البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

الأحكام
فصل في الأحكام
مدخل
...
فصل في الأحكام
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] وقد بينا أن أصول الفقه: العلم بالأحكام فلا بد من تعريف الحكم.
فنقول: هو لغة المنع والصرف، ومنه الحكمة للحديدة التي في اللجام، وبمعنى الإحكام، ومنه الحكيم في صفاته سبحانه.
وفي الاصطلاح: خطاب الشرع المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير. فيخرج المتعلق بذات المكلف، نحو {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 69] والمراد بالفعل جميع أعمال الجوارح، وإن كان قد تقابل الأفعال بالأقوال في الإطلاق العرفي.
وقولنا: بفعل المكلف فيه تجوز، فإنه لا يتعلق التكليف إلا بمعدوم يمكن حدوثه، والمعدوم ليس بفعل حقيقة. ولو احترز عنه لقيل: المتعلق بما يصح أن يكون فعلا، وأشير بالتعلق إلى أن حاصل الحكم مجرد التعلق من غير أن يكون له تأثير في ذات الحاكم أو المحكوم عليه أو فيه.
ونعني بالاقتضاء ما يفهم من خطاب التكليف من استدعاء الفعل أو الترك، وبالتخيير التسوية بين الفعل والترك.
والمراد بأو أن ما يتعلق على أحد الوجوه المذكورة كان حكما وإلا فلا يرد سؤال الترديد في الحد. هذا إن قلنا: إن الإباحة حكم شرعي، ومن لم ير ذلك استغنى عن ذكر التخيير. أما تعلق الضمان بفعل الصبي ونحوه. فالمراد به تكليف الولي بأدائه من مال الصبي. ومنهم من قال: خطاب الله المتعلق بأفعال العباد؛ ليدخل الصبي، وهذا نشأ من الخلاف في أن الصبي مأمور بأمر الولي أو بأمر الشارع؟.
وزاد بعضهم في الحد التام العقل ليختص بالمميز. والخطاب يمكن معه لفهمه، وإنما يمتنع في حقه التكليف، وعبر ابن برهان: بأفعال المكلفين. وانفصل عن سؤال الأحكام الثابتة بخطاب الوضع في حق غير الإنسان من البهائم. قال:؛ لأن ذلك ينسب إلى تفريط المالك في حفظها حتى لو قصد التفريط لم يكن لفعلها حكم.
وهذا لا يفيده، بل السؤال باق؛ لأن فعلها معتبر في التضمين إما بكونه شرطا وإما سببا، والشرطية والسببية حكم شرعي ولولا فعلها إما مضافا، وإما مستقلا لم يجب الضمان.

(1/91)


أو نقول: هو علة بدليل دوران الحكم معه وجودا وعدما
لا يقال: الخطاب قديم فكيف يعرف الحكم الحادث؟؛ لأنا نمنع كون الحكم حادثا.
وقول الرازي هنا: إن الحادث هو التعلق فيه نظر؛ لأن التعلق أمر نسبي يتوقف على وجود المنتسبين، فيلزم حدوث الحكم.
وأجيب بأن ذلك في الذهن لا في الخارج فلا يلزم حدوثه؛ ولأن النسبة أمر اعتباري لا يوصف بحدوث ولا عدم.
وصرح الغزالي في الوسيط في كتاب الطلاق بأن التعلق قديم، وبه جزم الرازي في كتاب القياس في المحصول، فحصل في المتعلق ثلاثة أقوال: قديم، حادث، لا يوصف بواحد منهما.
والتحقيق أن للتعليق اعتبارين:
أحدهما : قيام الطلب النفسي بالذات وهو قديم.
والثاني : تعلق تنجيزي، وهو الحادث، وحينئذ فلا يبقى خلاف.
والقول بحدوث التعلق يلائم قول من يقول: إن الله ليس آمرا في الأزل، وهو القلانسي. وأبو الحسن الأشعري يأباه.
تنبيه: [تعلق الأحكام]
علم من تعريف الحكم بالتعلق بفعل المكلف أن الأحكام لا تتعلق بالأعيان، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب المجمل أن نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أنه من باب الحذف بقرينة دلالة العقل أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال دون الأعيان. ولكن هذا ليس متفقا عليه، فقد ذهب جمع من الحنفية إلى أن الحكم يتعلق بالعين كما يتعلق بالفعل، ومعنى حرمة العين خروجها من أن تكون محلا للفعل شرعا كما أن حرمة الفعل خروج من الأعيان شرعا.
وذكر صاحب الميزان من الحنفية: أن الحل والحرمة إذا أضيفا إلى الأعيان فهي أوصاف لها كما تكون أوصافا للأفعال في قول الحنفية خلافا، للمعتزلة.
قال: وإنما أنكرت المعتزلة إضافة التحريم إلى الأعيان لئلا يلزمهم نسبة خلق

