البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

الحد
النظر في حقيقته وأقسامه وشروط صحته
...
النظر في حقيقته وأقسامه وشروط صحته
[حقيقة الحد]:
أما حقيقته: فالقول الدال على ماهية الشيء.
وقيل: خاصية الشيء على الخلاف في تفسير ما هو الغرض بالحد؟. هل حصر الذاتيات أو مجرد التمييز كيف اتفق؟ أو الشرط أن يكون لوصف خاص؟.
وهو يرجع إلى وصف المحدود دون قول الواصف الحاد عند معظم المحققين، كما قال الإمام في التلخيص وتبعه ابن القشيري وقال: إنه قول معظم أئمتنا.
وقال القاضي: يرجع إلى قول الواصف، وهو عنده القول المفسر لاسم المحدود وصفته على وجه يخصه ويحصره. فلا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج منه ما هو منه. قال الإمام: وهو منفرد بذلك من بين أصحابه.
وقال الأستاذ أبو منصور: الحد والحقيقة عندنا بمعنى؛ لأن حقيقة الشيء مانعة له من الالتباس بغيره ناطقة بما ليس منه من الدخول في حكمه.
وقالت الفلاسفة: هو الجواب الصحيح في سؤال ما هو؟ إذا أحاط بالمسئول عنه، وهذا خطأ؛ لأن الحد قد يذكر ابتداء من غير تقدم سؤال. والصحيح عندنا: أن حد الشيء: معناه الذي لأجله استحق الوصف المقصود بالذكر، وتسمية العبارة عن الحد مجاز، ومعنى الحقيقة والحد واحد إلا أن لفظ الحقيقة يستعمل في القديم والمحدث والجسم والعرض، ولفظ الحد يغلب استعماله في الحجة.
قال: واختلفوا في العلم بالمحدود هل يجوز حصوله لمن لم يكن عارفا بحده وحقيقته؟. أجازه قوم، وقال أصحابنا: لا يجوز، ولذلك قالوا: إن من لم يعلم لله سبحانه علما وقدرا وحياة لم يعلمه عالما قادرا حيا، وإن اعتقد أنه عالم قادر حي؛ لأن العلم بكون العالم عالما علم بعلمه، والنافي لعلمه وقدرته وحياته غير عالم بكونه عالما قادرا حيا. وهذا قول يطرد على أصلنا في جميع الحدود.
وفرق بعض أئمتنا القدماء بين الحد والحقيقة. قال: الحد ما استعمل في الشيء نفسه، والحقيقة ما جاز أن يستعمل في الشيء وضده.
قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: الشيء له في الوجود أربع مراتب:
الأولى : حقيقته في نفسه.
والثانية : ثبوت مثال حقيقته التي تدل عليه من الذهن الذي يعبر عنه بالعلم.

(1/71)


والثالثة : تأليف صوت بحروف تدل عليه، وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس.
والرابعة : تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر تدل على اللفظ وهو الكتابة. قال: والعادة لم تجر بإطلاق اسم الحد على العلم، ولا على الكتابة، بل هو مشترك بين الحقيقة واللفظ. وقال العبدري: وما أخذوه من حد الحد هل المراد به المعنى الذي في النفس خاصة أم اللفظ الدال على ما في النفس؟ فالجواب فيه قولان: أحدهما: المعنى الذي في النفس خاصة، والثاني: المراد المعنيان جميعا، لا على أنه مشترك بينهما، بل على أنه يقال على المعنى الذي في النفس، فإنه أولى، ويقال على اللفظ بحكم التبع، لدلالته على ما في النفس.
[مذاهب اقتناص الحد] وفي اقتناص الحد ثلاثة مذاهب حكاها العبدري في "المستوفى في شرح المستصفى".
أحدها : وهو مذهب أفلاطون أنه يقتنص بالتقسيم بأن تأخذ جنسا من أجناس المحدود، وتقسمه بفصوله الذاتية له، ثم تنظر المحدود تحت أي فصل هو من تلك الفصول؟ فإذا وجدته ضممت ذلك الفصل إلى الجنس الذي كنت أخذته. ثم تنظر فإن كان مساويا للمحدود فقد وجد جنس الحد وفصله، وكمل الحد، وإن لم يكن مساويا له علمت أن ذلك الجنس والفصل إنما هو حد لجنس المحدود لا للمحدود، فتأخذ اسم ذلك الجنس بدل الحد المذكور، وتقسمه أيضا إلى فصوله الذاتية، ثم تنظر المحدود تحت أي فصل؟ فتأخذه، وتقسمه إلى ما تقدم من الجنس والفصل، ثم تنظر هل هو مساو لفظا وحده أم لا؟ فإن ساواه فقد تم الحد، وإلا فعلت كما تقدم هكذا.
والثاني : في مذهب الحكيم أنه يقتنص بطريق التركيب؛ لأنها عنده أقرب من طريق القسمة، وهو أن تجمع الأوصاف التي تصلح أن تحمل على الشيء المحدود كلها، ثم تنظر ما فيها ذاتي وما فيها عرضي، فتطرح العرضي، ثم ترجع إلى الذاتي فتأخذ منها المقول في جواب ما هو؟ فتجمعها كلها، ثم تطرح الأعم فالأعم حتى تنتهي إلى الجنس الأقرب، ثم ترجع إلى الفصول فتجمعها أيضا كلها، ثم تطرح الأبعد فالأبعد حتى تنتهي إلى الفصل القريب جدا، وحينئذ فيكمل.

