البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل: [خطاب التكليف]
إذا ثبت بطلان التحسين والتقبيح العقليين وتقرر أنه لا حاكم إلا الشرع، فلنشرع في تبيين خطاب التكليف، ثم خطاب الوضع، فنقول: الخطاب إن اقتضى الفعل اقتضاء جازما فإيجاب، أو غير جازم فندب. وإن اقتضى الترك جازما فتحريم أو غير جازم فكراهة، وإن اقتضى التخيير فإباحة، فالأحكام إذن خمسة هذا هو المشهور.
ورأيت في تعليق الشيخ أبي حامد في أول كتاب النكاح أنها ثلاثة: واجب ومحظور ومباح، ولعله أراد بالواجب الطلب بالمحظور الممنوع.
وقيل: اثنان: حرام ومباح، وفسرت الإباحة بنفي الحرج عن الإقدام على الفعل، فيندرج الواجب والمندوب والمباح.
وبقي شيئان: أحدهما : خلاف الأولى، وهو قسم من أقسام المكروه، لكن فرقوا بينهما بأن المكروه ما ورد فيه نهي مقصود وخلاف الأولى بخلافه، فترك صلاة الضحى خلاف الأولى، ولا يقال: مكروه، والتقبيل للصائم مكروه.
والصحيح: أن صوم عرفة للحاج خلاف الأولى لا مكروه وكذا الحجامة إن لم نقل تفطر، وكذا تفصيل أعضاء العقيقة.
قال في شرح المهذب: والأصح: أنه غير مكروه؛ لأنه لم يثبت فيه نهي مقصود.
الثاني : أن من الأحكام ما لا يوصف بحل ولا حرمة، كوطء الشبهة على أصح الوجوه الثلاثة مع أن لله فيها حكما.

(1/139)


فصل: في الواجب
مدخل
...
فصل: [في الواجب]
الوجوب لغة: اللزوم، ومنه وجب البيع إذا لزم، والسقوط، ومنه {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] والثبوت ومنه "اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك".
وفي الاصطلاح : لنا إيجاب ووجوب واجب.
فالإيجاب : الطلب القائم بالنفس وليس للعقل منه صفة، فإن القول ليس لمتعلقه منه صفة لتعلقه بالمعدوم.
والوجوب : تعلقه بأفعال المكلفين. فالواجب: نفس فعل المكلف، وهو المقصود هاهنا بالتحديد. وقد ذكروا فيه حدودا فقالت القدماء: ما يعاقب تاركه.
واعترض بجواز العفو، وأجيب: إنما يرد لو أريد إيجاب العقاب، وأما إذا أريد أنه أمارة أو سبب للعقاب فلا يجوز أن يتخلف لمانع، وهو العفو.
ومنهم من اعتذر بأن الخلف في الوعيد كرم وهو فاسد؛ لأن كلام الله تعالى يستحيل الخلف فيه لذاته.
وأجاب ابن دقيق العيد بحمل العقاب على ترك جنس ذلك الفعل، وحينئذ لا يبطل باحتمال العفو إلا إذا وقع العفو عن كل فرد من أفراد التارك، وهذا بالنسبة إلى كل الأفراد من الواجبات لا يصح لدلالة الدليل الشرعي على عقاب بعض العصاة.
وأجاب العبدري في شرح المستصفى بأنه ليس في الشريعة توعد بالعقاب مطلق بل مقيد بشرط أن لا يتوب المكلف ولا يعفى عنه.
وقد قال القاضي رحمه الله: لو أوجب الله علينا شيئا لوجب وإن لم يتوعد بالعقاب على تركه، فالوجوب إنما هو بإيجابه لا بالتوعد لكن هذا مردود، إذ لا يعقل وجوب بدون توعد.
وحكى الأستاذ أبو إسحاق عن الفقهاء أنهم عرفوه بما يستحق اللوم على تركه.
وحكى القاضي الحسين في كتاب الإيمان من تعليقه عن أصحابنا أنهم حدوا الواجب بما يخشى العقاب على تركه.
قال: ولا يلزم عليه القصر في السفر؛ لأنه تركه إلى بدل. انتهى.
وزيفه إمام الحرمين بما يظن وجوبه، وليس بواجب، فإنه يخاف العقاب على تركه مع انتفاء الوجوب.

(1/140)


وقيل: هو المطلوب جزما، ثم العقاب، أو اللوم، أو الذم يكون من إشارة تعريف بدليل آخر، ولا يجوز تحديد الشيء بآثاره.
وأما المتأخرون فالمختار عندهم ما قاله القاضي أبو بكر: أنه الذي يذم تاركه شرعا بوجه ما. فالمراد بالذم ما ينبئ عن اتضاح حال الغير، وتارك الواجب، وإن عفي عنه فالذم من الشارع لا ينفك عنه وأقله أنه يسميه عاصيا، وهو ذم قطعا، ولا يكرمه مثل إكرام الآتي به، وإن عفي عنه، إذ يسلبه منصب العدالة.
وقيل: شرعا ليوافق مذهبنا، وبوجه ما ليدخل الواجب الموسع، والمخير، والفرض على الكفاية؛ لأنه وإن كان لا يذم تارك الصلاة في أول الوقت مع اتصافها بالوجوب فيه لو وقعت، لكن لو تركها في جميع الوقت أو في أوله ولم يعزم على فعله فيما بعده لاستحق الذم، وإن كان لا يستحق الذم على رأي الجاعل للعزم بدلا عنه وكذا القول في الواجب المخير، وأنه لو ترك كل الخصال استحق الذم، وإن كان لا يستحق ذلك على ترك بعضها وفعل البعض الآخر، وكذا القول في فرض الكفاية، فإنه لو تركه البعض وقام به البعض لا يذم تاركه. أما لو تركه الجميع حرجوا جميعا، ولا يرد عليه النائم، والناسي، وصوم المسافر كما قاله ابن الحاجب إذ لا وجوب في حقهم على قول المتكلمين. والقاضي منهم.
أما على رأي بعض الفقهاء فقد أجيب بأنهم لا يذمون على بعض الوجوه، فإنه لو انتبه أو تذكر ذم.
فإن قلت: الذام إما أن يكون صاحب الشرع أو أهل الشرع.
أما الأول فباطل؛ لأن الشارع ما نص على ذم كل تارك بعينه، وأما أهل الشرع فإنما يذمون من علموا أنه ترك واجبا، فذمهم موقوف على معرفتهم بالواجب، فلو عرف به لدار.
والجواب: ما قاله السهروردي: نختار أن الذام هو الشارع بصيغ العموم {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82] ولأن التارك عاص، وكل عاص مذموم العامة. سلمنا، ولا دور؛ لأن تصور الواجب موقوف على تصور الذم، وتصور الذم من أهل الشرع ليس موقوفا على تصور الواجب، فلا دور.
وأورد في المحصول السنة فإن الفقهاء قالوا: إن أهل محلة لو اتفقوا على ترك سنة الفجر بالإصرار فإنهم يحاربون بالسلاح، وهذا لم يقولوه بالنسبة إلى سنة الفجر بل

(1/141)


بالآذان والجماعة ونحوها من الشعائر الظاهرة.
ومع ذلك فالصحيح: أنا إذا قلنا بسنيتها لا يقاتلون على تركها خلافا لأبي إسحاق المروزي، وإن جرينا على هذا القول فالمقاتلة على ما يدل عليه الترك من الاستهانة بالدين لا على خصوصية ترك السنة من حيث هي.
تنبيهان
[التنبيه] الأول
قد يطلق الفقهاء الفرض على ما لا بد منه دون ما يلحق الإثم بتركه، كقولهم: وضوء الصبي فرض. ولهذا حكموا على ماء يتوضأ به بالاستعمال كوضوء البالغ للنفل، وقد يطلقونه على ما قصد به مشاكلة الفرض؛ لتحصيل فضيلة أو مصلحة لم تتحقق بالأول، وإن لم يأثم بتركه كالصلاة المعادة. ولهذا ينوي بها الفرض في الأصح. وصلاة الطائفة الثانية على الميت تقع فرضا، وإن سقط الطلب بالأولى وغير ذلك.
[التنبيه] الثاني
[أقسام الواجب]
الوجوب يطلق تارة بمعنى الثبوت في الذمة وهو شائع في إطلاق الفقهاء، وتارة بمعنى وجوب الأداء، وهو اصطلاح المتكلمين.
فالواجب أقسام:
أحدها : ما يثبت في الذمة، ويطالب بأدائه كالدين على الموسر ونحوه.
وثانيها : ما يثبت في الذمة، ولا يطالب بأدائه، كالزكاة بعد الحول وقبل التمكن.
الثالث : ما لا يثبت في الذمة، ولكن يجب أداؤه كقول أصحابنا: إن الدعوى بالدية المأخوذة من العاقلة لا تتوجه عليهم بل على الجاني نفسه. ثم هم يدفعونها بعد ثبوتها كذا قاله ابن القاص في كتاب أدب القضاء في باب صفة اليمين على البت.
وفي كلام الرافعي ما يؤيده، وكقول أبي إسحاق في اللقطة: إذا تلفت لا يضمن حتى يطالب بها المالك.

(1/142)


وقد يجيء خلافه في القسم الثاني، أعني هل يثبت الوجوب مع عسر الأداء أو يشترط له إمكان الأداء؟ من الخلاف في زكاة الثمر أنها تجب ببدو الصلاح مع أن الأداء إنما يكون عند الجفاف.
وحكى صاحب التقريب قولا للشافعي: أنها لا تجب إلا بالجفاف، وزعم أن وجوب الزكاة في وقت وجوب تأديتها، ولا يتقدم على الأمر بالأداء، وهو يشبه القول بأن الإمكان من شرائط الرجوب، والمذهب: الأول، فإنه لا ينكر بثبوت الوجوب مع عسر الأداء، كما في الديون المؤجلة.
وجزم الأصحاب بأن إمكان الأداء شرط في وجوب الصلاة والصوم والحج، وأما في الزكاة ففيها قولان: أحدهما: كذلك، وأصحهما: أنه ليس من شرائط الوجوب بل الضمان.
قال في البسيط: ووجوب الحق في الذمة يتميز عن أدائه، وإخراجه، فوجوب الأداء متوقف على الإمكان، أما ثبوت الوجوب في الذمة فينبني على السبب وقد جرى.

(1/143)


مسألة: [الفرق بين الوجوب ووجوب الأداء]
لا فرق عندنا بين الوجوب، ووجوب الأداء، ولا معنى للوجوب بدون وجوب الأداء، فإن معناه الإتيان بالفعل المتناول للأداء والقضاء والإعادة.
وأما الحنفية فذهب بعضهم إلى أنه لا فرق بينهما في العبادات البدنية، وذهب جمهورهم إلى التفرقة. وقالوا: الوجوب شغل الذمة بالملزوم، وأنه يتوقف على الأهلية ووجود السبب، ووجوب الأداء لزوم تفريغ الذمة عن الواجب بواسطة الأداء، وأنه يتوقف على الأهلية والسبب والخطاب واستطاعة سلامة الأسباب مع توهم الاستطاعة الحقيقية، وأنها مقارنة للفعل عند أهل السنة خلافا للمعتزلة.
تنبيه :
قال القرافي: ليس كل واجب يثاب على فعله، ولا كل محرم يثاب على تركه.
أما الأول: فكنفقة الزوجات والأقارب ورد المغصوب والودائع فكلها واجبة، وإذا فعلها الإنسان غافلا عن امتثال أمر الله تعالى فيها وقعت واجبة مجزئة، ولا

(1/143)


يثاب.
وأما الثاني: فلأن المحرمات تخرج الإنسان عن عهدتها بمجرد تركها، وإن لم يشعر فضلا عن القصد إليها حتى ينوي امتثال أمر الله تعالى فيها فلا ثواب حينئذ. نعم متى اقترن قصد الامتثال في الجميع حصل الثواب. انتهى.
وظاهره تقسيم الواجب إلى ما يثاب عليه، وإلى ما ينتفي عنه الثواب، وكذا الحرام، وفيه نظر.
والتحقيق: أن الواجب هو المأمور به جزما، وشرط ترتب الثواب نية التقرب فيه. فترتب الثواب وعدمه في فعل الواجب وترك الحرام وعدمه راجع إلى وجود الثواب، وعدمه ذهول النية، لا أن الواجب والحرام منقسمان في أنفسهما.

(1/144)


مسألة: [أسماء الواجب]
من أسماء الواجب المحتوم والمكتوب والفرض، ولا فرق عندنا بين الفرض والواجب شرعا، وإن كانا مختلفين في اللغة. إذ الفرض في اللغة التقدير. ومنه فرض القاضي النفقة، والوجوب لغة قد سبق.
ومن الدليل على ترادفهما حديث: قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" 1 فلم يجعل بين الفرض والتطوع واسطة، بل الخارج عن الفرض داخل في التطوع، ووراء ذلك مذهبان:
أحدهما عن الحنفية: أن الفرض، ما ثبت بدليل قطعي كالكتاب والسنة المتواترة تشوفا منهم إلى رعاية المعنى اللغوي؛ لأن ذلك هو الذي يعلم من حاله أن الله قدره علينا.
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، حديث "46" عن طلحة بن عبد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة". فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وصيام رمضان". قال: هل علي غيره؟ قال: "لا إلا أن تطوع". وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" ورواه مسلم "1/40" حديث "11".

(1/144)


والواجب: ما ثبت بدليل ظني؛ لأنه ساقط علينا، ولا نسميه بالفرض؛ لأنا لا نعلم أن الله قدره علينا كالوتر، وزكاة الفطر، والأضحية.
وخصه أبو زيد الدبوسي بالثابت بخبر الواحد. قال: وهو كالفرض في لزوم العمل والنافلة في حق الاعتقاد حتى لا يكفر جاحده.
قال: ومن أصلنا أن الزيادة على النص نسخ، والمكتوبات معلومة بكتاب الله، فالزيادة عليها تكون بمنزلة نسخها علم تحريماتها بخبر الواحد فلذلك لم تجعل رتبتها في الوجوب رتبة الفريضة حتى لا تصير زيادة عليها.
قلنا: الفرض المقدر أعم من كونه علما أو ظنا، والواجب هو الساقط أعم من كونه علما أو ظنا، فتخصيص كل من اللفظين بأحد القسمين تحكم.
قال أصحابنا منهم الشيخ أبو حامد: ولو عكسوا القول لكان أولى؛ لأن لفظ الوجوب لا يحتمل غيره بخلاف الفرض، فإنه يحتمل معنى التقدير، والتقدير قد يكون في المندوب. فإن أرادوا إلزام غيرهم بهذا الاصطلاح لموافقة الأوضاع اللغوية فممنوع لما بينا. وإن قصدوا اصطلاحهم عليه فلا مشاحة في الاصطلاح، ولا ينكر انقسام الواجب إلى مقطوع به ومظنون فيه.
وقال ابن دقيق العيد في شرح العنوان: إن كان ما قاله راجعا إلى مجرد الاصطلاح فالأمر فيه قريب إلا أنه يجب في مثله التحرز عن استعمال اللفظ بالنسبة إلى المعنى عن اختلاط الاصطلاحين، فإنه يوقع غلطا معنويا. وأيضا فالمصطلح على شيء يحتاج إلى أمرين إذا أراد أن يكون اصطلاحه حسنا.
أحدهما : أن لا يخالف الوضع العام لغة أو عرفا.
الثاني : أنه إذا فرق بين متقارنين يبدي مناسبة للفظ كل واحد منهما بالنسبة إلى معناه، وإلا كان تخصيصه لأحد المعنيين بعينه بذلك اللفظ بعينه ليس أولى من العكس، وهذا الموضع الذي فعلته الحنفية من هذا القبيل؛ لأنهم خصوا الفرض بالمعلوم قطعا من حيث إن الواجب هو الساقط، وهذا ليس فيه مناسبة ظاهرة بالنسبة إلى كل لفظة مع معناها الذي ذكروه، ولو عكسوا الأمر لما امتنع. فالاصطلاح عليه ليس بذلك الحسن. ا هـ.
وقد نقض عليهم فإنهم جعلوا القعدة في الصلاة فرضا، ومسح ربع الرأس فرضا. ولم يثبت بقاطع.
قال القاضي: وجعلوا الوضوء من الفصد فرضا مع أنه لم يثبت بقطعي،

