البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل: في المكروه
مدخل
...
فصل: في المكروه
وهو لغة ضد المراد. ويطلق في حق الله على معنى الإرادة كقوله تعالى {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] أي: أراد التثبيط فمنع الانبعاث، فسميت إرادة كراهة باعتبار ضده؛ لأن الباري سبحانه واحد فلا يصح أن يقوم به المتضادان، ولا يعتبر هذا المعنى في الشرعيات؛ لأنا لا نشترط في الأمر الإرادة، ولا في النهي الكراهة، وهي مأخوذة من التنفير، ومنه قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7].
ويطلق على أربعة أمور:
أحدها : الحرام، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38] أي محرما، ووقع ذلك في عبارة الشافعي ومالك.
ومنه قول الشافعي في باب الآنية: وأكره آنية العاج، وفي باب السلم1: وأكره اشتراط الأعجف والمشوي والمطبوخ؛ لأن الأعجف معيب، وشرط المعيب مفسد.
قال الصيدلاني: وهو غالب في عبارة المتقدمين كراهة أن يتناولهم قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، فكرهوا إطلاق لفظ التحريم.
الثاني : ما نهي عنه نهي تنزيه وهو المقصود هنا.
الثالث : ترك الأولى كصلاة الضحى؛ لكثرة الفضل في فعلها، وحكى الإمام في النهاية أن ترك غسل الجمعة مكروه مع أنه لا نهي فيه. قال: وهذا عندي جار في كل مسنون صح الأمر به مقصودا. قلت: ويؤيده نص الشافعي في الأم: على أن ترك غسل الإحرام مكروه.
وفرق معظم الفقهاء بينه وبين الذي قبله أن ما ورد فيه نهي مقصود يقال فيه: مكروه، وما لا يقال فيه: خلاف الأولى، ولا يقال: مكروه. وفرق محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة بين الحرام والمكروه كراهة تحريم، فقال: المكروه كراهة تحريم: ما ثبت تحريمه بغير قطعي، والحرام ما ثبت بقطعي كالواجب مع الفرض.
ـــــــ
1 انظر الأم "3/110".

(1/239)


الرابع: ما وقعت الشبهة في تحريمه كلحم السبع، ويسير النبيذ هكذا عده الغزالي في "المستصفى"1 من أقسام الكراهة، وبه صرح أصحابنا في الفروع في أكثر المسائل الاجتهادية المختلف في جوازها، لكن الغزالي استشكله بأن من أداه اجتهاده إلى تحريمه فهو عليه حرام، ومن أداه إلى حله فلا معنى للكراهة في حقه إلا إذا كان في شبهة الخصم حزازة في نفسه ووقع في قلبه فلا يصح إطلاق لفظ الكراهة لما فيه من خوف التحريم، وإن كان غالب الظن الحل، ويتجه هذا على مذهب من يقول: المصيب واحد، وأما على قول من يقول: كل مجتهد مصيب، فالحل عنده مقطوع به إذا غلب على ظنه. قال الإبياري في شرح البرهان: وليس في مسائل الفقه مسألة أصعب من القضاء بالكراهة في هذا القسم، فإنه مخالف للدليلين جميعا، وإن كان القولان متفقا عليهما كان المصير إلى الكراهة خرقا للإجماع، ثم الذي يتأتى في هذا التوقف عن الفعل، وإن كان يغلب على ظنه الحل لاحتمال التحريم. أما حمل غيره عليه أو الفتوى بالكراهة فلا وجه له عندي.
تنبيه
إطلاق الكراهة على هذه الأمور هل هو من المشترك أو حقيقة في التنزيه مجاز في غيره؟ وجهان لأصحابنا. حكاهما ابن سراقة في كتابه بالنسبة لكراهة التنزيه والتحريم.
ـــــــ
1 انظر المستصفى ص"54".
2 يشير إلى ما رواه بن ماجه في سننه "2/139" كتاب الطب، باب الجمعة، حديث "3443"، بإسناده عن صهيب قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادن فكل" ، فأخذت آكل من التمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تأكل تمرا وبك رمد؟" قال: فقلت: إني أمضغ من ناحية أخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه أحمد في مسنده "5/374" حديث "23228" والحاكم في المستدرك "3/451" حديث "5703"، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه البيهقي في السنن الكبرى "9/334"، برقم "19347"، والحديث حسنه الشيخ الألباني.

(1/240)


مسألة: قد تكون الكراهة شرعا
وقد تكون الكراهة شرعية لتعليق الثواب عليها، وقد تكون إرشادية أي لمصلحة دنيوية، ومنه كراهة النبي صلى الله عليه وسلم أكل التمر لصهيب 2 وهو أرمد، ومنه كراهة
ـــــــ
2 يشير إلى ما رواه بن ماجه في سننه "2/139" كتاب الطب، باب الجمعة، حديث "3443"، بإسناده عن صهيب قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادن فكل"، فأخذت آكل من التمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تأكل تمرا وبك رمد؟ " قال: فقلت: إني أمضغ من ناحية أخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورواه أحمد في مسنده "5/374" حديث "23228" والحاكم في المستدرك "3/451" حديث "5703"، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه البيهقي في السنن الكبرى "9/334"، برقم "19347"، والحديث حسنه الشيخ الألباني.

(1/240)


الماء المشمس على رأي، والنظر في الفرج.

