهد فِي الْفُرُوع مُصِيب) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان رسم التَّقْلِيد: شرع فِي بَيَان
الِاجْتِهَاد، وَهُوَ الْبَاب التَّاسِع عشر، وَهُوَ ختم
الْأَبْوَاب.
فَقَوله: " بذل الوسع فِي بُلُوغ الْغَرَض " أَي: فِي إِدْرَاك
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة.
(1/251)
وَقَوله: " كَامِل الْأَدِلَّة " أَي:
يُشِير إِلَى مَا سبق من شُرُوط الْمُجْتَهد.
فَإِذا كَانَ كَذَلِك واجتهد فَأصَاب: كَانَ لَهُ أَجْرَانِ:
أجر الِاجْتِهَاد وَأجر الْإِصَابَة وَإِن أَخطَأ: كَانَ لَهُ
أجر؛ لامتثال أمره عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَا إِثْم عَلَيْهِ
(1/252)
وَمِنْهُم من قَالَ: كل مُجْتَهد مُصِيب.
وَهَذَا ضَعِيف؛ لِاجْتِمَاع النقيضين فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة
وهما: النَّفْي، وَالْإِثْبَات قبل الِاجْتِهَاد، بل لَا بُد
أَن يكون الْمُصِيب وَاحِدًا، إِذْ لَا يجوز أَن تكون
الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة منفية ثَابِتَة. وَالله أعلم.
[قَول كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْأُصُول لَا يجوز]
قَالَ: (وَلَا يجوز أَن يُقَال: كل مُجْتَهد فِي الْأُصُول
مُصِيب؛ لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى تصويب أهل الضَّلَالَة من
النَّصَارَى وَالْمَجُوس، وَالْكفَّار والملحدين) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْمسَائِل
الفروعية: شرع فِي بَيَان عدم الِاجْتِهَاد فِي الْمسَائِل
الْأُصُولِيَّة؛ لِأَنَّهَا اعتقاديه
(1/253)
وَلَو جَازَ الِاجْتِهَاد فِيهَا لَأَدَّى
إِلَى تصويب من أَخطَأ من الْملَل كَقَوْل النَّصَارَى
بالصليب، وَالْمَجُوس بالظلمة والنور لخلق الْعَالم، والكافرين
الْمُخَالفين فِي التَّوْحِيد، وَبَعثه عَلَيْهِ السَّلَام،
الْمُلْحِدِينَ الْقَائِلين بِعَدَمِ خلق الْأَفْعَال.
وَهَذَا بَاطِل، تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ علوا
كَبِيرا.
وَنقل عَن عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري: جَوَاز
الِاجْتِهَاد فِي الْأُصُول.
وَالظَّاهِر من إِطْلَاقه [إِنَّه] أَرَادَ الْخلاف الْوَاقِع
بَين أهل الْقبْلَة كالخلاف الْوَاقِع بَين الأشعرية فِي
ثُبُوت الْأَفْعَال لله تَعَالَى عِنْد الأشعرية دون
الْمُعْتَزلَة. ورؤيته تَعَالَى فِي الْآخِرَة، وَغير ذَلِك.
فَهُوَ جَائِز عَنهُ، وَقَالَ: هم معذورون، لِأَنَّهُ قصدُوا
تَعْظِيمه تَعَالَى.
(1/254)
وَالْحق: مَا سبق؛ لِأَن الْملَل - أَيْضا
- مَا قصدُوا - بزعمهم - إِلَّا الْحق وتعظيمه تَعَالَى.
وَالدَّلِيل على بطلَان مَا قَالَ: إِنْكَار الصَّحَابَة على
المبتدعة، والقدرية، والخوارج، وَلم ينكروا عَمَّن خَالف
بَعضهم بَعْضًا فِي الْفُرُوع وَالله أعلم. [وَالْحَمْد لله
وَحده] [وَصلى الله على سيد الْأَوَّلين والآخرين مُحَمَّد
وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ، وَسلم تَسْلِيمًا دَائِما
إِلَى يَوْم الدّين، يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين] .
(1/255)
|