(1/92)


القبيح إلى الله تعالى بناء على أن كل محرم قبيح.
وذكر صاحب الأسرار منهم أن الحل والحرمة معا إذا كان لمعنى في العين أضيف إليها؛ لأنها نسبة كما يقال: جرى الميزاب، وقال: حرمت الميتة؛ لأن تحريمها لمعنى فيها، ولا يقال: حرمت؛ لأن حرمتها احترام المالك فحصل في تعليق الأحكام بالأعيان ثلاثة مذاهب، وذكر هذه المسألة هنا من الغرائب.
وذكر القاضي في التقريب أن الشيء قد يوصف بما يعود إلى نفس الذات أو صفة نفسية، أو معنوية قائمة بالذات، أو صفة تعلق لا يرجع منها شيء إلى الذات.
وقد اختلف في الأحكام هل يكتسب بها الذوات صفة أم لا؟. الجمهور على أنها من صفات التعلق فإذا قيل: هذا نجس فليس النجاسة ولا كونه نجسا راجعا إلى نفسه، ولا إلى صفة نفسية أو معنوية للذات، بل هي حال الطهارة والنجاسة على حد سواء لم يفد هذا الحكم صفة زائدة قائمة بها لأجل الحكم.
ومعنى النجاسة تعلق قول الله تعالى إنها مجتنبة في الصلاة ونحوه، وكذا قولنا: شرب الخمر حرام ليس المراد تجرعها وحركات الشارب، وإنما التحريم راجع إلى تعلق قول الله في النهي عن شربها.
وقد تحقق في علم الكلام أن صفات التعلق لا تقتضي إفادة وصف عائد إلى الذات، وهذا كمن علم أن زيدا قاعد بين يديه فإن علمه وإن تعلق بزيد لم يغير من صفات زيد شيئا، ولا حدثت لزيد صفة لأجل تعلق العلم به.
وذهب بعضهم إلى استفادة الذوات من الأحكام فائدة، ورأوا أن التحريم والوجوب يرجع إلى ذات الفعل المحرم والواجب، وقدروه وصفا ذاتيا.
قال القاضي: واعتلوا لذلك بضرب من الجهل، وهو أنه لو توهم عدم الفعل لعدمت أحكامه بأسرها فوجب أن يكون أحكامه هي هو.
قال: وهذا باطل؛ لأنه يوجب أن تكون جميع صفات الأجسام، وأحكامها وأقوالها وأفعالها هي هي؛ لأنه لو تصور عدم الجسم لعدمت أحواله وألوانه وجميع تصرفاته، فيجب أن تكون عبارة عن أفعاله ولا يقوله عاقل.
ونسب غيره هذا إلى المعتزلة، فقال: الأحكام ترجع إلى تعلق الخطاب وهي صفة إضافية، وقالت المعتزلة: إلى صفات الأفعال، وهي نفسية.
وقال الغزالي: وقولنا: الخمر محرمة تجوز، فإنه جماد لا يتعلق به خطاب، وإنما المحرم تناولها.

