البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل: في مراتب العلوم
مراتب العلوم
...
فصل: في مراتب العلوم
قال أئمتنا: مراتب العلوم عشرة:
الأولى : علم الإنسان بنفسه، وصفاته وكلامه، ولذاته.
الثانية : العلم الضروري باستحالة المستحيلات، وانحطت هذه عن الأولى للحاجة فيها إلى الفكر في ذوات المتضادات وتضادها.
الثالثة : العلم بالمحسات وانحطت عن الثانية، لتطرق الآفات إلى الحواس.
الرابعة : العلم الحاصل عقب خبر التواتر، وانحطت عما قبلها لإمكان.
التواطؤ على المخبرين، وأيضا لا بد من فكر. ولهذا قال الكعبي: إن العلم عقبه نظري.
الخامسة : العلم بالحرف والصناعات، وانحطت لما فيها من المعاناة والمقاسات وتوقع الغلطات.
السادسة : العلم المستند إلى قرائن الأحوال، كخجل الخجل، وكوجل الوجل، وغضب الغضبان، وانحطت لتعارض الاحتمالات في محال الأحوال.

(1/49)


السابعة : العلم الحاصل بالأدلة العقلية وانحطت؛ لأن النظري منحط عن الضروري.
الثامنة : العلم بجواز النبوات، وجواز ورود الشرائع.
التاسعة : العلم بالمعجزات إذا وقعت.
العاشرة : العلم بوقوع السمعيات ومستندها الكتاب والسنة.
وهنا أمور:
أحدها : العلم النظري ينضبط بالضابط سببه الذهن قبله، والعلم العادي يخلي العكس لا ينضبط سببه حتى يحصل هو فإذا حصل علمنا أن سببه قد كمل، ولو روجعنا في أول زمن كماله لم يكن لنا شعور به حالة العلم بالمتواترات، فإن السامع لا يزال يترقى في الظنون ترقيا خفيا حتى ينتهي إلى عدد حصل عنده العلم في نفس الأمر، ولو قيل له: أي عدد حصل لك عنده العلم؟ لم يفطن لذلك. وكذلك العلوم العادية بجملتها. وهذا يدل على أن من العلوم ما يقوم بالنفس ولا تشعر النفس به أول قيامه، وهو من العجب.
الثاني : أن هذه العلوم تتفاوت كما بينا، ولا شك أن البديهيات والحسيات راجحة على النظريات، وأما أن البديهيات تترجح على الحسيات أو العكس، فمحل نظر. ويمكن أن يترجح بعض البديهيات على بعض، وكذا الضروريات والنظريات، فإن كل ما كان مقدماته أجلى وأقل كان راجحا على ما ليس كذلك، ولهذا يجد الإنسان تفرقة بين علمه بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أعظم من الجزء، وبين علمه بثبوت الجوهر الفرد والخلاء وغيرهما من المسائل النظرية اليقينية مع أن كل واحد منهما يقينيا على اعتقاده.
لا يقال: إنه وإن اعتقد ذلك في نفسه لكنه ليس كذلك في نفس الأمر؛ لأنا نقول: يلزم مثله في كل نظري، فلم يحصل الجزم بشيء منها.
الثالث : قال الإمام في باب الأخبار من البرهان: العلوم الحاصلة عن حكم العادات مبنية على قرائن الأحوال، ولا تنضبط انضباط المحدودات، وهذا كالعلم بخجل الخجل، ووجل الوجل، وغضب الغضبان، فإذا وجدت هذه القرائن ترتب عليها علوم بديهية لا يأباها إلا جاحد، ولو رام واجدها ضبطها لم يقدر.
ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: من شاهد رضيعا قد التقم ثدي امرأة،

(1/50)


ورأى منه آثار الامتصاص، وحركة الغلصمة لم يسترب في وصول اللبن إلى الجوف، وحل له أن يشهد شهادة تامة بالرضاع. ولو أنه لم يشهد بالرضاع، ولكن شهد بالقرائن الحاملة له على الشهادة لم يثبت الرضاع. وذلك لأن ما يسمعه القاضي وصفا لا يبلغ مبلغ العيان، والذي يفضي بالعاين إلى درك اليقين يدق مدركه عن عبارة الوصافين.
ولو قيل لأذكى خلق الله قريحة وأحدهم ذهنا: افصل بين حمرة وجنة الغضبان وبين حمرة الموعوك لم تساعده عبارة، فإن القرائن لا يبلغها غايات العبارات، ومن ثم لم يتوقف حصول العلم بخبر التواتر على عدد محصور، ولكن إذا ثبت قرائن الصدق ثبت العلم به.

