الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف الْبَاب الثَّالِث فِي الْخلاف الْعَارِض
من جِهَة الافراد والتركيب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ -
(1/111)
هَذَا بَاب طريف جدا وَقد تولدت مِنْهُ
بَين النَّاس أَنْوَاع كَثِيرَة من الْخلاف وَهُوَ بَاب
يحْتَاج الى تَأمل شَدِيد وحذق بِوُجُوه الْقيَاس وَمَعْرِفَة
تركيب الْأَلْفَاظ وَبِنَاء بَعْضهَا على بعض وَذَلِكَ أَنَّك
تَجِد الْآيَة الْوَاحِدَة رُبمَا استوفت الْغَرَض الْمَقْصُود
بهَا من التَّعَبُّد فَلم تحوجك الى غَيرهَا كَقَوْلِه
تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} و {يَا أَيهَا
الَّذين آمنُوا آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله} وَقَوله تَعَالَى
{وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} فان كل وَاحِدَة من
هَذِه الْآيَات قَائِمَة بِنَفسِهَا مستوفية الْغَرَض المُرَاد
مِنْهَا من التَّعَبُّد وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة
كَقَوْلِه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الزعيم غَارِم
وَالْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على الْمُدعى
عَلَيْهِ وَرُبمَا وَردت الْآيَة غير مستوفية
(1/113)
للغرض المُرَاد من التَّعَبُّد وَورد تَمام
الْغَرَض فِي آيَة أُخْرَى وَكَذَلِكَ الحَدِيث كَقَوْلِه
تَعَالَى {من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة نزد لَهُ فِي حرثه
وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي
الْآخِرَة من نصيب} 15 أفظاهر هَذِه الْآيَة أَن من أَرَادَ
حرث الدُّنْيَا أُوتِيَ مِنْهَا وَنحن نشاهد كثيرا من النَّاس
يحرصون على الدُّنْيَا وَلَا يُؤْتونَ مِنْهَا شَيْئا
فَهُوَ كَلَام مُحْتَاج الى بَيَان وايضاح ثمَّ قَالَ فِي آيَة
أُخْرَى {من كَانَ يُرِيد العاجلة عجلنا لَهُ فِيهَا مَا نشَاء
لمن نُرِيد} فَإِذا أضيفت هَذِه الْآيَة الى الْآيَة الأولى
بَان مُرَاد الله تَعَالَى وارتفع الْإِشْكَال وَكَذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى {وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب
أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} وَنحن نرى الدَّاعِي يَدْعُو
فَلَا يُسْتَجَاب لَهُ ثمَّ قَالَ فِي آيَة أُخْرَى {بل
إِيَّاه تدعون فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ} فَدلَّ
اشْتِرَاط الْمَشِيئَة فِي هَذِه الْآيَة الثَّانِيَة على أَنه
مُرَاد فِي الْآيَة الأولى
وَرُبمَا وَردت الأية مجملة ثمَّ يُفَسِّرهَا الحَدِيث كالآيات
الْوَارِدَة مجملة فِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام
وَالْحج ثمَّ شرحت السّنة والْآثَار جَمِيع
(1/114)
ذَلِك كَقَوْلِه تَعَالَى {واللاتي
يَأْتِين الْفَاحِشَة من نِسَائِكُم فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ
أَرْبَعَة مِنْكُم فَإِن شهدُوا فأمسكوهن فِي الْبيُوت حَتَّى
يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} ثمَّ
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُذُوا عني قد جعل الله لَهُنَّ
سَبِيلا الْبكر بالبكر جلد مئة وتغريب عَام وَالثَّيِّب
بِالثَّيِّبِ جلد مئة وَالرَّجم وَلأَجل هَذَا صَار الْفَقِيه
مُضْطَرّا فِي اسْتِعْمَال الْقيَاس الى الْجمع بَين الْآيَات
المفترقة وَالْأَحَادِيث المتغايرة وَبِنَاء بَعْضهَا على بعض
وَوجه الْخلاف الْعَارِض من هَذَا الْموضع أَنه رُبمَا أَخذ
بعض الْفُقَهَاء بمفرد الْآيَة وبمفرد الحَدِيث وَبنى آخر
قِيَاسه على جِهَة التَّرْكِيب الَّذِي ذكرنَا بِأَن يَأْخُذ
بِمَجْمُوع آيَتَيْنِ أَو بِمَجْمُوع حديثين أَو بِمَجْمُوع
آيَات أَو بِمَجْمُوع أَحَادِيث فيفضي بهما الْحَال الى
الِاخْتِلَاف فِيمَا ينتحلانه وَرُبمَا أفضت بهما الْأَمر الى
اخْتِلَاف العقائد فَقَط وَرُبمَا أفْضى بهما الى الِاخْتِلَاف
فِي الْأَسْبَاب فَقَط كاختلافهم فِي سَبَب تَحْرِيم الْخمر
فَإِن قوما يستدلون على وجوب تَحْرِيمهَا بِمُجَرَّد قَوْله
تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم
عَنهُ فَانْتَهوا}
(1/115)
وَقوم يستدلون على وجوب تَحْرِيمهَا
بِمُجَرَّد قَوْله تَعَالَى {أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا
الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان
فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون} الى قَوْله {فَهَل أَنْتُم
مُنْتَهُونَ} وَقوم يرَوْنَ ذَلِك بطرِيق التَّرْكِيب وَبِنَاء
الْأَلْفَاظ 15 ب بَعْضهَا على بعض وَذَلِكَ أَنه لما قَالَ
تبَارك وَتَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر قل
فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس} ثمَّ قَالَ فِي آيَة
أُخْرَى {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا
وَمَا بطن وَالْإِثْم} تركب من نجموع الْآيَتَيْنِ قِيَاس أنتج
تَحْرِيم الْخمر وَهُوَ أَن يُقَال كل إِثْم حرَام وَالْخمر
إِثْم فالخمر إِذن حرَام وَالْإِثْم من أَسمَاء الْخمر وَأنْشد
اللغويون ... شربت الْإِثْم حَتَّى زَالَ عَقْلِي ... كَذَاك
الْإِثْم يذهب بالعقول ...
