البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية فصل: في الحرام
مدخل
...
فصل: في الحرام
وهو لغة: المنع. قال الله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ
الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] أي: حرمناه رضاعهن
ومنعناه منهن، إذ لم يكن حينئذ مكلفا، وقوله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50]
ويطلق بمعنى الوجوب كقوله:
فإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلا بكيت على عمرو
وعليه خرج قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء:
95] أي وواجب على قرية أردنا إهلاكها أنهم لا يرجعون عن الكفر
إلى الإيمان، وحكي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه.
وفي الاصطلاح: ما يذم فاعله شرعا من حيث هو فعل.
ومن أسمائه القبيح، والمنهي عنه، والمحظور.
وقال أبو عبد الله الزبيري: الحرام يكون مؤبدا، والمحظور قد
يكون إلى غاية حكاه عنه العسكري في فروقه.
وفي النكت لابن الفارض المعتزلي حكى الشيخ أبو عبد الله يعني
البصري عن فقهاء العراق أنهم كانوا يقولون: محرم في القبيح إذا
كان طريق قبحه مقطوعا به، ويقولون: مكروه فيما كان طريقه
مجتهدا فيه كسؤر كثير من السباع.
قال ابن سراقة: وسماه الشافعي في كثير من كتبه مكروها أيضا
توسعا، والأظهر أن لفظ المكروه لا يقتضي التحريم.
تنبيه: "الحرمة ليست ملازمة للذم"
الحرمة ليست ملازمة للذم والإثم لا طردا ولا عكسا، فقد يأثم
الإنسان على ما ليس بحرام، كما إذا قدم على زوجه يظنها أجنبية،
وقد يحرم ما ليس فيه إثم، كما إذا قدم على أجنبية يظنها زوجته.
وتحقيق ذلك: أن الحل والحرمة تابعان لمقاصد الشريعة، والله
تعالى أحل الأبضاع، والأموال، والأزواج في أحوال بشروط، وحرمها
بدون ذلك، غير أنه لا
(1/204)
يكلف نفسا إلا وسعها، جعل الإثم يتوقف على
العلم، فإذا قدم العبد على فعل يعتقده حلالا وهو حرام لا إثم
عليه تخفيفا على العبد، وإذا أقدم على فعل يظنه حراما وهو حلال
عاقبه على الجرأة، فمعنى قولنا: هذا الفعل حرام أن الشارع له
تشوف إلى تركه، ومعنى قولنا: حلال خلاف ذلك.
والحل والحرمة يطلقان تارة على ما فيه إثم وما ليس فيه، وهو
مراد الأصوليين بقولهم: الحرام ما يذم عليه، وتارة على ما
للشارع فيه تشوف إلى تركه، ومنه قول أكثر الفقهاء، وطء الشبهة،
أعني شبهة المحل حرام مع القطع بأنه لا إثم فيه، ومنه قول
الشيخ أبي حامد: أجمعوا على أن قتل الخطأ حرام، وكذلك أكل
الميتة في حال الاضطرار على رأي، وهذا يمكن رد كلام الأصوليين
إليه في حد الحرام بأنه ما يذم فاعله، بأن يكون المراد يذم
بالقوة. أو يكون المراد، يذم بشرط العلم بحاله.
وإن استنكرت إطلاق الحرمة على كل من المعنيين، فانظر إلى قول
الأصوليين: لو اشتبهت المنكوحة بأجنبية حرمتا على معنى أنه يجب
الكف عنهما. وقوله: إذا قال: إحداكما طالق حرمتا تغليبا
للحرمة، فإحدى المرأتين في الفرعين حرام باعتبار الإثم على
الجرأة، وهي التي في علم الله أنها الزوجة في الأولى، والتي
سيعينها في الثانية، والأخرى حرام باعتبار أنها أجنبية،
فقولهم: حرمتا على معنى أنه يأثم بالإقدام على كل منهما،
وقولهم: تغليبا للحرمة على المعنى الآخر، فتأمل كيف أثبتوا
التحرم للزوجة بالاعتبار الأول، وصرفوه عنها بالاعتبار الثاني.
وما ذكرناه ليس ذهابا إلى موافقة من يقول: الحل والحرمة يوصف
بهما الذوات بل هو توسط. وتحقيقه: أن الحل والحرمة يوصف بهما
ذوات الأفعال طابقت الاعتقاد أم لا.
وهذا إذا تبين لك في الحرام نقلته إلى بقية الأحكام الخمسة.