(1/51)


مسألة [الاختلاف في المحسات]
اختلفوا في المحسات، فقيل: كلها في درجة واحدة، وقيل: السمع والبصر مقدمان. ثم هؤلاء اختلفوا، فمنهم من قدم البصر على السمع، لتعلقه بجميع الموجودات. ومنهم من سوى بينهما، ومنهم من قدم السمع؛ لأنه لا يحتاج إلى الأشعة المتعرضة للتعريجات والحركات؛ ولأن السمع لا يختص دركه بجهة بخلاف البصر، واختار ابن قتيبة هذا، وقال: قدم الله السمع على البصر، فقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [يونس: 42] ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] وقال: إن الله لم يبعث أصم، ومن الأنبياء عميانا. وقال أئمتنا: وهذا فضول منه.
واختلفوا أيضا فقدم أبو الحسن ما يدرك بالحواس على ما يدرك بنظر العقل، وقدم القلانسي ما يعلم بالنظر على ما يعلم بالمحسات؛ لأن تعرض الحواس للآفات أكثر من تعرض العقل لها.
قال ابن القشيري: وكل هذا تكثير الجوز بالعفن. وقد اخترنا أن العلوم ضرورية لا تقديم ولا تأخير. نعم قد يطول الطريق ويقصر فيترتب الأمر لذلك، وأما العلوم في أنفسها فلا ترتب فيها.

(1/51)


مسألة: تعليق العلم بأكثر من معلوم واحد
منع القاضي وغيره تعلق العلم بأكثر من معلوم واحد، لكن قيده بما لا يتلازم،

(1/51)


مسألة: [هل يقارن العلم بالجملة والجهل بالتفصيل؟]
يجوز تعلق العلم بالشيء في الجملة، ثم اختلفوا هل يقارن العلم بالجملة الجهل بالتفصيل؟ فرآه القاضي مقارنا له، ولم يره الشيخ أبو الحسن الأشعري وهو الأصح؛ لأنا نعلم كون هذا العرض عرضا، ونجهل كونه سوادا. وتارة يعلم كونه عرضا ونعلم كونه سوادا، فليس من ضرورة العلم بالوصف المتقدم الجهل بالوصف الحاضر.
قال المازري: ومن هذا يتبين فساد ما أطلقه إمام الحرمين أن الله سبحانه يسترسل علمه على ما لا يتناهى من غير تعلق بتفاصيل آحاده. قال: وددت لو محوته بدمي، وفي نسخة: بماء عيني، وكذا قال غيره.
وظنوا أن الإمام يوافق الفلاسفة في نفي العلم بالجزئيات، وهذا سوء فهم عن الرجل، وليس ذلك مراده ويتحاشى عنه، بل مراده أن العلم هل يتعلق بما لا يتناهى تعلقا إجماليا أو تفصيليا؟. فهو يقول: كما أن ما لا يتناهى لا يدخل في الوجود، كذلك لا يتعلق به العلم التفصيلي، وهما سواء في الاستحالة؛ لأنه لو دخل في العلم لكان إما أن يبقى من المعلومات شيء أم لا، فإن لم يبق شيء فقد تناهى، والفرض خلافه. وإن بقي شيء فما حصلت الإحاطة. وهذا الذي أراده رضي الله عنه. وهو شنع عليه فيه أيضا لكنه دون الأول، فإن منكر العلم بالجزئيات يقول: لا يعلم شيئا منها أصلا لا ما دخل في الوجود ولا ما لم يدخل، وأما هذا الذي أراده الإمام فهو أن العلم لا يتعلق بما لم يدخل في الوجود؛ لعدم تناهيه. أما ما دخل الوجود فإنه يعلم وهو قريب من مذهب جهم وهشام غير أنهما يقولان بعلوم حادثة، والإمام يقول بعلم واحد قديم.
وقد صرح في البرهان أيضا بموافقة أهل الحق، فقال في النسخ في الكلام مع

(1/52)


