البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية فصل: في المباح
مدخل
...
فصل: في المباح
وهو ما أذن في فعله وتركه من حيث هو ترك له من غير تخصيص
أحدهما باقتضاء مدح أو ذم، فخرج بالإذن بقاء الأشياء على حكمها
قبل ورود الشرع، فإنه لا يسمى مباحا، وخرج فعل الله فلا يوصف
بالإباحة باتفاق أهل الحق كما قاله الإمام في التلخيص،
والأستاذ؛ لأنه لا يجوز أن يوصف بأنه مأذون له فيه.
وقولنا: من حيث هو ترك للإشارة إلى أنه قد يترك المباح بالحرام
والواجب والمندوب، فلا يكون تركه وفعله سواء، بل يكون تركه
واجبا، وإنما يستوي الأمران إذا ترك المباح بمثله كترك البيع
بالاشتغال بعقد الإجارة، وقد يترك بالواجب كترك البيع
بالاشتغال بالأمر بالمعروف المتعين عليه، وقد يترك بمندوب كترك
البيع بالاشتغال بالذكر والقراءة، وقد يترك بالحرام، كترك
البيع بالاشتغال بالكذب والقذف.
والحاصل : أن حكم المباح يتغير بمراعاة غيره فيصير واجبا إذا
كان في تركه الهلاك، ويصير محرما إذا كان في فعله فوات فريضة
أو حصول مفسدة كالبيع وقت النداء ويصير مكروها إذا اقترنت به
نية مكروه، ويصير مندوبا إذا قصد به العون على الطاعة.
وقال الغزالي في الإحياء: بعض المباح يصير بالمواظبة عليه
صغيرة كالترنم بالغناء، ولعب الشطرنج، وكلام ابن الصباغ وغيره
يقتضي أنه لا يصير.
واعلم أن جماعة من أصحابنا حدوا المباح بأنه الذي لا حرج في
فعله ولا في تركه، مع قولهم: إن الإباحة حكم شرعي. والجمع بين
الكلامين عسر، وذلك؛ لأن المباح بهذا التفسير يدخل فيه فعل
الله وفعل الساهي والغافل والنائم والصبي والمجنون والبهيمة
ضرورة أنه لا حرج في ذلك؛ لاستحالة تعلق المنع الشرعي بها،
فإذا شملت الإباحة لهذه الأفعال التي تمنع كونها متعلق الحكم
الشرعي امتنع لاستحالة كون الإباحة حكما شرعيا، وإلا لما تعلقت
به الأفعال، وقد تقرر أنها متعلقة بها.
ومن أسمائه: الحلال والمطلق والجائز.
وقال الأستاذ أبو إسحاق في شرح كتاب الترتيب: كل مباح جائز،
وليس كل جائز مباحا، فإنا نقول في أفعال الله: إنها جائز
حدوثها، ولا نقول: إنها مباحة. قال القاضي أبو بكر: وهو سبحانه
يريد المباح إذا وقع لتعلق إرادة الله ثمت
(1/221)
بكل المرادات.
وخالفت المعتزلة، فقالوا: إن الله تعالى غير مريد للمباح ولا
كاره له، ونشأ من هذه المسألة، وذلك أنهم قالوا: لو أراد الرب
سبحانه فعل شيء وردت فيه صيغة الأمر لم يكن ذلك إلا تكليفا.
(1/222)
مسألة: [ما يطلق عليه المباح]
يطلق المباح على ثلاثة أمور.
الأول : وهو المراد هنا ما صرح فيه الشرع بالتسوية بين الفعل
والترك، ومنه قوله للمسافر: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر.
الثاني : ما سكت عنه الشرع، فيقال استمر على ما كان، ويوصف
بالإباحة على أحد الأقوال الثلاث، وهو ما جاز فعله، استوى
طرفاه أو لا.
وقد يطلق المباح على المطلوب، ومنه قولنا: الحلق في الحج
استباحة محظور على أحد القولين، فالمراد بالإباحة فيه أنه ليس
بشرط في التحليل، وليس المراد أنه غير مندوب إليه. وقد يجري في
كلام الفقهاء: جاز له أو للولي أن يفعل كذا ويريدون به الوجوب،
وذلك ظاهر فيما إذا كان الفعل دائرا بين الحرمة والوجوب
فيستفيد بقولهم: يجوز نفي الحرمة فيبقى الوجوب، ولهذا لا يحسن
قولهم فيمن علم دخول رمضان بالحساب: إنه يجوز له الصوم؛ لأن
مثل هذا الفعل لا يتنفل به، وكذا لا يحسن قولهم في الصبي: لا
يصح إسلامه؛ لأنه لو صح وجب.