وانظر قول البيضاوي: قال الفقهاء: يجب الصوم على الحائض،
والمريض، والمسافر، فرب واجب يأثم الإنسان بتركه باعتبار ظنه،
ويكون في نفس الأمر حراما، وبالعكس.
قال الشيخ أبو حامد فيمن صلى وهو يظن أنه متطهر: لقي الله
وعليه تلك الصلاة غير أنه لا يعاقبه، فهذا ترك الواجب ولا عقاب
عليه؛ لأنه ترك الواجب باعتبار الوجوب بمعنى تشوف الشارع، ولم
يتركه بمعنى التكليف.
(1/205)
مسألة: "الحرمة لا تلازم الفساد"
الحرمة لا تلازم الفساد، فقد يكون الشيء محرما مع الصحة.
كالصلاة في الدار المغصوبة، وثوب الحرير، وفائدة التحريم سقوط
الثواب.
(1/206)
مسألة: "ما لا يتم ترك الحرام إلا به"
ما لا يتم ترك الحرام إلا به ينقسم أيضا إلى الأقسام الثلاثة
السابقة في مقدمة الواجب، كما قاله ابن برهان.
فالأول : ما كان من أجزائه كالزنى. فإن النهي عنه نهي عن
أجزائه، وهي الإيلاجات والإخراجات، ولا فرق بين أن يقول: لا
تزن، وبين أن يقول: لا تولج ولا تخرج.
والثاني : ما كان من شروطه وأسبابه كمقدمات الوطء من المفاخذة،
والقبلة، وسائر الدواعي بعد ذلك، ومنه العقد على الأم، فإنه
لما كان سبب الوطء، وهو منهي عنه كان العقد الذي هو سبب إليه
منهيا عنه.
الثالث : ما كان من ضروراته كما إذا اختلطت أخته بأجنبيات في
بلدة صغيرة حرم عليه نكاحهن، وإن كنا نعلم أن نكاح الأجنبيات
ليس بحرام، لكن لما اختلطت بهن الأخت، وعسر التمييز كان تحريم
الأجنبيات من ضرورات تحريم نكاح الأخت، ولهذا لو تعينت حرم
نكاحها على الخصوص، ويقرب من هذا القسم ما لو وقعت النجاسة في
الماء، فإن من أصحابنا من أجراه على هذا الأصل، وقال: الماء
طاهر في عينه، ولم يصر نجسا بحال، وإنما النجاسة مجاورة، فلم
ينه عن استعمال الطاهر، لا يتأتى إلا باستعمال النجس. فكان
تحريم استعمال الطاهر من ضروراته استعمال النجس إلا أن هذا لا
يليق بأصول الشافعي، بل هو أشبه بمذهب أبي حنيفة؛ لأن قاعدته.
أن الماء جوهر طاهر، والطاهر لا يتصور أن يصير نجسا في عينه
بالنجاسة؛ لأن قلب الأعيان لا يدخل تحت وسع الخلق، بل هو باق
على أصل الطهارة، وإنما هو نهي عن استعمال النجاسة.
ويستدل على هذا بفضل المكاثرة، فإنه لو كوثر عاد طهورا
بالإجماع، ولو صار
(1/206)
الماء عينه نجسا بالمخالطة لما تصور
انقلابه طاهرا بالمكاثرة.
قال وهو باطل، فإن المائع اللطيف إذا وقعت فيه نجاسة خالطت
أجزاؤه أجزاءها، وامتزجت به لا يمكن التمييز، فوجب الحكم
بنجاسة الكل؛ لأن النجاسة لا معنى لها إلا الاجتناب، ولا شك أن
وجوب الاجتناب ثابت في الكل.
وقد وافق على حكاية هذا الخلاف ابن السمعاني في القواطع، فقال
فمنهم من قال يصير كله نجسا، وهو اللائق بمذهبنا، وقيل: إنما
حرم الكل لتعذر الإقدام على المباح قال وهو يليق بمذهب أبي
حنيفة.
قلت: وهو الذي أورده الإمام في المحصول وما أورده ابن برهان في
الاعتراض عليهم رده الأصفهاني بأن وجوب الاجتناب عند اختلاط
النجاسة بالماء متفق عليه، وإنما الكلام في علة الاجتناب ما
هي؟ وقال أبو الحسين في المعتمد: اختلفوا في اختلاط النجاسة
بالماء الطاهر، فقيل: يحرم استعماله على كل حال، ومنهم من جعل
النجاسة مستهلكة، واختلفوا في الأمارة الدالة على استهلاكها،
فمنهم من قال: هي عدم تغير الماء، ومنهم من قال: هي كثرة
الماء. واختلف هؤلاء فمنهم من قدر الكثرة بالقلتين، ومنهم من
قدرها بغير ذلك.