(1/93)


وقال إلكيا الطبري: الحكم لا يرجع إلى ذات المحكوم ولا إلى صفة ذاتية له إن قلنا: إنها زائدة على الذات، أو صفة عرضية له، وإنما هو تعلق أمر الله بالمخاطب، وهذا التعلق معقول من غير وصف محدث للمتعلق به كالعلم. يتعلق بالمعلوم.
وإذا سمعت الفقيه يقول: حقي يتعلق بالعين فمعناه أنه ثبت لمعنى في العين كالخمر حرمت لمعنى فيها، فتعلق الحكم تابعا للمعنى، فكانت على حال ما يتعلق بالعين، وإن لم تتعلق بها حقيقة. قال: وهذا أصل كبير في الشرع تمس الحاجة إليه في مواضع.
ومن فروعه: أن العقل لا مدخل له في أحكام الله تعالى خلافا للمعتزلة. قلت: ومن فروعه: أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ونحوه هل هو مجمل؟ فمن قال بإضافة الحل والحرمة إلى الأعيان نفى الإجمال، ومن لم يقل به أثبته.
وعلم من تعريف الحكم بالخطاب أن نفي الحكم ليس بحكم شرعي بل الأمر فيه باق على ما كان قبل الشرع؛ لأن حقيقة الحكم الخطاب، وهو مفقود فيه، وقد جمع الجدليون في هذه المسألة ثلاثة مذاهب.

(1/94)


مسألة: [نفي الأحكام الشرعية].
اختلف في نفي الأحكام الشرعية على ثلاثة مذاهب:
أحدها : أنه حكم شرعي متلقى من خطاب الشارع.
والثاني : ليس بحكم شرعي بل يرجع حاصله إلى بقاء الحكم فيه على ما كان قبل الشرع.
والثالث : وإليه ميل الغزالي وغيره إلى تقسيمه إلى نفي حكم مسبوق بالإثبات من الشرع، وإلى تقرير على النفي الأصلي قبل الشرع.
فالأول حكم شرعي كالإثبات، والثاني محض تقرير على انتفاء الحكم، فهو يخبرنا أن الله تعالى لم يخاطبنا فيه، وكثيرا ما يخبر الشرع عن الحقائق، ولا يكون ذلك حكما شرعيا وهو تعلق الخطاب، وقد يسمى حكما لا على أنه علامة على الحكم، كقول الشارع: لا زكاة في المعلوفة، ونظائره.
حكى هذه المذاهب البروي في المقترح قال: والذي كان ينصره محمد بن يحيى

(1/94)


تلميذ الغزالي أن نفي الحكم حكم شرعي كنفي الصلاة السادسة، ونفي الزكاة عن عبيد الخدمة، سواء تلقيناه من موارد النصوص، أو من مواقع الإجماع.
واحتج بإجماع الأمة على أن المجتهد إذا استفرغ وسعه في البحث عن مظان الأدلة فلم يظفر بما يدل على الحكم فهو متقيد بالقطع بالنفي والعمل به، وما ذاك إلا للإجماع الدال على نص بلغهم عن الرسول عليه السلام: إنكم إذا لم تجدوا دليل الثبوت فاجزموا بالنفي. فقد تعلق بنا خطاب الجزم بالنفي فتوى وعملا، ولا معنى للحكم الشرعي غير هذا. وأين هذا من عدم الحكم قبل الشرع؟.
قال: وهذا النفي ممكن تلقيه من النص أو الإجماع. فأما من القياس فينظر، فإن كان النفي لعدم المقتضي لم يجز فيه قياس العلة. وإن كان المانع طرأ بعد تحقق المقتضي للحكم جرى فيه جميع الأقيسة.
وقال شارح المقترح أبو العز المختار: عندي من هذه المذاهب أنه ليس حكما شرعيا؛ لأن الحكم خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، والنفي ليس فعلا، ليكون الخطاب المتعلق به حكما. فهو في الحقيقة خبر عن انتفاء تعلق الخطاب.
وقولنا: انتفاء الحكم إشارة إلى انتفاء تعلق الخطاب، فلا يكون حكما، وما احتج به محمد بن يحيى ممنوع؛ لأنه جزم بوجوب الفتوى بالنفي، وهو حكم الوجوب. وليس من نفي الحكم سبيل، فإن تعلق التكليف لنا بالنفي مع أن النفي ليس من فعل المكلف ليس بسديد، فهذه مغالطة منه لا تخفى.

