البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل: فيما يعلم به خطاب الله وخطاب رسوله
مدخل
...
فصل: [فيما يعلم به خطاب الله وخطاب رسوله]
ذكره أبو نصر بن القشيري في أصوله فيما يعلم به خطاب الله وخطاب رسوله. قال القاضي: خطاب الله إذا اتصل بالخلق على وجهين:
أحدهما : بلا واسطة موسى عليه السلام، والملائكة، ومن يحملهم الله وحيه، ولا طريق إلى العلم بكونه كلام الله إلا الاضطرار، فإذا خاطب الله عبدا خلق له علما ضروريا بأن مخاطبه هو الله تعالى، وأن الله الذي يسمع كلام الله، وذلك؛ لأن كلام الله يخالف الأجناس فلا يتوصل إلى معرفته بمعرفة اللغات والعبارات، ولا تدل عليه دلالة عقلية.
وقال القلانسي وعبد الله بن سعيد، وغيرهما من سلفنا: إن نفس سماع كلام الله يعقب العلم به لا محالة. قال القاضي: وهذا مما لا أرتضيه، وأجوز سماع الله مع الذهول عن كونه كلاما لله.
والثاني : مما يتصل بالمخاطب بواسطة، فهذا مرتب على العلم بصدق الرسول عليه السلام أولا، ووجوب عصمته عن الخلف، وإنما يتبين ذلك بالمعجزة.
وأما معرفة خطاب الرسول عليه السلام فينقسم أيضا إلى شفاه ووجاه، وإلى ما يبلغ عنه. فأما ما خاطب من عاصره وجاها فمنه نص، ومنه ظاهر ومجمل، وكذا ما يبلغ عنه، والمجمل إنما يتفق في الوعد والوعيد، وما يتعلق بأحكام الآخرة لا في التكاليف أعني إذا لم يتفق الاستفسار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

(1/103)


مسألة: [لا حاكم إلا الشرع]
إذا تبين أن الحكم خطاب الشرع فلا حاكم على المكلفين إلا الشرع خلافا للمعتزلة. حيث حكموا العقل، وقد اختلفت العبارات عن حكاية مذهبهم.
[مذهب المعتزلة]:
فقال إلكيا الطبري: قالت المعتزلة: العقل يوجب، ولا يعنون هاهنا إيجاب العلة معلولها، أو أن العقل يأمر، فإن الاقتضاء منه غير معقول، وهو عرض والأمر

(1/103)


يستدعي الرتبة فإذن المعني به: أن العقل يعلم وجوب بعض الأفعال عليه، والمعني بوجوبه علمه باقتران ضرر بتركه، وإليه يرجع معنى الوجوب والحسن والقبح. وهذا منهم ادعاء العلم ضرورة على وجه يشترك العقلاء فيه.
ثم قال: وقد مال إلى ما ذكروه طوائف من القائلين بقدم العالم من حيث إن الذي يتعلق به نظام المعيشة وعمارة الدنيا هو أقرب إلى الاعتدال، وحسن النظام من الذي يتضمن خراب الدنيا، وهذا المذهب لا شك في بطلانه قطعا.
وقال في موضع آخر: العقل يستقل بوجوب اتباع الرسل من حيث إن الاتباع تمحض نفعا لا يشوبه ضرر، والامتناع من الاتباع محض ضرر. ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن يعلم أن الله تعالى أظهر المعجزة على يده ليصدقه.
وهذا العلم يحصل عند المعتزلة من جهة أن الله لا يفعل القبيح، وعند الأشعرية من جهة أنه لو لم يقدر ذلك لم تكن معرفة الصدق من جائزات العقل، وذلك محال. والذي يعلم بالشرع أنه مصلحة ونفع محض على ثلاثة أضرب: حكم، وما يتعلق الحكم به من علة وتسبب، والأدلة على علة الحكم.
وقال ابن برهان: اعلم أن المعتزلة وإن أطلقوا أقوالهم بأن العقل يحسن ويقبح لم يريدوا به أنه يوجب الحسن والقبح، فإن العقل عبارة عن بعض العلوم الضرورية، والعلم لا يوجب المعلوم إيجاب العلة المعلول، وإنما عنوا به أن العقل يكشف عن حسن الحسن وقبح القبيح. فعند ذلك انقسموا، فمنهم من ذهب إلى أن الحسن حسن لذاته وكذا القبيح، ومنهم من صار إلى أن قبح الصفة.
وكذلك أصحابنا قالوا: إن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه، وما عنوا به الإيجاب، وإنما عنوا به أن الحسن هو المقول فيه: "لا تفعل".
وقال في موضع آخر: عندنا لا حكم للعقل لكن نحن نقول: إن الأدلة العقلية حقائق ثابتة في أنفسها دالة على مدلولاتها، ومقتضية أحكامها إلا أنا لا نعتقد ذلك، والمعتزلة يعتقدون أن للعقل أحكاما. وهذا الخلاف بيننا وبينهم، وأنكره بعض الناس.
وقال: النظر في الأدلة العقلية لا يوجب العلم بحال، وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي: ذهبت المعتزلة والبراهمة إلى أن العقول طريق إلى معرفة الحسن، والقبيح والواجب، والمحظور، ثم اختلفوا في وجه تعليق الحكم على العقل.
فقالت المعتزلة: هو خاطر من قبل الله يدعوه إلى النظر والاستدلال. وشرع الرسل ما قبح في العقل كذبح البهائم وتسخير الحيوان وإتلافه.

(1/104)


قالوا: وإنما حسن ورود الشرع به للغرض المقصود منه، وخالفهم أبو هاشم، وزعم أنه لولا ورود الشرع بذلك لم يكن معلوما جواز حسنه.
ثم اختلفوا في صفة الخاطر، فقال النظام: هو جسم محسوس وأن الله تعالى يفعل خاطرا لطاعة، وخاطرا لمعصية في قلب العاقل فيدعوه بأحد الخاطرين إلى طاعته؛ ليفعلها، ويدعوه بالآخر ليتركها.
وقال الجبائي: يدخل الشيطان في خرق أذن الإنسان إلى موضع سنه أو قلبه فيهمس ويتكلم بما يدعو إليه. قال: فالخاطر الذي من قبل الله كالعلم ونحوه.
وقال ابنه أبو هاشم: هو قول خفي يلقيه الله في قلبه كالأمر بالمعروف، وكذلك الخاطر الذي يلقيه الشيطان في قلب العاقل، ولا معنى للاشتغال بهذه الترهات.
قال: وذهب أهل الحق إلى أن طريق العلم بوجوب النظر في العقليات والسمعيات، السمع دون العقل، وإنما يعلم بالعقل صحة ما يصح كونه، ووجوب وجود ما يجب وجوده، واستحالة كون ما يستحيل كونه، وصحة ما يصح ورود الشرع به جوازا بكل ما ورد الشرع به من واجب ومحظور، ومباح ومكروه ومسنون. فقد كان في العقل جواز ورود الشرع على الوجه الذي ورد به، وكان فيه أيضا جواز ورود الشرع بتحريم ما أوجبه وإيجاب ما حرمه، ولم يكن فيه دلالة على وجوب فعل، ولا على تحريمه قبل ورود الشرع.
وقالوا أيضا: لو توهمنا خلق العاقل قبل ورود السمع عليه، واستدل ذلك العاقل على معرفة الله، ووصل إليها لم يستحق بذلك ثوابا، ولو جحده به وكونه لم يستحق عقابا، ولو عذبه الله أبدا في النار لكان عدلا. وإنما كان كإيلام الطفل في الدنيا، والعقاب لا يستحقه إلا من تعلق به الأمر والنهي خطابا أو بواسطة الرسالة ثم عصاه.
هذا قول شيخنا أبي الحسن الأشعري، وبه قال أكثر الأئمة كمالك، والشافعي، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وكل من لم يتمعزل من أصحاب الرأي، وقال في كتاب التحصيل: إنه مذهب الجمهور من أصحاب الشافعي ومالك وأصحاب الحديث.
وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه: مذهب أصحاب الحديث عامة: إنه لا تجب معرفة الله قبل السمع، وذهبت المعتزلة إلى أنه يجب عليه ذلك قبل ورود السمع، وقبل ورود الدعوة، وإلا فهو مرتد كافر. ولهذا قلنا: إن من قتل ممن تبلغه

(1/105)


الدعوة فعليه الدية، وعند أبي حنيفة لا دية عليه؛ لأنه مشرك مرتد معاند.
وقال إمام الحرمين في تلخيص كتاب القاضي: بحث التحسين والتقبيح يرجع إلى ما يحسن ويقبح في التكليف، وهما راجعان إلى حكم الرب شرعا لا إلى وصف العقل، وصارت المعتزلة إلى أن قبح القبيح يرجع إلى ذاته، والأكثرون منهم صاروا إلى مثل ذلك في الحسن، وأما أهل الحق فقالوا: لا يدرك بمجرد العقل حسن ولا قبح؛ لأن الحسن ما ورد الشرع بتعظيمه، والقبيح ما ورد بذمه، فالحسن والقبح على التحقيق هو عين التحسين والتقبيح الشرعيين.
وقد أطبقت المعتزلة على أن حسن المعرفة والشكر، وقبح الكفر والظلم، مما يدرك بضرورة العقل.
وقال عبد الجليل في شرح اللمع: أفعال المكلفين عند المعتزلة على أربعة أضرب:
أحدها : ما يعلم حسنه بالعقل ولا مجال للسمع فيه، كشكر المنعم والعدل والإنصاف والعلم.
والثاني : ما يعلم قبحه بالعقل، وهو ضد ما ذكرنا من الجور وكفر المنعم والجهل وهذان الضربان يعلمان بمجرد العقل.
والثالث : ما في معلوم الله أن فعله يؤدي إلى فعل ما هو حسن في العقل فهو عندهم حسن إلا أنهم لا يعلمون حسنه إلا بعد ورود الشرع كالصلاة، والصيام، والزكاة والحج.
والرابع : ما هو في معلوم الله أنه قبيح ولا يعلم حتى يرد السمع فيكون تركه داعيا إلى القبح في العقل كالزنى واللواط، وشرب الخمر، وقتل النفس. فهذا لا يعلم قبحه إلا بعد ورود السمع. هذا مذهبهم في تقسيم الحسن، والقبح.
وقال الإمام أبو نصر بن القشيري في المرشد: الشيء عندنا لا يحسن ولا يقبح لنفسه بل إنما ترجع الأحكام إلى قول الشارع.
وقالت المعتزلة: لا يتوقف إدراك الحسن والقبح على السمع بل يدركان بالعقل، ثم منها ما يدرك بضرورة العقل كالكفر، والضرر المحض، ومنها ما يدرك بنظره كوجوب شكر المنعم.
قال: ومن قال من أئمتنا: لا يدرك الحسن والقبح إلا بالشرع فهو متجوز؛ لأنه توهم أن الحسن زائد على الشرع وليس كذلك، فإن الحسن عبارة عن نفس ورود

(1/106)