إذا علمت هذا، فنقول: إذا لم يمكن الكف عن المحظور إلا بالكف
عما ليس بمحظور، كما إذا اختلط بالطاهر النجس كالدم والبول يقع
في الماء القليل أو الحلال بالحرام، فإما أن يختلط ويمتزج بحيث
يتعذر التمييز، فيجب الكف عن استعماله، ويحكم بتحريم الكل.
قاله إمام الحرمين في التلخيص وغيره، وكذا لا يختص التحريم
بالممنوع أصالة، ذكره ابن السمعاني في القواطع، وظاهر كلامه
أنه لا يتأتى فيه الخلاف السابق: في أن ما لا يتم الواجب إلا
به فهو واجب، وإن حكى الخلاف في كيفية التحريم على ما سبق. أما
إذا لم يختلط بدخول أجزاء البعض في البعض فهو على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يجب الكف عن الكل، كالمرأة التي هي حلال تختلط
بالمحرمات، والمطلقة بغير المطلقة، والمذكاة بالميتة، فيحرم
إحداها بالأصالة وهي المحرمة والأجنبية والميتة، والأخرى بعارض
الاشتباه وهي الزوجة، والمذكاة؛ لأن المحرم بالأصالة يجب
اجتنابه ولا يتم اجتنابه إلا باجتناب ما اشتبه به، وما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب، وقيل: تباح المذكاة والأجنبية ولكن
يجب الكف عنهما.
قال الغزالي: وأما توهم هذا من ظن أن الحل والحرمة وصف ذاتي
لهما أي:
(1/207)
قائم بذاتهما، كالسواد والبياض بالأسود
والأبيض، وليس كذلك بل الحل والحرمة متعلقان بالفعل، وهما
الإذن في الفعل ووجوب الكف، وحينئذ يتحقق التناقض، وقد يقال:
إن مراد هذا القائل أن تحريم الأجنبية والمذكاة بعارض
الاشتباه، وهما في نفس الأمر مباحتان، فالخلاف إذن لفظي.
الثاني : ما يسقط حكم التحريم، كما إذا اختلطت محرم بنساء بلدة
عظيمة، فيجعل كالعدم، ويباح له نكاح أي امرأة أراد.
الثالث : ما يتحرى فيه، كالثياب والأواني. قال الإمام في
المحصول: وكان القياس عدم التحري؛ لأن ترك استعمال النجاسة لا
يتأتى بيقين إلا بترك الجميع. قال: وهاهنا فيه خلاف، يعني هل
يتوقف على الاجتهاد أم يجوز الهجوم بمجرد الظن؟ والأصح: الأول،
ومن القسم الأول: لو قال لزوجتيه: إحداكما طالق ولم ينو معينة
حرمتا جميعا إلى حين التعيين؛ لأن كلا منهما يحتمل أن تكون
المطلقة وغيرها، وإذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام، وحكاه
الغزالي في "المستصفى"1 عن أكثر الفقهاء، وقال قبله: يحتمل أن
يقال: يحل قبلهما والطلاق غير واقع؛ لأنه لم يبين له محلا،
فصار كما إذا باع أحد عبديه، ويحتمل أن يقال: حرمتا جميعا،
وأنه لا يشترط تعيين محل الطلاق، ثم عليه التعيين، وإليه ذهب
أكثر الفقهاء، والمنع في ذلك موجب ظن المجتهد، أما المضي إلى
أن إحداهما محرمة، والأخرى منكوحة كما توهموه في اختلاط
المنكوحة بالأجنبية فلا ينقدح هاهنا؛ لأن ذلك جهل من الآدمي
عرض بعد التعيين. أما هذا فليس متعينا في نفسه، بل يعلمه الله
تعالى مطلقا لإحداهما لا بعينها. ا هـ.
