الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف الْبَاب الثَّانِي فِي الْخلاف الْعَارِض
من جِهَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -
(1/69)
قد ذهب قوم الى ابطال الْمجَاز وَذهب
آخَرُونَ الى اثباته وانما كلامنا فِيهِ على مَذْهَب من أثْبته
لِأَنَّهُ الصَّحِيح الَّذِي لَا يجوز غَيره لقَوْله تَعَالَى
{وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} وَقَوله
تَعَالَى {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين}
وَلَا وَجه لإطالة القَوْل فِي الرَّد على من أنكرهُ لأَنا لم
نقصد ذَلِك فِي كتَابنَا هَذَا وَلَا مناقضة أحد من أهل
المقالات وانما قصدنا الْكَلَام فِي أصُول الْخلاف فَأَقُول
وَالله الْمُوفق
ان الْمجَاز ثَلَاثَة أَنْوَاع
نوع يعرض فِي مَوْضُوع اللَّفْظَة المفردة وَنَوع يعرض فِي
أحوالها الْمُخْتَلفَة عَلَيْهَا من اعراب وَغَيره وَنَوع يعرض
فِي التَّرْكِيب وَبِنَاء بعض الْأَلْفَاظ على بتعض
(1/71)
فمثال النَّوْع الأول الْمِيزَان فَإِنَّهُ
قد يكون الْمِقْدَار الَّذِي قد تعارفه النَّاس فِي معاملاتهم
وَيكون الْعدْل تَقول الْعَرَب وازنت بَين الشَّيْئَيْنِ اذا
عادلت بَينهمَا وَرجل وازن اذا كَانَت لَهُ حصافة وَمَعْرِفَة
قَالَ كثير
رأتني بأشلاء اللجام وعلها
من الْقَوْم أَبْزَى بادن متباطن ... فَإِن أك معروق الْعِظَام
فإنني
اذا مَا وزنت الْقَوْم بالقوم وازن
وَيُقَال للعروض ميزَان الشّعْر وللنحو ميزَان الْكَلَام
ويروى أَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عرض عَلَيْهِ
عود غناء وَقيل لَهُ مَا هَذَا فَقَالَ هَذَا هُوَ الْمِيزَان
الرُّومِي أَرَادَ أَنه ميزَان الْغناء
(1/72)
وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء يرثي عمر بن عبد
الْعَزِيز رَحمَه الله ... قد غيب الدافنون اللَّحْد اذ دفنُوا
... بدير سمْعَان قسطاس الموازين ... فَشبه عمر رَحمَه الله
لعدله بالميزان
وَمن ذَلِك السلسلة فان الْعَرَب تستعملها حَقِيقَة وتستعملها
مجَازًا على ثَلَاثَة أوجه
الأول أَن تُرِيدُ بهَا الْإِجْبَار على الْأَمر والاكراه
عَلَيْهِ فَمن ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عجبت لقوم
يقادون الى الْجنَّة بالسلاسل
الثَّانِي أَن يُرِيدُوا بِهَذَا الْمَنْع من الشي والكف عَنهُ
كَقَوْل أبي خرَاش
(1/73)
. فَلَيْسَ كعهد الدَّار يَا أم مَالك ...
وَلَكِن أحاطت بالرعاب السلَاسِل ... يُرِيد بالسلاسل حُدُود
الْإِسْلَام وموانعه الَّتِي كفت الْأَيْدِي الغاشمة عَن غشمها
ومنعت من سفك الدِّمَاء الا بِحَقِّهَا 8 ب
وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم
أغلالا فَهِيَ إِلَى الأذقان فهم مقمحون}
وَالثَّالِث أَن يُرِيدُوا بهَا مَا تتَابع بعضه فِي اثر بعض
واتصل كَقَوْلِهِم تسلسل الحَدِيث وتسلسل المَاء وَيُقَال مَاء
سلسل وسلاسل وسلسال
قَالَ أَوْس بن حجر ... وأشبرنيه الهالكي كَأَنَّهُ ... غَدِير
جرت فِي مَتنه الرّيح سلسل ... وَقَالُوا سلاسل الْبَرْق
وسلاسل الرمل
(1/74)
قَالَ ذُو الرمة ... لأدمانة من وَحش بَين
سويقة ... وَبَين الْجبَال العفر ذَات السلَاسِل ... وَمن
هَذَا النَّوْع قَوْلهم فلَان على الْجَبَل وَفُلَان على
الدَّابَّة أَي فَوق كل وَاحِد مِنْهُمَا فَهَذَا حَقِيقَة
ثمَّ يَقُولُونَ علاهُ دين وَفُلَان أَمِير على الْبَصْرَة
يُرِيد بذلك الْقَهْر وَالْغَلَبَة وَكَذَلِكَ قَوْلهم فلَان
فِي الدَّار وَفِي الْبَيْت ثمَّ يَقُولُونَ أَنا فِي حَاجَتك
وانما يُرِيدُونَ أَن قد شغلتني فَلم تدع فِي فضلا لغَيْرهَا
فشبهوا ذَلِك بِالْمَكَانِ الَّذِي يُحِيط بالمتمكن من جهاته
السِّت فَلَا يدع مِنْهَا فضلا لغيره
وَهَذَا كثير جدا فِي اللُّغَة يكثر ان تتبعناه وَمِنْه قَوْله
تَعَالَى {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد} ذهب قوم الى أَن
الْبُنيان هَهُنَا
(1/75)
حَقِيقَة وَأَنه أَرَادَ الصرح الَّذِي
بناه هامان لفرعون وَهُوَ الَّذِي ذكره الله تَعَالَى فِي
قَوْله {وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي أبلغ
الْأَسْبَاب}
وَذهب آخَرُونَ الى أَنه كَلَام خرج مخرج التَّمْثِيل والتشبيه
وَمَعْنَاهُ أَن مَا بنوه من مَكْرهمْ وراموا اثباته وبأصيله
أبْطلهُ الله تَعَالَى وَصَرفه عَلَيْهِم فَكَانُوا
بِمَنْزِلَة من بنى بنيانا يتحصن بِهِ من المهالك فَسقط
عَلَيْهِ فَقتله وشبهوه بقوله تَعَالَى {وَلَا يَحِيق الْمَكْر
السيء إِلَّا بأَهْله}
وَالْقَوْلَان جَمِيعًا جائزان على مَذَاهِب الْعَرَب أَلا
تراهم يَقُولُونَ بنى فلَان شرفا وَبنى مجدا وَلَيْسَ هُنَاكَ
بُنيان فِي الْحَقِيقَة
(1/76)
قَالَ عَبدة بن الطَّبِيب ... فَمَا كَانَ
قيس هلكه هلك وَاحِد ... وَلكنه بُنيان قوم تهدما ... وَيُشبه
هَذَا الْمَعْنى الَّذِي ذَهَبُوا اليه قَول ابْن أَحْمَر ...
