البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية الدليل
تعريف الدليل
...
الدليل
يطلق في اللغة على أمرين:
أحدهما : الرشد للمطلوب على معنى أنه فاعل الدلالة، ومظهرها،
فيكون معنى الدليل الدال فعيل بمعنى الفاعل، كعليم وقدير مأخوذ
من دليل القوم؛ لأنه يرشدهم إلى مقصودهم.
قال القاضي: والدال: ناصب الدلالة ومخترعها، وهو الله سبحانه،
ومن عداه ذاكر الدلالة. وعند الباقين الدال ذاكر الدلالة،
واستبعد، إذ الحاكي والمدرس لا يسمى دالا، وهو ذاكر الدلالة،
فالأولى أن يقال: الدال ذاكر الدلالة على وجه التمسك بها.
ويسمى الله تعالى دليلا بالإضافة. وأنكره الشيخ أبو إسحاق
الشيرازي في كتاب الحدود، قال: ولا حجة في قولهم لله تعالى: يا
دليل المتحيرين؛ لأن ذلك ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم
ولا أحد من الصحابة، وإنما هو من قول أصحاب العكاكين.
وحكى غيره في جواز إطلاق الدليل على الله وجهين مفرعين على أن
الخلاف في أن أسماء الله هل تثبت قياسا أم لا؟ لكن صح عن
الإمام أحمد أنه علم رجلا أن يدعو، فيقول: يا دليل الحيارى
دلني على طريق الصادقين.
الثاني : ما به الإرشاد، أي: العلامة المنصوبة لمعرفة الدليل،
ومنه قولهم: العالم دليل الصانع، ثم اختلفوا، فقيل: حقيقة
الدليل: الدال، وقيل: بل العلامة الدالة على المدلول بناء على
استعمال المعنيين في اللغة، وقال صاحب الميزان من الحنفية:
الأصح: أنه في اللغة اسم للدال حقيقة، وصار في العرف اسما
للاستعمال فيكون حقيقة عرفية.
وفي الاصطلاح: الموصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب. قال إمام
الحرمين: ويسمى دلالة ومستدلا به، وحجة، وسلطانا، وبرهانا
وبيانا، وكذلك قال القاضي أبو زيد الدبوسي في تقويم الأدلة
قال: وسواء أوجب علم اليقين، أو دونه. انتهى. وقال القاضي أبو
الطيب: يسمى الدليل حجة وبرهانا. وقيل: بل هما اسم لما دل عليه
صحة الدعوى.
وقال الروياني في البحر: في الفرق بين الدليل والحجة وجهان:
أحدهما : أن الدليل ما دل على مطلوبك، والحجة ما منع من ذلك.
والثاني : الدليل ما دل على صوابك. والحجة ما دفع عنك قول
مخالفك.
(1/25)
ا هـ. وخص المتكلمون اسم الدليل ما دل
بالمقطوع به من السمعي والعقلي، وأما الذي لا يفيد إلا الظن
فيسمونه أمارة. وحكاه في التلخيص عن معظم المحققين. وزعم
الآمدي أنه اصطلاح الأصوليين أيضا، وليس كذلك، بل المصنفون في
أصول الفقه يطلقون الدليل على الأعم من ذلك وصرح به جماعة من
أصحابنا، كالشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي
إسحاق، وابن الصباغ. وحكاه عن أصحابنا، وسليم الرازي، وأبي
الوليد الباجي من المالكية، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل
والزاغوني من الحنابلة، وحكاه في التلخيص عن جمهور الفقهاء
وحكاه القاضي أبو الطيب عن أهل اللغة، وحكي القول الأول عن بعض
المتكلمين.
قيل: ولعل منشأه قول بعضهم: إن الأدلة الظنية لا تحصل صفات
تقتضي الظن كما تقتضي الأدلة اليقينية العلم، وإنما يحصل الظن
اتفاقا عندها، ولهذا يقولون: إن الظنيات ليس فيها ترتيب،
وتقديم، وتأخير، وليس فيها خطأ في نفس الأمر كما يقول ذلك
المصوبة.
وقال ابن الصباغ: اختلف المتكلمون في إطلاق اسم الدليل على
الظني، وإنما قصد بهذه التسمية الفصل بين المعلوم والمظنون،
فأما في أصل الوضع فلم يختلفوا في أن الجميع يسمى دليلا وضعا.