وما قاله أولا من احتمال حل الوطء هو المنقول عن ابن أبي هريرة
من أصحابنا، وحكاه عنه ابن هبيرة في كتاب الخلاف والإجماع، ولو
قيل: بحل وطء إحداهما بناء على أن الوطء لإحداهما تعيين للطلاق
في الأخرى، كما هو أحد الوجهين لم يبعد، ثم إذا عين إحداهما في
نيته. قال الإمام في باب الشك في الطلاق من "النهاية"2: أطلق
الأصحاب التحريم ما لم يقدم بيانا. قال: ويحتمل أنه إذا عرف
المطلقة حل له وطء الأخرى في الباطن، وهو ممنوع من غشيانهما
جميعا. أما إذا غشي إحداهما فما سبب المنع حينئذ؟ ثم حمل كلام
الأصحاب على ما إذا ظهرت الواقعة للحاكم، ولم يثبت
ـــــــ
1 انظر المستصفى ص "58".
2 يعني كتاب "نهاية المطلب في دراية المذهب".
(1/208)
عنده تعيين بالنية. أما لو قال لها
ولأجنبية: إحداكما طالق، فهل يقبل قوله: أردت الأجنبية؟ وجهان،
وحكى الرافعي في باب العتق عن ابن سريج أنه لو قال: لعبده وعبد
غيره: أحدكما حر لم يكن له حكم، ثم قال: وهذا غير مسلم، فإن
الوجهين في نظيره من الطلاق متفقان على أن له حكما وأثرا.
(1/209)
مسألة: "لو تعدى عما أبيح له"
سبق في الواجب أنه إذا أتى بالقدر الزائد هل يقع الجمع فرضا أم
لا؟ ونظيره هنا لو تعدى عما أبيح له، كما لو كشف العورة في
الخلوة زائدا على الحاجة هل يأثم على الكل أو على الزائد فقط؟
فيه خلاف. حكاه الشيخ صدر الدين بن الوكيل عن بعض الأئمة
وأنكروه عليه، ويمكن أخذه من قاعدة في الفقه، وهي أن تعدي
المستحق هل يبطل به المستحق أو يبقى معه المستحق ويبطل الزائد؟
فيه خلاف في باب القسم، وباب القصاص وغيره.
(1/209)
مسألة: "إذا نسخ التحريم هل تبقى الكراهة؟"
سبق في الواجب أنه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز؟ ونظيره هنا
أن يقال: إذا نسخ التحريم هل تبقى الكراهة؟ ولم يتعرض
الأصوليون لذلك، فيحتمل جريان الخلاف هنا أيضا؛ لأن بين الحرام
والمكروه اشتراكا في الجنس، وهو مطلق المنع، وامتاز الحرام
بالجرم، فإذا ارتفع الجرم يبقى مطلق المنع، ويحتمل خلافه، فإن
مأخذ الخلاف هناك أن المباح جنس للواجب، ولم يقل أحد بأن
الكراهة جنس للحرام.
(1/209)
مسألة: "الحرام والواجب متناقضان"
قد تقرر أن الحرام والواجب متناقضان فلا يجتمعان، فالحرام
بالشخص لا يكون حراما وواجبا من جهة واحدة إلا إذا جوزنا تكليف
المحال لذاته. واعلم أن الواحد يقال بالتشكيك على الواحد
بالجنس، وعلى الواحد بالنوع، وعلى الواحد بالشخص، فأما الواحد
بالنوع، كمطلق السجود، فاختلفوا هل يجوز أن يكون مأمورا
(1/209)
فرع: [كون الواحد واجبا وحراما باعتبارين]
قال الجمهور: المجوزون كون الواحد واجبا وحراما باعتبارين هذا
إذا أمكن الإتيان بأحدهما منفكا عن الآخر، أما إذا لم يمكن ذلك
بحيث لا يخلو المخاطب عنهما، بأن يقول: لا تنطق، ولا تسكت، ولا
تتحرك، ولا تسكن، فإن منعنا تكليف المحال منعناه، وإن جوزناه
جوزناه عقلا لكنه لم يقع، فعلى هذا من توسط أرضا مغصوبة أو
تخطى زرع غيره، ثم تاب وتوجه للخروج، واختار أقرب الطرق، أو
أدخل فرجه في محرم، ثم خرج فخروجه واجب لا تحريم فيه، وإن وجد
فيه اعتباران، الشغل والتفريغ؛ لأنه لا يمكن الإتيان بالتفريغ
إلا بالشغل.
قال القاضي: هذا هو المختار، وكذلك القول في كف الزاني عن
الزنى.
قال ابن برهان: وهذا مما أجمع عليه كافة الفقهاء والمتكلمين.