رماني بِأَمْر كنت مِنْهُ ووالدي ... بريا وَمن جال الطوي
رماني ... ويروى وَمن جول الطوي رماني والجال والجول نَاحيَة
الْبِئْر من أَسْفَلهَا 9 أالى أَعْلَاهَا يَقُول رماني
بِأَمْر رَجَعَ عَلَيْهِ مكروهه فَكَأَنَّهُ رماني من قَعْر
الْبِئْر فَرَجَعت رميته عَلَيْهِ فأهلكته
هَكَذَا رَوَاهُ قوم وفسروه وَالْمَعْرُوف وَمن أجل الطوي
وانما كَانَ يخاصمه فِي بِئْر يدعيها كل وَاحِد مِنْهُمَا
فَقَالَ رماني بِأَمْر أَنا ووالدي
(1/77)
بريئان مِنْهُ من أجل مَا بيني وَبَينه من
الْخِصَام فِي الطوي وعَلى هَذَا يدل الشّعْر لِأَن قبله ...
فَلَمَّا رأى سُفْيَان أَن قد عزلته ... عَن المَاء مرمى
الحائم الوحداني ... وَمن هَذَا النَّوْع قَوْله عز وَجل
{وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال}
قوم يرَوْنَ أَن {الْجبَال} هَهُنَا حَقِيقَة وَأَنه أَرَادَ
بذلك مَا كَانَ من صعُود نمْرُود بن كنعان فِي التابوت نَحْو
السَّمَاء فَلَمَّا كرّ منحدرا نَحْو الأَرْض ظنته الْجبَال
أمرا من عِنْد الله فَكَادَتْ تَزُول من موَاضعهَا
وَقوم آخَرُونَ يَقُولُونَ {الْجبَال} هَهُنَا تَمْثِيل لأمر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي انهم مكروا بِهِ ليزيلوا
الغز الَّذِي رسخ رسوخ الْجبَال الَّتِي لَا يُسْتَطَاع على
ازالتها من موَاضعهَا
وَالْعرب تشبه الشَّيْء الثَّابِت بِالْجَبَلِ الشامخ والصخرة
الراسية أَلا ترى الى قَول زُهَيْر الى باذخ يَعْلُو على من
يطاوله
(1/78)
وَقَالَ السموءل بن عادياء
لنا جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطّرف وَهُوَ كليل ... رسا أَصله تَحت الثرى وسما
بِهِ
الى النَّجْم فرع لَا ينَال طَوِيل
وَقَالَ الْأَعْشَى
كناطح صَخْرَة يَوْمًا ليفلقها
فَلم يَضرهَا وأوهى قرنه الوعل
فَهَذَا كَلَام الْعَرَب
(1/79)
وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله تَعَالَى {يَا
بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس
التَّقْوَى} وَمَعْلُوم أَن الله تَعَالَى لم ينزل من
السَّمَاء ملابس تلبس وانما تَأْوِيله وَالله أعلم أَنه أنزل
الْمَطَر فنبت عَنهُ النَّبَات ثمَّ رعته الْبَهَائِم فَصَارَ
صُوفًا وشعرا ووبرا على أبدانها وَنبت عَنهُ الْقطن والكتان
فاتخذت من ذَلِك أَصْنَاف الملابس فَسمى الْمَطَر لباسا اذ
كَانَ سَببا لذَلِك على مَذْهَب الْعَرَب فِي تَسْمِيَة
الشَّيْء باسم الشَّيْء اذا كَانَ مِنْهُ بِسَبَب وَهَذَا
يسمية أَصْحَاب الْمعَانِي التدريج
وَنَحْوه قَوْلهم للمطر سَمَاء لِأَنَّهُ ينزل من السَّمَاء
وللنبت ندى لِأَنَّهُ عَن الندى يكون وللشحم ندى لِأَنَّهُ عَن
النبت يكون
قَالَ ابْن أَحْمَر 9 ب ... كثور العداب الْفَرد يضْربهُ الندى
... تعلى الندى فِي مَتنه وتحدرا
(1/80)
. فالندى الأول الْمَطَر والندى الثَّانِي
الشَّحْم
وَقَالَ مُعَاوِيَة بن مَالك معود الْحُكَمَاء ... اذا سقط
السَّمَاء بِأَرْض قوم ... رعيناه وان كَانُوا غضابا ...
وَنَحْوه قَول الراجز ... الْحَمد لله الْعَزِيز المنان ...