الشرع بالثناء على فاعله وكذا القبيح. وقال في كتابه في أصول الفقه: معنى قول المعتزلة: إنه يقبح كذا أو يحسن كذا عقلا أنه يدرك ذلك منهما من غير إخبار مخبر.
وقال ابن السمعاني في القواطع: الذي ذهب إليه أكثر أصحاب الشافعي أن التكليف مختص بالسمع دون العقل وأن العقل بذاته ليس بدليل على تحسين شيء ولا تقبيحه، ولا حظر ولا إباحة، ولا يعرف شيء من ذلك حتى يرد السمع فيه، وإنما العقل آلة تدرك بها الأشياء، فيدرك به حسن وقبح بعد أن ثبت ذلك بالسمع.
وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة كثيرة، وهم الذين امتازوا عن متكلمي المعتزلة، وذهب إليه جماعة من الحنفية. وذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن للعقل مدخلا في التكليف؛ لأن الحسن والقبيح ضربان: ضرب علم بالعقل، وضرب علم بالسمع. فأما المعلوم حسنه بالعقل فهو العدل، والإنصاف، والصدق وشكر المنعم، وغير ذلك، وأما المعلوم حسنه بالشرع فنحو الصلاة والصيام، والزكاة والحج ونحوه، وأما المعلوم قبحه بالشرع فكالزنى وشرب الخمر ونحوه.
قالوا: وسبيل السمع إذا ورد بموجب العقل يكون وروده مؤكدا لما في العقل إيجابه وقضيته، وزعموا أن الاستدلال على معرفة الصانع واجب بمجرد العقل قبل ورود السمع به ودعاء الشرع إليه، وهذا مذهب المعتزلة بأسرهم، وذهب إليه من أصحابنا أبو بكر القفال الشاشي وأبو بكر الصيرفي، وأبو بكر الفارسي، والقاضي أبو حامد، وغيرهم، والحليمي من المتأخرين، وذهب إليه كثير من أصحاب أبي حنيفة خصوصا العراقيين منهم.
واستدلوا بأن الله تعالى وبخ الكفار على تركهم الاستدلال بعقولهم على وحدانيته وربوبيته بما يشاهدونه في أنفسهم وغيرهم. فقال: {لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وقال: {لِأُولِي النُّهَى} [طه: 54] وقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 264] {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك: 10].
قال: والصحيح: هو الأول وإياه نختار ونزعم أنه شعار السنة. ودليله قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ولم يقل حتى نركب عقولا. وقال حكاية عن الملائكة في خطاباتهم مع أهل النار {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] فدل على أن الحجة إنما لزمتهم بالسمع دون العقل. وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فدل على أنه لا حجة بمجرد العقل بحال.

(1/107)


وأما الآيات التي ذكروها، فنحن نقول: إن العقل آلة تمييز وبه تدرك آلة الأشياء ويتوصل إلى الحجج، وإنما الكلام في أنه بذاته هل يستقل بإيجاب شيء آخر أو تحريمه.
قال: وهذه مسألة كلامية وإنما اقتصرنا فيها على هذا القدر وذكرناها في أصول الفقه؛ لأنه محتاج إليه في مسائل من الفقه. انتهى.
وما نقله عن القفال الشاشي، والصيرفي رأيته في كتابيهما في الأصول.
أما القفال، فقال: أحكام الشرع ضربان: عقلي واجب، وسمعي ممكن.
فالأول : ما لا يجوز تغيره ولا يتوهم جواز استباحة ما يحظر، ولا حظر ما أوجب فعله كتحريم الكفر والظلم والعدل ونحوه. وقد يرد السمع بهذا النوع فيكون مؤكدا لما وجب بالعقل.
والثاني: كأعداد الصلوات وهو موقوف على تجويز العقل وقبوله إياه فيما جوزه العقل فهو مقبول، وما رده فمردود، ومتى ورد السمع بإيجابه صار واجبا إلى أن يلحقه النسخ والتبديل. هذا كلامه.
وأما الصيرفي فقال: في كتاب الدلائل والأعلام: لا يجوز أن يأتي الكتاب أو السنة أو الإجماع بما يدفعه العقل، وإذا استحال ذلك فكل عبادة جاء بها القرآن أو السنة فعلى ضربين:
أحدهما : مؤكد لما في العقل إيجابه، أو حظره، أو إباحته كتحريم الشرك، وإيجاب شكر المنعم.
والثاني : ما في العقل جواز مجيئه ومجيء خلافه كالصلاة، والزكاة. فالسمع يرقيها من حيز الجواز إلى الوجوب.
قال: ولا يأتي الخبر بخلاف ذلك. قال: والدليل على أن العقل حاكم على ما يرد به السمع أنه المميز بين الأشياء الواردة عليه.
قال: وجماع نكتة الباب أن الذي يرد السمع مما يثبته العقل إنما يأتي تنبيها، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] وإنما أتى بالشيء الذي العقل عامل فيه. وقد يفكر الإنسان في خلق نفسه وخلق السموات والأرض وتدبر آثار الصنعة، فيستدل على أن لها صانعا حكيما، فبهذا يعلم أن تنبيه السمع بين في العقل انتهى.
واعلم أن هؤلاء عدوا هذا إلى غيره، فقالوا: يجب العمل بخبر الواحد عقلا،

(1/108)


وبالقياس عقلا ونقل ذلك عن ابن سريج، والقفال وغيرهما.
وذكروا في الاعتذار عن موافقتهم للمعتزلة وجهين:
أحدهما : أن ذلك كان في أول أمرهم ثم رجعوا عنه. قال ابن عساكر في تأريخه: كان القفال في أول أمره مائلا عن الاعتدال قائلا بالاعتزال، ثم رجع إلى مذهب الأشعري.
الثاني : قال القاضي أبو بكر في كتابه التقريب والأستاذ أبو إسحاق في تعليقه في أصول الفقه، وله في شرح كتاب الترتيب نحوا من هذا أيضا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ولما حكينا هذه المذاهب علم أن هذه الطائفة من أصحابنا كابن سريج كانوا قد برعوا، ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام، وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم غير عالمين بما يؤدي إليه مقالاتهم من قبح القول، ولا يخفى ما في هذين الوجهين، والأحسن تنزيله على ما سنذكره في المنقول عن أبي حنيفة.
وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص ذهبت المعتزلة إلى أن العقول بمجردها تحسن وتقبح، وأن كثيرا من الحسن يعلم حسنه بمجرد العقل وضرورته دون أدلته، وكذلك القبيح مثل وجوب شكر المنعم وقبح الكفر وغيره.
وقال صاحب الكبريت الأحمر من الحنفية: مذهب أصحابنا وجميع المعتزلة أن أصول الواجبات والحسن والقبيح في الأفعال كلها مدركة بالعقل سواء ورد عليها حكم الله بالتقرير أو لم يرد، ومذهب الأشعرية أنها لا تعرف إلا بالشرع.
[اختلاف العلماء في حكم دلالات العقول]:
وقال أبو زيد الدبوسي: اختلف العلماء في حكم دلالات العقول على المشروعات الدينية لولا الشريعة على أربعة أقوال:
أحدها : أن الاشتغال به لغو؛ لأن الله لم يدعنا والعقول بمجردها.
والثاني : أنها حسنة بالعقل لولا الشريعة.
والثالث : التفصيل بين العبادات والمعاملات. فالعبادات كانت تجب لولا الشرع لا زاجر عنها إلا عند عدم الإمكان، كالإيمان بالله، وإنما سقط لا لضرورة بالشرع تيسيرا، وإليه ذهب بعض الصوفية، وأما العقوبات المعجلة فما وجبت إلا شرعا.

(1/109)


الرابع : قال: وهو المختار عندنا أن على العبد بمجرد العقل الإيمان بالله، واعتقاد وجوب الطاعة على نفسه من أمر ونهي، لكنه تقف نفسه للبدار إلى ما يأمر به وينهاه من غير أن يقدم على شيء بالاستباحة تعظيما لله، لا لقبح هذه المشروعات قبل الأمر بل يمنع العقل معرفة حسنها.
قال: وهو مذهب علمائنا، ولهذا كان بعث الرسل على الله حقا واجبا ليمكنهم الإقدام على العبادة، والتوقف للطاعة ضرب عناد فإنها تمثيل العقل فكان يلزم ذلك بمجرد العقل مع اعتقاد أنه مخلوق للعبادة المطلقة، وأنها مجملة وأن الله يبين ذلك. والحاصل أن الحنفية يقولون: يجب اعتقاد كونه مأمورا، وأما الإقدام على الفعل والترك فلا يأتي به إلا بعد الشرع، ويظن كثير من الناس أن مذهب أبي حنيفة كمذهب المعتزلة وينصب الخلاف بينهم وبين الأشعرية، لقول أبي حنيفة: لا عذر لأحد في الجهل بخالقه. وقوله: لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم. لكن هذا الكلام قد فسره أبو عبد الله أحمد بن محمد الصابوني وهو العمدة عندهم.
قال: ليس تفسير وجوب الإيمان بالعقل أن يستحق العقاب بالعقل والثواب بالعقل، إذ هما لا يعرفان إلا بالسمع لكن تفسيره عندنا نوع ترجيح. ا هـ. والأحسن في معناه الطريقة الأولى، وسيأتي إن شاء الله تعالى تنزيل ثالث في إيضاح آخر.
وقال بعض محققي الحنفية: عندنا الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى، ولا يقال: إن هذا مذهب الأشاعرة؛ لأنا نقول: الفرق هو أن الحسن والقبح عند الأشاعرة لا يعرفان إلا بعد الشرع،
وعندنا قد يعرفهما العقل بخلق الله تعالى علما ضروريا بهما إما بلا كسب، كحسن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وقبح الكذب الضار، وإما مع كسب، كالحسن والقبح المستفاد من الأدلة، وترتيب المقدمات، وقد لا يعرفان إلا بالكتاب والنبي كأكثر أحكام الشرع.
وحاصله: أن حسن المأمور به عندنا من مدلولات الأمر، وعند الأشعري من موجباته.
واعلم أن كلام ابن برهان في موضع آخر يقتضي أن القائلين بالحسن والقبح قالوا: إن العقل موجب وحاكم، وتبعه الآمدي وغيره. ويصير مطلع الخلاف يرجع إلى أن الشرع مثبت أو مقرر؟
وأما الإمام فخر الدين وأتباعه فسلكوا طريقا لخصوا فيها محل النزاع، فقالوا:

(1/110)


الحسن والقبح يطلقان بمعان ثلاثة:
أحدها : ما يلائم الطبع وينافره، كالحلاوة، والمرارة، والفرح والحزن، وليس هذا محل النزاع لاختلافه باختلاف الأغراض.
الثاني : كون الشيء صفة كمال أو نقص كالعلم والجهل، وهما بهذين المعنيين عقليان. أي: يعرفان بالعقل بلا خلاف.
الثالث : كون الفعل موجبا للثواب، والعقاب والمدح والذم، وهذا موضع النزاع، فعندنا لا يعلم إلا بالشرع وعندهم بخلافه، فالنزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا.
وقضية هذا أن الفعل لا يوجبه لتصريحه بالتعلق، ونازعه القرافي، فقال: النزاع في كون الفعل متعلقا للذم أو العقاب يشعر بأن ترتب الذم والعقاب على الفعل ينازع فيه، وليس كذلك عندنا ولا عندهم، إذ يجوز أن يحرم الله تعالى ويوجب ولا يعجل ذما بل يحصل الوعيد من غير ذم، ويجوز أن يكلف ولا يوجد عقابا بل يعجله عقب الذنب، وإنما النزاع في كون الفعل متعلقا بالمؤاخذة الشرعية كيف كانت ذما أو غيره عاجلة أو آجلة هل يستقل العقل بذلك أم لا؟
قلت: وجعل المقترح في شرح الإرشاد من صور محل النزاع ما يتعارف قبل الشرع من الميل إلى الفعل والنفرة عنه.
قال: فالمعتزلة يدعون أن ذلك استحثاث العقل على الفعل، ونحن نرى أنه مما جبل عليه الحيوان من شهوة ما ينفعه وكراهة ما يضره. ا هـ. وهذا صريح في نقل الخلاف في الحالة الثانية التي جعلها الإمام محل وفاق. ثم قال: فرعت المعتزلة أن العقل مما يستحث على الفعل؛ لأنه على صفة في نفسه لأجلها يحث على فعله، ثم اضطربوا في هذه الصفة، فقال قدماؤهم: صفة نفسية وقال متأخروهم: تابعة للحدوث. ثم قالوا: إنما نهى الشرع عن الفعل؛ لأنه على صفة في نفسه لأجلها يقبح، أو؛ لأنه يؤدى فيقبح في نفسه.
قال: وأصل هذه المسألة أخذتها المعتزلة من الفلاسفة فإنهم قالوا: العلم محمود لذاته، والجهل مذموم لذاته، وسائر الأفعال ليست عندهم محمودة لذاتها، ولا مذمومة لذاتها بل لعروض عرض بالنسبة إليها، فأخذ المعتزلة بهذا المذهب في العلم والجهل، وعدوه إلى سائر الأفعال.