(1/222)
مسألة: [من صيغ المباح]
ومن صيغه أعني المباح: رفع الحرج، كقوله صلى الله عليه وسلم
للسائل في حجة الوداع: "افعل ولا حرج" 1.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب العلم، باب السؤال والفتيا عند رمي
الجمار، حديث "124"، ورواه مسلم "2/948" حديث "1306"، عن عبد
الله بن عمر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة
وهو يسأل، فقال رجل: يا رسول الله، نحرت قبل أن أرمي؟ قال:
"أرم ولا حرج". قال آخر: يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر؟ قال:
"أنحر ولا حرج" . فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "أفعل
ولا حرج" .
(1/222)
مسألة: [الإباحة حكم شرعي]
الإباحة حكم شرعي خلافا لبعض المعتزلة، والخلاف لفظي يلتفت إلى
تفسير المباح، إن عرفه بنفي الحرج، وهو اصطلاح الأقدمين، فنفي
الحرج ثابت قبل الشرع، فلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام
بنفي الحرج فالإعلام به إنما يعلم من الشرع فيكون شرعيا.
(1/223)
مسألة: [الإباحة ليست بتكليف]
الإباحة، وإن كانت شرعية لكنها ليست بتكليف خلافا للأستاذ أبي
إسحاق، فإنه قال: إنه تكليف على معنى أنا كلفنا اعتقاد إباحته،
ورد بأن الاعتقاد للإباحة ليس بمباح بل واجب، وكلامنا في
المباح.
والنزاع لفظي إلا أن يقال: هو تكليف بمعرفة حكمه، لقيام
الإجماع على أن المكلف لا يحل له الإقدام على فعل حتى يعلم حكم
الله فيه، وقد ينفصل عن هذا بأن العلم بحكم المباح خارج عن نفس
المباح.
قال المازري: وقد غلطه إمام الحرمين، ثم وقع فيه حيث قال في حد
الفقه: إنه العلم بأحكام المكلفين، وفي الفقه مباحات كثيرة.
قال بعضهم: واختلف القائلون بدخول المباح في التكليف هل دخل
فيه بإذن
(1/223)
مسألة: [المباح لا يسمى قبيحا]
أجمعوا على أن المباح لا يسمى قبيحا، واختلفوا هل يسمى حسنا أم
لا؟ وهو مفرع على تعريف الحسن، وقد سبق.
(1/224)
مسألة :
المباح هل هو جنس للواجب؟ فيه خلاف سبق في إذا نسخ الوجوب هل
يبقى الجواز؟
(1/224)
مسألة: [المباح هل هو مأمور به]
المباح هل هو مأمور به؟ خلاف ينبني على أن الأمر حقيقة في
ماذا؟ هل هو نفي الحرج عن الفعل أو حقيقة في الوجوب أو في
الندب أو في القدر المشترك بينهما؟ فعلى الأول هو مأمور به
بخلاف الثاني.
والمختار: أنه ليس مأمورا به من حيث هو خلافا للكعبي حيث قال:
كل فعل يوصف بأنه مباح باعتبار ذاته، فهو واجب باعتبار أنه ترك
به الحرام. وحكاه ابن الصباغ عن أبي بكر الدقاق؛ لأنه يكون
بفعله مطيعا بناء على قوله: إن المباح حسن، وصرح القاضي عن
الكعبي في مختصر التقريب بأن المباح مأمور به دون الأمر
بالندب، والندب دون الأمر بالإيجاب.
قال القاضي: وهو، وإن أطلق الأمر على المباح فلا يسمى المباح
واجبا، ولا الإباحة إيجابا، وتبعه في هذا الغزالي في المستصفى
وابن القشيري في أصوله وعلى هذا فلا يكون الكعبي مفاجئا بإنكار
المباح وهو قضية استدلاله.
ونقل الإمام عنه في البرهان وإلكيا الهراسي: أنه باح بإنكار
المباح في
(1/224)
|