البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية فصل: في فرض الكفاية
مدخل
...
فصل: في فرض الكفاية
قال الغزالي في تعريفه: كل مهم ديني يراد حصوله ولا يقصد به
عين من يتولاه. فخرج بالقيد الأخير فرض العين، ومعنى هذا أن
المقصود من فرض الكفاية وقوع الفعل من غير نظر إلى فاعله،
بخلاف فرض العين فإن المقصود منه الفاعل، وجعله بطريق الأصالة،
لكن الحق: أن فرض الكفاية لا ينقطع النظر عن فاعله بدليل
الثواب والعقاب. نعم ليس الفاعل فيه مقصودا بالذات بل بالعرض،
إذ لا بد لكل فعل من فاعل، والقصد بالذات وقوع الفعل، وقوله:
ديني بناه على رأيه أن الحرف والصناعات وما به قوام المعاش ليس
من فرض الكفاية كما صرح به في "الوسيط"1 تبعا لإمامه2. لكن
الصحيح خلافه، ولهذا لو تركوه أثموا، وما حرم تركه وجب فعله،
وفيه مسائل.
ـــــــ
1 انظر الوسيط في المذهب الشافعي بتحقيقي "7/7".
2 يعني إمام الحرمين "أبو المعالي الجويني" المتوفى سنة
"478هـ".
(1/194)
المسألة" الأولى: "فرض الكفاية لا يباين
فرض العين"
فرض الكفاية لا يباين فرض العين بالجنس خلافا للمعتزلة، بل
يباينه بالنوع؛ لأن كلا منهما لا بد من وقوعه، غير أن الأول
شمل جميع المكلفين، والثاني كذلك بدليل تأثيم الجميع عند الترك
لكنه يسقط بفعل البعض؛ لأن المقصود منه تحصيل المصلحة من حيث
الجملة، فالوجوب صادق عليهما بالتواطؤ لا بالاشتراك اللفظي على
الأصح.
(1/195)
"المسألة" الثانية: "هل يتعلق فرض الكفاية
بالكل أو البعض؟"
اختلفوا هل يتعلق فرض الكفاية بالكل أو البعض على قولين مع
الاتفاق على أنه يسقط بفعل البعض؟. والجمهور على أنه يجب على
الجميع؛ لتعذر خطاب المجهول بخلاف خطاب المعين بالشيء المجهول،
فإنه ممكن كالكفارة، ونص عليه الشافعي في مواضع من "الأم"1:
منها قوله: حق على الناس غسل الميت والصلاة عليه ودفنه، لا يسع
عامتهم تركه، وإذا قام منهم من فيه كفاية أجزأه عنهم - إن شاء
الله - وهو كالجهاد عليهم حق أن لا يدعوه، وإذا انتدب منهم من
يكفي الناحية التي يكون بها الجهاد أجزأ عنهم، والفضل لأهل
الولاية بذلك على أهل التخلف عنهم.
وقال في باب السلف فيمن حضر كتاب حق بين رجلين: ولو ترك كل من
حضر الكتاب خفت أن يأثموا بل لا أراهم يخرجون من الإثم وأيهم
قام به أجزأ عنهم2.
وذكر مثله في الشهود إذا دعوا للأداء، وجرى عليه الأصحاب في
طرقهم وإليه ذهب من الأصوليين أبو بكر الصيرفي، والشيخ أبو
إسحاق، والقاضي، والغزالي. قالوا: والجملة مخاطبة، فإذا وقعت
الكفاية سقط الحرج، ومتى لم تقع الكفاية فالكل آثمون، واختاره
ابن الحاجب ونقله الآمدي عن أصحابنا، وأنه لا فرق بينه وبين
الواجب من جهة الوجوب إلا أنهما افترقا في السقوط بفعل البعض.
ثم عبارة الأكثرين أنه وجب على الجميع، ونقل إمام الحرمين في
التلخيص عن القاضي أنه وجب على عين كل واحد، ولا بد من تأويله.
ـــــــ
1 انظر الأم "1/274".
2 انظر الأم "3/92".
