البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية النظر
مدخل
...
النظر
[النظر] لغة: الانتظار، وتقليب الحدقة نحو المرئي، والرحمة،
والتأمل. ويتميز بالمعدي من حروف الجر.
وفي الاصطلاح: الفكر المؤدي إلى علم أو ظن.
قال إمام الحرمين في الشامل: الفكر هو انتقال النفس من المعاني
انتقالا بالقصد، وذلك قد يكون بطلب علم أو ظن، فيسمى نظرا. وقد
لا يكون كأكثر حديث النفس، فلا يسمى نظرا بل تخيلا وفكرا.
والفكر أعم من النظر. فالحاصل أن قصد الناظر الانتقال من أجزاء
الحد،
وقال في البرهان: حقيقة النظر تردد في أنحاء الضروريات
ومراتبها، وقال فيما بعد: عندنا مباحثة في أنحاء الضروريات
ومراتبها وأساليبها، وقد اعترف فيما بعد أن الضروريات تنقسم
إلى هاجم عليه، ويسمى ضروريا. وإلى ما يحتاج إلى فكر، فيسمى
نظريا.
قيل: وهذا نقض لقوله: إن كلها ضرورية. وأما حصر النظر في
الضروريات فلا يستقيم، فإنه قد يكون في غير الضروريات ضرورة،
ثم هو منقوض بالشك وقال القاضي أبو بكر: النظر هو الفكر الذي
يطلب به من قام به علما أو ظنا، وهو مطرد في القاطع والظني.
واحترز بقوله: به من بقية الصفات، فإنه لا يطلب بها بل عندها،
فيكون شرطا للطلب. كذا حكاه عنه الآمدي واستحسنه.
وأجاب عما اعترض به عليه، ثم اختار خلافه، وليس لشيء واحد حدان
مختلفان. وقال الأستاذ أبو منصور: هو الفكر في الشيء المنظور
فيه طلبا، لمعرفة حقيقة ذاته أو صفة من صفاته، وقد يفضي إلى
الصواب إذا رتب على وجهه، وقد يكون خطأ إذا خولف ترتيبه.
وقال الغزالي في الاقتصاد: إذا أردت إدراك العلم المطلوب فعليك
وظيفتان: إحداهما، إحضار الأصلين أي: المقدمتين في ذهنك. وهذا
يسمى فكرا. والآخر يسوقك إلى التفطن. لوجهة لزوم المطلوب من
ازدواج الأصلين، وهذا يسمى طلبا. قال: فلذلك من جرد التفاته
إلى الوظيفة الأولى جد النظر بأنه الفكر، ومن جرد
(1/32)
التفاته إلى الثانية قال: إنه طلب علم أو
غلبة ظن.
قال: ومن التفت إلى الأمرين جميعا قال: إنه الفكر الذي يطلب به
من قام به علما أو غلبة ظن. قالوا: ولا يستعمل إلا فيما يمكن
أن يحصل له صورة في القلب، ولذلك ورد "تفكروا في آلاء الله ولا
تفكروا في الله" 1.
وقال بعض الأذكياء: الفكر مقلوب الفرك غير أن الفكر لا يستعمل
إلا في المعاني. وقال القاضي أبو يعلى في كتابه المعتمد
الكبير: النظر والاستدلال معنى غير الفكر والروية، بل يوجد
عقبه. خلافا للمعتزلة في قولهم: إنهما بمعنى واحد، ولنا أن
الإنسان يفكر أولا في الجسم. هل هو قديم أو حادث؟ وما دام
مفكرا فهو شاك، ثم ينظر بعد ذلك في الدليل، وحينئذ يلزم أن
يكون النظر والفكر متغايرين.
قال الروياني في البحر: والفرق بين الجدال والنظر وجهان:
أحدهما: أن النظر: طلب الصواب، والجدال: نصرة القول. والثاني:
النظر: الفكر بالقلب والعقل، والجدال: الاحتجاج باللسان، والله
أعلم.
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الأوسط "6/250" قال الهيثمي: وفي إسناده
الوازع بن نافع، وهو متروك. انظر مجمع الزوائد "1/81". قلت:
الوازع بن نافع قال فيه ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن
الثقات – على قلة روايته – ويشتبه أنه لم يكن المعتمد لذلك، بل
وقع في روايته لكثرة وهمه، فبطل الاحتجاج به لما انفرد عن
الثقات بما ليس من أحاديثهم. انظر "المجروحين 3/83". وقال فيه
يحيى بن معين: ليس بثقة، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال
النسائي: متروك. انظر لسان الميزان لابن حجر "6/213" ترجمة
"750".
(1/33)
مسألة: [أقسام النظر]
وأقسامه أربعة: لأنه إما جازم أو لا. وكل واحد إما مطابق أو
لا، وإن شئت قلت: إما صحيح أو فاسد: وكل واحد إما جازم أو غير
جازم، فالنظر الصحيح: هو النظر المطابق. والفاسد. هو الذي لم
يفد المطلوب إما للخطأ في الترتيب، أو أنه قصد به شيء فأفاد
غيره، أو لم يفد شيئا أو بغير ذلك.
وقسمه الآمدي إلى صحيح: وهو ما قد وقف الناظر فيه على وجه
دلالة الدليل، وناقض ذلك بقوله: إن الصحيح منه يفيد العلم مع
أنه لا يرى الظن علما بل ضدا للعلم، وهو أحد طرق العلم خلافا
للسوفسطائية النافين للحقائق، والسمنية القائلين
(1/33)
بتكافؤ الأدلة.