(1/145)


وكذلك الصلاة على من بلغ في الوقت بعدما أدى الصلاة، والعشر في الأقوات، وفيما دون خمسة أوسق.
قال إلكيا: وهذه التفرقة عندهم بالنسبة إلينا أما عند الله فهو سواء.
ثم قيل: الخلاف لفظي راجع إلى التسمية.
وقيل: بل تظهر فائدته في التكفير على تقدير الجحود فإن من جحد قطعيا كفر، أو ظنيا فلا، وليس هذا من ضروريات الفرق.
قال ابن برهان: بل هو معنوي ينبني على أن الأحكام عندنا بأسرها قطعية، وعندهم تنقسم إلى ما ثبت بقطعي وإلى ما ثبت بظني وقد سبق ما فيه. وحكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن الحنفية أن الفرض ما أجمع على وجوبه والواجب ما كان مختلفا في وجوبه.
المذهب الثاني: أن الفرض ما ثبت بنص القرآن، والواجب ما ثبت من غير وحي مصرح به. حكاه القاضي في التقريب وابن القشيري.
وألزمهم القاضي أن لا يكون شيء مما ثبت وجوبه بالسنة، كنية الصلاة، ودية الأصابع، والعاقلة فرضا، وأن يكون الإشهاد عند التبايع ونحوه من المندوبات الثابتة بالقرآن فرضا.
وفرق العسكري بينهما من جهة اللغة بأن الفرض لا يكون إلا من الله والإيجاب يكون من الله ومن غيره. يقال: فرض الله كذا وأوجب، ولا يقال: فرض السيد على عبده، وإنما يقال: أوجب، أو فرض القاضي له كذا.
وقد فرق أصحابنا بين الواجب والفرض في باب الصلاة فسموا الفرض ركنا، والواجب شرطا مع اشتراكهما في أنه لا بد منه، وفي باب الحج حيث قالوا: الواجب ما يجبر تركه بدم، والركن ما لا يجبر، وهذا ليس في الحقيقة فرقا يرجع إلى معنى تختلف الذوات بحسبه، وإنما هي أوضاع نصبت للبيان، وعبارة التنبيه تقتضي أن الفرض أعم من الواجب فإنه قال في باب فروض الحج: وذكر أركان الحج من واجباته وهي مؤولة، وحكى الرافعي عن العبادي فيمن قال: الطلاق واجب علي تطلق. أو فرض لا تطلق، وليس هذا بمناف للترادف، بل لأن العرف اقتضى ذلك، وهو أمر خارج عن مفهوم اللغة المهجور.
وقد رأيت المسألة في الزيادات وخصها بأهل العراق للعرف فيهم بذلك. قال: وهكذا جواب أصحاب أبي حنيفة.

(1/146)


مسألة: [بعض الواجبات أوجب من بعض]
قال القاضي: يجوز أن يقال: بعض الواجبات أوجب من بعض كالسنن بعضها آكد من بعض خلافا للمعتزلة؛ لأن الوجوب ينصرف عندهم إلى صفة الذات، وقال ابن القشيري: يجوز ذلك عندنا فما كان اللوم على تركه أكثر كان أوجب فالإيمان بالله أوجب من الوضوء.

(1/147)


مسألة: [ترتب الذم أو العقاب على الترك يتحقق به الوجوب]
لا يتحقق وجوب بدون ترجيح في فعله بترتب ذم أو عقاب على تركه. وقال القاضي: إذا أوجب الله شيئا وجب، وإن لم يتوعد بالعقاب على تركه، إذ الوجوب بإيجابه لا بالعقاب، بل يكفي في الوجوب الطلب الجازم.
قال الصفي الهندي: فإن أراد أن الوجوب يتحقق بدون العقاب والتوعد بناء على أن الرجحان ليس منحصرا فيها، بل قد يكون بأن يكون تركه سببا للذم، وفعله سببا للثواب فهذا حق، وإن أراد أن الوجوب قد يتحقق بمجرد الإيجاب وأن يترجح الفعل على الترك بالنسبة إلينا، ويكون مقصودا من نفي التوعد نفي المرجح لا نفي خصوصه. إذ قوله: إذ الوجوب بإيجابه مشعر به فممنوع لما مر في تعريفه الواجب.
وقال العبدري في المستوفى: إن الذي ذهب إليه القاضي إذا حقق هو مقام الصديقين المقربين من المؤمنين، والذي ذهب إليه غيره مقام الصالحين فلا تنافي بين القولين، وقال الرازي في المنتخب: تحقق العقاب على الترك ليس شرطا في الوجوب خلافا للغزالي، وهو قول القاضي.
قال القرافي: وهذا وهم على الغزالي، ولم يقل: إن العقاب لا بد منه في ترك كل الواجب بل معنى هذه المسألة أنه هل يكفي في تصور ماهية الوجوب الطلب الجازم الذي لم يخطر ببال الطالب الإذن بالترك كما في دعائنا لله تعالى؟ أو يقال: الوجوب مركب من رجحان الفعل مع قيد المؤاخذة على الترك إما الذم أو غيره. هذا هو محل النزاع. وقال الهندي: هذا النقل عن الغزالي سهو من الإمام؛ لأن الغزالي نفى الوجوب عند نفي الترجيح مطلقا لا عند نفي العقاب.

(1/147)


فصل: [انقسام الواجب]
الواجب ينقسم بحسب فاعله إلى: واجب على العين، وواجب على الكفاية: وبحسب ذاته إلى واجب معين، وواجب مخير، وبحسب وقته إلى واجب مضيق وواجب موسع، ويجب فعله في وقته، وبعد ذلك إلى أداء وقضاء. فنقول:

(1/148)


مسألة: الواجب المخير
إيجاب شيء مبهم من أشياء محصورة، كخصال الكفارة، وجزاء الصيد، وفدية الأذى جائز عقلا. خلافا لبعض المعتزلة حيث ذهب إلى امتناعه عقلا زاعما لزوم اجتماع النقيضين؛ لتناقض الوجوب والتخيير جهلا منهم بالفرق بين ما هو واجب، وما هو مخير على ما سيأتي تحقيقه.
وإذا قلنا بجوازه فهو يقتضي وجوب واحد منها لا بعينه، وأي واحد منها فعل، سقط الفرض؛ لاشتماله على الواجب، لا أنه واجب، ولا يوصف الجميع بالوجوب هذا هو الصحيح عندنا، كما قاله القاضي أبو الحسين بن القطان وغيره، ونقله الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن مذهب الفقهاء كافة، والقاضي أبو بكر عن إجماع سلف الأمة.
قال ابن القشيري: ونعني بهذا أن ما من واحد إلا ويتعلق به براءة الذمة، ولسنا نعني أن الواجب واحد معين في حكم الله ملتبس علينا، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وحكي عن عبد الجبار أيضا.
والثاني : وبه قال المعتزلة: الكل واجب ثم منهم من يقتصر عليه ومنهم من زاد.
وقال: الكل واجب على التخيير والبدل، وإذا فعل بعضها سقط به وجوب باقيها، وحكاه القاضي عن الجبائي وابنه وبعض أصحابه وبعض الفقهاء.
قال صاحب المصادر: واختاره الشريف المرتضى.
قال الباجي: واختاره ابن خويز منداد من مالكية العراق. قال: وإليه ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة.

(1/148)


والثالث : أن الواجب واحد معين عند الله غير معين عند المكلف، لكن علم الله أنه لا يختار إلا فعل ما هو واجب عليه، واختياره معرف، لنا أنه الواجب في حقه، وعلى هذا فيختلف بالنسبة إلى المكلفين. حكاه ابن القطان مع جلالته.
وقال في المحصول: إن أصحابنا ينسبونه إلى المعتزلة، والمعتزلة إلى أصحابنا، واتفق الفريقان على فساده، ولذلك قال صاحب المصادر: لو ذهب ذاهب إلى أن الواجب فيها واحد معين عند الله غير معين عندنا كان خلافا من جهة المعنى، وجرى مجرى تكليف ما لا يطاق. هذا مما لا يذهب إليه أحد. انتهى، وقد علمت فساده.
والرابع : أن الواجب واحد معين عند الله تعالى لا يختلف، فإن فعله المكلف فذاك، وإلا وقع نفلا وسقط الواجب به، وعلى الأول وهو قول الأصحاب، فهل يتعين بفعل المكلف أو باختياره؟ وجهان:
والأول : حكاه أبو الخطاب الحنبلي في تمهيده وابن السمعاني في القواطع، وأغرب فنسبه إلى الأصحاب.
وقال الباجي: إنه قول معظم أصحاب مالك.
والثاني : حكاه أبو يوسف في الواضح، فقال: ذهب الفقهاء إلى أن المأمور به واحد، ويتعين باختيار المكلف، فكأنهم قالوا: إن الواجب ما في علم الله أن المكلف يختاره.
قيل: ويلزم عليه أن المكلف إذا مات قبل الفعل ولم يفعله عنه غيره أن لا وجوب، وهو خلاف الإجماع.
ويجيء قول آخر وهو الوقف، فإن فعل واحدا منها فهو الواجب، كما قال أبو إسحاق المروزي: إن مالك النصاب يتخير بين إخراج الزكاة من عين المال ومن غيره، فإذا أخرجها من عين المال تبين أن الوجوب تعلق بالعين، وإن أخرجها من غيرها تبينا أنها لم تجب في العين.
ويجيء قول آخر: إنه إذا كان أحد الخصال أدون كان هو الواجب، فإن فعل الأكمل سقط به، وهذا كما في زكاة البقر، فإن خبر معاذ دل على أن الواجب في ثلاثين تبيع أو تبيعة.
ونص الشافعي في المختصر والأصحاب أن الواجب التبيع، وأنه إذا أخرج التبيعة كان أولى، وأسقط الواجب، ويكون متطوعا بالزيادة إلا أن يقال: سبب ذلك قيام الإجماع على أن الواجب في الثلاثين تبيع.

(1/149)


إذا علمت هذا فالكلام بعده في مواضع.
أحدها : تحقيق موضع الخلاف.
الثاني : هل هو معنوي أو لفظي؟.
الثالث : في كيفية الثواب والعقاب بالنسبة إلى الجميع أو البعض.
الرابع : في شروط التخيير.
[تحقيق موضع الخلاف]:
أما الأول: وهو تحقيق موضع الخلاف وتحرير معنى الإبهام، فأما عندنا فالواجب أحد الخصال، ولا تخيير فيه، وتخيير المكلف إنما هو في تعيين الواجب للوجود لا للوجوب، فإن الجهة الشخصية لا يتعلق بها وجوب، ولهذا قال الشافعي: في المئتين من الإبل يتخير بين الأربع حقاق وخمس بنات لبون؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نطق بالتخيير، فقال: "فإذا بلغت مئتين ففيها أربع حقاق. أو خمس بنات لبون" 1 فأوجب أحدهما وخير في تعيين الواجب.
وقال ابن الحاجب: متعلق الوجوب هو القدر المشترك بين الخصال، ولا تخيير فيه، ومتعلق التخيير خصوصيات الخصال ولا وجوب فيها.
وقال الأصفهاني شارح المحصول: لا نقول في الواجب المخير هو القدر المشترك، بل الواجب هو حصة منه يصدق عليها القدر المشترك. ولا سبيل إلى القول بإيجاب المشترك، ويكون من صور التخيير بين الخصال الثلاث بأنه واحد، ولا يتصور التخيير في الواحد.
وأما على قول المعتزلة: يجب الجميع على التخيير، فظاهره متناقض في نفسه، إذ معنى وجوب الجميع أنه لا يبرأ إلا بفعلها، ومقتضى التخيير أن يبرأ بفعل أيها شاء، ولا يجتمعان، وإنما مرادهم بوجوب الجميع: أنه لا يجوز ترك الجميع، وهو صحيح لكن لا يلزم منه وجوب فعل الجميع، أو وجوب الجميع على البدل لا على الجمع بمعنى إن لم
ـــــــ
1 حديث صحيح: رواه أبو داود "2/98" كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، حديث "1568"، ورواه الترمذي "3/17" حديث "621" وقال: حديث حسن، وابن ماجه "1/573". حديث "1798". والحديث صححه الشيخ الألباني.
والحقاق: جمع حقه، وهي أنثى الإبل التي دخلت في السنة الرابعة. وبنات اللبون: هل الإبل التي دخل في السنة الثالثة.

(1/150)


يفعل هذا فعل هذا، وهو مذهب الجمهور.
وكان الغلط في هذه المسألة: إما من المعتزلة حيث ظنوا أن الوجوب مع التخيير لا يجتمعان، أو من الناقلين عنهم بأن وافقوهم على عبارة موهمة، والذي نقله القاضي عبد الوهاب في كتاب الإفادة عنهم: أن الجميع واجب على البدل.
وقد حرر بعض المتأخرين ذلك فقال: القدر المشترك يقال على المتواطئ، كالرجل ولا إبهام فيه، وأن حقيقته معلومة متميزة عن غيرها من الحقائق ويقال على المبهم بين شيئين أو أشياء، كأحد الرجلين.
والفرق بينهما: أن الأول لم يقصد فيه إلا الحقيقة التي هي مسمى الرجولية. والثاني فيه أحد الشخصين بعينه، وإن لم يعين، ولذلك يسمى مبهما؛ لأنه انبهم علينا أمره، والأول لم يقل أحد: إن الوجوب يتعلق بخصوصياته كالأمر بالإعتاق، فإن مسمى الإعتاق ومسمى الرقبة متواطئ كالرجل. فلا تعلق للأمر بالخصوصيات لا على التعيين، ولا على التخيير. فلا يقال فيه: واجب مخير، ولا يتأتى فيه الخلاف الذي في المخير، وأكثر أوامر الشريعة من ذلك. والثاني متعلق الخصوصيات فلذلك وقع الخلاف فيه وسمي الواجب المخير.
قال: وبهذا تبين أن تزويج أحد الخاطبين، وإعتاق واحد من الجنس اللذين ذكرهما ابن الحاجب، وكذا نصب أحد المستعدين للإمامة إذا شغر الوقت عن إمام. الذي ذكره البيضاوي ليس مما نحن فيه؛ لأنه مما يتعلق الوجوب فيه بالقدر المشترك من غير نظر إلى الخصوصيات، وإنما مثاله أهل الشورى الذين جعل عمر الأمر فيهم؛ لتعلق الأمر بأعيانهم.
وقال العبدري في المستوفى: الخلاف في هذه المسألة إنما وقع من جهة الإجمال الذي في اللفظ، فإنه يحتمل أن يكون المراد المخير فيه، وأن يكون المراد المخير في أنواعه إن كان ذا أنواع، وفي أشخاصه إن كان ذا أشخاص.
فيقال: لا شك إن أردت المخير فيه فالعين واحد لا يصح التخيير فيها، وإن أردت التخيير في أنواعه وأشخاصه، فأنواع الشيء الواحد بالجنس وأشخاصه يصح التخيير فيها، وبه ينقطع النزاع ويرتفع الخلاف.
قلت: والصواب: أن الخلاف بين الفريقين محقق، فإن الذي يقتضيه كلام الفقهاء أن الواجب كل خصلة على تقدير عدم الأخرى، وبه يفترق الحال بينه وبين إعتاق رقبة من الجنس، والذي تقتضيه قواعد المعتزلة: أن الواجب القدر المشترك بين

(1/151)


الخصال، وهذان معنيان متغايران يمكن أن يذهب لكل منهما قائل.
وظهر بذلك أن قول المعتزلة أولى أن يسمى إبهاما، والفقهاء أولى أن يسمى كل واحد، والمعتزلة إنما قصدوا الفرار من قولنا: أحدها واجب لعدم جواز التخيير بين الواجب وغيره. وأصحابنا لا يراعون الحسن والقبح، ويجوزون التخيير بين ما فيه مصلحة وما لا مصلحة فيه، ومع ذلك جعلوا الواجب مبهما. فإذا نظرنا إلى مجرد ذلك لم يكن فرق في المعنى.
تنبيه :
لا يخفى تخصيص الخلاف بما إذا كان كل منهما مطلوبا. أما إذا كان المطلوب في الحقيقة أحدها، ولم يقصد بالتخيير ظاهره بل التهديد، فالواجب من ذلك واحد قطعا.
ومثاله: قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ونحو هذا {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] وغير ذلك، ولم أر من تعرض له.
[هل الخلاف لفظي أو معنوي؟].
وأما الثاني: وهو أنه هل الخلاف لفظي أو معنوي؟ اختلف في ذلك، فقال القاضي والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين: إنه لفظي، واختاره ابن القشيري، وابن برهان في الأوسط، وابن السمعاني في القواطع، وسليم الرازي في التقريب، وأبو الحسين البصري في المعتمد، والإمام الرازي في المحصول. قالوا: لا خلاف بين الفريقين لاتفاق الكل على أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها، ولا يجوز تركه كذلك، وأنه إذا أتي بواحد منها كفى ذلك في سقوط التكليف.
ولكن مراد المعتزلة أن ما من واحد يفعل إلا يقع واجبا، وإليه أشار عبد الجبار في العمدة، ولهذا لم يصحح الإمام النقل عن أبي هاشم، وليس كما زعم، فقد حكاه صاحب المعتمد وهو القدوة عندهم، وأصوله تقتضي ما نقل عنه، وأن الوجوب عنده يتبع الحسن الخاص. فيجب عند التخيير استواء الجميع في الحسن الخاص، وإلا وقع التخيير بين الحسن وغيره.
وقال صاحب الواضح: قد أعيت هذه المسألة العلماء من قبل ومن بعد فما أحد تصور الخلاف فيها.