وقال أبو هاشم: خروجه كلبثه؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير
إذنه، وذلك قبيح لعينه فهو منهي عنه بهذا الاعتبار ومأمور به؛
لأنه انفصال عن المكث نقله إمام الحرمين عنه، وحكاه القاضي عن
أبي الشمر من الأصوليين، وهو في الحقيقة تكليف بالمحال لجمعه
بين النقيضين، فإنه منهي عن الشيء ونقيضه في فعل واحد، وقد
بناه أبو هاشم على أصله الفاسد في الحسن والقبح، فأصله الفاسد
من منع التكليف بالمحال.
وحاصل الخلاف: أن الأمر الشرعي هل يبقى مستمرا أو ينقطع؟ وقال
إمام الحرمين: إن كان متعمدا لتوسطها فهو مأمور بالخروج، وإنما
يعصي بما تورط به من العدوان السابق، وقال: وهو مرتبك في
المعصية بحكم الاستصحاب مع انقطاع تكليف النهي.
وحاصله: أنه عاص في خروجه ولا نهي عليه فسقوط النهي لعدم
الإمكان، وتعصيته لتسببه الأول، وهو بعيد، إذ ليس في الشرع
معصية من غير نهي ولا عقاب من غير نهي، وهو قريب من مذهبه في
مسألة خطاب الكفار بالفروع.
قال: وكذلك من غصب مالا وغاب به، ثم تاب وتوجه راجعا، وكذا
استبعده ابن الحاجب وضعفه الغزالي لاعترافه بانتفاء النهي،
فالمعصية إلى ماذا تستند؟.
وحاصله: أنه لا معصية إلا بفعل منهي عنه أو ترك مأمور به، وقد
سلم
(1/214)
انتفاء تعلق النهي به فانتهض الدليل عليه،
فإن قيل: فيه جهتان يتعلق الأمر بافتراغ ملك الغير، والنهي عن
اللبث، كالصلاة في الدار المغصوبة سواء كما قاله في البرهان:
قلنا: ممنوع؛ لأن الخروج شيء واحد، ولا جهتين لتعذر الامتثال
بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة، فإن الامتثال ممكن، وإنما جاء
الاتحاد من جهة اختيار المكلف، والتكليف بالمحال لا خير للعبد
فيه، فلا يكلف. قلت: وقد تعرض الشافعي في "الأم"1 لهذه المسألة
فقال في كتاب الحج في المحرم إذا تطيب: ولا رخصة له في تركه
إذا قدر على غسله، وهذا مرخص له في التيمم إذا لم يجد ماء، ولو
غسل الطيب غيره كان أحب إلي، وإن غسله هو بيده يفتدي من غسله.
قيل: إن عليه غسله، وإن ماسه فلا، إنما ماسه ليذهبه عنه، ثم
يماسه ليتطيب به ولا يثبته، وهذا ما وجب عليه الخروج منه خرج
منه كما يستطيع، ولو دخل دار رجل بغير إذن لم يكن جائزا له،
وكان عليه الخروج منها، ولم أزعم أنه يخرج بالخروج، وإن كان
يمشي ما لم يؤذن له، ولأن مشيه للخروج من الذنب لا للزيادة
منه، فهكذا هذا الباب كله. ا هـ لفظه.
وهو صريح في أن من تورط في الوقوع في حرام فيتخلص منه لا يوصف
حالة التخلص بالإثم؛ لأنه تارك له فلا يتعلق به تحريم، كما لو
خرج من الدار المغصوبة لا يتعلق به تحريم الدخول.
وقال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب الصوم من الفروق: قد نص
الشافعي على تأثيم من دخل أرضا غاصبا، ثم قال: فإذا قصد الخروج
منها لم يكن عاصيا بخروجه؛ لأنه تارك للغصب. ا هـ.
والتحقيق: أن نفس إشغال الحيز باق على تحريمه، ونفس الانتقال
هو جائز بل هو واجب، إذ هو وسيلة إلى ترك الحرام، ومثله لو
قال: إن وطئتك فأنت طالق. هل يمتنع عليه الوطء؟. قال ابن
خيران: نعم؛ لأن الطلاق يقع عند تغييب الحشفة والنزع يقع بعد
وقوع الطلاق، وقال عامة الأصحاب: بل يجوز، ونص عليه في الأم؛
لأن الوطء يقع في النكاح، والذي يقع بعد وقوع الطلاق هو النزع،
والنزع ترك المأثم، والخروج عن المعصية ليس بحرام.
قال الرافعي: ويشبه ذلك ما لو قال لرجل: ادخل داري ولا تقم
فيها. ثم
ـــــــ
1 انظر الأم "2/154".
