الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف الْبَاب الرَّابِع فِي الْخلاف الْعَارِض
من جِهَة الْعُمُوم وَالْخُصُوص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -
(1/143)
هَذَا الْبَاب نَوْعَانِ
أَحدهمَا يعرض فِي مَوْضُوع اللَّفْظَة المفردة
وَالثَّانِي يعرض فِي التَّرْكِيب
فَأَما الَّذِي يعرض فِي مَوْضُوع اللَّفْظَة المفردة فنحو
الْإِنْسَان فَإِنَّهُ يسْتَعْمل عُمُوما وخصوصا
أما الْعُمُوم فكقوله تَعَالَى {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا
غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} 21 أوقوله {إِن الْإِنْسَان لفي
خسر} وَيدل على أَنه لفظ عَام لَا يخص وَاحِدًا دون آخر قَوْله
{إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} فاستثنى
مِنْهُ وَلَا يسْتَثْنى الا من جملَة وَنَحْو هَذَا قَول
الْعَرَب أهلك النَّاس الدِّينَار وَالدِّرْهَم وَقَوْلهمْ
الْملك أفضل من الْإِنْسَان والانسان متعبد دون سَائِر
الْحَيَوَان
وَالْخُصُوص نَحْو قَوْلهم جَاءَنِي الانسان الَّذِي تعلم
وَلَقِيت الرجل الَّذِي كلمك وَقَوله شربت المَاء وأكلت الْخبز
وَلم يشرب جَمِيع
(1/145)
المَاء وَلَا أكل جَمِيع الْخبز وَهَذَا
كثير مَشْهُور تغني شهرته عَن الْإِكْثَار مِنْهُ
وَقد يَأْتِي من هَذَا الْبَاب فِي الْقُرْآن الْعَظِيم
والْحَدِيث أَشْيَاء يتَّفق الْجَمِيع على عمومها أَو على
خصوصها وَأَشْيَاء يَقع فِيهَا الْخلاف
فَمن الْعُمُوم الَّذِي لم يخْتَلف فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يَا
أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} و {يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد
الله حق} وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزعيم
عَارِم وَالْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على
الْمُدعى عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِك كثير
وَمن الْخُصُوص الَّذِي لم يخْتَلف فِيهِ قَوْله تَعَالَى
{الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم
فَاخْشَوْهُمْ} وَهَذَا القَوْل لم يقلهُ جَمِيع النَّاس وانما
قَالَه رجل وَاحِد وَهُوَ نعيم بن مَسْعُود وَلَا جمع لَهُم
جَمِيع النَّاس وانما جمع لَهُم جُزْء مِنْهُم
(1/146)
وَمِمَّا وَقع فِيهِ الْخلاف فَاحْتَاجَ
الى فضل نظر قَوْله تَعَالَى {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم
أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله}
قَالَ قوم ان هَذِه الْآيَة نزلت عُمُوما ثمَّ خصصت بقوله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم صفح لأمتي عَمَّا حدثت بِهِ نفوسها مَا لم
تكلم بِهِ أَو تعْمل وَرُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
أَنَّهَا قَالَت هِيَ خُصُوص فِي الْكَافِر يحاسبه الله بِمَا
أسر وأعلن وَالْقَوْل الأول أصح وأوضح لقَوْله تَعَالَى باثر
ذَلِك {فَيغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} وَلَا خلاف فِي
أَن الْكَافِر معذب غير مغْفُور لَهُ فَدلَّ على أَن الْخطاب
وَقع عُمُوما لَا خُصُوصا ثمَّ خصص بِمَا ذَكرْنَاهُ
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {كل لَهُ قانتون} قَالَ قوم هَذَا
