البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية المقدمات
[تعريف أصول الفقه]
أصول الفقه: مركب تتوقف معرفته على معرفة مفرداته من حيث
التركيب لا من حيث كل وجه.
[تعريف الأصل] فالأصول: جمع أصل، وأصل الشيء، ما منه الشيء،
أي: مادته، كالوالد للولد، والشجرة للغصن.
ورده القرافي باشتراك من بين الابتداء والتبعيض، وبأنه لا يصح
هنا معنى من معانيها.
وأجاب الأصفهاني عن الأول: بأن الاشتراك لازم لكن يصار إليه في
الحدود حيث لا يمكن التعبير بغيره، وعن الثاني: بأن من لابتداء
الغاية.
وقال الآمدي: ما استند الشيء في تحقيقه إليه. وقال أبو الحسين:
ما يبنى عليه غيره، وتبعه ابن الحاجب في باب القياس، ورد بأنه
لا يقال: إن الولد يبنى على الوالد، بل يقال: فرعه.
وقال الإمام: هو المحتاج إليه، ورد بأنه إن أريد احتياج الأثر
إلى المؤثر لزم إطلاقه على الله تعالى، وإن أريد ما يتوقف عليه
الشيء لزم إطلاقه على الجزاء والشرط. وقد التزمه في المباحث
المشرقية فقال: لا تبعد تسمية الشروط واندفاع الموانع أصولا
باعتبار توقف وجود الشيء عليها. وقال أبو بكر الصيرفي في كتاب
الدلائل والأعلام: كل ما أثمر معرفة شيء ونبه عليه فهو أصل له،
فعلوم الحس أصل، لأنها تثمر معرفة حقائق الأشياء، وما عداه فرع
له.
وقال القفال الشاشي: الأصل: ما تفرع عنه غيره، والفرع: ما تفرع
عن غيره، وهذا أسد الحدود، فعلى هذا لا يقال في الكتاب: إنه
فرع أصله الحس، لأن الله تعالى تولاه وجعله أصلا دل العقل
عليه.
قال: والكتاب والسنة أصل، لأن غيرهما يتفرع عنهما، وأما القياس
فيجوز أن يكون أصلا على معنى أن له فروقا تنشأ عنه، ويتوصل إلى
معرفتها من جهته، كالكتاب أصل لما ينبني عليه، وكالسنة أصل لما
يعرف من جهتها، وهو فرع على معنى أنه إنما عرف بغيره وهو
الكتاب أو غيره، وكذلك السنة والإجماع. قال: وقيل: إن القياس
لا يقال له: أصل ولا فرع، لأنه فعل القائس، ولا توصف الأفعال
بالأصل
(1/10)
والفرع. وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي:
الأصل ما عرف به حكم غيره، والفرع ما عرف بحكم غيره قياسا
عليه.
وقال الماوردي في الحاوي: قيل: الأصل ما دل عليه غيره، والفرع
ما دل على غيره، فعلى هذا يجوز أن يقال في الكتاب: إنه فرع
لعلم الحس، لأنه الدال على صحته.
هذا الاعتراض يصلح أن يدخل به كثير من العبارات السالفة على
اختلافها فليتأمل.
وقال ابن السمعاني في القواطع: قيل: الأصل ما انبنى عليه غيره،
وقيل: ما يقع التوصل به إلى معرفة ما وراءه وهما مدخولان، لأن
من أصول الشرع ما هو عقيم لا يقبل الفرع، ولا يقع به التوصل
إلى ما وراءه بحال، كدية الجنين والقسامة، وتحمل العاقلة، فهذه
أصول ليست لها فروع، فالأولى أن يقال: الأصل كل ما ثبت دليلا
في إيجاب حكم من الأحكام ليتناول ما جلب فرعا أو لم يجلب.
ويطلق في الاصطلاح على أمور:
أحدها : الصورة المقيس عليها على الخلاف الآتي - إن شاء الله
تعالى - في القياس في تفسير الأصل.
الثاني : الرجحان، كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، أي:
الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز.
الثالث : الدليل، كقولهم: أصل هذه المسألة من الكتاب والسنة
أي: دليلها، ومنه أصول الفقه أي: أدلته.
الرابع : القاعدة المستمرة، كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على
خلاف الأصل. وهذه الأربعة ذكرها القرافي وفيه نظر، لأن الصورة
المقيس عليها ليست معنى زائدا، لأن أصل القياس اختلف فيه هل هو
محل الحكم أو دليله أو حكمه؟ وأيا ما كان فليس معنى زائدا،
لأنه إن كان أصل القياس دليله فهو المعنى السابق، وإن كان محله
أو حكمه فهما يسميان أيضا دليلا مجازا، فلم يخرج الأصل عن معنى
الدليل.
وبقي عليه أمور:
أحدها: التعبد، كقولهم: إيجاب الطهارة بخروج الخارج على خلاف
الأصل. يريدون أنه لا يهتدي إليه القياس.