وكذلك قال ابن برهان، وابن السمعاني: الفقهاء لا يفرقون
بينهما، وفرق بينهما المتكلمون، وهو راجع إلى اللفظ دون
المعنى.
وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب عيار النظر: قال أبو
الحسن الأشعري: معنى الدليل مظهر الدلالة، ومنه دليل القوم،
وقال: إن تسمية الدلالة دليلا مجاز، وإن كان إذا قيل له: لو
كان الدليل مظهر الدلالة، لوجب على المسئول عن الدلالة إذا قيل
له: ما الدليل؟ أن يقول: أنا؛ لأنه هو المظهر للدلالة.
أجاب بأنه لو قيل: من الدليل؟ قال: أنا وإذا وقع السؤال بحرف
ما عرف أن المراد به السؤال عن الدلالة؛ لأن ما إنما يسأل به
عما لا يوصف بالتمييز. وقال عامة الفقهاء وأكثر المتكلمين: إن
الدليل هو الدلالة، وهو ما يتوصل به إلى معرفة ما لا يدرك
بالحس والضرورة، وعلى هذا فتسمية الدال على الطريق دليلا مجاز.
ا هـ.
وقال القاضي أبو الطيب: الدلالة مصدر قولك: دل يدل دلالة ويسمى
دليلا مجازا من باب تسمية الفاعل باسم المصدر. كقولهم: رجل
صوم.
وأما الدال: فاختلف أصحابنا فيه، فقيل: هو الدليل، وقيل: هو
الناصب
(1/26)
للدليل، وهو الله تعالى الذي نصب أدلة
الشرع والعقل.
قال الإمام: وليس للدليل تحصيل سوى تجريد الفكر من ذي فكرة
صحيحة إلى جهة يتطرق إلى مثلها تصديق، أو تكذيب.
[أقسام الدليل] وينقسم الدليل إلى ثلاثة أقسام: سمعي وعقلي
ووضعي.
فالسمعي: هو اللفظي المسموع، وفي عرف الفقهاء: هو الدليل
الشرعي. أعني الكتاب، والسنة، والإجماع، والاستدلال.
وأما عرف المتكلمين، فإنهم إذا أطلقوا الدليل السمعي، فلا
يريدون به غير الكتاب، والسنة، والإجماع قاله الآمدي في
الأبكار.
الثاني: العقلي: وهو ما دل على المطلوب بنفسه من غير احتياج
إلى وضع، كدلالة الحدوث على المحدث، والإحكام على العالم.
الثالث: الوضعي: وهو ما دل بقضية استناده، ومنه العبارات
الدالة على المعاني في اللغات. قال: وألحق به المحققون
المعجزات الدالة على صدق الأنبياء، وتبعه ابن القشيري، وقال ما
دل عقلا لا يتبدل، وما دل وضعا يجوز أن يتبدل. لكن الإمام في
الإرشاد اختار أن دلالتها عقلية وهو قول الأستاذ أبي إسحاق،
وسيأتي عن ابن القطان أيضا.
وقال الآمدي في الأبكار: الذي ذهب إليه شيخنا والقاضي
والمحققون: أن دلالة المعجزة على صدق الرسول ليست دلالة عقلية
ولا سمعية.
أما الأول : فلأن ما يدل عقلا يدل بنفسه، ويرتبط بمدلوله
لذاته، ولا يجوز تقديم غيره، وقد تقع الخوارق عند تصرم الدنيا
مع عدم دلالتها على تصديق مدعي النبوة، فإنه لا إرسال، ولا
رسول إذ ذاك.
وأما الثاني : فلأن الدلالة السمعية متوقفة على صدقه فلو توقف
صدق الرسول عليها لكان دورا، بل دلالتها على صدقه غير خارج عن
الدلالات الوضعية النازلة منزلة التصديق، فكانت نازلة من الله
منزلة قوله: صدق.
ثم العقلي ينقسم إلى ما يقتضي القطع كالأدلة في أصول العقائد،
وإلى ما لا يقتضيه، وكذلك ينقسم إلى ما يقتضي القطع، وهو يتضمن
العلم، وإلى ما لا يقتضيه، كأخبار الآحاد والمقايس السمعية.
فكما لا يوصف باقتضاء العلم لا يوصف باقتضاء غلبة الظن. قال:
وهذا مما يزل فيه معظم الفقهاء، ولكن جرت العادة
(1/27)
بحصول الظن في أثرها من غير تضمنها.