صَار الثَّرِيد فِي رُؤُوس العيدان ... يُرِيد السنبل
وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينزل
رَبنَا كل لَيْلَة الى سَمَاء الدُّنْيَا ثلث
(1/81)
اللَّيْل الْأَخير فَيَقُول هَل من سَائل
فَأعْطِيه هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ هَل من تائب فأتوب
عَلَيْهِ
جعلته المجسمة نزولا على الْحَقِيقَة تَعَالَى الله عَمَّا
يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا
وَقد أجمع العارفون بِاللَّه عز وَجل على أَنه لَا ينْتَقل
لِأَن الِانْتِقَال من صِفَات المحدثات
وَلِهَذَا الحَدِيث تَأْوِيلَانِ صَحِيحَانِ لَا يقتضنان
شَيْئا من التَّشْبِيه
أَحدهمَا أَشَارَ اليه مَالك رَحمَه الله وَقد سُئِلَ عَن
هَذَا الحَدِيث فَقَالَ ينزل أمره كل سحر فَأَما هُوَ عز وَجل
فَإِنَّهُ دَائِم لَا يَزُول وَلَا ينْتَقل سُبْحَانَهُ لَا
اله الا هُوَ وَسُئِلَ عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ فَقَالَ يفعل الله
مَا يَشَاء وَهَذَا تلويح يحْتَاج الى تَصْرِيح وخفي اشارة
يحْتَاج الى تَبْيِين عبارَة
وَحَقِيقَة الَّذِي ذَهَبا اليه رحمهمَا الله أَن الْعَرَب
تنْسب الْفِعْل الى من أَمر بِهِ كَمَا بنسبه الى من فعله
وباشره بِنَفسِهِ فَيَقُولُونَ كتب الْأَمِير
(1/82)
لفُلَان كتابا وَقطع الْأَمِير يَد اللص
وَضرب السُّلْطَان فلَانا وَلم يُبَاشر شَيْئا من ذَلِك
بِنَفسِهِ انما أَمر بذلك وَلأَجل هَذَا احْتِيجَ الى
التَّأْكِيد الْمَوْضُوع فِي الْكَلَام فَقيل جَاءَ زيد نَفسه
وَرَأَيْت زيدا نَفسه
فَمَعْنَاه على هَذَا أَن الله تَعَالَى يَأْمر ملكا بالنزول
الى السَّمَاء الدُّنْيَا فينادي بأَمْره
وَقد تَقول الْعَرَب جَاءَ فلَان اذا جَاءَ كِتَابه أَو وَصيته
وَيَقُولُونَ للرجل أَنْت ضربت زيدا وَهُوَ لم يضْربهُ اذا
كَانَ قد رَضِي بذلك وشايع عَلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى {فَلم
تقتلون أَنْبيَاء الله من قبل إِن كُنْتُم مُؤمنين} المخاطبون
بهَا لم يقتلُوا نَبيا وَلَكنهُمْ لما رَضوا بذلك وتولوا قتلة
الْأَنْبِيَاء وشايعوهم على فعلهم نسب الْفِعْل اليهم وان
كَانُوا لم يباشروه وعَلى هَذَا يتَأَوَّل قَوْله تَعَالَى
{فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد}
فَهَذَا تَأْوِيل كَمَا ترَاهُ صَحِيح جَار على فصيح كَلَام
الْعَرَب فِي محاوراتها والمتعارف من أساليبها ومخاطباتها
وَهُوَ شرح 10 أما أَرَادَهُ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ رحمهمَا
الله وَمِمَّا يُقَوي هَذَا التَّأْوِيل وَيشْهد
(1/83)
بِصِحَّتِهِ أَن بعض أهل الحَدِيث رَوَاهُ
ينزل بِضَم الْيَاء وَهَذَا وَاضح
والتأويل الثَّانِي أَن الْعَرَب تسْتَعْمل النُّزُول على
وَجْهَيْن أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز واستعارة
فَأَما الْحَقِيقَة فانحدار الشَّيْء من علو الى سفل كَقَوْلِه
تَعَالَى {وَينزل من السَّمَاء من جبال فِيهَا من برد}
وكقول امْرِئ الْقَيْس ... هُوَ الْمنزل الألاف من جو ناعط ...
بني أَسد حزنا من الأَرْض اوعرا ...
وَأما الِاسْتِعَارَة وَالْمجَاز فعلى أَرْبَعَة أوجه
أَحدهَا الإقبال على الشَّيْء بعد الْأَعْرَاض عَنهُ والمقاربة
بعد المباعدة يُقَال نزل البَائِع فِي سلْعَته اذا قَارب
المُشْتَرِي فِيهَا بعد
(1/84)
مباعدته وَأمكنهُ مِنْهَا بعد مَنعه
وَيُقَال نزل فلَان عَن أَهله أَي تَركهَا وَأَقْبل على
غَيرهَا وَمِنْه قَول الشَّاعِر ... أنزلني الدَّهْر على حكمه
... من شَاهِق عَال الى خفض ...
أَي جعلني أقَارِب من كنت أباعده وَأَقْبل على من كنت أعرض
عَنهُ
فَيكون معنى الحَدِيث على هَذَا أَن العَبْد فِي هَذَا
الْوَقْت أقرب الى رَحْمَة الله مِنْهُ فِي غَيره من الأوقاب
وَأَن البارئ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقبل على عباده بالتحنن
والتعطف فِي هَذَا الْوَقْت لما يلقيه فِي قُلُوبهم من
التَّنْبِيه والتذكير الباعثين لَهُم على الطَّاعَة وَالْجد
فِي الْعَمَل فَهَذَا تَأْوِيل أَيْضا مُمكن صَحِيح
فَأَما الْأَقْسَام الْبَاقِيَة من معنى النُّزُول فَلَا مدْخل
لَهَا فِي هَذَا الحَدِيث وانما نذكرها لتوفية معنى النُّزُول
وَلِأَنَّهَا مِمَّا يحْتَاج اليه فِي غير هَذَا الحَدِيث
فَمِنْهَا مَا يُرَاد بِهِ تَرْتِيب الْأَشْيَاء ووضعها
موَاضعهَا اللائقة بهَا كَقَوْلِه
(1/85)
تَعَالَى {ونزلناه تَنْزِيلا} أَي رتبناه
مراتبه ووضعناه موَاضعه وَمن ذَلِك قَوْلهم نزل فلَان عِنْد
منزلَة حَسَنَة أَو منزلَة قبيحة وَمِنْه قَول الشَّاعِر ...
أنزلوها بِحَيْثُ أنرلها الله بدار الهوان والإتعاس ...
وَمِنْهَا مَا يُرَاد بِهِ الْأَعْلَام وَالْقَوْل كَقَوْلِه
تَعَالَى {وَمن قَالَ سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله} أَي
أَقُول مثل مَا قَالَ الله وَأعلم بِمثل مَا أعلم
وَمن هَذَا انزال الْوَحْي انما مَعْنَاهُ أَن جِبْرِيل صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم تَلقاهُ عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَأَدَّاهُ الى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ رَاجع
الى معنى الإقبال الَّذِي قدمْنَاهُ
وَمِنْهَا مَا يُرَاد بِهِ الإنحطاط من الْمرتبَة والذلة
كَقَوْلِهِم نزلت منرلة فلَان عِنْد الْملك أَي انحطت
(1/86)
وَيجوز أَن يكون قَوْله أنزلني الدَّهْر
على حكمه من 10 ب هَذَا الْمَعْنى
وَقد تسْتَعْمل الْعَرَب النُّزُول فِي النَّمَاء
وَالزِّيَادَة وَهُوَ ضد مَا ذَكرْنَاهُ قبل هَذَا
فَيَقُولُونَ طَعَام لَهُ نزل أَي بركَة ونماء وَأَرْض نزلة
اذا كَانَت كَثِيرَة الْكلأ وَتركت الْقَوْم على نزلاتهم اذا
كَانُوا نفي خصب وَحسن حَال
وَقد يستعملونه أَيْضا على معنى آخر يَقُولُونَ نزل الْقَوْم
اذا أَتَوا منى وَيُقَال لمنى الْمنَازل قَالَ الشَّاعِر ...