(1/11)
الثاني : الغالب في الشرع، ولا يمكن ذلك
إلا باستقراء موارد الشرع.
الثالث : استمرار الحكم السابق، كقولهم: الأصل بقاء ما كان على
ما كان حتى يوجد المزيل له.
الرابع : المخرج، كقول الفرضيين: أصل المسألة من كذا.
[عدد الأصول التي يبنى الفقه عليها] ثم اختلفوا في عدد الأصول،
فالجمهور على أنها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
قال الرافعي في باب القضاء: وقد يقتصر على الكتاب والسنة،
ويقال: الإجماع يصدر عن أحدهما، والقياس الرد إلى أحدهما فهما
أصلان. قال في المطلب: وفيه منازعة لمن جوز انعقاد الإجماع لا
عن أمارة، ولا عن دلالة، وجوز القياس على المحل المجمع عليه.
واختصر بعضهم فقال: أصل ومعقول أصل، فالأصل للكتاب، والسنة،
والإجماع، ومعقول الأصل هو القياس.
قال ابن السمعاني: وأشار الشافعي إلى أن جماع الأصول نص ومعنى،
فالكتاب والسنة والإجماع داخل تحت النص، والمعنى هو القياس،
وزاد بعضهم العقل فجعلها خمسة. وقال أبو العباس بن القاص:
الأصول سبعة: الحس، والعقل، والكتاب، والسنة، والإجماع،
والقياس، واللغة.
والصحيح: أنها أربعة.
وأما العقل: فليس بدليل يوجب شيئا أو يمنعه، وإنما تدرك به
الأمور فحسب، إذ هو آلة العارف، وكذلك الحس لا يكون دليلا
بحال، لأنه يقع به درك الأشياء الحاضرة.
وأما اللغة: فهي مدركة اللسان، ومطية لمعاني الكلام، وأكثر ما
فيه معرفة سمات الأشياء ولا حظ له في إيجاب شيء.
وقال الجيلي في الإعجاز: أربعة: الكتاب، والسنة، والقياس،
ودليل البقاء على النفي الأصلي، وردها القفال الشاشي إلى واحد
فقال: أصل السمع هو كتاب الله تعالى، وأما السنة والإجماع،
والقياس فمضاف إلى بيان الكتاب، لقوله تعالى {تِبْيَاناً
لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وروي عن ابن مسعود أنه
لعن الواصلة والمستوصلة، وقال: ما لي لا ألعن من لعنه الله؟
فقالت امرأة: قرأت كتاب الله فلم أجد فيه ما تقول، فقال: إن
كنت
(1/12)
قرأتيه فقد وجدتيه {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
[الحشر: 7] "وأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة
والمستوصلة" 1. فأضاف عبد الله بن مسعود بلطيف حكمته قول
الرسول إلى كتاب الله، وعلى هذا إضافة ما أجمع عليه مما لا
يوجد في الكتاب والسنة نصا.
قلت: ووقع مثل ذلك للشافعي في مسألة قتل المحرم للزنبور. قال
الأستاذ أبو منصور: وفي هذا دليل على أن الحكم المأخوذ من
السنة، أو الإجماع أو القياس مأخوذ من كتابه سبحانه، لدلالة
كتابه على وجوب اتباع ذلك كله.
[تعريف الفقه] والفقه لغة: اختلف فيه، فقال ابن فارس في
المجمل: هو العلم، وجرى عليه إمام الحرمين في التلخيص، وإلكيا
الهراسي، وأبو نصر بن القشيري، والماوردي إلا أن حملة الشرع
خصصوه بضرب من العلوم.
ونقل ابن السمعاني عن ابن فارس: أنه إدراك علم الشيء وقال
الجوهري وغيره: هو الفهم. وقال الراغب: هو التوسل إلى علم غائب
بعلم شاهد فهو أخص من العلم. وفي المحكم لابن سيده: الفقه
العلم بالشيء والفهم له والظاهر أن مراده بهما واحد وهو الفهم،
لأنه فسر الفهم بمعرفة الشيء بالقلب، ومعرفة الشيء بالقلب هو
العلم به، ومثله قول الأزهري: فهمت الشيء عقلته وعرفته، وأصرح
منه قول الجوهري: فهمت الشيء فهما علمته.
وظهر بهذا أن الفهم المفسر به الفقه ليس فهم المعنى من اللفظ،
ولا فهم غرض المتكلم.
ونقل الفقه إلى علم الفروع بغلبة الاستعمال كما أشار إليه ابن
سيده حيث قال: غلب على علم الدين لسيادته وشرفه كالنجم على
الثريا، والعود على المندل.
قال ابن سراقة: وقيل: حده في اللغة العبارة عن كل معلوم تيقنه
العالم به عن فكر. وقال أبو الحسين في المعتمد، وتبعه في
المحصول: فهم غرض المتكلم، ورد بأنه يوصف بالفهم حيث لا كلام،
وبأنه لو كان كذلك لم يكن في نفي الفقه عنهم منقصة ولا تعيير،
لأنه غير متصور، وقد قال تعالى: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن باب {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، حديث "4886", رواه مسلم "3/1678" كتاب
اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة
والواشمة...، حديث "2125".