(1/195)
ويخرج من ذلك إذا قلنا: إنه واجب على
الجميع. قولان: أحدهما: أنه واجب على جميع المكلفين من حيث إنه
جميع. والثاني: أنه واجب على كل واحد، فإن قام به بعضهم سقط
التكليف عن الجميع، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع.
ويظهر تغاير القولين في كيفية التأثيم عند الترك، فعلى الأول
تأثيم كل واحد يكون واقعا بالذات، وعلى الثاني بالعرض، وقد ضعف
صاحب التنقيحات القول الثاني بأن الوجوب إذا تعين على كل واحد
بالفعل، وليس الشيء مما يفوت، كصلاة الجنازة فإسقاطه عن
الباقين رفع للطلب بعد التحقق فيكون نسخا، ولا يصح دون خطاب
جديد، ولا خطاب، فلا نسخ، فلا سقوط. بخلاف ما إذا قلنا بالأول،
وهو وجوبه على الجميع من حيث هو جميع، فإنه لا يلزم هذا
الإشكال، إذ لا يلزم من إيجاب الحكم على جملة إيجابه على كل
واحد، والظاهر ترجيح الثاني، فإن تكليف المجموع من حيث هو
مجموع لا يعقل؛ لأنه غير مكلف، وإن اعتبر فيه الأفراد رجع
لقولنا. وقوله: يلزم منه رفع الطلب قبل الأداء، وهو إنما يكون
بالنسخ ممنوع، فإن رفع الطلب كما يكون بالنسخ يكون بانتفاء علة
الوجوب، وهو كذلك، فإن الله تعالى إنما أوجب صلاة الجنازة
احتراما للميت كما أوجب دفنه سترا له، فإذا قام بذلك طائفة
زالت العلة فيسقط الوجوب؛ لزوال علته، كما أنه يسقط وجوب الدفن
إذا احترق الميت أو أكله السبع لانتفاء علته. ويظهر مما ذكرناه
أن قولهم: ويسقط بفعل البعض فيه تجوز، فإن علة السقوط بالحقيقة
هي انتفاء علة الوجوب لا فعل البعض، لكن لما كان فعل البعض
سببا لانتفاء علة الوجوب نسب السقوط إليه تجوزا. هذا إن عللنا
أفعال الله تعالى بالمقاصد، ومن لم يعللها بالمقاصد فيجوز أن
يكون أداء بعضهم أمارة على سقوط الفرض عن الباقين.
وقد أورد على هذا المذهب أنه لو كان واجبا على الكل لما سقط
بفعل البعض؛ لأن البعض الآخر حينئذ يكون تاركا للواجب، وتارك
الواجب مستحق العقاب.
وأجيب بأن الإيجاب متعلق بالجميع، ولا يلزم من تعلقه بالجميع
تعلقه بكل واحد، وأيضا فإن سقوطه عن الباقين لتعذر التكليف به،
والتكليف تارة يسقط بالامتثال، وتارة يسقط بتعذر الامتثال.
وقال المتولي: هل نقول إذا فعله يسقط الفرض عنه وعنهم؛ لأن
الفرض يتناول جميعهم، أو نقول بأن آخر الأمر أن الوجوب لم
يتناول سوى من فعله؟ فيه
(1/196)
خلاف.
قلت: وهو يشبه القول المحكي في الواجب المخير أنه يتعين أحدهما
بالفعل، والقول الثاني: أنه واجب على البعض، وعلى هذا فهل هو
مبهم أو معين؟ قولان، وعلى القول بأنه معين هل هو من قام به أو
معين عند الله دون الناس؟ قولان.
ويخرج من كلام المتولي وجه أنه يتعلق بطائفة مبهمة ويتعين
بالفعل.
وحكى ابن السمعاني تفصيلا بين أن يغلب على ظنه أنه يقوم به
غيره فلا يجب وإلا وجب، واستحسنه. قال: والخلاف عندي لفظي لا
فائدة فيه.
قلت: وقد يقال: بأنه معنوي وتظهر فائدته في صورتين:
إحداهما : أن فرض الكفاية هل يلزم بالشروع؟ فمن قال: يجب على
الجميع أوجبه بالشروع لمشابهته فرض العين.
والثانية : إذا فعلته طائفة، ثم فعلته أخرى هل يقع فعل الثانية
فرضا؟.