أنازلة يَا أسم أم غير نازلة ... أبيني لنا يَا أسم مَا أَنْت
فَاعله ... فَجَمِيع مَوَاضِع هَذِه الْكَلِمَة سَبْعَة
فَهَذِهِ وُجُوه النُّزُول فِي كَلَام الْعَرَب
وَمِمَّا غَلطت فِيهِ المجسمة أَيْضا قَوْله تَعَالَى {الله
نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض}
(1/87)
فتوهموا أَن رَبهم نور تَعَالَى الله عَن
قَول الْجَاهِلين علوا كَبِيرا وانما الْمَعْنى الله هادي أهل
السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْعرب تسمي كل مَا جلى الشُّبُهَات
وأزال الالتباس وأوضح الْحق نورا قَالَ الله تَعَالَى {وأنزلنا
إِلَيْكُم نورا مُبينًا} يَعْنِي الْقُرْآن وعَلى هَذَا
الْمَعْنى سمى نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وسراجا منيرا}
وَقَالَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب يمدح النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ... وَأَنت لما ظَهرت أشرقت الأر ... ض وضاءت
بنورك الْأُفق ... وعَلى هَذَا مجْرى كَلَام الْعَرَب
(1/88)
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس بن حجر الْكِنْدِيّ
... أقرّ حَشا امْرِئ الْقَيْس بن حجر ... بَنو تيم مصابيح
الظلام ...
وَقَالَ النَّابِغَة الذبياني ... لَا يبعد الله جيرانا
تَركتهم ... مثل المصابيح تجلو لَيْلَة الظُّلم ... وَقَالَ
آخر ... من تلق مِنْهُم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النُّجُوم
الَّتِي يسري بهَا الساري ...
(1/89)
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ
اهْتَدَيْتُمْ
وَلَو منحت المجسمة طرفا من التَّوْفِيق وتأملت الْآيَة بِعَين
التَّحْقِيق لوجدت فِيهَا مَا يبطل دَعوَاهُم دون تكلّف
تَأْوِيل وَمن غير طلب دَلِيل لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي
عقب الْآيَة {وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس وَالله بِكُل
شَيْء عليم} فَأخْبرنَا أَن مَا ذكره فِي الْآيَة العزيرة من
النُّور والمشكاة والمصباح والزجاجة والزيتونة والشجرة
أَمْثَال مَضْرُوبَة عقلهَا عَن الله تَعَالَى من وفْق لفهمها
وكشفت لَهُ الْحجب عَن مَكْنُون سرها وَعلمهَا كَمَا قَالَ
تَعَالَى {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا
يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ}
فان قلت كَيفَ وَقع هَذَا التَّمْثِيل وَمَا المُرَاد بِهِ
فَالْجَوَاب أَنه شبه صدر الْمُؤمن بالمشكاة وَقَلبه 11
أبالزجاجة وَنور الْهدى الَّذِي يَضَعهُ فِي قلبه
بِالْمِصْبَاحِ وَشبه مَادَّة الْهدى المنبعثة من قبل
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي تزيد فِي بصائر
الْمُؤمنِينَ وَتحفظ نور الْإِيمَان عَلَيْهِم وتمنعه من أَن
يغلب عَلَيْهِ الشَّك فيطمسه بمادة الزَّيْت الَّتِي تمد
(1/90)
الْمِصْبَاح لِئَلَّا يطفأ نوره وَشبه
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالزيتونة اذ كَانَ الْهدى
انما ينبعث من قبله كانبعاث الزَّيْت من الزيتونة وَجعل
الزيتونة لَا شرقية وَلَا غربية لِأَن ظُهُوره ومبعثه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم انما كَانَ بِمَكَّة وَمَكَّة متوسطة بَين
الْمشرق وَالْمغْرب
فَهَذَا كَلَام كَمَا ترى قد خرج على أحسن مخارج الْكَلَام
وتشبيه جَاءَ على أبدع وُجُوه التَّشْبِيه فَهَذَا وَنَحْوه من
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز العارضين فِي مَوْضُوع الْكَلِمَة
واما الْحَقِيقَة وَالْمجَاز العارضان فِيهَا من قبل أحوالها
فانهما كثيران أَيْضا ككثرة النَّوْع الأول فَمن ذَلِك قَوْلهم
مَاتَ زيد فيرفعونه كَمَا يرفعون قَوْلهم أمات الله زيدا
وَأَحَدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز وَمِنْه قَوْله تَعَالَى
{فَإِذا عزم الْأَمر} وَالْأَمر لَا يعزم انما يعزم عَلَيْهِ
قَالَ النَّابِغَة وان الدّين قد عزما
(1/91)
وَتقول أعطي ثوب زيدا وانما الْوَجْه أعطي
زيد ثوبا لِأَن زيدا هُوَ والآخذ للثوب والمتناول لَهُ وَولد
لَهُ سِتُّونَ عَاما وَالْمعْنَى ولد لَهُ الْأَوْلَاد فِي
سِتِّينَ عَاما وَنَحْوه قَوْله عز وَجل {بل مكر اللَّيْل
وَالنَّهَار} وانما المُرَاد بل مَكْرهمْ فِي اللَّيْل
وَالنَّهَار وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ ... أما النَّهَار فَفِي قيد
وسلسلة ... وَاللَّيْل فِي بطن منحوت من الساج ... وَتقول
الْعَرَب نهارك صَائِم وليلك قَائِم وَقَالَ آخر ... لقد لمتنا
يَا أم غيلَان فِي السرى ... ونمت وَمَا ليل الْمطِي بنائم ...
(1/92)
وَقَالَ حميد بن ثَوْر الْهِلَالِي ...
ومطوية الأقراب أما نَهَارهَا ... فسبت وَأما لَيْلهَا فذميل
...