اليهود: وإن زعموا أن النسخ يمتنع من جهة إفضائه إلى البداء، والقديم متعال عنه فلا حقيقة لهذا، فإن البداء إذا أريد به تبيين ما لم يكن مبينا في علمه فليس هذا من شرط النسخ، فإن الرب تعالى كان عالما في أزله بتفاصيل ما لم يقع فيما لا يزال. انتهى.
وفي هذا الكلام أخذ بيده وهو متأخر عن الذي قاله في صدر الكتاب.
وحكى الإمام فخر الدين عن والده الإمام ضياء الدين عن أبي القاسم الأنصاري عن إمام الحرمين أنه كان يقول: لله تعالى معلومات لا نهاية لها، وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها على البدل، وهو تعالى عالم بتلك الأحوال على التفصيل، وإنما أوضحت ذلك لبيان أن الإمام لم يخرج عن عقيدة أهل السنة، وأن تلك العبارة ليست على ظاهرها، ولا متعلق فيها عليه، وهو من جليل ما يستفاد.

(1/53)


مسألة: هل يوجد علم لا معلوم له؟.
لم يقل ذلك إلا أبو هاشم فإنه قال: العلم المتعلق بالمستحيلات علم بلا معلوم، وهو ظاهر الفساد.

(1/53)


مسألة [طرق معرفة الأشياء]
قال المتكلمون: يعرف الشيء بأمور ثلاثة:
أحدها : بآثاره كالاستدلال بالمصنوع على الصانع، وبالمبني على الباني.
الثاني : بحسب ذاته المخصوصة.
الثالث : بالمشاهدة.
ويعرف الله تعالى بآثاره بلا خلاف. قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53].
واختلفوا هل يعرف بحسب ذاته المخصوصة؟. فذهبت المعتزلة والقاضي أبو بكر إلى أنه لا يعرف، واختاره الرازي في أكثر كتبه، وفي بعضها أنه يعرف، ونسب إلى الأشعري، واختاره جماعة من أصحابه. ويعرف بالمشاهدة بلا خلاف عند أهل السنة من الأصحاب، والثالث أقوى من الثاني، والثاني من الأول، وقال بعضهم: لا

(1/53)


مسألة: [الجهل]
الجهل يطلق ويراد به عدم العلم عما من شأنه أن يعلم. ويسمى بسيطا. وقيل: لا يطلق عليه جهل. واختاره ابن السمعاني على ما سيأتي.
وقيل: إن هذا التعريف غير مانع لدخول الظن عند من لا يراه علما، والشك والغفلة، وإصلاحه عدم كل علم أو ظن أو شك أو وقف عما من شأنه أن يكون معلوما أو مظنونا أو مشكوكا أو موقوفا فيه ممن شأنه أن يوصف بذلك ويطلق ويراد به الاعتقاد الباطل، ويسمى مركبا. وقال الآمدي: اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر، ونقض بالنظر المطابق عكسا، فإن الناظر ما لم يكن عالما أو ظانا فهو جاهل؛ لكونه ضدا لهما عنده فيكون الناظر إذن جاهلا مع أن اعتقاده مطابق.
وهو بالمعنى الأول عدمي يقابل العلم تقابل العدم والملكة. وبالثاني وجودي يقابل العلم تقابل الضدين، والثاني يقال فيه: أخطأ وغلط، ومخاطبته مخاطبة عناد ومخاطبة الأول مخاطبة تعليم.
قال الرازي: والذي يمكنه طلب العلم هو صاحب الجهل البسيط؛ لأنه لا يعلم. وأما المركب فإنه لا يطلب العلم ألبتة؛ لأنه وإن كان لا يعلم إلا أنه يعتقد أنه

(1/55)