(1/111)


وعبر بعض الناس عن مذهب القوم بأن قال: عندهم أنه يدرك الحسن والقبح عقلا من غير أن يتوقف على إخبار على مخبر وليس في هذا إفصاح عن أنهم يردونه إلى صفة نفسية أو صفة تابعة للحدوث أو غير ذلك.
ويقال لمن قال: إنها صفة نفسية: صفة النفس ما يتبع النفس في الوجود والعدم، ويلزم منه إثبات الحسن والقبيح في القديم. ثم يلزم منه استحقاق الذم على المعدوم وذلك محال. ثم قسموا الأفعال إلى قسمين، وقالوا: منها ما يدرك بالعقل، ومنها ما لا يدرك بالعقل فيه حسنا ولا قبحا، وإنما يعرف بالشرع، وذلك لخفاء وصفه عن العقول، وليس هو ثابتا بالخطاب وإنما الشرع كاشف عن حقيقته لما قصر العقل عنه.
قال في تعليقه على البرهان: ولكل مذهب سيئة وحسنة، فمذهب الأشعرية أنهم نفوا الحسن في حق الله تعالى وفي حقنا، فحسنتهم كونهم نفوه في حق الله تعالى وسيئتهم كونهم نفوه في حقنا، ومذهب المعتزلة إثبات الحسن في حق الله وفي حقوقنا، وسيئتهم كونهم أثبتوه في حق الباري، وحسنتهم كونهم أثبتوه في حقنا.
فاختار إمام الحرمين مذهبا بين مذهبين وهو الجامع لمحاسن المذاهب، فأثبته في حقنا ونفاه في حق الباري. انتهى.
تنبيه: [العقل عند المعتزلة يوجب ويحرم] ظاهر النقل السابق عنهم أن العقل يوجب ويحرم على جهة الاستقلال واستدلالهم بالآية {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] يقتضيه. يقتضيه.
والتحقيق في ذلك عن المعتزلة: أن الفعل إن اشتمل على مصلحة خالصة أو راجحة اقتضى العقل أن الله تعالى طلبه، وإن اشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة اقتضى العقل أن الله تعالى طلب تركه، وإن تكافأت مصلحة الفعل ومفسدته أو تجرد عنهما أصلا كان مباحا وليس حكما شرعيا عندهم، لثبوته قبل ورود الشرع، وأن العقل أدرك أن الله تعالى يجب له بحكمته البالغة أن لا يدع مصلحة في وقت ما إلا أوجبها وأثاب عليها، ولا يدع مفسدة في وقت ما إلا حرمها، وعاقب عليها تحقيقا لكونه حكيما، وإلا لفاتت الحكمة في جانب الربوبية.
فعندهم إدراك العقل لما ذكرنا من قبل الواجبات للعقل لا من قبل الجائزات كما نقول. وليس مرادهم أن الأوصاف مستقلة بالأحكام، ولا أن العقل يوجب ويحرم،

(1/112)


وهذا هو الحق في تقرير مذهبهم وتلخيص النزاع، وهو المفهوم من كلام الصيرفي السابق وحاصل كلام القرافي أيضا.
والأصوليون الناقلون لهذه المسألة قد أحالوا المعنى، ونقلوا عن المعتزلة ما لا ينبغي لقائل أن يقوله.
إيضاح آخر: [الثواب والعقاب لا يعلمان إلا من جهة الشرع]:
قد تقرر مما سبق أن محل النزاع إنما هو في الحسن والقبح بمعنى ترتب الثواب والعقاب. فنقول: بين الحسن والقبح وبين الثواب والعقاب تلازم ما.
واتفق المعتزلي مع السني على أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها قبل ورود الشرع، وافترقا في أن المعتزلي يرى أن الثواب والعقاب ملازم لها فحكم بثبوت الثواب والعقاب قبل الشرع، لثبوت الحسن والقبح قبله، فإذا جاء الشرع بعد ذلك كان مؤكدا لحكم العقل.
وأما السني فإنه يرى أن الثواب والعقاب لا يعلمان إلا من جهة الشرع. فنفى الحسن والقبح قبل الشرع، وهذا ونحوه من قاعدة أن ما به الاتفاق قد يكون موضع الخلاف، ونظيره الخلاف في النسخ والبداء.
وبهذا التحرير يخرج لنا في المسألة ثلاثة مذاهب:
أحدها : أن حسن الأشياء وقبحها والثواب والعقاب عليها شرعيان، وهو قول الأشعرية.
والثاني : عقليان وهو قول المعتزلة.
والثالث : أن حسنها وقبحها ثابت بالعقل، والثواب والعقاب يتوقف على الشرع، فنسميه قبل الشرع حسنا وقبيحا، ولا يترتب عليه الثواب والعقاب إلا بعد ورود الشرع، وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصا. وهو المنصور، لقوته من حيث النظر وآيات القرآن المجيد وسلامته من التناقض وإليه إشارات محققي متأخري الأصوليين والكلاميين، فليتفطن له.
فهاهنا أمران:
أحدهما : إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها.
والثاني : أن ذلك كاف في الثواب والعقاب وإن لم يرد شرع، ولا تلازم بين الأمرين

(1/113)


بدليل {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [الأنعام: 132] أي بقبيح فعلهم {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] أي: لم يأتهم الرسل والشرائع، ومثلها {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [القصص: 47] أي: من القبائح {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [الإسراء: 15] الآية.
وأما الآيات التي احتج بها القائلون بأنه شرعي إنما تدل على نفي الثواب والعقاب بقوله {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] فأخبرنا بأنه لا يعذب قبل البعثة، وقال تعالى {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فلو كان له الحجة عليهم قبل البعثة لما قال: إنما أبعث الرسل لأقطع بها حجة المحتج.
إذا تلخص محل النزاع فله مآخذ:
أحدها : أن الحسن عندهم صفة قامت به أوجبت كونه حسنا، والقبح صفة قامت به أوجبت كونه قبيحا حملا للأفعال على الأجسام. فإن الحسن صفة قائمة بها وكذلك القبح. وعندنا الحسن والقبح إنما هو صفة نسبية إضافية حاصلة بين الفعل واقتضاء الشرع إيجاده أو الكف عنه. فإذا قال الشارع: صل. قلنا: الصلاة حسنة، وإذا قال: لا تزن: قلنا: الزنى قبيح، وما ذكروه من أن الحسن والقبح صفتان للفعل باطل؛ لأن الصفات أعراض والفعل عرض والعرض لا يقوم بالعرض؛ لأنه لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم بالجواهر. فكيف يقوم به غيره؟.
الثاني : أن الشرع ورد عندهم مقررا لحكم العقل ومؤكدا له. وعندنا ورد الشرع كاسمه شارعا للأحكام ابتداء.
وتحقيق ذلك: أن العقل احتيج إليه قبل الشرع لتقرير مقدماته فالتوحيد، وجواز البعثة، والنظر في المعجزات كالثابت للشرع في ذلك، فإذا قررها انعزل وصار مأمورا بامتثال ما يصدر عنها، ولهذا أجمع أهل الملة أن النبي الصادق إذا أخبر خبرا لا يدركه العقل وجب الإيمان به وتلقيه بالقبول، وتلك خصيصة الإيمان بالغيب التي مدح الله بها المؤمنين.
والمعتزلة لما قلدوا عقولهم أنكروا عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ووزن الأعمال ووقعوا في عقال الضلال حيث عدلوا عن قول المعصوم.
والحاصل: أنه إذا تعارض التأكيد والتأسيس كان التأسيس أولى؛ لأنه أكثر

(1/114)


فائدة. ونظيره: إذا تعارض حديثان وأحدهما مخالف للأصل ناقل عن حكمه، والآخر موافق له مقرر لحكمه. هل يقدم المقرر؛ لأنهما دليلان يعضد أحدهما الآخر أو الناقل؛ لأنه أفاد فائدة زائدة؟ قولان.
الثالث : اعتقادهم أن الحسن والقبح ملازم الثواب والعقاب، وعندنا لا تلازم بينهما. الرابع: أن فعل العبد ليس باختياره عندنا فالحسن والقبح يرجعان إلى كون الفعل مأمورا به ومنهيا عنه.
تنبيه [العقل مدرك للحكم لا حاكم]
إدراك الحكم الشرعي في القياس أو دخول الفرع الخاص تحت القاعدة الكلية، وإن كان بالعقل، فالمراد به أن العقل مدرك للحكم، لا أنه حاكم، وكذلك ترتب النتيجة بعد المقدمتين حكم شرعي أدركه العقل، ولا يقال: أوجبه.
وقد أطلق الشافعي في المختصر القول بتعصية الناجش، وهو الذي يزيد في السلعة لا لغرض بل ليخدع غيره. وشرط في تعصية من باع على بيع أخيه العلم بورود النهي عنه. فقال الشارحون: السبب في ذلك أن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد، وإن لم يعلم فيه خبر بخصوصه، والبيع على بيع الأخ إنما عرف من الخبر الوارد فيه فلا يعرفه من لا يعرف الخبر.
وذكر بعضهم أن تحريم الخداع يعرف بالعقل، وإن لم يرد شرع.
قال الرافعي في شرح الوجيز: وهذا ليس من معتقدنا. انتهى.
وإذا فهمته على أن العقل يدرك تحريم الخداع من غير استقلال في ذلك لم يبق اعتراض.
ومن فروع هذا الأصل عدم صحة إسلام الصبي عندنا؛ لأن صحته فرع تقدم الإلزام به، ولا إلزام مع الصبي شرعا.
وقال أبو حنيفة: يصح بناء على أن العقل يوجب على الصبي والبالغ.
ثم المعتمد في إبطال الحسن والقبح عدم وجوب رعاية المصالح والمفاسد بأن يقال: خلق العالم إما أن يكون لمصلحة، أو لا، فإن كان، فقد أجرى الله تعالى فعل المصالح دهورا لا نهاية لها، وإن لم يكن كان خلقه عريا عن المصالح، فإن الله تعالى لا يجب أن يكون تصرفه ملزوما للمصالح، أو لا تكون رعايتها واجبة.

(1/115)


وإذا تقرر عدم وجوبها فلا يجب في العقل أن الله يربط أحكامه فيها بل يجوز ذلك ويقتضيه، فبطل قاعدة التحسين والتقبيح؛ لأن وجوب ربط الأحكام بالمصالح والمفاسد عقلا هو عين الحسن والقبح العقليين، وقد فرع الأصحاب على هذا الأصل مسألتين.