وَأما الْمجَاز والحقيقة العارضان من طَرِيق التَّرْكِيب
وَبِنَاء بعض الْأَلْفَاظ على بعض فنحو الْأَمر يرد بِصِيغَة
الْخَبَر وَالْخَبَر يرد بِصِيغَة الْأَمر والإيجاب يرد
بِصِيغَة النَّفْي وَالنَّفْي يرد بِصِيغَة الْإِيجَاب
وَالْوَاجِب يرد بِصِيغَة الْمُمكن والممتنع والممكن والممتنع
يردان بِصِيغَة الْوَاجِب والمدح يرد بِصُورَة الذَّم 11 ب
والذم يرد بِصُورَة الْمَدْح والتقليل يرد بِصُورَة التكثير
والتكثير يرد بِصُورَة التقليل وَنَحْو ذَلِك من أساليب
الْكَلَام الَّتِي لَا يقف عَلَيْهَا الا من تحقق بِعلم من
اللِّسَان
وكل نوع من هَذِه يقْصد بِهِ غَرَض من أغراض الْبَيَان وَنحن
نذْكر من كل نوع من هَذِه الْأَنْوَاع أَمْثِلَة تشهد بِصِحَّة
مَا قُلْنَاهُ ليحتذى فِيمَا لم نذكرهُ على مَا ذَكرْنَاهُ ان
شَاءَ الله تَعَالَى
(1/93)
أما الْأَمر الْوَارِد بِصِيغَة الْخَبَر
فكقولهم حَسبك دِرْهَم فان صِيغَة الْكَلَام كصيغة قَوْلك
أَخُوك منطلق وَأَبُوك زيد وَمَعْنَاهُ معنى الْأَمر لِأَن
تَقْدِيره ليكفك دِرْهَم أَو اكتف بدرهم
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس ... وحسبك من غنى شبع وري ...
وَمن هَذَا قَوْلهم فِي الدُّعَاء غفر الله لزيد ورحمك الله
وَسَلام عَلَيْك وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {والوالدات يرضعن
أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} وانما الْمَعْنى لترضع
الوالدات أَوْلَادهنَّ لِأَنَّهُ لم يخبرنا وانما أمرنَا
واما الْخَبَر الْوَارِد بِصِيغَة الْأَمر فكقولهم فِي
التَّعَجُّب أحسن
(1/94)
بزيد فَإِن صيغته صِيغَة قَوْلك أحسن الى
زيد وَأَحَدهمَا خبر وَالْآخر أَمر لِأَن معنى أحسن بزيد مَا
أحسن زيدا فانما أَنْت مخبر لَا آمُر وَمَكَان الْبَاء وَمَا
عملت فِيهِ رفع وَمَكَان الى وَمَا عملت فِيهِ نصب وَمِنْه
قَوْله تَعَالَى {أسمع بهم وَأبْصر} أَي مَا أسمعهم وأبصرهم
وَأما ت الْإِيجَاب الْوَارِد بِصِيغَة النَّفْي فكقولهم مَا
زَالَ زيد عَالما فَإِن صيغته صِيغَة قَوْلك مَا كَانَ زيد
عَالما وَالْأول ايجاب وَالثَّانِي يَفِي فَإِذا أدخلت على
هَذِه الْجُمْلَة الا الَّتِي للْإِيجَاب فَقلت مَا زَالَ زيد
الا عَالما صَارَت صيغته صِيغَة الْمُوجب وَمَعْنَاهُ معنى
الْمَنْفِيّ
وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَن قَوْلك زَالَ زيد عَالما لَو كَانَ
مِمَّا يسْتَعْمل لَكَانَ مَعْنَاهُ النَّفْي لِأَن مَعْنَاهُ
زَالَ عَن الْعلم وانتفى مِنْهُ فَإِذا أدخلت عَلَيْهِ مَا
النافية رَجَعَ ايجابا لِأَن النَّفْي الثَّانِي يبطل النَّفْي
الأول فَإِذا أدخلت الا بَطل النَّفْي الثَّانِي الَّذِي
أوجبته مَا وَعَاد النَّفْي الأول الى حَاله فَصَارَ قَوْلك
مَا زَالَ زيد الا عَالما بِمَنْزِلَة قَوْلك زَالَ زيد عَالما
فَمن النَّحْوِيين من يرى أَن قَوْلك مَا زَالَ زيد الا عَالما
انما امْتنع من الْجَوَاز لِأَن دُخُول مَا فِي صدر
الْمَسْأَلَة يُوجب لَهُ الْعلم وَدخُول
(1/95)
الا فِي آخرهَا يَنْفِي عَنهُ الْعلم
فَتَصِير مثبتا نافيا للْخَبَر فِي حَال وَاحِدَة
وَمِنْهُم من يَقُول انما اسْتَحَالَ لِأَن دُخُول الا
عَلَيْهِ يبطل مَا لِأَنَّهَا مناقضة لَهَا فكأنك قلت 12
أَزَال زيد عَالما وَهَذَا غير جَائِز لِأَن الْعَرَب لم
تسْتَعْمل زَالَ الدَّاخِلَة على الأبتداء وَالْخَبَر الا مَعَ
مَا
وَمِنْهُم من يَقُول انما اسْتَحَالَ لِأَن قَوْلك مَا زَالَ
زيد عَالما كَلَام مُوجب وان كَانَ بِصُورَة الْمَنْفِيّ
فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك لم يجز دُخُول الا عَلَيْهِ لِأَن الا
انما وضعت لتوجب مَا كَانَ منفيا قبل دُخُولهَا فَإِذا كَانَ
الْكَلَام مُوجبا بِنَفسِهِ استغني عَنْهَا وَمن طريف هَذَا
النَّوْع قَول الفرزدق ... بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ...