(1/116)
وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى فِيمَا
حَكَاهُ عَن قوم لوط {أتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من
أحد من الْعَالمين} ثمَّ قَالَ فِي هَذِه الْآيَة الَّتِي
ذَكرنَاهَا {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر
مِنْهَا وَمَا بطن} فتركب من مَجْمُوع الْآيَتَيْنِ قِيَاس
وَهُوَ كل فَاحِشَة حرَام وَفعل قوم لوط فَاحِشَة فَفعل قوم
لوط اذا حرَام فعلى مثل هَذَا أنتجت النتائج وَركبت القياسات
وَوَقع بَين أَصْحَاب الْقيَاس الْخلاف بِحَسب تقدم الْقيَاس
أَو بِحَسب تَأَخره
وَخَالفهُم قوم آخَرُونَ لم يرَوا الْقيَاس وَرَأَوا الْأَخْذ
بِظَاهِر الْأَلْفَاظ فَنَشَأَ من ذَلِك نوع آخر من الْخلاف
وَمِمَّا اخْتلفت فِيهِ أَقْوَال الْفُقَهَاء لأخذ كل وَاحِد
مِنْهُم بِحَدِيث مُفْرد اتَّصل بِهِ وَلم يتَّصل بِهِ سواهُ
مَا رُوِيَ عَن عبد الْوَارِث بن سعيد أَنه قَالَ قدمت مَكَّة
فألفيت فِيهَا أَبَا حنيفَة فَقلت لَهُ مَا تَقول فِي رجل
بَاعَ بيعا وَشرط شرطا فَقَالَ البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل
فَأتيت ابْن أبي
(1/117)
ليلى فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ البيع
جَائِز وَالشّرط بَاطِل فَأتيت ابْن شبْرمَة فَسَأَلته عَن
ذَلِك فَقَالَ البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز فَقلت فِي نَفسِي
يَا سُبْحَانَ الله ثَلَاثَة من فُقَهَاء الْعرَاق لَا يتفقون
على مَسْأَلَة فعدت الى أبي حنيفَة فَأَخْبَرته بِمَا قَالَ
صَاحِبَاه فَقَالَ مَا أَدْرِي مَا قَالَا لَك حَدثنِي عَمْرو
بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع وَشرط فَالْبيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل
فعدت الى ابْن أبي ليلى فَأَخْبَرته بِمَا قَالَ صَاحِبَاه
فَقَالَ مَا أَدْرِي مَا قَالَا لَك حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة
عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت أَمرنِي
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَشْتَرِي بَرِيرَة
فَأعْتقهَا البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل قَالَ فعدت الى ابْن
شبْرمَة فَأَخْبَرته بِمَا قَالَ 16 أصاحباه فَقَالَ مَا
أَدْرِي مَا قَالَا لَك حَدثنِي مسعر بن كدام عَن محَارب بن
دثار عَن جَابر قَالَ بِعْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بَعِيرًا وَشرط لي حملانه الى الْمَدِينَة البيع جَائِز
وَالشّرط جَائِز
(1/118)
وَقد ترد الْآيَة والْحَدِيث بِلَفْظ
مُشْتَرك يحْتَمل تأويلات كَثِيرَة ثمَّ ترد آيَة اخرى أَو
حَدِيث آخر بتخصيص ذَلِك اللَّفْظ الْمُشْتَرك وقصره على بعض
تِلْكَ الْمعَانِي دون بعض كَقَوْلِه عز من قَائِل {ووجدك
ضَالًّا فهدى} فَإِن لَفْظَة الضلال لما كَانَت مُشْتَركَة تقع
على معَان كَثِيرَة توهم قوم مِمَّن لم يكن لَهُ فهم صَحِيح
بِالْقُرْآنِ وَلَا معرفَة ثاقبة بِاللِّسَانِ أَنه أَرَادَ
الضلال الَّذِي هُوَ ضد الْهدى فزعموا أَنه كَانَ على مَذْهَب
قَوْله أَرْبَعِينَ سنة وَهَذَا خطأ فَاحش نَعُوذ بِاللَّه من
اعْتِقَاده فِيمَن طهره الله تَعَالَى لنبوته وارتضاه لرسالته
وَلَو لم يكن فِي الْقُرْآن الْعَزِيز مَا يرد قَوْلهم لَكَانَ
فِيمَا ورد من الْأَخْبَار المتواترة مَا يرد عَلَيْهِم ذَلِك
لِأَنَّهُ قد رُوِيَ أَنهم كَانُوا يسمونه فِي الْجَاهِلِيَّة
الْأمين وَكَانُوا يرتضونه حكما لَهُم وَعَلَيْهِم وَكَانَت
عِنْدهم أَخْبَار كَثِيرَة يروونها وانذارات من أهل الْكتاب
والكهان بِأَنَّهُ يكون نَبيا وَلَوْلَا أَن كتَابنَا هَذَا
لَيْسَ مَوْضُوعا لَهَا لاقتصصناها فيكف وَالْقُرْآن الْعَزِيز
قد كفانا هَذَا كُله بقوله عز وَجل فِي سُورَة يُوسُف عَلَيْهِ
السَّلَام {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص بِمَا أَوْحَينَا
إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن وَإِن كنت من قبله لمن الغافلين}
فَهَذَا نَص جلي فِي شرح مَا وَقع فِي تِلْكَ الْآيَة من
الْإِبْهَام وَبَين أَيْضا أَنه تَعَالَى انما أَرَادَ الضلال
(1/119)
الَّذِي هُوَ الْغَفْلَة كَمَا قَالَ فِي
مَوضِع آخر {لَا يضل رَبِّي وَلَا ينسى} أَي لَا يغْفل وَقَالَ