(1/116)


مسألة: شكر المنعم
...
[المسألة] الأولى: [شكر المنعم]
شكر المنعم : وهو الثناء عليه بذكر آلائه وإحسانه حسن قطعا بضرورة العقل. وأما وجوبه فإنما يكون بالشرع ولا يجب عقلا عندنا، وعندهم أنه يجب عقلا لكنه وجوب استدلال لا ضروري، ووافقهم على ذلك جماعة من أصحابنا الأقدمين منهم أبو العباس بن القاص، وأبو بكر القفال الشاشي، وأبو عبد الله الزبيري وأبو الحسين بن القطان، وأبو بكر الصيرفي.
فقال الزبيري: العبادات من قبل السمع لا ترد إلا على ثلاثة أوجه:
ضرب يرد بإيجاب ما تقدم في العقل وجوبه، كالإيمان بالله وشكر المنعم.
والثاني : يرد بحظر ما تقدم في العقل وجوبه كالكفر بالله.
والثالث : يرد لما في العقل جواز مجيئه، كالصلوات، والزكوات والحج، والصوم وقال ابن القاص في كتاب أدب الجدل: الأشياء في العقل على ثلاثة أضرب: فضرب أوجبه العقل، وضرب نفاه، وضرب أجازه وأجاز خلافه، فما أوجبه العقل فهو واجب كشكر المنعم ومعرفة الصانع.
قال: فأما الضربان الأولان فحجة الله فيهما قائمة على كل ذي لب قبل مجيء الشرع وبعده، ولا يجيء سمع إلا مطابقا. ا هـ.
وقال أبو الحسن بن القطان: لا خلاف أن ما كان للعقل فيه حكم أنه ما كان عليه مثل شكر المنعم ونحوه. ا هـ.
وقال القفال في محاسن الشريعة في كتاب الصلاة: والعقول تدل على وجوب شكر المنعم. ونقله الأستاذ أبو إسحاق في شرح كتاب الترتيب عن القفال، وابن أبي هريرة منا قال وكان ذلك مذهب الصيرفي ورجع عنه. قال: ولم يخالفوا أصولنا في غير هذا الموضع، ووافقونا في باقي المسائل، وقال في موضع آخر: القول

(1/116)


بوجوبه باطل في قول أكثر أصحابنا من المتكلمين والفقهاء.
وجماعة من أصحابنا الفقهاء لما نظروا إلى أسئلة المعتزلة وإيجاب الشكر بمجرد العقل اعتقدوا أن شكر المنعم ومعرفة حدوث العالم، وأن له محدثا، وأن له منعما أنعم عليه كلها واجب بالعقل قبل الشرع، وهم أبو بكر الصيرفي وأبو علي بن أبي هريرة وأبو بكر القفال.
قال: وأبو علي السقطي يعني الطبري ويعرف بابن القطان كان صاحب ابن أبي هريرة وكان يدق عليه في هذا الفصل.
قال: وحكى أبو سهل الصعلوكي أن أبا علي بن أبي هريرة وقع إلى أبي الحسن يعني الأشعري - وأبو الحسن كلمه في هذا الفصل، ولم ينجع منه. فقال أبو الحسن لأبي علي أنت تشنؤني: أي تبغضني. قال: فوقعت بينه وبين الشيخ أبي الحسن.
قال أبو سهل: وكنا نتعصب للشيخ أبي الحسن فمضينا وقعدنا على رأس القنطرة التي كانت على طريق ابن أبي هريرة، وهي قنطرة ببغداد يقال لها: الصراة وكنا ننتظره لننتفع به.
وأما أبو بكر الصيرفي، فقد وقع إلى الشيخ أبي الحسن ولح معه في هذه المسألة. فقال له أبو الحسن: أبجد تقول: إن الكائنات كلها بإرادة الله تعالى خيرها وشرها؟ قال: نعم. فقال أبو الحسن إذا كانت العلة في إيجاب شكر المنعم أنه لا يأمن أن يكون المنعم الذي خلقه قد أراد منه الشكر، فقد يجوز أن يريد منه أن لا يشكره؛ لأنه مستغن عن شكره. فإما أن يعتقد أنه لا يريد ما ليس بحسن كما قالت المعتزلة، وإما أن لا تأمن أنه قد أراد منك ترك شكر المنعم، وإذا شكرته عاقبك فلا يجب عليك شكر المنعم لهذا الجواز. فترك أبو بكر الصيرفي هذا المذهب ورجع عنه.
وأما أبو علي وأبو بكر القفال فلم يثبت عنهم الرجوع عن هذه المقالة.
قلت: قال الطرطوشي في العمد: هذا مذهب أهل السنة قاطبة إلا ثلاثة رجال تلعثموا في هذا الأصل في أول أمرهم ثم رجعوا عنه إلى الحق، وهم: أبو بكر الصيرفي، وأبو العباس القلانسي، وأبو بكر القفال.
ثم قال الأستاذ: كانت المعتزلة والأوائل منهم على أن وجوب شكر المنعم معلوم بالنظر، كما قال بعض الفقهاء من أصحابنا، فصاروا كلهم في آخرهم إلى أنه معلوم ضرورة، وإلزامات وردت عليهم. انتهى كلامه، وقد تضمن فوائد جليلة.
وقال في موضع آخر: قصد الأوائل من أصحابنا بقولهم: إنا لا نعرف القبح

(1/117)


والعدل، والظلم إلا بالشرع فقط مخالفة المعتزلة في قولهم: ما قبحه العقول لا يرد الشرع بتحسينه، لا أنا لا نعرف معاني هذه الألفاظ قبل الشرع من اللغة، بل نعرفها قبل الشرع ونعلم تواطؤهم على التقبيح والتحسين في أشياء نعرفها، واختلافهم في أشياء أخرى، وأن عقلاءهم حكموا كذلك.
قال: ومن قال: إنا لا نعرف مقاصدهم بهذه الألفاظ قبل الشريعة لم يتمكن من الكلام فيها والمناظرة مع الخصوم. فإنه متى جرى في كلامه أن الشرع يقبحه أو يحسنه منعه منه. فقال: أي شيء تعني بالتحسين والتقبيح وأنت لا تعرفه حتى يرد الشرع؟ فيتعذر الكلام عليه.
قال: وأول ما ورد أبو عمرو البسطامي بنيسابور حضر بعض مجالس الكلام لبعض العلوية، فسئل عن هذه المسألة. فقال: لا أعرف الحسن والقبح قبل الشريعة. فأورد عليه هذا السؤال فالتبك فيه وتخبط ولم يمكنه الخروج منه. ثم قال: يكون الفرق بيننا في قولنا: إنما نعرف معاني هذه الألفاظ وبين قول المعتزلة إنا نقول ما قضى العقل بقبحه جاز أن ترد الشريعة باستحسانه ا هـ.
وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب التحصيل: وكان أبو العباس القلانسي وأبو بكر الصيرفي، من أصحابنا يقولان بوجوب شكر المنعم ووجوب الاستدلال على معرفته ومعرفة صفاته من جهة العقل قبل ورود الشرع، ثم إن الصيرفي ناظر الأشعري في ذلك، واستدل على وجوب شكر المنعم بالعقل بوجوب الاحتراز مما يخاف منه الضرر.
قال: فإذا خطر ببال العاقل أنه لا يأمن أن يكون له صانع قد أنعم عليه وأراد منه الشكر على نعمه والاستدلال على معرفته لزمه الشكر والمعرفة. فقال له الأشعري: هذا الاستدلال ينافي أصلك؛ لأنك استدللت على وجوب شكر المنعم بإمكان أن يكون المنعم قد أراد ذلك، وإرادة الله لا تدل على وجوبه؛ لأنه سبحانه قد أراد حدوث كل ما علم حدوثه من خير وشر وطاعة ومعصية، ولا يجوز أن يقال بوجوب المعاصي، وإن أراد الله عز وجل حدوثها. فعلم الصيرفي منافاة استدلاله على مذهبه ورجع إلى القول بالوقف قبل الشرع. ا هـ.
زاد الطرطوشي أنه صنف كتابا سماه الاستدراك رجع فيه عن قوله الأول. وقيل: إنه ألحق بحاشية الكتاب: نحن وإن كنا نقول بشكر المنعم فإنما نقوله عند ورود الشرع.

(1/118)


قال: وكذا القلانسي كان يقول به، ثم لما تحقق له ما فيه من التهافت رجع عنه.

(1/119)


مسألة: حكم أفعال العقلاء قبل ورود الشرع
...
[المسألة] الثانية: [حكم أفعال العقلاء قبل ورود الشرع].
إن أفعال العقلاء لا حكم لها قبل ورود الشرع عندنا بناء على أن الأحكام هي الشرائع وعندهم الأحكام هي صفات الأفعال، فقالوا: الأفعال الاختيارية إما حسن بالعقل كإسداء الخيرات، أو قبيح بالعقل كالجور والظلم. وهذان لا خلاف فيهما عندهم كما قاله ابن برهان وغيره، وإنما الخلاف فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح كفضول الحاجات والتنعمات، والأول واجب أو مندوب أو مباح. والثاني حرام أو مكروه. والثالث فيه خلاف هل هو واجب أو مباح أو على الوقف؟ ثلاثة مذاهب.
أما الأفعال الاضطرارية كالتنفس ونحوه فحسنة قولا واحدا. وهكذا حرر الآمدي وغيره محل الوفاق من الخلاف.
وأما الإمام الرازي فإنه عمم الخلاف في جميع الأفعال وهو مناف لقواعد الاعتزال من جهة أن القول بالحظر مطلقا يقتضي تحريم إنقاذ الغرقى، وإطعام الجوعان، وكسوة العريان. والقول بالإباحة مطلقا يقتضي إباحة العقل والفساد في الأرض. والخلاف ظاهر فيما لم يطلع العقل على مفسدته ولا مصلحته. وحينئذ فلا تنافي الأصول قواعد القوم.
قال القرافي: لكن طريقة الإمام يساعدها النقل، فإن أبا الحسين البصري في كتاب المعتمد حكى عن شيعته المعتزلة الخلاف مطلقا من غير تقييد كما حكى الإمام، ووافقه القرافي أخيرا لهذا.
قلت: لكن ابن برهان وابن القشيري وغيرهما من الأئمة إنما حكوا الخلاف عنهم فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتابه في أصول الفقه: قال جمهور المعتزلة: الشكر وما في معناه واجب. واختلفوا فيما وراءه هل هو حرام أو مباح؟.
وقال أبو الحسين بن القطان ممن يوافق المعتزلة: لا خلاف أن ما كان للعقل فيه حكم أنه على ما كان عليه قبل ورود الشرع مثل شكر المنعم وكفره. واختلفوا فيما سواه ثم حكى الخلاف.

