البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل: في خلاف الأولى
مدخل
...
فصل: في خلاف الأولى
هذا النوع أهمله الأصوليون، وإنما ذكره الفقهاء وهو واسطة بين الكراهة والإباحة، واختلفوا في أشياء كثيرة هل هو مكروه، أو خلاف الأولى؟ كالنفض والتنشيف في الوضوء وغيرهما.
قال إمام الحرمين في كتاب الشهادات من النهاية: التعرض للفصل بينهما مما أحدثه المتأخرون، وفرقوا بينهما بأن ما ورد فيه نهي مقصود يقال فيه: مكروه وما لا فهو خلاف الأولى، ولا يقال: مكروه، وقال: المراد بالنهي المقصود أن يكون مصرحا به كقوله: لا تفعلوا كذا، أو نهيتكم عن كذا، بخلاف ما إذا أمر بمستحب فإن تركه لا يكون مكروها، وإن كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده؛ لأنا استفدناه باللازم وليس بمقصود.
وحكى الرافعي عنه في كتاب الزكاة في كراهة الصلاة على غير الأنبياء ما يبين أن المراد بالنهي المقصود تعميم النهي لا خصوصه، إذ قال: ووجهه إمام الحرمين بأن قال: المكروه يتميز عن خلاف الأولى بأن يفرض فيه نهي مقصود، وقد ثبت نهي مقصود عن التشبه بأهل البدع، وإظهار شعارهم، والصلاة على غير الأنبياء مما اشتهر بالفئة الملقبة بالرفض. ا هـ.
وكلام الإمام في كتاب الجمعة يقتضي أنه لا فرق بينهما، فإنه قال: كل فعل مسنون صح الأمر به مقصودا فتركه مكروه.
وقال في موضع آخر: إنما يقال: ترك الأولى إذا كان منضبطا كالضحى وقيام الليل، وما لا تحديد له ولا ضابط من المندوبات لا يسمى تركه مكروها، وإلا لكان الإنسان في كل وقت ملابسا للمكروهات الكثيرة من حيث إنه لم يقم فيصلي ركعتين، أو يعود مريضا ونحوه. ا هـ.
والتحقيق: أن خلاف الأولى قسم من المكروه، ودرجات المكروه تتفاوت كما في السنة، ولا ينبغي أن يعد قسما آخر، وإلا لكانت الأحكام ستة، وهو خلاف المعروف، أو كان خلاف الأولى خارجا عن الشريعة وليس كذلك.

(1/244)


خطاب الوضع
قد عرفت أن الخطاب كما يرد بالاقتضاء والتخيير فكذا يرد بالحكم الوضعي، لكون الشيء سببا، وشرطا، ومانعا كما سبق، فعلى هذا لله في كل واقعة رتب الحكم فيها على وصف أو حكمة حكمان:
أحدهما: نفس الحكم المرتب على الوصف.
وثانيهما: سببية ذلك الوصف، والمغايرة بينهما ظاهرة، إذ صحة القياس في الأول متفق عليها بين القائسين، وفي الثاني مختلف فيها.
ملك النصاب سبب وجوب الزكاة.
مثاله: ملك النصاب سبب وجوب الزكاة؛ فالملك حكم شرعي، وهو ذات السبب، وكونه سببا عبارة عن خطاب الشارع: إن جعلت الملك أمارة وجوب الزكاة، ووجوب الزكاة عند وجود الملك، والحول حكم آخر، وهو الحكم الأصلي المقصود في نفسه، وقد سبق في الكلام على الخطاب الخلاف في ثبوت خطاب الوضع، وأنه في الحقيقة لا يخرج عن خطاب التكليف.
وضعفه المتأخرون أيضا، لأن القائلين بإثبانه إن أرادوا بالسببية أنها معرفة للحكم فحق لكنها ليست بحكم شرعي، وإن أرادوا تأثير الزنا في وجوب الحد فباطل، لأن الزنا حال حصوله سبب إن لم يصدر عن الشارع شيء فليس لهذه السببية معنى، فإن صدر فالصادر إما الحكم أو شيء مؤثر في الحكم أو غيرهما، فإن كان الأول فالمؤثر هو الشارع، والثاني هو القول بالحسن والقبح وهو باطل، والثالث اعتراف بأنه ليس بحكم وهو المطلوب، لا يقال: فقد أجروا القياس في الأسباب، فقالوا: نصب الزنا علة الرجم، واللواط في معناه، لأنا نقول: نمنعه كالحنفية، وإن سلمناه فلا يكون حكما شرعيا، فقد أجروا القياس في اللغات وليس ذلك حكما شرعيا.