وفيه خلاف سنذكره. وكلام الإمام في المحصول مضطرب في المسألة،
والظاهر أنه يقول: على البعض؛ لأنه جعله متناولا لجماعة لا على
سبيل الجمع، ومراده بالجمع أعم من التعميم والاجتماع بدليل أنه
قسمه إليهما، فقال في التناول على سبيل الجمع: إنه ممكن فقد
يكون فعل بعضهم شرطا في فعل البعض، وقد لا يكون ما ليس على
سبيل الجمع ينبغي أن لا يكون على الجميع لا جميعا ولا إنسانا،
وإنما على البعض، ويؤيده قوله: فمتى حصل ذلك بالبعض لم يلزم
الباقين، ولو كان على الجميع لما قال: لم يلزم الباقين بل كان
يقول: "سقط عن الباقين" غير أنه استعمل لفظ السقوط بعد ذلك،
فينبغي تأويله ليجمع كلاماه.
(1/197)
المسألة" الثالثة: "إذا ترك الجميع فرض
الكفاية أثموا"
إذا تركه الجميع أثموا، وإن قلنا: يتعلق بالبعض، ووجهه الإمام
في باب الأذان من النهاية بأن تعطيل فرض الكفاية من الجميع
بمثابة تعطيل الواحد فرض العين، فلهذا ينال الكافة الحرج في
فرض الكفاية، كما يناله الواحد في فرض العين، ومن ثم لو اتفقوا
على ترك فرض الكفاية قوتلوا، وشبه إمام الحرمين في التلخيص ذلك
بمن ضمن ألفا عن المديون، ثم تمنع مع المضمون عنه عن الأداء
فيعصي كل واحد منهما بترك أداء الألف الملتزمة، وإن كان يقصد
المطالب منهما ألفا، فلما عمهما الوجوب
(1/197)
عمتهما المعصية بالترك.
وحكى أصحابنا وجهين في تجهيز الميت إذا تركه الجميع. هل يعمهم
الإثم أو يختص بالذين ندبوا إليه من أهل الميت؟ قال النووي:
وأصحهما: يأثم كل من لا عذر له.
(1/198)
"المسألة" الرابعة: "التكليف بفرض الكفاية
منوط بالظن لا بالتحقيق"
التكليف به منوط بالظن لا بالتحقيق، فإن ظن أنه قام به غيره
سقط عنه الفرض، وإن أدى ذلك إلى أن لا يفعله أحد، وإن ظن أنه
لم يقم به غيره وجب عليه فعله، وإن أدى ذلك إلى فعل الجميع،
كذا قاله الإمام في المحصول مستدلا بأن تحصيل العلم بأن الغير
هل يفعل أو لا؟ غير ممكن إنما الممكن تحصيل الظن، ولك أن تقول:
الوجوب على الكل معلوم فلا يسقط إلا بالعلم، وليس منه تكليف
بما لا يمكن؛ لأن الفعل يمكن إلى حصول العلم، ثم نقول: إنما لا
يمكن العلم بعدم فعل الغير بالنسبة إلى الزمن المستقبل في
المثال الذي ذكره؛ لأنه قال: لو غلب على ظنها أن غيرها يقوم
بذلك، ويكون قوله: سقط أي في الظاهر، أما بالنسبة إلى الماضي
فيمكن العلم القطعي.
(1/198)
"المسألة" الخامسة: "سقوط فرض الكفاية بفعل
الجميع دفعة واحدة"
إذا أتى به دفعة جميع من خوطب به سقط الفرض عنهم، وحصل ثوابه
لهم، ويقع فعل كل فرضا، إذ ليس بعضهم أولى بوصفه بالقيام
بالفرض من البعض، فوجب الحكم بالفرضية للجميع. حكاه إمام
الحرمين في باب الجنائز عن الأئمة، ثم قال: ويحتمل أن يقال: هو
كإيصال المتوضئ الماء إلى جميع رأسه دفعة، وقد اختلفوا في أن
الجميع فرض، أو الفرض ما يقع عليه الاسم فقط؟ ولكن قد يخيل
للفطن فرق ويقول: مرتبة الفرضية فوق رتبة السنة وكل مصل في
الجمع الكبير ينبغي أن لا يحرم رتبة الفرضية، وقد قام بما أمر
به، وهذا لطيف لا يصح مثله في المسح.