(1/13)
وقال ابن دقيق العيد: وهذا تقييد للمطلق
بما لا يتقيد به.
وقال الشيخ أبو إسحاق وصاحب اللباب. من الحنفية: فهم الأشياء
الدقيقة، فلا يقال: فقهت أن السماء فوقنا. قال القرافي: وهذا
أولى، ولهذا خصصوا اسم الفقه بالعلوم النظرية، فيشترط كونه في
مظنة الخفاء، فلا يحسن أن يقال: فهمت أن الاثنين أكثر من
الواحد، ومن ثم لم يسم العالم بما هو من ضروريات الأحكام
الشرعية فقيها، فإن احتج له بقوله تعالى: {قَالُوا يَا
شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]
وقوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثاً} [النساء: 78].
قلنا: هذا يدل على أن الفهم من الخطاب يسمى فقها، لا على أنه
لا يسمى فقها إلا ما ما كان كذلك، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] وهذا لا
يختص بالفهم من الخطاب، بل عدم الفهم مطلقا من الأدلة العقلية
والسمعية، وطرق الاعتبار، ثم المراد من الفهم: الإدراك، لا
جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص ما يرد عليه من المطالب
خلافا للآمدي.
[الذهن] والذهن: عبارة عن قوة النفس المستعدة لاكتسابها الحدود
الوسطى والآراء. وقال ابن سراقة: الفهم عبارة عن إتقان الشيء،
والثقة به على الوجه الذي هو به عن نظر، ولذلك يقال: نظرت
ففهمت، ولا يقال في صفات الله سبحانه: فهم.
يقال: فقه - بالكسر - فهو فاقه إذا فهم، وفقه - بالفتح - فهو
فاقه أيضا إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه - بالضم - فهو فقيه
إذا صار الفقه له سجية، واستعمل لاسم فاعله فقيه، لأن فعيلا
قياس في اسم فاعل فعل، ووقع في عبارة بعضهم: أنه اختير له
فعيل، لأن فعيلا للمبالغة، فاستعمالها فيمن صار الفقه له سجية
أولى.
وهذا ليس بصحيح. أعني دعوى أن فعيلا هاهنا للمبالغة، لأن
الألفاظ المستعملة للمبالغة هي التي كانت على صيغة، فحولت عنها
إلى تلك الألفاظ للمبالغة، ولذلك يقع في كلامهم ما حول
للمبالغة من فاعل، [إلى] مفعال أو فعيل أو فعول، أو فعل، وأما
فقيه فهو قياس، لأن فعيلا، مقيس في فعل، فهو مستعمل فيما هو
قياسه من غير تحويل، نحو عليم و شفيع، فإن المتكلم يحولهما عن
شافع وعالم، لقصد المبالغة، ولا مخلص عن هذا إلا أن يدعى أنه
خولف تقديرا
(1/14)
بمعنى أن الواضع، حوله عن فاعل لقصد
المبالغة.
فإن قلت: ليس من شرط الفقيه أن يكون له سجية، ولهذا قال
الرافعي في الوقف على الفقهاء: إنه يدخل فيه من حصل منه شيئا،
وإن قل، وقضية هذا حصوله بمسمى مسألة واحدة.
قلت: ليس كذلك لما سأذكره من كلام الشيخ أبي إسحاق، والغزالي،
وابن السمعاني، وغيرهم من الأئمة، ولعل مراده من حصل حتى صار
له سجية وإن قلت.
[الفقه في الاصطلاح]: وأما في اصطلاح الأصوليين: فالعلم
بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
فالعلم جنس، والمراد به الصناعة، كما تقول: علم النحو أي:
صناعته، وحينئذ فيندرج فيه الظن واليقين، وعلى هذا فلا يرد
سؤال الفقه من باب الظنون، ومن أورده فهو اختيار منه لاختصاص
العلم بالقطعي.
وخرج بالأحكام: العلم بالذوات، والصفات، والأفعال.
وبالشرعية: العقلية، والمراد بها ما يتوقف معرفتها على الشرع.
وبالعملية: عن العلمية، ككون الإجماع وخبر الواحد حجة. قاله
الإمام. وقال الأصفهاني: خرج به أصول الفقه، فإنه ليس بعملي،
أي: ليس علما بكيفية عمل. قال ابن دقيق العيد: وفيه نظر، لأن
الغاية المطلوبة منها العمل، فكيف يخرج بالعملية؟ وقال الباجي:
هو احتراز عن أصول الدين.