(1/119)


وقال سليم الرازي إن التنفس في الهواء والانتقال من مكان إلى مكان آخر ليس من محل الخلاف لكن صاحب المصادر من الشيعة حكى الخلاف عن المعتزلة هل هو في الحالتين أو في الاختيارية؟ قولان.
وقال سليم أيضا في ذيل المسألة: ثم الخلاف إنما هو فيما يجوز أن يرد الشرع بإباحته وحظره كالمآكل والملابس والمناكح أما ما لا يجوز عنه الحظر كمعرفة الله وما لا يجوز عليه الإباحة كالكفر بالله ونسبة الظلم إليه فلا خلاف فيه. وكذلك جعل القاضي عبد الوهاب الخلاف في مجوزات العقول.
قال: وهي كل ما جاز أن يرد السمع بتحليله أو تحريمه.
وقال صاحب المصادر من الشيعة: لا خلاف بين المعتزلة أن الأفعال المضرة على الحظر، وإنما الخلاف في الأفعال التي يصح الانتفاع بها ولا ضرر فبها مما لا يعلم وجوبه ولا ندبه، على ثلاثة أقوال فذكرها.
وقال بعض المحققين من المتأخرين: فروع التحسين والتقبيح حكم الأشياء قبل ورود الشرع هم يثبتونه مطلقا في كل مسألة من الأصول والفروع غير أن فيها ما يدرك بضرورة العقل. ومنها ما يدرك بنظره. ومنها ما لا يدرك بهما. فتجيء الرسل منبهة عليه في الأوليين مقررة، وفي الثالث كاشفة، وعندنا لا يعرف وجوب ولا تحريم في شيء من ذلك بالعقل، ولا يثبت إلا بالشرع بعد البعثة إنشاء جديدا، وقيل: بطريق التبيين، وكنا قبله متوقفين في الجميع.
قال: وهذا الذي قلناه هو معتقد أهل السنة وإجماع الأئمة الأربعة وأصحابهم، وقال صاحب روضة الناظر وجنة المناظر من الحنابلة: الأفعال قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو الحظر؟ قال القاضي: فيه قولان. يومئ إليهما في كلام أحمد. وقال ابن عقيل: هما روايتان.
قال: وهذا النقل يشكل مع استقرار مذهب أحمد أن لا مجال للعقل في التحسين والتقبيح.
[حكم الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع]:
إذا ثبت هذا فنقول: في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع مذاهب:
أحدها : أنها على الإباحة، وبه قال معتزلة البصرة.، وأهل الرأي وأهل الظاهر كما قال الأستاذ أبو منصور.

(1/120)


[حكم الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع]:
إذا ثبت هذا فنقول: في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع مذاهب:
أحدها : أنها على الإباحة، وبه قال معتزلة البصرة.، وأهل الرأي وأهل الظاهر كما قال الأستاذ أبو منصور.

(1/120)


وقال أبو زيد الدبوسي في تقويم الأدلة: إنه قول علماء الحنفية. وقال ابن برهان: إنه الصحيح عند المعتزلة. وحكاه ابن السمعاني في القواطع عن القاضي أبي حامد المروذي وعن أبي إسحاق المروزي من أصحابنا. قال: وحكي عن ابن سريج أيضا.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وأكثر المعتزلة وحكاه أبو عبد الله الزبيري من قدماء أصحابنا في كتابه عن كثير من أصحابنا منهم أبو الطيب بن الخلال وغيره. وحكاه القاضي أبو الطيب الطبري عن القاضي أبي حامد وحكاه سليم الرازي عن أبي إسحاق المروزي، وابن سريج، وأكثر الحنفية، وأهل الظاهر. وحكاه عبد الوهاب والباجي عن أبي الفرج المالكي.
وقال صاحب المصادر اختاره الشريف المرتضى، وهو الصحيح. وقال صاحب الواضح من المعتزلة: إنه قول عامة الفقهاء والمسلمين، وبه قال أبو علي وابنه أبو هاشم الجبائيان، وأبو عبد الله البصري، ونصره عبد الجبار.
والثاني : أنها على الحظر، وبه قال معتزلة بغداد.
وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا: إنه الحق. وبه قال أبو علي بن أبي هريرة، وعلي بن أبان الطبري، وأبو الحسين بن القطان: وممن حكاه عن ابن أبي هريرة القاضي أبو الطيب وسليم الرازي. وحكاه أيضا عن بعض الحنفية. قال: إلا أنهم خصوا التنفس بالهواء والانتقال من مكان إلى مكان فقالوا: هو على الإباحة، وحكي عن المالكية، وفهم من مذهب عبد الملك في الموازية، وقد سئل عن الطفل هل هو حلال؟ فقال: لا: إن الله لم يحله.
وقال صاحب المصادر: اختلف القائلون بالحظر، فمنهم من قال كل ما لا يقوم البدن إلا به ولا يتم العيش إلا معه على الإباحة، وما عداه على الحظر، ومنهم من سوى بين الكل في الحظر. انتهى. وهو كما قال من وجود الخلاف.
فقد قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في شرح الترتيب: كان أوائل القدرية يطلق أن البغداديين أنها على الحظر، والبصريين على الإباحة.
وفصله أبو هاشم، وكان موفقا في تحقيق المذاهب، فقال: الأشياء قبل الشرع عند البغداديين كالكعبي وأتباعه على الحظر، في ما عدا ما للإنسان منه فكاك ولا يضطر إليه، فأما ما يكون مضطرا كالتنفس والكون فلا.
قال الأستاذ: وكان الدقاق ممن ينسب إلى أصحاب الشافعي يذهب مذهب الكعبي ويقول: إنها على الحظر، وكان أبو حامد من أجلاء أصحاب الحديث يذهب

(1/121)


مذهب البصريين ويقول: إنها على الإباحة، وإنما بينا مذهبهما على أصول الاعتزال، فنظر إلى أقاويلهما من لا معرفة له بالأصول، فظنهما من أصحابنا لانتسابهما في الفروع إلى الشافعي وهو أبو علي الطبري.
[أفعال العقلاء قبل الشرع]:
قال: واختلف أصحابنا في أفعال العقلاء قبل الشرع فمنهم من قال: إنها على الحظر، ومنهم من قال: على الإباحة. ا هـ.
وحكى الباجي القول بالحظر عن الأبهري، وحكى عبد الوهاب عنه الوقف. الثالث: أنها على الوقف لا نقول: إنها مباحة ولا محظورة.
وقال ابن السمعاني في القواطع: وهو قول كثير من أصحابنا منهم أبو بكر الصيرفي والفارسي وأبو علي الطبري. وبه قال الشيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه وكذا حكاه القاضي أبو الطيب الطبري. وبه قال بعض المعتزلة، وحكاه ابن حزم عن أهل الظاهر.
وقال: إنه الحق الذي لا يجوز غيره إلا أن طريق الوقف مختلف، فعندنا لعدم دليل الثبوت وهو الخبر عن الله؛ لأن الحكم عبارة عن الخطاب فحيث لا خطاب لا حكم. وقيل: لأنه ليس لله هناك حكم أصلا. والحق أنه لا بد لهذه الأفعال من حكم عند الله، وقد تعذر الوقوف عليه لخفائه، فيوقف في الجواب إلى الشرع.
[سبب الوقف عند القائلين به]:
والقائلون بالوقف اختلفوا في سببه:
فقالت الأشاعرة: لأن الوجوب وغيره من الأحكام أمور شرعية ولا شرع فتنتفي هذه الأحكام. وقال بعض المعتزلة: لعدم الدلالة على أحدها مع تجويز أن يكون العقل دليلا بالوقف لأجل عدم الدليل. حكاه صاحب المصادر وقواه ونقله عن المفيد من الشيعة.
وقال الباجي: إنه قول أكثر أصحابهم، ونقله عبد الوهاب في الملخص عن ابن عتاب. قال: وكان يحكيه عن القاضي إسماعيل. وبه قال أبو بكر الأبهري والصيرفي، وهو مذهب أصحابنا المتكلمين.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: معنى الوقف عندنا أنا إذا سبرنا أدلة العقول دلتنا على أنه لا واجب على أحد قبل الشرع في الترك والفعل.

(1/122)


ثم الفرق بين قولهم وقول أصحاب أهل الإباحة: أن القائلين بالوقف عندهم كل من اعتقد فيه نوعا من الاعتقاد لم يتوجه عليه الذم، والقائلون بالإباحة لا يجوزون اعتقاد الحظر في الإباحة، ومن قاله واعتقده فقد أخطأ وتوجه عليه الذم. انتهى.
فظن سليم الرازي اتحاد المذهبين. فقال: إن القائلين بالوقف قالوا: إن من تأول شيئا أو فعل فعلا لا يوصف بأنه أثم حتى يدل دليل الشرع عليه، فكأنهم وافقوا في الحكم وخالفوا في الاسم. وسيأتي مثله عن القاضي عبد الوهاب.
وقال الأستاذ في موضع آخر: ذهب أهل الحق إلى أن في العقل بمجرده دليلا على أن لا واجب على الإنسان قبل بعثة الرسل، وأن لله أن يوجب علينا ما شاء مما أمكن برسول بعثه. قالوا: ولو استدل مستدل من غير وجوب عليه أمكنه الوصول إلى جميع ما ذكرناه بما نصبه عليه من الأدلة، ويستحيل قلبها عما هي عليها.
قال: وهذا معنى قولهم: إن أفعال العباد على الوقف قبل الشرع.
وتفسيره: أن كل من فعل شيئا قبل ورود الرسل عليهم الصلاة والسلام فلا يقطع له بثواب ولا عقاب.
قلت: وممن صرح بأن المراد بالوقف انتفاء الحكم لا التردد في أن الأمر ما هو؟ أبو نصر بن القشيري، وأبو الفتح بن برهان.
فقال: القائلون بالوقف لم يريدوا به أن الوقف حكم ثابت ولكن عنوا به عدم الحكم.
وقال ابن السمعاني في القواطع: ليس معنى الوقف أنه يحكم به؛ لأن الوقف حكم نقل الحظر والإباحة، والمانع من القول بالحظر والإباحة مانع من القول بالوقف، وإنما معنى الوقف أنه لا يحكم للشيء بحظر ولا إباحة لكن يتوقف في الحكم لشيء ما إلى أن يرد به الشرع.
قال: وهذه المسألة مبنية على أن العقل بمجرده لا يدل على حسن ولا قبح وإنما ذلك موكول إلى الشرع.
فنقول: المباح ما أباحه الشرع، والمحظور ما حظره، فإذا لم يرد الشرع بواحد منهما لم يبق إلا الوقف إلى أن يرد السمع بحكم فيه. ا هـ.
وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص: تأويل قول أصحابنا الوقف لا يرجع إلى إثبات صفة هي عليها في العقل ولكن إلى أن التصرف فيها غير محكوم بأنه مباح أو محظور خلافا لمن اعتقد أنه محكوم له بأحد الأمرين. فعبرنا عن نفي الحكم بأنهما على

(1/123)


الوقف. ولا معنى لقول من قال: إذا كان هذا من حكمها ثابتا عندكم في العقل فقد جعلتم لها حكما ثالثا في العقل، وأن ذلك نقض لقولكم: لا حكم لها في العقل؛ لأن غرضنا من ذلك ما ذكرنا من أنه لا حكم لها بحظر ولا إباحة وهذا خلاف في عبارة. انتهى.
واعلم أن أبا الحسين بن القطان حكى في المسألة أربعة مذاهب: الإباحة والحظر، والثالث: الوقف على الأدلة، فما قام عليه الدليل ونفى النافي على ما كان عليها. قال: وهو قول من قال: إنها ليست محظورة ولا مباحة. والرابع: أن الإباحة تحتاج إلى مبيح والحظر يحتاج إلى حاظر فيشير بما يوجب حكمه فيهما. انتهى.
وهذا الخلاف إنما هو في تفسير الوقف كما سبق.
ثم قال: ومن أصحابنا من قال: إن تحريك اليد ونحوه قد حصل الإذن فيه بالعقل؛ لأن الجوارح لا تنفك من حركة. ثم نقل عن أبي بكر الصيرفي أنه كان يذهب إلى بطلان العقل، وأن التحريم والتحليل إنما يتعقل بالشرع.
قال: وهذا لا ينازعه فيه أحد، وإنما نقول له: هل للعقل في هذا لو انفرد؟ وهل يجب أن يصار إليه؟ فإن قال: لا. قلنا: ليس كلامنا فيه. وإن أراد الجواز أقمنا الأدلة على أن للعقل دخلا في الجواز. انتهى.
وقال المازري: الراجح عندنا الوقف. ونعني به القطع على أن لا حكم لله سبحانه في حقنا. قال: وأشار إمام الحرمين إلى أن الخلاف بين القائل بالإباحة والقائل بالوقف لفظي وظن أنهم يريدون بالإباحة هاهنا استواء الفعل وتركه في باب الذم وغيره. لكن غيره من أئمتنا الناقلين لهذا المذهب عن المعتزلة لم يحمله على ذلك.
واعلم أن من قال من أصحابنا بالحظر أو الإباحة ليس موافقا للمعتزلة على أصولهم بل لمدرك شرعي.
أما التحريم فلقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] ومفهومه أن المتقدم قبل الحل التحريم. فدل على أن حكم الأشياء كلها على الحظر.
وأما الإباحة، فقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] فهذه مدارك شرعية دالة على الحال قبل ورود الشرع فلو لم ترد هذه النصوص لقال هؤلاء الفقهاء: لا علم لنا بتحريم، ولا إباحة. بخلاف المعتزلة فإنهم يقولون: المدرك عندنا العقل ولا يضرنا عدم ورود الشرع.