وشرطه : العقل، وانتفاء ما فيه كالغفلة، وهل السهو عن النظر
الصحيح والنسيان له ضد له أم لا؟ فيه احتمالان للقاضي أبي
يعلى. وعنده لا يكون غير العلم ضدا له؛ لأنه إنما يفيد العلم
الظن ليس علما، وأن لا يكون جاهلا بالمطلوب، ولا عالما به من
كل الوجوه، ولا من وجه تطلبه، لاستحالة تحصيل الحاصل، وقال
الإمام فخر الدين الرازي: إنه ينافي العلم بما ينظر فيه؛ لأن
النظر طلب، وطلب الحاصل محال وينافي الجهل به؛ لأن الجاهل
يعتقد كونه عالما، وهو يصرفه عن الطلب.
قيل: لكن هذا في المركب، وهو ينافي البسيط أيضا ولم يذكره، وأن
يكون نظره في الدليل لا في شبهة. بمعنى أن يقع نظره على الدليل
الذي يتعلق به الحكم؛ لأنه إذا أخطأ الدليل لم يصح نظره ولهذا،
أخطأ من أخطأ، لأنه لم يوفق في نظره لإصابة الدليل، وإنما وقع
على شبهة أدرك الدليل غيره، وأن يستوفي شروط الدليل، وترتيبه
على حقيقة بتقديم ما يجب تقديمه، وتأخير ما يجب تأخيره وأن
يعلم الوجوه التي تدل منها الأدلة، ولا يكفيه العلم بذات
الدلالة مع الذهول عن الوجه الذي منه تدل الدلالة.
قال ابن السمعاني: ويجب أن يكون المطلوب علم الاكتساب لا علم
الضرورة.
وقال الأستاذ أبو المنصور: يجب أولا أن يكون المطلوب غائبا عن
الحس والضرورة فيما يدرك بالحواس، أو البداهة لا مدخل للنظر
فيه. ثم يعلم الضروريات الحسية والبديهية، وإلا لم يتمكن من رد
الغائب إلى محسوس أو معلوم بالبداهة، ثم يعلم وجود الدليل على
ما يستدل به عليه، ثم يعلم وجه تعلق الدليل بالمدلول، ومن ثم
لم يصح الاستدلال على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام بالقرآن
المعجز من لا يعرف وجود القرآن في العالم. ولا من عرف وجوده،
ولم يعلم أنه ظهر على يديه. ولا من عرف ظهوره عليه، ولم يعلم
أنه تحدى به العرب فعجزوا عن معارضته بمثله.
قال: ومن شرطه إذا كان دليله يدل على شيئين فأكثر أن يجريه
فيهما، فأما أن يستدل به في أحد مدلوليه ويمنع من الاستدلال به
في الآخر، فإنه مفسد للدليل على غير نفسه، ولهذا لم يصح
استدلال المعتزلة على أن الله عالم بأفعاله المحكمة؛ لأن
المحكمات كما دلت على كون فاعلها عالما دلت على أن له علما.
فإذا لم يجروا هذه الدلالة في علم الباري لم يصح استدلاله بها
على كونه عالما.
قلت: ومنه استدلال الحنفية على صحة بيع الفضولي بحديث عروة
البارقي،
(1/34)
ولا يصح لأن عندهم ليس له الإقباض. والحديث
كما دل على جواز العقد دل على جواز الإقباض. فإذا لم يستدلوا
به على عدم امتناع الإقباض لم يصح استدلالهم على جواز العقد.
وإذا اجتمعت هذه الشروط كان النظر مثمرا للعلم ومنتجا له، وإن
أخل بشيء منها كان فاسدا، ولم يقع بعده علم.
قال أبو يعلى في المعتمد وكل جزء من النظر الصحيح يتضمن جزءا
من العلم خلافا لابن الباقلاني والمعتزلة في قولهم: إن كل جزء
من النظر لا يتضمن جزءا من العلم، بل لا يثمر إلا بعد
استكماله، فإذا استوفى النظر حصل بعده العلم، وهذا كالنظر في
حدوث العالم، فإننا ننظر أولا في إثبات الأعراض فإذا نظرنا فيه
حصل العلم بوجود العرض فقط، ثم ننظر ثانيا في حدوثه فنعلم
حدوثه، وربما تكون الأدلة على وجود الأعراض أو حدوثها مبنية
على أشياء كثيرة يجب النظر فيها، فيحصل لنا العلم بكل من النظر
في تلك الأشياء علما، وكذلك النظر في سائر الأدلة.
قلت: والخلاف لفظي فإنه إن أريد علم ما فالحق ما قاله أبو
يعلى، وإن أريد المقصود بالنظر، فالحق ما قاله الآخرون، ونظيره
الخلاف الفقهي أن الحدث هل يرتفع عن كل عضو بمجرد غسله أو
يتوقف على تمام الأعضاء؟.
(1/35)
مسألة: [النظر مكتسب]
النظر مكتسب بالاتفاق وإذا وجد بشروطه أفاد العلم.
وقالت الحكماء: النظر في الإلهيات لا يفيد العلم، وإنما يفيد
في الهندسيات والحسابات، ويقع العلم عقبه على المشهور. وقيل:
مع آخر جزء من أجزائه. حكاه عبد الجليل في "شرح اللامع".
وعلى الأول فاختلفوا في كيفية حصوله على أربعة أقوال:
أحدها : وبه قال الأشعري إنه يستلزمه عادة بإيجاد الله تعالى،
وكحصول الشبع عقب الأكل، والري عقب الشرب، ورد بأنه لو كان
كذلك لكان خرقه جائزا وعدمه ممكنا. وهاهنا حصول العلم واجب لا
محالة فيستحيل أن لا يحصل عقب كمال النظر.
والثاني : وهو مذهب المعتزلة أنه يستلزم العلم بالتولد، وهو
الحاصل عن
(1/35)
المقدور بالقدرة الحادثة لا بالمباشرة
كحركة السهم عن الرمي، ويجب وقوعه بعد النظر كوقوع المعلول بعد
العلة.