وَلم تكْثر الْقَتْلَى اذا هِيَ سلت ... قَالَ أَصْحَاب
الْمعَانِي مَعْنَاهُ لم يشيموا سيوفهم الا وَقد كثرت
الْقَتْلَى بهَا حِين سلت فَمَعْنَاه كَمَا ترى ايجاب وصيغته
وَظَاهره نفي وانما وَجب هَذَا لِأَن قَوْله وَلم تكْثر
الْقَتْلَى لَيْسَ بجملة مُنْقَطِعَة من الْجُمْلَة الَّتِي
(1/96)
قبلهَا معطوفة عَلَيْهَا على حد عطف الْجمل
على الْجمل وانما هِيَ فِي مَوضِع نصب على الْحَال من السيوف
وَتَقْدِير الْكَلَام لم يشيموا سيوفهم غير كَثِيرَة
الْقَتْلَى بهَا حِين سلت فَصَارَ بِمَنْزِلَة قَوْلك لم يجِئ
زيد وَلم يركب فرسه اذا جعلت قَوْلك وَلم يركب فرسه فِي مَوضِع
الْحَال من زيد تَقْدِيره لم يجِئ زيد غير رَاكب فرسه فمحصول
مَعْنَاهُ أَنه جَاءَ رَاكِبًا فرسه فَظَاهره نفي وَمَعْنَاهُ
ايجاب
وَقد يجوز فِي الْمَسْأَلَة أَنه لم يجِئ وَلم يركب فتنفي
الْفِعْلَيْنِ مَعًا وتجعلهما جملتين لَيست احداهما مُتَعَلقَة
بِالْأُخْرَى الا على جِهَة الْعَطف فَقَط
وَأما النَّفْي الْوَارِد بِصُورَة الايجاب فنحو قَوْلهم لَو
جَاءَنِي زيد لأكرمته فصورته صُورَة كَلَام مُوجب لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ أَدَاة من أدوات النَّفْي وَهُوَ منفي فِي
الْمَعْنى لِأَنَّهُ لم يَقع الْمَجِيء وَلَا الْإِكْرَام
فَإِذا دخل عَلَيْهِ حُرُوف النَّفْي فَقيل لَو لم يَشْتمنِي
زيد لم أضربه صَارَت صورته صُورَة الْمَنْفِيّ وَمَعْنَاهُ
معنى الْمُوجب وَمن أجل هَذَا قَالَ النحويون فِي قَول امْرِئ
الْقَيْس
(1/97)
. فَلَو ان مَا أسعى لأدنى معيشة ... كفاني
وَلم أطلب قَلِيل من المَال ... ان نصب الْقَلِيل هُنَا محَال
لِأَنَّهُ لَو نَصبه لأوجب أَنه قد طلب قَلِيلا من المَال
وَهَذَا خلاف مَا أَرَادَهُ الشَّاعِر أَلا ترَاهُ يَقُول بعد
هَذَا ... ولكنما أسعى لمجد موثل ... وَقد يدْرك الْمجد المؤثل
أمثالي ... فَأخْبر ببعد همته وعلوها وَأَنه انما يطْلب الْملك
والرياسة أَلا ترى النَّحْوِيين قد جعلُوا قَوْله وَلم أطلب
قَلِيلا بِالنّصب ايجابا وَظَاهره نفي وانما عرض هَذَا من قبل
دُخُول 12 ب لَو فِي أول الْبَيْت وَقد أعلمتك أَن ايجابها نفي
ونفيها ايجاب
وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس
هداها} {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا}
(1/98)
وَأما وُرُود الْوَاجِب بِصُورَة الْمُمكن
فكقوله تَعَالَى {فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو
أَمر من عِنْده} وَقَوله {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما
مَحْمُودًا} وَهَذَا وَاجِب ثَابت وَصورته صُورَة الْمُمكن
الْمَشْكُوك فِيهِ وَالْعرب تفعل هَذَا تحريرا للمعاني
واحتياطا عَلَيْهَا وَمِنْه قَول الشَّاعِر ... لعَلي ان
مَالَتْ بِي الرّيح مَيْلَة ... على ابْن أبي زبان أَن يتندما
... فَأخْرج كَلَامه مخرج الْمُمكن وانما يُرِيد أَنه يتندم
لَا محَالة
وَأما وُرُود الممتهع بِصُورَة الْمُمكن فكقول امْرِئ الْقَيْس
... وبدلت قرحا داميا بعد صِحَة ... لَعَلَّ منايانا تحولن
أبؤسا ... وتحول المنايا أبؤسا من الْمُمْتَنع الَّذِي لَا
يُمكن وَقد جعله كَمَا ترى فِي
(1/99)
صُورَة الْمُمكن على الْعلم مِنْهُ أَنه
لَيْسَ كَذَلِك تعللا بذلك واستراحة مِمَّا كَانَ فِيهِ من
عَظِيم الْبلَاء
وَنَحْوه قَول كَعْب بن سعد الغنوي يرثي أَخَاهُ
وداع دَعَا يَا من يُجيب الى الندى
فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب ... فَقلت ادْع أُخْرَى وارفع
الصَّوْت دَعْوَة
لَعَلَّ أَبَا المغوار مِنْك قريب ... يجيبك كَمَا قد كَانَ
يفعل انه
نجيب لأبواب الْعَلَاء طلوب
وَقَالَ النَّابِغَة يرثي النُّعْمَان
فان تحي لَا أملل حَياتِي وان تمت
فَمَا فِي حَيَاة بعد موتك طائل
(1/100)
وَمن هَذَا الْبَاب قَول الرجل المحرق
لِبَنِيهِ اذا أَنا مت فأحرقوني ثمَّ أذروا رمادي فِي اليم
فلعلي أضلّ الله فوَاللَّه لَئِن قدر الله عَليّ ليعذبني
عذَابا شَدِيدا أَلا ترى أَنه أخرج مَا قد تحقق انه لَا يكون
مخرج مَا يُرْجَى أَن يكون تعللا بذلك واستراحة اليه كَمَا فعل
امْرُؤ الْقَيْس حِين اشْتَدَّ بِهِ الْبلَاء فِي قَوْله
لَعَلَّ منايانا تحولن أبؤسا وَهُوَ لَا يشك فِي أَن هَذَا
الَّذِي رجاه مُمْتَنع وَمن أبين مَا فِي ذَلِك قَول الآخر ...
أخادع نَفسِي بالأماني تعللا ... على الْعلم مني أَنَّهَا
لَيْسَ تَنْفَع ... واما قَوْله فوَاللَّه لَئِن قدر الله
عَليّ ليعذبني عذَابا شَدِيدا فَمَعْنَاه فوَاللَّه لَئِن ضيق
13 أالله عَليّ طرق الْخَلَاص ليعذبني وَلَيْسَ يشك فِي قدرَة
الله تَعَالَى وَلَو شكّ فِي قدرَة الله لَكَانَ كَافِرًا
وانما هُوَ
(1/101)
كَقَوْلِه تَعَالَى {فَظن أَن لن نقدر
عَلَيْهِ} وَقَوله {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} أَي ضيق وَيجوز
أَن يكون من الْقدر الَّذِي هُوَ الْقَضَاء فَيكون مَعْنَاهُ
فوَاللَّه لَئِن قدر الله عَليّ الْعَذَاب ليعذبني فَحذف
الْمَفْعُول اختصارا كَمَا قَالَ النَّابِغَة الْجَعْدِي ...