(1/152)


وفي الجملة فلا خلاف أن المكلف لا يجب عليه أن يأتي بها كلها، ولا أنه لا يجوز الإخلال في الجميع، ولا أنه إذا أتى بشيء منها أجزأه، ولا أنه لا يقع التخيير بين واجب وغيره من مباح أو ندب، وحينئذ فلا أعرف موضع الخلاف، وكذا قال صاحب المصادر: قد دارت رءوس المختلفين في هذه المسألة وأعيتهم، ولا فائدة لها معنوية للاتفاق على ما ذكر. ا هـ.
وقال القاضي أبو الطيب الطبري: بل الخلاف في المعنى؛ لأنا نخطئهم في إطلاق اسم الوجوب على الجميع؛ لإجماع المسلمين على أن الواجب في الكفارة أحد الأمور.
وقال الأصفهاني: الذي يظهر من كلام الغزالي وابن فورك أن الخلاف معنوي وهو اختيار الآمدي وابن التلمساني، وعبارة بعضهم تدل عليه. فإنه قال: الأمر بواحد من الأشياء يقتضي واحدا من حيث هو أحدها.
وقال بعض المعتزلة أيضا: الواجب منها واحد معين عند الله وإن وقع غيره وقع نفلا وسقط به الواجب، ومنهم من قال: الواجب [أحدها] ولكن على البدل.
وإذا تقرر ما ذكر من الفرق بين أن تراد مع القدر المشترك الخصوصيات أو لا، أمكن أن يقال في خصال الكفارة: احتمالان:
أحدهما : أن يكون الواجب القدر المشترك بين الخصال.
والثاني : أن كل خصلة واجبة على تقدير أن لا يفعل غيرها. والأوفق لقواعد المعتزلة الأول، وهو تعلق الوجوب بالقدر المشترك لا غير حتى يكون هو الموصوف بالحسن.
والأوفق لقواعدنا أن يصح ذلك وغيره، ويظهر أثرها فيما لو فعل خصلة، فعلى هذا هو الواجب، وعلى الأول ينبغي أن يقال: الواجب تأدى بها لا أنها هي الواجب.
وقال الهندي: الصواب أن الخلاف معنوي، ويظهر له فوائد في الخارج:
إحداها : أنه إذا فعل خصلة يقال على ما اخترناه: إنها الواجب، وعلى المعنى الآخر يتأدى بها الواجب.
الثانية : إذا فعل الجميع معا يثاب على الجميع ثواب الواجب؛ لأن كل واحدة لم يسبقها غيرها، وعلى رأيهم يثاب على واحدة فقط، كذا نقل الإمام في البرهان والآمدي عنهم وكأنهم يعنون ثواب الواجب.
الثالثة : إذا ترك الجميع، وقلنا: للإمام المطالبة بالكفارات أجبر على فعل

(1/153)


واحد منها من غير تعيين على رأينا، كما نقول: القاضي يكره المولي على أحد الأمرين من الفيئة أو الطلاق، وأما على رأيهم فينبغي أن يجبره على واحد بعينه هذا ما ظهر لي، ولم أره منقولا.
الرابعة : مات وعليه الكفارة المخيرة ولم يوص بإخراجها، وعدل الوارث عن أعلى الأمور أي العتق، فوجهان. أصحهما: الجواز.
قال الماوردي: ويشبه أن يكونا مخرجين من الخلاف المذكور إن قلنا: إن الجميع واجب فله إسقاط الوجوب بإخراج واحد، وإن قلنا: أحدها لا بعينه لم يجزئ؛ لأنه لم يتعين في الوجوب، وهذا فيه نظر، فقد يقال بمثله عند فعل أدناها إذا لم يتعين أيضا، وإن كان وجه عدم الإجزاء عدم التعيين لم يختص بالعتق، وإن كان العدول إلى الأعلى مع إمكان براءة الذمة بالأدنى فهذا مأخذ غير ما نحن فيه.
وأيضا التصرف عن الميت لا ضرورة به إلى فعل ما لا إثم في تركه، وإن وصفناه بالوجوب.
الخامسة : لو أوصى في الكفارة المخيرة بخصلة معينة وكانت قيمتها تزيد على قيمة الخصلتين الباقيتين، فهل يعتبر من رأس المال؟ فيه وجهان. أحدهما: نعم؛ لأنه تأدية واجب، وهذا هو قياس كون الواجب أحدها. وأصحهما: اعتباره من الثلث؛ لأنه غير متحتم، وتحصل البراءة بدونه، وهما مبنيان على هذا الخلاف. فإن قلنا: الكل واجب فالجميع من رأس المال، وإن قلنا: الواجب مبهم فالزائد من الثلث ويطرقه النظر السابق.
السادسة : حلف لا مال له، وقد جنى جناية موجبة للقصاص، فإن قلنا: الواجب القصاص عينا لم يحنث، وإن قلنا: الواجب أحدهما لا بعينه حنث، كما قاله الرافعي وتوقف فيه.
السابعة : لو جنى على المفلس أو على عبده، وقلنا: الواجب أحد الأمرين وأن في المخير يجب الجميع، فليس له القصاص، وإن قلنا: بالآخر كان له.
الثامنة : إذا طلق إحدى امرأتيه أو أعتق أحد عبديه، إن قلنا الواجب مبهم، فالطلاق وقع مبهما، فلا يقع إلا عند التعيين، وإن قلنا: وقع على كل واحدة فمن حين اللفظ وهو الصحيح.
التاسعة : تيمم قبل الاستنجاء لا يجزئه على الأصح؛ لأنه مأمور بأحد الأمرين، الحجر أو الماء، ويجب عليه لأجل وجوب الماء الطلب، فيبطل تيممه، إذ

(1/154)


لا تيمم مع وجوب الطلب.
[كيفية الثواب والعقاب]:
وأما الثالث: فقال القاضي: من حجج أصحابنا قولهم: إنه لو أقدم على الخصال الثلاث في الكفارة معا، ويتصور ذلك بأن ينصب في تأديتها وكلاء، فتتفق أفعالهم في وقت واحد، فقد قالوا: أجمع أنها إذا وقعت فالواجب منها واحد.
وانفصل أبو هاشم عن هذا بناء على أصله بأن ما اتصف بالوجود لا يتصف بالوجوب، فإن الوجوب من أحكام التكليف، ولا يتعلق التكليف بالشيء مع حدوثه، وإنما يتعلق به قبل حدوثه؛ لأن القدرة قبيل الاستطاعة عنده.
ورده القاضي بأنه لو لم يصفها بالوجوب عند الوجود فنقول: في كل ما وجب قبل حدوثه إذا حدث أنه كان واجبا، وإذا وجدت الخصال الثلاث في الكفارة فلا يمكن أن يقول: كلها واجبة حتى يثاب على كل واحد منها ثواب الواجب. وما نقله القاضي عن أصحابنا من أن الواجب واحد إذا أتي بالجميع منتقد، فقد قال ابن برهان في الأوسط: عندنا أنه إذا فعل الجميع أثيب ثواب أعلاها، فإن امتنع من الكل أثم بترك أدناها.
وقال القاضي أبو الطيب محققا لذلك: يأثم بمقدار عقاب أدناها، لا أنه نفس عقاب أدناها.
وقال ابن السمعاني في القواطع نحوه، فقال: قال أصحابنا: إذا فعل الجميع فالواجب أعلاها؛ لأنه يثاب على جميعها، وثواب الواجب أكثر من ثواب الندب، فانصرف الواجب إلى أعلاها؛ ليكثر ثوابه، وإن ترك الجميع عوقب على أدناها ليقل وباله ووزره؛ لأن الوجوب سقط بفعل الأدنى. انتهى.
وظن بعضهم تفرد ابن السمعاني بذلك، وقال: إنما هذا قول القاضي أبي بكر. قلت: وقد سبق موافقة ابن برهان له والقاضي أبي الطيب.
وقاله ابن التلمساني في شرح المعالم: فقال: إذا أتى بالخصال معا فإنه يثاب على كل واحد منها لكن ثواب الواجب أكثر من ثواب التطوع، ولا يحصل إلا على واحد فقط، وهو أعلاها إن تفاوتت؛ لأنه لو اقتصر عليه لحصل له ذلك، فإضافة غيره إليه لا تنقصه، وإن تساوت فإلى أحدها، وإن ترك الجميع عوقب على أقلها؛ لأنه لو اقتصر عليه لأجزأه.

(1/155)


قلت: وهذا نظير القول المحكي في الصلاة المعادة أن الفرض أكملها، والقول بأنه إحداهما لا بعينها، والله يحتسب ما شاء منهما نظير القول الذي حكاه القاضي أولا عن أصحابنا، وحكوا هناك وجها: أن كليهما فرض، ولم يقولوا به هنا، لئلا يؤدي إلى قول المعتزلة.
وحكى القاضي قولا ثالثا: أن الذي يقع واجبا هو العتق، فإنه أعظم ثوابا؛ لأنه أنفع وأشق على النفوس، ورد عليه بأنه قد لا يكون كذلك.
وقد يجيء فيما سبق قول رابع: أنه لا يثاب ويعاقب إلا على أحدها؛ لأنه الواجب لا بعينه.
ويجيء خامس: أنه يثاب ثواب الواجب على أدناها؛ لأنه لو اقتصر عليه أجزأه، وعلى الثاني ثواب التطوع.
وهذا هو ظاهر نص الشافعي فيما نقله المتولي في كتاب النذر فيما إذا التزم في اللجاج، فقال: وإن كان الملتزم من جنس ما يجزئ في الكفارة، فإن اقتصر على القدر المأمور به في الكفارة أجزأه، وإن وفى بما قال كانت الزيادة عليه تطوعا. نص عليه. ا هـ.
وقال أبو الحسين في المعتمد: قال شيوخنا: يستحق الذم والعقاب على أدونها عقابا؛ لأنه لو فعله لم يعاقب.
قال: لكنه يستحق ذلك على الإخلال بأجمعها لا بواحد منها.
قالوا: وإذا فعلها استحق ثواب الواجب على أعظمها؛ لأنه لو فعله وحده لكان واجبا، ولا يستحق عليه ذلك الثواب.
وقال صاحب "المصادر": إذا ترك الكل استحق مقدارا واحدا من العقاب على ترك الكل بمعنى أنه ترك ثلاث واجبات عليه على التخيير، ولا يصح أن يقال: يعاقب على أدناها؛ لأنه إذا ترك الكل يضاعف عذابه، فلا يكون هناك مقادير من العقاب بعضها أعلى وبعضها أدنى بخلاف ما إذا جمع بين الكل؛ لأن هناك يتضاعف الثواب، فيستحق على كل واحد ثوابا، فيصح أن يقال: يثاب على أعلاها.
وقال المازري: إذا فعل الجميع، فاختلف في الذي يتعلق به الوجوب منها، فقيل: أعلاها، وهو رأي القاضي أبي بكر، وأشار عبد الجليل إلى مناقشة في هذا، فقال القاضي: يقول: إن جمع بينهما في الترك ينطلق الإثم بأدناها، فيجب عليه أن يقول: إذا جمع بينهما في الفعل تعلق الوجوب أيضا بأدناها، ومنهم من قال: الوجوب

(1/156)


يتعلق بواحد لا بعينه. انتهى.
وما ناقض فيه عبد الجليل مردود، فقد سبق في كلام ابن السمعاني توجيه الفرق.
تنبيهان: [التنبيه] الأول
قال في المحصول: إنه يستحب الجمع بين خصال الكفارة. ويشهد له استحباب إعادة الصلاة لمن صلاها بل أولى؛ لأن.
[التنبيه] الثاني:
هذا كله إذا فعل الكل في وقت واحد، فلو أتى بالكفارة المخيرة على الترتيب، فقال الباجي وغيره: الأول هو الواجب، وقد يقال: لا تقع الثانية عن الكفارة، وقد يقال: بالوقوع كمن صلى على الجنازة ثانيا، وقد يقال باحتمال ثالث: إنها إن اقترنت بمعنى يقتضي الطلب وقعت عن الكفارة، ثم هل تكون واجبة؟ يمكن تخريجه على الصلاة المعادة، وفيها أربعة أوجه.

(1/157)


[شروط التخيير]
وأما الرابع: وهو شروط التخيير، وقد ذكروا له شروطا:
أحدها : أن يتعلق بما يصح اكتسابه.
الثاني : أن تتساوى الأشياء في الرتبة من جهة التخيير في الوجوب والندب والإباحة، وسواء كانت متضادة أو مختلفة، فلا يجوز التخيير بين قبيح ومباح، ولا بين واجب ومندوب، وإلا لانقلب أحدهما الآخر، ولا بين حرام وواجب فإن التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع التحريم، والتخيير بين الواجب وتركه يرفع الوجوب.
ولهذا إذا تعارض دليلان عند المجتهد بهذه المثابة تساقطا وامتنع التخيير.
ولهذا أيضا ردوا على داود استدلاله على وجوب النكاح بقوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]؛ لأن قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] تخيير بين النكاح وبين ملك اليمين.
والثاني: لا يجب إجماعا، فلذلك ما خير بينه وبينه.

(1/157)


وقد استشكل على ذلك قضية تخييره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بين الخمر واللبن1، فأجيب بأن المراد تفويض الأمر في تحريم ما يحرم، وتحليل ما يحل إلى اجتهاده صلى الله عليه وسلم وسداد نظره المعصوم، فلما نظر فيهما أداه اجتهاده إلى تحريم الخمر وتحليل اللبن، فوافق الصواب.
قلت: وأصل السؤال غير وارد، إذ لا نسلم أن التخيير وقع بين مباح وحرام، إذ تلك الخمرة من الجنة، لا يقال: لو كان كذلك لم يجتنبها؛ لأنا نقول: لما شابهت الخمرة المحرمة تجنبها، وذلك أبلغ في الورع وأدق سلمنا. إلا أن الخمر كانت حينئذ مباحة؛ لأنها إنما حرمت بالمدينة بلا خلاف، والإسراء كان بمكة.
فإن قلت: قول جبريل عليه الصلاة والسلام له حين اختار اللبن: أصبت يدل على أن اختيار الخمر خطأ عصم منه صلى الله عليه وسلم. قلت: يؤنس فيها بالتحريم المستقبل.
وهنا أمران:
أحدهما : أن الغزالي في "المستصفى"2 عند الكلام في تعارض الأدلة أشار إلى احتمال بالتخيير، وإن لم يتساويا في الرتبة؛ لأن الوجوب إنما يناقض جواز الترك مطلقا، أما جوازه بشرط فلا. بدليل: أن الحج واجب على التراخي، وإذا أخر ثم مات قبل الأداء لم يعص إذا أخر مع العزم على الامتثال، فظهر أن تركه بشرط العزم لا يناقض الوجوب، بل المسافر يخير بين أن يصلي أربعا فرضا، وبين أن يترك ركعتين واجبتين، ويجوز تركهما، ولكن بشرط قصد الترخص.
ثانيهما : لا يرد على هذا الشرط التخيير بين خصال الكفارة بأنها مخير فيها، وليس الجميع بواجب؛ لأنا نقول المراد أنه ما من واحدة يمكن الإقدام عليها إلا وتقع واجبا. قال القاضي: وهذا مرادنا بالتساوي.
الثالث : أن تكون متميزة للمكلف فلا يجوز التخيير بين متساويين من جميع
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث 162" وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه. قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس. قال: فربطه بالحلقة التي يربط به الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء ..." الحديث .. والحديث رواه البخاري أيضا، برقم "149"، "3207"، "3342".
2 انظر المستصفى ص "366".