والثالث : أنه يستلزم العلم عقلا بإيجاب ذاتي، أي: ذاته موجبة
لذلك، وصححه الإمام في المحصول.
والرابع : أنه يستلزم العلم بتضمن المقدمات المنتجة بطريق
اللزوم الذي لا بد منه، لا يكون النظر علة، ولا مولدا، وهو قول
القاضي أبي بكر، وإمام الحرمين.
وقال الآمدي: إنه الحق. وهذه المسألة من فروع خلق الأفعال.
واحتج أصحابنا على أن النظر غير مولد للعلم. بقيام الأدلة على
أن الإنسان لا يفعل إلا ما هو قادر عليه، وأن قدرة الإنسان لا
توجد قبل مقدورها. وإذا ثبت لنا هذا الأصل بدليل بطل أن يكون
العلم الواقع عقب النظر من فعل الإنسان، وذلك؛ لأنه لو كان من
فعله، لوجب كونه قادرا عليه بقدرة تقارنه، أو تقارن القدرة على
سببه الذي هو النظر. وهو محال؛ لأنه يوجب تقدم القدرة على
مقدورها، والله أعلم.
(1/36)
مسألة: [العلم الحاصل عقب النظر]
اختلف في العلم الحاصل عقب النظر، فمن قال في الأولى بالتضمن،
أو الإيجاب الذاتي قال: إنه ضروري، وهو المختار عند إمام
الحرمين، وإلكيا، والغزالي في المنخول ومن قال: إنه بالعادة
فليس بضروري لجواز خرقها، فيخرج حينئذ عن كونه ضروريا، إذ
الضروري هو الذي يلزم النفس لزوما لا يتأتى منه الانفكاك عقلا.
قال إمام الحرمين في التلخيص وتبعه ابن القشيري: وحيث قلنا: إن
النظر الصحيح يتضمن ترتيب العلم بعده، فالنظر الفاسد، وفي
الشبهة لا يقتضي الجهل، ولا الشك، ولا شيئا من أضداد العلم؛
لأن الدليل يتعلق بمدلوله، والشبهة لا تعلق لها بأضداد العلوم.
(1/36)
مسألة: [النظر واجب شرعا]
النظر واجب شرعا. قال ابن القشيري: بالإجماع؛ لأن الإجماع قام
على وجوب معرفة الله، ولا تحصل إلا بالنظر، وما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: الأصح:
أن النظر لا يجب على المكلفين إلا أن يكونوا شاكين فيما يجب
اعتقاده فيلزمهم البحث عنه، والنظر فيه إلى أن يعتقدوه، أو
يعرفوه.
قال: ومعرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وما يمتنع عليه يتعلق
بالخاصة، وهم قائمون به عن العامة لا في تعريف ذلك لهم ومن
المشقة الظاهرة، وإنما هم مكلفون باعتقاده، وقال بعض نبلاء
المتأخرين: هذا الذي قالوه من وجوب النظر مبني على أن كل إنسان
ابتداء غير عارف بالله حتى ينظر، ويستدل، فيكون النظر أول
الطاعات وهذا خلاف ما عليه السلف وجمهور أهل العلم، بل الأمر
بالعكس، فإنه لا يوجد قط إنسان إلا وهو يعرف ربه عز وجل، ولا
يعرف له حال لم يكن فيها مقرا حتى ينظر ويستدل. اللهم إلا من
عرض له ما أفسد فطرته ابتداء، فيحتاج معه إلى النظر. نعم النظر
الصحيح يقوي المعرفة، ويثبتها فإن المعارف تزيد وتنقص على
الأصح.
قلت: وهذا جموح إلى أن المعرفة ضرورية لا نظرية، والصحيح:
الأول، إذ لو كانت ضرورية لكان التكليف بها محالا، ونحن مكلفون
بمعرفته. قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ} [محمد: 19].
واعلم أنهم اختلفوا في الواجب الأول تفريقا على القول بوجوب
معرفة الله تعالى على بضعة عشر قولا.
أحدها : أن أول الواجبات العلم بالله، وهو المنقول عن الشيخ
أبي الحسن.
والثاني : أنه النظر المؤدي إلى العلم بحدوث العالم، ومعرفة
الصانع، وهو المنسوب إلى الأستاذ أبي إسحاق.
والثالث : القصد إلى النظر الصحيح، وهو اختيار الإمام في
الإرشاد.
والرابع : أنه يجب الإيمان بالله ورسوله، ثم النظر والاستدلال
المؤديان إلى ذلك، وهو اختيار أصحاب الحديث.
والخامس : قول أبي هاشم الشك، ونقل عن ابن فورك؛ لامتناع النظر
من
(1/37)
العالم، فإن الحاصل لا يتعلق به طلب ولا
يمتنع من الشاك. وزيفه القاضي بأنه لا يمتنع في العقل الهجوم
على النظر من غير سبق تردد.
والسادس : الإقرار بالله ورسوله.
والسابع : النطق بالشهادتين.
والثامن : قبول الإسلام والعزم على العمل، ثم النظر بعد
القبول.
والتاسع : اعتقاد وجوب التقليد.
والعاشر : التقليد. والحادي عشر: النظر ولا يجب إلا عند الشك
مما يجب اعتقاده، فيلزم البحث عنه حتى يعتقده. وهذه الأقوال
ربما تتداخل وتختلف في العبارة.
وقال الرازي في التحصيل الخلاف لفظي، وذلك؛ لأنه إن أريد
بالواجب الواجب بالقصد الأول فلا شك في أنه المعرفة عند من
يجعلها مقدورة والنظر عند من لا يجعلها مقدورة. وإن أريد من
الواجب كيف كان، فلا شك أنه القصد.
