الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف

الْبَاب الْخَامِس فِي الْخلاف الْعَارِض من جِهَة الرِّوَايَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(1/155)


هَذَا الْبَاب لَا تتمّ الْفَائِدَة الَّتِي قصدناها مِنْهُ الا بِمَعْرِِفَة الْعِلَل الَّتِي تعرض للْحَدِيث فتحيل مَعْنَاهُ فَرُبمَا أوهمت فِيهِ مُعَارضَة بعضه لبَعض وَرُبمَا ولدت فِيهِ اشكالا يحوج الْعلمَاء الى طلب التَّأْوِيل الْبعيد
وَنحن نذْكر الْعِلَل كم هِيَ وَنَذْكُر من كل نوع مِنْهَا مِثَالا أَو أَمْثِلَة يسْتَدلّ بهَا على غَيرهَا ان شان الله تَعَالَى
اعْلَم أَن الحَدِيث الْمَأْثُور عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن أَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم تعرض لَهُ ثَمَانِي علل
أولاها فَسَاد الْإِسْنَاد
وَالثَّانيَِة من جِهَة نقل الحَدِيث على مَعْنَاهُ دون لَفْظَة
وَالثَّالِثَة من جِهَة الْجَهْل بالإعراب
وَالرَّابِعَة من جِهَة التَّصْحِيف
وَالْخَامِسَة من جِهَة اسقاط شَيْء من الحَدِيث لَا يتم الْمَعْنى الا بِهِ
وَالسَّادِسَة أَن ينْقل الْمُحدث الحَدِيث ويغفل نقل السَّبَب الْمُوجب لَهُ أَو بِسَاط الْأَمر الَّذِي جر ذكره
وَالسَّابِعَة أَن يسمع الْمُحدث بعض الحَدِيث ويفوته سَماع بعضه
وَالثَّامِنَة نقل الحَدِيث من الصُّحُف دون لِقَاء الشُّيُوخ

(1/157)


الْعلَّة الأولى وَهِي فَسَاد الاسناد وَهَذِه الْعلَّة أشهر الْعِلَل عِنْد النَّاس حَتَّى ان كثيرا مِنْهُم يتَوَهَّم أَنه اذا صَحَّ الْإِسْنَاد صَحَّ الحَدِيث وَلَيْسَ كَذَلِك فانه قد يتَّفق أَن يكون رُوَاة الحَدِيث مشهورين بِالْعَدَالَةِ معروفين بِصِحَّة الدّين وَالْأَمَانَة غير مطعون عَلَيْهِم وَلَا مستراب بنقلهم وَتعرض مَعَ ذَلِك لأحاديثهم أَعْرَاض على وُجُوه شَتَّى من غير قصد مِنْهُم الى ذَلِك على مَا ترَاهُ فِي بَقِيَّة هَذَا الْبَاب ان شَاءَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
والإسناد يعرض لَهُ الْفساد من أوجه
مِنْهَا الْإِرْسَال وَعدم الإتصال
ومنهاأن يكون بعض رُوَاته صَاحب بِدعَة أَو مُتَّهمًا بكذب وَقلة ثِقَة أَو مَشْهُورا ببله وغفلة أَو يكون متعصبا لبَعض الصَّحَابَة منحرفا عَن بَعضهم فَإِن من كَانَ مَشْهُورا بالتعصب ثمَّ روى حَدِيثا فِي تَفْضِيل من يتعصب لَهُ وَلم يرد من غير طَرِيقه لزم أَن يستراب بِهِ وَذَلِكَ أَن افراط عصبية الانسان لمن يتعصب لَهُ وَشدَّة محبته 23 أيحمله على افتعال الحَدِيث وان لم يفتعله بدله وَغير بعض حُرُوفه كنحو مَا

(1/158)


فعلت الشِّيعَة فَإِنَّهُم رووا أَحَادِيث كَثِيرَة فِي تَفْضِيل على رَضِي الله عَنهُ وَوُجُوب الْخلَافَة لَهُ ينكرها أهل السّنة مثل روايتهم أَن نجما سقط على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ انْظُرُوا فَفِي منزل من وَقع فَهُوَ الْخَلِيفَة بعدِي فنظروا فَإِذا هُوَ قد سقط فِي دَار عَليّ فَأكْثر النَّاس فِي ذَلِك الْكَلَام فَأنْزل الله تَعَالَى {والنجم إِذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} فَهَذَا حَدِيث لَا يشك ذُو لب فِي أَنه مَصْنُوع مركب على الْآيَة
وكالذي فعلت الْمُعْتَزلَة فانهم تجاوزوا تَغْيِير الحَدِيث الى أَن راموا تَغْيِير الْقُرْآن فَلم يَصح لَهُم ذَلِك فِي الْقُرْآن لإِجْمَاع الْأمة عَلَيْهِ وَصَحَّ فِي كثير من الحَدِيث فغيروا فِي الْمُصحف مَوَاضِع كَثِيرَة كقراءتهم من {شَرّ مَا}

(1/159)


خلق بِالتَّنْوِينِ وقراءتهم قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَسَاءَ بسين غير مُعْجمَة وَفتح الْهمزَة وَقَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} ان مَعْنَاهُ دفعنَا وأنشدوا قَول المثقب

(1/160)


تَقول اذا ذرأت لَهَا وضيني
أَهَذا دينه أبدا وديني
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا انما يُقَال فِي الدّفع درأت بدال غير مُعْجمَة وَكَذَلِكَ رُوِيَ بَيت المثقب بدال غير مُعْجمَة وانما ذرأنا بِالذَّالِ مُعْجمَة بِمَعْنى خلقنَا
وَقد رُوِيَ عَن بَعضهم أَنه قَرَأَ وَلَقَد درأنا بِالدَّال غير مُعْجمَة
وَمِمَّا يبْعَث على الإسترابة بِنَقْل النَّاقِل أَن يعلم مِنْهُ حرص على الدُّنْيَا وتهافت على الإتصال بالملوك ونيل المكانة والحظوة عِنْدهم عِنْدهم فان من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة لم يُؤمن عَلَيْهِ التَّغْيِير والتبديل والإفتعال للْحَدِيث وَالْكذب حرصا على مكسب يحصل عَلَيْهِ أَلا ترى الى قَول الْقَائِل
وَلست وان قربت يَوْمًا ببائع
خلاقي وَلَا ديني ابْتِغَاء التحبب ... ويعتده قوم كثير تِجَارَة
ويمنعني من ذال ديني ومنصبي
وَقد نبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَحْو هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ بقوله ان الْأَحَادِيث ستكثر بعدِي كَمَا كثرت عَن الْأَنْبِيَاء قبلي فَمَا جَاءَكُم عني

