البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية فصل: [العقل]
العقل لغة: المنع، ولهذا
يمنع النفس من فعل ما تهواه. مأخوذ من عقال الناقة المانع لها
من السير حيث شاءت، وهو أصل لكل علم.
قال ابن السمعاني: وكان بعض الأئمة يسميه أم العلم. وكثر
الاختلاف فيه حتى قيل: إن فيه ألف قول. وقال بعضهم:
سل الناس إن كانوا لديك أفاضلا ... عن العقل وانظر هل جواب
يحصل
وقد تكلم فيه أصناف الخلق من الفلاسفة والأطباء والمتكلمين
والفقهاء كل واحد ما يليق بصناعته. فأما الفلاسفة فشأنهم
الكلام في الموجودات كلها، ومعرفة حقيقتها. والعقل موجود.
والأطباء شأنهم الخوض فيما يصلح الأبدان، والعقل سلطان البدن.
والمتكلمون هم أهل النظر، والنظر أبدا يتقدم العقل.
والفقهاء تكلموا فيه من حيث إنه مناط التكليف، فقال الشافعي
رضي الله عنه: آلة خلقها الله لعباده يميز بها بين الأشياء
وأضدادها، وقال في موضع آخر: والعقول التي ركبها الله فيهم
ليستدلوا بها على العلامات التي نصبها لهم على القبلة وغيرها
منا منه ونعمة، قاله ابن سراقة، وهذا النص موجود في الرسالة.
قال الصيرفي في شرحها: بين الشافعي أن العقل معنى ركبه الله في
الإنسان أي خلقه فيه لا أنه فعل الإنسان كما زعم بعض الناس.
وقال ابن السمعاني في القواطع: روي عن الشافعي أنه آلة
التمييز. قلت: وهذا موجود في الرسالة حيث قال: دلهم على جواز
الاجتهاد بالعقول التي ركبت فيهم، المميزة بين الأشياء
وأضدادها ... إلخ 1.
وقيل: قوة طبيعية يفصل بها بين حقائق المعلومات، وقيل: جوهر
لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات. وقال الشيخ أبو الحسن
الأشعري: العقل هو العلم.
وكذا قال ابن سراقة: هو في الحقيقة ليس بشيء غير العلم لكنه
علم على صفة فجميع المعلومات بحس وغيره إليه مرجعها، وهو
يميزها ويقضي عليها، وحجته مأخوذة من قبل الله سبحانه بخلقه
ذلك في الإنسان. انتهى.
ـــــــ
1 انظر الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ص "23".
(1/65)
وقال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب:
العقل هو العلم لا فرق بينهما من حيث كون كل واحد منهما علما،
وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا، وهو قول المتكلمين من
الإسلاميين، وبه قالت المعتزلة.
وفرق بعض الفلاسفة بين العقل والعلم، فقالوا: العقل جوهر مخلوق
في الإنسان، وهو مركز العلوم، ولا يستفاد العقل إنما تستفاد
العلوم. ا هـ.
وكذلك نقل في كتابه في الأصول عن أهل الحق ترادف العلم والعقل.
قال: فقالوا: واختلاف الناس في العقول لكثرة العلوم وقلتها.
وقال علي بن حمزة الطبري: نور وبصيرة في القلب منزلته البصر من
العين.
قال ابن فورك: هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح.
وذهب الحارث المحاسبي إلى أنه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة،
ومثله بالبصر، ومثل العلم بالسراج، فمن لا بصر له "لا ينتفع
بالسراج" ومن له بصر بلا سراج لا يرى ما يحتاج إليه. فصرح
بمخالفة العقل العلم.