(1/158)


الوجوه لا يتخصص أحدهما عن الآخر بوصف، كما لو خير بين أن يصلي أربع ركعات، وبين أن يصلي أربع ركعات مع تساويهما في كل النعوت. هذا مما لا يدرك في حكم التكليف، وإن كان المتماثلان متغايرين كما أن المختلفين متغايران.
الرابع : أن تكون معلومة للمخاطب.
الخامس : أن يكون وقتها واحدا بأن يتأتى الإتيان بكل واحد منهما في وقت واحد بدلا عن أغيارها، فلو ذكر للمخاطب فعلان مؤقتان بوقتين فلا يكون ذلك تخيرا، فإنه في وقت الإمكان لا يتمكن من الفعل الثاني ليتنجز، وفي الثاني لا يتمكن من الأول فلا يتحقق وصف التخيير أصلا، وإنما يتحقق ذلك في وصفين يجوز ثبوت أحدهما بدلا عن الثاني مع تقدير اتحاد الوقت.
هكذا شرطه القاضي، وبناه على أصله في وجوب العزم بدلا عن الفعل، ونازعه ابن القشيري وغيره في هذا الشرط، فإنه لو قال: خط هذا القميص يوم السبت، أو هذا القباء يوم الأحد كان تخييرا صحيحا، وقد ورد الشرع به في الصوم في السفر، وقد يقع التخيير بين الضدين، كقم أو اقعد، أو خلافين، كخصال الكفارة وجزاء الصيد، أو مثلين كصل ركعتين غدا أو بعد غد، وزعم المازري أنه لا يرد التكليف إلا على القول بتكليف ما لا يطاق، وفيه نظر.
السادس : أن يكون أحدهما معلقا بشرط، وبهذا يرد على الرافعي وصاحب الحاوي الصغير حيث جعلا غسل الرجلين أو المسح على الخف من الواجب المخير، فإنه لا يمتنع التخيير بينهما في حالة واحدة، كالعتق والإطعام مثلا. بل مسح الخف لا يجوز إلا بشروط، وإذا لبسه بشرطه فلا يتصور مع دوام اللبس التخيير بل واجبه المسح، فإن نزع فالغسل؛ ولأن غسل الرجل لا يكون إلا عند فوات جواز المسح على الخف إلا أن يقال: إن الرجل تغسل وهي في الخف.
تنبيه: [منع التخيير بين الشيء وبعضه]
منع بعض الفقهاء المتأخرين التخيير بين الشيء وبعضه.
قال ابن الرفعة: وهو ممنوع بدليل أن المسافر مخير بين إتمام الصلاة وقصرها، ومن لا جمعة عليه مخير بين صلاة الجمعة ركعتين وبين صلاة الظهر أربعا، وهو مخير بين الشيء وبعضه.

(1/159)


فروع
إذا خير العبد بين الأشياء فما علم الله وقوعه منه فهو مراده منه، فالإرادة مع العلم في قرن قاله ابن القشيري بناء على أن أصلنا في أنه لا يقع شيء إلا بإرادة الله.
وأما المعتزلة فعندهم هم إذا خير بين الأشياء وكل واحد منها مراد لله تعالى، فلو أتى بالجميع أثيب على الجميع، وما كان حسنا كان مرادا لله تعالى، وإن خير بين شيئين يحرم الجمع بينهما كالتزويج بين الأكفاء، ونصب الأئمة، فواحد مراد، والجمع مكروه.

(1/160)


مسألة: تعيين خصلة من خصال الكفارة
...
مسألتان
إحداهما: [تعيين خصلة من خصال الكفارة]
إذا عين المكلف خصلة من الخصال هل تتعين بالتعيين؟ ينبغي أن يجيء فيه خلاف من الخلاف السابق فيما إذا أوصى بالعتق في الكفارة المخيرة، هل يعتبر من رأس المال أو من الثلث؟ ثم رأيت في تعليق القاضي الحسين في باب النذر أنه لا يتعين خصلة بالنذر، لما فيه من تغيير إيجاب الله تعالى.

(1/160)


مسألة: الشروع بخصلة هل يعينها؟
...
المسألة الثانية: [الشروع بخصلة هل يعينها؟]
لو شرع في خصلة هل تتعين بالشروع حتى لو تركها ثم أراد فعل غيرها لا يجزئه اعتبار العارض أو لا تتعين استصحابا للثابت؟ لم أر فيها أيضا تصريحا.
تذنيب:
إذا أوجب الشارع واحدا من أمور متعددة متساوية وأمكن التلفيق، فهل الواجب واحد منها مبهم أو الواجب من كل واحد جزء؟.
لم أر للأصوليين فيها كلاما، ويخرج من كلام أصحابنا في الفروع فيها وجهان، فإن الواجب شاة في أربعين شاة.
واختلفوا هل الواجب مثلا جزء من كل حيوان، أو حيوان مبهم؟ فيه وجهان وفرعوا عليه ما إذا باع الجميع، فإن قلنا بالأول خرج على تفريق الصفقة، أو

(1/160)


تتمة: [وجوب الأشياء قد يكون على التخيير]
وجوب الأشياء على المكلف قد يكون على التخيير، وقد يكون على الترتيب. أما الأول: فقد يكون الجمع بينهما حراما، كالتزويج من الكفأين، وقد يكون مباحا، كستر العورة بثوب بعد ثوب، وقد يكون ندبا، كخصال الكفارة، كذا قاله في المحصول وفي الأول نظر؛ لأنه من باب القدر المشترك لا من المخير، نعم نظيره لو قال: أعتق أحد هذين العبدين. وكذا تمثيله الثاني بستر العورة؛ لأنه أيضا من القدر المشترك، وينبغي أن يتقيد بثوب زائد على الثياب المسومة، وأيضا فالمباح لبس الثاني، ثم الزائد ليس بساتر للعورة، وحكمه بالندب على الثالث يحتاج إلى دليل، ولم نر من صرح به.
وقد يستدل بالاحتياط له وبالقياس على تعداد الرقاب فيمن عليه عتق رقبة، ويستدل لهذا بأن عائشة رضي الله عنها حين كلمت ابن الزبير، وكانت نذرت ترك كلامه أعتقت رقابا كثيرة.
ولعل مراد الإمام أن الجمع قبل فعله غير مطلوب، بل إذا فعله بعد فعل غيره يقع مستحبا بناء على ثواب الندب كالنافلة المطلقة، ويشهد له تمثيلهم للمخير المباح بستر العورة بثوب بعد آخر، وأحسن من هذا أن يمثل له بالجمع بين الماء والحجر في الاستنجاء.
وأما الثاني: فقد يكون الجمع حراما كالمضطر الواجد مذكاة وميتة كذا مثله في المحصول، وفيه نظر؛ لأن الحرام إنما هو أكل الميتة، إذ لا تدخل المذكاة في الحرمة، وتحريم الجمع إنما يكون لعلة دائرة بين المفردين.
وقد يكون مباحا، ومثله في المحصول بالوضوء والتيمم وغلط؛ لأن التيمم يختص بحال العجز. وصوره بعضهم بما إذا خاف من استعمال الماء لمرض ولم ينته خوفه إلى القطع أو الظن بالضرر المانع من جواز استعمال الماء، فإنه مباح له التيمم، لأجل الخوف، ولا يمتنع الوضوء لعدم تحقق الضرر، فإذا توضأ بعد التيمم جاز، ثم خدش فيه بأنه إذا توضأ بطل التيمم؛ لأنه طهارة ضرورة، ولا ضرورة هنا.
قلت: وفيه نظر، فإنه لا يمتنع اجتماع ذلك، إذ المبيح قائم، ويمكن تصويره بصور:

(1/162)


أحدها: إذا وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل، فإنه يباح له التيمم، فلو تيمم، ثم قبل الدخول في الصلاة، أراد أن يتبرع بشراء الماء والوضوء به جاز. الثانية: لو كان معه ماء يحتاج إليه لعطش، ولو توضأ به لاحتاج إلى شرائه بأكثر من ثمن مثله، فإنه يتخير بين أن يستعمل ما معه في الوضوء ويشتري الماء للشرب، وبين أن يتيمم أولا ثم يتوضأ به، وإنما قلنا بصحة التيمم في هذه الحالة، ولم نوجب عليه استعمال ما معه وشراء الماء للشرب؛ لأن الماء إذا ارتفع سعره ينزل منزلة العدم، وحاجته إلى الشرب مقدمة على الوضوء بالماء الذي معه.
فإن قيل: إذا توضأ بطل التيمم إذ لا يصح التيمم مع وجود الماء. قلنا: لا نسلم بطلانه بل التيمم المتقدم لا يبطله الوضوء بعده؛ لأنه إدخال عبادة على أخرى وهما لا يتنافيان.
وأما قولهم: التيمم لا يصح مع وجود الماء، فالمراد به الماء الذي يجب استعماله. أما ما يجوز استعماله معه كهذه الصور التي صورناها فلا.
ويتصور اجتماعهما أيضا مع تأخر التيمم في صور:
إحداها : إذا وجد ماء للوضوء، ثم لم يوجد ماء يغتسل به للجمعة فإنه يتيمم عن الغسل، ومثله مريد الإحرام، والمراد بالإباحة: جواز الفعل.
الثانية : لو توضأ وصلى وأراد التجديد فلم يجد ماء، فإنه يتيمم عوضا عن تجديد الوضوء، كما يتيمم للغسل عن الجمعة. هذا هو الذي يقتضيه الفقه.
الثالثة : ما ذكره ابن سريج في كتاب الودائع في الماء المختلف في طهوريته، كالماء المستعمل والنبيذ الذي يجوز أبو حنيفة الطهارة به أنه يتوضأ به، ثم يتيمم خروجا من الخلاف.
الرابعة : الرائد للجمعة إذا وجد ما لا يكفيه للغسل، ويكفيه للوضوء توضأ به وتيمم، وكذلك مريد الإحرام. كل التيمم هاهنا عن الغسل، وهذه صورة الجمع بينهما في الدوام، ولم يذكر صورة ما يجب فيه الجمع بين التيمم والوضوء، وذلك إذا كان بعضوه جراحة فإنه يتوضأ ويتيمم عن الجريح.
واعلم أن الإمام سكت في هذا القسم عن المكروه الجمع، والواجب الجمع، فأما وجوب الجمع مع الترتيب فلا يمكن، وأما المكروه الجمع بينهما في المرتب فكلحم الجلالة والمذكى للمضطر.

(1/163)


فائدة :
الفرق بين قول الفقهاء: الواجب أحد الأمرين، وبين قولهم: الواجب هذا والآخر بدل عن هذا، كما في القتل العمد، هل الواجب القود والدية بدل عنه أو أحدهما؟ أن الثاني فيه ترتيب كالماء والتراب، والأول لا ترتيب فيه.
فائدة ثانية
حكي عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إذا أمر الله بأشياء، وعطف بعضها على بعض نظرت، فإن بدأ بالأغلظ، ثم ذكر بعده الأخف كان دليلا على الترتيب بدليل كفارة الظهار، وإن بدأ بالأخف كان دليلا على التخيير بدليل كفارة اليمين. حكاه بعض شراح اللمع. وقد يورد عليه كفارة قتل الصيد، فإنها مبدوءة بالأغلظ، وهو إيجاب مثل الصيد مع أنها للتخيير. نعم حكى أبو ثور عن الشافعي أنها على الترتيب؛ لأن كفارات النفوس لا تخيير فيها، ككفارة قتل الآدمي.
وقال أبو منصور الماتريدي في تفسيره: كلمة أو متى ذكرت بين الأجزية المختلفة الأسباب فهي للترتيب، كآية المحاربة، وإلا فللتخيير ككفارة اليمين.
وروى الشافعي في الأم عن عمرو بن دينار: كل شيء في القرآن فيه أو فهو على التخيير1.
قال ابن جريج: إلا قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] فليس بمخير فيها. قال الشافعي رحمه الله تعالى: وبما قال ابن جريج أقول. أي: إنها ليست للتخيير بل لبيان أنواع العقوبة المختلفة بحسب اختلاف الحرمة، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر "صاعا من تمر، أو صاعا من شعير" 2 فإن أصح قولي الشافعي أنه لا يتخير في ذلك بناء على أن أو فيه للتنويع لا للتخيير أي: صاعا من تمر إن كان غالب قوت بلده، أو من شعير إن كان غالب قوت بلده.
ـــــــ
1 انظر الأم "2/188".
2 رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين، حديث "1504". ورواه مسلم "2/667" كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، حديث "984" عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" .

(1/164)


تنبيه: [تمثيل الواجب المخير بآية الكفارة]
استشكل العبدري في شرح المستصفى تمثيل الأئمة للواجب المخير بآية الكفارة من جهة أن النحويين نصوا على أن أو تكون في الخبر للشك وفي الأمر والنهي للتخيير أو للإباحة، وفرقوا بينهما، فقالوا: إذا فعل المأمور الفعلين في التخيير كان عاصيا، وإذا فعلهما أو أحدهما في الإباحة كان مطيعا.
قال: فالشائع في اللغة: أن تسمى الكفارة واجبا مباحة أنواعه، لا واجب مخير في أنواعه.
وهذا السؤال أورده صاحب البسيط عن النحويين، وأجاب عنه بأنه إنما يمتنع الجمع بينهما في المحظور؛ لأن أحدهما ينصرف إليه الأمر، والآخر يبقى محظورا لا يجوز له فعله، ولا يمتنع في خصال الكفارة؛ لأنه يأتي بما عدا الواجب تبرعا، ولا يمنع من التبرع.
والأحسن في الجواب: أن الممنوع منه في الجمع الإتيان بكل واحد على أنه الواجب، أما لو أتى بالجميع لا على هذا المعنى فهو جائز قطعا، وأن الإتيان بالمأمور به إنما يكون في واحد منها، وجواز غيرها إنما هو بحكم الإباحة الأصلية. حتى لو لم يكن مباحا لم يجز، كما إذا قال: بع هذا العبد أو ذاك.
فائدة [الأبدال تقوم مقام المبدلات]
قال الشيخ عز الدين في "القواعد": الأبدال إنما تقوم مقام المبدلات في وجوب الإتيان بها إلا عند تعذر مبدلاتها في براءة الذمة بالإتيان بها، والظاهر: أنهما ليسا في الأجر سواء، وأن الأجر بحسب المصالح، وليس الصوم في الكفارة كالإعتاق ولا الإطعام كالصيام. كما أنه ليس التيمم كالوضوء إذ لو تساوت الأبدال والمبدلات لما شرط في الانتقال إلى الأبدال فقد المبدلات. ا هـ، وهو حسن.
ويرد عليه أمور منها: الجمعة بدل من الظهر على رأي مع أن حكمها على عكس ما ذكر من اشتراط تعذر المبدل، فإنه هنا أعني الجمعة لا تعدل إلى البدل إلا عند تعذر المبدل. فمن لازمه أن يكون البدل هاهنا أفضل من المبدل، فإنه إنما يعدل من

(1/165)


شيء إلى آخر للأفضلية غالبا.
والأولى أن يحمل كلام الشيخ على ما إذا كان سبب البدل والمبدل متحدا، كخصال الكفارة المرتبة، أو على الغالب، أو على ما إذا كان البدل أخص من المبدل كالتيمم مع الوضوء.
ثم المسح على الخف قيل: إنه بدل من غسل الرجل، وقال الرافعي: الواجب على المكلف في الوضوء أحد الأمرين إما الغسل أو المسح عليهما، والحق خلافه كما سبق في شروط التخيير.