(1/161)


فأعرضوه على كتاب الله تَعَالَى فَمَا وَافق كتاب الله فَهُوَ عني قلته أَو لم لم أَقَله 23 ب
وَقد رُوِيَ أَن قوما من الْفرس وَالْيَهُود وَغَيرهم لما رأوأ الْإِسْلَام قد ظهر وَعم ودوخ وأذل جَمِيع الامم وَرَأَوا أَنه لَا سَبِيل الى مناصبته رجعُوا الى الْحِيلَة والمكيدة فأظهروا الْإِسْلَام عَن غير رَغْبَة فِيهِ وَأخذُوا أنفسهم بالتعبد والتقشف فَلَمَّا حمد النَّاس طريقتهم ولدُوا الْأَحَادِيث والمقالات وَفرقُوا النَّاس فرقا وَأكْثر ذَلِك فِي الشِّيعَة كَمَا يحْكى عَن عبد الله بن سبأ الْيَهُودِيّ أَنه أسلم واتصل بعلي رَضِي الله عَنهُ وَصَارَ من شيعته فَلَمَّا أخبر بقتْله وَمَوته قَالَ كَذبْتُمْ وَالله لَو جئتموني بدماغه مصرورا فِي سبعين صرة مَا صدقت بِمَوْتِهِ وَلَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جورا نجد ذَلِك فِي كتاب الله فَصَارَت مقَالَة يعرف أَهلهَا

(1/162)


بالسبئية وانه قَالَ ان عليا هُوَ الْإِلَه وَأَنه يحيي الْمَوْتَى وَأَنه غَابَ وَلم يمت
وَإِذا كَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يتشدد فِي الحَدِيث ويتوعد عَلَيْهِ وَالزَّمَان زمَان وَالصَّحَابَة متوافرون والبدع لم تظهر وَالنَّاس فِي الْقرن الَّذِي اثنى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا ظَنك بِالْحَال فِي الأزمنه الَّتِي ذمها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كثرت الْبدع وَقلت الْأَمَانَة
وللبخاري رَحمَه الله فِي هَذَا الْبَاب غناء مشكور وسعي مبرور وَكَذَلِكَ لمُسلم وَابْن معِين فَإِنَّهُم انتقدوا الحَدِيث وحرروه ونبهوا على ضعفاء الْمُحدثين والمتهمين بِالْكَذِبِ حَتَّى ضج من ذَلِك من كَانَ فِي عصرهم وَكَانَ ذَلِك أحد الْأَسْبَاب الَّتِي أوغرت صُدُور الْفُقَهَاء على البُخَارِيّ فَلم يزَالُوا يرصدون لَهُ المكاره حَتَّى أمكنتهم فِيهِ فرْصَة بِكَلِمَة قَالَهَا فكفروه بهَا وامتحنوه وطردوه من مَوضِع الى مَوضِع وَحَتَّى حمل

(1/163)


بعض النَّاس قلقه من ذَلِك على أَن قَالَ
وَلابْن معِين فِي الرِّجَال مقَالَة
سيسأل عَنْهَا والمليك شَهِيد ... فَإِن يَك حَقًا قَوْله فَهُوَ غيبَة
وان يَك زورا فالعقاب شَدِيد
وَمَا أخلق قَائِل هَذَا الشّعْر بِأَن يكون دفع مغرما وَأسر حسوا فِي ارتغاء لِأَن ابْن معِين فِيمَا فعل أَجْدَر بِأَن يكون مأجورا من أَن يكون موزورا وَألا يكون فِي ذَلِك 24 أملوما بل مشكورا
الْعلَّة الثَّانِيَة وَهِي نقل الحَدِيث على الْمَعْنى دون لفظ الحَدِيث بِعَيْنِه وَهَذَا الْبَاب يعظم الْغَلَط فِيهِ جدا وَقد نشأت مِنْهُ بَين النَّاس شغوب شنيعة وَذَاكَ أَن أَكثر الْمُحدثين لَا يراعون أَلْفَاظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي نطق بهَا وانما ينقلون الى من بعدهمْ معنى مَا أَرَادَهُ بِأَلْفَاظ أخر وَلذَلِك تَجِد الحَدِيث الْوَاحِد فِي الْمَعْنى الْوَاحِد يرد بِأَلْفَاظ شَتَّى ولغات مُخْتَلفَة يزِيد بعض الفاظها على بعض وَينْقص بَعْضهَا عَن بعض على أَن اخْتِلَاف أَلْفَاظ الحَدِيث قد

(1/164)


يعرض من أجل تَكْرِير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مجَالِس عدَّة مُخْتَلفَة وَمَا كَانَ من الحَدِيث بِهَذِهِ الصّفة فَلَيْسَ كلامنا فِيهِ وانما كلامنا فِي اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ الَّتِي تعرض من أجل نقل الحَدِيث على الْمَعْنى
وَوجه الْغَلَط الْوَاقِع من هَذِه الْجِهَة أَن النَّاس يتفاضلون فِي قرائحهم وأفهامهم كَمَا يتفاضلون فِي صورهم وألوانهم وَغير ذَلِك من أُمُورهم وأحوالهم فَرُبمَا اتّفق أَن يسمع الرَّاوِي الحَدِيث من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من غَيره فيتصور مَعْنَاهُ فِي نَفسه على غير الْجِهَة الَّتِي أرادها فَإِذا عبر عَن ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي تصور فِي نَفسه على غير الْجِهَة الَّتِي أرادها فاذا عبر عَن ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي تصور فِي نَفسه بِأَلْفَاظ أخر كَانَ قد حدث بِخِلَاف مَا سمع عَن غير قصد مِنْهُ الى ذَلِك وَذَلِكَ أَن الْكَلَام الْوَاحِد قد يحْتَمل مَعْنيين وَثَلَاثَة وَقد تكون فِيهِ اللَّفْظَة الْمُشْتَركَة الَّتِي تقع على الشَّيْء وضده كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصوا الشَّوَارِب وأعفوا اللحا فَقَوله أعفوا يحْتَمل أَن يُرِيد وفروا وكثروا وَيحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ قللُوا وخففوا فَلَا يفهم مُرَاده من ذَلِك الا بِدَلِيل من لفظ آخر والمعنيان جَمِيعًا موجودان فِي كَلَام الْعَرَب يُقَال عَفا وبر النَّاقة اذا كثر وَكَذَلِكَ عَفا لَحمهَا قَالَ الله