(1/72)


والثالث : مذهب بقراطيس أنه يقتنص بالبرهان وقد أبطلوه من وجهين:
أحدهما : أنه إذا سلك في اقتناصه القسمة أو التركيب، وكان لا يتوصل إليها إلا بعد تصفح جميع ذاتيات الشيء المطلوب وحده كان الحد المقتنص بهذا الطريق معلوما، فأول العقل لا يحتاج إلى الدليل، فإذن اقتناص الحد لا يحتاج إلى دليل.
والثاني : أنه لا بد في طلب البرهان من وسط يحمل على المحكوم عليه على أنه حد له لا على أنه جنس له ولا فصل، ويحمل عليه الحكم على أنه حد له أيضا. مثاله: أن يدعي أن حد العلم المعرفة، فيقال لنا: وما الدليل عليه؟ فلا بد أيضا من طلب وسط يحمل على العلم على أنه حد له، وتحمل المعرفة عليه على أنها حد له أيضا وليكن ذلك الحد الاعتقاد. فنقول: لكل علم بالاعتقاد يؤخذ له على أنه حد، وكل اعتقاد يؤخذ العلم له على أنه حد، فالمعرفة تؤخذ له على أنها حد. فإذن كل علم فالمعرفة تؤخذ له على أنها حد، فينازع في كل واحد من مقدمتي هذا الدليل؛ لأنها حد، ويطلب البرهان كما طلب على الحد الأول فيحتاج إلى أن يبينها بدليلين. فينازع أيضا في كل مقدمة من مقدمتي كل واحد من ذينك الدليلين. فإما أن يتسلل الأمر إلى غير نهاية، وهو محال، وإما أن يقف عند أمر بين بنفسه.

(1/73)


مسألة: [صعوبة الحد]
ادعى ابن سينا أن الحدود في غاية الصعوبة. وذلك؛ لأنه يفتقر إلى معرفة الماهيات المختلفة تفصيلا حتى يعلم القدر المشترك بين الأشياء المشتركة في شيء واحد من الماهية، والقدر الذي به ينفصل كل واحدة منها عن الأخرى، ولا شك في صعوبة معرفتها على هذا الوجه، وبه يضعف تركيب الحدود الحقيقية للأمور الموجودة في الخارج المطابقة لها.
وناقضه أبو البركات البغدادي في كتابه المعتبر فقال: الحدود في غاية السهولة؛ لأن الحدود هي حدود الأسماء، والأسماء أسماء الأمور المعقولة، وكل أمر معقول فلا بد وأن يعقل أن كمال المشترك أيش هو؟ وكمال جزء الماهية أيش هو؟ فكان الحد سهلا من هذا الوجه، وبهذا الطريق يلج الإمام فخر الدين في المضايق، ويمنع كون الحد هو الدال على حقيقة الشيء، بل هو تفصيل ما دل اللفظ عليه إجمالا.

(1/73)


وقال في الملخص: الإنصاف أنه إن كان الغرض المقصود منه تفصيل مدلول الاسم كان سهلا، وإن كان الغرض معرفة الماهيات الموجودة كان ذلك في غاية الصعوبة.
فحصل من هذا أن الحدود الكاشفة للماهيات الموجودة ليست عبارة عن تفصيل ما دل اللفظ عليه إجمالا، بل الحد: هو القول الدال على ماهية الشيء. وصنف ابن دقيق العيد رسالة بين فيها صعوبة الحد.
وقال العبدري في شرح المستصفى: العلة في عسر حد بعض المدركات هو أن أصل العلوم العقلية كلها الحواس، فإذا قوي الحس على إدراك أمر مما اتضحت فصوله الذاتية عند العقل فأدرك حقيقة ماهيته ساغ له حده، وإذا ضعف الحس عن إدراك شيء مما خفيت فصوله الذاتية عن العقل، فلم يدرك حقيقته وماهيته لم يقدر على حده، ومن ذلك الروائح والطعوم لما ضعف الحس عن إدراكها عسر حدها، وقال ابن تيمية: عسر الحد مبني على اعتقادهم أن المراد بالحد تصوره، وليس كذلك، وأصل غلطهم أنه اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، فإن هذه الأمور قائمة بصورة الإنسان سواء طابق أم لا، وليس هو تابعا للحقائق في نفسها.

(1/74)


تنبيهات
[التنبيه] الأول [القصد من الحد]:
بان مما سبق عن كلام أئمتنا أن القصد من الحد التمييز بينه وبين غيره، ولهذا قال الأنصاري في شرح الإرشاد: قال إمام الحرمين: القصد من التحديد في اصطلاح المتكلمين: الفرق بخاصة الشيء وحقيقته التي يقع بها الفصل بينه وبين غيره. ا هـ. ولهذا كان الاضطراد والانعكاس لا يتم الحد إلا بهما. وأما المناطقة فقالوا: إن فائدة الحد التصوير، وبنوا على ذلك أمورا ستأتي.
قال أبو العباس بن تيمية في كتاب الرد عليهم: والذي عليه جميع الطوائف أن فائدته التمييز بينه وبين غيره، وهو قول الأشعرية والمعتزلة وغيرهم ممن صنف في هذا الباب من أتباع الأئمة الأربعة. بل أكثرهم لا يجوز الحد إلا بما يميز المحدود، لكنه لم يهتد إلى ما صار إليه أئمة الكلام في هذا المقام، وهو موضع شريف ينبغي الإحاطة به فإن

(1/74)