(1/215)
ذكر إمام الحرمين أن غرضه يظهر بمسألة
ألقاها أبو هاشم، فحارت فيها عقول الفقهاء وهي من توسط جمعا من
الجرحى، وجثم على صدر واحد منهم، وعلم أنه لو بقي على ما هو
عليه لهلك من تحته، ولو انتقل لهلك آخر، يعني مع تساوي الرجلين
في جميع الخصال.
قال: وهذه المسألة لم أتحصل فيها من قول الفقهاء على ثبت،
والوجه: القطع بسقوط التكليف عن صاحب الواقعة مع استمرار حكم
سخط الله وغضبه، ووجه السقوط استحالة التكليف بالمحال واستمرار
العصيان، لتسببه إلى ما لا يخلص منه، ولو فرض إلقاء رجل على
صدر آخر، بحيث لا ينسب إلى الواقع اختيار فلا تكليف ولا عصيان.
وقال الغزالي: يحتمل ذلك، ويحتمل أن يقال: يمكث، فإن الانتقال
فعل مستأنف، ويحتمل التخيير، وقال في المنخول: المختار أنه لا
حكم لله فيه، فلا يؤمر بمكث ولا انتقال، ولكن إن تعدى في
الابتداء استصحب حكم العدوان، وإن لم يتعد فلا تكليف عليه،
ونفى الحكم حكم الله في هذه الصورة.
وقال في آخر الكتاب حكم الله فيه أن لا حكم، وهو نفي الحكم.
هذا ما قاله الإمام فيه، ولم أفهمه بعد، وقد كررته عليه مرارا،
ولو جاز أن يقال: نفي الحكم حكم لجاز أن يقال ذلك قبل ورود
الشرائع، وعلى الجملة جعل نفي الحكم حكما تناقض، فإنه جمع بين
النفي والإثبات إن كان لا يعني به تخيير المكلف بين الفعل
والترك، وإن عناه فهو إباحة محققة لا دليل عليها.
قال الإبياري، وهذا أدب حسن مع الإمام.
وقوله: هذا لا أفهمه يعني لا لعجز السامع عن فهمه بل لكونه غير
مفهوم في نفسه. ا هـ.
وللإمام أن يقول: أردت انتفاء الحكم يعني الحكم الخاص وهي
الأحكام الخمسة، وتكون البراءة الأصلية حكما لله بهذا
الاعتبار، وقد قال في كتاب الصداق من النهاية: ليس يبعد عندنا
أن يقال بنفي الحرج عنه فيما فعله، وهذا حكم، ولا يبعد أن
يقال: انتقالك ابتداء فعل منك واستقرارك في حكم استدامة ما وقع
ضروريا، ويؤيد أن الانتقال إنما يجب في مثل ذلك إذا كان ممكنا،
وإذا امتنع بإيجابه بحال، والممتنع شرعا كالممتنع حسا وطبعا.
قال: وهذا في الدماء لعظم موقعها بخلاف الأموال، فالتحقيق فيها
ليس
(1/216)
بالبدع، فلو وقع بين أوان ولا بد من انكسار
بعضها أقام أو انتقل فيتعين في هذه الصورة التخيير. ا هـ.
وقد سأل الغزالي الإمام في كبره عن هذا، فقال له: كيف تقول لا
حكم وأنت ترى أنه لا تخلو واقعة عن حكم؟.
فقال: حكم الله أن لا حكم، فقلت له: لا أفهم هذا؟.
وقال ابن برهان: إن تسبب إلى الوقوع أثم بالنسب، وإلا فلا إثم
ولا ضمان.
وقال ابن عقيل من الحنابلة: إن وقع على الجرحى بغير اختياره
لزمه المكث، ولا يضمن ما تلف بسقوطه، وإن تلف شيء باستمرار
وكره، أو بانتقاله لزمه ضمانه، ولا يجوز له أن ينتقل إلى آخر
قطعا.
وقال ابن المنير في شرح البرهان يحتمل وجوب البقاء عليه؛ لأن
الانتقال استئناف فعل بالاختيار مهلك ولا كذلك الاستصحاب، فإنه
أشبه بالعدم؛ لأنه الأصل، ويحتمل أن يقال: ينتقل؛ لأن الانتقال
يحقق المصلحة في سلامة المنتقل عنه، ويحتمل أن يهلك المنتقل
إليه، أو يموت بأجله قبل الجثوم إليه، ويحتمل أن يتخير؛ لتعادل
المفسدتين.