(1/166)


مسألة: [الفعل إما أن يزيد عن وقته وإما أن يساوي]
الفعل إما أن يزيد على وقته، فإن كان الغرض منه إيقاع الفعل جميعه في الزمن الذي لا يسعه فهو تكليف بما لا يطاق. يجوزه من يجوزه ويمنعه من يمنعه، وإن كان الغرض أن يبتدئ في ذلك الوقت، ويتم بعده، أو أن يترتب في ذمته ويفعله كله بعده فهو جائز وواقع، كإيجاب الظهر على من زال عذره آخر الوقت، فأدرك قدر ركعة من آخره، وكذا تكبيرة على الأظهر بشرط السلامة قدر إمكان الطهارة والصلاة.
وإما أن يساوي ويسمى بالمعيار كالصوم المعلق بما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وكوقت المغرب على القول الجديد، وكما لو استأجره يوما للعمل فيه، وهذا لا نزاع فيه.
[الواجب الموسع]:
وقسم الحنفية التساوي إلى ما يكون الوقت سببا لوجوبه كصوم رمضان، وإلى ما لا يكون كذلك كقضائه، وأثبتوا من الأقسام ما لا يعلم زيادته ولا مساواته، وهو الواجب المشكل كالحج. وإما ناقص عنه كالصلاة، ويسمى "الواجب الموسع".
وقد اختلف فيه، فمنهم من أنكره، ومنهم من اعترف به، وهم الجمهور، والإشكال فيه وفي الواجب المخير سواء، إذ لأجله أنكره من أنكره هنا، وهو أن الوجوب يلزمه المنع من الترك، وكل جزء من أجزاء الوقت بعينه يجوز إخلاؤه عن الفعل، وكذلك كل فرد من أفراد الواجب المخير يجوز تركه، وذلك ينافي الوجوب.
وحل الإشكال فيهما أن يقال: كل فرد من هذه الأفراد أعني: من أفراد

(1/166)


الوقت وأفراد الواجب المخير له جهة عموم، وهو كونه أحد هذه الأشياء، وجهة خصوص وهو ما به يتميز عن غيره، ومتعلق الوجوب جهة العموم وتلك لا يجوز تركها بوجه، فإنه إنما يترك في الموسع بإخلاء جميع أجزاء الوقت عن العبادة، وفي المخير ترك كل فرد من الأفراد، وذلك ممتنع، فلم يوجد المنافي للوجوب، فهو جائز الترك فيما جعلناه متعلق الوجوب. أما جهة الخصوص فليست بواجبة لجواز تركها إلى غيرها واندفع الإشكال في المسألتين جميعا.
قال إلكيا الطبري: ولأجل هذا الإشكال اضطرب المحصلون في الجواب عنه، فقيل: إنما يعصي بتفويته ولا تفويت إلا بالموت، والزمان ظرف للوجوب، والواجب لا ينسب إلى زمان، كما إذا لم يكن مقيدا، وقيل: يجوز تأخيره إلى بدل، وهو العزم على فعله في الثاني، فقيل لهم: العزم نتيجة الاعتقاد ضرورة لا بمقتضى اللفظ.
وقيل: يجوز تأخيره بشرط سلامة العاقبة، ولا يتخيل ذلك مع التمكن. ا هـ.
إذا عرفت هذا فقال الجمهور: إن الموسع موجود والوقت جميعه ظرف للوجوب على معنى في أي جزء منه أوقعه تأدى الواجب، وجوزوا التأخير عن أول الوقت إلى أن يضيق، أو يغلب على ظن فواته بعده.
قال الأستاذ أبو منصور: هذا قول أصحابنا، وذهب إليه من أهل الرأي محمد بن شجاع البلخي. ا هـ.
ونقله ابن برهان في الأوسط عن أبي زيد منهم أيضا، ونقله صاحب المعتمد عن أبي شجاع، وأبي علي وأبي هاشم الجبائيين، وأصحابنا.
ووجه هذا القول: أنه لا يتعين بعض أجزاء الوقت بتعيين العبد؛ لأن ذلك من وضع الشارع، وإنما للعبد الارتفاق فيه، كما في خصال الكفارة الواجب أحدها، ولا يتعين منها شيء بتعيين المكلف نصا ولا قصدا بأن ينويه، بل يختار أيها شاء فيفعله، فيصير هو الواجب.
[جواز ترك الواجب الموسع أول الوقت]:
وهؤلاء المعترفون بالواجب الموسع اختلفوا في جواز تركه أول الوقت بلا بدل مع اتفاقهم على أنه يقتضي إيقاع الفعل في أي جزء كان، فقال جمهور الفقهاء: لا يشترط البدل ولا يعصي حتى يخلو الوقت كله عنه.

(1/167)


[العزم على الفعل]:
وجمهور المتكلمين على أنه لا يجوز تركه إلى بدل، وهو العزم على الفعل في ثاني الحال، وإذا تضيق الوقت تعين الفعل حتى يتميز بذلك الواجب عن فعل النفل، فلو مات في أثناء الوقت مع العزم لم يعص، وهذا ما صار إليه الأستاذ أبو بكر بن فورك، والقاضي أبو بكر، ونقله عن المحققين، ونقله صاحب الواضح عن أبي علي، وأبي هاشم، وعبد الجبار المعتزليين، وحكاه صاحب المصادر عن الشريف المرتضى، وأنكره الباقون كأبي الحسين البصري، واختاره الآمدي والبصري فقالوا: لا حاجة إلى العزم بل يجوز التأخير بدونه، وهما وجهان لأصحابنا. حكاهما القاضيان الطبري، والماوردي وغيرهما.
والصحيح منهما كما قاله النووي: وجوب العزم؛ ولهذا أوجبوه على المسافر في جمع التأخير، ونظير هذا المديون لا يجب عليه الأداء ما لم يطالب، ويجب عليه العزم على أدائه عند المطالبة، وممن أنكر العزم على القاضي إمام الحرمين لتخيله أمرين نسبهما إليه.
أحدهما : أنه ظن أنه أخذ العزم من الصيغة، ولا ظهور له منها، فإذا كان يتوقف فيما لم يظهر قاطع فيه على أحد المحتملين، فكيف لا يتوقف فيما لم يظهر له فيه احتمال؟.
وثانيهما : أنه ظن أنه جعل العزم بدلا من نفس الفعل حتى إذا وجب العزم سقط وجوب نفس الفعل، وليس كذلك فإنما أخذ القاضي العزم من دليل العقل الذي هو أقوى من دليل الصيغة من جهة أن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، والعزم عنده بدل من تقديم الفعل الواجب، فإذا عزم فقد سقط وجوب التقديم لا بدل من نفس الفعل.
وكذا أنكره الإمام أبو نصر بن القشيري قال: ولعله يقول: حكم العزم الأول ينسحب على جميع الأوقات فلا يجب تذكره في كل حال، كالنية في الصلاة. قال: وعنده أن دليل العزم لا يتلقى من اللفظ بل من دليل آخر، وهو خروج عظيم، وأدنى ما فيه التزام أمر لم يشعر به اللفظ، قال: ومن عجيب الأمر توقف القاضي في صيغة افعل إذا وردت على التردد، ثم التزام إثبات العزم الذي ليس في اللفظ إشعار به، ثم إنه وجب في كل وقت الفعل أو العزم، فقد أخرج الفعل عن كونه واجبا على

(1/168)


التعيين. قال: وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجب على المخاطب الاعتناء بالعزم في كل وقت إلا تيقن الامتثال فيه.
وأطنب إلكيا الهراسي في تزييف القول بالعزم، وقال: يجب طرحه، وقال القاضي أبو الطيب: لم يذكره أصحابنا المتقدمون، ولا يحفظ عن الشافعي.
واختار الغزالي طريقة وسطى وهي الفرق بين الغافل عن الفعل والترك، فلا يجب عليه العزم، وبين من خطر بباله الفعل والترك، فهذا وإن لم يعزم على الفعل عزم على الترك ضرورة، فيجب عليه العزم على الفعل، واستحسنه القرافي في قواعده، وهو في الحقيقة راجع لمذهب القاضي، إذ ليس لنا قائل بوجوب العزم مع الغفلة؛ لأنه محال.
وقال المازري: لما كان القاضي وابن فورك يريان أن من مات في أثناء الوقت قبل الفعل لا يأثم ألزموا الجمع بين إباحة الشيء والتأثيم منه؛ لأنا نجوز له التأخير، فكيف نؤثمه؟ اعتذر عن هذا الإلزام بأن أثبتوا العزم على إيقاع الفعل بدلا من تقديم إيقاعه، ورأوا أن التأخير لم يسقط وجوبه إلا بإثبات عوض منه، وهو العزم، فأشبه تخيير الحانث بين الإطعام والكسوة، فإن الإطعام وإن لم نؤثمه في تركه إذا لم يفعله، وعوض عنه الكسوة لم يخرج عن حقيقة الوجوب ألبتة، وإنما يسقط إلى بدل.
وأنكر إمام الحرمين إثبات العزم هنا ولم يره انفصالا عن الإلزام.
قال المازري: وكان دار بيني وبين الشيخ أبي الحسن اللخمي في هذا مقال فإنه أنكر إيجاب العزم واستبعده كما استبعده الإمام، فلم يكن إلا قليلا حتى قرأ القارئ في البخاري حديث "إذا التقى المسلمان بسيفيهما"1 الحديث، وفيه تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بكون المقتول في النار، لكونه حريصا على قتل صاحبه، فقلت: هذا يدل للقاضي، فلم يجب بغير الاستبعاد.
وذكر الإمام عن القاضي أنه يقول بالعزم، وتردد المكلف بين العزم والفعل كل
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الأيمان، باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، حديث "31"، ورواه مسلم "3/2213" كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، حديث "2888" عن الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل. قال: ارجع، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". فقلت: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه" .

(1/169)


وقت إلى آخر زمن الإمكان، ثم قال: ولا يظن بهذا الرجل العظيم يعني القاضي أنه يوجب العزم تكريرا، وإنما يراه يجب مرة واحدة، ويستحب حالة هذه الأزمنة، كالنية المنسحب حكمها من أول العبادة على أثنائها، وهذا خلاف ما حكي عنه أولا. ا هـ.
والقائلون بالعزم اختلفوا، فقيل: هو بدل من نفس الفعل الذي هو الصلاة وغيرها، وهو قول الجبائي، واقتصر عليه الشيخ في اللمع؛ لأن الواجب لا يجوز تركه، وقيل: إنما وجب ليتميز الواجب عن غيره، واختاره القاضي أبو الطيب؛ لأن العزم لو كان بدلا لسقط به الوجوب، وقيل: هو بدل من فعلها أول الوقت، لا من فعلها؛ لأنه لو كان بدلا منها لسقطت.
قالوا: ومعنى قولنا إنه بدل من فعلها في أول الوقت الأول أنه بدل من فعل لو وقع لبرئت ذمته، وهو غير الفعل الذي يقع من بعد. حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص في الكلام على أن الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو التراخي؟ وقال أبو الحسين في المعتمد: المثبتون للبدل اختلفوا هل هو من فعل الله سبحانه أو من فعلنا؟ فقال أبو علي وأبو هاشم: إن بدل الصلاة أول الوقت ووسطه هو العزم على أدائها في المستقبل.
وقال بعض أصحابنا: إن لها في أول الوقت ووسطه بدلا يفعله الله سبحانه يقوم مقام الصلاة، وهو ضعيف؛ لأنه يلزم عنه أن لا يحسن لتكليف الصلاة من يعلم الله أنه يخترم في الوقت؛ لأنه يقوم فعل الله سبحانه مقام فعله في المصلحة الحاصلة قبل خروج الوقت، فلو كلفه الصلاة لكان إنما كلفه بمجرد الثواب فقط.
واعلم أن أصحابنا اتفقوا في الأمر المطلق على وجوب العزم عند ورود الأمر، وكأن الفرق: أن المقيد بوقت موسع لما كان آخر وقته معلوما بأن ذلك مع اعتقاد وجوبه ينافي العزم على الفعل بخلاف الأمر المطلق، فإن العزم فيه ينوب مناب تعجيل الفعل وتعيين الوقت. ذكره بعض شراح اللمع.
[المنكرون للواجب الموسع]:
وأما المنكرون للواجب الموسع، فاختلفوا على خمسة مذاهب:
أحدها : أن الوجوب يختص بأول الوقت، فإن أخر عنه فقضاء غير أنه لا يأثم، وحكاه أبو الحسين في المعتمد عن بعض الناس، وحكاه صاحب المصادر عن بعض الشافعية وكذا الإمام في المعالم، والبيضاوي في المنهاج، فلم ينفرد إذن

(1/170)


بنقله كما زعم بعضهم حتى قال السبكي: سألت ابن الرفعة، وهو أوحد الشافعية في زمانه، فقال: تتبعت هذا في كتب المذهب فلم أجده.
وقال ابن التلمساني: هذا لا يعرف في مذهب الشافعي. ولعل من عزاه إليهم التبس عليه بوجه الإصطخري، وهو أن الذي يفضل فيما زاد على صلاة جبريل في الصبح والعصر يكون قضاء. انتهى.
وهو فاسد؛ لأن الوقت عنده موسع، ومنهم من أخذه من تضييق وقت المغرب على القول الجديد، وهو فاسد؛ لأن هذا تضييق، ومنهم من أخذه من قولهم: تجب الصلاة بأول الوقت، فظن أن الوقت متعلق بالصلاة، وإنما أرادوا أنه يتعلق بتجب، فوقع الالتباس في الجار والمجرور.
وقيل: بل أخذه من قول الشافعي: رضوان الله أحب إلينا من عفوه، وقيل بل من قول الشافعي في الأم في الخامس في كتاب الحج: نقل عن بعض أهل الكلام وبعض من يفتي: أن تأخير الصلاة عن أول وقتها يصيرها قضاء، وتأخير الحج وما أشبهه، وهذا الأخذ فاسد؛ لأن قائله لا يقول: إن الوقت يخرج ويصير قضاء بعد أوله، كما نقل الإمام، بل إنه يعصي بالتأخير، ولا يلزم من العصيان خروج الوقت.
وظاهر كلامه: أن هذا القائل يقول بالتأثيم إذا أخره عن أول الوقت، والقاضي أبو بكر نقل إجماع الأمة على أن المكلف لا يأثم بتأخيره عن أول الوقت، ولذلك عبر بعضهم عن هذا القول: أنه في آخر الوقت قضاء يسد مسد الأداء.
وما نقله الشافعي أثبت. لكن قال القاضي في التقريب، وابن القشيري في أصوله: ذهب بعض الفقهاء إلى أن الصلاة تجب بأول الوقت، وإن أخرت كانت قضاء قال: وهذا القائل يجوز التأخير.
قال: وقد نقل عن مالك بن أنس قريب من ذلك في الحج وجملة العبادات المتعلقة بالعمر، ورأى مثل ذلك في الصلاة. ا هـ.
قال ابن القشيري: هكذا حكاه القاضي عنه.
والثاني : أن الوجوب يختص بآخر الوقت، وأوله سبب للجواز، وهو ما مال إليه إمام الحرمين في البرهان ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الرأي، ونقله ابن برهان في الأوسط عن بعضهم وهكذا قاله صاحب الكبريت الأحمر، ونقله في المعتمد عن أكثر المعتزلة، ونقله ابن السمعاني عن الكرخي والرازي وأكثر أصحابهم من العراقيين.