(1/165)


عز وَجل {حَتَّى عفوا} أَي كَثُرُوا قَالَ جرير ... وَلَكنَّا نعض السَّيْف مِنْهَا ... بأسؤق عافيات اللَّحْم كوم ...
وَيُقَال عَفا الْمنزل اذا درس قَالَ زُهَيْر ... عَفا من آل فَاطِمَة الجواء ... فِيمَن فالقوادم فالحساء ...
فَفِي مثل هَذَا يجوز أَن يذهب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الى الْمَعْنى الْوَاحِد 24 ب وَيذْهب الرَّاوِي عَنهُ الى الْمَعْنى الآخر فَإِذا أدّى معنى مَا سمع دون لَفظه بِعَيْنِه كَانَ قد روى عَنهُ ضد مَا أَرَادَهُ غير عَامِد
وَلَو أدّى لَفظه بِعَيْنِه لَأَوْشَكَ أَن يفهم مِنْهُ الآخر مَا لم يفهم الأول
وَقد علم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن هَذَا سيعرض بعده فَقَالَ محذرا من ذَلِك نضر

(1/166)


الله امْرَءًا سمع مَقَالَتي فوعاها وأداها كَمَا سَمعهَا فَرب مبلغ أوعى من مبلغ
وَمن نَحْو هَذَا مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن رجلا جَاءَهُ فَقَالَ أَيجوزُ اتيان الْمَرْأَة فِي دبرهَا فَقَالَ نعم فَلَمَّا أدبر الرجل قَالَ ردُّوهُ عَليّ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ فِي أَي الخرطتين أردْت اما من دبرهَا فِي قبلهَا فَنعم وَأما من دبرهَا فِي دبرهَا فَلَا
وَقد غلط قوم فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي هَذَا الْمَعْنى اذا حَاضَت الْمَرْأَة حرم الجحران فتوهموا أَن هَذَا الْكَلَام يَنْفَكّ مِنْهُ جَوَاز الْإِتْيَان فِي الدبر وَهَذَا غلط شَدِيد مِمَّن تَأَوَّلَه
وَقد رَوَاهُ بَعضهم الجحران بِضَم النُّون وَزعم أَن الجحران الْفرج ذكر ذَلِك ابْن قُتَيْبَة
وَالرِّوَايَة الأولى هِيَ الْمَشْهُورَة وَلَيْسَ فِي الحَدِيث شَيْء مِمَّا توهموه وانما كَانَ يلْزم مَا قَالُوهُ لَو كَانَت الطَّهَارَة من الْمَحِيض شرطا فِي جَوَاز اتيان الْمَرْأَة فِي جحريها مَعًا فَكَانَ يلْزم عِنْد ذَلِك أَن يكون ارْتِفَاع الطَّهَارَة

(1/167)


سَببا لتحريمهما مَعًا كَمَا كَانَ شرطا فِي تحليلهما مَعًا فَإِذا لم يَجدوا سَبِيلا الى تَصْحِيح هَذِه الدَّعْوَى لم يلْزم مَا قَالُوهُ
وانما الْمَعْنى فِي قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن فرج الْمَرْأَة يُخَالف دبرهَا فِي اباحة أَحدهمَا وَتَحْرِيم الآخر وَالْإِبَاحَة الَّتِي خَالَفت بَينهمَا معلقَة بِشَرْط الطَّهَارَة من الْحيض فَإِذا ارْتَفع شَرط الطَّهَارَة ارْتَفَعت الْإِبَاحَة الَّتِي كَانَت معلقَة بِهِ فاستويا مَعًا فِي التَّحْرِيم لارْتِفَاع السَّبَب الَّذِي فرق بَينهمَا وَهَذَا كَقَوْل قَائِل لَو قالحرم الشرابان يُرِيد الْخمر والنبيذ أَي اسْتَويَا فِي التَّحْرِيم لِأَن النَّبِيذ اذا أسكر النَّبِيذ انما خَالف الْخمر بِشَرْط عدم الْإِسْكَار فَلَمَّا ذهب السَّبَب وَالشّرط الَّذِي فرق بَينهمَا تَسَاويا مَعًا فِي التَّحْرِيم فَكَمَا أَن هَذَا القَوْل لَا يلْزم مِنْهُ اباحة الْخمر قبل وجود الْإِسْكَار فِي النَّبِيذ فَكَذَلِك قَول عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَا يلْزم مِنْهُ اباحة نِكَاح الدبر قبل وجود الْحيض فِي الْفرج
وَنَظِير هَذَا أَيْضا 25 أأن رجلا لَو كَانَ مَعَه ثَوْبَان أَحدهمَا فِيهِ نَجَاسَة تحرم عَلَيْهِ الصَّلَاة بِهِ وَالْآخر طَاهِر يجوز لَهُ الصَّلَاة بِهِ ثمَّ أَصَابَت الثَّانِي نَجَاسَة فَقَالَ لَهُ قَائِل قد حرمت الصَّلَاة عَلَيْك بالثوبين انما أَرَادَ أَن الثَّوْب الثَّانِي قد صَار مثل الأول فِي التَّحْرِيم لعدم الشَّرْط المفرق بَينهمَا
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ينحو نَحْو هَذَا وان لم يكن مثله

(1/168)