قال: ولعمري لقد دلس بفرضها؛ لأنه لا يضيق كما زعم إلا بأن
نفرض جوهرين مفردين متلاصقين، قد جثم جوهر فرد على أحدهما فإن
بقي أهلك، وإن انتقل فر من انتقاله عن الجوهر الأول، وهو زمن
جثومه على الجوهر الثاني لا يتخلل بينهما زمن وهذا فرض مستحيل،
فإن الأجسام أوسع من ذلك، وأزمنة انتقالها معدودة، فهو إذا
انتقل مضت أزمنة بين الانتقال والجثوم هو فيها سالم من
القضيتين، ويحتمل أن يموت الثاني قبل الجثوم عليه، فيسلم من
المعصية مطلقا فالانتقال مترجح فيتعين، وكذلك متوسط البقعة
المغصوبة، حكم الله عليه وجوب الخروج، ويكون به مطيعا لا
عاصيا.
قال: والعجب من قول الإمام في مسألة أبي هاشم: لا تكليف على
المتوسط، وبخلو الواقعة مع التزامه في باب القياس عدم الخلو،
واحتجاجه بأن نفي الحكم حكم.
تكميل: [تضاد المكروه والواجب]:
كما يتضاد الحرام والواجب كذلك المكروه والواجب؛ لأن المكروه
مطلوب
(1/217)
الترك بخلاف الواجب، فإن انصرفت الكراهة عن
ذات الواجب إلى غيره صح الجمع، ككراهة الصلاة في الحمام،
ونحوها، وقال الرافعي: القضاء فرض كفاية بالإجماع، ثم حكى وجها
أنه مكروه.
(1/218)
مسألة: [تحريم واحد لا بعينه]
يجوز أن يحرم واحد لا بعينه من أشياء معينة، ومنهم من منع ذلك،
وقال: لم ترد به اللغة، وأولوا قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ
مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] على جعل أو
بمعنى الواو، ومنهم من منع ذلك من جهة العقل؛ لأنه إذا قبح
أحدهما قبح الآخر فيلزم اجتنابه، وهذان القولان حكاهما القاضي
في التقريب وابن القشيري في أصول عن بعض المعتزلة، وحكى
المازري الأول في شرح البرهان محتجا أن النهي في الآية عن
طاعتهما جميعا.
قال: وهذا ليس بشيء، ولولا الإجماع على أن المراد في الشرع
النهي عن طاعتهما جميعا لم تحمل الآية على ذلك، والمشهور جوازه
ووقوعه.
وعلى هذا فاختلفوا، فعندنا أنه لا يقتضي تحريم الكل بل المحرم
واحد لا بعينه، ويجوز له فعل أحدهما، وإنما يقتضي النهي عن
الجمع بينهما كما في جانب الإيجاب، كذا قاله القاضي أبو الطيب،
والشيخ أبو إسحاق، وابن برهان، وابن السمعاني في القواطع ونقله
ابن برهان عن الفقهاء والمتكلمين.
وقال المعتزلة: الكل حرام، كقولهم في جانب الإيجاب: الكل واجب
لكنهم لم يوجبوا الجمع هناك، وهنا أوجبوا اجتناب الكل، فيبقى
النزاع هنا معنويا بخلاف ما قالوه.
وتوقف فيه الهندي، إذ لا يظهر بينهما فرق. قال: والقياس
التسوية بين الوجوب والتحريم؛ لأن الوجوب كما يتبع الحسن الخاص
عندهم. فكذا التحريم يتبع القبح الخاص، فإن وجب الكف عن الجميع
بناء على استوائهما في المعنى الذي يوجب التحريم، فليجب فعل
الجميع في صورة الوجوب بناء على استوائهما في المعنى الذي
يقتضي الإيجاب.
قلت: مأخذ الخلاف هنا: أن المعتزلة جعلوا متعلق التحريم القدر
المشترك، ونحن نخالفهم، ونقول: متعلق أحد الخصوصيين، وإن شئت
قلت: إحدى الحصتين
(1/218)
المعينتين لا بعينها، وأما القرافي من
المتأخرين فإنه فرق بين الأمر المخير بين واحد من الأشياء،
والنهي المخير، فإن الأمر متعلق بمفهوم أحدها والخصوصيات متعلق
التخيير، ولا يلزم من إيجاب المشترك إيجاب الخصوصيات كما مضى.