بسبب إهماله دخل الفساد في المعقول والأديان على كثير، إذ خلطوا ما ذكره المنطقيون في الحدود بالعلوم النبوية، وصاروا يعظمون أمر الحدود، ونحن نبين أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق، وطول الكلام في ذلك مما يوقف عليه من كلامه.
قلت: وبنى المنطقيون على هذا الأصل قواعد:
إحداها : قالوا: الحد لا يكتسب بالبرهان أي لا يمكن تحصيله ببرهان وعقدوا الاستدلال عليه بما حاصله: أن البرهان إنما يكون في القضايا التي فيها حكم، والحد لا حكم فيه؛ لأنه تصور، وهذا الإطلاق ممنوع بل الحق أنا إذا قلنا: الإنسان مثلا حيوان ناطق فله أربع اعتبارات:
أحدها : تعريف الماهية، وهو تصور لا حكم فيه فلا يستدل عليه ولا يمنع.
ثانيها : دعوى الحدية، وهذا يمنع ويستدل ببيان صلاحية هذا الحد للتعريف من اطراده وانعكاسه، وصراحة ألفاظه.
ثالثها : دعوى المدلولية، وهو أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى لغة أو شرعا فهذا يمنع ويستدل عليه، وهذا قاله الإمام فخر الدين في كتابه نهاية العقول، وكذلك قيد به ابن الحاجب إطلاقهم منع اكتسابه بالبرهان.
قال: أما لو أريد بالإنسان حيوان ناطق مدلوله لغة أو شرعا فلا بد له من النقل.
رابعها : أن يراد به أن ذات الإنسان محكوم عليها بالحيوانية والناطقية فيتوجه عليه المنع والمطالبة، ولا يكون ذلك حدا بل دعوى. ذكره الإمام فخر الدين أيضا.
وقال في الملخص: هذا بحسب الاسم، أما إذا كان بحسب الحقيقة، وهو أن يشير إلى موجود معين، ويزعم أن حقيقته مركبة من كذا وكذا، فلا شك أنه لا بد فيه من الحجة.
والذي أطلقه هنا ابن سينا في كتبه امتناع الاكتساب للحد بطريق البرهان مطلقا. وذكر عن أفلاطون أنه يكتسب بالقسمة، وزيفه.
فإن قيل: ما ذكرتموه يتوجه عليه النقض والمعارضة على الحد، وقد اتفق النظار على توجههما.
ثم أجاب بأن الحق عندنا: أن الحد ما لم ينضم إليه شيء من الدعاوى، فإنه لا يتوجه إليه النقض، وإنما يتوجه النقض على تسليم بعد الحد.

(1/75)


مثاله: إذا قيل: العلم هو الذي يصح من الموصوف به أحكام الفعل، فإذا قيل هذا منقوض بالعلم بالواجبات والمحالات، فإنه علم ولا يفيد أحكاما، فهذا النقض إنما يسلم بعد تسليم وجود العلم المتعلق بالمحالات. فلو لم تسلم هذه الدعوى لم يمكن توجه النقض إليه.
قال: وكذا المعارضة لا يمكن القدح بها في الحد إلا عند تسليم الدعوى، وإلا فالحقائق غير متعاندة في ماهياتها، فإن من عارض هذا الحد بأنه الاعتقاد المقتضي سلوك النفس فليس بين هاتين الحقيقتين تعاند، وإذا لم يكن بين الحقيقتين منافاة لم تتحقق المعارضة في الحدود.
القاعدة الثانية: وهي في الحقيقة مبنية على ما قبلها أن الحد لا يمنع، فإن المنع يشعر بطلب الدليل، والفرض أنه لا يبرهن عليه فلا معنى للمنع، وبيان عدم الإمكان أنه في إقامة الدليل عليه يفتقر إلى إثبات مقدمتين. ثم في إثبات كل واحدة منهما يفتقر إلى إثبات مقدمتين أخريين، وهكذا إلى غير نهاية، فيلزم إما الدور أو التسلسل، وهما باطلان.
وقال أبو العباس بن تيمية: يجوز منع الحد؛ لأنه دعوى فجاز أن يصادم بالمنع كغيره من الدعاوى.
وفيما قاله نظر، فإن مرجع المنع طلب البرهان، وهو لا يمكن على ما قرروه، وليس كل دعوى تصادم بالمنع بدليل الأوليات، فإن الكلام إذا انتهى إليها وجب الوقوف عندها، ولم يسمع منعها.
وقال الجاجرمي في رسالته إن هذا ينشأ عن حد الحد ما هو؟ حتى ينظر فيه أنه هل يمنع أم لا؟ والحد قد يكون حقيقيا وقد يكون رسميا.
الحد الحقيقي والحد الرسمي:
فنقول: الحاد لا يخلو إما أن يدعي أن هذا اللفظ، وهو قولنا: إنسان موضوع للحيوان الناطق أو يدعي أن ذات الإنسان محكوم عليها بالحيوانية والناطقية، أو يريد بقوله من الإنسان إنه حيوان ناطق الإشارة إلى هذه الماهية المتصورة من غير حكم عليها بنفي أو إثبات.
فهذه ثلاثة أقسام، فالأول والثاني ممنوع؛ لأنه دعوى فلماذا لا يمنع؟، وما الفرق بينه وبين سائر الدعاوى؛ لأنه في إقامة الدليل على كل مقدمة يفتقر إلى

(1/76)


مقدمتين أخريين، وذلك لا يدور ولا يتسلسل، بل ينتهي إلى مقدمة أولية، أو قطعية وكذا هنا.
قال: والذي يوضح ما ذكرنا إجماع النظار على النقض والمعارضة على الحد، وما يتوجه عليه النقض والمعارضة يتوجه عليه المنع؛ لأنهما متأخران في الرتبة عن المنع، والقسم الثالث لا نزاع في أنه لا يمنع؛ لأن المنع إنما يتوجه نحو الخبر، ولا خبر هناك. ا هـ.
وهذا ينظر لما سبق في طلب البرهان عليه، ونقله الإجماع على توجيه المعارضة أخذه من كلام الإمام السابق، وليس كذلك. فقد منع بعضهم المعارضة فيه. قال: لأنها تشعر بصحة المعارض قبله، فيلزم ثبوت حدين متباينين لمحدود واحد، وهو محال.
والحق: أن المعارضة إن كانت في حد رسمي، فلا نبطله. فإنه يجوز فيه التعدد على ما سيأتي لتعدد اللوازم، وإن كانت في الحد الحقيقي، وقلنا ليس لشيء حدان ذاتيان، فالمعارضة إبطال. وإن قلنا بجوازه فلا إبطال فيها.
وأما الحد اللفظي فلا مدخل للمنع فيه ولا للمعارضة قطعا. وقال الرشيد الحواري. إنما تدخله المعارضة بحد أرجح منه أو النقض، كما لو قيل: حد الغصب إثبات اليد العادية على مال للغير، وقال الخصم: بل إثبات اليد العادية مع إزالة اليد المحقة. فيقول: هذا يبطل بالغاصب من الغاصب، فإنه لم يوجد إزالة يد المالك، والغصب محقق.
قال: وقد يتكايس بعض الفقهاء ويقول: الحد لا يمنع بعدما ثبت كونه حدا، ولكن لم قلت: إنما ذكرته حد؟.
وهذا لا وجه له؛ لأن معنى قول القائل: الحد لا يمنع أي: ما يدعى كونه حدا لا يمنع، وإلا كل ما صح كونه حدا فلا يمكن منعه، ثم كل دعوى ادعاها الإنسان وصح أن الأمر كما يقوله، فلا يمكن منعه، فلا يختص هذا بالحد.