(1/124)


تنبيهات
[التنبيه] الأول: [تفريع مسألة شكر المنعم على التحسين والتقبيح]
إن الأصحاب جعلوا مسألة شكر المنعم والأفعال مفرعة على التحسين والتقبيح وليس بجيد.
أما الأول: فلأن الشكر هو اجتناب القبيح وارتكاب الحسن، وهو عين مسألة التحسين والتقبيح. فكيف يقال: إنها فرعها؟ وإلى ذلك أشار ابن برهان في الأوسط فقال: هذه المسألة عين مسألة التحسين والتقبيح، ولا نقول: هي فرعها. إذ لا بد وأن يتخيل بين الفرع والأصل نوع مناسبة، وهي هي.
بيانه: أنا نقول معاشر المعتزلة: إن عنيتم بالشكر قول القائل الحمد لله والشكر لله، فقد ارتكبتم محالا، إذ العقل لا يهتدي لإيجاب كلمة، وإن عنيتم بالشكر معرفة الله فباطل أيضا؛ لأن الشكر يستدعي تقديم معرفة، ولهذا قيل: أعرف الله أشكر. فإن قالوا: عنينا بوجوبه عقلا ما عنيتم أنتم بوجوبه سمعا.
قلنا: نحن نعني بوجوب شكر المنعم سمعا امتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه.
قالوا: فنحن أيضا نريد بذلك الإتيان بمستحسنات العقول والامتناع عن مستقبحاتها. فقد تبين بهذا التفسير أن هذه هي عين مسألة التحسين والتقبيح حذو القذة بالقذة. فبطلان مذهبهم هنا معلوم من تلك إلا أن العلماء أفردوا هذه من تلك الجملة؛ لعبارات رشيقة تختص بها ومعان موفقة نذكرها يظهر منها سقوط كلامهم فيها.
وأما الثاني: فلأن ما لا يقضي العقل فيها بشيء لا يتجه تفريعه على الأصل السابق، فإن الأصل إنما هو حيث يقضي العقل هل يتبع حكمه؟ وإنما الأصحاب قالوا: هب أن ذلك الأصل صحيح فلم قضيتم حيث لا قضاء للعقل؟ وليس هذا تفريعا على هذا الأصل.

(1/125)


[التنبيه] الثاني: [فائدة هذه المسألة]:
قال بعض المتكلمين: لا معنى للكلام في هذه المسألة الثانية من حيث إنه ما خلا زمان من سمع، لكن لا يمنع الكلام فيما يقتضيه العقل لو لم يكن سمع. حكاه سليم

(1/125)


الرازي، وإلكيا الهراسي.
ثم قال: وهو بعيد، فإنه يمكن تقدير المسألة فيمن خلق في جزيرة، ولم يبلغ أهلها دعوة الملك فهل يعلم أهلها إباحة هذه الأجناس أم لا؟ وإن حاول محاول ترتيب فائدة شرعية على هذه المسألة لم يعدمها.
فإن ما لم يوجد فيه حكم شرعي كان على حكم العقول من الإباحة في رأي أو على الحظر في رأي، وإن كان من العلماء من لا يجوز خلو واقعة عن حكم لله متلقى من الشرع كالصيرفي، وهو اختيار إمام الحرمين. وهو الحق عندنا.
فعلى هذا الشافعي يبني على الإباحة تلقيا من الأئمة. وأبو حنيفة يبني على الحظر تلقيا من الشرع، فلا مخرج عن الشرع. ا هـ.
وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ: أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، ولا نازلة إلا وفيها سمع أو لها تعلق به. أو لها حال يستصحب.
قال: فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر، وإباحة، ووقف. وقال الأستاذ أبو منصور: فائدة هذه المسألة مع قولنا إنه لم يخل زمان العقلاء عن شرع وتكليف من الله يظهر في حادثة تقع ليس فيها نص ولا إجماع ولا قياس: فيكون الحكم فيها عند جمهور أصحابنا الوقف مع نفي المدح والذم عمن اعتقد فيها حظرا أو إباحة أو وقفا. ويكون حكمها الحظر عند القائل به قبله.
قال القاضي أبو الطيب الطبري وتبعه صاحب القواطع: فائدة هذه المسألة في الفقه أن من حرم شيئا أو أباحه، فقال: طلبت دليل الشرع فلم أجده فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة هل يصح ذلك أم لا؟ وهل هذا دليل يلزم خصمه أم لا؟ وهذا أمر يحتاج الفقيه إلى معرفته والوقوف على حقيقته.
قال القاضي أبو الطيب: سمعت ابن داود يحتج على إباحة استعمال أواني الذهب والفضة في غير الشرب. فقال: الأصل في الأشياء الإباحة، وقد ورد الشرع بتحريم الشرب فوجب أن يبقى ما عداه على التحليل. فقال بعض أهل العلم لهذا المحتج: مذهب داود أن هذه الأشياء موقوفة على ما يرد به الشرع، وحينئذ فلا يجوز إثبات إباحتها بهذا الطريق، ولا تكون إباحتها بعدم دليل شرعي أولى من حظرها، وبطل بهذا حجة المحتج. ا هـ.
ومما يتخرج على هذا ما لو لم يجد العامي في هذه المسألة، ولا غيرها واقعة له، ولا ناقل حكمها.

(1/126)


قال ابن الصلاح: فهذه مسألة فترة الشريعة وحملها كما قبل ورود الشرع. والصحيح منه: لا تكليف حكاه عنه في الروضة وأقره، وخرج في شرح المهذب عليه النبات المجهول سميته، واللبن المجهول كونه لبن مأكول أو غيره. ورجح الإباحة، وهذا ضعيف؛ لأن اللبن قد علم حكم الشرع فيه، وما يباح منه وما يحرم. فالموجود فيه حكم ولكنه متردد بين تحريم وإباحة فلا يحسن تخريجه على هذا الأصل. وأما النبات فلا يبعد تخريجه فيه كحيوان لم يرد فيه نص بحل ولا حرمة.
وقد ذكر الرافعي في الأطعمة: أن الماوردي خرجه على هذا الأصل، وكذلك خرج عليه الماوردي الشعر المشكوك في طهارته ونجاسته، والنهر المشكوك في كونه مملوكا أو مباحا: وهو تخريج ضعيف؛ لما بينا في اللبن المجهول.
ولو وقع رجل على طفل من الأطفال إن أقام على أحدهم قتله، وإن انتقل إلى آخر من جيرانه قتله.
قال الشيخ عز الدين في قواعده: قد قيل: ليس في المسألة حكم شرعي، وهي باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها، ولم نر للشريعة التخيير بين هاتين المفسدتين. فلو كان بعضهم مسلما، وبعضهم كافرا فهل يلزمه الانتقال إلى الكافر؛ لأن قتله أخف مفسدة من قتل الطفل المحكوم بإسلامه؟.
الأظهر عندي: أنه يلزم ذلك؛ لأنا نجوز قتل أولاد الكفار عند التترس بهم حيث لا يجوز ذلك في أطفال المسلمين.
وبنى في موضع آخر على هذا الأصل ما إذا لم يكن في الفعل مصلحة ما، ولا مفسدة ما كتحريك الأصبع في الهواء لغير دفع ولا نفع. قال: فالذي أراه أنه مقرر على ما كان قبل ورود الشرع، إذ ليس في الكتاب والسنة ما يدل على أنه مطلوب الفعل ولا مطلوب الترك ولا مأذون فيه بل يكون كفعل المجانين والصبيان ومن لم تبلغه الدعوة.
وبنى الماوردي والروياني في كتاب القضاء على هذا الخلاف أيضا تقرير النبي صلى الله عليه وسلم غيره على فعل من الأفعال هل يدل على الجواز من جهة الشرع، أو من جهة البراءة الأصلية. وكون الأصل هو الإباحة؟ فإن قلنا: أصل الأشياء على التحريم دل التقرير على الجواز شرعا، وإن قلنا: أصلها الإباحة فلا. وسيأتي في كتاب السنة إن شاء الله تعالى.
والتحقيق : أن تخريج هذه الفروع كلها لا يستقيم لأمرين:
أحدهما : أن الأصل المخرج عليه ممنوع في الشرع، وإنما ذكره الأئمة على تقدير

(1/127)


التنزيل لبيان إبطال أصل التحسين والتقبيح العقليين بالأدلة السمعية. فإن الشرع عندهم كاشف لا يمكن وروده بخلاف العقل، ومن أطلق من الأصحاب الخلاف ينبغي حمله على أنه هل يجوز الهجوم عليه ابتداء أم يجب التوقف إلى البحث عن الأدلة الخاصة؟ فإن لم نجد ما يدل على تحريمه، فهو حلال بعد الشرع بلا خلاف.
وإنما ينبغي أن يكون مأخذ الخلاف أن الحلال هل هو ما لم يدل دليل على تحريمه أو ما دل دليل على إباحته؟.
الثاني : أن الكلام فيما قبل الشرع، وهذه حوادث بعد الشرع، وكأنهم رأوا أن ما أشكل أمره يشبه الحادثة قبل الشرع، لكن الفرق بينهما قيام الدليل بعد الشرع فيما أشكل أمره أنه على العفو.