من جَمِيع الْوُجُوه وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنهُ من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من سره أَن يذهب كثير من وحر صَدره فليصم شهر الصَّبْر وَثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر يُرِيد بِشَهْر الصَّبْر شهر رَمَضَان وَلَيْسَ المُرَاد أَن شهر الصَّبْر مُبَاح الْأكل فِيهِ لمن لم يسره ذهَاب وحر صَدره وانما مَعْنَاهُ فليضف الى شهر الصَّبْر الْوَاجِب صَوْمه على كل حَال ثَلَاثَة أَيَّام يصومها من كل شهر
وَمن طريف الْغَلَط الْوَاقِع فِي اشْتِرَاك الْأَلْفَاظ مَا رُوِيَ من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهب لعَلي رَضِي الله عَنهُ عِمَامَة تسمى السَّحَاب فاجتاز عَليّ رَحمَه الله متعمما بهَا فَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لمن كَانَ مَعَه أما رَأَيْتُمْ عليا فِي السَّحَاب أَو نَحْو هَذَا من اللَّفْظ فَسَمعهُ بعض المتشيعين لعَلي رَضِي الله عَنهُ فَظن أَنه يُرِيد السَّحَاب الْمَعْرُوف فَكَانَ ذَلِك سَببا لاعتقاد الشِّيعَة أَن عليا فِي السَّحَاب وَلذَلِك قَالَ اسحاق بن سُوَيْد الْفَقِيه

(1/169)


بَرِئت من الْخَوَارِج لست مِنْهُم
من الغزال مِنْهُم وَابْن بَاب ... وَمن قوم اذا ذكرُوا عليا
يردون السَّلَام على السَّحَاب ... وَلَكِنِّي أحب بِكُل قلبِي
وَأعلم أَن ذال من الصَّوَاب ... رَسُول الله وَالصديق حبا
بِهِ أَرْجُو غَدا حسن الثَّوَاب
وَقد جعل بعض الْعلمَاء من هَذَا الْبَاب الحَدِيث الْمَرْوِيّ فِي خلق آدم على صُورَة الرَّحْمَن قَالُوا وانما قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلق الله آدم على صورته وَالْهَاء رَاجِعَة الى آدم فَتوهم بعض السامعين أَنَّهَا عَائِدَة على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فنقله على الْمَعْنى دون اللَّفْظ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يلْزم وسنتكلم على هَذَا الحَدِيث اذا انتهينا الى مَوْضِعه من هَذَا الْبَاب ان شَاءَ الله تَعَالَى
فَهَذِهِ أَمْثِلَة من هَذَا النَّوْع تنبه على بَقِيَّته ان شَاءَ الله تَعَالَى
الْعلَّة الثَّالِثَة وَهِي الْجَهْل بالإعراب ومعاني كَلَام الْعَرَب 25 ب ومجازاتها وَذَلِكَ أَن كثيرا من رُوَاة الحَدِيث قوم جهال بِلِسَان الْعَرَب لَا يفرقون بَين

(1/170)


الْمَرْفُوع والمنصوب والمخفوض ولعمري لَو أَن الْعَرَب وضعت لكل معنى لفظا يُؤَدِّي عَنهُ لَا يلتبس بِغَيْرِهِ لَكَانَ لَهُم عذر من ترك تعلم الْإِعْرَاب وَلم يكن لَهُم حَاجَة اليه فِي معرفَة الْخَطَأ من الصَّوَاب
وَلَكِن الْعَرَب قد تفرق بَين الْمَعْنيين المتضادين بالحركات فَقَط وَاللَّفْظ وَاحِد أَلا ترى أَن الْفَاعِل وَالْمَفْعُول لَيْسَ بَينهمَا أَكثر من الرّفْع وَالنّصب فَرُبمَا حدث الْمُحدث بِالْحَدِيثِ فرقع لَفْظَة مِنْهُ يَنْوِي بهَا أَنَّهَا فاعلة وَنصب أُخْرَى يَنْوِي بهَا أَنَّهَا مفعولة فَنقل عَنهُ السَّامع ذَلِك الحَدِيث فَرفع مَا نصب وَنصب مَا رفع جهلا مِنْهُ بِمَا بَين الْأَمريْنِ فانعكس الْمَعْنى الى ضد مَا أَرَادَهُ الْمُحدث الأول
أَلا ترى أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقتل قرشي صبرا بعد الْيَوْم اذا جزمت اللَّام من يقتل كَانَ لَهُ معنى واذا رفعت كَانَ لَهُ معنى آخر
وَلَو أَن قَارِئًا قَرَأَ {هُوَ الأول وَالْآخر} فَفتح الْخَاء لَكَانَ قد كفر وأشرك بِاللَّه واذا كسر الْخَاء آمن ووحد فَلَيْسَ بَين الإنمان وَالْكفْر غير حَرَكَة

(1/171)


وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رحم الله امْرأ أصلح من لِسَانه وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ تعلمُوا الْفَرَائِض وَالسّنة واللحن كَمَا تتعلمون الْقُرْآن
واللحن اللُّغَة قَالَ الشَّاعِر
وَمَا هاج هَذَا الشوق الا حمامة
تبكت على خضراء سمر قيودها ... صدوح الضُّحَى مَعْرُوفَة اللّحن لم تزل
تقود الْهوى من مسعد ويقودها
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الله الْخَالِق البارئ المصور} لَيْسَ بَين الْإِيمَان وَالْكفْر فِيهِ غير فتح الْوَاو وَكسرهَا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين}
وَلَو أَن رجلَيْنِ تقدما الى حكم يَدعِي أَحدهمَا على صَاحبه بِثَوْب فقرره الحكم على ذَلِك فَإِنَّهُ ان قَالَ مَا أخذت لَهُ ثوب فَرفع أقرّ

(1/172)


بِالثَّوْبِ على نَفسه وَلَزِمَه احضار ثوب وان قَالَ مَا أخذت لَهُ ثوبا فنصب لم يقر بِشَيْء وَلَزِمتهُ الْيَمين ان لم تعم عَلَيْهِ بِهِ بَيِّنَة
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ رجل لامْرَأَته أَنْت طَالِق ان دخلت الدَّار فانه ان فتح الْهمزَة طلقت عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت 26 أدون تَأْخِير وان كسر الْهمزَة لم تطلق عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت وانما تطلق عَلَيْهِ فِيمَا يسْتَقْبل ان كَانَ مِنْهَا دُخُول فِي الدَّار
ويروى أَن الْكسَائي رَحمَه الله كتب اليه مَا تَقول فِي رجل قَالَ
فان ترفقي يَا هِنْد فالرفق أَيمن
وان تخرقي يَا هِنْد فالخرق أشأم ... فَأَنت طَلَاق وَالطَّلَاق عَزِيمَة
ثَلَاث وَمن يخرق أعق وأظلم
فَقَالَ الْكسَائي رَحمَه الله إِن كَانَ رفع الْعَزِيمَة وَنصب الثَّلَاث فَهِيَ ثَلَاث تَطْلِيقَات وان كَانَ نصب الْعَزِيمَة وَرفع الثَّلَاث فَهِيَ وَاحِدَة يُرِيد أَنه اذا رفع الْعَزِيمَة وَنصب الثَّلَاث صَار التَّقْدِير فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا وَالطَّلَاق عَزِيمَة على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير واذا نصب الْعَزِيمَة وَرفع الثَّلَاث لم ينْو ثَلَاث التَّقْدِيم وَصَارَ التَّقْدِير فَأَنت طَلَاق وَتمّ الْكَلَام ثمَّ قَالَ وَالطَّلَاق فِي حَال