وكذا قال أحمد: العقل غريزة. قال القاضي: أي خلقه الله تعالى
ابتداء وليس اكتسابا. قال الأقليشي: وهذه الغريزة ليست حاصلة
للبهيمة على ما ذهب إليه كثير من المحققين. واستحسنه الإمام في
البرهان واعتقده رأيا. إذ أكثر الأشعرية لم يفرقوا بين الإنسان
والبهيمة في السجية، وإنما فرقوا بينهما في العلوم الضرورية،
وهي العلوم الكسبية التي منشؤها من العلوم الضرورية. لكنه في
الشامل حكاه، ثم قال: إنه لا يرضاه وإنه يتهم النقلة عنه فيه،
وأطال في رده.
وصار القاضي أبو بكر، وأبو الطيب، وسليم الرازي، وابن الصباغ،
وغيرهم إلى أنه بعض العلوم الضرورية، فخرجت العلوم الكسبية؛
لأن العاقل يتصف بكونه عاقلا مع عدم جميع العلوم النظرية.
وإنما قلنا: بعضها؛ لأنه لو كان جميعها لوجب أن يكون الفاقد
للعلم بالمدركات، لعدم الإدراك المتعلق بها غير عاقل، فثبت أنه
بعض العلوم الضرورية، وذلك نحو العلم باستحالة اجتماع الضدين،
والعلم بأن المعلوم لا يخرج عن أن يكون موجودا أو معدوما وأن
الموجود لا يخلو عن الاتصاف بالقدم أو بالحدوث، والعلم بمجاري
العادات المدركات بالضرورة، كموجب الأخبار المتواترة الصادرة
عن المشاهدات إلى غير ذلك من العلوم التي يخص بها العقلاء.
وحاصله: العلم بوجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات، وجواز
الجائزات، وقيل: إنه علوم بديهية كله. قال القاضي عبد الوهاب:
فقلت له:
(1/66)
أفتخص هذا النوع من الضرورة بوصف؟ قال:
يمكن أن يقال: ما صح مع الاستنباط. والحق: أن العقل الغريزي
ليس بالعلوم الضرورية، إذ الإنسان يوصف بالعقل مع ذهوله عن
العلوم الضرورية.
قال الإمام فخر الدين بعد إبطاله قول القاضي في العقل: وعند
هذا ظهر أن العقل غريزة تلزمها هذه العلوم البديهية مع سلامة
الآلات، وقال إمام الحرمين: العبارة الوجيزة فيه: علوم ضرورية
باستحالة مستحيلات وجواز جائزات. أو نور يقبل من النور الأعلى
بمقدار ما يحتمله، وهو موجود بالمجنون وغيره عند هذا القائل
لكن حال بينه وبين القبول حائل كما في نور الشمس مع السحاب.
وقال الغزالي: هو غريزي وضروري وهما نظري وتجريبي، والعلم
بعواقب الأمور، وهما مكتسبان.
وقال ابن فورك: هو العلم الذي يمتنع به عن فعل القبيح.
واختار الآمدي: أنه العلوم الضرورية التي لا خلو لنفس الإنسان
عنها بعد كمال آلة الإدراك وعدم أضدادها، ولا يشاركه فيها شيء
من الحيوانات. وحكاه عن القاضي أبي بكر فيحتمل أن يكون له
قولان.
ثم هو غير جامع للعقل الثابت للصبيان، فإنهم عقلاء بالإجماع
كما قاله القاضي من الحنابلة في كتاب العدة مع انتفاء ما ذكره؛
لامتناع صحة نفي العقل عنهم مطلقا، وإلا لزم جواز وصفهم بضده،
وهو الجنون وذلك محال.
وغير مانع لعلوم المجانين التي لا خلو؛ لأنفسهم عنها، كعلمهم
بأن الاثنين أكثر من الواحد ونحوه مع أنهم غير عقلاء.
وقال الجيلي من أصحابنا في كتاب الإعجاز: فرق بين العقل
والعلم، ويظهر شرف العقل من حيث إنه منبع العلم وأساسه، والعلم
يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة. قال: وفي الحديث: "أول ما خلق
الله العقل، وقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم منك، بك
آخذ، وبك أعطي، وبك أعاقب"1. فإن قلت: إن كان العقل عرضا فكيف
يخلق قبل الأجسام، وإن كان جوهرا فكيف يكون قائما بنفسه لا
بمتحيز؟.