(1/95)


مسألة: [الحكم هل هو قطعي أم ظني؟]
أطلق ابن برهان في كتابه الكبير هنا أن الحكم عندنا قطعي خلافا لأبي حنيفة، فإنه عنده ظني، وبين مراده به في باب القياس، فقال: الحكم قطعي في الأحوال كلها سواء أضيف إلى الدليل القطعي أو الظني؛ لأن الحكم قطعي ثابت عند الظن لا بالظن، والقطع غير معتبر. انتهى.
يريد أن الظن في الشرعيات ينزل منزلة العلم القطعي في القطعيات. والحكم قطعي؛ لأن ثبوت الحكم عند وجود غلبات الظنون قطعي فلا ينصرف إليه الظن.
ومثاله: حكم القاضي بقول الشهود ظني، ولكن الحكم عند ظن الصدق واجب قطعي، وهو حاصل كلام المحصول في جوابه عن قولهم: الفقه من باب الظنون بناء

(1/95)


على أن الحكم مبني على مقدمتين قطعيتين، وما انبنى على القطعي قطعي؛ لأنه يبنى على حصول الظن، وحصوله وجداني، وعلى أن ما غلب على الظن فحكم الله فيه العمل بمقتضاه.
وهذه مقدمة إجماعية، وما أجمع عليه فهو مقطوع به، فثبت أنه مبني على مقدمتين قطعيتين، واللازم منه أنه قطعي.
لكن الحق انقسام الحكم إلى قطعي وظني، وممن صرح بذلك من الأقدمين الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب الحدود، ومن المتأخرين ابن السمعاني في القواطع.
قال: وإنما قالوا: الفقه العلم بأحكام الشريعة مع أن فيه ظنيات كثيرة؛ لأن ما كان فيه من الظنيات فهي مستندة إلى العلميات.
وقال ابن التلمساني: إنه الحق.
واختار الشافعي أن المصيب واحد على ما نبين في باب الاجتهاد، ووجوب اعتقاد أن هذا حكم الله، أو الفتوى به، أو القضاء غير نفس الحكم بأن هذا حلال أو حرام أو صحيح أو فاسد، لاختلاف المتعلقات فيها.
وقال الأصفهاني: في شرح المحصول: من الأحكام ما يثبت بأدلة حصل العلم بمقتضاها، وذلك في الأحكام الثابتة بنصوص احتفت بقرائن تدفع الاحتمالات المتعارضة عنها بانحصار تعيين المدلول في واحد، ومنه ما ثبت بأخبار آحاد. أو نصوص لم تعتضد بما يدفع الاحتمالات، فتلك الأحكام مظنونة لا معلومة.
قال: وهذا هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ويؤيده أن الأحكام لو كانت بأسرها معلومة لما انقسمت الطرق إلى الأدلة والأمارة، ولما انتظم قولهم في المقدمات: إن كانت علمية فالنتيجة علمية، وإن كانت ظنية فالنتيجة ظنية، وإن كان بعضها علما وبعضها ظنيا فالنتيجة ظنية.
وقال ابن دقيق العيد: إن الأحكام تنقسم إلى متواترات، وهي مقطوع بها، وإلى ما ليس كذلك، وهي مظنونة.
وبرهانه: أن الظن من الصفات المتعلقة أي: لا بد له من مظنون، ومتعلقه الحكم المتعين أو الأحكام التي هي غير بالغة حد التواتر عن صاحب الشرع، فنركب قياسا. فنقول: هذه الأحكام، أو هذا الحكم المعين متعلق الظن وما هو متعلق الظن فهو مظنون، أو هذا الحكم مظنون.