(1/173)


عَزِيمَة الْمُطلق عَلَيْهِ ثَلَاث فَلم يكن فِي هَذَا الْكَلَام مَا يدل على أَن هَذَا الْمُطلق عزم على الثَّلَاث فَيقْضى عَلَيْهِ بِوَاحِدَة
وَقد يُمكن أَيْضا أَن يرفع الثَّلَاث والعزيمة مَعًا فَيكون التَّقْدِير فَأَنت طَالِق ثَلَاث وَالطَّلَاق عَزِيمَة فَيلْزم من ذَلِك ثَلَاث تَطْلِيقَات وَالله أعلم الْعلَّة الرَّابِعَة
وَهِي التَّصْحِيف وَهَذَا أَيْضا بَاب عَظِيم الْفساد فِي الحَدِيث جدا وَذَلِكَ أَن كثيرا من الْمُحدثين لَا يضبطون الْحُرُوف وَلَكنهُمْ يرسلونها ارسالا غير مُقَيّدَة وَلَا مثقفة اتكالا على الْحِفْظ فاذا غفل الْمُحدث عَمَّا كتب مُدَّة من زَمَانه ثمَّ احْتَاجَ الى قِرَاءَة مَا كتب أَو قرأءه غَيره فَرُبمَا رفع الْمَنْصُوب وَنصب الْمَرْفُوع كَمَا قُلْنَا فَانْقَلَبت الْمعَانِي الى أضدادها
وَرُبمَا تصحف لَهُ الْحَرْف بِحرف آخر لعدم الضَّبْط فِيهِ فانعكس الْمَعْنى الى نقيض المُرَاد بِهِ وَذَلِكَ أَن هَذَا الْخط الْعَرَبِيّ شديدالاشتباه وَرُبمَا لم يكن بَين الْمَعْنيين المتضادين غير الْحَرَكَة أَو النقطة كَقَوْلِهِم مكرم بِكَسْر الرَّاء اذا كَانَ فَاعِلا ومكرم بِفَتْح الرَّاء اذا كَانَ مَفْعُولا وَرجل أفرع بِالْفَاءِ اذا كَانَ تَامّ الشّعْر واقرع الْقَاف لَا شقر فِي رَأسه وَفِي الحَدِيث كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرع

(1/174)


وَقد جَاءَت من هَذَا الْبَاب أَشْيَاء كَثِيرَة طريفة عَن الْمُحدثين نَحْو مَا يرْوى عَن يزِيد بن 26 ب هَارُون أَنه روى كُنَّا جُلُوسًا حول بشر بن مُعَاوِيَة وانما هُوَ حول سَرِير مُعَاوِيَة

وكما روى عبد الرَّزَّاق يُقَاتلُون خور كرمان وانما هُوَ خوز الزَّاي مُعْجمَة
وكما صحف شُعْبَة التلب الْعَنْبَري فَرَوَاهُ بثاء مُثَلّثَة مَكْسُورَة

(1/175)


وَلَام سَاكِنة وانما هُوَ التلب بِالتَّاءِ مُعْجمَة بِاثْنَتَيْنِ وَكسر التَّاء وَاللَّام وَتَشْديد الْبَاء على وزن طمر وَيدل عَلَيْهِ قَول الشَّاعِر ... ان التلب لَهُ عرس يَمَانِية ... كَأَن فسوتها فِي الْبَيْت اعصار ... وروى بَعضهم دخلت الْجنَّة فَرَأَيْت فِيهَا حبائل اللُّؤْلُؤ وَلَا وَجه للحبائل هَهُنَا لِأَن الحبائل عِنْد الْعَرَب الشباك الَّتِي يصاد بهَا الوحوش واحدتها حبالة وَمن كَلَام الْعَرَب خش ذؤالة بالحبالة وانما هُوَ جنابذ اللُّؤْلُؤ والجنابذ جمع جنبذة وَهِي الْقبَّة

(1/176)


وَهَذَا النَّوْع كثير جدا وَقد وضع فِيهِ الدَّارَقُطْنِيّ رَحمَه الله كتابا مَشْهُورا سَمَّاهُ تَصْحِيف الْحفاظ
وَمن ظريف مَا وَقع مِنْهُ فِي كتاب مُسلم وَمُسْنَده الصَّحِيح نَحن يَوْم الْقِيَامَة على كَذَا انْظُر وَهَذَا شَيْء لَا يتَحَصَّل لَهُ معنى وَهَكَذَا نجده فِي أَكثر النّسخ وانما هُوَ نَحن يَوْم الْقِيَامَة على كوم والكوم جمع كومة وَهُوَ الْمَكَان المشرف فصحفه بعض النقلَة فَكتب نَحن يَوْم الْقِيَامَة على كَذَا فَقَرَأَ من قَرَأَ فَلم يفهم مَا هُوَ فَكتب فِي طرة الْكتاب انْظُر يَأْمر من قَرَأَ الْكتاب بِالنّظرِ فِيهِ وينبهه علنه فَوَجَدَهُ ثَالِث فَظَنهُ أَنه من الْكتاب فألحقه بمتنه الْعلَّة الْخَامِسَة
وَهِي اسقاط شَيْء من الحَدِيث لَا يتم الْمَعْنى الا بِهِ وَهَذَا النَّوْع أَيْضا قد

(1/177)