حَتَّى لحقنا بهم تعدِي فوارسنا ... كأننا رعن قف يرفع الآلا
... أَرَادَ تعدِي فوارسنا الْخَيل وَقد يجوز أَن يكون قَوْله
فوَاللَّه لَئِن قدر الله عَليّ من الْقُدْرَة على الشَّيْء
فان قيل كَيفَ يَصح هَذَا وَدخُول الشَّرْط عَلَيْهِ قد جعله
من حيّز الْمُمكن الَّذِي يجوز أَن يكون وَيجوز أَلا يكون
وَهَذِه خَاصَّة الشَّرْط أَلا ترى أَنَّك اذا قلت ان جَاءَنِي
زيد أكرمته فممكن أَن يَقع ذَلِك وممكن أَلا يَقع وَهَذَا شكّ
مَحْض فِي قدرَة الله تَعَالَى فَالْجَوَاب أَن الْعَرَب قد
تسْتَعْمل ان الَّتِي للشّرط بِمَعْنى اذا كَمَا تسْتَعْمل اذا
بِمَعْنى ان واذا تقع على
(1/102)
الشَّيْء الَّذِي لَا يشك فِي كَونه
كَقَوْلِك اذا كَانَ اللَّيْل فأتني وَكَون اللَّيْل لَا بُد
مِنْهُ وَكَقَوْلِه تَعَالَى {إِذا السَّمَاء انفطرت}
فَمَعْنَاه على هَذَا فوَاللَّه اذا قدر الله عَليّ ليعذبني
عذَابا شَدِيدا
وانما جَازَ وُقُوع ان الَّتِي للشّرط موقع اذا الزمانية لِأَن
كل وَاحِد مِنْهُمَا يحْتَاج الى جَوَاب
والشيئان اذا تضارعا جَازَ أَن يَقع كل وَاحِد مِنْهُمَا موقع
صَاحبه فمما وَقعت فِيهِ ان موقع اذا قَوْله تَعَالَى {لتدخلن
الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين} وَقَول النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام حِين وقف على الْقُبُور انا ان شَاءَ الله
بكم لاحقون يُرِيد اذا شَاءَ الله وَمِنْه قَول الشَّاعِر ...
فالا يكن جسمي طَويلا فإنني ... لَهُ بالفعال الصَّالِحَات
وُصُول ...
(1/103)
مَعْنَاهُ فاذا لم يكن جسمي طَويلا فإنني
أطوله بالأفعال الحسان
وَلَا يَصح الشَّرْط هَهُنَا لِأَن قصر جِسْمه شَيْء قد كَانَ
وَقع وَالشّرط هَهُنَا محَال
وَمثله قَول الآخر ... فان أك قد فَارَقت نجدا وَأَهله ...
فَمَا عهد نجد عندنَا بذميم ... وَأما وُقُوع اذا بِمَعْنى ان
فكقول أَوْس بن حجر ... اذا أَنْت لم تعرض عَن الْجَهْل والخنا
... أصبت حَلِيمًا أَو أَصَابَك جَاهِل ... والإعراض عَن
الْخَنَا مُمكن أَن يكون وممكن أَلا يكون فَلَيْسَ هَذَا من
مَوَاضِع اذا وانما هُوَ 13 ب من مَوَاضِع ان
وَأما وُرُود الْمَدْح فِي صُورَة الذَّم فكقولهم أَخْزَاهُ
الله مَا أشعره ولعنه الله مَا أفصحه وَقَول كَعْب بن سعد
الغنوي
(1/104)
. هوت أمه مَا يبْعَث الصُّبْح غاديا ...
وماذا يرد اللَّيْل حِين يؤوب ... وَذكر ابْن جني أَن
أَعْرَابِيًا رأى ثوبا فَقَالَ مَا لَهُ محقه الله قَالَ فَقلت
لَهُ لم يَقُول هَذَا فَقَالَ انا اذا استحسنا شَيْئا دَعونَا
عَلَيْهِ وأصل هَذَا أَنهم يكْرهُونَ أَن يمدحوا الشَّيْء
فيصيبوه بِالْعينِ فيعدلون عَن مدحه الى ذمه
وَأما وُرُود الذَّم فِي صُورَة الْمَدْح فكقوله تَعَالَى
{إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} وَقَول الشَّاعِر ... وَقلت
لسيدنا يَا حَلِيم ... انك لم تأس أسوا رَفِيقًا ... وَأما
التقليل الْوَارِد بِصُورَة التكثير فنحو قَوْلك كم بَطل قتل
زيد وَكم ضيف نزل عَلَيْهِ وَأَنت تُرِيدُ أَنه لم يقتل قطّ
بطلا وَلَا قرى ضيفا قطّ وَلَكِنَّك بِقصد الإستهزاء بِهِ
كَمَا تَقول للبخيل يَا كريم وللأحمق يَا عَاقل
وَأما التكثير الْوَارِد بِصُورَة التقليل فنحو قَوْلك رب ثوب
حسن
(1/105)
قد لبست وَرب رجل عَالم قد لقِيت فتقلل مَا
لبست من الثِّيَاب وَمن لقِيت من الْعلمَاء تواضعا ليَكُون أجل
لَك فِي النُّفُوس لِأَن الرجل اذا حقر نَفسه تواضعا ثمَّ
اختبر فَوجدَ أعظم مِمَّا وصف بِهِ نَفسه عظم فِي النُّفُوس
واذا تعاظم وَأنزل نَفسه فَوق منزلتها ثمَّ اختبر فَوجدَ أقل
مِمَّا قَالَ استخف بِهِ وَهَان على من كَانَ يعظمه وَقد
يسْتَعْمل تقليل الشَّيْء وَهُوَ كثير فِي الْحَقِيقَة لضروب
من الْأَغْرَاض والمقاصد كَالرّجلِ يهدد صَاحبه فَيَقُول لَا
تعادني فَرُبمَا نَدِمت وَهَذَا مَكَان يَنْبَغِي أَن تكْثر
فِيهِ الندامة وَلَيْسَ بِموضع تقليل وانما تَأْوِيله أَن
الندامة على هَذَا لَو كَانَت قَليلَة لوَجَبَ أَن يتَجَنَّب
مَا يُؤَدِّي اليها فَكيف وَهِي كَثِيرَة فَصَارَ فِيهِ من
معنى الْمُبَالغَة مَا لَيْسَ فِي التكثير لَو وَقع هَهُنَا
وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو
كَانُوا مُسلمين}
وانما تَأتي رب بِمَعْنى التكثير فِي مَوَاضِع الافتخار
وَالْوَجْه فِي ذَلِك أَن المفتخر يُرِيد أَن الامر الَّذِي
يقل وجوده من غَيره يكثر وجوده مِنْهُ فيستعير لفظ التقليل فِي
مَوضِع لفظ التكثير اشارة الى هَذَا الْمَعْنى وليكون أبلغ فِي
الافتخار
(1/106)
وَقد توهم قوم أَن رب للتكثير حِين خَفِي
عَلَيْهِم مَا ذَكرْنَاهُ 14 أَمن تدَاخل الْمعَانِي وَهَذِه
غَفلَة شَدِيدَة لأَنا نجد الْمَدْح يخرج مخرج الذَّم والذم
يخرج مخرج الْمَدْح وَلَا يخرجهما ذَلِك عَن موضوعهما الَّذِي
وضعا عَلَيْهِ فِي أصل وضعهما كَمَا أَن الِاسْم الْعلم
الَّذِي وضع فِي أصل وَضعه للخصوص قد يعرض لَهُ الْعُمُوم
والنكرة الَّتِي وضعت فِي أصل وَضعهَا للْعُمُوم قد يعرض لَهُ
الْخُصُوص وَلَا يبطل ذَلِك وضعهما الَّذِي وضعا عَلَيْهِ اولا
وانما ذَلِك لِكَثْرَة الْمعَانِي وتداخلها وَاخْتِلَاف
الْأَغْرَاض وتباينها فَمَتَى وجدت شَيْئا قد خَالف أَصله
فَإِنَّمَا ذَلِك لسَبَب وغرض فيجت لَك أَن تبحث عَلَيْهِ
وَلَا تتسرع الى بعض الْأُصُول دون تثبت وَتَأمل
فَمن مُشكل هَذَا الْبَاب قَول أبي كَبِير الْهُذلِيّ ...