تَعَالَى {أَن تضل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى}
أَي تغفل وتنسى وَقَالَت الصُّوفِيَّة مَعْنَاهُ ووجدك محبا
فِي الْهدى فهداك فتأولوا الضلال هُنَا بِمَعْنى الْمحبَّة
وَهَذَا قَول حسن جدا وَله شَاهد من الْقُرْآن واللغة
أما شَاهده من الْقُرْآن فَقَوله تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ من
قَول اخوة يُوسُف لأبيهم تالله انك لفي ضلالك الْقَدِيم انما
أَرَادوا بالضلال هُنَا افراط محبته فِي يُوسُف عَلَيْهِ
السَّلَام وعَلى جَمِيعهم وَأما شَاهده من اللُّغَة فانه
جَائِز فِي مَذَاهِب الْعَرَب أَن تسمى الْمحبَّة ضلالا لِأَن
افراط الْمحبَّة يشغل الْمُحب عَن كل غَرَض ويحمله على
النسْيَان والإغفال لكل وَاجِب مفترض وَلذَلِك قيل الْهوى يعمي
ويصم فسميت
(1/120)
الْمحبَّة ضلالا اذ كَانَت 16 ب سَبَب
الضلال على مذاهبهم فِي تَسْمِيَة الشَّيْء باسم الشَّيْء اذا
كَانَ مِنْهُ بِسَبَب
وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَة
نوح عَلَيْهِ السَّلَام {أَن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغْفر
لكم من ذنوبكم ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى} وَالْأَجَل قد
علمنَا أَنه لَا تَأْخِير فِيهِ وَقد بَين ذَلِك بقوله فِي عقب
الْآيَة {إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر} وَقَالَ فِي
مَوضِع آخر {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة
وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فَوَجَبَ أَن ينظر فِي معنى هَذَا
التَّأْخِير مَا هُوَ ثمَّ وجدنَا هَذِه الْآيَة المبهمة
المجملة قد شرحتها آيَة وَاضِحَة مفصلة كفتنا التَّأْوِيل وَلم
تحوجنا الى طلب الدَّلِيل وَهِي قَوْله تَعَالَى فِي أول
سُورَة هود عَلَيْهِ السَّلَام {وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ يمتعكم مَتَاعا حسنا إِلَى أجل مُسَمّى} فدلت
هَذِه الْآيَة على أَنه انما أَرَادَ بِتَأْخِير الْأَجَل
التمتيع الْحسن لِأَن التمتيع الْحسن يجْتَمع فِيهِ الْغنى
والسلامة
(1/121)
من الْآفَات والعز وَالذكر الْحسن وَالْعرب
تسمي هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا زِيَادَة فِي الْعُمر وتسمي
أضدادها وخلافها نُقْصَانا من الْعُمر وَقد جَاءَ فِي بعض
الحَدِيث أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام شكا الى الله تَعَالَى
بعدو لَهُ فَأوحى الله تَعَالَى اليه أَنِّي سأميته فَلَمَّا
كَانَ بعد زمن رَآهُ فَقِيرا ينسج الْحَصِير فَقَالَ يَا رب
ألم تعدني أَن تميته فَقَالَ أَو لَيْسَ قد أفقرته
وَقد تعين علينا فِي هَذَا الْموضع أَن نذْكر على كم معنى
يتَصَرَّف الْحَيَاة وَالْمَوْت فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ
ليتبين مَا ذَكرْنَاهُ بشواهده حَتَّى لَا يبْقى فِيهِ لطاعن
مطْعن بحول الله تَعَالَى
اعْلَم أَن الْحَيَاة وَالْمَوْت لفظتان مشتركتان مستعملتان
فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة على ثَلَاثَة عشر وَجها أَحدهَا
الْوُجُود والعدم وَالثَّانِي مُقَارنَة النَّفس الحيوانية
الْأَجْسَام ومفارقتها اياها وَالثَّالِث الْعِزّ والذل
وَالرَّابِع الْغنى والفقر وَالْخَامِس الْهدى والضلال
وَالسَّادِس الْجَهْل وَالْعلم وَالسَّابِع الْحَرَكَة والسكون
وَالثَّامِن الخصب والجدب وَالتَّاسِع الْيَقَظَة وَالنَّوْم
والعاشر اشتعال النَّار وخمودها وَالْحَادِي عشر الْمحبَّة
والبغضاء وَالثَّانِي عشر الرُّطُوبَة اليبس وَالثَّالِث عشر
الرَّجَاء وَالْخَوْف 17 أونحن نورد على كل وَجه من هَذِه
الْوُجُوه أَمْثِلَة تشهد بِصِحَّة مَا قُلْنَاهُ ان شَاءَ
الله تَعَالَى
(1/122)
أما الْحَيَاة وَالْمَوْت المُرَاد بهما
مُقَارنَة النُّفُوس للأجسام ومفارقتها اياها فشهرتهما تغني
عَن ايراد مِثَال لَهما
أما الْوُجُود والعدم فكقولهم للشمس مَا دَامَت مَوْجُودَة
حَيَّة فاذا عدمت سَموهَا ميتَة قَالَ ذُو الرمة
فَلَمَّا رأين اللَّيْل وَالشَّمْس حَيَّة
حَيَاة الَّذِي يقْضِي حشاشة نَازع
شبه الشَّمْس عِنْد غُرُوبهَا بالحي الَّذِي يجود بِنَفسِهِ
عِنْد الْمَوْت وَهُوَ من التَّشْبِيه البديع
وَقَالَ آخر
اذا شِئْت أداني صروم مشيع