ـــــــ
1 موضوع: أورده الهروي في الأسرار المرفوعة في الأخبار
الموضوعة "1/48" والكناني في تنزيه الشريعة المرفوعة عن
الأخبار الشنيعة الموضوعة، "1/203"، والشوكاني في الفوائد
المجموعة في الأحاديث الموضوعة "1348". وأورده العيسوي في
الأحاديث القدسية الضعيفة والموضوعة "1/55". وذكره ابن حجر في
الفتح "6/334" وقال: ليس له طريق يثبت.
(1/67)
قلنا: هذا يتعلق بعلم المكاشفة.
قال عليه الصلاة والسلام: "جد الملائكة واجتهدوا في طاعة الله
بالعقل، وجد المؤمنون من بني آدم على قدر عقولهم"1.
على أن بعض الأصوليين قال: إن الجوهر قائم بنفسه، ولا تناقض
بين قولنا: إنه نوع من العلوم الضرورية، وبين قولنا: إنه خلق
قبل الأشياء. انتهى.
[العقل ضربان]:
ثم هو ضربان غريزي وهو أصل، ومكتسب وهو فرع.
فأما الغريزي: فهو الذي يتعلق به التكليف،
وأما المكتسب: فهو الذي يؤدي إلى صحة الاجتهاد وقوة النظر،
ويمتنع أن يتجرد المكتسب عن الغريزي، ولا يمتنع أن يتجرد
الغريزي عن المكتسب؛ لأن الغريزي أصل يصح قيامه بذاته،
والمكتسب فرع لا يصح قيامه إلا بأصله،
ومن الناس من امتنع من تسمية المكتسب عقلا؛ لأنه من نتائجه،
ولا اعتبار بالنزاع في التسمية إذا كان المعنى مسلما. واختلف
فيه في أمور:
[تفاوت العقول]
أحدها : هل يتفاوت؟
والأصح كما قاله الإمام في التلخيص وسليم الرازي في التقريب
وابن القشيري وغيرهم: أنه لا يتفاوت، فلا يتحقق شخص أعقل من
شخص، وإن أطلق ذلك كان تجوزا، أو صرفا إلى كثرة التجارب، قال
فإنا بعد أن قلنا: إنه بعض العلوم الضرورية فلا يتحقق التفاوت
فيها،
وعن المعتزلة وكثير من الحنابلة أنه يتفاوت؛ لقوله عليه
السلام: "ناقصات عقل ودين" 2.
ـــــــ
1 موضوع: أورده الكناني في تنزيه الشريعة "1/218". والسيوطي في
ذيل الآلي المصنوعة "1/8".
2 رواه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، حديث
"304"، ورواه مسلم "1/78" حديث "80"، عن عبد الله بن عمر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء تصدقن
وأكثرن الاستغفار، فأني رأيتكن أكثر أهل النار". فقالت امرأة
منهن جزلة: ومالنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: "تكثرن
اللعن وتكفرن العشير. وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب
منكن". قالت يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما
نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل.
وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين" .
(1/68)
وقياس من فسر العقل بالعلم أنه يجري فيه
الخلاف السابق في تفاوت العلوم.
والتحقيق: أنه إن أريد الغريزي فلا يتفاوت، أو التجريبي فلا شك
في تفاوته، وإليه يميل كلام ابن سراقة حيث قال: هو على ضربين:
منه مخلوق في الإنسان، ومنه يزداد بالتجربة والاعتبار، ويزيد
وينقص، كالعلم والإرادة والشهوة ونحوها من أفعال القلوب، ولهذا
يقال: فلان وافر العقل وفلان ناقص العقل.
الثاني : اختلفوا في محله: فقيل لا يعرف محله، وليس بشيء، وعلى
المشهور فيه ثلاثة أقوال، وعند أصحابنا كما نقله ابن الصباغ
وغيره أنه القلب؛ لأنه محل لسائر العلوم.