قلت: بل معنوي تظهر فائدته في التعصية بترك النظر على من أوجبه
دون من لا يوجبه.
وقال صاحب المواقف إن قلنا: الواجب النظر فمن أمكنه زمان يسع
النظر التام، ولم ينظر فهو عاص، ومن لم يمكنه أصلا، فهو
كالصبي. ومن أمكنه ما يسع لبعض النظر دون تمامه ففيه احتمال،
والأظهر: عصيانه كالمرأة تصبح طاهرة فتفطر، ثم تحيض. فإنها
عاصية، وإن ظهر أنها لم يمكنها إتمام الصوم.
وقال ابن فورك: بسبب هذا الخلاف اختلافهم في المعرفة أهي
ضرورية أو كسبية؟ فمن قال: ضرورية قال: أول فرض الإقرار بالله،
ومن قال: كسبية قال: أول فرض النظر والاستدلال المؤديان إلى
المعرفة.
وقال ابن السمعاني في القواطع في أول الكلام على القياس: أنكر
أهل الحديث، وكثير من الفقهاء قول أهل الكلام: إن أول واجب
النظر، وقالوا: إن أول واجب معرفة الله على ما وردت به
الأخبار. ولو قال الكافر: أمهلوني؛ لأنظر فأبحث فإنه لا يمهل،
ولا ينظر، ولكن يقال له: أسلم في الحال، وإلا فأنت معروض على
السيف. قال: ولا أعرف في ذلك خلافا بين الفقهاء، وقد نص عليه
ابن سريج: انتهى.
وهو عجيب، فقد حكوا في كتاب الردة وجهين فيما إذا تعين قتل
المرتد،
(1/38)
فقال: عرضت لي شبهة فأزيلوها؛ لأعود إلى ما
كنت عليه. هل يناظر لإزالتها؟ فيه وجهان. وقال: القاضي أبو
يعلى في المعتمد: إذا ترك المكلف أول النظر فإنه يستحق العقاب
عليه، وعلى ترك ما بعده، ويجوز أن يعاقب على ترك النظر الأول
عقابا أعظم من عقاب ترك النظر الثاني: ويجوز أن يكون مثله
خلافا للمعتزلة في قولهم: إنما يعاقب على ترك فعل الأول غير أن
عقابه عظيم يجري مجرى العقاب على ترك كل النظر.
(1/39)
مسألة: [النظر الفاسد لا يستلزم الجهل]
قد سبق أن النظر الفاسد لا يستلزم الجهل، وهو المشهور وقيل:
يستلزمه. وقال بعض المتأخرين: والحق أن الفساد إن كان مقصورا
على المادة استلزم الجهل؛ لأن من اعتقد أن العالم قديم، واعتقد
أن كل قديم غني عن الغير اعتقد أن العالم غني عن المؤثر، وهو
جهل محال. وإن كان الفساد مقصورا على الصورة أو يشمل الصورة
والمادة لا يستلزم، كقولنا: لا شيء من الإنسان بحجر، وكل حجر
جماد يلزم لا شيء من الإنسان بجماد علما. وإن كانت صورة القياس
غير صحيحة؛ لعدم إيجاب الصغرى.
ضابط: [الإدراك]:
الإدراك بلا حكم تصور، ومع الحكم تصديق، لكن مجموعهما أو الحكم
وحده فيه خلاف، فذهب القدماء إلى أنه الحكم. واختار الإمام فخر
الدين أنه المجموع. ومال إليه الشيخ تقي الدين في شرح العنوان.
وهو جهل، إن كان جازما غير مطابق، وتقليد إن طابق وإن لم يكن
لموجب، وعلم إن كان لموجب عقلي أو حسي، أو مركب منهما وهو
المتواترات، وإن لم يكن جازما فإن تساوى طرفاه، فهو الشك، وإلا
فالراجح ظن صادق إن طابق، أو كاذب إن لم يطابق، والمرجوح وهم.
ولا يرد قول القائل: اعتقاد المقلد حادث. وكل حادث لا بد له من
سبب، فكيف يقولون في الاعتقاد له بالموجب؟؛ لأنا نقول المراد
بالموجب ما ذكرنا، واعتقاد المقلد ليس عن برهان حسي، أو عقلي،
أو مركب منهما. وأورد بأن الشك تردد لا
(1/39)
حكم فيه، فكيف يورد في قسم الحكم؟ وأيضا
فالوهم ينافي الحكم بالشيء.
وأجيب بأن الشاك له حكمان متساويان بمعنى أنه حاكم بجواز وقوع
هذا النقيض بدلا عن النقيض الآخر، وبالعكس. والظان حاكم، ويلزم
منه وجود الوهم، وحكمه بالطرف الآخر يكون مرجوحا، فظهر أن
الشاك حاكم، وكذلك الواهم. نعم جعلهم التقليد الجازم المطابق
لا لموجب لا يعم أنواع التقليد، بل يخص الصحيح منه، وجعلهم
الجهل هو الحكم الجازم من غير مطابقة لا يعم أنواع الجهل بل
يخص المركب، ويخرج عنه الجهل البسيط الذي هو عدم العلم عما من
شأنه أن يعلم، وسمى الدارمي من أصحابنا الوهم تجويزا. قال
النووي: وعند الفقهاء الشك والظن مترادفان..
قلت: وهذا إنما قالوه في الأحداث لا مطلقا. ألا تراهم يقولون:
الطلاق لا يقع بالشك؟. يريدون التساوي أو المرجوح، وإلا فهو
يقع بالظن الغالب كما قاله الرافعي في باب الاعتكاف.