معي وعقام تتقي الْفَحْل مقلت ... يطوف بهَا من جانبيها
وَيَتَّقِي
بهَا الشَّمْس حَيّ فِي الأكارع ميت
يُرِيد ظلها فِي نصف النَّهَار أَرَادَ أَنه مَوْجُود فِي
الأكارع مَعْدُوم من سَائِر الْجِسْم
وَأما الْعِزّ والذل والغنى والفقر فنحو مَا قدمْنَاهُ من
حَدِيث
(1/123)
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَنَحْو مَا
رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَوْله من
سره النسأ فِي الْأَجَل وَالسعَة فِي الرزق فَليصل رَحمَه
وَمِنْه قَول الشَّاعِر
لَيْسَ من مَاتَ فاستراح بميت
انما الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء ... انما الْمَيِّت من يعِيش
كئيبا
كاسفا باله قَلِيل الرَّجَاء
وَقَالَ آخر
فَأَثْنوا علينا لَا أَبَا لأبيكم
بأفعالنا ان الثَّنَاء هُوَ الْخلد
وَقَالَ آخر
وَكَانَ أَبُو عَمْرو معارا حَيَاته
بِعَمْرو فَلَمَّا مَاتَ مَاتَ أَبُو عَمْرو
يَقُول كَانَ ابْنه عَمْرو يحيي ذكره فَكَأَنَّهُ حَيّ
فَلَمَّا مَاتَ انْقَطع ذكره فَكَأَنَّهُ انما مَاتَ حِينَئِذٍ
(1/124)
وَأما مَا يُرَاد بِهِ الْهدى والضلال
وَالْعلم وَالْجهل فكقوله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا
اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ}
وَقَوله عز وَجل {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه} الْمَعْنى أَو
من كَانَ صالا فهديناه وجاهلا فعلمناه
وَتقول الْعَرَب للذكي النبيه حَيّ وللبليد الغبي ميت
وَقَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ يَا بني جَالس الْعلمَاء وزاحمهم
بركبتيك فَإِن الله يحيي الْقلب الْمَيِّت بِالْكَلِمَةِ من
الْحِكْمَة يسْمعهَا كَمَا يحيي الأَرْض بالمطر
واما 17 ب الْحَيَاة وَالْمَوْت المُرَاد بهما الْحَرَكَة
والسكون فنحو قَول الراجز ... قد كنت أَرْجُو أَن تَمُوت
الرّيح ... فأرقد الْيَوْم وأستريح ...
فَجعل هبوب كَالرِّيحِ حَيَاة وسكونها موتا
(1/125)
وَقَالَ الْمَجْنُون ... يَمُوت الْهوى مني
اذا لقيتها ... ويحيا اذا فارقتها فَيَعُود ...
وَقَالَ آخر ... ومجلودة بِالسَّوْطِ فِيهِ حَيَاتهَا ... فان
زَالَ عَنْهَا الْجلد بِالسَّوْطِ مَاتَت ... يَعْنِي الدوامة
وَأما مَا يُرَاد بِهِ الخصب والجدب فَإِن الْعَرَب تَقول أتيت
الأرص فأحييتها اذا وَجدتهَا مخصبة وَيُقَال أَرض حَيَّة أَي
بِالْهَاءِ وَأَرْض ميت أَي بِغَيْر هَاء قَالَ الله تَعَالَى
{وأحيينا بِهِ بَلْدَة مَيتا} وَقَالَ الراجز ... أقبل سيل
جَاءَ من أَمر الله ... يحرد الْحَيَّة المغله ...
قَالَ بعض أَصْحَاب الْمعَانِي أَرَادَ بالحية الأَرْض المخصبة
والمغلة ذَات الْغلَّة وَيشْهد لهَذَا التَّأْوِيل رِوَايَة من
روى الْجنَّة بِالْجِيم وَالنُّون وَقَالَ آخَرُونَ انما
أَرَادَ الْحَيَّة نَفسهَا والمغلة ذَات الغل والحقد
(1/126)
وَشبه تلوي السَّيْل وانعطافه فِي جريه
بتلوي الْحَيَّة وانعطافها اذا مشت وَهَذَا نَحْو قَول ابْن
الرُّومِي ... بَين حفافي جدول مسحور ... كالسيف أَو كالحية
المذعور ... الحفافان الناحيتان
وَأما الْيَقَظَة وَالنَّوْم فكقول الله تَعَالَى {الله يتوفى
الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} فَسُمي
النّوم وَفَاة وَسَأَلَ رجل ابْن سِيرِين عَن رجل غَابَ عَن
مَجْلِسه فَقَالَ لَهُ أما علمت أَنه توفّي البارحة فَلَمَّا
رأى جزع السَّائِل قَرَأَ {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا
وَالَّتِي لم تمت فِي منامها}
وَقَالَ الشَّاعِر ... نموت ونحيا كل يَوْم وَلَيْلَة ...
وَلَا بُد نوما أَن نموت وَلَا نحيا ...
(1/127)
وَأما اشتعال النَّار وخمودها فمشهور
مُتَعَارَف أَيْضا
فَمِنْهُ قَول ذِي الرمة ... فَقلت لَهُ ارفعها اليك وأحيها
... بروحك واقتته لَهَا قيتة قدرا ... يصف نَارا اقتدحها
وَقَالَ آخر فِي مثله ... وزهراء ان كفنتها فَهُوَ عيشها ...
وان لم أكفنها فموت معجل ...
يَعْنِي بالزهراء الشررة الساقطة من الزند عِنْد الاقتداح
يَقُول ان بادرت اليها تعند سقولها من الزند فلففتها فِي خرقَة
حييت وان تركتهَا مَاتَت وطفئت
وَأما الْحَيَاة وَالْمَوْت المستعملان بِمَعْنى الْمحبَّة
والبغضاء فكقول الشَّاعِر 18 أ ... أبلغ أَبَا مَالك عني
مغلغلة ... وَفِي العتاب حَيَاة بَين أَقوام ...