واعلم أن أصول الدين منه ما ثبت بالعقل وحده كوجود الباري،
ومنه ما ثبت بكل من العقل والسمع كالوحدانية، وهذان خارجان
بقوله: الشرعية، ومنه ما لا يثبت إلا بالسمع كمسألة أن الجنة
مخلوقة، وأن الصراط حق، وهذا من الفقه لوجوب اعتقاده، وعدل
الآمدي، وابن الحاجب عن لفظ العملية إلى الفرعية، لأن النية من
مسائل الفقه وليست عملا، وليس بجيد، لأنها عمل. والظاهر أن لفظ
العملية أشمل لدخول وجوب اعتقاد مسائل الديانات التي لا تثبت
إلا بالسمع، فإنها من الفقه كما سبق بخلاف الفرعية.
وبالمكتسب: علم الله تعالى، وما يلقيه في قلب الأنبياء
والملائكة من الأحكام بلا اكتساب. وبالأخير: عن اعتقاد المقلد،
فإنه مكتسب من دليل إجمالي: قاله الإمام. وقيل: علم المقلد لم
يدخل في الحد بل هو احتراز عن علم الخلاف. وأما عند
(1/15)
الفقهاء: فقال القاضي الحسين: الفقه افتتاح
علم الحوادث على الإنسان. أو افتتاح شعب أحكام الحوادث على
الإنسان حكاه البغوي عنه في تعليقه.
وقال ابن سراقة: حده في الشرع: عبارة عن اعتقاد علم الفروع في
الشرع، ولذلك لا يقال في صفاته سبحانه وتعالى: فقيه. قال:
وحقيقة الفقه عندي: الاستنباط. قال الله تعالى: {لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
واختيار ابن السمعاني في القواطع أنه استنباط حكم المشكل من
الواضح. قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "رب حامل فقه غير
فقيه" 1 أي: غير مستنبط ومعناه: أنه يحمل الرواية من غير أن
يكون له استدلال واستنباط فيها. وقال في ديباجة كتابه: وما
أشبه الفقيه إلا بغواص في بحر در كلما غاص في بحر فطنته استخرج
درا، وغيره مستخرج آجرا.
ومن المحاسن قول الإمام أبي حنيفة: الفقه معرفة النفس ما لها
وما عليها. قيل: وأخذه من قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
وقال الغزالي في الإحياء في بيان تبديل أسامي العلوم: إن الناس
تصرفوا في اسم الفقه، فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على وقائعها،
وإنما هو في العصر الأول اسم لمعرفة دقائق آفات النفوس،
والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا. قال تعالى:
{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا} [التوب: 122]
والإنذار بهذا النوع من العلم دون تفاريع السلم والإجارة.
وعن أبي الدرداء. لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في
ذات الله، ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا.
وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء: فقال: إن الفقهاء يخالفونك،
فقال الحسن: ثكلتك أمك وهل رأيت فقيها بعينك؟ إنما الفقيه هو
الزاهد في الدنيا. الراغب في الآخرة. البصير بذنبه. المداوم
على عبادة ربه. الورع الكاف.
ولذلك قال الحليمي في المنهاج: إن تخصيص اسم الفقه بهذا
الاصطلاح حادث. قال: والحق أن اسم الفقه يعم جميع الشريعة التي
من جملتها ما يتوصل به إلى معرفة الله، ووحدانيته، وتقديسه،
وسائر صفاته، وإلى معرفة أنبيائه، ورسله عليهم
ـــــــ
1 حديث صحيح: رواه أبو داود "3/322" كتاب العلم، باب فضل نشر
العلم، حديث "3660"، والترمذي "5/33" حديث "2656"، وابن ماجه
"1/86" حديث "229".
(1/16)
السلام، ومنها علم الأحوال، والأخلاق،
والآداب، والقيام بحق العبودية وغير ذلك.
قلت: ولهذا صنف أبو حنيفة كتابا في أصول الدين وسماه الفقه
الأكبر.
تنبيه: علم من تعريفهم الفقه باستنباط الأحكام: أن المسائل
المدونة في كتب الفقه ليست بفقه اصطلاحا، وأن حافظها ليس
بفقيه، وبه صرح العبدري في باب الإجماع من شرح المستصفى. قال:
وإنما هي نتائج الفقه، والعارف بها فروعي، وإنما الفقيه هو
المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة، فيتلقاها منه
الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها. ونحوه قول ابن عبد السلام: هم
نقلة فقه لا فقهاء.
وقال الشيخ أبو إسحاق في كتاب الحدود: الفقيه من له الفقه، فكل
من له الفقه فقيه، ومن لا فقه له فليس بفقيه. قال: والفقيه هو
العالم بأحكام أفعال العباد التي يسوغ فيها الاجتهاد. وقال
الغزالي: إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في
مسألة سمعها: فليس بفقيه: حكاه عنه ابن الهمداني في طبقات
الحنفية.
وقال ابن سراقة: الفقيه من حصل له الفقه. وذكر الشافعي في
الرسالة: صفة المفتي وهو الفقيه فذكر سبع عشرة خصلة تأتي في
باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
[أصول الفقه] لغة: ما استند إليه الفقه، ولم يتم إلا به.