(1/77)


[التنبيه] الثاني
[حد الشيء بحدين فأكثر]
منعوا أن يكون للشيء حدان فأكثر، وحكى القاضي عبد الوهاب في كتابه الإفادة فيه خلافا، واختار الجواز.
قال: ولا يمتنع في اللغة أن يكون للشيء عدة أوصاف كل واحد منها يحصره، وكما قالوا في الحركة: نقلة وزوال وذهاب في جهة، وقولهم: إن التعدد يؤدي إلى المناقضة، ويبطل أن يكون الأول حقا ممنوع. ا هـ.
وهذه الشبهة تفيد أن نزاعهم في الحد الحقيقي، وعلى هذا احتجاجه بما ذكر لا يقوى؛ لأن الظاهر أنه لا خلاف في جواز التعدد في اللفظي والرسمي، وقد نبه ابن الحاجب على أن امتناع تعدد الحدين الذاتيين مبني على تفسير الذاتي بما لا يتصور فهم الذاتي قبل فهمه. فإن القصد به فهم ذاتياته على سبيل التفصيل، ولا يحصل ذلك حين فهم جميع ذاتياتها؛ لأجل التفسير المذكور. ووجود اشتماله على ذلك مانع من التعدد، وسكت عما يقتضيه التعريفان الأخيران للذاتي، بل قضيته أنهما لا يقتضيان امتناع التعدد، ومنه يؤخذ خلاف في التعدد في الحقيقي، وقد صرح الغزالي بجواز التعدد في الرسمي واللفظي.
أما اللفظي فلأنه يكثر بكثرة الأسامي الموضوعة للشيء الواحد، وأما الرسمي فلأن عوارض الشيء الواحد ولوازمه قد تكثر بخلاف الحقيقي، فإن الذاتيات محصورة، فإن لم يذكرها لم يكن حدا حقيقيا. وإن ذكر معها زيادة فهي حشو، فإذن الحد الحقيقي لا يتعدد.
[التنبيه] الثالث
[الفصل هل هو علة لوجود الجنس؟]
اختلفوا أن الفصل هل هو علة لوجود الجنس؟ فقال ابن سينا وغيره. نعم، لاستحالة وجود جنس مجرد عن الفصول، كالحيوانية المطلقة.
وخالفهم الإمام الرازي؛ لأن الماهية المركبة من ذات وصفة أخص منها، كالحيوان الكاتب يكون الذات جنسها، والصفة فصلها مع امتناع كون الصفة علة

(1/78)


للذات لتأخرها عنها، وهذا يعكر عليه أن تلك الماهية اعتبارية، والكلام في الماهيات الحقيقية.
ويتفرع على العلة أحكام:
منها: أن الفصل الواحد بالنسبة إلى النوع الواحد لا يكون جنسا له باعتبار آخر، كما ظن جماعة أن الناطق بالنسبة إلى أنواع الحيوان فصل للإنسان، وإلى الملك جنس له، والحيوان بالعكس، وذلك؛ لأن الفصل لو كان جنسا، لكان معلولا للجنس المعلول له، فيكون المعلول علة لعلته، وهو ممتنع.
ومنها: أن الفصل لا يقارن إلا جنسا واحدا فإنه لو قارن جنسين في مرتبة واحدة حتى يلتئم من الفصل وأحد الجنسين ماهية، ومنه ومن الآخر أخرى؛ لامتناع أن يكون لماهية واحدة جنسان في مرتبة واحدة يلزم تخلف المعلول عن العلة ضرورة وجود الفصل في كل واحد من الماهيتين، وعدم جنس ما لزمها في الأخرى.
ومنها: أن الفصل لا يقوم إلا نوعا واحدا؛ لأنه قد ثبت امتناع أن يقارنه إلا جنس واحد.
ومنها: أن الفصل القريب لا يكون إلا واحدا، فإنه لو تعدد لزم توارد علتين على معلول واحد بالذات، وجوز بعضهم تكثير الفصول.
والحق: أن الفصل لا تجوز زيادته على واحد؛ لأنه يقوم لوجود حصة النوع من الجنس، فإن كفى الواحد في التقويم استغني عن الآخر، وإلا لم يكن فصلا، وحيث وجد في كلام العلماء تعدد الفصول بقولهم: فصل ثان وثالث، فلا تحقيق في هذه العبارة. فإن المجموع فصل واحد، وكل واحد مما جعلوه فصلا هو جزء الفصل.
ولما ذهب الإمام إلى بطلان قاعدة العلية جوز الفروع الثلاثة. الأول: لجواز تركيب الشيء من أمرين كل منهما أعم من الآخر من وجه كالحيوان، والأبيض. فالماهية إذن تركبت منهما، لكون الحيوان جنسا والأبيض فصلا لها بالنسبة إلى الحيوان الأسود وبالعكس بالنسبة إلى الجماد الأبيض. فيكون كل منهما جنسا وفصلا، وهو الحكم الأول. وفصلا يقارن جنسين له من الحيوان والجماد والأسود والأبيض. وهو الحكم الثاني المستلزم للثالث.
وقال ابن واصل: ذهب الإمام إلى أن الفصل الواحد بالنسبة إلى نوع واحد قد يكون جنسا له، ويجوز اقترانه بجنسين، فيكون مقوما لنوعين، وذلك في الماهية المركبة من قيدين كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، كالحيوان الأبيض، فإن

(1/79)