(1/128)
أَي اذا تعاتبوا حييت الْمَوَدَّة بَينهم
واذا تركُوا العتاب مَاتَت الْمَوَدَّة
أَي ذهبت وانقطعت وصاروا الى الْبغضَاء والتهاجر
وَأما الرُّطُوبَة واليبس فكنحو مَا ذهب اليه السّديّ فِي
قَوْله تَعَالَى {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت
من الْحَيّ} قَالَ مَعْنَاهُ يخرج السنبلة الخضراء من الْحبَّة
الْيَابِسَة وَيخرج الْحبَّة الْيَابِسَة من السنبلة الخضراء
وَهَذَا رَاجع الى معنى الخصب والجدب من بعض وجوهه وكقول ابْن
ميادة
سحائب لَا من صيف ذِي صواعق
وَلَا مخرفات ماؤهن حميم ... اذا مَا هبطن الأَرْض قد مَاتَ
عودهَا
بكين بهَا حَتَّى يعِيش هشيم
وأمات الرَّجَاء وَالْخَوْف فَلَا أذكر عَلَيْهِمَا شَاهدا غير
قَول أبي الطّيب
(1/129)
تَرَكتنِي الْيَوْم فِي خجلة ... أَمُوت
مرَارًا وَأَحْيَا مرَارًا ...
فَهَذِهِ الْحَيَاة وَالْمَوْت فِي كَلَام الْعَرَب قد
اسْتَوْفَيْنَا أقسامها لما جرى من ذكر الْآيَة الْمُتَقَدّمَة
ثمَّ نرْجِع الى مَا كُنَّا فِيهِ فَنَقُول ان من طريف هَذَا
الْبَاب أَنه قد تتولد مِنْهُ مقالتان متضادتان كِلَاهُمَا غلط
وَخطأ وَيكون الصَّوَاب وَالْحق فِي مقَالَة ثَالِثَة متوسطة
بَينهمَا ترْتَفع عَن حد التَّقْصِير وتنحط عَن حد الغلو
والإقراط
واذا تَأَمَّلت المقالات الَّتِي شجرت بَين أهل ملتنا فِي
الاعتقادات رَأَيْت أَكْثَرهَا على هَذَا الصّفة وَقد نبهنا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك بقوله دين الله
بَين الغالي والمقصر فَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِهَذَا الَّذِي
ذكرنَا وتحذير مِنْهُ وَقَالَ أَيْضا خير الْأُمُور أوساطها
وَقَالَ رجل
(1/130)
لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ رَحمَه الله عَلمنِي
دينا وسوطا لَا سَاقِطا سقوطا وَلَا ذَاهِبًا فروطا فَقَالَ
أَحْسَنت خير الْأُمُور أوساطها
وَهَذَا نوع يطول فِيهِ الْكَلَام ان ذَهَبْنَا الى تتبعه
وَلَكنَّا نذْكر مِنْهُ شَيْئا يسْتَدلّ بِهِ على غَيره
فَمن ذَلِك أَن قوما لما خطر ببالهم أَمر الْقدر وَالْقَضَاء
وأحبوا الْوُقُوف على حَقِيقَة مَا يَنْبَغِي أَن يعْتَقد من
ذَلِك تأملوا الْقُرْآن الْعَزِيز والْحَدِيث الْمَأْثُور
فوجدوا فيهمَا أَشْيَاء ظَاهرهَا الْإِجْبَار 18 ب
وَالْإِكْرَاه كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم
على الْهدى فَلَا تكونن من الْجَاهِلين} وَقَوله {ختم الله على
قُلُوبهم وعَلى سمعهم وعَلى أَبْصَارهم غشاوة} وَقَوله {بل طبع
الله عَلَيْهَا بكفرهم} فِي آيَات كَثِيرَة غير هَذِه ووجدوا
فِي الحَدِيث الْمَأْثُور أَيْضا نَحْو ذَلِك كَقَوْلِه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم السعيد من سعد فِي بكن أمه والشقي من شقي
فِي بطن أمه
(1/131)
فبنوا من هَذَا النَّوْع من الْآيَات
وَالْأَحَادِيث مقَالَة أصلوها على أَن العَبْد مجبر لَيْسَ
لَهُ شَيْء من الِاسْتِطَاعَة وصرحوا بِأَن من اعْتقد غير
هَذَا فقد كفر
وخطر ببال آخَرين مثل ذَلِك وَرَأَوا مَذْهَب هَؤُلَاءِ فَلم
يرتضوه مُعْتَقدًا لأَنْفُسِهِمْ فتصفحوا الْقُرْآن والْحَدِيث
فوجدوا فيهمَا آيَات أخر وَأَحَادِيث ظَاهرهَا يُوهم أَن
العَبْد مستطيع مفوض اليه أمره يفعل مَا يَشَاء كَقَوْلِه
تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَقَوله {وَأما
ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} وَقَوله {إِنَّا
هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} وَقَوله
عَلَيْهِ السَّلَام كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة حَتَّى
يكون أَبَوَاهُ هما اللَّذَان يُهَوِّدَانِهِ أَو ينصرَانِهِ
أَو يُمَجِّسَانِهِ وَقَوله يَقُول الله تَعَالَى
(1/132)
خلقت عبَادي حنفَاء كلهم فأجالتهم
الشَّيَاطِين عَن دينهم فبنوا من هَذَا النَّوْع من الْآيَات
وَالْأَحَادِيث مقَالَة ثَانِيَة مناقضة للمقالة الأولى أصلوها
على أَن العَبْد مُخَيّر مفوض اليه أمره يفعل مَا يَشَاء