وأما النهي فإنه إذا تعلق بالمشترك لزم منه تحريم الخصوصيات؛
لأنه لو دخل منه فرد إلى الوجود لدخل في ضمنه المشترك المحرم،
ووقع المحذور، كما إذا حرم الخنزير يلزم تحريم السمين منه
والهزيل والطويل والقصير، وتحريم الجمع بين الأختين ونحوه إنما
لاقى في المجموع عينا لا المشترك بين الأفراد، فالمطلوب منه أن
لا يدخل ماهية المجموع في الوجود، والماهية تنعدم بانعدام جزء
منها، وأي أخت تركها خرج عن عهدة المجموع فليس كالأمر.
وقال الشيخ علاء الدين الباجي من المتأخرين: الحق نفي التحريم
المخير؛ لأن المحرم في الأختين الجمع بينهما كما نطق به القرآن
لا إحداهما، ولا كل واحد منهما بخلاف الواجب المخير، فإن
الواجب إما أحدها أو كل منهما على التخيير، وفي كلام البيضاوي
إشارة إليه.
وما ذكره القرافي مأخذه من قوله: إن النهي عن نوع يستلزم النهي
عن كل أفراده، إذ في كل فرد النهي، مثل لا تزن فلا شيء من
الزنى بحلال، وإلا لصدق أنه زنى. والأمر على هذا الوجه، غير أن
قوما يتلقون ذلك من كون النكرة في سياق النفي للعموم، وآخرون
يتلقونه من أن النهي عن الكل يستلزم بعض أفراده.
وقال صاحب الواضح من المعتزلة: النهي عن أشياء على التخيير إن
كان على سبيل الجمع كقوله: لا تفعل كذا وكذا فإن أمكنه الخلو
منها كلها كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ
كَفُوراً} [الإنسان: 24] فهو منهي عن الجميع، وإلا لم يحسن
النهي عن كلها كقوله: لا تفعل في يدك حركة ولا سكونا.
وقال إلكيا الهراسي: الذي يقتضيه رأي أصحابنا في النهي عن
أشياء على التخيير أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه، ولا يصح أن
يكون الأضداد بجملتها قبيحة، ولا ينفك الإنسان عن واحد منها،
فلا يحسن أن ينهى عنها بأجمع، فإذا نهى عن ضدين قد ينفك عنهما
إلى ثالث صح، ويصح منه فعلها جميعا؛ لأن أي واحد منها فعله كان
قبيحا، والنهي عنهما مع تضادهما عن الجمع لا يحسن؛ لأن الجمع
بينهما ليس في المقدور، وما لا يقدر عليه لا يكلف به، ومتى ما
أمر بشيئين ضدين كان له فعل كل واحد منهما.
(1/219)
وهذا يبين صحة ما قدمناه من أنه إذا لزم
المكلف أن يفعل أحد الضدين كانا واجبين على التخيير، فإذا نهي
عن أحدهما لا يصح إلا أن يكون محل النهي، فأما النهي عن شيئين
مختلفين يصح الجمع بينهما على التخيير، فلا يصح، ويفارق الأمر
في ذلك. وقال في موضع آخر: مما يفارق الأمر النهي: أنه إذا نهي
عن أشياء بلفظ التخيير لم يجز له فعل واحد منهما، ولفظ التخيير
فيه كقوله تعالى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} [الإنسان: 24] الآية.
(1/220)
مسألة: [هل يقال: هذا أحرم من هذا؟]
سبق في بحث الواجب خلاف في أنه هل يقال هذا أوجب من هذا؟ أجراه
ابن بزيزة في شرح الأحكام في أنه هل يقال هذا أحرم من هذا أم
لا؟ قال: والحق أنه مقول باعتبار كثرة الثواب أو كثرة الزواجر
لا بالنسبة إلى نفس الطلب.
وقد اتفق العلماء على أن الزنى بالأم أشد من الزنى بالأجنبية،
وكذلك الزنى في المسجد آثم من الزنى في الكنيسة.
وقد رد بعض المحققين شدة التحريم فيه إلى أنه فعل حرامين،
والكلام لم يقع إلا في محل واحد. ا هـ.
(1/220)
خاتمة: [ترك الواجب أعظم من فعل الحرام]
قيل: ترك الواجب في الشريعة بل وفي العقل أعظم من فعل الحرام
لوجوه.
الأول : أن أداء الواجب مقصود لنفسه، وترك المحرم مقصود لغيره،
ولهذا قال تعالى {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]
فبين أن ما في الصلاة من ذكر الله أكبر مما فيها من النهي عن
الفحشاء.
الثاني : أن أعظم الحسنات هو الإيمان بالله وهو أداء واجب وترك
الواجب كفر.
(1/220)
|