الحيوان يصدق على الأبيض وغيره، والأبيض يصدق على الحيوان وغيره. فإن جعلت الحيوان جنسا لهذه الماهية كان الأبيض فصلا لها. وإن جعلت الأبيض جنسا لها كان الحيوان فصلا.
قال ابن واصل: والذي نقوله: إنا نمنع أن ماهيته في نفس الأمر تتألف عن هذين المفهومين وإنما يتألف عنهما ماهية اعتبارية. وكلامنا إنما هو في الماهيات الموجودة في الخارج الحقيقية، ولا نسلم أن شيئا منها يتركب مما هذا شأنه.
[أقسام الحد]:
وأما أقسامه : فحقيقي ورسمي، ومنهم من يقول: ثلاثة، ويزيد اللفظي، وعليه جرى ابن الحاجب، وما ذكرنا أحسن؛ لأن الحد نطق يفيد تصور المنطوق بعد أن لم يكن، وهذا المعنى غير حاصل من اللفظي، لما سنذكره.
فالحقيقي: هو ما اشتمل على مقومات الشيء المشتركة والخاصة.
والرسمي: ما اشتمل على عوارضه وخواصه اللازمة.
وربما قيل: إنه اللفظ الشارح للشيء بحيث يميزه عن غيره، وهو الموجود في أكثر التعريفات، فإن الحد الحقيقي يعز وجوده كما قاله الغزالي وغيره، فلذلك كان الأكثر هو الرسمي. فإن الحقيقي يتوقف على معرفة جميع الذاتيات وغيرها وترتيبها على الوجه الصحيح، وقد يتعذر بعض ذلك.
ومنهم من يقول: ليس الحد إلا واحدا، وهو الحقيقي، وأما التعريف بالرسم واللفظ فلا يسمى حدا. فحصل ثلاثة مذاهب.
وعلى الأولين فذكر الغزالي وغيره: أن الحد يطلق على مسمياته بالاشتراك، كدلالة العين على الباصرة والذهب وغيرهما. والحق: أن دلالته عليها دلالة التواطؤ، كدلالة لفظ الحيوان على ما تحته من الأنواع.
ثم الذي اصطلح عليه الجمهور أن التعريف إن كان بالجنس القريب والفصل فهو الحد التام، وهو تعريف بجميع الأجزاء.
وإن كان ببعض الأجزاء، وذلك البعض مساو للماهية فهو الحد الناقص، كالتعريف بالفصل فقط، كالناطق أو بالجنس بالبعيد معه كالجسم الناطق.
وإن كان التعريف بجزء الماهية مع الخارج عنها فهو الرسم التام، كالحيوان الضاحك، ولا بد أن يكون ذلك الجزء أعم.

(1/80)


أما لو قلت: الناطق الضاحك فالحد هو الناطق، والضاحك حينئذ ليس من أقسام التعريفات.
وإن كان التعريف بالخارج وحده فهو الرسم الناقص، كالضاحك، وإن كان بتبديل لفظ بلفظ أجلى منه عند السامع فهو اللفظي.
والأكثرون على أنه راجع إلى اللغة، وليس من الحدود في شيء.
ومن اشترط الأجلى يعلم أن الواقع في كتب اللغة من تعريف أحد المترادفين بالآخر مع استوائهما في الشهرة لا يسمى حدا لفظيا اصطلاحا.
[كيفية تركيب الحد]:
وأما كيفية تركيبه فمن شيئين، وهما مادته وصورته. والمراد بهما جنسه وفصله، وأما جنسه: فيقوم مقام مادته ذلك المعين.
وأما فصله: فيقوم مقام صورته ذلك المعين. كذا اقتصر الغزالي ومن تبعه كالآمدي، وابن الحاجب على ذكر المادة والصورة، ولم يتعرضا للفاعلية والغائية، ولا شك أن الحد إنما وضع ليبين صورة الشيء، إذ الصورة إنما هي كمال وجود الشيء، وهي أشرف ما به قوامه، فلهذا وجب أن توجد أجزاء الحد من جهة الصورة لا من جهة غيرها، ولا شك أنه إذا أوجد الحد بجنسه وفصله صور الشيء بصورته التي هي أكمل من مادته، وأردنا كمال الحد بذكر باقي أسباب وجوده، فلا بأس أن تذكر في الحد على جهة التبع، فيكون الحد حينئذ كاملا قد كملت فيه جميع أسباب الشيء الداخلة في ذاته، وهما مادته وصورته، والخارجة عن ذاته وهما فاعله وغايته. وكذا قال العبدري في "شرح المستصفى".
قال: وترتيبه فيها على ترتيبها في السببية، فتؤخذ الصورة أولا التي هي أقوى سببي الشيء الداخلين في ذاته، ثم تتبع بالمادة، ثم بالخارجين عن ذاته. فيكون هذا الحد أكمل الحدود، ولو اقتصرنا على صورته لكفى لكن هذا أكمل. انتهى.
[شروط صحة الحد]:
وأما شروط صحته: فمنها ما يرجع إلى اللفظ، ومنها ما يرجع إلى المعنى.
فمن المعنوية أن يكون جامعا لسائر أفراد المحدود، وهذا هو المراد بقولهم: الاطراد، ومانعا عن دخول غير المحدود في الحد، وهو المراد بقولهم: الانعكاس. قاله القرافي.