ومن هنا قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام: اختلفوا في أن فرض
الكفاية إذا باشره أكثر من يحصل به تأدي الفرض، هل يوصف فعل
الجميع بالفرضية؟ قال:
(1/198)
المسألة" السادسة: "يسقط فرض الكفاية بمن
فعله أولا"
إذا أتوا به على التعاقب، فإن فعله من يستقل به، ثم لحق بهم
آخرون، سقط بالأولين، ووقع فعل الآخرين فرضا، كذا قاله النووي
في باب الأذان من التحرير، وحكى الروياني فيه وجهين.
وفصل الشيخ عز الدين، فقال: إن لحقوا بهم قبل تحصيل مصلحته كان
ما فعلوه فرضا وإن حصلت الكفاية بغيرهم؛ لأن مصلحته لم تحصل
بعد. ذكره الشيخ عز الدين، وذكر له أمثلة.
منها: أن يخرج إلى العدو من يستقل بدفعهم، ثم لحق بهم آخرون
قبل انقضاء القتال، فيكتب لهم أجر الفرض، وإن تفاوتت رتبهم في
الثواب لقلة العمل وكثرته.
ومنها: أن يشتغل بالعلم من تحصل به الكفاية الواجبة، ثم من
يلحق به من يشتغل به، فيكون فرضا؛ لأن المصلحة لم تكمل بعد.
ومنها: صلاة الجنازة لو أحرمت الطائفة الثانية قبل تسليم
الأولى كانوا كمن صلى دفعة واحدة، فإن أحرموا بعده. قال القاضي
حسين، والإمام والغزالي: إن الثانية تكون فرضا أيضا إذ لا تقع
صلاة الجنازة نافلة. قال النووي: ولا خلاف فيه، وليس كما قال
لما سيأتي عن الروياني.
ومنها: لو رد الجميع السلام كانوا مؤدين للفرض سواء كانوا معا
أو متعقبين صرحوا به في السير.
(1/199)
المسألة السابعة
إذا قلنا: إنه يتعلق بالجميع، وفعل البعض مسقط للحرج، فهل ذلك
بالشروع أم لا لاحتمال القطع؟ فيه تردد، والصواب: الثاني،
ويحتمل بناؤه على أنه فرض الكفاية هل يلزم بالشروع؟.
(1/199)
المسألة الثامنة:
معنى قولهم: سقط بفعل البعض
معنى قولهم: سقط بفعل البعض - أي بعض مكلف؛ ليخرج ما قام به
غير المكلف فإنه لا يسقط شيئا، ولهذا لو سلم على جماعة فيهم
صبي فأجاب الصبي وحده لا يسقط فرضهم بجوابه على الأصح وقالوا:
إذا حج عن الميت لا يستأجر صبيا، لأنه ليس من أهل فرض الإسلام.
نعم تسقط صلاة الجنازة بصلاة الصبيان المميزين عند وجود الرجال
على الأصح.
وقال في شرح المهذب: إن الصبي إذا أذن، وقلنا: الأذان فرض
كفاية حصل الفرض بأذانه.
(1/200)
المسألة التاسعة:
سقوط فرض الكفاية بفعل الملائكة
هل يسقط بفعل الملائكة؟ لم أر من تعرض لهذه المسألة غير الشيخ
أبي إسحاق الشيرازي في تذكرة الخلاف في مسألة تغسيل الشهيد
الجنب. فقال: غسل الملائكة لا يسقط ما تعبد به الآدمي في حق
الميت، وقياس سائر فروض الكفاية كذلك، ومثله هل يسقط بفعل
الجن؟ لم أر فيه تصريحا، وينبغي تخريجه على الخلاف في تكليفهم
بالفروع وسنذكره.