وَردت مِنْهُ أَشْيَاء كَثِيرَة فِي الحَدِيث كنحو مَا رَوَاهُ قوم عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن لَيْلَة الْجِنّ فَقَالَ مَا شَهِدَهَا منا أحد وَرُوِيَ عَنهُ من طَرِيق آخر أَنه رأى قوما من الزط فَقَالَ هَؤُلَاءِ أشبه من رَأَيْت بالجن لَيْلَة الْجِنّ فَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنه شَهِدَهَا والاول يدل على أَنه لم يشهدها فالحديثان كَمَا ترى متعارضان وانما أوجب التَّعَارُض بَينهمَا أَن الَّذِي روى الحَدِيث الأول أسقط مِنْهُ كلمة رَوَاهَا غَيره وانما الحَدِيث مَا شَهِدَهَا منا أحد غَيْرِي
الْعلَّة السَّادِسَة وَهِي أَن ينْقل الْمُحدث الحَدِيث ويغفل عَن نقل 27 أالسبب الموجبى لَهُ فَيعرض من ذَلِك اشكال فِي الحَدِيث أَو مُعَارضَة لحَدِيث آخر كنحو مَا رَوَاهُ قوم من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بالعرنيين الَّذين ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام وأغاروا على لقاح النَّبِي فامر بِقطع أَيْديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وَتركُوا بِالْحرَّةِ يستسقون فَلَا يسقون حَتَّى مَاتُوا

(1/178)


وَقد وَردت عَنهُ الرِّوَايَات من طرق شَتَّى أَنه نهى عَن الْمثلَة وانما عرض هَذَا التَّعَارُض من أجل أَن الَّذِي روى الحَدِيث الأول أغفل نقل سَببه الَّذِي أوجبه وَرَوَاهُ غَيره فَقَالَ انما فعل بهم ذَلِك لأَنهم مثلُوا براعيه فجزاهم بِمثل فعلهم وَمن الْفُقَهَاء من يرى أَن هَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام قبل أَن تنزل الْحُدُود ثمَّ نسخ
وَقد ذهب بعض الْعلمَاء فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان الله خلق آدم على صورته الى أَنه مِمَّا أغفل النَّاقِل ذكر السَّبَب الَّذِي قَالَه من أَجله
وَرووا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِرَجُل يلطم وَجه عَبده وَهُوَ يَقُول قبح الله وَجهك وَوجه من أشبهك فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اذا ضرب احدكم عَبده فليتق الْوَجْه فَإِن الله خلق آدم على صورته
قَالُوا فاهاء انما تعود على العَبْد فَلَمَّا روى الرَّاوِي الحَدِيث وأغفل رِوَايَة السَّبَب اوهم ظَاهره أَنَّهَا تعود على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا

(1/179)


وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ وَرَوَوْهُ غير معترض على رِوَايَة غَيرهم من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَنه قد جَاءَ فِي حَدِيث آخر خلق آدم على صُورَة الرَّحْمَن وَجَاء فِي حَدِيث آخر رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة وَهَذَا لَا يسوغ مَعَه شَيْء من الَّذِي قَالُوهُ
وَالثَّانِي أَن الحَدِيث لَهُ تَأْوِيل صَحِيح بِخِلَاف مَا ظنوه وَقد تكلم فِيهِ ابْن قُتَيْبَة فَلم يَأْتِ فِيهِ بمقنع بل جَاءَ بِمَا لَو سكت عَنهُ لَكَانَ أجدى بِمَا عَلَيْهِ
وَقد تكلم فِيهِ ابْن فورك فَأحْسن كل الْإِحْسَان وَنحن نذْكر مَا قَالَ بأوجز مَا يُمكن ونزيد مَا يتمم ذَلِك بحول الله تَعَالَى فَنَقُول ان الضَّمِير فِي قَوْله على صورته يجوز أَن يكون عَائِدًا على آدم وَيجوز أَن يكون عَائِدًا على الله تَعَالَى فَإِذا كَانَ عَائِدًا على آدم فالغرض من الحَدِيث الرَّد على الدهرية وَالْيَهُود والقدرية وَهَذَا من جَوَامِع كَلمه الَّتِي أوتيها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَوجه الرَّد على الدهرية من وَجْهَيْن

(1/180)


أَحدهمَا ان الدهرية قَالَت ان الْعَالم لَا أول لَهُ وَأَنه لَا يجوز أَن يتكون حَيَوَان الا من حَيَوَان آخر قبله فأعلمنا 27 ب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله خلق آدم على صورته الَّتِي شوهد عَلَيْهَا ابْتِدَاء من غير أَن يتكون فِي رحم كَمَا يتكون الْجَنِين علقَة ثمَّ مُضْغَة حَتَّى يتم خلقه
وَالثَّانِي أَن الدهرية تزْعم أَن للطبيعة وَالنَّفس الْكُلية فعلا فِي المحدثات المتكونة غير فعل الله تَعَالَى عَن قَوْلهم فأعلمنا أَيْضا أَن الله تَعَالَى خلقه على هَيئته الَّتِي عَلَيْهَا وَانْفَرَدَ بذلك دون مُشَاركَة من طبيعة وَلَا نفس
وَوجه الرَّد مِنْهُ على الْيَهُود لعنهم الله أَن الْيَهُود يَزْعمُونَ أَن آدم فِي الدُّنْيَا كَانَ على خلاف صورته فِي الْجنَّة وَأَن الله تَعَالَى لما أهبطه من جنته نقص قامته وَغير خلقته فأعلمنا بكذبهم فِيمَا يَزْعمُونَ وَأَعْلَمنَا أَنه خلقه فِي أول أمره على صورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْد هُبُوطه
وَوجه الرَّد مِنْهُ على الْقَدَرِيَّة أَن الْقَدَرِيَّة زعمت أَن افعال الْبشر مخلوقة لَهُم لَا لله تَعَالَى عَن قَوْلهم وَهُوَ نَحْو مَا ذهبت اليه الدهرية من أَن للنَّفس والطبيعة أفعالا غير فعل الله تَعَالَى فأفادنا أَيْضا بطلَان

(1/181)