(1/96)


ثم نقول: هذه الأحكام مظنونة، ولا شيء من المظنون بمعلوم فلا شيء من هذه الأحكام بمعلوم.
وأما الدليل الذي ذكره الرازي فإنما ينتج بأن العمل بمقتضى الظن معلوم، وهو بعد تسليم كون الإجماع قطعيا مسلم، ولكنه حكم من الأحكام الشرعية، وليس هو الأحكام الفقهية التي في أعيان المسائل التي تقام عليها الأدلة العلمية.
والذي يحقق هذا أنا نبني هذه المسألة على ما نختاره، وهو أن لله حكما معينا في الواقعة، وهو مطلوب المجتهدين، ومنصوب عليه الدلائل، فمن أصاب ذلك الحكم فهو مصيب مطلقا، ومن أخطأه فلله عليه حكم آخر شرطه عدم إدراك ذلك الحكم الأول بعد الاجتهاد، وهو وجوب المصير إلى ما غلب على ظنه، وهذا الحكم معلوم. وليس يلزم من كون هذا معلوما كون الأول معلوما.
وقال في موضع آخر: المختار أن لله تعالى في الواقعة حكما معينا طلب العباد أن يقفوا عليه بدلائله المنصوبة، وليس هذا بالحكم الأصلي. فإذا لم يقع العثور عليه أو ظن أن الحكم غيره نشأ هاهنا حكم آخر بهذه الحالة، وهو وجوب العمل بما غلب على ظنه، وليسم هذا بالحكم الفرعي.
وبهذا يتبين الرد على أن الأحكام معلومة من حيث إنها مبنية على مقدمتين قطعيتين، وما كان مبنيا على مقدمتين قطعيتين فهو معلوم، فالفقه معلوم، وقرر كونها مبنية على مقدمتين قطعيتين بأنها مبنية على قيام الظن بالأحكام، وعلى أن الإجماع قائم على أن الواجب على المجتهد اتباع ظنه فيرتب هذا الحكم على مقدمة وجدانية ومقدمة إجماعية وكلتاهما قطعيتان.
نقول: الذي ثبت من هذا أن وجوب العمل بمقتضى الظن قطعي؛ لأنا نقول هكذا: الظن بهذا الحكم حاصل قطعا، وإذا حصل الظن بحكم وجب العمل بمقتضى الظن فيه قطعا، فوجب العمل بمقتضى الظن في هذا الحكم قطعا. لكن هذه النتيجة مسألة من مسائل الفقه، ونحن لا نمنع أن بعض الأحكام معلومة قطعا.

(1/97)


الخطاب
عرفه المتقدمون بأنه الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيئ للفهم. وعرفه قوم بأنه ما يقصد به الإفهام أعم من أن يكون من قصد إفهامه متهيئا أم لا.
قيل: والأولى أن يفسر بمدلول ما يقصد به الإفهام؛ لأن الكلام عند الأشعري هو النفسي، والنفسي لا يقصد به الإفهام، وفيه نظر؛ لأن قصد الخطاب مع النفس أو العين سواء، وفي وصف كلام الله في الأزل بالخطاب خلاف.
الصحيح: وبه قال الأشعري: أنه يسمى خطابا عند وجود المخاطب. قال ابن القشيري: وهو الصحيح.
وجزم القاضي أبو بكر بالمنع؛ لأنه لا يعقل إلا من مخاطب ومخاطب. وكلامه قديم فلا يصح وصفه بالحادث، وتابعه الغزالي في المستصفى ثم قال: وهل يسمى أمرا؟ فيه خلاف. والصحيح: أنه يسمى به، إذ يحسن أن يقال فيمن أوصى أولاده بالتصدق بماله: فلان أمر أولاده بكذا، وإن كان بعضهم مجتنا في البطن أو معدوما. ولا يحسن أن يقال: خاطبهم إلا إذا حضروه وسمعوه. انتهى.
وهذا بناه على أن المعدوم يصح تعلق الأمر به.
وقال في الاقتصاد: والحق: أنه يطلق على الله تعالى في الأزل آمر وناه، وإن كان لا مأمور هناك. كما جوز تسميته قادرا قبل وجود المقدور.
قال: والبحث في هذه المسألة لفظي يرجع إلى اللغة من حيث جواز الإطلاق، وأما من جهة المعنى فالاقتضاء القديم معقول، وإن كان سابقا على وجود المأمور كما في حق الولد.
[خطاب التكليف وخطاب الوضع]
خطاب الشرع قسمان:
أحدهما : خطاب التكليف بالأمر والنهي والإباحة:
ومتعلقه الأحكام الخمسة: الوجوب، والتحريم والندب، والكراهة والإباحة؛ لأن لفظ التكليف يدل عليه، وإطلاق التكليف على الكل مجاز من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء؛ لأن التكليف في الحقيقة إنما هو للوجوب، والتحريم