يعلم، فصار صارفا له عن طلبه، وهل المنافاة بينهما ذاتية أو للصارف؟. فيه احتمالان. وقال السمعاني في الكفاية اختلف في الجهل، فقيل: هو عدم العلم وهو بعيد، وقيل: تصور المعلوم بخلاف ما هو به.
وقيل: اعتقاد المعلوم على خلاف ما هو عليه. انتهى.
وقال ابن السمعاني في القواطع: الجهل اعتقاد المعلوم على خلاف ما هو به، ولا بأس بالاعتقاد في حد الجهل. ا هـ.
وهذا تعريف للمركب فقط، إذ البسيط لا اعتقاد فيه ألبتة، فكأنه ليس بجهل عنده. وكذلك فعل جماعة من أئمتنا، وحكوا خلافا عن المعتزلة في أن الجهل هل هو مثل العلم؟ فأكثر المعتزلة على أنه مثل له. واحتجوا بأن من اعتقد كون زيد في الدار مثلا، وليس هو فيها فإن اعتقاده الأول الذي هو جهل من جنس الثاني الذي علمه. وما به الافتراق من كون زيد في الدار إحدى الحالتين، وعدمه في الأخرى أنه خارج عن موجب الاختلاف بين الاعتقادين، وقد أجمعوا على أن اعتقاد المقلد للشيء على وفق ما هو عليه مثل العلم، وهذا الكلام من المعتزلة لسنا نوافقهم عليه غير أنا نقول: اتفقوا على أن هذا مخصوص بالجهل المركب. أما البسيط إن قيل: إنه جهل، فلا خلاف في كونه ليس مثلا للعلم، فإن عدم الشيء لا يكون مثلا لذلك الشيء.
[تنبيه] من تصور في الذات أوصافا لم تكن، فهل هو جاهل بالذات من حيث إنها ذات أو بها من حيث إنها موصوفة بخلاف ما اعتقد؟ وقد يقال: الجهل بالصفة هل هو جهل بالموصوف مطلقا أو من بعض الوجوه؟ الظاهر: الثاني، ومن ثم لا يكفر أحد من أهل القبلة،
وقد اختلف قول الشافعي فيما إذا نكح امرأتين وشرط فيهما الإسلام أو في إحداهما النسب أو الحرية، فاختلف هل يصح النكاح؟ والقول بالصحة هو الجديد الصحيح. مأخذه أن المعقود عليه معين لا يتبدل بالخلف في الصفة، والقول بالفساد مأخذه أن اختلاف الصفة كاختلاف العين.
وأخذ ابن الرفعة من هذا الخلاف تكفير منكري صفات الله. والأصح: عدم التكفير، كما أن الأصح هنا صحة النكاح، لكن المذكور في البيع إذا قال: بعتك هذا الفرس، فكان بغلا أن الأصح: عدم الصحة.

(1/56)


مسألة: [الظن].
الظن هو الاعتقاد الراجح من اعتقادي الطرفين، وكذا رجحان الاعتقاد لا اعتقاد الراجح أو الرجحان، فاعتقاد الرجحان لما في نفس الأمر إما محقق عن برهان، وهو العلم، أو لا، وهو التقليد والجهل. فهو متعلق نفس الرجحان، وهو في نفسه ثابت لا رجحان فيه.
وأما رجحان الاعتقاد بأن يكون في النفس احتمالان متعارضان إلا أن أحدهما أرجح في نظره، فالأول قد يكون موجودا في الخارج، وأما الثاني فلا يتصور إلا في الذهن، وقيل: تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر. ونقض بالجزم تجويز أمرين وليس بظن. وقيل: تغليب أحد المجوزين وفيه إجمال؛ لأن التغليب إما في نفس المجوز، وإما في نفس الأمر، وقد يكون جزما وقد لا يكون، والثاني قريب.
وقال الآمدي أخيرا: إنه ترجح أحد ممكنين متقابلين في النفس على الآخر من غير قطع، وتارة: إنه ترجح وقوع أحد ممكنين على الآخر من غير قطع. وقوله: من غير قطع: يعني عند ذكر الاحتمال إلا أن يريد من غير قطع بالترجيح. وحينئذ فهو تردد بين إرادة رجحان الاعتقاد، وهو الحق، وبين رجحان المعتقد، أو اعتقاد الرجحان وليس ذلك ظنا.

(1/57)


مسألة: [الظن طريق الحكم]
وهو طريق للحكم إذا كان عن أمارة، ولهذا وجب العمل بخبر الواحد، وبشهادة الشاهدين، وخبر المقومين والقياس، وإن كانت علة الأصل مظنونة. وشرط ابن الصباغ في العدة للعمل بالظن وجود أمارة صحيحة، وعدم القدرة على العلم كما يعمل بخبر الواحد والقياس مع عدم النص.
والأول : يوافق تصحيح الفقهاء في الاجتهاد في الأواني أنه لا يكفي مجرد الظن من غير أمارة.
والثاني : يخالف تجويزهم الاجتهاد في الأواني مع القدرة على اليقين. قال: والظن يقع عند الأمارة كما يقع العلم عند الدليل.