ويستطيع على مَا لَا يُرِيد ربه تَعَالَى الله عَمَّا يَقُوله
الجاهلون علوا كَبِيرا
ثمَّ عَمَدت كل فرقة من هَاتين الْفرْقَتَيْنِ الى مَا خَالف
مذهبها من الْآيَات وَالْأَحَادِيث فطلبت لَهُ التَّأْوِيل
الْبعيد وردوا مَا أمكنهم رده من الْأَحَادِيث المناقضة
لمذهبهم وان كَانَ صَحِيحا كمن يروم ستر ضوء النَّهَار ويؤسس
بُنْيَانه على شفا جرف هار
وَلما تَأَمَّلت طَائِفَة ثَالِثَة مَقَالَتي الْفَرِيقَيْنِ
مَعًا لم يرتضوا بِوَاحِدَة مِنْهُمَا مُعْتَقدًا
لأَنْفُسِهِمْ وَرَأَوا أَنَّهُمَا جَمِيعًا خطأ لِأَن
الْمقَالة الأولى تجوير للباري تَعَالَى وَإِبْطَال للتكليف
والتكليف والمق الة الثَّانِيَة تجهيل للباري تَعَالَى بِأَمْر
خلقو وتعجيز لَهُ عَن تَمام مَشِيئَته فيهم وكلا الصفتين 19
أَلا يَلِيق بِمن قد وصف نَفسه بِأَنَّهُ أحكم الْحَاكِمين
وأقدر القادرين وَوصف نَفسه جلّ جَلَاله بقوله {وَمَا تسْقط من
ورقة إِلَّا يعلمهَا وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض وَلَا رطب
وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين}
(1/133)
وَرَأَوا أَن الْأَخْذ بِالْآيَاتِ
وَالْأَحَادِيث لَيْسَ بِأولى من الْأَخْذ بالأيات
وَالْأَحَادِيث الْأُخَر وَأَن الْحق انما هُوَ فِي وَاسِطَة
تنتظم الطَّرفَيْنِ وتسلم من شياعة المذهبين واعتبروا
الْقُرْآن والْحَدِيث ببصائر أصح من بصائر الْفَرِيقَيْنِ
فوجدوا آيَات وَأَحَادِيث تجمع شتيت المقالتين وتخبر بغلط
الْفَرِيقَيْنِ كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك
لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا} وَقَوله فِي سُورَة
يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام {وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا
لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه} وَقَوله {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن
يَشَاء الله} فَأثْبت للْعَبد مَشِيئَة لَا تتمّ لَهُ الا
بِمَشِيئَة ربه عز وَجل ووجدوا الْأمة مجمعة على قَوْلهم لَا
حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَفِي هَذَا
اثبات حول وَقُوَّة للْعَبد لَا يتمان الا بمعونة الله
سُبْحَانَهُ اياه ووجدوا الْأمة مجمعة على الرَّغْبَة الى الله
فِي الْعِصْمَة والاستعاذة بِهِ من الخذلان بقَوْلهمْ
اللَّهُمَّ لَا تكلنا الى أَنْفُسنَا فنعجز وَلَا الى النَّاس
فنضيع
وَرَأَوا الله تَعَالَى قد أثبت لنَفسِهِ فِي مُحكم وحيه علم
غيب وَعلم شَهَادَة
(1/134)
بقوله {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة}
فَعلمه الْغَيْب علمه الْأَشْيَاء قبل كَونهَا وَعلمه
الشَّهَادَة علمه بالأشياء وَقت كَونهَا واعتبروا أَحْوَال
الانسان الَّتِي وَقع فِيهَا التَّكْلِيف وأحواله الَّتِي لم
يَقع فِيهَا تَكْلِيف فوجدوا الله تَعَالَى لم يَأْمُرهُ بألا
يسمع وَلَا يبصر وَلَا يَأْكُل وَلَا يشرب على الاطلاق انما
أمره بِأَن يسْتَعْمل الْآلَة الَّتِي يسمع بهَا ويبصر بهَا
وَيَأْكُل وَيشْرب فِي بعض الْأَشْيَاء وَلَا يستعملها فِي بعض
فَوَجَبَ أَن يكون بَين الْأَمريْنِ فرق وَلَا فرق هَهُنَا الا
أَنه مكن من أحد الْأَمريْنِ وَجعلت لَهُ استطاعة علية وَلم
يُمكن من ألآخر وَكَذَلِكَ رَأَوْا حَرَكَة يدالمفلوج تخَالف
حَرَكَة يَد الصَّحِيح فَثَبت أَن بَينهمَا فرقا وَلَا فرق الا
وجود الِاسْتِطَاعَة فِي احداها دون الْأُخْرَى ووجدوا مَعَ
هَذَا أَحَادِيث تؤيد بطلَان قَول الْفَرِيقَيْنِ مَعًا وتدل
على أَن الْحق متوسط بَين غلو أحد الْفَرِيقَيْنِ وتقصير الآخر
كنحو مَا نروي عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ أَن
رجلا قَالَ لَهُ هَل الْعباد مجبرون فَقَالَ الله أعدل من أَن
يجْبر عَبده 19 ب على مَعْصِيَته ثمَّ يعذبه عَلَيْهَا فَقَالَ
لَهُ السَّائِل فَهَل أَمرهم مفوض اليهم فَقَالَ الله أعز من
أَن يجوز فِي ملكه مَا لَا يُرِيد فَقَالَ لَهُ السَّائِل