(1/128)


[التنبيه] الثالث: [تصحيح الوقف هل يستقيم؟]
قيل: كيف يستقيم تصحيح الوقف في هذه المسألة مع ما سيأتي في الأدلة المختلفة فيها أن الأصل في المنافع هو الإباحة على الصحيح.
قلت: الخلاف هنا فيما قبل الشرع، وهناك فيما بعد الشرع بأدلة سمعية، ولهذا عبروا ثم بالإباحة التي هي حكم شرعي.
أجمعوا كما قال الغزالي في آخر المنخول على جواز فتور الشريعة بالنسبة إلى من قبلنا خلافا للكعبي، لأجل قوله بالمصالح.
وأما بالنسبة إلى شريعتنا فمنهم من منعه، وفرق بأن هذه الشريعة خاتمة الشرائع، ولو فترت بقيت إلى يوم القيامة.
قال: والمختار أنها كشرع من قبلنا في ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله، وفي الحديث "يأتي عليكم زمان يختلف رجلان في فريضة فلا يجدان من يقسم بينهما" 1 وأما قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فيمكن تخصيصه
ـــــــ
1 حديث ضعيف: رواه الدرامي "1/83" كتاب المقدمة، باب الاقتداء بالعلماء، حديث "221"، بإسناده عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم وعلموه الناس، تعلموا الفرائض وعلموه الناس، تعلموا القرآن وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض والعلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان أحدا يفصل بينهما" . ورواه الترمذي حديث "2091" بلفظ: "تعلموا القرآن والفرائض وعلموا الناس، فأني مقبوض" . قال أبو عيسى: هذا حديث فيه اضطراب.

(1/128)


بالقرآن دون سائر أحكام الشرع.
هذا كله في الجواز العقلي. أما الوقوع ففيه تفصيل يغلب على الظن: وهو أن القيامة إن قامت على قرب فلا تفتر الشريعة، ولو امتدت إلى خمسمائة سنة مثلا؛ لأن الدواعي متوفرة على نقلها في الحال فلا تضعف إلا على التدريج، وإن تطاول الزمن فالغالب فتوره، إذ الهمم مصيرها إلى التراجع ثم إذا فترت ارتفع التكليف وهي الأحكام قبل ورود الشرع.
وزعم الأستاذ أبو إسحاق أنهم يكلفون الرجوع إلى محاسن العقول. قال: وهذا لا يليق بمذهبنا فإنا لا نقول بالتحسين والتقبيح العقليين. ا هـ.
وهذه ترجع إلى المسألة الآتية في الاجتهاد في خلو العصر عن المجتهد.

(1/129)


مسألة: [تقدير خلو واقعه عن حكم الله]
في تقدير خلو واقعة عن حكم الله تعالى مع بقاء الشريعة على نظامها.
قال الغزالي: قد جوزه القاضي حتى كاد يوجبه. وقال: المآخذ محصورة والوقائع لا ضبط لها فلا تستوفيها مسالك محصورة.
قال: والمختار عندنا: إحالة ذلك وقوعا في الشرع لا جوازا في العقل؛ لعلمنا بأن الصحابة على طول الأعصار ما انحجزوا عن واقعة، وما اعتقدوا خلوها عن حكم الله تعالى، بل كانوا يهجمون عليها هجوم من لا يرى لها حصرا.
ورأيت في كتاب إثبات القياس لابن سريج ليس شيء إلا ولله عز وجل فيه حكم؛ لأنه تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} [النساء: 86] {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} [النساء: 85] وليس في الدنيا شيء يخلو من إطلاق أو حظر أو إيجاب؛ لأن جميع ما على الأرض من مطعم أو مشرب أو ملبس أو منكح أو حكم بين متشاجرين أو غيره لا يخلو من حكم ويستحيل في العقول غير ذلك، وهذا مما لا خلاف فيه أعلمه، وإنما الخلاف كيف دلائل حلاله وحرامه؟.

(1/129)


مسألة: [أحكام الشرع ثابتة إلى يوم القيامة]
كل حكم ثبت لنا بقول الله أو بقول رسوله أو بإجماع أو قياس فهو دائم إلى يوم القيامة، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية" 1 فقيل: يضعها عليهم بعد أن يرفعها، فلا يقبل منهم إلا الإسلام.
واستشكل بأنه نزل مقررا لشريعة نبينا ومن شريعته إقرارهم بالجزية، وقيل: بل من شريعته في ذلك الوقت عدم التقرير، لا يصح؛ لأن شريعته ما أتى بها وهو قبل شرع الجزية.
وقضيته بقاؤه إلى يوم القيامة لما سلف.
وفي الباب حديث رواه أبو القاسم الطبراني في معجمه: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح البصري حدثنا نعيم بن حماد المروزي حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم في زمان من ترك عشر ما أمر به هلك، وسيأتي عليكم زمان من عمل بعشر ما أمر به نجا" 2 وهذا الحديث تفرد به عن سفيان نعيم بن حماد المروزي، وكان يقول: هذا الحديث ينكرونه علي، وإنما كنت مع سفيان فمر يمشي فأنكره، ثم حدثني به.
وحكى العباس بن مصعب أن نعيما هذا ناقض محمد بن الحسن ووضع ثلاثة عشر كتابا في الرد على الجهمية. وخرج إلى مصر وأقام بها نيفا وأربعين سنة، ثم حمل إلى العراق مع البويطي في امتحان القرآن مقيدين فمات نعيم في الحبس بسر من رأى سنة تسع وعشرين ومئتين.
ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال: يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم، وقد يتأيد هذا بما في البخاري عن عائشة أنها قالت: لو علم
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب نزول عيسى بن مريم عليهما السلام، حديث "3448"، ورواه مسلم "1/135" حديث "155".
2 حديث ضعيف: رواه الترمذي "4/530" كتاب الفتن، باب ما جاء في النهي عن سب الرباح، حديث "2267" عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ "إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك، قم يأتي زمان من عمل منكم بعشر ما أمر به نجا" . وضعفه الشيخ الألباني.

(1/130)


النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثته النساء بعده لمنعهن من المساجد1.
وقول عمر بن عبد العزيز يحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور أي يجددون أسبابا يقضي الشرع فيها أمورا لم تكن قبل ذلك؛ لأجل عدمه منها قبل ذلك، لا لأنها شرع مجدد. فلا نقول: إن الأحكام تتغير بتغير الزمان بل باختلاف الصورة الحادثة.
وقال الشيخ نجم الدين البالسي: وكنت أنفر من هذا القول، وأعلل فساده بأن صاحب الشرع شرع شرعا مستمرا إلى قيام الساعة مع علمه بفساد الأمر فيهم.
ثم رأيت في النهاية قد قرر ما في نفسي، فقال قدس الله روحه: لو كانت قضايا الشرع تختلف باختلاف الناس وتناسخ العصور لانحل رباط الشرع.
قال: ولما ذكر صاحب التقريب مقالات الأصحاب في التعزير، روي الحديث في نفي الزيادة على عشرة أسواط2، ثم قال: ولو بلغ الشافعي لقال به. انتهى.
وقد أكثر الروياني في الحلية من اختيارات خلاف مذهب الشافعي ويقول: في هذا الزمان.
وقال العبادي في فتاويه: الصدقة أفضل من حج التطوع في قول أبي حنيفة، وهي تحتمل في هذا الزمان.
وأفتى الشيخ عز الدين بالقيام للناس، وقال: لو قيل بوجوبه في هذه الأزمنة لما كان بعيدا، وكل ذلك فإنما هو استنباط من قواعد الشرع لا أنه خارج عن الأحكام المشروعة. فاعلم ذلك فإنه عجيب.
ـــــــ
1 رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان باب الخروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، حديث "869" بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل. قلت لعمرة: أو منعهن؟ قالت: نعم. ورواه مسلم في صحيحه، برقم "445" بلفظ "لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل. قال: فقلت لعمرة: أنساء بني إسرائيل منعن المسجد؟ قالت: نعم.
2 يشير إلى ما رواه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب كم التعزير والأدب؟، حديث "6850" عن أبي بردة الأنصاري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجلدوا فوق عشر أسواط إلا في حد من حدود الله" . ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، حديث "1708".

(1/131)


مسألة: [مجرد السكوت لا يدل على ما عدا المذكور]
ذكرها ابن السمعاني في القواطع ذيل هذه، فقال: مجرد السكوت لا يدل عندنا على سقوط ما عدا المذكور كما يدل عند من يذهب إلى أن أصل الأشياء على الإباحة، وإنما هو بحسب الحال وقيام الدليل. وذلك على ضروب.
أما سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الشيء يفعل بحضرته ولا ينكره فدليل الجواز. وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب السنة، وأما الشيء إذا كان له أصل في الوجوب أو السقوط، فإن السكوت عنه في بعض الأحوال استغناء بما تقدم من البيان فيه، وليس تكرير البيان واجبا في كل حال.
ومراتب الاستدلال بالسكوت تختلف، فأقوى ما يكون منه إذا كان صاحب الواقعة جاهلا بأصل الحكم في الشيء ولم يكن من أهل الاستدلال كالأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد أحرم وعليه الجبة فقال: " انزع عنك الجبة واغسل عنك الصفرة" 1 وسكت عن الكفارة فدل على سقوطها عن الجاهل والساهي، ولو كانت واجبة لذكرها، إذ لم يكن يجوز إهمال ذكرها تعويلا على معرفة الله بالحكم، ودون هذا في المرتبة خبر الأعرابي المجامع في شهر رمضان فكان قوله: "افعل كذا" 2 دليلا على أنه يجزئ عنه وعن زوجته. وإنما كان هذا أضعف من دلالة الخبر الأول؛ لأن السائل في هذا الخبر قد أنبأ عن علته، فإنه ارتكب معصية، لقوله: "هلكت وأهلكت"، وإذا كان المبتلى
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الحج، باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج، حديث "1789". ورواه مسلم "2/837" حديث "1180" بلفظ "أخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك" .
2 الحديث رواه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر، حديث "1936". عن أبي هريرة قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، هلكت؟! قال:"مالك؟" قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها؟" قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا. فقال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟" قال: لا. قال فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر – والعرق: المكتل – قال: "أين السائل؟" فقال: أنا، قال: "خذها فتصدق به". فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي!! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدأ أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك ". ورواه مسلم "2/781" حديث"1111".

(1/132)


بالحادثة من أهل الاستدلال كان دليل السكوت فيه أوهى وأضعف.
وأما قول الشافعي فيما خرج عن السبيلين: ذكر الله الأحداث في كتابه، ولم يذكر هذا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] فإن قوما من أصحابنا تعلقوا به أنه إنما رده إلى سقوط التكليف إلا بدليل، وليس الأمر كذلك عند عامة الأصحاب، وإنما وجهه ومعناه أن المتطهر على طهارته، ولا ينتقض وضوءه إلا بحدث وما لم تقم دلالة على الحدث فأصل الطهر كاف فيه، وقد قال عليه السلام: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا" 1 ومن احتج بقوله: "وما سكت عنه فهو عفو" 2 فليس بجيد؛ لأنه لا يمكن إجراؤه على عمومه.
فائدة :
ادعى الشافعي الإجماع على أن المكلف لا يجوز له الإقدام على فعل شيء حتى يعلم حكم الله فيه، وكذلك حكاه الغزالي في المستصفى واستشكله بعضهم بتصريحهم بالبراءة الأصلية، وأنه لا حرج في الإقدام إذ ذاك، إذ لا حكم.
وقال بعض المتأخرين: الإجماع محمول على ما إذا أقدم بلا سبب، ومحل عدم الحرج ما إذا أقدم مستندا إلى البراءة الأصلية. وقيل: بل المنفي في كلامهم هو الجواز الشرعي، وهو حق، إذ الغرض أن لا حكم فلا جواز، لكنه إذا أقدم فلا يعاقب إذ لا حكم.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، حديث "137"، ورواه مسلم "1/276" حديث "361" عن عبادة بن تميم عن عمه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينتفل – أو لا ينصرف – حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" .
2 حديث صحيح: رواه أبو داود "3/354" كتاب الأطعمة باب ما لم يذكر تحريمه، حديث "3800" بإسناده عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} إلى آخر الآية. ورواه الحاكم في المستدرك "2/604" حديث "3419". وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.