قال الدارمي: ومن قال بهذا يسمي الراجح غالب الظن، ثم رجح أن
مستوي الطرفين هو الشك، والراجح ظن، والزائد في الرجحان غالب
الظن.
(1/40)
مسألة [في العلم].
قال أبو بكر النقاش سمي علما؛ لأنه علامة يهتدي بها العالم إلى
ما قد جهله الناس، وهو كالعلم المنصوب بالطريق.
واختلفوا في العلم المنقسم إلى تصور خاص أو تصديق خاص، وهما
اللذان يوجبان لمن قام به تمييزا لا يحتمل النقيض. هل يحد أم
لا يحد؟.
والقائلون بأنه لا يحد ومنهم أبو الحسين البصري اختلفوا في
توجيهه، فقيل: لأن المنطقيين اشترطوا في الحد الجنس الأقرب،
وإن لم يوجد ذلك في العلم، واشترطوا ذكر جميع الذاتيات كما
يقال: عرضي لون سواد، والأول جنس أقرب، وفي العلم لا يقال:
عرضي علم، فلهذا لا يحد.
وقال الأصوليون: لأنه لم يوجد له عبارة دالة على حقيقته
وماهيته فلا يحد، وقال أبو الحسين بن اللبان:؛ لأنه أظهر
الأشياء فلا معنى لحده بما هو أخفى منه حكاه بعض شراح اللمع،
وحكي عن ابن مجاهد الطائي أنه منع إطلاق الحد في العلم، وإنما
يقال: حقيقة العلم كذا؛ لأن الحقائق لا يختلف القديم والحادث
بخلاف العلم. قال:
(1/40)
والذي ذكره أصحابنا إنما هو مجاز، فأجروا
الحد مجرى الاسم توسعا، وقال الرازي: ضروري إذ به تعرف الأشياء
فلو عرف العلم لوجب أن يعرف بغيره لاستحالة تعريف الشيء بنفسه،
والغرض أن غيره متوقف عليه فيلزم الدور، ثم قال في موضع آخر:
هو حكم الذهن الجازم المطابق لموجب كما سبق في الضابط، فكأنه
قال بأنه ضروري ويحد وهذا تناقض.
فإن قيل: الذهني تعريفه تصديقي، والمدعى معرفته تصوري فلا
تناقض.
قلنا: إن كان كذلك لكن التعريف للنسبة في التصديق تعريف لتصور؛
لأن النسبة ليست تصديقا بل مقررة. وقال غيره: ضروري ولا يحد.
وهو قضية نقل ابن الحاجب عنه، والموجود في المحصول ما ذكرته
أولا، وقال إمام الحرمين، والقشيري، والغزالي: يعسر تعريفه
بالحد الحقيقي. وإنما يعرف بالتقسيم والمثال، ثم يعرض في روم
التوصل إليه إلى انتفاء الفرق بينه وبين أضداده.
واعترض عليهم الآمدي بأن القسمة المذكورة إن لم تكن مميزة له
عما سواه فليست معرفة، وإن كانت مميزة فذلك رسم. وهذا إنما يرد
لو أحالا الرسم، وهو غير ظاهر من كلامهم. والمختار: أنه يعرف
بالحد الحقيقي كغيره، فقال القدماء: هو معرفة المعلوم على ما
هو به..
وأورد بأنه تعريف الشيء بنفسه، وبما لا يعرف إلا بعد معرفته،
وهو باطل؛ لأن المعلوم مشتق من العلم، ورتبة المشتق في المعرفة
متأخرة عن رتبة المشتق منه، وقد أخذ في تعريف العلم فيلزم ما
ذكرنا. وأجيب بأنهم تجوزوا في المعلوم.
وقيل: إنه منقوض بعلم الله، فإنه لا يسمى معرفة إجماعا كما
قاله الآمدي، وبمعرفة المقلد إذ ليست علما، وبأن فيه زيادة وهو
قوله: على ما هو به: إذ المعرفة عندهم هي العلم، والعلم إنما
يكون مطابقا واحدا، ولهذا قال الإمام: لو اقتصر على قوله:
معرفة، لكفى.
وقيل: ذكرت للإشعار بأنها من الصفات المتعلقة، وللإشارة إلى
نفي قول من يقول بوجود علم ولا معلوم، وهم بعض المعتزلة.
واستحسن ابن عقيل قول بعضهم: إنه وجدان النفس الناطقة الأمور
بحقائقها، وهذا تعريف المجهول بمثله، أو دونه، فإن العلم أظهر
من وجدان النفس أو مثله.
ثم هو غير جامع لخروج علم الله، وغير مانع لوجدان المقلد، وليس
بعلم وقال القفال الشاشي: إثبات الشيء على ما هو به، وقال ابن
السمعاني: الأحسن أنه إدراك
(1/41)
العلوم على ما هو به. والأولى كما قاله في
التلخيص : إنه معرفة العلوم فيشمل الموجود والمعدوم، ولا نظر
إلى الاشتقاق حتى يلزم الدور.
قال: ولو قلت: ما يعلم به العلوم لكان أسد وقد أومأ شيخنا أبو
الحسن إلى أنه ما أوجب لمحله الاتصاف بكونه عالما، وقيل: تبين
المعلوم على ما هو به، وقيل: هو المعرفة.
ورد بأنه لا يقال لعلم الله: معرفة. ولا يقال له: عارف، وحكى
الأستاذ أبو إسحاق في كتاب شرح ترتيب المذهب إجماع المتكلمين
على أن الله تعالى لا يسمى عارفا، ودفع الاستدلال بحديث: "تعرف
إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" 1 بأنه لا يقطع به.