(1/241)


مسألة: [المكروه هل هو منهي عنه؟]
المكروه الذي هو ضد المندوب هل هو منهي عنه أم لا؟ فهو نظير الخلاف السابق في المندوب هل هو مأمور به؟ من قال: النهي للتحريم فليس عنده بمنهي عنه، ومن قال: للتنزيه أو للقدر المشترك بينه وبين التحريم، أو هو مشترك بينهما فهو منهي عنه، ويدل على أنه غير منهي عنه قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وحكى القاضي الحسين في تعليقه في كتاب الأيمان وجهين في أن فعل المكروه هل هو معصية أم لا؟ وقال: إن الشافعي مرض القول فيه ومال إلى أنه معصية، فقال: وأخشى أن يكون معصية يعني في الحلف بغير الله.
ثم قال القاضي: المعصية ضربان: محرم يتعلق به الإثم، ومعصية من طريق المخالفة لا يتعلق بها إثم، فتوقف الشافعي عن كونه معصية فيها إثم.
وحكى الرافعي في باب الصيد والذبائح عن الشيخ أبي حامد أن ترك التسمية على الذبيحة يقتضي الإثم. مع تصريحه بكراهة الترك.

(1/241)


مسألة: [هل المكروه من التكليف]
في أن المكروه هل هو من التكليف أم لا؟ والخلاف كالخلاف في المندوب.

(1/241)


مسألة: [المكروه هل هو قبيح؟]
المكروه هل هو قبيح أم لا يلتفت على تفسير الحسن والقبح؟ واختار إمام الحرمين، وابن القشيري أنه لا يوصف بقبح ولا حسن.

(1/241)


مسألة: [المكروه هل يدخل تحت الأمر؟]
المكروه لا يدخل تحت الأمر المطلق عندنا؛ لأن الأمر طلب واقتضاء، والمكروه لا يكون مطلوبا ولا مقتضى، فلا يدخل تحت الخطاب للتناقض.
قال إلكيا الطبري: إلا أن تكون الكراهة لمعنى في غير ما تعلق به لفظها كما قيل في تنكيس الوضوء: إنه مكروه؛ لأنه يخالف عادة السلف في هيئته لا في أصل الوضوء، وهو إمرار الماء، ولا في شرائطه فلم يمنع الإجزاء.
والخلاف في هذه المسألة مع الحنفية، قال إمام الحرمين: وهذه المسألة مثلها الأئمة بالترتيب في الوضوء، فمن يراه يقول: التنكيس مكروه، ولا يدخل تحت مقتضى الأمر.
وقال ابن السمعاني: تظهر فائدة الخلاف في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فعندنا هذا لا يتناول الطواف بغير طهارة، ولا المنكس، وغيرهم يتناوله فإنهم، وإن اعتقدوا كراهيته ذهبوا إلى أنه دخل في الأمر وأجزأ. قال: وهذا المقال إنما يتصور على أصلهم، وأما عندنا فليس هو بطواف أصلا.
ومن فوائد الخلاف أيضا: الصلاة في الأوقات المكروهة إذا قلنا: إنها مكروهة كراهة تنزيه، وفي صحتها تفريعا على هذا وجهان، والقول بالبطلان وهو الأصح يخرج على أن المكروه لا يدخل تحت مطلق الأمر.
ومنها: مسألة الصلاة في الدار المغصوبة التي سبق ذكرها، واقتصر المتأخرون على ذكرها وأهملوا أصلها، والعكس أولى، ومنها: إعادة صلاة الجنازة لا يصح في احتمال إمام الحرمين، وقواه النووي ووجهه: أنها لا تستحب، وقيل تكره، ومع الكراهة لا تصح تخريجا على هذا الأصل.
ومنها: لو نذر الإحرام من دويرة أهله.
قال صاحب التهذيب: يلزمه، ووافقه النووي، وخالفهما بعض المتأخرين، وقال: ينبغي أن لا ينعقد لكونه مكروها، ونظيره الصوم يوم الشك تطوعا حرام، ولو نذر صومه ففي انعقاده وجهان.
ومنها: حيث قلنا: للقاضي قبول الهدية ولم نحرمها، والأكثرون على أنه يملكها، وفيه وجه قوي أنه لا يملكها، ثم صححوا أنها ترد إلى صاحبها، والظاهر: أنها

(1/242)


توضع في بيت المال ولا ترد إليه.
واعلم أن جماعة من أصحابنا ذكروا المسألة هكذا ونصبوا الخلاف بيننا وبين الحنفية منهم الشيخ أبو إسحاق، وإمام الحرمين، وابن القشيري، وابن برهان، وابن السمعاني، وسليم الرازي في التقريب، وأبو الوليد الباجي وغيرهم، وفيه نظر فإن شمس الأئمة السرخسي من الحنفية إنما حكى ذلك عن أبي بكر الرازي، ثم قال: والصحيح عندي: أن مطلق الأمر كما يثبت صفة الجواز والحسن شرعا يثبت انتفاء صفة الكراهة.
وقال المازري: اختار ابن خويز منداد كونه لا يتناول المكروه، وأشار إلى أنه مذهب مالك، وقال: وهو كمسألة الخلاف المشهور في تضمن الوجوب للجواز حتى إذا نسخ هل يبقى الجواز؟.
قلت: فيقال هنا: إذا نسخ الأمر هل يبقى المكروه أم لا؟ يأتي فيه الخلاف السابق.

(1/243)