(1/133)


مسألة: [تعريف الحسن والقبح]
كان من حقها أن تذكر صدر الأصل السابق وهو تعريف الحسن والقبح. قد أطلق الأصوليون القول بمقابلة الحسن بالقبيح، وإنما يقابل الحسن بالسيئ والقبيح بالجميل، كما قال الله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وقال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34] ومن حكم التقابل مقابلة الأعم بالأعم والأخص بالأخص، والقبيح أخص من السيئ كما أن الجميل أخص من الحسن، وأبلغ من المدح معه، ولذلك يقال: حسن جميل، ولا يقال: جميل حسن؛ لأنه لا ينزل من الأعلى إلى الأدنى بخلاف العكس.
وأما حقيقتهما في الاصطلاح فيؤول إلى تعلق الخطاب بالشيء على صفة، وليسا راجعين إلى الذوات كما سبق خلافا للمعتزلة والكرامية والروافض، حيث قالوا: إلى نفس الذوات الحسنة والقبيحة، ويرون ذلك من صفات نفوسها. هذا قول القدماء منهم. وذهب بعضهم إلى اختصاص هذا المعنى بالقبيح فرأوه راجعا إلى الذات بخلاف الحسن.
وعكس بعضهم فرأى الحسن يرجع إلى الذات بخلاف القبيح، وأنكر إمام الحرمين هذه المذاهب الثلاثة، وزعم أنهم إنما يريدون بما أطلقوه من صرف الحسن والقبح إلى أعين الذات أن ذلك يستدرك فيها بالعقول من غير حاجة إلى بعث الرسول. انتهى.
وقال قوم من المعتزلة: العقل يقتضي لذاته صفة وتلك الصفة توجب الحسن أو القبح، كالصوم المشتمل على كسر الشهوة المقتضي عدم المفسدة. وكالزنى المشتمل على اختلاط الأنساب المقتضي ترك تعهد الأولاد.
قال الجبائي وأتباعه بوجوه واعتبارات بمعنى أن لكل صفة لكن هي غير حقيقية.
وفي كلام الأحكام ما يظهر منه أن مذهب الجبائي الذي قبل هذا، وقد اضطرب أصحابنا في الفصل بينهما، فقيل: الحسن: ما طلبه الشرع، وأثنى عليه، فيتناول الواجب والمندوب، والقبيح: ما طلب تركه وذم فاعله فيتناول الحرام والمكروه. قاله ابن القشيري، وابن السمعاني في القواطع. ونقله ابن برهان عن

(1/134)


أصحابنا وأورد المباح، وأجيب بإثبات الواسطة، وأنه لا حسن ولا قبيح، كقول بعض المعتزلة. وجزم به إمام الحرمين في التلخيص في الباب المفرق بين الإباحة والأمر، وجرى عليه ابن القشيري.
وقال ابن برهان: بل أذن الشارع في إطلاق الثناء على فاعله فهو داخل في الحسن. ا هـ.
وهذا إنما يتحقق على رأي الكعبي في قوله: إن في كل مباح ترك حرام. ولهذا الإشكال قال الأستاذ أبو إسحاق: الحسن هو المأذون فيه شرعا فدخل المباح، ونوقش بأن المباح يقتضي وصفا زائدا على الماهية، ومجرد الإذن لا يدل على ذلك. وقال الإمام في التلخيص: الحسن: كل فعل لنا الثناء شرعا على فاعله به، والقبيح: كل فعل لنا الذم شرعا لفاعله به.
قال: والقاضي يقول: ما أمر بمدح فاعله وفيها شيء؛ لأن المباح حسن ولا يمدح فاعله.
والذي ارتضيناه أسد، وقد سبق عنه التصريح في موضع آخر من التلخيص أنه لا حسن ولا قبيح.
وقال الإمام في المحصول: القبيح: ما نهي عنه شرعا، والحسن: ما لا يكون منهيا عنه شرعا، ويندرج فيه أفعال الله تعالى، وأفعال المكلفين من الواجب والمندوب والمباح، وأفعال الساهي، والنائم والهائم.
قال: وهو أولى من قول من قال: الحسن: ما كان مأذونا فيه شرعا؛ لأنه يلزم عليه أن لا تكون أفعال الله حسنة.
وخص ابن السمعاني التقسيم بأفعال المكلفين، وقال: أما ما لا صفة زائدة على وجوده كبعض أفعال الساهي، والنائم فلا يوصف بحسن ولا قبيح إذا لم يكن فيه مضرة ولا منفعة، فإن كان، فقد قيل: يوصف بهما، وقيل: لا يوصف بشيء منهما وهو الأولى؛ لأن الحسن والقبيح يتبع التكليف، فمن ليس بمكلف لا يوصف فعله بشيء منهما. قال: وهكذا كل فعل يصدر ممن لا تكليف عليه.
قلت: هذا أحسن من جعل الإمام والبيضاوي له من قسم الحسن، ولم يجعل الآمدي هذا خلافا بين الأصحاب بل إطلاقات الأصحاب باعتبارات.
فقال: في الأبكار: مذهب أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم أن الحسن والقبيح ليس وصفا ذاتيا بل لإطلاق لفظ الحسن والقبيح عندهم باعتبارات غير حقيقية

(1/135)


بل إضافية يمكن تغيرها وتبدلها، وهي ثلاثة:
الأول : أن الأفعال تنقسم إلى ما وافق الغرض فيسمى حسنا، وإلى ما خالف الغرض فيسمى قبيحا، وإلى ما لا يوافق ولا يخالف عبثا.
الثاني : إطلاق الحسن على ما أمر الشرع بالثناء على فاعله، ويدخل فيه الواجب والمندوب وفعل الله، ويخرج منه المباح.
ولو قيل: ما يجوز الثناء على فاعله لدخل المباح، وإطلاق القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل الحرام، ويخرج المكروه، والمباح. لكن المكروه إن لم يكن قبيحا بهذا الاعتبار فليس حسنا باعتبار أن لفاعله أن يفعله أو أنه موافق للغرض. الثالث: إطلاق الحسن على ما لفاعله أن يفعله ويدخل فيه مع فعل الله الواجب والمندوب والمباح.
قال: واتفقوا على أن فعل الله حسن بكل حال، وأنه موصوف بذلك أبدا سرمدا وافق الغرض أو خالف. وأن ذلك مما لا يتغير ولا يتبدل بنفسه ولا إضافة لكن إن كان بعد ورود الشرع ففعله موصوف بكونه حسنا بالاعتبارين الأخيرين، وإن كان قبل الشرع فموصوف بكونه حسنا بالاعتبار الأخير فيهما. ا هـ.
وأما المعتزلة فاختلفوا أيضا. فقال بعضهم: القبيح، ما ليس للمتمكن منه أن يفعله، والحسن ما يقابله، فعلى هذا المباح حسن.
ونازع المازري في دخول الواجب فيه؛ لأنه عليه أن يفعله، ولا يقال: إن له أن يفعله وهو قريب.
وقال جماعة منهم أبو الحسين في المعتمد: الواقع على صفة توجب المدح حسن، وعلى صفة توجب الذم قبيح، وما لا يشتمل على أحدهما كالمكروه، والمباح فليس بحسن ولا قبيح.
وأصل هذا التفسير منهم مبني على أن العقل له التحسين والتقبيح، والمراد من الذم كما قاله الآمدي الإخبار المنبئ عن نقص حال المخبر عنه مع القصد لذلك، ولولا القصد لما كان ذما. قال: وقد زيد في القبيح ما يستحق فاعله الذم ما لم يمنع منه مانع، وقيدوه بذلك؛ لأن من أصلهم أن الصغائر قبيحة غير أنها لا تستحق على فعلها الذم إذا صدرت ممن يجتنب الكبائر.
وأصل هذا الاختلاف منهم يرجع إلى تفسير الحسن والقبح هل يختص بصفة موجبة لتحسينه وتقبيحه. وهو مذهب الجبائي، أو لا؟ فمن قال: يختص، فسره

(1/136)


بالأول، ومن قال: لا يختص فسره بالثاني. ا هـ.
والمختار: أن حسن الشيء شرعا لا يرجع إلى وصف تضمنه من الحسن، ولكن معناه إذن الشرع فيه ودفع العقاب عنه.

(1/137)


[أقسام الحسن]:
وقسمه إلكيا الطبري إلى أقسام:
أحدها : ما حسنه الشرع لمعنى في عينه، كالإيمان والصلاة، وضده من القبيح الزنى والقتل، فكل منهما لا يتغير عن وصفه بتقدير.
الثاني : ما حسن لمعنى في غيره كالزكاة، فإنها تمليك لمال الغير، وحسنها من حاجة الفقير، وكذا الصوم فإنه ترك الأكل ولكن حسن بواسطة قهر النفس الأمارة بالسوء، وضده من القبيح كلمة الردة، فإنها قبحت، لدلالتها على سوء الاعتقاد، وهذا النوع قد يزايله وصف القبح بالإكراه، وكتناول الميتة فإنه حرام نظرا إلى التناول، وقد يحل عند الضرورة.
الثالث : ما حسن لمعنى في غيره، وذلك المعنى لا يتم إلا بفعل مقصود من العبد كالسعي إلى الجمعة، والوضوء على رأي، فلا جرم انحط عن القسمين للتوسط حتى اختلف في كونه عبادة أم لا، ويأتي ضده في القبيح.
فائدة: [الأفعال خمسة أقسام]
تلخص مما سبق أن الأفعال خمسة أقسام:
الأول : حسن بلا خلاف، وهو الواجب والمندوب، وكذلك أفعال الله تعالى، وسبق نقل الآمدي فيه الإجماع.
الثاني : حسن على الأصح وهو المباح.
الثالث : قبيح بلا خلاف وهو الحرام.
الرابع : قبيح على الأصح، وهو المكروه كراهة تنزيه إن فسرنا القبيح بما نهي عنه شرعا، وإن فسرناه بما يذم فلا يوصف به، وكذا لا يوصف بالحسن، إذ لا يثنى على فاعله، وهو ما جزم به إمام الحرمين وأثبت به الواسطة بين الحسن والقبح.
الخامس : ما لا يوصف بواحد منها على الأصح، وهو فعل غير المكلف وفاقا

(1/137)


لابن السمعاني، والخلاف فيه عند المعتزلة أيضا. حكاه الآمدي في الأبكار.

(1/138)


مسألة: [الأمر لا يقتضي حسن المأمور به]
لأن الحسن لا يرجع إلى وصف الفعل بل إلى الأمر بالثناء على فاعله، وعن المعتزلة أنه يقتضيه.
قال القاضي: وحكايته هكذا غلط عليهم، وإنما مذهبهم أن الأمر يقتضي كون المأمور به مرادا للآمر، ثم قالوا: لما تعلقت إرادتنا بالحسن والقبح لم يدل تعلق أمرنا بالمأمور على حسنه، والرب تعالى لا يريد إلا الحسن، وتعلق أمره بالمأمور يقتضي كونه مرادا له، ثم حيث عرفنا أنه لا يريد القبيح فيتوصل إلى كون المأمور به قبيحا، وأما نحن فلا نقول: إن الأمر بالفعل يقتضي حسنه، ولكن إن ورد الأمر بالثناء على فاعله فنحكم بحسنه للأمر الثاني.

(1/138)