ونقل المقترح في شرح الإرشاد عن القاضي أنه سمي علم الله معرفة
لهذا الحديث، ثم ضعفه بأن الخطاب لم يسق لبيان العلم، ولا أطلق
لفظ المعرفة هاهنا عليه، وإنما أراد ثمرة العلم وهو الإقبال في
الإلطاف عليه، ولهذا لا يسمى الباري عارفا. انتهى. وقيل
المراد: المجازاة. وخرج عليه قول ابن الفارض:
قلبي يحدثني بأنك متلفي ... روحي فداك عرفت أم لم تعرف
ـــــــ
1 حديث صحيح: رواه أحمد في مسنده "1/37" حديث "2804" بلفظ
"تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة" ورواه الترمذي "4/667"
حديث "2516" بلفظ "يا غلام، أني أعلمك كلمات: أحفظ الله يحفظك،
أحفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت
فاستعن بالله..." الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(1/42)
مسألة: [تفاوت العلوم]
هل تتفاوت العلوم؟ فيه قولان:
قال في البرهان: وأئمتنا على التفاوت، وقرره المازري. وقال
الأرموي في التحصيل: إنه الحق، وقال ابن التلمساني، المحققون
على عدم تفاوتها، وإنما التفاوت بحسب المتعلقات، واختاره إلكيا
الطبري في كتاب الترجيح، والإمام في البرهان، والأنباري في
شرحه، ونقل في البرهان في الترجيح عن الأئمة أن المعقولات لا
ترجيح فيها.
قلت: بناء على أنه لا يمكن تعارضها بخلاف تفاوتها في رتبتها
فإنه ممكن عند
(1/42)
المحققين. واختار الإمام في تفسيره عدم
التفاوت في نفس العلم، بل في طريقه بالنسبة إلى كثرة المقدمات
وقلتها ووضوحها وخفائها وقال القرافي: وقعت هذه المسألة بين
الشيخ عز الدين والأفضل الخونجي. واختار الشيخ عدم التفاوت،
وعكس الخونجي.
قال القرافي: ولأجل التفاوت قال أهل الحق: رؤية الله يعني في
الآخرة للمؤمنين عبارة عن خلق علم به هو أجلى من مطلق العلم
نسبته إليه كنسبة إدراك الحس إلى المحس به. قال: وكذلك سماع
الكلام النفساني. قال: وهذه عقائد لا تتأتى إلا على القول بعدم
التفاوت. ا هـ.
وظاهر كلام الصيرفي أنه لا تتفاوت. قال: وإنما جاء ذلك من جهة
أن بعض الدلائل أوضح من بعض كالبصر المدرك لما قرب إليه إدراكا
بخلاف ما بعد منه عن المسافة، وإن كان الإدراك من جوهر واحد،
فمنه ما يقع جليا، ومنه ما يقع مع التحديق والتأمل، وكذلك
منزلة الفكر والتدبر، وظاهر كلام القفال الشاشي تفاوتها، فإنه
قال: امتحن الله عباده، وفرق بين وجوه العلم، فجعل منه الخفي
ومنه الجلي؛ لأن الدلائل لو كانت كلها جلية لارتفع التنازع
وزال الاختلاف، وما احتيج إلى تدبر وفكر، ولبطل الابتلاء، ولم
يقع الامتحان، ولا وجد شك ولا ظن ولا جهل؛ لأن العلم حينئذ
يكون طبقا. ولو كانت كلها خفية لم يتوصل إلى معرفة شيء منها،
إذ الخفي لا يعلم بنفسه، وإلا لكان جليا. قال الله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
[آل عمران: 7] قال: وإذا ثبت أنه ليس بخفي ولا جلي ثبت أن منه
ما هو جلي، ومنه ما هو خفي. ا هـ.
فحصل وجهان لأصحابنا أصحهما: التفاوت، وعلى هذا وقع الفرق بين
علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وقد أخرج الإمام أحمد في
مسنده، وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "ليس الخبر كالمعاينة إن موسى لم يلق الألواح لما
سمع عن قومه وألقاها حين رآهم" 1.
ـــــــ
1 حديث صحيح: رواه أحمد في مسنده "1/271" حديث "2247" بإسناده
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس
الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في
العجل فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح
فانكسرت" . ورواه ابن حبان في صحيحه "14/96" حديث "6213"، وهو
حديث صحيح. ورواه الحاكم في المستدرك "2/351" حديث "3250"،
وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ورواه الطبراني
في الأوسط "1/45" حديث "25" وفي الكبير "12/54" حديث "12451"
جميعا من طرق ابن عباس مرفوعا.
(1/43)
وقال أئمة الحقيقة: العلم بالله إن كان
بالأدلة فهو علم اليقين، فإذا قوي فهو عين اليقين، فإذا فني
فيه فهو حق اليقين. ويقال: علم اليقين كالناظر إلى البحر، وعين
اليقين كراكب البحر، وحق اليقين كمن غرق في البحر. ا هـ.
وقد أورد على القائلين بعدم التفاوت أنه يكون علم الأمم مماثلا
لعلوم الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، ولا شك أن علمهم مفاوت
لعلمنا وكذلك رجحان بعض المؤمنين على بعضهم في المعارف.
وأجيب بوجهين:
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على صفة للباري
تعالى لم يطلع عليها غيره، فيكون ذلك راجعا إلى زيادة علم
بمعلوم آخر، وليس ذلك تفاوتا في العلم.
الثاني : يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم علم ربه بوجوه أدلة
لم نطلع نحن على جميعها، فيرجع التفاوت إلى أعداد المعلوم، لا
إلى نفس العلم.