ويتنوع العقلي إلى استقرائي، وتمثيلي، واقتراني، واستثنائي
متصل أو منفصل، ويتألف المتصل من المتلازمات، والمنفصل من
المتضادات، ونوعها الأصحاب أربعة: بناء الغائب على الشاهد:
وإنتاج المقدمات النتائج، والسبر والتقسيم، والاستدلال بالمتفق
عليه على المختلف فيه.
ونازع ابن القشيري في الأول. وقال: عندنا لا أصل لبناء الغائب
على الشاهد وأن الحكم به باطل، وإن قام دليل على المطلوب في
الغائب فهو المقصود، ولا أثر لذلك الشاهد، وإلا فذكر الشاهد لا
معنى له، وليس في المعقولات قياس. قال: وكذا قياس المختلف فيه
على المتفق عليه باطل؛ لأنه لا قياس في المعقولات، وستأتي هذه
المسألة في كتاب القياس إن شاء الله تعالى.
ولا يشترط في الدليل الوجود، بل يجوز أن يكون عدميا، ولهذا
يستدل بعدم الآيات على كذب المتنبئ، وبعدم الأدلة والعلوم
الضرورية على انحصار أوصاف الأجناس فيما أدركناه. والدليل لا
يقتضي مدلوله، ولا يوجبه إيجاب العلة معلولها بل يتعلق
بالمدلول على ما هو به، كالعلم يتعلق بالمعلوم.
وبيانه: أن الحدوث لما دل على المحدث استحال القول بأنه يوجبه،
بل يتعلق به على ما هو به. والقصد بهذا التحرز من قول بعضهم:
الدليل يوجبه كذا، والدلالة تقتضي مدلولها كذا.
وهل يجوز أن يكون الدليل محتاجا لدليل؟ فيه خلاف حكاه أبو
الحسين بن القطان في كتابه في أصول الفقه.
قال: فمنعه قوم وجوزه آخرون. وقالوا: الأدلة تنقسم إلى ما هو
بين بنفسه، وإلى ما هو في ثواني العقل محتاج إلى دليل.
واختلف المتكلمون في مسألة وهي: أنا إذا أقمنا دليلا على حدوث
العالم مثلا، فهل المدلول حدوث العالم أو العلم بحدوثه؟.
والصحيح: الأول بدليل أن حدوث الأكوان دال على حدوث الجواهر
سواء نظر الناظر أو لا.
واختلفوا في الدلائل اللفظية هل تفيد القطع؟ على ثلاثة مذاهب:
أحدها : نعم. وحكاه الأصفهاني في شرح المحصول عن المعتزلة، وعن
أكثر أصحابنا.
(1/28)
والثاني : أنها لا تفيد.
والثالث : وهو اختيار فخر الدين الرازي أنها تفيد القطع إن
اقترنت به قرائن مشاهدة، أو معقولة كالتواتر ولا يفيد اليقين
إلا بعد تيقن أمور عشرة: عصمة رواة ناقليها، وصحة إعرابها،
وتصريفها، وعدم الاشتراك، والمجاز، والتخصيص بالأشخاص،
والأزمان، وعدم الإضمار، والتقديم والتأخير، وعدم المعارض
اللفظي، قيل: ولم يذكر النسخ؛ لأنه داخل عنده في التخصيص
بالأزمان.
قال القرطبي في أصوله: وما ذكره صحيح غير أنه لا يشترط في حصول
اليقين حصول هذه الأمور مفصلة في الذهن، فإنا نقطع بأن الله
تعالى قد حكم على المطلقة المدخول بها بتربص ثلاثة قروء، لا
أقل منها، ولا أكثر. وأن حكم المحصر الذي لم يجد الهدي صيام
عشرة أيام، وإن لم يخطر لنا تفصيل هذه الأمور بالبال. وهذا كما
يقول في الخبر المتواتر: إذا اجتمعت شروطه يفيد العلم، وإن لم
يشعر الذهن بتفصيل شروطه حالة حصول العلم به. وكذا القول في
الدليل اللفظي، فإنه قد يحصل لنا اليقين به قبل إحضار تلك
الأمور بالبال. قال: وإنما نبهنا على ذلك لئلا يسمع القاصر
كلام الإمام هذا. فيظن أنه لا يحصل العلم بالدليل اللفظي حتى
يخطر له تلك الأمور بباله، ويعتبرها واحدا واحدا فتشك نفسه مما
حصل له من اليقين من الأدلة، ولا شك أن ظن تلك الأمور، أو
بعضها بالدليل ظن إلا أن يقترن به قرائن عقلية، أو حالية،
فيحصل اليقين منها. انتهى. ورده غيره بأن بعض النحو واللغة،
والشعر قد بلغ حد التواتر كرفع الفاعل، ونصب المفعول، ونحن لا
ندعي قطعية جميع النقليات، ومن ادعى أنه لا شيء من التراكيب
يفيد القطع بمدلوله، فقد أنكر جميع التواترات.