فَكيف ذَلِك اذا قَالَ أَمر بَين الْأَمريْنِ لَا جبر وَلَا
تَفْوِيض
(1/135)
وكنحو مَا رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب
رَضِي الله عَنهُ أَنه لما انْصَرف من صفّين قَامَ اليه شيخ
فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَرَأَيْت مسيرنا الى صفّين
أبقضاء وَقدر فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَالله مَا علونا
جبلا وَلَا هبطنا وَاديا وَلَا خطونا خطْوَة الا بِقَضَاء
وَقدر فَقَالَ الشَّيْخ فَعِنْدَ الله أحتسب عنائي اذن مَا لي
من أجر فَقَالَ لَهُ عَليّ رَحمَه الله مَه يَا شيخ فَإِن
هَذَا قَول أَوْلِيَاء الشَّيْطَان وخصماء الرَّحْمَن قدرية
هَذِه الْأمة ان الله أَمر تخييرا وَنهى تحذيرا لم يعْص
مَغْلُوبًا وَلم يطع مكْرها فَضَحِك الشَّيْخ ونهض مَسْرُورا
ثمَّ قَالَ
أَنْت الامام الَّذِي نرجو بِطَاعَتِهِ
يَوْم الْقِيَامَة من ذِي الْعَرْش رضوانا ... أوضحت من ديننَا
مَا كَانَ ملتبسا
جَزَاك رَبك عَنَّا فِيهِ احسانا
وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ نَحْو مقَالَة
جَعْفَر
فَلَمَّا وجدوا جَمِيع هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ جمعُوا
الْآيَات وَالْأَحَادِيث وبنوا بَعْضهَا على بعض فأنتج لَهُم
من مجموعها مقَالَة ثَالِثَة سليمَة من شناعة المقالتين منتظمة
لكل وَاحِد من الطَّرفَيْنِ ارْتَفَعت عَن تَقْصِير الجبرية
وانحطت عَن غلو الْقَدَرِيَّة فَوَافَقت قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دين الله بَين الغالي والمقصر بنوا تفريعها على
أصل وَجُمْلَة الْغَرَض مِنْهُ أَن لله تَعَالَى علم غيب سبق
بِكُل مَا هُوَ كَائِن قبل كَونه ثمَّ خلق الْإِنْسَان فَجعل
لَهُ عقلا
(1/136)
يرشده واستطاعة يَصح بهَا تَكْلِيفه ثمَّ
طوى علمه السَّابِق عَن خلقه وَأمرهمْ ونهاهم وَأوجب عَلَيْهِم
الْحجَّة من جِهَة الْأَمر وَالنَّهْي الواقعين عَلَيْهِم لَا
من جِهَة علمه السَّابِق فيهم فهم يتصرفون بَين مُطِيع وعاص
وَكلهمْ لَا يعدو علم الله السَّابِق فِيهِ
فَمن علم الله تَعَالَى مِنْهُ أَنه يخْتَار الطَّاعَة فَلَا
يجوز أَن يخْتَار الْمعْصِيَة وَمن علم أَنه يخْتَار
الْمعْصِيَة فَلَا يجوز أَن يخْتَار الطَّاعَة وَلَو جَازَ
ذَلِك لم يكن علم الله تَعَالَى مَوْصُوفا بالكمال ولكان كعلم
الْمَخْلُوق الَّذِي يُمكن أَن يَقع الْأَمر كَمَا علم وَيُمكن
أَن يَقع بِخِلَاف مَا علم وَلَيْسَ فِي علم الله الْأُمُور
قبل وُقُوعهَا اجبار على مَا توهمه 20 أالمجبرون وَلَا تتمّ
لأحد استطاعة على مَا يهم بِهِ من الْأُمُور الا بِأَن يُعينهُ
الله تَعَالَى عَلَيْهِ أَو يكله الى حوله ويسلمه اليه فان
عصمه الله مِمَّا يهم بِهِ من الْمعْصِيَة كَانَ فضلا وان
وَكله الى نَفسه كَانَ عدلا
فاذا اعْتبرت حَال العَبْد من جِهَة الأضافة الى علم الله
السَّابِق فِيهِ الَّذِي لَا يعدوه وجد فِي صُورَة الْمُجبر
واذا اعْتبرت حَاله من جِهَة الاضافة الى الِاسْتِطَاعَة
المخلوقة لَهُ وَالْأَمر وَالنَّهْي الواقعين عَلَيْهِ وجد فِي
صُورَة الْمُفَوض اليه
(1/137)
وَلَيْسَ هُنَاكَ اجبار مُطلق وَلَا
تَفْوِيض مُطلق انما هُوَ أَمر بَين أَمريْن يدق عَن أفكار
المعتبرين ويحير أذهان المتأملين
وَهَذَا هُوَ معنى مَا أَشَارَ اليه حذاق أهل السّنة رَحِمهم
الله بقَوْلهمْ ان العَبْد لَا مُطلق وَلَا موثق
فَمَا ورد من الْآيَات وَالْأَحَادِيث الَّتِي ظَاهرهَا
الاجبار فَهُوَ مَصْرُوف الى أحد ثَلَاثَة أَشْيَاء
اما الى الْعلم السَّابِق الَّذِي لَا مخرج للْعَبد مِنْهُ
وَلَا يُمكنهُ أَن يتَخَيَّر غَيره
واما الى فعل فعله الله تَعَالَى بِهِ على جِهَة الْعقَاب
كَقَوْلِه {بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم} واما الى
الْإِخْبَار عَن قدرته تَعَالَى على مَا يَشَاء كَقَوْلِه
تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى}
وَمَا ورد من الْآيَات وَالْأَحَادِيث ظَاهره التَّفْوِيض