(1/200)
المسألة العاشرة:
فرض الكفاية يلزم بالشروع
فرض الكفاية يلزم بالشروع على المشهور قاله ابن الرفعة في
المطلب في كتاب الوديعة، وأشار في باب اللقيط إلى أن عدم
اللزوم إنما هو بحث للإمام، ولهذا قالوا: يتعين الجهاد بحضور
الصف، ويلزمه إتمام الجنازة على الأصح بالشروع، وأما تجويزهم
الخروج من صلاة الجماعة مع القول بأنها فرض كفاية فبعيد، ولم
يرجح الرافعي والنووي في هذه القاعدة شيئا بخصوصه، وإنما صححوا
في أفراد مسائلها ما يخالف الآخر.
وحكي عن القاضي الحسين: أن المتعلم إذا أنس من نفسه النجابة
أنه يحرم عليه القطع، وصححا خلافه؛ لأن الشروع لا يغير حكم
المشروع فيه بخلاف الجهاد.
(1/200)
"المسألة" الحادية عشرة: "هل يتعين فرض
الكفاية بتعيين الإمام؟"
إن فرض الكفاية هل يتعين بتعيين الإمام؟ فيه خلاف، صنف فيه ابن
التلمساني، وقد ذكر الصيدلاني: أن الإمام لو أمر شخصا بتجهيز
ميت تعين عليه، وليس له استنابة غيره، ولا أجرة له.
(1/201)
"المسألة" الثانية عشرة: "القيام بفرض
الكفاية أولى من القيام بفرض العين"
قيل: القيام بفرض الكفاية أولى من القيام بفرض العين؛ لأنه
يسقط فيها الفرض عن نفسه وعن غيره، وفي فرض العين يسقط الفرض
عن نفسه فقط. حكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في شرح كتاب
الترتيب وجزم به الشيخ أبو محمد الجويني
(1/201)
المسألة" الثالثة عشرة: "يتصور المخير في
الواجب الكفائي"
كما يتصور المخير في الواجب العيني كما سبق في خصال الكفارة
كذلك في الواجب على الكفاية، ولم أر من ذكره، وقد ظفرت له
بمثال، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]
وينبغي أن يطرقه الخلاف. أنه هل الواجب الجميع أو واحد غير
معين؟.
(1/202)
"المسألة" الرابعة عشرة
استشكل الجمع بين قول الأصوليين إن فرض الكفاية يسقط بفعل
البعض، وقول الفقهاء: لو صلى على الجنازة طائفة ثانية وقعت
صلاتهم فرضا أيضا، وإذا سقط الفرض بالأولى كيف تقع الصلاة
الثانية فرضا؟،
وأجاب النووي في باب الجنائز من "شرح المهذب"1 فقال: عبارة
المحققين: يسقط الحرج عن الباقين أي لا حرج عليهم في ترك هذا
الفعل، فلو فعلوه وقع فرضا كما لو فعلوه مع الأولين دفعة
واحدة، وأما عبارة من يقول: سقط الفرض عن الباقين، فمعناه سقط
حرج الفرض وإثمه. ا هـ.
قلت: وهي عبارة الشافعي في الرسالة ويشهد له ما قاله المتولي:
إن الطائفة الثانية تنوي بصلاتهم الفرض؛ لأن فعل غيرهم أسقط
عنهم الحرج لا الفرض، وهذا قد ينكره الشادي في العلم، ويقول:
لا معنى للفرض إلا الذي يأثم بتركه، فإذا كان بعد فعل الأولى
لا يلحق الثانية حرج على الترك، فلا معنى لبقاء الفرض في حقهم،
وقد أجيب عنه بأن فرض الكفاية على قسمين:
أحدهما : ما يحصل تمام المقصود منه ولا يقبل الزيادة، فهذا هو
الذي يسقط بفعل البعض.
والثاني: يتجدد مصلحته بتكرار الفاعلين له كالاشتغال بالعلم،
وحفظ القرآن، وصلاة الجنازة؛ لأن مقصودها الشفاعة، فهذه
الأمثلة ونحوها كل أحد مخاطب به، وإذا وقع يقع فرضا تقدمه غيره
أو لم يتقدمه، ولا يجوز له تركه إلا بشرط قيام غيره به، فإذا
قام غيره به جاز الترك وارتفع الحرج.
ـــــــ
1 انظر المجموع شرح المهذب "4/121".
(1/203)
|