خُصُوص فِي أهل الطَّاعَة وَاحْتَجُّوا بِأَن كلا وان كَانَت
فِي غَالب امرها للْعُمُوم فَإِنَّهَا قد تَأتي للخصوص
كَقَوْلِه تَعَالَى {إِنِّي وجدت امْرَأَة تملكهم وَأُوتِيت من
كل شَيْء}
(1/147)
21 - ب وَقَوله {ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم
تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} ثمَّ قَالَ {فَأَصْبحُوا لَا
يرى إِلَّا مساكنهم} وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ عُمُوم وَاخْتلف
الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فَقَالَ قوم أَرَادَ أَنهم مطيعون
لَهُ يَوْم الْقِيَامَة وَهَذَا يرْوى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي
الله عَنْهُمَا وَقَالَ آخَرُونَ مطيعون فِي الدُّنْيَا
وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بِالطَّاعَةِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ
بَعضهم طَاعَة الْكَافِر سُجُود ظله لله عز وَجل وَاحْتَجُّوا
بقوله تَعَالَى {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض
طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} وَقَالَ
آخَرُونَ مَعْنَاهُ أَن كل مَا خلق الله تَعَالَى فَفِيهِ أثر
الصَّنْعَة قَائِم وميسم الْعُبُودِيَّة شَاهد أَن لَهُ
خَالِقًا حكيما لِأَن أصل الْقُنُوت فِي اللُّغَة الْقيام
وَيدل عَلَيْهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد سُئِلَ
أَي الصَّلَاة أفضل فَقَالَ طول الْقُنُوت فالخلق كلهم مؤمنهم
وكافرهم قائمون بالعبودية اما اقرارا بألسنتهم واما بأثر
الصَّنْعَة الْبَيِّنَة فيهم
(1/148)
وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله تَعَالَى {لَا
إِكْرَاه فِي الدّين} قَالَ قوم هَذَا خُصُوص فِي أهل الْكتاب
لَا يكْرهُونَ على الْإِسْلَام اذا أدواالجزية وَهُوَ قَول
الشّعبِيّ
وَكَانَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يرَاهُ أَيْضا
خُصُوصا وَفَسرهُ فَقَالَ مَعْنَاهُ أَن الْمَرْأَة من
الْأَنْصَار كَانَت لَا يعِيش لَهَا ولد فتنذر على نَفسهَا
لَئِن عَاشَ لتهودنه فَلَمَّا أَجلي بَنو النَّضِير اذا فيهم
نَاس من أَبنَاء الْأَنْصَار فَقَالَت الْأَنْصَار يَا رَسُول
الله أَبْنَاؤُنَا فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة
وَقَالَ قوم هِيَ عُمُوم ثمَّ نسخت بقوله عز وَجل {جَاهد
الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ}
وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله تَعَالَى {علم الْإِنْسَان مَا لم
يعلم}
(1/149)
فَذهب قوم الى أَنه خُصُوص وَاخْتلفُوا فِي
حَقِيقَة ذَلِك فَقَالَ بَعضهم أَرَادَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا}
وَقَالَ بَعضهم أَرَادَ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وعلمك مَا لم تكن تعلم}
وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ عُمُوم فِي جَمِيع النَّاس وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيح وَمَا تقدم لَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيل
وَمن ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤمن يَأْكُل
فِي معى وَاحِد وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء قَالَ