وفي الاصطلاح : مجموع طرق الفقه من حيث إنها على سبيل الإجمال،
وكيفية الاستدلال، وحالة المستدل بها.
فقولنا: مجموع ليعمها، فإذن بعضها بعض أصول الفقه لا كلها.
وقولنا: طرق ليعم الدليل والأمارة على اصطلاح الأصوليين.
وخرج بالإجمال: أدلة الفقه من حيث التفصيل، فلا يقال لها في
عرف الأصوليين: أصول فقه، وإن كان التحقيق يقتضي ذلك، إذ هو
أقرب إلى الفقه وأقل تخصيصا، ولأنه يوافق قولنا: هذا الحديث
أصل لهذا الحكم، ولهذا الباب، وحينئذ فاتخاذ الأدلة في آحاد
مسائل الفروع من أصول الفقه، ويكون الإجمال شرطا في علم أصول
الفقه، لا أنه شرط فيها، أو جزء منها.
قال ابن دقيق العيد: ويمكن الاقتصار على الدلائل، وكيفية
الاستفادة منها، والباقي كالتابع والتتمة، لكن لما جرت العادة
بإدخاله في أصول الفقه وضعا أدخل فيه حدا.
(1/17)
قلت: وعليه جرى الشيخ في اللمع، والغزالي
في المستصفى1، وابن برهان في الأوسط، وقال: أصول الفقه أدلة
الفقه على طريق الإجمال، وكيفية الاستدلال به، وما يتبع ذلك. ا
هـ. بل قد يقال: الدليل هو الأصل بالذات، والباقي بالتبع
لضرورة الاستدلال بالدليل. قال صاحب المعتمد. والمراد بكيفية
الاستدلال هاهنا الشروط والمقدمات وترتيبها معه، ليستدل بالطرق
على الفقه.
هذا ما أطبق عليه الأصوليون، والفقهاء يطلقون ذلك على القواعد
الكلية التي تندرج فيها الجزئيات، كقولهم: الأصل في كل حادث
تقديره بأقرب زمن. وقولهم: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في
الابتداء، وغير ذلك من القواعد العامة التي يندرج فيها الفروع
المنتشرة، وعليه سمى الشيخ عز الدين كتابه القواعد، ويقال: إنه
أول من اخترع هذه الطريقة. ويوجد في كلام الإمام والغزالي
متفرقات منها.
هل الأصول هذه الحقائق أنفسها أو العلم بها؟ طريقان. وكلام
القاضي أبي بكر يقتضي أنه العلم بالأدلة، وعليه البيضاوي، وابن
الحاجب وغيرهما، وقطع الشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين في
البرهان والرازي والآمدي بأنه نفس الأدلة. ووجه الخلاف أنه كما
يتوقف الفقه على هذه الحقائق يتوقف أيضا على العلم بها، فيجوز
حينئذ إطلاق أصول الفقه على القواعد أنفسها، وعلى العلم بها.
والثاني أولى لوجوه:
أحدها : أن أصول الفقه ثابت في نفس الأمر من تلك الأدلة، وإن
لم يعرفه الشخص.
وثانيها : أن أهل العرف يجعلون أصول الفقه للمعلوم، فيقولون:
هذا كتاب أصول الفقه.
وثالثها : أن الأصول في اللغة الأدلة فجعله اصطلاحا نفس الأدلة
أقرب إلى المدلول اللغوي، وهذا بخلاف الفقه فإنه اسم للعلم كما
سبق.
والتحقيق : أنه لا خلاف في ذلك، ولم يتواردوا على محل واحد،
فإن من أراد اللقبي، وهو كونه علما على هذا الفن حده بالعلم،
ومن أراد الإضافي حده بنفس الأدلة، ولهذا لما جمع ابن الحاجب
بينهما عرف اللقبي بالعلم، والإضافي بالأدلة. نعم: الإمام في
المحصول عرف اللقبي بالأدلة، يجب تأويله على إرادة العلم بها.
ثم المراد بالأدلة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس،
والاستدلال.
ـــــــ
1 يعني بالشيخ الإمام الشيرازي ت "476هـ". وانظر اللمع ص "35"،
والمستصفى ص "5".
(1/18)
وقال إمام الحرمين والغزالي: هي ثلاثة:
الكتاب، والسنة، والإجماع، ومنعا أن تكون القوانين الكلية
الظنية من أصول الفقه. وقال في التلخيص: الذي ارتضاه المحققون
أن ما لا ينبغي فيه العلم كأخبار الآحاد والمقاييس لا يعد من
أصول الفقه.
فإن قيل: فأخبار الآحاد والمقاييس لا تفضي إلى العلوم، وهي من
أدلة أحكام الشرع. قيل له: إنما يتعلق بالأصول تثبيتها أدلة
على وجوب الأعمال، وذلك مما يدرك بالأدلة القاطعة، وأما العمل
المتلقى منها فيتعلق بالفقه دون أصوله. وقال في البرهان: فإن
قيل: معظم المسائل الشرعية ظنون.