(1/171)


وظاهر كلام أبي بكر الرازي أن عليه أكثر الحنفية، فإنه حكى القول بالتوسعة عن محمد بن شجاع، ثم قال: وقال غيره من أصحابنا: إن الوجوب متعلق بآخره، وإن أول الوقت لم يجب عليه غيره، ثم قال: والذي حصلناه عن شيخنا أبي الحسن الكرخي: أن الوقت جميعه وقت الأداء، والوجوب يتعين فيه بأحد وقتين؛ لأنه إما أن يؤخره إلى آخر الوقت فالوجوب يتعين بالوقت المفعول فيه للصلاة.
وقال شمس الأئمة السرخسي في أصوله: نقل عن ابن شجاع أن الصلاة تجب بأول جزء من الوقت وجوبا موسعا وهو الصحيح، وأكثر مشايخنا العراقيين ينكرون هذا ويقولون: الوجوب لا يثبت في أول الوقت، وإنما يتعلق بآخره بدليل ما لو حاضت في آخر الوقت لا يلزمها قضاء الصلاة إذا طهرت. ا هـ.
ونص الدبوسي في تقويم الأدلة على القول بالوجوب الموسع، وأبطل القول بتعلقه بآخره.
وقال شارح الهداية: القول بأن الصلاة تجب بآخر الوقت وفي أوله نافلة قول ضعيف نقل عن بعض أصحابنا، وليس منقولا عن أبي حنيفة، والصحيح عندنا: أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا. ا هـ.
والحاصل: أن الصحيح عند الحنفية كمذهبنا، وأن هذا القول يروى عن بعض أصحابهم ثم القائلون به فيما لو فعله أول الوقت على ثلاثة مذاهب: فقيل: تقع واجبة بكل حال، فعلى هذا تجب الصلاة إما بفعلها أو بمجيء آخر الوقت، وقيل: تقع نافلة بكل حال إلا أنها تمنع من وجوب الصلاة عليه في آخر الوقت كالزكاة المعجلة عندنا، وقيل: يراعى فإن لحق آخره وهو بصفة التكليف كان فرضا وإلا فلا. حكى الثلاثة الشيخ أبو حامد الإسفراييني، والأخيرين أبو بكر الرازي منهم.
وقال القاضي عن الثالث: إنه الذي عول عليه الدهماء من أصحاب أبي حنيفة.
والثالث : أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت إذا بقي منه قدر تكبيرة.
والرابع : كذلك، وآخره إذا بقي قدر صلاة. فإن عجل فنفل يسقط به الفرض، وذهب إليه بعض الحنفية.
والخامس : أنه إن كان مكلفا آخر الوقت تبينا أنه وقع واجبا وإلا فنفل. نقل عن الكرخي، وعنده الصلاة في أول الوقت لا توصف بالنفل ولا الفرض، وهو نظير وجه عندنا في المعادة أنه ينوي بها فرضا ولا نفلا.

(1/172)


والسادس : أنه إن كان مكلفا آخر الوقت كان ما فعله مسقطا للفرض تعجيلا نقله أبو الحسين عن أبي عبد الله البصري. والسابع : أنه إذا اختار وقتا تعين إلى أن يتضيق، فيتعين بالتضييق، وهو مذهب أبي بكر الرازي، ومنهم من عبر عنه أن يكون الوجوب مختصا بالجزء الذي يتصل الأداء به وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل، ولا يفضل عنه، وحكاه أبو بكر الجصاص عن الكرخي.
وادعى الصفي الهندي أنه المشهور عند الحنفية، وهو؛ لأن سبب الوجوب عندهم كل جزء من الوقت على البدل إن اتصل به الأداء وإلا فآخره، إذ يستحيل أن يكون جميع الوقت سببا، وإلا لزم الوجوب بعده، وقال: وإنما عددت هذه الفرقة من المنكرين للواجب الموسع مع قولهم: إن الصلاة مهما أديت في الوقت كانت واجبة وأداء؛ لأنهم لم يجوزوا أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل بخلاف القائلين به، فإنهم يجوزون ذلك.
والثامن : أن الوجوب متعلق بجزء من الوقت غير معين كما تعلق في الكفارات بواحد غير معين، وتأدى الوجوب فيهما بالغير. حكاه المجد بن تيمية عن بعض المتكلمين قال: وهو أصح عندي وأشبه بأصولنا في الكفارات، فيجب أن يجعل مراد أصحابنا عليه.
والتاسع : حكاه الروياني في البحر عن بعض أصحابنا أن كل جزء من الوقت له حظ في الوجوب، ولا نقول: وجب بأول الوقت حتى لو أدرك جميع الوقت نقول: وجب بجميع الوقت، وهذا كالقيام يجب بقدر الفاتحة فلو أطال القيام بقراءة السورة فالكل واجب. قال: وهذا خلاف المذهب.
تتمات
الأولى: [هل يستقر الوجوب بمجرد دخول الوقت؟]
حيث قلنا بالواجب الموسع، فهل يستقر الوجوب فيه بمجرد دخول الوقت أو لا يستقر إلا بإمكان الأداء فيه؟ مذهبان. الأول : هو أصح الروايتين عند الحنابلة. والثاني: قول أصحابنا كما قاله، الروياني في البحر وحكي نحوه عن أبي حنيفة. وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: مذهبنا أنها تجب بأول الوقت، ويستقر وجوبها بإمكان الأداء، ويجوز تأخيرها إلى آخر الوقت، وكذا قال الدارمي في الاستذكار: تجب عندنا بأول الوقت، ويستقر وجوبها بقدر فعلها، وكذا قال غيرهما من الأصحاب،

(1/173)


وحكوا معه وجهين:
أحدهما: أنه يستقر الوجوب قبل إمكان الأداء إلحاقا لأول الوقت بآخره، وهو قول أبي يحيى البلخي من أصحابنا، وخطئوه بإمكان القضاء في آخر الوقت دون أوله.
والثاني : لا يستقر حتى يدرك مع الوقت أداء جزء، وهو قول ابن سريج. قالوا: لأنه لو استقر فرضها في أول الوقت بإمكان الأداء لم يجز أن يقصرها إذا سافر في آخر وقتها، لاستقرار فرضها، فلما جاز له القصر دل على أنه إنما استقر بآخر الوقت.
قال الأصحاب: وليس جواز القصر آخر الوقت دليلا على أن الفرض لم يستقر؛ لأن القصر من صفات الأداء. قالوا: وهذا من ابن سريج رجوع إلى مذهب أبي حنيفة في وجوبها بآخر الوقت.
الثانية: [فائدة الخلاف]:
حكى بعضهم أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن القائلين بآخر الوقت يجوزون فعله أوله، وإنما الخلاف في تسميته واجبا.
وقال القاضي أبو الطيب: تظهر فائدة الخلاف في حكمين مقصودين:
أحدهما : لا يجوز تأخيره عن أول الوقت إلى آخره إلا بشرط العزم على الصحيح.
والثاني : أن الفعل إذا كان مما يجب قضاؤه، فإذا مضى من أول حال الإمكان مقدار زمن الإمكان، ثم زال التكليف بجنون أو حيض أو غيره حتى فات وقته وجب قضاؤه على قولنا، ولا يجب قضاؤه على قولهم.
الثالثة : [الواجب الموسع قد يكون محدودا وقد يكون وقته العمر]:
إذا أثبتنا الواجب الموسع فقد يكون محدودا بغاية معلومة، كالصلاة، وقد يكون وقته العمر، كالحج وقضاء الفائت من الصلاة بعذر، فإنه على التراخي على الصحيح، وسموه الحنفية المشكك؛ لأنه أخذ شبها من الصلاة باعتبار أنه لا يستغرق الوقت، ومن الصوم باعتبار أن السنة الواحدة لا يقع فيها إلا حجة واحدة.
والحق: أن الحج لا يسمى موسعا بالحقيقة؛ لأنه ليس له وقت منصوص عليه، والتوسيع والتضييق إنما يكونان في الوقت، ولكن جرينا في هذا التقسيم على عبارة الجمهور.

(1/174)


أما الأول: فيتضيق بطريقين:
أحدهما: بالانتهاء إلى آخر الوقت بحيث لا يفضل زمانه عنه.
وثانيهما: بغلبة الظن؛ لعدم البقاء إلى آخر الوقت، فإنه مهما غلب ذلك على ظنه يجب عليه الفعل قبله.
فالحاصل أنه يعصي فيه بشيئين:
أحدهما : بخروج وقته.
والثاني : بتأخيره عن وقت يظن فوته بعده، كالموسع بالعمر.
ونقل ابن الحاجب في مختصره الاتفاق على عصيانه في هذه الحالة سواء بقي بعد أم لا، ولو مات في أثناء الوقت لم يعص على الأصح، وقيل: يعصي.
قال في المستصفى1: وهو خلاف إجماع السلف. قال: بل محال أن يعصي، وقد جاز له التأخير، فإن قال: جاز بشرط سلامة العاقبة. قلنا: محال؛ لأن العاقبة مستورة عنه.
وأما الثاني: وهو في الموسع في العمر فيعصي فيه بشيئين:
أحدهما : بالتأخير عن وقت يظن فوته بعده.
والثاني : بالموت على الصحيح سواء غلب على ظنه قبل ذلك البقاء أم لا؛ لأن التأخير له مشروط بسلامة العاقبة، وهو مشكل؛ لأن العاقبة عنه مستورة، والثاني: لا يموت عاصيا وهو أشكل مما قبله، لعدم تحقق معنى الوجوب. والثالث: الفرق فيه بين الشيخ فيعصي، والشاب فلا، وهو اختيار الغزالي، والصحيح: الأول، ورفع الإشكال عنه سنذكره.
وهذا القسم يخالف ما قبله، فإن الموت في أثناء الوقت لا يعصي به على الأصح، والفرق بأن بالموت خرج وقت الحج، وبالموت في أثناء وقت الصلاة لم يخرج وقتها، ونظير الحج: أن يموت آخر وقت الصلاة، فإنه يعصي بخروج الوقت.
وإذا قلنا: يعصي فله شرطان:
أحدهما : أن لا يعزم على الفعل فإن عزم عليه ومات في أثنائه فلا يعصي بالإجماع نقله صاحب المستصفى والآمدي.
ـــــــ
1 انظر المستصفى ص "56".

(1/175)


قال الغزالي: فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأة بعد انقضاء مقدار أربع ركعات من وقت الزوال، وكانوا لا ينسبونه إلى تقصير لا سيما إذا اشتغل بالوضوء، ونهض إلى المسجد، فمات في الطريق، بل محال أن يعصي وقد جوز له التأخير في فعل ما يجوز، فكيف يمكن تعصيته؟. انتهى.
والثاني : أن يموت بعد أداء إمكان الصلاة، فإن مات قبل الإمكان لم يعص بلا خلاف. نعم حكوا عن أبي يحيى البلخي من أصحابنا أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا مستقرا، وليس إمكان الأداء معتبرا، ولعله يقرب من التكليف بالمحال.
وقد استصعب إمام الحرمين وصف الصلاة بالوجوب في أول الوقت مع القول بأن من مات في أثناء الوقت لا يعصي فإنه يؤدي إلى عدم الوجوب، وقال: لا معنى له إلا على تأويل، وهو أنها لو أقيمت لوقعت على مرتبة الواجبات.
ورده ابن السمعاني في القواطع، وقال: التأخير على هذا الوجه ليس فيه تفويت المأمور به، فإذا مات بغتة فهو غير مفوت له؛ لأنه إنما أخر من وقت إلى مثله، وهذا لا يعد تفويتا؛ لأنه فعل ما كان مطيقا له إلا أنه صار فائتا بمعنى من قبل الله تعالى، لا من قبل العبد، فلم يجز وصفه بالعصيان، وهذا كالأمر المضيق إذا لم تساعده الحياة في ذمته. وزعم الإمام في المحصول: أن الموسع بالعمر إنما يتضيق بطريق واحد، وهو التأخير عن وقت يظن فوته فيه. قال: ولو لم نقل به فإما أن يقال بجواز التأخير أبدا، وهو باطل؛ لأنه يرفع حقيقة الوجوب، وإما إلى زمن غير معين، وهو باطل؛ لأنه تكليف ما لا يطاق، فلم يبق إلا أن نقول: يجوز له التأخير بشرط أن يغلب على ظنه أنه يبقى سواء بقي أم لا، وإذا غلب على ظنه أنه لا يبقى عصى بالتأخير سواء مات أم لا. وهذا الذي قاله قول، والصحيح: أنه يعصي بالموت سواء غلب على ظنه البقاء أم لا، ولا يلزمه تكليف ما لا يطاق؛ لأنه كان يمكنه المبادرة، فالتمكين موجود، وجواز التأخير بشرط سلامة العاقبة، وتبين خلافه، فتبين عدم الجواز، والوجوب محقق مع التمكن فيعصي، ويكون التأخير له ظاهرا وباطنا على رأي الإمام، وظاهرا فقط على رأي الفقهاء، والباطن مجهول الحال.
وإذا قلنا بالعصيان فهل يتبين ذلك من أول سني الإمكان أو من آخرها أو لا يضاف إلى سنة بعينها؟ ثلاثة أوجه، أصحها: الثاني.
وغلط المقترح في تعليقه على البرهان حيث قال: وتوهم الإمام أن من مات ولم يحج انبسطت المعصية على جميع سني الإمكان، وأنه عاص في كل زمن ولم

(1/176)


يقل به أحد، وإنما يعصي بترك الفعل المطلوب. انتهى.
بقي الإشكال في قولهم: جواز التأخير بشرط سلامة العاقبة وأن ذلك ربط للتكليف بمجهول. قال ابن القشيري: هذا هوس؛ لأن الممتنع جهالة تمنع فهم الخطاب، أو إمكان الامتثال، فأما تكليفه المرء شيئا مع تقدير عمره مدة طويلة، وتنبيهه أنه إذا امتثله خرج عن العهدة، وإن أخلي العمر منه تعرض للمعصية فلا استحالة فيه. ورده بعضهم بأن سلامة العاقبة متعلق الجواز، والجواز ليس بتكليف بل مباح، ولا يلزم من ترك المباح تكليف ما لا يطاق، بل غايته أنه يلزمه الشك في الإباحة.
وقال ابن حزم في كتاب "الإحكام1": سأل أبو بكر محمد بن داود من أجاز تأخير الحج، فقال: متى صار المؤخر للحج إلى أن مات عاصيا؟ أفي حياته؟ هذا غير قولكم، أو بعد موته؟ فالموت لا يثبت على أحد معصية لم تكن لازمة في حياته.
فأجابه أبو الحسين بن القطان الشافعي، فقال: إنما كان له التأخير بشرط أن يفعل قبل أن يموت، فلما مات قبل أن يفعل علمنا أنه لم يكن مباحا له التأخير. قال ابن حزم: ونحن نقول: لم يحقق أبو الحسين الجواب على أصول الشافعي، فمن حلف بالطلاق أنه يطلق امرأته إنها لا تطلق إلا في آخر أوقات صحته التي كان فيها قادرا على الطلاق. قال: ونحن نجيب عن جوابه، فنقول: قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فإنما يأثم المكلف بالترك إذا علم أنه ليس له تركه ولم يطلع الله أحدا على وقت موته، ولا عرفه بآخر أوقات موته، ولا قامت عليه حجة، ولا يوصف بالعصيان بالنسبة إلى ذلك الوقت، فبقي سؤال أبي بكر بحسبه. انتهى.
وليس كما قال، ويقال: لأبي بكر: قولك: إن تعصيته في حياته خلاف قولكم ممنوع، بل هو قولنا وتنسب المعصية إلى آخر سني الإمكان قبيل الموت على الصحيح، وجواب ابن القطان كأنه فرعه على الوجه المرجوح أن المعصية من أول سني الإمكان، ولهذا توجه عليه سؤال ابن حزم بصورة الطلاق، ونحن إذا فرعنا على الأصح فهما سواء؛ لأن كلا منهما ترتب عليه الحكم قبيل الموت في الوقت الذي يسعه، فقبيل الموت في مسألة الطلاق هو آخر تمكنه، فوقع حينئذ كذلك آخر سني الاستطاعة وقت تمكنه، فيعصي إذ ذاك، وخرج الجواب بذلك على أصول الشافعي.
ـــــــ
1 انظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم "3/310".