(1/98)


والنسيان يؤثر في هذا القسم، ولهذا لا يأثم الناسي بترك المأمور، ولا بفعل المنهي.
الثاني: خطاب الوضع: الذي أخبرنا أن الله وضعه، ويسمى خطاب الإخبار، وهو خمسة أيضا؛ لأن الوصف الظاهر المنضبط المتضمن حكمة الذي ربط به الحكم إن ناسب الحكم فهو السبب والعلة والمقتضي. وإن نافاه فالمانع، وتاليه الشرط، ثم الصحة، ثم العزيمة، وتقابلها الرخصة.
فالأول : أوقات الصلاة ونصاب الزكاة.
والثاني : كالدين في الزكاة، والقتل في الميراث، والنجاسة في الصلاة.
والثالث : كالحول في الزكاة والطهارة في الصلاة.
والرابع : الحكم على الشيء بالصحة والفساد والبطلان.
والخامس : كحل الميتة للمضطر.
وسنتكلم على جملة الأقسام في فصل خطاب الوضع إن شاء الله تعالى.
وزاد الجيلي من أصحابنا في كتاب الإعجاز والقرافي: التقديرات، وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم وبالعكس.
فالأول: كالنجاسات المعفو عنها تقدر في حكم المعدومة.
والثاني: كالملك المقدور في قوله: أعتق عبدك عني بكذا فيقدر له الملك حتى يثبت ولاء العتق له، ويقدر الملك في دية المقتول خطأ قبل موته حتى يصح فيها الإرث، وتقدير الملك قبيل الشهادة. قال الجيلي: ثم التقدير ينقسم إلى تقدير صفة شرعية في المحل يظهر أثرها في البيع والطلاق كتقدير ملك اليمين وملك النكاح، وإلى تقدير أعيان محسوسة هي في نفسها معدومة مستحقة في الذمة. كتقدير الدراهم والدنانير في الحيوانات والحكم يطلق على هذه الجهات كلها، ولا شك أن بينهما اتفاقا وافتراقا، وما وقع به الاتفاق إنما هو الخطاب فقط.
[وجوه الافتراق بين الخطابين]:
ويفترقان من وجوه:
أحدها : أن التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف، والوضعي يتعلق بفعل غير المكلف، فلو أتلفت الدابة أو الصبي شيئا ضمن صاحب الدابة والولي في مال الصبي.
الثاني : أن التكليفي لا يتعلق إلا بالكسب بخلاف الوضعي، ولهذا لو قتل خطأ وجبت الدية على العاقلة، وإن لم يكن القتل مكتسبا لهم. فوجوب الدية عليهم ليس

(1/99)