قلنا: ليست الظنون فقها، وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند
قيام الظنون. ولذلك قال المحققون: أخبار الآحاد والأقيسة لا
توجب العمل لذواتها، وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل،
وهو الأدلة القطعية على وجوب العمل عند رواية الآحاد وقيام
الأقيسة. قال: وهما وإن لم يوجدا إلا في أصول الفقه لكن حظ
الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليبنى
المدلول عليه، ويرتبط الدليل به، وتبعه ابن القشيري، وقال:
أطلق الفقهاء لفظ الدليل على أخبار الآحاد والقياس، وهو خلاف
هين.
وقال الأستاذ أبو منصور: الغرض من أصول الفقه معرفة أدلة أحكام
الفقه، ومعرفة طرق الأدلة، لأن من استقرأ أبوابه وجدها إما
دليلا على حكم أو طريقا يتوصل به إلى معرفة الدليل، وذلك
كمعرفة النص، والإجماع، والقياس، والعلل، والرجحان. وهذه كلها
معرفة محيطة بالأدلة المنصوصة على الأحكام. ومعرفة الأخبار
وطرقها معرفة بالطرق الموصلة إلى الدلائل المنصوصة على
الأحكام.
وهاهنا أمور:
أحدها : أن الأسماء المستعملة في هذه العلوم. كأصول الفقه،
والفقه، والنحو، واللغة، والطب. هل هي منقولة أو لا؟ ذكر بعضهم
فيه احتمالين:
أحدهما : أن يكون مما صار علما بالغلبة، كالعقبة.
والثاني : أن يكون من المنقولات العرفية.
قال: وهذا الاحتمال أرجح، لأن العلم بالغلبة يتقيد بما فيه
الألف واللام أو الإضافة، وأسماء هذه العلوم تطلق عرفا مع
التنكير والقطع عن الإضافة كما تقول: فلان يعرف فقها ونحوا.
(1/19)
قلت: وبالأول صرح ابن سيده وغيره كما سبق،
وبالثاني صرح القاضي في التقريب في الكلام على الحقيقة
العرفية، والطرطوشي في أوائل كتابه، وقال: فيكون من الأسماء
العرفية، وهو مقتضى كلام الحليمي، والغزالي، وما رجح به الثاني
فيه نظر، لأنه مع التنكير لم يخرج عن العلمية فإن العلم ينكر
تحقيقا أو تقديرا.
الثاني : إذا ثبت أنها منقولة فهي أسماء أجناس أو أعلام أجناس،
والظاهر الأول، لقبوله الألف واللام، والعلم لا يقبله،
ولاشتهارها في العرف، كاشتهار لفظ الدابة لذوات الأربع. وقد
ثبت أنها ليست بعلم هذا إذا كانت غير معرفة. أما أصول الفقه
فهو معرفة بالإضافة. ونقل إلى هذا العلم الخاص أو غلب عليه،
فهو علم جنس، لأنه المميز لهذا الجنس بخصوصه من غيره من
الأجناس.
الثالث : أن أصول الفقه يطلق مضافا ومضافا إليه، ويطلق علما
على هذا العلم الخاص.
واختلف الأصوليون، فمنهم من عرف الإضافي، ومنهم من عرف اللقبي،
ومنهم من جمع بين النوعين.
والصواب : تعريف اللقبي وليس ثم غيره. وأما جزاؤه حالة
التركيب، فليس لواحد منهما مدلول على حدته. إنما هو كغلام زيد
إذا سميت به لم يتطلب معنى الغلام، ولا معنى زيد، وليس لنا
حدان إضافي ولقبي وإنما هو اللقبي فقط.
***
(1/20)
فصل: [الغرض من علم الأصول وحقيقته ومادته
وموضوعه ومسائله]
يجب على كل طالب علم أن يعلم ما الغرض منه؟ وما هو؟ ومن أين؟
وفيم؟ وكيف يحصل حتى يتمكن له الطلب ويسهل؟ والأول: فائدته.
والثاني: حقيقته ومبادئه. والثالث: مادته التي منها يستمد.
والرابع: موضوعه، والخامس: مسائله.
أما الفائدة: فهي الغاية الموصلة للأمور المهمة، وللسبب الغائي
اعتباران: أول الفكر، ويسمى الباعث. ومنتهاه وهو آخر العمل،
ويسمى الفائدة.
وأما الحقيقة : وهو اقتناصه بحد أو رسم أو تقسيم. والقصد به
الإرشاد إلى المطلوب وإيضاحه.
قال المازري: وإنما يحتاج إليه في التعليم للغير، وأما الطالب
لنفسه إذا لاح له حقيقة ما يطلب صح طلبه، وإن لم يحسن عبارة
عنه صالحة للحد فلا يكون هذا شرطا إلا في حق من أراد التعليم
لا التعلم.