قوم هَذَا خُصُوص فِي جَهْجَاه الْغِفَارِيّ وردعلى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيد الاسلام فحلبت لَهُ سبع شِيَاه
فَشرب لَبنهَا ثمَّ أسلم فحلبت لَهُ شَاة وَاحِدَة فكفته فَذكر
ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ هَذِه
الْمقَالة
فَقَالَ 22 أقوم أَنه عُمُوم فِي كل كَافِر وَاخْتلفُوا فِي
حَقِيقَة مَعْنَاهُ
(1/150)
فَقَالَ قوم مَعْنَاهُ أَن الْمُؤمن
يُسَمِّي الله تَعَالَى على طَعَامه فَتكون فِيهِ الْبركَة
وَالْكَافِر بِخِلَاف ذَلِك
وَقَالَ آخَرُونَ انما ضرب هَذَا مثلا للزهادة فِي الدُّنْيَا
والحرص عَلَيْهَا فَجعل الْمُؤمن لقناعته باليسير من
الدُّنْيَا كالآكل فِي معى وَاحِد وَالْكَافِر لشدَّة رغبته
فِي الدُّنْيَا كالآكل فِي سَبْعَة أمعاء
وَهَذَا القَوْل أصح الْأَقْوَال وَيشْهد لصِحَّته مَا رَوَاهُ
أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم
مَا يخرج الله لكم من بَرَكَات الأَرْض فَقَالَ لَهُ رجل يَا
رَسُول الله هَل يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ فَسكت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى ظننا أَنه يُوحى اليه
ثمَّ مسح الْعرق عَن جَبينه وَقَالَ أَيْن السَّائِل فَقَالَ
هَا أَنا ذَا يَا رَسُول الله فَقَالَ ان الْخَيْر لَا يَأْتِي
الا بِالْخَيرِ ثَلَاثًا وَلَكِن هَذَا المَال خضرَة حلوة وان
مِمَّا ينْبت الرّبيع مَا يقتل حَبطًا أَو يلم الا آكِلَة
الْخضر تَأْكُل حَتَّى اذا امْتَلَأت خاصرتاها اسْتقْبلت
الشَّمْس فبالت وثلطت ثمَّ عَادَتْ فَأكلت ان هَذَا المَال
خضرَة حلوة من أَخذه بِحقِّهِ وَوَضعه فِي حَقه فَنعم المعونة
هُوَ وَمن أَخذه بِغَيْر حَقه وَوَضعه فِي غير حَقه كَانَ
كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع
(1/151)
وَنَحْو من هَذَا أَيْضا قَول أبي ذَر
رَحمَه الله تخضمون ونقضم والموعد الله
والخضم الْأكل بالفم كُله فَضَربهُ مثلا للرغبة فِي الدُّنْيَا
والقضم الْأكل بأطراف الْأَسْنَان فَضَربهُ مثلا للقناعة ونيل
الْبلْغَة من الْعَيْش
وَقيل الخضم أكل الرطب والقضم أكل الْيَابِس وَهُوَ نَحْو
الْمَعْنى الأول
وَقد يَأْتِي من هَذَا الْبَاب مَا مَوْضُوعه فِي اللُّغَة على
الْعُمُوم ثمَّ تخصصه الشَّرِيعَة كالمتعة فَإِنَّهَا عِنْد
الْعَرَب اسْم لكل شَيْء استمتع بِهِ لَا يخص بِهِ شَيْء دون
آخر ثمَّ نقلت عَن ذَلِك واستعملت فِي الشَّرِيعَة على
ضَرْبَيْنِ
أَحدهمَا فِي الْمُتْعَة الَّتِي كَانَت مُبَاحَة فِي أول
الأسلام ثمَّ نهي عَنْهَا وَنسخت بِالنِّكَاحِ وَالْوَلِيّ
وَالثَّانِي مَا تمتّع بِهِ الْمَرْأَة من مهرهَا كَقَوْلِه
تَعَالَى {ومتعوهن على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره} وَلأَجل
هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَقع الْخلاف فِي قَوْله تَعَالَى
{فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ
فَرِيضَة}
(1/152)
فَكَانَ ابْن عَبَّاس يذهب بِمَعْنَاهُ الى
الْمُتْعَة الأولى وَذهب جمَاعَة الْفُقَهَاء الى أَن
الْمُتْعَة الأولى مَنْسُوخَة وَأَن هَذِه الْآيَة كَالَّتِي
من الْبَقَرَة وَأَن معنى قَوْله 22 ب {فَآتُوهُنَّ
أُجُورهنَّ} انما أَرَادَ الْمهْر
وَالدَّلِيل على صِحَة قَول الْجَمَاعَة قَوْله {فانكحوهن
بِإِذن أهلهن} فَهَذَا الْمهْر بِإِجْمَاع
(1/153)
|