(1/81)


وقال الغزالي، وابن الحاجب: المطرد هو المانع والمنعكس هو الجامع، وهذا هو الصواب أوفق للاستعمال اللغوي. فإن المفهوم من قولنا: اطرد كذا أنه وجد واستمر. فيلزم أن يكون معنى الطرد الوجود في جميع الصور، وإنما صوبنا الثاني؛ لأن معنى وصفه بالاطراد أن تعريفه للمحدود. مطرد، وهذا الذي تحقق وصفه بالحد، فالمراد اطراد التعريف.
تنبيه
هل الطرد والعكس شرط الصحة أو دليلها؟ خلاف. حكاه الأنباري في شرح البرهان، فإن كان شرطا لم يلزم من وجوده صحة الحد، ويلزم من الانتفاء الفساد، وإن كان دليل الصحة لزم من الوجود الصحة ولم يلزم من الانتفاء الفساد.
قال: والصحيح أنه شرط لا دليل؛ لأنا نجد حدودا مطردة ومنعكسة، ولا يحصل منها مقصود البيان، وهو المراد بالصحة، كقولنا: العلم ما علمه الله علما. فهذا وإن كان يطرد وينعكس فليس بصحيح.
وأما قول الأصوليين: عرفت صحته باطراده وانعكاسه فتجوز. ا هـ.
وقال الأستاذ أبو منصور: أجمعوا على أن شرط الحد الاطراد والانعكاس، وما اطرد ولم ينعكس جرى مجرى الدليل العقلي أو العلة الشرعية.
ومنها: أن لا يكون أخفى من المحدود، ولا مساويا له في الخفاء، وعبارة الأستاذ أبي منصور البغدادي بأن تكون العبارة أوضح منه وأسبق إلى فهم السامع، وأن يكون شائعا في جميع أحوال المحدود، ولا يجوز تحديد الشيء بما يكون علته في بعض الأحوال.
تنبيه
[الخفاء]:
هل يعتبر الخفاء بالنسبة إلى الحاد أو إلى كل أحد؟ مثاله النفس أخفى من النار، فلو فرض أن شخصا عرف نفسه أجلى من النار، فهل تحد له النار بأنها جسم كالنفس؟ مقتضى كلامهم المنع، والظاهر: الجواز.
ومنها: أنه لا يكون مركبا على اختلاف وتفصيل، فعند المنطقيين لا بد في

(1/82)


الحد من التركيب، ومنعه المتكلمون منهم إمام الحرمين، ونقله عن كثير من المتكلمين.
قال: وإليه يميل شيخنا أبو الحسن. وقال القاضي عبد الوهاب في الإفادة: الصحيح: جوازه، ومن منعه اعتبره بالعلة، وهو فاسد.
وقال الأستاذ أبو منصور: اختلف أصحابنا في تركيب الحد من وصفين فأكثر. فمنع الشيخ أبو الحسن الأشعري الجمع بين معنيين في حد واحد إذا أمكن إفراد أحد المعنيين عن الآخر، ولهذا اختار في حد الجسم أنه الطويل العريض العميق، واختار الباقون من أصحابنا تركيب الحد من وصفين وأكثر، وهو الصحيح عندنا.
وزعمت الفلاسفة أن الحد لا يكون إلا مركبا من جنس وفصل. وزعموا أن ما اطرد بوصف واحد وانعكس فهو رسم لا حد، ولهذا قالوا: إن قولنا: الإنسان هو الضاحك رسم، وقولهم: الإنسان حي ناطق مائت حد؛ لأنه مركب من جنس وفصل. انتهى.
واعلم أنه ليس المراد بمنع التركيب تكليف المسئول أن يأتي في حد ما يسأل عنه بعبارة واحدة، إذ المقصود اتحاد المعنى بدون اللفظ، والعبارات لا تقصد لأنفسها، وليست هي حدودا بل منبئة عن الحدود.
تنبيه
ظاهر كلام الأستاذ أن خلاف المتكلمين والمنطقيين في مسألة واحدة.
وقال المقترح: لم يتوارد كلامهما على محل واحد. بل المرادان متغايران، فمراد المنطقيين بالتركيب هو المركب من جنس وفصل، وهو صحيح في الحد، والتركيب الذي أراده الأصوليون هو تداخل الحقائق، وهو مبطل للمحدود.
مثاله: إذا حد العلم بأنه الذي يصح من المتصف به إحكام الفعل وإتقانه، فيقال: هذا فيه تركيب؛ لأنه يدخل فيه القدرة والإرادة، فتكون القدرة والإرادة علما؛ ولأنه إن كانت القدرة والإرادة داخلتين في العلم لزم التركيب المفسد للحد، وإن كانتا خارجتين عن العلم، فالعلم بانفراده لا يصح به الإحكام؛ لأن العالم العاجز لا يتصور منه الإحكام؛ لأنه غير قادر.

(1/83)


فرع: [التحديد بما يجري مجرى التقسيم]
قال الأستاذ: اختلفوا في التحديد بما يجري مجرى التقسيم، فالمانعون من تركيب الحد منعوه، وأجازه أكثر من أجاز التركيب. نحو: الخبر ما كان صدقا أو كذبا، وحقيقة الوجود ما كان قديما أو محدثا.
وحكى بعض المتأخرين ثلاثة مذاهب في أن التقسيم في الحد هل يفسده؟.
أحدها : نعم؛ لأن المسئول عنه بصفة واحدة، والتقسيم يقتضي التعدد؛ لأن حرف أو للتردد، وهو مناف للتعريف.
والثاني : لا؛ لأن المراد أحدهما ولا تردد فيه.
والثالث : وصححه، إن كان التقسيم من نفس الحد أفسده، وإن كان خارجا عنه لمقصود البيان لم يفسده.
قال: وإنما يكون التقسيم من نفس الحد إذا كان بحيث إذا أسقط من الحد ورد عليه ما يبطله، ومنها قالوا: لا يجوز أن تصدر الحدود بلفظة كل هكذا أطلقوه. وكان مقصودهم باعتبار الكلية، أي كل واحد؛ لأن الحد حينئذ يكون لكل فرد، فيكون حدا واحدا لأشياء متعددة صادقا على كل منها.
مثاله: الإنسان كل حيوان ناطق باعتبار كل واحد، فيكون الحد منطقيا على كل فرد، فيكون حدا واحدا صادقا على ذوات متعددة. وهو باطل؛ لأنك تكون حكمت على زيد مثلا بأنه كل حيوان ناطق، وغيره يشاركه في ذلك، فيكون غير مانع، ويجب تنزيل إطلاقهم المنع على هذا.
أما باعتبار الكلي المجموعي فلا يمتنع أن يؤتى بلفظ كل في الحدود؛ لأن المحدود حينئذ الماهية المركبة من أجزاء متعددة مرادة بلفظ كل، والحد لمجموعها، إذ لا مانع أن تحد شيئا واحدا مركبا من أجزاء خارجية ينفصل بعضها عن بعض وذلك كثير.
ومن هاهنا يظهر أن الكلي لا يجوز تصدير حده بلفظة كل؛ لأن الحد فيه ليس باعتبار الكلية، و كل موضوعها كلية.
ومن اللفظية توقي الألفاظ الغريبة الوحشية والاشتراك [و] الإجمال والتكرار والمجاز غير الشائع من غير قرينة لبعد البيان، فإن اقترنت قرينة معرفة ففيه خلاف.