وأما المادة : فذكر إمام الحرمين وتابعوه: أن أصول الفقه مستمد
من ثلاثة علوم: الكلام، والفقه، والعربية.
أما الكلام: فلتوقف الأدلة على معرفة الباري تعالى بقدر الممكن
من ذاته وصفاته وأفعاله. ومعرفة صدق رسوله، ويتوقف ثبوته على
أن المعجزة تدل على دعوى الرسالة. وذلك كله مبين في علم الكلام
فيسلم هنا.
وتخص النظر في دليل الحكم هنا بعلم خمسة أشياء: كلام الله
تعالى لمخاطب، وقدرة العبد كسبا ليكلف، وتعلق الكلام القديم
بفعل المكلف ليوجد الحكم، ورفع التعلق فينسخ، وصدق المبلغ
ليبين.
وأما العربية : فلأن الأدلة جاءت بلسان العرب، وهي تشتمل على
ثلاثة فنون:
علم النحو: وهو علم مجاري أواخر الكلم رفعا، ونصبا، وجرا،
وجزما.
وعلم اللغة : وهي تحقيق مدلولات الألفاظ العربية في ذواتها.
وعلم الأدب : وهو علم نظم الكلام، ومعرفة مراتبه على مقتضى
الحال.
وإنما يكون هذا مادة لبعض أنواع الأصول، وهو الخطاب دون مسائل
(1/21)
الأخبار، والإجماع، والنسخ، والقياس، وهي
معظم الأصول. ثم إن المادة فيه ليست على نظير المادة من
الكلام، فإن العلم بها مادة لفهم الأدلة.
وأما الفقه: فلأنه مدلول أصول الفقه، وأصول الفقه أدلته، ولا
يعلم الدليل مجردا من مدلوله.
والأولى أن يقال في وجه استمداده من علم الكلام: إن علم أصول
الفقه فيه ألفاظ لا تعلم مسمياتها من غير أصول الدين لكنها
تؤخذ مسلمة فيه. على أن يبرهن في غيره من العلوم، أو تكون
مسلمة في نفسها. وهي العلم، والظن، والدليل، والأمارة، والنظر،
لأن لفظ الطرق يشمل ذلك كله، والحكم أيضا، إذ لا بد فيه من
خطاب شرعي، ولا يثبت ذلك بالدليل في غير أصول الدين، وما ذكر
منه غير ما عددناه، فهو تبع، ولا بد من معرفة هذه الأمور في
معرفة هذا العلم، ليتوقف منه إذن على بعضه لا على كله. وإلى
هذا أشار ابن برهان وغيره.
وذكر الغزالي أن استمداد أصول الفقه من شيء واحد، وهو قول
الرسول الذي دل التكلم على صدقه، فينظر في وجه دلالته على
الأحكام. إما بملفوظه، أو بمفهومه، أو بمعقول معناه ومستنبطه،
ولا يجاوز نظر الأصولي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم
وفعله.
قال: وقول الرسول إنما يثبت صدقه وكونه حجة من علم الكلام.
وهذا ليس بمرضي فإن من جملة ما يوجد فيه من علم الكلام معرفة
العلم، والظن، والدليل، والنظر وغيره مما سبق. وقوله بأن نظر
الأصولي لا يجاوز قوله وفعله ممنوع. فإنه ينظر في الاستصحاب
والأفعال قبل الشرع، وقول الصحابي، وغيره مما ليس بقول الرسول،
ولا فعله.
واعلم أن المادة على قسمين : إسنادية، مقومة، فالمقومة داخلة
في أجزاء الشيء وحقيقته، وهي الفقه، والإسنادية ما استندت إلى
الدليل، كعلم الكلام لأنه يعلم أصول الفقه وإن لم يعلم علم
الكلام، وإنما علم الكلام دليل المعجزة، وهو دليل الأصول،
فاستند إلى الدليل. وكذلك مادة العربية.
فإن قلت: كيف يجعل الفقه مادة للأصول. وهو فرع الأصول، ومادة
كل شيء أصله، فهذا يؤدي إلى أن يكون الفرع أصلا والأصل فرعا؟.
أجاب المقترح في تعليقه على البرهان بأنه لا بد أن يذكر الفقه
في الأصول من حيث الجملة، فيذكر الواجب بما هو واجب، والمندوب
بما هو مندوب، لأن هذا
(1/22)
القدر مبين حقيقة الأصول. وإنما المحذور أن
يذكر جزئيات المسائل، فإن ذكرها يؤدي إلى الدور.
[توقف معرفة أصول الفقه على الفقه] واعلم أن معرفة أصول الفقه
تتوقف على معرفة الفقه، إذ يستحيل العلم بكونها أصول فقه ما لم
يتصور الفقه، لأن المضاف إلى معرفة إضافة حقيقية لا بد وأن
يتعرف بها، ولا يمكن التعريف إلا على تقدير سبق معرفة المضاف
إليه، ولأن العلم بالمركب يتوقف على العلم بمفرداته ضرورة.