(1/57)


وقال صاحب العمدة: لا يقع عن الأمارة. وإنما يقع باختيار الناظر في الأمارة بدليل أن الجماعة ينظرون في الأمارة، ويختلفون في الظن، ولو كان كما ذكر لعمل بالظن من غير أمارة.

(1/58)


مسألة [تفاوت الظنون]
وفي تفاوت الظنون قولان نظير الخلاف السابق في تفاوت العلوم.
فقيل: لا تتفاوت كما لا تتفاوت العلوم، وإنما تتفاوت الأدلة، والصحيح خلافه. بل الظن يقبل الأشدية والأضعفية، وذلك معلوم بالضرورة، فرب شك في أصل الشيء، وشك في وصفه بعد تحقق الأصل. فالشك في الأصل والوصف يقابله احتمالان، والشك في الوصف خاصة يقابله احتمال واحد.
ولهذا قال مالك رضي الله عنه: من شك هل طلق أم لا؟ فشكه وسوسة فيستصحب الحل.
ولو حلف يقينا، ثم شك هل حنث أم لا؟ فشكه هاهنا معتبر يوجب الانكفاف والحظر، وهل هو وجوب قضاء أو وجوب إرشاد لا إلزام من القاضي؟ فيه خلاف للمالكية.
قال ابن المنير: فإن قلت: هل يقف أحد إذا ظن شيئا ما على قدر ذلك الظن كما يقف على أصل الظن؟.
قلت: لا يقف أحد على ذلك إلا تقريبا إنما الذي يتوقف عليه يقينا هو العلم، ومثاله في المحسوسات: أن الجوهر الفرد موجود في نفس الأمر ويثبته العقل، ولكن لا يثبته الحس، وإن أثبت تفاوتا بين الأجرام صغرا وكبرا لكنه إثبات بالتقريب، لا بتحقيق أعداد الجواهر بأعداد الجواهر كإنكار الظنون.
ولهذا يقول الفقهاء: لا يجوز السلم في الأجود، لأنه لا يوقف عليه تحقيقا، إذ ما من أجود مفروض إلا ويمكن أجود منه، ومنهم من أجازه تنزيلا للفظ على القريب. وعلى ذلك يحمل قول العلماء: هذا الظن أعلى الظنون: يعنون من أعلى الظنون الواضحة فيه.

(1/58)


مسألة: [أقسام الظن]
وأقسامه خمسة:
أولها : العلم الحاصل عن أمور مسلمة، وهو العلم الظني الذي مستنده قضية أو قضايا مسلمة بأنفسها.
ثانيها : العلم الحاصل عن أمور مشهورة، وهو ظن مطابق مستند إلى أمور مشهورة بالتصديق عند الجم الغفير.
وثالثها : العلم الحاصل عن أمور مقبولة في العقل بسبب حسن الظن بمن أخذت عنه.
رابعها : العلم الحاصل عن قرائن الأحوال الظاهرة، وهو ظن مطابق مستنده قرائن أحوال ظاهرة.
خامسها : ما كان عن وهم في غير محسوس، وهو ما أوجب التصديق به قوة الوهم، وجعله من العلم الظني، وليس به تجوز.

(1/59)


مسألة [الشك]
الشك : قال العسكري: أصله من قولهم: شككت الشيء إذا جمعته بشيء يدخل فيه، والشك: هو اجتماع شيئين في الضمير.
وقال أبو هاشم في أحد قوليه: اعتقادان يتعاقبان لا يتصور الجمع بينهما، وأفسدوه بما إذا زال الاعتقاد الجازم باعتقاد آخر.
وقال في قوله الآخر: عدم العلم: وهو فاسد لحصوله من الجماد والنائم، ولا يوصف بالشك.
وقال القاضي أبو بكر: استواء معتقدين في نفس المستريب مع قطعه أنهما لا يجتمعان، وفيه زيادة، وهي قوله: استواء وقوله: المستريب فإن أحدهما يغني عن الآخر، إذ لا يمكن استرابة مع ظهور أحدهما، ولا استواء مع عدم استرابة، وأيضا فغير جامع؛ لما إذا ظن عدم الاجتماع. فإنه خرج بقوله: مع قطعه أنهما لا