(1/84)


قال الأنباري: والصحيح: القبول، والأحسن: الترك، وقال في موضع آخر: إن كان اللفظ نصا فهو أحسن ما يستعمل في الحدود، وكذا إن كان ظاهرا واحتماله بعيد. فإن كان مشتركا أو ملتبسا فلا يصح استعماله مجردا عن القرينة بحال.
واختلفوا في صحته مع القرينة المقالية كقولنا: العلم الثقة بالمعلوم، فإن الثقة مشتركة بين الأمانة والعلم: لكن ذكر المعلوم يقطع ذلك الاشتراك، ويبين مقصود المتكلم منه.
وهل يكون اقتران القرينة الحالية بين المتخاطبين يقوم مقام القرينة اللفظية؟ هذا أيضا مختلف فيه. ا هـ.
وقال القاضي عبد الوهاب في الإفادة: اختلفوا في التحديد بالمجاز، فأجازه قوم، ومنعه آخرون؛ لأن الحد إنما يكون بالوصف اللازم، والمجاز غير لازم. والصحيح: جوازه؛ لأن الغرض التبيين.
وقال المقترح: اختلفوا في ألفاظ الاستعارة والمجاز هل تستعمل في الحدود؟ فقيل: بالمنع مطلقا لما فيه من اللبس عند السامع، وقيل: نعم؛ لأنها تدخل على الجملة. وفصل آخرون بين المستعمل المشهور، وبين ما ليس كذلك، فإن كان مشهورا استعمل، وهو رأي إمام الحرمين في الشامل، والغزالي في المستصفى.
فقال: يجب طلب النهي ما أمكن فإن أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة، فاطلب من الاستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض. انتهى.
ويجب أن يبتدأ بالأعم ثم بالأخص في الحدود التامة؛ لأن الأعم منها هو الجنس، فلا يقال: مسكر معتصر من العنب بل بالعكس؛ لأنه لا يمكن معرفة الأخص مع الغفلة عن الأعم. فإذا ذكر الأخص أولا تعذر الفهم حتى يذكر الأعم. ثم يفهم الأخص فيتراخى الفهم عن الذاكر، وليس كذلك إذا ذكر الأعم أولا، ولأن بتقديم الأخص يختل الجزء الصوري من الحد، فلا يكون تاما مشتملا على جميع الأجزاء، وأما غير التام فتقديم الأعرف أولى، وليس بواجب.

(1/85)


مسألة: [الزيادة والنقصان في الحد]
ولا خلاف كما قاله القاضي عبد الوهاب، والأستاذ أبو منصور أن النقصان في الحد زيادة في المحدود، واختلفوا في الزيادة فيه، فقالت الأوائل وكثير من الأصوليين: إنه نقصان في المحدود أيضا.
وقال الأستاذ أبو منصور: إن كان جزءا منه فكذلك، كحدهم الجوهر بالمتلون بالسواد؛ لأن السواد جزء من اللون، ولو طرح هذه الزيادة، وقال: الجوهر هو المتلون، لكان حده أعم وأوضح.
وقال القاضي عبد الوهاب: عندي أن الزيادة ضربان:
أحدهما: نقص من المحدود كقولنا في الحركة: إنها نقلة إلى جهة اليمين أو الشمال، وهذا يخرج كل نقلة لا إلى غير تلك الجهة عن أن تكون حركة. والثاني: لا ينقص بل يكون وجودها وعدمها سواء كقولنا في الحركة: إنها فعل نقلة أو عرض نقلة.
فائدة [إعراب الصفات في الحدود]
كان بعض الفضلاء يقول: إن الصفات المذكورة في الحدود لا يجوز أن تعرب أخبارا ثواني، بل يتعين إعرابها صفة لما يلزم على الأول من استقلال كل خبر بالحد، ومن هنا منع جماعة أن يكون حلو حامض خبرين.
وأوجب الأخفش أن يعرب حامض صفة.
والجمهور القائلون: إن كلا منهما خبر لا يلزمهم القول بمثله في نحو: الإنسان حيوان ناطق؛ لأن حلو حامض ضدان. فالعقل يصرف عن توهم أن يكونا مقصودين بالذات وأن يكون كل منهما قصد معناه فلا توقع في الغلط. بخلاف الإنسان حيوان ناطق ليس في اللفظ، ولا في العقل إذا كانا خبرين ما يصرف كلا منهما عن الاستقلال، ولأمر آخر وهو أن الخبر الأول من حلو حامض كالخبر الثاني ليس له حكم بالكلية. حتى نقل عن الفارسي أنه لا يتحمل ضميرا، وما شأنه ذلك لا يدخل في الحدود؛ لأن كل واحد من حيوان وناطق مثلا مقصود وحده. ألا ترى أنك تقول:

(1/86)


دخل بالجنس كذا، ثم خرج بالفصل الأول كذا، ثم بالفصل الثاني كذا؟ فقد جعلت لكل معنى مستقلا وليس كذلك شأن حلو حامض. فلم يبق إلا أن يكونا خبرين مستقلين فيفسد الحد، أو يكون الثاني صفة وهو المدعى، فليتأمل ذلك.