(1/177)


وقال ابن السمعاني في الاصطلام: وأما تسمية تارك الحج عاصيا فقد تخبط فيه الأصحاب. والأولى عندي: أنه يجوز له التأخير، ولا يوصف بالعصيان إلا أن يغلب على ظنه الموت، فإذا غلب وأخر ومات لقي الله عاصيا، وإن مات بغتة قبل أن يغلب على ظنه لا يكون عاصيا، فإن قالوا: قد ترك واجبا عليه إلى أن مات، فلا يجوز أن لا يكون عاصيا. قلنا: نعم ترك واجبا موسعا عليه، وقد كان ينتظر تضييقه عليه بغلبة الظن، وذلك أمر معهود في غالب أحوال الناس، فإن اخترمته المنية من قبل أن يبلغ المعهود من أجناسه لم يكن عليه عتب، ولم يعص؛ لأنه كان على عزم إذا تضيق لا يؤخر.
[التنبيه] الأول: [للقضاء درجة متوسطة]
للقضاء درجة متوسطة بين الصلاة والحج، وهي قضاء رمضان هو بالنسبة للمعصية كالصلاة، وبالنسبة لعدم الفوات كالحج، وقد قال الأصحاب: لو مات بين الرمضانين لم يعص لكن يطعم عنه.
وقال ابن أبي هريرة: لا يجب عليه شيء لا الإطعام ولا الصيام؛ لأن القضاء محدود بما بين الرمضانين. فإذا مات في أثنائه لم يلزمه؛ لعدم تربطه، كما لو مات في أثناء وقت الصلاة بخلاف الحج؛ لأن ابتداءه معلوم، ولا حد لانتهائه. حكاه القاضي الحسين في تعليقه.
[التنبيه] الثاني: [التوسيع في السنة كالواجب]
التوسيع كما يكون في الواجب يكون في السنة، كالأضحية.
[التنبيه] الثالث: [صيرورة الواجب على التراخي واجبا على الفور]
كل واجب على التراخي فإنه يصير واجبا على الفور إذا ضاق وقته، ومن ثم لو ترك الصلاة عمدا وجب قضاؤها على الفور؛ لأن وقتها لما ضاق صار على الفور.

(1/178)


مسألة: [ما لا يتم الواجب إلا به]
ما لا يتم الواجب إلا به هو إما أجزاء الواجب، أو شروطه أو الشرعية، أو ضروراته العقلية أو الحسية، لا تنفك عن هذه الثلاثة. فالأول: واجب بخطاب الاقتضاء، والثاني: بخطاب الوضع، والثالث: لا خطاب فيه فلا وجوب فيه؛ لأن الوجوب من أحكام الشرع.
إذا عرفت هذا، فنقول: ما يتوقف عليه الواجب إما أن يكون توقفه عليه في وجوبه، أو في إيقاعه بعد تحقق وجوبه، فأما ما يتوقف عليه إيجاب الواجب، فلا يجب بالإجماع؛ لأن الأمر حينئذ مقيد لا مطلق، وسواء كان سببا أو شرطا أو انتفاء مانع.
فالسبب كالنصاب يتوقف عليه وجوب الزكاة فلا يجب تحصيله على المكلف لتجب عليه الزكاة.
والشرط كالإقامة هي شرط لوجوب أداء الصوم، فلا يجب تحصيلها إذا عرض مقتضى السفر يجب عليه فعل السفر.
والمانع كالدين فلا يجب نفيه لتجب الزكاة. وأما ما يتوقف عليه إيقاع الواجب ودخوله في الوجود بعد تحقق الوجوب، فإن كان جزءا فلا خلاف في وجوبه؛ لأن الأمر بالماهية المركبة أمر بكل واحد من أجزائها ضمنا، وإنما الخلاف إذا كان خارجا كالشرط والسبب، كما إذا تقرر أن الطهارة شرط، ثم ورد الأمر بالصلاة، فهل يدل الأمر بها على اشتراط الطهارة؟.
هذا موضع النزاع ولهذا عبر بعضهم عنه بالمقدمة؛ لأن المقدمة خارجة عن الشيء متقدمة عليه، بخلاف الجزء فإنه داخل فيه.
[المذاهب في الشرط الشرعي]:
وفي المسألة مذاهب:
أحدها : أنه واجب مطلقا لكن شرطوا أن يكون مقدورا للمكلف، كالطهارة وغيرها من الشروط، فالأمر بالصلاة أمر بها، أما ما لا يمكن من الآلات والذوات فتخرج على جواز تكليف ما لا يطاق، وحينئذ فإنما يعتبر هذا الشرط من منع تكليف

(1/179)


ما لا يطاق. هذا هو الأصح عند الأصوليين، وبه جزم سليم في التقريب قالوا: وسواء كان شرطا أو سببا، وكان الشرط شرعيا كالوضوء للصلاة، أو عقليا كترك أضداد الواجب، أو عاديا كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه.
وإذا قلنا بهذا فاختلفوا في موضعين:
أحدهما : أن الوجوب هل يتلقى من نفس الصيغة أو من دلالتها؟.
أشار ابن السمعاني إلى حكاية الأول، وهو ضعيف، والجمهور على الثاني، ونصره ابن برهان. قال: لم يدل عليه من حيث اللفظ، وإنما دل عليه من حيث المعنى؛ لأن الدلالة اللفظية ما كان مسموعا في اللفظ، ولا شك أن للشرط لفظا يخصه، ولم يسمع ذلك، فوجب أن دلالته من حيث المعنى.
ويخرج من اختلاف عباراتهم مذهبان آخران:
أحدهما : أنه يدل بالالتزام.
والثاني : بالتضمن، وهو ما صرح به إمام الحرمين في البرهان و التلخيص. وقد يستشكل بأن الطهارة ليست جزء الصلاة، فكيف يدل بالتضمن؟.
وإيضاحه: أن إيجاب الطهارة دل عليه قوله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، فالصلاة وجبت مقيدة بالغسل الذي هو الوضوء، فإذا استقر ذلك، ثم ورد قوله {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وجب حمله على الصلاة المعهودة، وهي المقيدة بالطهارة، والدال على الصلاة وجب حمله على الصلاة المعهودة، وهي المقيدة بالطهارة، والدال على الصلاة المقيدة دال على قيدها بالتضمن، كقوله: أعتق الرقبة المؤمنة، ثم يقول: أعتق الرقبة، فمطلق الرقبة دال على الإيمان بالتضمن.
الثاني : إذا قلنا: إنه وجب من دلالته، فهل وجب لنفسه أو لغيره؟ على وجهين. حكاهما الدارمي في الاستذكار، وظاهر كلام الأصحاب أنه لغيره، ورجح إمام الحرمين في التلخيص فيما يتوقف عليه عادة كغسل شيء من الرأس لغسل الوجه، واستصحاب الإمساك عن المفطر في جزء من أول الليل أنه وجب لنفسه، وحكى قولا أنه ندب لا واجب، وزيفه بأنه إذا لم يقدر على الواجب إلا به فلو تركه لتعطل الواجب، فما معنى وصفه بالتطوع؟.
وزعم الإبياري أنه لا خلاف في وجوب الشرط الشرعي، وليس كذلك، فقد

(1/180)


حكى الإمام في التلخيص الخلاف فيه عن بعض المعتزلة، وزعم تلميذه ابن الحاجب أنه لا خلاف في وجوب السبب، وليس كذلك لكن بهذا صرح صاحب المصادر، فقال: الذي لا يتم الواجب إلا به إن كان سببا كالرمي في الإصابة فلا خلاف أن الأمر بالمسبب أمر بالسبب في المعنى، وعلى هذا فإيجاب المسبب إيجاب لسببه، وإباحته إباحة لسببه، وحظره حظر لسببه؛ لأنه لا يتم بدونه بخلاف العكس؛ لوجوده بدونه. وإن كان شرطا شرعيا كالوضوء، أو غير شرعي كالمشي إلى عرفات للوقوف، فإن ورد الأمر مطلقا فهو في المعنى أمر بالشرط هذا بعد أن تقرر في الشرع ذلك، وإن ورد مشروطا باتفاق حصول المقدمة فليس أمرا بالمقدمة، كالأمر بالحج بشرط الاستطاعة. ا هـ.
ويمكن أن يقال: لا منافاة بين ما نقله صاحب المصادر وابن الحاجب، وما نقله الجمهور، لأن محل الخلاف في أن إيجاب المسبب هل هو دال على إيجاب السبب؟.
ومحل الإجماع على أنه إذا وجب المسبب فقد وجب السبب لا من جهة اللفظ. ولهذا قال في المنتهى: فإنا لا ننكر وجوب الأسباب بدليل خارجي كما أن أسباب الحرام حرام.
والمذهب الثاني: أنه ليس بواجب مطلقا، ونسب للمعتزلة، وحكاه ابن السمعاني في القواطع عن أصحابنا؛ لأن هذه الشرائط لها صيغ بخصوصها، واختلاف الصيغ يدل على اختلاف المصوغ له.
واعلم أنا لا ننكر كون الصلاة مقتضية للطهارة بالدلالة، وإنما ننكر كونه من حيث الصيغة مقتضية له.
وقد قال أصحابنا: إن الصلاة بصيغتها تدل على الدعاء فقط، وما زاد على الدعاء ثبت بالدليل الشرعي لا من جهة الصيغة. بقي أن يقال: إن ذلك الشرط هل نصفه الآن بالندب، لأنه طريق إلى تحصيل أمر واجب أو بالإباحة؟ لم أر من تعرض له ويشبه أن يكون على الخلاف في استحباب النذر أو إباحته.
والمذهب الثالث : التفصيل بين أن تكون الوسيلة سبب المأمور به، فيجب أو شرطه فلا يجب، وهو اختيار صاحب المصادر كما سبق، والفرق أن وجود السبب يستلزم وجود المسبب بخلاف الشرط.
والمذهب الرابع: إن كان سببا أو شرطا فهو واجب، وإن كان غيرهما فليس

(1/181)


بواجب.
والمذهب الخامس: يجب الشرط الشرعي إذا كان الفعل يتأتى بدونه عقلا أو عادة لكن الشرع جعله شرطا للفعل كالوضوء وأما ما لم يتأت اسم الفعل إلا به عقلا أو عادة كالأمر بغسل الوجه فهو واجب في نفسه، ولا نسميه شرطا، إذ لا يتم عادة غسل الوجه إلا بغسل شيء من الرأس، وبهذا أجاب إمام الحرمين وابن القشيري، وابن برهان وتبعهم ابن الحاجب.
والفرق: أن الشرط الشرعي يمكن دخوله في الأمر بالمشروط هاهنا كما سبق تقريره بخلاف غير الشرعي، نحو غسل جزء من الرأس فإنه لم يقع من الشرع نص على إيجابه بل ورد الأمر بغسل الوجه مطلقا، والعادة تقضي بأن غسل الوجه لا يحصل إلا بغسل جزء من الرقبة، فبهذا افترق الشرط الشرعي وغيره. هذا تحرير النقل عن إمام الحرمين.
المذهب السادس: الوقف، أشار إليه صاحب المعتمد إلزاما للواقفين في صيغ العموم؛ لأنه لا يأمن أن يكون أمرا بشرط تحصيل المقدمة، ولا بأمر خلافه، فيجب الوقف.
وقال بعض المتأخرين: إن كان ما لا يتم الواجب إلا به ملازما في الذهن بحيث إن المكلف حال استماع الأمر ينتقل ذهنه إلى ذلك الشيء، ويعلم أن الإتيان بالمأمور به ممتنع بدون الإتيان بتلك المقدمة فهو واجب، وإن لم يكن ملازما، بل يتوقف عليه عقلا أو شرعا فلا يكون الأمر واجبا من تلك الصيغة، بل من المركب من الأمر والعقل، أو من الأمر والدليل الشرعي.
وقال أبو نصر القشيري مجليا لعبارة الإمام: ليس الخلاف في العادي كالأمر بغسل شيء من الرأس لأجل استيعاب الوجه لأن ذلك القدر لا يلزم قطعا أي من جهة الصيغة، وليس من قبيل الشرائط بل من قبيل ما يؤول إلى المعتاد.
قال: فالأقسام ثلاثة:
أحدها : متلقى من صيغة الأمر وهو المقصود.
والثاني : ما ثبت شرطا في العبادة، وفي المأمور به، وإن لم يكن جزءا منه كالوضوء، فالأمر بالصلاة الصحيحة يتضمن أمرا بالطهارة، وكذا وضع الشرائط.
والثالث : ما يتعلق بالإمكان وليس بمقصود الشرع لا مشروطا ولا شرطا،

(1/182)


ولكنه في علم الجبلة يضاهي الشروط، وإن لم يكن شرطا شرعيا، وهذا يلتفت على الانتهاء عن أضداد المأمور به في محاولة امتثال الأمر. ا هـ.
وحاصله: أن العادي لا يسمى شرطا ولا يجب، وإنما يجب الشرط الشرعي، وهذا هو تقرير قول إمام الحرمين.
وزاده ابن برهان إيضاحا فقال: تحصلنا على ثلاثة أقسام لا يتأتى فعل المأمور به إلا بها.
أحدها: ما كان من أبعاضه وأجزائه كأجزاء الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود، فالأمر يتناولها، ودل عليها لفظا.
الثاني: ما كان من شرائطه وأسبابه كالطهارة، والقبلة، وستر العورة، فالأمر تناولها ودل عليها معنى لا لفظا.
والثالث: ما كان من ضروراته كأخذ جزء من الليل في صوم اليوم، وأخذ جزء من الرأس في غسل الوجه، فالأمر ما تناوله ولا دل عليه من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، وإنما ثبت؛ لأنه من ضرورات المأمور جبلة وخلقة.
والفرق بين هذا والذي قبله: أن ما كان من ضرورات المأمور يتصور الإتيان بالمأمور بدونه، وما كان من شرائطه وأسبابه لا يتصور إتيان المأمور به إلا إذا أتي به.
مثاله: أنا لو قدرنا أن الله تعالى خلق في الواحد منا إدراك أول جزء من النهار حتى تطبق النية عليه صح صومه، ولم يجب عليه إمساك جزء من الليل، ولذلك لو قدر على غسل ما هو الفرض لم يجب عليه غسل جزء من الرأس، وهكذا في ستر العورة بخلاف الشرط فإنه لا يتصور صحة الأمر إلا به، فكان الأمر دالا عليه معنى، ولم يكن دالا على الأول لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى.
تنبيهات
"التنبيه" الأول: فائدة الخلاف
قد تطلب فائدة هذا الخلاف، فإن الصورة مفروضة حيث دل الدليل من خارج على أنه شرط وحينئذ، فما فائدة الخلاف في أنه يشمله الأمر بالمشروط؟.
ويمكن أن يقال: فائدته أنه إذا وقع الشرط ترتب الفعل الواجب عليه.

(1/183)


هل نقول: إنه يثاب على الواجب وعلى تحصيل السبب لكونه وسيلة للقربة؟ وهل يثاب عليه ثواب الواجب؛ لأنه لما توقف عليه الوجوب فقد توقف عليه فعل الواجب؟ فيه نظر واحتمال.
وقال القرافي: لا نزاع في أن المقاصد تتوقف على الوسائل، وإنما النزاع إذا تركت الوسيلة مع المقاصد هل يعاقب عقابين على الوسيلة والمقصد؟ وإذا فعلهما هل يثاب ثوابين عليهما؟.
وتعدد الثواب والعقاب لا دليل عليه، وإنما دل الدليل على التوقف، وهو مسلم إجماعا، فمن أين لنا أن الله يعاقب تارك الجمعة وتارك الحج على ترك العبادة، وعلى ترك السعي بمجرد كونه آمرا بهما مع السكوت عن السعي؟.
ولك أن تقول: تخريج العقاب على ذلك واضح، وأما تخريج الثواب، ففيه نظر لجواز أن يثاب عليه، وإن لم يكن واجبا كما تقدم.
ثم حاصله: أنه لا فائدة لها إلا الثواب والعقاب في الآخرة، ويبقى نظير فائدة الخلاف في خطاب الكفار بالفروع.
وأقول: له فوائد في الدنيا: منها أجرة الكيال على بائع المكيل، وأجرة الوزان على المشتري للثمن، وإذا التزم نقل متاعه إلى مكان فعليه الظروف، وإذا نسي صلاة من الخمس صلاها بتيمم واحد، وإذا خفي عليه موضع النجاسة من الثوب غسله كله، وغير ذلك من الفروع المنتشرة التي ترتب فيها الواجب على غيره.
و"التنبيه" الثاني: "وجوب الشرط سمعي لا عقلي"
إن هذا الوجوب سمعي لا عقلي، فإن إيجاب الصلاة ثابت بخطاب سمعي، وذلك الإيجاب مع الخطاب الدال على كون الوضوء شرطا لصحة الصلاة يستلزم إيجاب الوضوء، ولا نعني بالسمع إلا هذا، ونازع صاحب ' التنقيحات في ذلك من جهة أنه لا يعرف منه المعاقبة على الترك الذي هو خاصية الوجوب وهو ضعيف لما فيها من الاستلزام.
وقال بعض المتأخرين: الصحيح: أن الوسيلة في الواجب وجوبها عقلي لا شرعي، وكذلك وسيلة ترك الحرام.