(1/59)


يجتمعان.
وقال الآمدي: وصف كل من الأمرين بكونه معتقدا، ومن ضرورته تعلق الاعتقاد الجازم به، وذلك مع الاستواء محال، وقد يمنع الاستحالة، إذ الاعتقاد غير منحصر في الجازم.
وقال إمام الحرمين: هو الاسترابة في معتقدين. وأفسده الآمدي بأنه جمع بين الاسترابة والاعتقاد بالنسبة إلى شيء واحد. وهذا الإفساد فاسد؛ لعدم اتحاد المحل؛ لأن الاسترابة في تعيين المراد في نفس الأمر، والاعتقاد لصلاحية إرادة كل واحد، وقد يكون من غير جزم فيكون ذلك ترادفا.
نعم هو غير جامع لما إذا كانت الاسترابة في غير نفي ولا إثبات من وقف وشك وغيره، وغير مانع؛ لدخول الاسترابة في معتقدين في وقتين، فإنه ليس بشك فلا بد أن يقول: في وقت واحد، ولا يجتمعان وقوعا. وقال الآمدي: الأقرب أن الشك التردد في أمرين متقابلين لا ترجيح لوقوع أحدهما على الآخر في النفس. انتهى.
ويرد على الجميع التقيد بالأمرين، فإن الشك قد يكون بين أمور متعددة، كما لو شك هل زيد قائم أو قاعد أو نائم؟.
وذكر الهندي أن الشك قسمان:
أحدهما : التردد في ثبوت الشيء ونفيه ترددا على السواء.
والثاني : أن لا يتردد بل يحكم بأحدهما مع تجويز نقيضه تجويز استواء. قال: والفرق بينهما فرق ما بين الخاص والعام، فإن الأول منهما قد يكون لعدم الدليل على الاحتمالين، وقد يكون لدليلين متساويين عليهما، وأما الثاني فإنه لا يكون إلا بدليلين متساويين، وإلا لم يكن ذلك الحكم يعتبر، لأنه حينئذ يكون بالتشهي.
قال: والذي يدل على أن الأول شك وإن لم يذكره كثير من الأصوليين أن من توقف عن الحكم بثبوت الشيء ونفيه يقال: إنه شاك في وجوده ونفيه. انتهى. ونبه إمام الحرمين على فائدة، وهي أن الشك لا بد وأن يكون مع قيام المقتضي لكل واحد من الأمرين.
وقال: هو اعتقاد أن يتقاوم سببهما. ذكره في النهاية في أبواب الصلاة، وفيه تنبيه على أن مجرد التردد في الأمرين من غير قيام ما يقتضي ذلك لا يسمى شكا، وكذلك من غفل عن شيء بالكلية. فيسأل عنه لا يسمى شاكا.

(1/60)


وكلام الراغب يوافقه، فإنه قال: هو اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما، وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عنده في النقيض أو لعدم الأمارة فيهما. والشك ربما كان في الشيء هل هو موجود أو لا؟ وربما كان في جنسه أي: أي جنس هو؟ وربما كان في بعض صفاته، وربما كان في الغرض الذي لأجله وجد.
والشك ضرب من الجهل، وهو أخص منه؛ لأن الجهل قد يكون عدم العلم بالنقيض أصلا، فكل شك جهل، وليس كل جهل شكا. قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110].
وأصله: إما من شككت الشيء أي خرقته، فكان الشك الخرق في الشيء وكونه بحيث لا يجد الرائي مستقرا يثبت فيه ويعتمد عليه، ويصح أن يكون مستعارا من الشك، وهو لصوق العضد بالجنب وذلك أن يتلاصق النقيضان. فلا يدخل الفهم والرأي لتخلله بينهما، ولهذا يقولان: التبس الأمر واختلط وأشكل ونحوه من الاستعارات وقال الغزالي: في الإحياء في الباب الثاني في مراتب الشبهات: الشك عبارة عن اعتقادين متقابلين نشآ عن سببين.
وقال في الباب الثالث في البحث والسؤال: إنه عبارة عن اعتقادين متقابلين لهما سببان متقابلان. وأكثر الفقهاء لا يدرون الفرق بين ما لا يدرى وبين ما لا يشك فيه. وقال قبل ذلك: إذا دخلت بلدا غريبا، ودخلت سوقا، ووجدت قصابا أو خبازا أو غيره ولا علامة تدل على كونه مريبا أو خائنا، ولا ما لا يدل على نفيه، فهذا مجهول لا يدرى حاله، ولا نقول: إنه مشكوك فيه.
وقال في الباب الثاني: لو سئل الإنسان عن صلاة الظهر التي أداها قبل هذا بعدة سنين كانت أربعا أو ثلاثا؟ لم يتحقق قطعا أنها أربع، وإذا لم يقطع جوز أن تكون ثلاثا، وهذا التجويز لا يكون شكا إذا لم يحضره سبب أوجب اعتقاد كونه ثلاثا، فليفهم حقيقة الشك حتى لا يشتبه بالوهم والتجويز بغير سبب.