فَهُوَ مَصْرُوف الى الْأَمر وَالنَّهْي الواقعين عَلَيْهِ
وانما غَلطت الْقَدَرِيَّة فِي هَذَا لأَنهم لَا يثبتون لله
تَعَالَى علما سَابِقًا بالأمور قبل وُقُوعهَا وَعلم الله
عِنْدهم مُحدث تَعَالَى الله عَمَّا يَقُوله الجاهلون علوا
كَبِيرا فاعتبروا حَال العَبْد من جِهَة الْأَمر وَالنَّهْي
والإستطاعة المركبة فِيهِ لَا من جِهَة الْعلم السَّابِق
(1/138)
وغلطت الجبرية لأَنهم اعتبروا حَال العَبْد
من جِهَة علم الله السَّابِق فِيهِ لَا من جِهَة الْأَمر
وَالنَّهْي الواقعين عَلَيْهِ وظنوا أَن علم الله تَعَالَى
بِجَمِيعِ مَا يَفْعَله العَبْد قبل فعله اياه اجبار مِنْهُ
لَهُ على الْفِعْل وكلا الْقَوْلَيْنِ غلط لأَنهم أخذُوا
بالطرف الْوَاحِد وَتركُوا الطّرف الآخر فَكَانَ الْمَذْهَب
أحسن الْمذَاهب لمن آثر الْخَلَاص والسلامة
وَرَأى المشيخة وَجلة الْعلمَاء الْوَقْف عَن الْكَلَام فِي
ذَلِك والخوض فِيهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اذا ذكر
الْقَضَاء فأمسكوا وَلم يكن نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَنهي الْعلمَاء عَن الْكَلَام فِي ذَلِك من أجل أَن هَذَا
أَمر لَا تمكن معرفَة الْحَقِيقَة مِنْهُ وانما كَانَ من أجل
دقته وخفائه وَأَنه أَمر الْخَطَأ فِيهِ أَكثر من الاصابة
فَأَنت ترى الْقَدَرِيَّة والجبرية الى يَوْمنَا هَذَا يختصمون
فِيهِ وناقض بَعضهم بَعْضًا وَلَا يصلونَ مِنْهُ الى شِفَاء
نفس وكل فرقة من الْفَرِيقَيْنِ يُفْضِي مذهبها الى شناعة اذا
ألزمتها فرت عَنْهَا
وكلا الطَّائِفَتَيْنِ قد أَخْطَأت فِي التَّأْوِيل وضلت عَن
نهج السَّبِيل ووصفت الله تَعَالَى بِصِفَات لَا تلِيق بِهِ
عِنْد ذَوي الْعُقُول
وَهَذِه أعزّك الله جملَة قَليلَة تفصيلها كثير وَهُوَ بَاب
ضيق المجال جدا والخائض فِيهِ تسبق اليه الظنة بِغَيْر مَا
يقتقده فَلذَلِك نتحامى الْكَلَام فِيهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا
نبهنا عَلَيْهِ مَعَ أَنا لم نضع كتَابنَا هَذَا للخوض فِي
المقالات انما وضعناه 20 ب لنبين الْمَوَاضِع الَّتِي نَشأ
مِنْهَا الْخلاف
لَكنا نقُول يَنْبَغِي لمن طلب هَذَا الشَّأْن وَلم يقنعه مَا
رَآهُ الْعلمَاء
(1/139)
وَأمرُوا بِهِ من ترك الْخَوْض فِيهِ أَن
يُرَاعِي أصلين فان صَحا لَهُ من معتقده فَليعلم أَنه قد أصَاب
فص الْحق وان أخطأهما أَو وَاحِدًا مِنْهُمَا فَليعلم أَنه قد
غلط فَليُرَاجع النّظر
أَحدهمَا أَنه لَا فَاعل على الْحَقِيقَة الا الله تَعَالَى
وان كل فَاعل غَيره انما يفعل بمعونة من عِنْده ومادة يمده
بهَا من فيضه وَحَوله وَلَو وَكله الى نَفسه لما كَانَ لَهُ
فعل الْبَتَّةَ
وَالثَّانِي أَن أَفعَال الْبَارِي عز وَجل كلهَا حِكْمَة
مَحْضَة لَا عَبث فِيهَا وَعدل مَحْض لَا جور فِيهِ وَحسن
مَحْض لَا قبح فِيهِ وَخير مَحْض لَا شَرّ فِيهِ وَأَن هَذِه
الْأَشْيَاء انما تعرض فِي أفعالنا اما لوُقُوع الْأَمر
وَالنَّهْي علينا واما لما ركز فِي خلقتنا من الْقُوَّة
الْعَقْلِيَّة الَّتِي ترينا بعض الْأَشْيَاء حسنا وَبَعضهَا
قبيحا وكلا الصفتين لَا يُوصف بهما الْبَارِي سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لِأَنَّهُ لَا آمُر فَوْقه وَلَا ناهي وَهُوَ خَالق
الْعقل وموجده
وَجُمْلَة ذَلِك أَنه لَا يشبه شَيْئا من الْمَخْلُوقَات فِي
جِهَة من الْجِهَات فَكل قَول أداك الى تشبيهه بخلقه فِي ذَات
أَو فعل فارفضه رفض النواة وانبذه نبذ القذاة وَاعْلَم أَن
الْحق فِي غَيره فابحث عَلَيْهِ حَتَّى تظفر بِهِ وان لم
يتَّفق لَك فهم الْغَرَض مِنْهُ وَالْمرَاد فاشدد يدك
بِعُرْوَة هَذَا الإعتقاد وَلَا تتهم بارئك فِي حكمته وَلَا
تنازعه فِي قدرته وَاعْلَم بِأَنَّهُ غَنِي عَنْك وَأَنت
(1/140)
مفتقر اليه ووارد بِمَا تزودت من عَمَلك
عَلَيْهِ تبَارك الْمُنْفَرد بأقضيته وَأَحْكَامه الَّذِي لَا
يُنَازع فِي نقضه وابرامه وَلَا يمتري العاقلون فِي عدله وَلَا
ييأس المذنبون من عَفوه وفضله لَا رب سواهُ وَلَا معبود حاشاه
(1/141)
|