(1/87)


القسمة
وعند إمام الحرمين أنه يتوصل بالتقسيم إلى درك الحقيقة كالحد. وسبق عن الأستاذ حكاية الخلاف فيه بناء على الخلاف في جواز التركيب في الحد، والنظر في حدها وأنواعها وشروط صحتها.
أما حدها فتكثير الواحد تقديرا.
وهي نوعان:
قسمة تمييز وقسمة ثوابت، والثوابت ما عاد المستدعى منها إلى الاشتراك في مجرد اللفظ، والتمييز بعكسه: وقد بلغها القدماء إلى أنواع ثمانية:
الأول : قسمة الجنس إلى الأنواع، كقسمة الحادث إلى جوهر وعرض وقسمة العرض في الاصطلاحات إلى أنواعه، وكتقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، وتقسيم الفرقة عن النكاح إلى طلاق وفسخ، وقسمة الميراث إلى فرض وتعصيب.
الثاني : قسمة النوع إلى الأشخاص، كقسمة السواد إلى سواد القار وسواد الزنجي.
الثالث : قسمة الكل إلى الأجزاء كقسمة بدن الإنسان إلى الأعضاء الرئيسة وإلى الرأس واليد.
الرابع : قسمة الاسم المشترك إلى معانيه المختلفة.
الخامس : قسمة الجوهر إلى الأعراض، كقولهم: الجسم منه أحمر وأسود.
السادس : قسمة العرض إلى الجواهر كقولهم: الأبيض إما ثلج أو قطن.
السابع : قسمة العرض إلى أعراض كقولهم: الخلق ينقسم إلى الأحمر والأبيض. قالوا: وإلى هذه الجهات ينقسم كل منقسم، وفيما ذكروه ضرب من التداخل.
الثامن : قسمة الكلي إلى جزئياته.

(1/87)


[شروط صحة القسمة]
وأما شروط صحتها فعدم التداخل، والزيادة والنقصان، والتنافر.
فالتداخل كقولك: الجوهر لا يخلو من أن يقوم به لون أو سواد.
والتنافر قد يكون في المعنى فهو كالزيادة كقولك: الكون لا يخلو إما أن يكون حركة أو سكونا أو سوادا، فإنك أدخلت في جنس الكون نوعا من أنواع اللون فتنافر جنسه من حيث لم يكن نوعا له، ويرجع إلى الزيادة.
وقد يكون في نظم الكلام وصفته كقولك: لا يخلو اللون القائم بالجوهر من أن يكون سكونا أو يكون الجوهر متحركا.

(1/88)


مسألة: [توقف المطلوب التصديقي على مقدمتين]
يتوقف المطلوب التصديقي على مقدمتين لا يمكن الزيادة عليهما ولا النقصان عنهما، وهذا قول أكثر العقلاء. قالوا: وهما كالشاهدين عند الحاكم.
قالوا: والمقدمة الواحدة لا تنتج كما لا ينتج ذكر دون أنثى، ولا. عكسه، وإنما تكون النتيجة بازدواج مقدمتين.
وعن إمام الحرمين: أنه يصح إنتاج المقدمة الواحدة، وقد استنكر عليه إلا أن يكون مراده أنه لا يلزم ذكر المقدمة الثانية إذا كانت مشهورة، ويكون حذفها إذ ذاك من الدليل اختصارا لا اقتصارا، وهذا لا خلاف فيه.
وهذا كما لو استدللنا على وجوب الزكاة بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فإنه متوقف على مقدمة أخرى، وهي أنه مأمور به، وكل مأمور به فهو واجب، فحذفت هذه اختصارا، ولهذا يسمى بالمضمر.
قالوا: وإنما تحذف لأحد ثلاثة أمور: إما الاختصار، وإما أنه لو صرح بها لمنعها الخصم، كقولنا: النبيذ مسكر فهو حرام، فلو صرح بالكبرى وهي كل مسكر حرام لمنعها الخصم. وإما؛ لأنها كاذبة فتضمر لئلا يظهر كذبها فيكون إخفاؤها أروج للمغالطة. هذا إذا كان المحذوف الكبرى.
فإن حذفت الصغرى سمي قياس الرمي، ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فحذفت المقدمة الاستثنائية الناطقة برفع الثاني، وهي

(1/88)


لكنهما لم تفسدا {إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} فحذف منه، ومعلوم أنهم لم يبتغوا.

(1/89)


مسألة: [الموضوع والمحمول]
وكل من المقدمتين ينقسم إلى موضوع ومحمول. أي: محكوم عليه ومحكوم به. قالوا: والنحاة يسمونهما المبتدأ والخبر.
قال المنطقيون: ولا بد من نسبة توسط بين المحمول والموضوع، وإلا لم تكن قضية. واللفظ الدال على هذه النسبة يسمى رابطة، فإن صرح بها كقولنا: زيد هو كاتب سميت ثلاثية، وإن أسقطت اعتمادا على فهم المعنى نحو زيد كاتب سميت ثنائية.
وهي: الرابطة من جملة الأدوات في غير لغة العرب.
أما لغة العرب، فمنهم من يجعلها أداة، ومنهم من يجعلها اسما على ما عرف من الخلاف بين النحويين في ضمير الفصل.
وقد رد السهيلي في نتائج الفكر قول المناطقة في هذا بإجماع النحويين على أن الخبر إذا كان اسما مفردا جامدا لم يحتج إلى رابطة تربطه بالأول؛ لأن المخاطب يعرف أنه مسند إليه من حيث كان لا يقوم بنفسه، كما زعم المنطقيون أن الرابط بينهما لا بد منه مظهرا أو مضمرا.
قال: وكيف يكون مضمرا ويدل على ارتباط أو غيره، والمخاطب لا يستدل إلا بلفظ يسمعه لا بشيء يضمره في نفسه؟ ولو احتجنا إلى هو مضمرة أو مظهرة، لاحتجنا إلى هو أخرى يربط الخبر بها، وذلك يتسلسل.

(1/89)


مسألة: [النتيجة تتبع المقدمات]
والمقدمات إن كانت قطعية أو ظنية فالنتيجة كذلك، وإن كان بعضها قطعيا وبعضها ظنيا فهي ظنية.
والنتيجة أبدا تتبع أخس المقدمتين في الكم والكيف جميعا، وقد قيل:
إن الزمان لتابع للأنذل ... تبع النتيجة للأخس الأرذل

(1/89)