قَوْلهم وَأَعْلَمنَا أَن الله تَعَالَى خلقه وَخلق جَمِيع أَفعاله فَهَذَا مَا فِي الْهَاء من القَوْل اذا كَانَت عَائِدَة على آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
واذا كَانَت عَائِدَة على الله تَعَالَى كَانَت اضافة صُورَة آدم اليه على وَجه التشريف والتنويه والتخصيص لاعلى معنى آخر مِمَّا يسْبق الى الْوَهم من مَعَاني الْإِضَافَة فَيكون كَقَوْلِهِم فِي الْكَعْبَة انها بَيت الله وَقد علمنَا أَن الْبيُوت كلهَا لله عز وَجل وَكَقَوْلِه {وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} وَقد علمنَا أَن جَمِيع الْبشر من مُؤمن وَكَافِر عباده وانما خصصه بِالْإِضَافَة الى الله تَعَالَى دون غَيره لِأَن الله تَعَالَى شرفه بِمَا لم يشرف بِهِ غَيره وَذَلِكَ أَنه عز وَجل شرف الْحَيَوَان على الجماد وَشرف الْإِنْسَان على جَمِيع الْحَيَوَان وَشرف الإنبياء عَلَيْهِم السَّلَام على جَمِيع نوع الْإِنْسَان وَشرف آدم على جَمِيع بنيه بِأَن خلقه دفْعَة من غير ذكر وَلَا أُنْثَى وَدون أَن ينْتَقل من النُّطْفَة الى الْعلقَة وَمن الْعلقَة الى المضغة وَسَائِر أَحْوَال الْإِنْسَان الَّتِي يتَصَرَّف فِيهَا الى حِين كَمَاله وَنسب خلقه الى نَفسه دون سَائِر الْبشر فَقَالَ {لما خلقت بيَدي} {ونفخت فِيهِ من روحي}

(1/182)


وأسجد لَهُ مَلَائكَته وَلم يَأْمُرهُم بِالسُّجُود لغيره فنبهنا عَلَيْهِ السَّلَام بِإِضَافَة صورته الى الله تَعَالَى على هَذِه الْمنزلَة الَّتِي تفرد بهَا دون غَيره وَيدل على صِحَة هَذَا التأونل قَوْله {ونفخت فِيهِ من روحي} وَقَوله {وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} 28 أوقوله {لما خلقت بيَدي} فَكَمَا لَا تدل اضافة هَذَا الْأَشْيَاء اليه على أَن لَهُ نفسا وروحا ويدين فَكَذَلِك اضافة الصُّورَة اليه لَا تدل على أَن لَهُ صُورَة وَقد يجوز فِي اضافة الصُّورَة الى الله تَعَالَى وَجه فِيهِ غموض ودقة وَذَلِكَ أَن الْعَرَب تسْتَعْمل الصُّورَة على وَجْهَيْن
أَحدهمَا الصُّورَة الَّتِي هِيَ شكل مخطط مَحْدُود بالجهات السِّت كَقَوْلِك صُورَة زيد وَصُورَة عَمْرو
وَالثَّانِي يُرِيدُونَ بِهِ صفة الشَّيْء الَّذِي لَا شكل لَهُ يحس وَلَا تخطيط وَلَا جِهَات محدوده كَقَوْلِك مَا صُورَة أَمرك وَكَيف كَانَت صُورَة قصتك يُرِيدُونَ بذلك الصّفة فقد يجوز أَن يكون معنى خلق آدم على صورته أَي على صفته فَيكون مصروفا الى الْمَعْنى الثَّانِي الَّذِي لَا تَحْدِيد فِيهِ

(1/183)


فَإِن قلت مَا معنى هَذِه الصّفة وَكَيف تَلْخِيص القَوْل فِيهَا فَالْجَوَاب أَن معنى ذَلِك أَن الله تَعَالَى جعله خَليفَة فِي أرضه وَجعل لَهُ عقلا يعلم بِهِ ويفكر ويسوس وَيُدبر وَيَأْمُر وَيُنْهِي وسلط على جَمِيع مَا فِي الْبر وَالْبَحْر وسخر لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض
وَقد قَالَ فِي نَحْو هَذَا بعض الْمُحدثين يمدح بعض خلفاء بني أُميَّة ... أمره من أَمر من ملكه ... فاذا مَا شَاءَ عافى وابتلى ...
فَيكون معنى قَوْلنَا فِي أَدَم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه خلق على صُورَة الله تَعَالَى كمعنى قَوْلنَا فِيهِ انه خَليفَة الله تَعَالَى وَهَذِه التأويلات كلهَا لَا تَقْتَضِي تَشْبِيها وَلَا تحديدا
فَإِن قلت كَيفَ تصنع بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة وَهَذَا لَا يمكنك فِيهِ شَيْء من التَّأْوِيل الْمُتَقَدّم وَلَا يَصح لَك حمله عَلَيْهِ فَالْجَوَاب أَن هَذَا الحَدِيث ورد بِلَفْظ مُشْتَرك يحْتَمل مَعْنيين
أَحدهمَا أَن يكون قَوْله فِي أحسن صُورَة رَاجعا الى الرَّائِي لَا الى المرئي فَيكون مَعْنَاهُ رَأَيْت رَبِّي وَأَنا فِي أحسن صُورَة
وَالثَّانِي أَن يكون قَوْله فِي أحسن صُورَة رَاجعا الى المرئي

(1/184)


وَهُوَ الله تَعَالَى فَيكون مَعْنَاهُ رَأَيْت رَبِّي على احسن صفة فَتكون الصُّورَة بِمَعْنى الصّفة الَّتِي لَا توجب تحديدا كَمَا ذكرنَا وَهَذَا فِي الْعَرَبيَّة كَقَوْلِك رَأَيْت زيدا وَأَنا فِي الدَّار فَيجوز أَن يكون قَوْلك فِي الدَّار لَك 28 ب كَأَنَّك قلت رَأَيْت زيدا وَأَنا فِي الدَّار وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى رأيب زيدا وَهُوَ فِي الدَّار وعَلى هَذَا تَقول رَأَيْت زيدا قَاعِدا مائما وَلَقِيت زيدا راكبين قَالَ الشَّاعِر ... فَإِذا لقيتك خاليين لتعلمن ... أيي وأيك فَارس الاحزاب ... فَإِذا كَانَ التَّقْدِير رَأَيْت رَبِّي وَأَنا فِي أحسن صُورَة كَانَ مَعْنَاهُ أَن الله تَعَالَى حسن صورته وَنَقله الى هَيْئَة يُمكنهُ مَعهَا رُؤْيَته اذ كَانَ الْبشر لَا تمكنهم رُؤْيَة الله تَعَالَى على الصُّورَة الَّتِي هم عَلَيْهَا حَتَّى ينقلوا الى صُورَة أُخْرَى غير خورهم أَلا تري أَن الْمُؤمنِينَ يرَوْنَ الله تَعَالَى على الصُّورَة الَّتِي هم عَلَيْهَا فِي الأخرة وَلَا يرونه فِي الدُّنْيَا لِأَن الله