من باب التكليف لاستحالة التكليف بفعل الغير بل معناه أن فعل الغير سبب لثبوت هذا الحق في ذمتهم.
الثالث : أن الوضعي خاص بما رتب الحكم فيه على وصف، أو حكمة، إن جوزنا التعليل بها، فلا يجري في الأحكام المرسلة الغير المضافة إلى الأوصاف، ولا في الأحكام التعبدية التي لا يعقل معناها. ولهذا لو أحرم، ثم جن، ثم قتل صيدا لا يجب الجزاء في ماله على الأصح.
ووجهه ابن الصباغ والرافعي بأن الصيد على الإباحة وإنما يمنع من قتله تعبدا، فلا يجب إلا على مكلف.
قلت: وبه يظهر فساد قول من ظن أنه من باب خطاب الوضع، وقال: الأرجح فيه الضمان وقال النووي في شرح المهذب: إنه الأقيس، وليس كما قال.
الرابع : أن خطاب التكليف هو الأصل، وخطاب الوضع على خلافه. فالأصل أن يقول الشارع: أوجبت عليكم، أو حرمت، وأما جعله الزنى والسرقة علما على الرجم والقطع، فبخلاف الأصل. نعم خطاب الوضع يستلزم خطاب اللفظ؛ لأنه إنما يعلم به كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية [الإسراء: 78]. ونحوه من الخطابات اللفظية المفيدة للأحكام الوضعية بخلاف خطاب اللفظ، فإنه لا يستلزم خطاب الوضع، كما لو قال: لا يتوضأ إلا من حدث، فإن هذا خطاب لفظي يعقل تجرده عن سبب وضع أو غيره.
ويعلم مما ذكرناه أنه يقدم الحكم التكليفي على الوضعي عند التعارض؛ لأنه الأصل، ومنهم من يقدم الوضعي؛ لأنه لا يتوقف على فهم وتمكن. حكاه الآمدي في باب التراجيح.
الخامس : أن الوضعي لا يشترط فيه قدرة المكلف عليه، ولا علمه، فيورث بالسبب، ويطلق بالضرر، وإن كان الوارث والمطلق عليه غير عالمين ولو أتلف النائم شيئا أو رمى إلى صيد في ملكه فأصاب إنسانا ضمنه، وإن لم يعلما. وتحل المرأة بعقد وليها عليها، وتحرم بطلاق زوجها، وإن كانت لا تعلم.
ويستثنى من عدم اشتراط العلم والقدرة أمران:
أحدهما : أسباب العقوبات كالقصاص لا يجب على المخطئ في القتل، لعدم العلم، وحد الزنى لا يجب في الشبهة، لعدم العلم، ولا من أكره على الزنى، لعدم القدرة على الامتناع.

(1/100)


الثاني : الأسباب الناقلة للملك كالبيع والهبة والوصية ونحوها يشترط فيها العلم والقدرة. فلو تلفظ بلفظ ناقل للملك، وهو لا يعلم بمقتضاه لكونه أعجميا لم يلزمه مقتضاه، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29].
والنكاح ونحوه من العقود من قسم الوضع، ولهذا صححنا أنكحة الكفار إذا أسلموا مع قولنا: أنهم مخاطبون بالفروع. وكذا مما يستثنى ما لو رجع المعير عن العارية واستعمل المستعير جاهلا بالرجوع فلا ضمان. نقله الرافعي عن القفال.
ولو تيمم رجل ثم علم بقربه بئرا لم يكن علمها، فالأصح المنصوص في "الأم": لا تجب عليه الإعادة، كذا في "الروضة". وقال النووي في "التنقيح": قال في "الأم": لا إعادة، وفي البوطي: تجب. فقال الجمهور: أراد بالأول ما إذا كانت خفية، وبالثاني ما إذا كانت ظاهرة. وهذا هو الصحيح، وفي "المذهب" نحوه.
ولو صلى بنجاسة لم يعلمها وجب القضاء في الجديد، والمعضوب العاجز عن الحج بنفسه لو جهل طاعة من يطيعه في سفره، أو جهل مالا موروثا له فألحقه ابن الصباغ وغيره بنسيان الماء في رحلة. وألحقه صاحب "المعتمد" بالزكوي الضال. وهذا ترجيح للوجوب منهما، وقضية التأثيم لو مات قبل العلم.
وقال الرافعي: قد يقطع بالمنع، لانتفاء استطاعة من لم يشعر بالقدرة، وهذا هو الظاهر، لأنه من باب خطاب الوضع لا من باب خطاب التكليف.
ثم قيل: أنواع خطاب الوضع من قسم الحكم الشرعي، وإليه ذهب الغزالي وتبعه الآمدي. وقيل: بل علامة على الحكم والوجوب بالأمر، والأوقات علامات وأمارات للوجوب، واختاره ابن السمعاني في "القواطع".
قال: ولئن قيل: الموجب هو الله تعالى لكن بهذه الأسباب، لأنها مجعولة أسبابا من قبل الله. قلنا: إذا اعترفتم أن الإيجاب من قبل الله فيكون الأمر أدل على الإيجاب من السبب، فيكون إحالة الإيجاب عليه أولى من أحالته على السبب.
وحكى في المقترح من الأصحاب أنه متلقى من خطاب الأخبار عن أفعال المكلفين. ثم قال: وليس كذلك فإن الخبر لا يتلقى منه، بل هو تابع لمتعلقه كالعلم يتبع المعلوم على ما هو به من وجوده وعدمه. فإن كان الشيء موجودا أخبر عن وجوده، وإن كان معدوما أخبر عن عدمه.
والحق: أنه متلقى من خطاب التكليف، وهو أن يأمر المجتهد أن يأمر المجتهد بإثبات الحكم بالوصف في جميع مجاريه، وهذه قاعدة شرعية القياس، وهي الأمر بالنظر حتى يعثر