(1/61)


مسألة: [الشك لا يبنى عليه حكم]
والشك لا ينبني عليه حكم شرعي إذا كان هناك أصل استصحب على خلافه. واستثنى ابن القاص في التلخيص من ذلك إحدى عشرة مسألة وقد خولف فيها..

(1/62)


مسألة [الوهم]
الوهم : هو الطرف المرجوح.
قال ابن الخباز: وهو كنفور النفس من الميت مع العلم بعدم بطشه، ونفورها من شرب الجلاب في قارورة الحجام، ولو غسلت ألف مرة.
ولا ينبني عليه شيء من الأحكام إلا في قليل، كوهم وجود الماء بعد تحقق عدمه، فإنه يبطل التيمم عندنا. ونية الجمعة لمن أدرك الإمام بعد ركوع الثانية، لاحتمال أنه ترك ركنا فيأتي به ونحوه.

(1/62)


مسألة: [السهو والخطأ]
السهو : ما تنبه صاحبه بأدنى تنبيه.
والخطأ ما لا يتنبه صاحبه، أو يتنبه بعد إتعاب. قاله السكاكي في المفتاح. وقيل: السهو: الذهول عن المعلوم.
وظاهر كلام اللغويين ترادفه مع النسيان.
وقال ابن الأثير في النهاية: السهو في الشيء تركه من غير علم. والسهو عنه تركه مع العلم.

(1/62)


[خاتمة]
لا شك في أن العلم وجميع أضداده ما خلا الشك فيها حكم، وأما الشك فاختلفوا فيه، وأجاز بعضهم أن الشاك حاكم بكل من الأمرين بدل الآخر، والمشهور

(1/62)


[خاتمة أخرى]
الجهل والظن والشك أضداد العلم عندنا.
وذهب أكثر المعتزلة إلى أن الجهل مماثل للعلم.
وأجمعوا على أن اعتقاد المقلد للشيء على ما هو عليه مثل العلم.

(1/63)


[خاتمة] أخرى
يطلق العلم على الظن كقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] إذ العلم القطعي في ذلك لا سبيل إليه، وقوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] سموا غير المطابق علما، فكيف الظن المطابق؟ وأقروا عليه، والأصل في الكلام: الحقيقة. وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
وقد يجوز أن يقفو ما يظنه، ومنه قول الفقهاء: يقضي القاضي بعلمه.
ويطلق الظن على العلم، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] أي يعلمون، إذ الظن في ذلك غير كاف، ويطلق الظن على غير المطابق كثيرا كقوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} [الفتح: 12].
ويطلق الشك على الظن وعليه غالب إطلاق الفقهاء.

(1/63)


مسألة: [استعمال الظن بمعنى العلم اليقيني مجاز]
المشهور أن استعمال الظن بمعنى العلم اليقيني مجاز.
ويتلخص من كلام أهل اللغة والنحو فيه ثلاثة مذاهب:
أحدها : أنه حقيقة في الشك مجاز في اليقين.
والثاني : أنه حقيقة فيهما فيكون مشتركا. وعلى هذين القولين ينشأ خلاف فيما إذا قلت: ظننت ظنا. هل يتعين لليقين بالتأكيد أو الاحتمال باق؛ لأنه حقيقة فيهما لا حقيقة ومجاز؟
والثالث : أنه لا يستعمل إلا في الشك، وهذا قول أبي بكر العبدري وقال: ولا يعول على حكاية من حكى ظن: بمعنى تيقن بل الظن واليقين متنافيان.

(1/64)