(1/185)


تَعَالَى ينقلهم عَن صفاتهم الى صفاتهم الى صِفَات أُخْرَى أَعلَى وأشرف فَعجل الله تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْكَرَامَة قبل يَوْم الْقِيَامَة خُصُوصا دون الْبشر حَتَّى رأه وَشَاهده وَالله يُؤْتِي فَضله من يَشَاء وَيخْتَص بكرامته من يُرِيد لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون
وَذَا كَانَ ذَلِك رَاجعا الى الله تَعَالَى كَانَ مَعْنَاهُ أَنه راى ربه على أحسن مَا عوده من انعامه واحسانه واكرامه وامتنانه كَمَا تَقول للرجل كَيفَ كَانَت صُورَة أَمرك عِنْد لِقَاء الْملك فَيَقُول خير صُورَة أَعْطَانِي وأنعم عَليّ وأدناني من مَحل كرامته وَأحسن الي
فهذان تَأْوِيلَانِ صَحِيحَانِ خارجان على أساليب كَلَام الْعَرَب دون تكلّف وَلَا خُرُوج من مُسْتَعْمل الى تعسف
وَقد جَاءَ فِي بعض الحَدِيث انها كَانَت رُؤْيَة فِي الْمَنَام فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَانَ التَّأْوِيل وَاضحا لِأَنَّهُ لَا يُنكر رُؤْيَة الله تَعَالَى فِي الْمَنَام
وَرَوَاهُ بَعضهم رَأَيْت رَبِّي بِكَسْر الْبَاء وَقَالُوا هُوَ غُلَام كَانَ لعُثْمَان رَآهُ فِي النّوم وَرَوَاهُ آخَرُونَ رَأَيْت رئيي والرئي مَا يتَرَاءَى

(1/186)


للْإنْسَان من ملك أَو شَيْطَان أرده بذلك أَنه رأى جِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لَا رب غَيره الْعلَّة السَّابِعَة
وَهِي أَن يسمع الْمُحدث بعض الحَدِيث ويفوته سَماع بعضه كنحو مَا رُوِيَ من أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أخْبرت أَن أَبَا هُرَيْرَة حدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ان يكن الشؤم فَفِي ثَلَاث الدَّار وَالْمَرْأَة وَالْفرس وَهَذَا حَدِيث معَارض لقَوْله 29 أصلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا عدوى وَلَا هَامة وَلَا صفر وَلَا غول وَقد رويت عَنهُ فِي أَحَادِيث كَثِيرَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن التطير فَغضِبت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَقَالَت وَالله مَا قَالَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطّ وانما قَالَ كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ ان يكن الشؤم فَفِي ثَلَاث الدَّار وَالْمَرْأَة وَالْفرس فَدخل أَبُو هُرَيْرَة فَسمع آخر الحَدِيث

(1/187)


وَلم يسمع أَوله وَهَذَا غير مُنكر أَن يعرض لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يذكر فِي مجالسه الْأَخْبَار حِكَايَة وَيتَكَلَّم بِمَا لَا يُرِيد بِهِ نهيا وَلَا أمرا وَلَا أَن يَجعله أصلا فِي دينه وشيئا يستن بِهِ وذلكك مَعْلُوم من فعله ومشهور من قَوْله الْعلَّة الثَّامِنَة
وَهِي نقل الحَدِيث من الصُّحُف دون لِقَاء الشُّيُوخ وَالسَّمَاع من الْأَئِمَّة وَهَذَا بَاب أَيْضا عَظِيم البلية وَالضَّرَر فِي الدّين فَإِن كثيرا من النَّاس يتسامحون فِيهِ جدا وَأَكْثَرهم انما يعول على اجازة الشَّيْخ لَهُ دون لِقَائِه والضبط عَلَيْهِ ثمَّ يَأْخُذ بعد ذَلِك علمه من الصُّحُف المسودة والكتب الَّتِي لَا يعلم صحيحها من سقيمها وَرُبمَا كَانَت مُخَالفَة لرِوَايَة شَيْخه فيصحف الْحُرُوف ويبدل الْأَلْفَاظ وينسب جَمِيع ذَلِك الى شَيْخه ظَالِما لَهُ وَقد صَار علم أَكثر النَّاس فِي زمننا هَذَا على هَذِه الصّفة لَيْسَ بِأَيْدِيهِم من الْعلم الا أَسمَاء الْكتب
وَإِنَّمَا ذكرت لَك هَذِه الْعِلَل الْعَارِضَة للْحَدِيث لِأَنَّهَا أصُول لنقاد الحَدِيث المهتبلين بِمَعْرِِفَة صَحِيحه من سقيمه فَإِذا ورد عَلَيْهِم حَدِيث بشع المسموع أَو مُخَالف للمشهور نظرُوا أَولا فِي سَنَده فَإِن وجدوا فِي نقلته

(1/188)


وَرُوَاته رجلا مُتَّهمًا بِبَعْض تِلْكَ الْوُجُوه الَّتِي ذكرتها لَك استرابوا بِهِ وَلم يَجْعَلُوهُ أصلا يعول عَلَيْهِ وان وجدوا رِجَاله الناقلين لَهُ ثِقَات مشهورين بِالْعَدَالَةِ معروفين بالفقه وَالْأَمَانَة رجعُوا الى التَّأْوِيل وَالنَّظَر فَإِن وجدوا لَهُ تَأْوِيلا يحمل عَلَيْهِ قبلوه وَلم ينكروه وان لم يَجدوا لَهُ تَأْوِيلا الا على استكراه شَدِيد نسبوه الى غلط وَقع فِيهِ من بعض تِلْكَ الْوُجُوه الْمُتَقَدّمَة الذّكر
فَهَذِهِ جملَة القَوْل فِي هَذَا الْبَاب وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَالله أعلم

(1/189)