(1/101)


على الوصف الذي يظن أنه أمارة، ثم يؤمر بتعديته وهو حكم السبية، ولا معنى للحكم الثابت بالأسباب إلا هذا. ا هـ.
والتحقيق: أنه لا يحتاج إلى غير إثبات الحكم، لأنه المقصود. فلا حاجة إلى أن يقول: لله في كل واقعة حكمان:
أحدهما : نصب الشيء سببا.
والثاني : إثبات الحكم، إذ المقصود حاصل بإثبات الحكم فلا حاجة إلى الوضع الثاني، وهو نصب الشيء سببا. وهذا كما يقول في باب القياس: عرفنا أن نص حجة، ثم النص إنما كان معرفا، وهذا حكم من جهة الشارع وراء ثبوت الحكم فكذلك ههنا، فإنه المقصود الأعلى.
تنبيهان
[التنبيه] الأول: [خطاب الشارع أما لفظي أو وضعي]:
ما ذكرناه من تقسيم الخطاب إلى التكليفى ووضعي تابعناهم فيه، فيه نظر، لأن مقصود خطاب الوضع الطلب كما بينا. فالأحسن أن يقال: خطاب الشارع إما لفظي أو وضعي. أي: ثابت بالألفاظ نحو {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [سورة البقرة: 43] أو عند الأسباب، كقوله: إذا زالت الشمس وجبت الظهر. فاللفظ أثبت وجوب الصلاة، والوضع عين وقت وجوبها.
[التنبيه] الثاني:
استشكل جعل الحكم الشرعي جنسا للأحكام الخمسة، وما ألحق به من خطاب الوضع؛ لأن الجنس لا بد وأن يكون صادقا على نوعين خارجيين، فيلزم أن يكون الحكم الشرعي الذي هو الجنس صادقا على خمسة أنواع أو ستة، والأنواع مختلفة الحقائق جزما، فيلزم أن يكون خطاب التحريم والندب والإباحة والكراهة مختلفات الحقائق لنوعيتها.
وهي أنواع: الحكم الشرعي الذي هو الكلام النفسي، ويلزم أنه لا يكون الكلام النفسي الذي هو كلام الله حقيقة واحدة بل حقائق مختلفة، وذلك باطل على أصل الأشاعرة، وإن قيل: لا أجعل الحكم الشرعي جنسا للخمسة أو الستة بل أجعله عرضا عاما ففاسد؛ لأن العرض العام لا بد وأن يكون صادقا على نوعين، وإلا لكان خاصة فيعود الإشكال.

(1/102)