(1/184)


"التنبيه" الثالث
أن هذا الخلاف هل هو في الكلام النفسي أم في اللساني؟ يحتمل الأول على معنى أنه يقوم بالذات معنى إيجاب الصلاة، ومعنى اشتراط الوضوء لصحة الصلاة، وهذان المعنيان يستلزمان معنى ثالثا، وهو إيجاب الوضوء، ويحتمل الثاني على أن مجموع الخطابين يدل على إيجاب الصلاة التزاما، ولا يتصور دلالتهما عليه مطابقة؛ لعدم الوضع.
"التنبيه" الرابع
ما الفرق بين هذه المسألة ومسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ فإن اختيار الإمام، والغزالي أن المقدمة واجبة، وأن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده.
"التنبيه" الخامس
هذا كله فيما هو مقدمة ووسيلة بأن يتوقف عليه وجود الواجب إما شرعا، كالوضوء مع الصلاة، أو عقلا، كالسير إلى الحج، وبقي أن يكون فعله لازما لفعل الواجب بأن يتوقف عليه العلم بوجود الواجب لا نفس وجود الواجب، وذلك إما لالتباس الواجب بغيره كالإتيان بالصلوات الخمس إذا ترك واحدة ونسي عينها، فإن العلم بأنه أتى بالصلاة المنسية لا يحصل إلا بالإتيان بالخمس، وإما أنه لا يمكنه الإتيان بالواجب إلا إذا أتى بغيره [لتقارب] ما بينهما بحيث لا يظهر حد بفرق بينهما وذلك كستر شيء من الركبة لستر الفخذ وغيره بحيث لا يظهر حد بفرق، فالعلم بستر جميع الفخذ الذي هو واجب إنما يحصل بشيء من الركبة للتقارب المذكور.
"التنبيه" السادس
إنما تجب المقدمة حيث لم يعارضها أقوى منها. مثاله: يجب على المرأة كشف الوجه في الإحرام، وجوزوا لها أن تستر القدر اليسير منه الذي يلي الرأس؛ لأنه لا يمكن استيعاب الرأس بالستر إلا بستره، وكأنهم رأوا أن الستر أحوط من الكشف.

(1/185)


"التنبيه" السابع
ما ذكرناه في المأمور من أنه إذا كان لا يتأتى أداء الواجب إلا به يجري مثله في النهي، وهو ما إذا لم يمكن الكف عن المحظور إلا بالكف عما ليس بمحظور، وسيأتي إن شاء الله تعالى في مباحث المحظور.

(1/186)


مسألة "الأمر بالصفة لا يدل على كون الموصوف واجبا ولا ندبا"
الأمر بالصفة إذا كان على جهة الندب لا يدل على كون الموصوف واجبا ولا ندبا، بل يتوقف على الدليل لجواز أن تكون الصفة مندوبة والموصوف واجبا، كالجهر بالقراءة في الصلاة، وتكون الصفة كالموصوف مندوبا، كرفع الصوت بالتلبية، وإن كان على جهة الوجوب كالأمر بالطمأنينة في الركوع يدل على وجوب الموصوف؛ لأنه لا يصح الإتيان إلا به. قاله سليم الرازي في التقريب.

(1/186)


مسألة: "حقائق الأحكام الخمسة متباينة"
حقائق الأحكام الخمسة من حيث تمامها متباينة فلا يجتمع شيء منها مع الآخر، وهو واضح من حدودها.
وقال من لم يتحقق تباين الحقائق: إن إيجاب الشيء يقتضي جوازه، ونقله ابن القشيري عن الفقهاء ومعظم الأصوليين. قال: وأنكر القاضي إطلاق هذا، وقال: لا معنى للجواز بعد ثبوت الوجوب، إذ لا يحسن تسمية الوجوب جوازا، وتسمية الواجب جائزا، والأحكام مضبوطة.
ثم قال ابن القشيري: ولا يتحقق خلاف في هذه المسألة؛ لأن أحدا لا يقول حقيقة الجائز أو المباح حقيقة الواجب، وغرض الخصم أن ما يلام على تركه ويقتضي اللزوم أن يكون فيه تحريض على فعله، ومن ضرورة ما يحرض على فعله أن يجوز لك الإقدام عليه، وهذا مما لا ينكره أحد غير أن غرض الموجب الإلزام، والباقي يقع ضمنا ولكن على هذا ينبغي للخصم أن يقول: يدل على الندب والجواز، والمحكي قصر الخلاف على الجواز.

(1/186)


قاعدة تجمع مسائل
جائز الترك مطلقا ليس بواجب، وتجوزنا بمطلقا عن فرض الكفاية والموسع والمخير، ويتفرع عليه مسائل:
"المسألة" الأولى: "الزيادة على أقل ما ينطلق عليه الاسم لا يوصف بالوجوب"
أن الزيادة على أقل ما ينطلق عليه الاسم فيما لا يتقدر بمعين، كمسح الرأس، وتطويل أركان الصلاة، وألحق بها إمساك بعض الليل احتياطا للصوم إذا لم نوجبه، كما حكاه العبادي عن أبي إسحاق المروزي لا يوصف بالوجوب لأنه يجوز تركه ونقله ابن برهان في الأوسط عن معظم العلماء، ونصره الشيخ أبو إسحاق في التبصرة، والغزالي وابن السمعاني في القواطع والإمام في المحصول، وغيرهم.
وقال ابن الرفعة في المطلب في مسح الرأس: إنه الأصح، وقيل: الكل واجب إذ ليس بعض أولى، فكان الكل واجبا، وهو ظاهر نص الشافعي في الأم، كما نقله في البحر عنه في باب الكتابة، فيما إذا أوصى بوضع بعض النجوم، ويحكى عن الكرخي ونسبه صاحب الكبريت الأحمر إلى الجمهور منهم، وقال: حتى قالوا: إن الإسلام لا يطلب من الصبي حتما، ولو أتى به وقع واجبا، وعلى هذا فوصفه بالاستحباب قبل الإيقاع، أما بعد وقوعه فيقع فرضا.
وقيل عليه: إن حكم مسح البعض المجزئ حكم خصال الكفارة فأي خصلة فعلها حكم بأنها الواجب.
قال ابن الرفعة في المطلب: والأول أشبه، لأنا لا نعرف أحدا قال فيما إذا صلى منفردا، ثم صلى تلك الصلاة فرضا في جماعة، وقلنا: الثانية هي الفرض: إنه وجب عليه أحد الظهرين على التخيير كما في خصال الكفارة، وفي المسألة وجه ثالث، وهو التفصيل، فإن كان لو اقتصر على البعض أجزأه، فالزائد ليس بواجب كمسح الرأس، وسبع البدنة للمتمتع وإلا فالكل فرض، كما لو أخرج بعيرا عن الشاة في الخمس لأنه لو اقتصر على خمس بعير فقط لم يجزئه قطعا، وادعى النووي في موضع من "شرح

(1/190)


المهذب" اتفاق أصحابنا على تصحيحه.
قال ابن برهان: ومنشأ الخلاف أن الأمر عندنا ما تتناوله تلك الزيادة، وعندهم تتناولها.
قلت: وعقد سليم في التقريب مسألة الأمر بفعل الشيء يقتضي وجوب أدنى ما يتناوله اسم ذلك الفعل. قال: ومن الناس من قال: يقتضي وجوب الأكثر وزيفه، ثم قال: مسألة: ومن أمر بشيء فلزمه أدنى ما يقع عليه اسم ذلك الفعل، فزاد عليه، فالزيادة تطوع، وعن الكرخي أن الجميع واجب. ا هـ. فجعل الخلاف في هذه مفرعا على القول بوجوب أدنى الاسم.
تنبيهات
"التنبيه" الأول:
قال الغزالي: الخلاف يتجه فيما وقع متعاقبا كالطمأنينة والقيام، وأما ما وقع بجملته معا، ولا يتميز بعضه عن بعض بالإشارة [والتعبير، فيبعد أن يقال: قدر الأصل] منه واجب، والباقي ندب.
قلت: وقد حكوا طريقين في مسح الرأس. هل محل الخلاف فيما إذا وقع الجميع دفعة واحدة، حتى إذا وقع مرتبا يكون نفلا جزما أم الخلاف في الصورتين؟ والصحيح: الثاني. كذا قاله النووي في شرح المهذب. لكن الأقوى الأول، واختاره إمام الحرمين.
"التنبيه" الثاني
زعم السهروردي أن الخلاف لفظي يرجع إلى تفسير الوجوب بماذا؟ والحق: أنه معنوي وللخلاف فوائد:
منها: زيادة الثواب فإن ثواب الواجب أعظم من ثواب النفل، ومنها: إذا مسح على شعر ثم حلق بعضه. فإن من يرى أنه إذا حلق كله تجب الإعادة، قد يقول: إذا قلنا: الكل واجب لزمه إعادة المسح في الموضع الذي حلقه، ولا سيما على قول من زعم أن ذلك كخصال الكفارة، فإنه بفعلها يكون معينا لوجوبها، كما قاله القاضي الحسين في الواجب الموسع إذا فعل في أول وقته ثم فسد أو أفسد، ثم أتى به في بقية الوقت يكون قضاء؛ لأنه بالشروع فيه تعين. قاله في المطلب.

(1/191)


"التنبيه" الثالث:
قال القاضي عبد الوهاب في الإفادة: المسألة مفروضة في زائد يمكن انفكاك الواجب منه أما ما لا يمكن فإنه واجب تبعا غير مقصود يعني، بلا خلاف؛ لأن الوجوب يتناول ما هذه صفته مع كونه ضد الموجب الآخر، كإمساك جزء من الليل قبل الفجر وبعد غروب الشمس، فلأن يكون واجبا مع جنس المأمور به أولى، وحاصله: تخصيص الخلاف بما إذا أمكن الاقتصار على الأصل، فإن لم يمكن إلا بفعل الكل، فالكل واجب قطعا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا كما في جزاء الصيد يصوم عن كل مد يوما، وإذا انكسر مد صام، يوما كاملا لأن الصوم لا يتبعض، ويقع فرضا قطعا وكذلك قال الإمام في النهاية فيما لو نذر اعتكاف يوم فاعتكف أقصر الأيام أجزأه أو أطول الأيام وقع الجميع فرضا. أي: من غير تخريج على الخلاف.

(1/192)


[المسألة] الثانية: [الصوم واجب على أصحاب الأعذار]
قال كثير من الفقهاء: الصوم واجب على المريض والحائض والمسافر مع أنه يجوز تركه لهم؛ لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وجوابه أنه مخصوص بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة: 184].
ونقله ابن السمعاني في القواطع، فقال: ذكر أصحابنا في أصحاب الأعذار الذين لا يتحتم عليهم الصوم في الحال، كالمريض والمسافر، أو من لا يجوز له الصوم في الحال، كالحائض والنفساء، أن الصوم واجب عليهم، ويأتون به عند زوال العذر وهو قضاء، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يجب على الحائض والنفساء والمريض بخلاف المسافر. قال: والقول بإيجابه على الحائض مشكل جدا، ثم وجهه.
وقال في "المستصفى"1: في المسافر مذهبان ضعيفان. أحدهما: مذهب الظاهرية 2: أنه لا يصح صومه في سفر، والثاني: مذهب الكرخي: أن الواجب أيام أخر، ولكن لو صام رمضان صح وكان معجلا للواجب، كتقديم الزكاة على الحول، وهو فاسد لظاهر الآية؛ لأن الآية لا تفهم إلا الرخصة في التأخير.
ـــــــ
1 انظر المستصفى ص "77".
2 انظر المحلى لابن حزم "4/384".

(1/192)


ونقل الشيخ أبو إسحاق عن بعض الأشعرية أنه يجب على المسافر صوم أحد الشهرين إما شهر الأمر أو شهر القضاء وأي ما صام كان أصلا، كالأنواع في كفارة اليمين، واختاره الإمام الرازي، ونقله سليم عن الأشعرية. قال: وقالوا في المريض والحائض كقول أهل العراق يعني أنه لا يجب مع العذر. وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: اختلفوا في المريض والمسافر والحائض الذين لا يلزمهم فعل الصوم في الحال لأجل عذرهم. هل يجب عليهم الصوم في الحال أو بعد زوال العذر؟ فمذهبنا: أنه واجب عليهم في الحال إلا أنهم يجوز لهم تأخيره إلى أن يزول العذر، وقال أهل العراق: الصوم واجب على المسافر في الحال دون المريض. قالوا: وأما الحائض فلا يجوز أن يقال: الصوم واجب عليها، والقول بذلك بدعة، وقال ابن جماعة المقدسي في الفروق: وإياك أن تقول: إن المسافر يخير بين الصوم والفطر فهو خطأ؛ لأن التخيير الواجب غير كونه واجبا. فلا يتصور التخيير بين واجب ومباح، بل العبارة الصحيحة أن يتخير بين فعل الصوم وبين فعل العزم على قضائه، فيكون العزم بدلا عن الصوم من الوقت، وحاصله: الوجوب في حق المسافر والمريض، وأما الحائض ففي وجوبه عليها وجهان. صحح الشيخ أبو إسحاق وغيره الوجوب، ونقله ابن برهان عن كافة الفقهاء منا ومن الحنفية، ونقل عن المتكلمين منا ومن المعتزلة أنها لا تخاطب به، وهو الذي نصره ابن القشيري. وقال النووي في الروضة: إنه الأصح، إذ القضاء لا يجب إلا بأمر جديد. قلت: وهو الذي نص عليه الشافعي في الرسالة، فقال: وقد ذكر أن التكليف إنما يتعلق بالبالغين.
قال الشافعي: وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة على البالغين العالمين دون من لم يبلغ، ومن بلغ ممن غلب على عقله من ذوي الحيض في أيام حيضهن. هذا لفظه1.
وقال الآمدي: والحق في ذلك: إن أريد بكونها مكلفة بتقدير زوال المانع فحق، وإن أريد أنها تؤمر بالإتيان بالصوم حالة الحيض فباطل، وهو يشير إلى أن الخلاف لفظي، وبذلك صرح الشيخ أبو إسحاق أيضا، وقيل: بل يظهر في النية إذا قلنا: يجب التعرض للأداء والقضاء.
وحكى إلكيا الطبري وجوبه عليها بمعنى ترتبه في ذمتها لا وجوب أدائه، ولهذا يسمى ما تؤديه بعد الحيض قضاء، ورأيت من يحكي ذلك عن نص الشافعي، وحينئذ
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "58".

(1/193)


فيصير النزاع لفظيا؛ لأن القائل بالوجوب لا يعني غير ذلك، فبقي الخلاف في أنه هل يوصف بالوجوب قبل الطهر أم لا؟ ونظير هذا، أن الدين المؤجل هل يوصف قبل الحلول بالوجوب؟ فيه وجهان: حكاهما الرافعي عن القفال في باب الدعاوى. وفرع عليهما ما لو ادعى عليه دينا مؤجلا قبل المحل فله أن يقول في الجواب: لا يلزمني دفع شيء إليك الآن ويحلف عليه، وهل يقول لا شيء علي مطلقا؟ قال القفال: فيه وجهان مبنيان على هذا. قلت: والمسألة إنما تتصور على القول المرجوح في صحة سماع الدعوى بالدين المؤجل، والمذهب المنصوص كما حكاه الغزالي في كتاب التدبير: أنها لا تسمع، إذ لا يتعلق بها إلزام ومطالبة فلا فائدة فيها.

(1/194)


المسألة" الثالثة: [المباح مأمور به]
قال الكعبي: المباح مأمور به؛ لأن فعله ترك الحرام وهو واجب، فالمباح واجب وسيأتي إن شاء الله تعالى في بحث المباح.

(1/194)