وأما رجحان المؤمنين بعضهم على بعض فمحمول على زيادة المعارف
وتواليها إذا حصلت بلا فترة، ولا غفلة ثم إذا ظهر التفاوت بهذا
الاعتبار تفاوت العارفون باعتبار قلة الغفلة وكثرتها، وقلة
المعارف وكثرتها، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "لو تعلمون
ما أعلم لبكيتم كثيرا" 1 فهذا إشارة إلى كثرة المعلومات لا إلى
التفاوت في العلم الواحد بالمعلوم الواحد. ولو كانت الإشارة
إلى هذا لقال: لو تعلمون كما أعلم فهذه عبارة التفاوت في نفس
العلم، وقال أيضا في التفاوت باعتبار اعتراض الغفلات قلة
وكثرة: "لو تكونون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة"2 مشيرا
إلى أن الغفلة تختلسهم في غيبتهم عنه وتتحاماهم بحضرته تلك
الحضرة المقدسة صلوات الله على صاحبها وسلامه.
فإن قيل: إذا تعذر التفاوت في ذوات العلوم، فلم لا أضيف
التفاوت إلى طرقها؟ فمنها البديهي، ومنها النظري.
قلنا: إذا حققت الحقائق فكل علم نظري يتوقف على علم بمقدمتين
لا يزيد ولا ينقص.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب كيف كانت يمين
النبي صلى الله عليه وسلم، حديث "6613". ورواه مسلم "1/9" كتاب
الكسوف، باب صلاة الكسوف، حديث "901".
2 رواه مسلم "4/2106" كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر في أمور
الآخرة، حديث "2750" عن حنظلة الأسدي أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي
وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا
حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات.
(1/44)
فإن قلت: فنرى بعض المعارف يصعب وبعضها
يسهل.
قلت: ذلك التفاوت يظن به أنه نشأ عن كثرة المقدمات للعلم
الواحد، وليس كذلك، وإنما هي معلومات ترتب بعضها على بعض، ولكل
معلوم مقدمتان، فما جاء التفاوت إلا من جهة كثرة المحصل من
المعارف، وقلته لا من بعد الطريق وقربها، والمعلوم واحد.
(1/45)
غير هذا الكتاب وافق الجمهور. فالتصور
البديهي كمعرفة الحرارة والبرودة، والنظري كمعرفة الملك
والروح، والتصديق البديهي كالعلم بأن النفي والإثبات لا
يجتمعان، والنظري كالعلم بأن العالم حادث.
وقال القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية: قيل: الضروري هو الذي
لا يرد عليه شك. والصحيح: أنه الذي لا يقع عن نظر واستدلال،
وهذا بالنسبة إلى العقلي منه أما الحسي فهو العلم بالمحسوسات.
وأما المركب منهما فإن كان الحسي سمعا فهو المتواترات. وإلا
فالتجريبات والحدسيات. وفرق بينهما بأنه قد يحصل مرة واحدة
والتجربة مرات.
وصار إمام الحرمين في بعض كتبه وابن القشيري إلى أن العلوم
كلها ضرورية جلية، وأن النظر هو التردد في أنحاء الضروريات غير
أن الضروريات لما انقسمت إلى مهجوم عليه في المرتبة الأولى،
وإلى ما يحتاج فيه إلى فكر سمى أحد القسمين ضروريا والآخر
نظريا.
قال ابن القشيري ثم الضروري يقع مقدورا لله تعالى خلقا ابتداء
من غير نظر متقدم عليه، وأما النظري فعند معظم الأصحاب مقدور
بالقدرة الحادثة.
واختار الإمام أنها مقدورة لله تعالى، ولا يتعلق بها اكتساب.
قال: وهذا الذي كنا سمعناه قديما من مذهب الكرامية؛ لأن من تمم
نظره حصل له العلم شاء أو أبى، فلو كان العلم مكتسبا له لتوقف
على اختياره.
وقال الأستاذ أبو إسحاق في كتابه الجامع: ذهب بعض أصحابنا إلى
أن العلوم كلها ضرورية، والذي نختاره القطع بأن العلوم الحادثة
بأسرها ضرورية. وإنما المقدور طلبها بالنظر المفضي إليها، فإذا
تم النظر واندفع عن مراسمه أضداد العلم بالمنظور فيه حصل العلم
لا محالة من غير إيثار، ودرك اقتداره، وهو بالقدرة، ومن ظن أن
العلوم التي تعقب النظر تقع وقوع القيام والقعود، وما عداها من
الأفعال المقدورة، فقد ظن أمرا بعيدا.
ثم إن الأستاذ انفرد بقول لم يتابع عليه، فقال: يجوز فرض العلم
النظري مقدورا للعبد على رأي الجمهور من غير تقدم نظر عليه،
فيكون العلم في حق من اقتدر عليه، ولم ينظر كالحركات والسكنات
الواقعة على موجب إيثار المتصف بها، وهذا قول غير سديد.
(1/46)
وتحصل لنا مذاهب:
أحدها : أن العلوم كلها ضرورية تصورها وتصديقها، وليس هذا قولا
بإنكار النظر بالكلية، بل بمعنى أن النظر إذا تم وقع العلم
عقبه ضرورة لا مقدورا.
الثاني : كلها كسبية.
الثالث : وهو الصحيح، بعضها ضروري، وبعضها كسبي.
الرابع : المتعلق بذات الله وبالاعتقادات الصحيحة ضروري، وغيره
لا يمتنع أن يكون كسبيا، ويرد عليه أن العبد مأمور بمعرفة الله
مثاب عليها، وذلك إنما يكون فيما يدخل تحت قدرته وفعله.
الخامس : التصورات ضرورية، والتصديقات منقسمة، وإليه ذهب
الإمام في المحصل، ويرد عليه ما أورد على الذي قبله، ولعله
يقول: إن المعرفة ضرورية، والمأمور به العلم بالوحدانية.