وقال غيره: المقصود من هذه المسألة أن الدليل النقلي إذا أدى
إلى إثبات أمر، وقام الدليل العقلي على نفي ذلك الأمر، فإن
الدليل النقلي يسقط اعتباره في هذا المحل. ولا يمكن أن يقال:
إنه معارض للدليل العقلي كما يتصور المعارضة بين العقلي
والنقلي بالنسبة إلى محل واحد.
(1/29)
مسألة: [أدلة العقول]
قال أبو الحسين بن القطان: أنكر داود وأصحابه أدلة العقول.
وذهب أبو بكر الصيرفي إلى أنها صحيحة إلا أن الله تعالى لم
يحوجنا إليها؛ لأن أول محجوج بالسمع آدم عليه السلام حيث قيل
له: لا تأكل فدل على أن أدلة العقل قد كفينا الأمر فيها
واستقللنا بالسمع.
قال: وعندنا أن دلائل العقول صحيحة بها ندري الأشياء، لأن
العلم بالمعجزة إنما دل عليها العقل، وقال تعالى: {فَمَا
أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف: 26] ولم يرد سبحانه
بالأفئدة قطعة اللحم، وإنما أراد به التمييز، وبهذه الآية احتج
على أن محل العقل الفؤاد.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: الذي عليه الإسلاميون وغيرهم أن
العقول طرق المعلومات. قال: وأنكرت طائفة من المحدثين ذلك،
وقالوا: لا يعرف شيء إلا من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
فرع [قضايا العقول]:
وقضايا العقول ضربان: ما علم بضرورة العقل، وهو مما لا يجوز أن
يكون على خلاف ما هو به كالتوحيد، فيوجب العلم الضروري، وإن
كان عن استدلال للوصول إليه بضرورة العقل. وما علم بدليل
العقل، وهو ما يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كآحاد الأنبياء
إذا ادعى النبوة، فيوجب علم الاستدلال، ولا يوجب علم الاضطرار؛
لحدوثه عن دليل العقل لا عن ضرورته.
واختلف في أصول النبوات على العموم هل تعلم بضرورة العقل أو
بدليله؟ على اختلافهم في التعبد بالشرائع. هل اقترن بالعقل أو
يعقبه؟ فذهب من جعله مقترنا بالعقل إلى إثبات عموم النبوات
بضرورة العقل وذهب من جعله متأخرا عن العقل إلى إثباتها بدليل
العقل.
ضابط [الباحث عن الحكم الشرعي]. الباحث عن الحكم الشرعي إما في
إثباته أو في نفيه، ففي الأول لا بد له من دليل مثبت، وهو
الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وما يتبع ذلك كما سيأتي،
وفي الثاني إما أن يكون لعدم دليل،
(1/30)
فهو المعبر عنه بالبراءة الأصلية. ومعنى
ذلك أن ما لم يتعرض له الشرع باق على النفي الأصلي على ما
تقرر، ولهذا المعنى سماه الغزالي: دليلا. وإما أن يكون لوجود
دليل باق، وذلك الدليل إما أن لا يستلزم النفي لمعقوليته، أو
يستلزم، والأول: نصوص الأدلة، والثاني: هو المانع وفقدان
الشرط.
فائدة: [أدلة النفي أوسع من أدلة الإثبات]
أدلة النفي أوسع من أدلة الثبوت؛ لأن كل ما يدل على الثبوت يدل
على النفي. وقد يدل الشيء على النفي ولا يدل على الثبوت أصلا
كالدليل العقلي والبراءة الأصلية، ومن ثم قيل: لا دليل على
النافي.
***
(1/31)
|