وأما الموضوع: فشيء يبحث عن أوصافه وأحواله المعتبرة في ذلك
العلم. وهو معنى قول المنطقيين: موضوع كل علم ما يبحث فيه عن
أعراضه الذاتية. أي ما يلحق الشيء لذاته، كالتعجب اللاحق
للإنسان لذاته، لا باعتبار أمر آخر. أو لجزئه، كالمشي اللاحق
له بواسطة كونه حيوانا. أو لأمر يساويه، كالضحك اللاحق له
بواسطة التعجب، فهذه الثلاثة هي أعراضه الذاتية.
وقد يكون لأعم داخل فيه. كالحركة للإنسان لكنه مهجور سمي بذلك
لرجوع موضوعات مسائل العلم إليه. فموضوع الفقه: أفعال
المكلفين، وموضوع أصول الفقه: الأدلة السمعية. وموضوع الهندسة:
المقدار، وموضوع الطب: بدن الإنسان. فإن هذه الأشياء هي مجال
البحث في هذه العلوم يبحث فيها عن أعراض هذه الأشياء اللاحقة
بها، كما أنهم شبهوا ما يبحث في كل علم عن أعراضه وأحواله
بمادة حسية يضعها إنسان بين يديه ليوقع فيها أثرا ما، كالخشب
الذي يؤثر فيه النجار حتى يصير سريرا، أو بابا. وكالفضة التي
يؤثر فيها الصائغ حتى يصير خاتما أو سوارا ونحوه.
وأما مبادئ كل علم فهي حدود موضوعه وأجزائه وأعراضه مع
المقدمات التي تؤلف عنها قياساته. وذلك كحد البدن وأعضائه، وما
يعرض لها من صحة وسقم بالنسبة إلى علم الطب. وحد الفعل وأصنافه
وأشخاصه وما يعرض له من حل وحرمة، ونحو ذلك بالنسبة إلى علم
الفقه، وحد اللفظ، وما يعرض من صواب وخطأ بالنسبة إلى النحو.
وهو جمع مبدأ، ومبدأ الشيء هو محل بدايته. وسميت حدود موضوع
العلم وأجزاؤه ومقدماته التي هي مادة قياساته مبادئ، لأنه عنها
ومنها ينشأ، ويبدو.
وأما مسائل كل علم فهي مطالبه الجزئية التي يطلب إثباتها فيه
كمسائل العبادات، والمعاملات ونحوها للفقه، ومسائل الأمر
والنهي، والعام، والخاص،
(1/23)
والإجماع، والقياس، وغيرها لأصول الفقه.
والموضوع: قد يكون واحدا، كالعدد للحساب، وقد يكون كثيرا،
وشرطه أن يكون بينهما تناسب، أي: مشاركة. إما في ذاتي، كما إذا
جعل الاسم، والفعل، والحرف، موضوعات النحو، لاشتراكها في
الجنس، وهو الكلمة. وإما في عرضي كما إذا جعل بدن الإنسان
وأجزاؤه والأدوية والأغذية موضوعات الطب، لاشتراكها في غاية،
وهي الصحة.
وموضوع أصول الفقه قد اجتمع فيه الأمران، فإنه إما واحد، وهو
الدليل السمعي من جهة إنه موصل للحكم الشرعي، وإما كثير، وهو
أقسام الأدلة السمعية من هذه الجهة، لاشتراكها إما في جنسها،
وهو الدليل، أو في غايتها، وهو العلم بالأحكام الشرعية.
واختلفوا هل يجوز أن يكون للعلم أكثر من موضوع واحد أم لا؟
فقيل، يجوز مطلقا غير أنه لا بد أن يشركه في أمر ذاتي، أو
عرضي، كالطب يبحث فيه عن أحوال بدن الإنسان، وعن الأدوية
ونحوها. وقيل: يمتنع مطلقا، لئلا يؤدي إلى الانتشار. واختار
صاحب التوضيح من الحنفية تفصيلا: وهو إن كان المبحوث عنه في
ذلك العلم إضافيا جاز، كما أنه يبحث في الأصول عن إثبات الأدلة
للحكم، والمنطق يبحث فيه عن إيصال تصور، أو تصديق إلى تصور أو
تصديق، وقد يكون بعض العوارض التي لها مدخل في المبحوث عنه
ناشئة عن أحد المتضايفين، وبعضها عن الآخر، فموضوع هذا العلم
كلا المتضايفين. وإن كان غير إضافي لا يجوز، لأن اختلاف
الموضوع يوجب اختلاف العلم، ثم إن كان إضافيا، فقد يكون المضاف
والمضاف إليه موضوع ذلك العلم، كأصول الفقه، وقد يكون أحدهما،
كعلم المنطق، فإن موضوعه القول الشارح، والدليل من حيث إنه
يوصل إلى التصور والتصديق.
***
(1/24)
|