واتفقت الأشاعرة على أن ما كان نظريا يجوز أن يقع ضروريا؛ لأنه
ليس فيه إلا خلق المقدور بدون القدرة، ولا امتناع منه؛ لأن
قدرة العبد غير مؤثرة عندنا. قال الأستاذ أبو منصور: وهذا
الإجماع من طريق الإمكان، وأما طريق الوجود فقد أجمع أصحابنا
اليوم على أن معرفة الله في الدنيا مكتسبة لا تقع إلا عن نظر
واستدلال، وإنما تقع في الآخرة ضرورية.
واختلفوا هل يقع مقدورا مكتسبا من غير نظر؟. فاختاره الأستاذ
أبو إسحاق ومنعه الجمهور. وهل يجوز أن يقع الضروري نظريا؟. فيه
ثلاثة أقوال: الجواز والمنع. والصحيح عند إمام الحرمين أن ما
كان من العلوم الضرورية لا يتم العقل إلا به يمتنع أن يقع
نظريا، وما ليس كذلك يجوز.
وطرق العلم على المشهور منحصرة في ثلاثة: عقل وسمع وحس، وعنوا
بالحس علوم الإدراكات والعادات، واضطربوا في علوم الإلهام
والتوسم والمحادثة. قال الغزالي: لعلهم عنوا بالإلهام أن
العلوم كلها ضرورية مخترعة لله تعالى ابتداء، وقال القفال
الشاشي: ينحصر في الحس والاستدلال.
قال: والسمع داخل في جملة علوم الحس؛ لأن المسموع محسوس، ثم
معرفة حقيقة صوابه وخطئه تدرك بالاستدلال. ونقل عن بعض الأوائل
حصرها في الحس.
قال ابن القشيري: وهو غلط في النقل عنهم بل مذهبهم أن المعلوم
ما يتشكل في الحواس، وما لا يتشكل، ويفضي إليه نظر العقل، فهو
معقول، فاصطلحوا على
(1/47)
الفرق بين المعلوم والمعقول، فتوهم من
سمعهم يقولون: لا معلوم إلا المحسوس أنه لا يعلم شيء إلا
بالحس، وتوهم من قولهم: إن النظريات معقولات أنه لا يعلم شيء
إلا بالنظر واختلف قول الأشعري في إدراك الحواس هل هو من قبيل
العلوم؟ وآخر قوليه أنه ليس منها. وهو اختيار القاضي وإمام
الحرمين، وأطلقوا الخلاف.
ولا شك أن هناك ثلاثة أمور:
أحدها : إدراك الحس المحسوس.
والثاني : العلم بالمحسوس.
والثالث : العلم بعلوم أخرى تنشأ عن المحسوس.
والرابع : لا إشكال في أنه علم، وهو مخالف للأول قطعا. وهل
الثاني يخالف الأول أو هما شيء واحد؟ هذا محل الخلاف.
ثم اختلف في هذا الخلاف، فقال أبو القاسم الإسكاف إنه لفظي،
وإن الفريقين على أن المدرك والمعلوم واحد، والإدراك والعلم
بالمدرك مختلفان. وقال تلميذه إمام الحرمين: إنه معنوي على
القول بالأحوال كما أن العلم القديم والحادث يجمعهما حقيقة
واحدة مع القطع باختلافهما.
وحكى القرافي قولين في أن الإدراك للحواس أو للنفس بواسطة
الحواس؟.
وقال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب: الذي قاله الشيخ أبو
الحسن ونرتضيه أن جملة الطرق التي يدرك بها العلوم الضرورية
والاستدلالية تنحصر في أدلة خمسة: العقول، والكتاب والسنة،
والإجماع والقياس. قال: ولا عبرة بما يطلبه المنجمون من معرفة
الأشياء بذهاب الشمس، والقمر، ونجم كذا.
[الرؤيا]: وأما الرؤيا، فقد جاء في الحديث: "إن الرؤيا الصالحة
جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" 1، وهذه الستة والأربعون
كلها طرق علوم الأنبياء، فإن لهم طرقا في العلوم لا نصل إلى
شيء منها إلا بالخبر. قال: وهو مثل ما يعرفون من كلام البهائم
والجمادات والوحي وغير ذلك، والرؤيا من تلك الجملة.
قال: وقد اجتهدت في تحصيل الستة والأربعين ما هي؟ فبلغت منها
إلى اثنين وأربعين، وقد ذكرتها في كتاب الوصف والصفة وأنا في
طلب الباقي.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة
وأربعين جزءا من النبوة، حديث "6989"، عن أبي سعيد الخدي
مرفوعا.
(1/48)
قال: ولا يجوز أن يثبت بالرؤيا شيء حتى لو
رأى واحد في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بحكم من
الأحكام لم يلزمه ذلك. انتهى.
قلت: وحكى الأستاذ أبو إسحاق في كتاب أدب الجدل في ذلك وجها
والأصح: الأول؛ لأن الأحكام لا تثبت بالمنام إلا في حق
الأنبياء، أو بتقريرهم، وعن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد
أنه إن كان أمره بأمر ثبت عنه في اليقظة خلافه كالأمر بترك
واجب أو مندوب لم يجز العمل به، وإن أمره بشيء لم يثبت عنه في
اليقظة خلافه استحب العمل به.
قلت: ومن ثم لم يجب الحد على من قذف امرأة بأنها وطئت في
النوم، ولا عليه إذا أقر أنه زنى في النوم. وذكر الشافعي في
الأم1: أن رجلا قال لرجل إنه وطئ أمه في النوم، فحمله إلى علي
رضي الله عنه، فقال: أقمه في الشمس، واضرب ظله. قال الشافعي:
ولسنا نقول به.
ـــــــ
1 انظر الأم "7/192".
(1/49)
|