وقالت الفلاسفة والحنفية : الدماغ، والأول: منقول عن أحمد
والشافعي ومالك، والثاني: منقول عن أبي حنيفة حكاه الباجي عنه،
ورواه ابن شاهين عن أحمد بن حنبل أيضا. والثالث: أنه مشترك بين
الرأس والقلب.
وقال الأشعري: لك حاسة منه نصيب، وهذا يصلح أن يكون قولا
رابعا.
وذكر إمام الحرمين في النهاية في باب أسنان إبل الخطأ: أنه لم
يتعين للشافعي محله: وهذا يصلح أن يكون قولا خامسا.
وقيل: الصدر، ولعل قائله أراد القلب، وقيل: هو معنى يضيء في
القلب، وسلطانه في الدماغ؛ لأن أكثر الحواس في الرأس. ولهذا قد
يذهب بالضرب على الدماغ. حكاه ابن سراقة.
قال: وقال آخرون من أصحابنا: هو قوة وبصيرة في القلب منزلته
منه منزلة البصر من العين.
ونبه الماوردي في أدب الدين والدنيا على فائدتين:
إحداهما : أن الخلاف في الغريزي. أما التجريبي فمحله القلب
قطعا.
الثانية : أن هذا الخلاف مفرع على القول بأنه جوهر لطيف يفصل
به بين حقائق المعلومات، وأن من نفى كونه جوهرا أثبت أن محله
القلب.
وقال العبدري في شرح المستصفى: الخلاف في أن العقل محله ماذا؟
مما يلتبس على كثير. فإنهم إن عنوا به القوة الناطقة على ما
يظهر من كلامهم فخطأ؛ لأنه ليست لها آلة ولا هي منسوبة إلى عضو
من الأعضاء، وإنما الذي، ينبغي أن يقع الخلاف فيه. هل هي القوة
المفكرة التي تنسب إلى الدماغ؟.
(1/69)
وهي ملتبسة بالقوة الناطقة من وجهين: كونها
مختصة بالإنسان، وكونها مميزة، ولهذا الالتباس ظنوا أنها القوة
الناطقة، وحكوا فيها الخلاف.
والذي غلطهم في ذلك عكس القضية الموجبة الكلية مثل نفسها، وذلك
أنه لما كانت القوة الناطقة مميزة مختصة بالإنسان عكسوا
القضية، فقالوا: كل قوة مميزة خاصة بالإنسان فهي قوة ناطقة.
وليس كذلك، إذ في الإنسان قوة أخرى مميزة خاصة به، وليست
الناطقة.
والفرق بينهما: أن هذه موجودة في الإنسان لها آلة جسمانية
بمنزلة سائر قوى النفس فهذه إذن يجب النظر في آلتها الدماغ أو
القلب، فأما القوة الناطقة التي سموها عقلا، فليست قوة في جسم
أصلا، ولا هي جسم، ولا لها آلة جسمانية.
والفرق بين تمييزيهما: أن تمييز المفكرة شخصي؛ لأنها تميز معنى
الشيء المخيل المشخص تمييزا شخصيا، فهي تالية للقوة المتخيلة،
كما أن المتخيلة تالية للقوة الحسية، فهي إذن أكثر روحانية من
التخيلية، ولهذا اختصت بالإنسان، وتمييز الناطقة كلي وهي عرية
من مخالطة الجسم، وليست من جنس القوى الحادثة الشخصية فافترقا،
وليست روحانيتها كذلك، فلذلك شارك فيها الإنسان سائر
الحيوانات.
وما يتفرع على الخلاف في أن محله ماذا؟ ما لو أوضح رجل، فذهب
عقله، فعند الشافعي ومالك يلزمه دية العقل، وأرش الموضحة؛ لأنه
إنما أتلف عليه منفعة ليست في عضو الشجة تبعا لها، وقال أبو
حنيفة: إنما عليه العقل فقط؛ لأنه إنما شج رأسه. وأتلف عليه
العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج، ودخل أرش الشجة في
الدية.
(1/70)
|