أزهير ان يشب القذال فإنني ... رب هيضل مرس لففت بهيضل ...
زُهَيْر هَهُنَا ترخيم زهيرة وَهِي ابْنَته فَلذَلِك فتح
الرَّاء وَرب هَهُنَا مُخَفّفَة من رب
(1/107)
وَقَول أبي عَطاء السندي
فَإِن تمس مهجور الفناء فَرُبمَا
أَقَامَ بِهِ بعد الْوُفُود وُفُود
وَالْمرَاد بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ التكثير وَلَكِن خرجا
مخرج التقليل ليَكُون أمدح وَالْمعْنَى أَن هَذَا لَو كَانَ
قَلِيلا لَكَانَ فِيهِ فَخر لصَاحبه فَمَا ظَنك بِهِ وَهُوَ
كثير وَيحْتَمل قَول أبي عَطاء السندي أَن يكون أَرَادَ تقليل
مُدَّة حَيَاة المرثي الَّتِي كثرت فِيهَا عَلَيْهِ الْوُفُود
فعلى نَحْو هَذِه التأويلات فتأول مَا ورد مُخَالفا
لِلْأُصُولِ
وملاك هَذَا الْبَاب معرفَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَهُوَ
بَاب يدق على من لم يتمهر فِي هَذِه الصِّنَاعَة فَلذَلِك
يُنكر كثيرا مِمَّا هُوَ صَحِيح وَللَّه در أبي الطّيب المتنبي
حَيْثُ يَقُول
وَكم من عائب قولا صَحِيحا
وآفته من الْفَهم السقيم ... وَلَكِن تَأْخُذ الآذان مِنْهُ
على قدر القرائح والعلوم
وَمن طريف الْمجَاز الْعَارِض من طَرِيق التَّرْكِيب ايقاعهم
أدوات الْمعَانِي على السَّبَب ومرادهم الْمُسَبّب تَارَة
وَتارَة يوقعونها على الْمُسَبّب ومرادهم
(1/108)
السَّبَب وانما يَفْعَلُونَ هَذَا لتَعلق
أَحدهمَا بِالْآخرِ فمثال الأول قَوْله تَعَالَى {فَلَا تموتن
إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} فأوقع النَّهْي على الْمَوْت فِي
اللَّفْظ وَالْمَوْت لَيْسَ بِفعل لَهُم فَيصح نهيهم عَنهُ
وانما نَهَاهُم عَن مُفَارقَة الْإِسْلَام فَمَعْنَاه لَا
تفارقوا الْإِسْلَام حَتَّى تَمُوتُوا عَلَيْهِ فأوقع النَّهْي
على الْمَوْت لِأَنَّهُ السَّبَب الَّذِي من أجل توقعه وخوفه
يلْزم الْإِنْسَان أَن يستعد 14 ب لوروده ويتأهب لَهُ بِصَالح
عمله وَالثَّانِي مثل قَوْله تَعَالَى {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة
الشافعين} وَلَيْسَ المُرَاد اثبات شَفَاعَة غير نافعة لإنه
لَا شَفَاعَة هُنَاكَ فِي الْحَقِيقَة بِدَلِيل قَوْله
تَعَالَى {فَمَا لنا من شافعين وَلَا صديق حميم} فأوقع
النَّفْي على الْمَنْفَعَة الَّتِي هِيَ الْمُسَبّب وَمرَاده
تَعَالَى الشَّفَاعَة الَّتِي هِيَ السَّبَب فَكَأَنَّهُ قَالَ
فَمَا تكون شَفَاعَة فَتكون مَنْفَعَة وَنَحْوه قَوْلك مَا
نَفَعَنِي كَلَام زيد فَهَذَا كَلَام يحْتَمل مَعْنيين
أَحدهمَا أَن تُرِيدُ اثبات الْكَلَام وَنفي الْمَنْفَعَة
وَحدهَا
وَالثَّانِي أَن تُرِيدُ نفيهما مَعًا أَي لم يكن مِنْهُ
كَلَام فَتكون مَنْفَعَة وَمن هَذَا الْبَاب قَول امْرِئ
الْقَيْس
(1/109)
. على لاحب لَا يهتدى بمناره ... وَلم يرد
اثبات الْمنَار وَنفي الْهِدَايَة بِهِ وَلَو كَانَ ثمَّ منار
لكَانَتْ ثمَّ هِدَايَة وانما الْمَعْنى لَيْسَ بِهِ منار
فَتكون هِدَايَة
وَمن هَذَا قَول الْعَرَب لَا أرينك هَهُنَا أَي لَا تكونن
هَهُنَا فَإِنِّي أَرَاك فَالْمُرَاد بِالنَّهْي الْكَوْن لَا
الرُّؤْيَة
وَنَحْوه قَوْله النَّابِغَة ... لَا أَعرفن ربربا حورا
مدامعها ... كَأَن أبكارها نعاج دوار ... فعلى هَذَا مخرج
هَذَا الْبَاب وَالله أعلم
(1/110)
|