(1/245)


السبب
الأول: تعريف السبب وأقسامه
وهو لغة: عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به؛ أي: لأنه ليس بمؤثر في الوجود بل وسيلة إليه، فالحبل مثلا يتوصل به إلى إخراج الماء من البئر، وليس المؤثر في الإخراج، وإنما المؤثر حركة المستقي للماء.

(1/245)


وفي الشرع: قال الأكثرون: هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل السمع على كونه معرفا للحكم الشرعي، كجعل دلوك الشمس معرفا لوجوب الصلاة.
وقيل: هو الموجب لا لذاته، ولكن بجعل الشارع إياه موجبا، وهو اختيار الغزالي، وحاول الإمام الرازي تزييفه. وقيل: هو الموجب لذاته، وهو قول المعتزلة، وإنما نصب السبب للحكم ليستدل به على الحكم عند تعذر الوقوف على خطاب الله لا سيما عند انقطاع الوحي، كالعلامة.
ثم السبب ينقسم إلى ما يتكرر الحكم بتكرره كالدلوك للصلاة، ورؤية الهلال في رمضان لوجوب الصوم، وكالنصاب للزكاة، وإلى ما لا يتكرر بتكرره كوجوب معرفة الله عند تكرر الأدلة الدالة على وجوده، ووجوب الحج عند تكرر الاستطاعة عند من يجعلها سببا.
وقسم ابن الحاجب السبب إلى وقتي كالزوال، فإنه معرف لوقت الظهر، وإلى معنوي كالإسكار فإنه معرف لتحريم الخمر، والملك فإنه جعل سببا لإباحة الانتفاع. إطلاقات السبب.
ويطلق السبب في لسان حملة الشرع على أمور:
أحدها : ما يقابل المباشرة، ومنه قول الفقهاء: إذا اجتمع السبب والمباشرة غلب المباشرة كحفر البئر مع التردية.
الثاني : علة العلة كالرمي يسمى سببا للقتل، وهو أعني الرمي علة للإصابة، والإصابة علة لزهوق الروح الذي هو القتل، فالرمي هو علة العلة وقد سموه سببا.
الثالث : العلة بدون شرطها كالنصاب بدون الحول يسمى سببا لوجوب الزكاة.
الرابع : العلة الشرعية وهي المجموع المركب من المقتضى، والشرط، وانتفاء المانع، ووجود الأهل والمحل يسمى سببا، ولا شك أن العلل العقلية موجبة لوجود معلولها كما عرف من الكسر للانكسار، وسائر الأفعال مع الانفعالات بخلاف الأسباب فإنه لا يلزم من وجودها وجود مسبباتها.
قال الهندي: وإذا حكمنا على الوصف أو الحكمة بكونه سببا فليس المراد منه أنه كذلك في مورد النص بل المراد منه أنه سبب في غيره، ومن هذا يعرف أن سببية السبب وإن كانت حكما شرعيا فليست مستفادة من سبب آخر، لأنه حينئذ يلزم إما الدور أو التسلسل، بل هي مستفادة من النص أو من المناسبة مع الاقتران.

(1/246)


مسألة: للأسباب أحكام تضاف إليها
صار جمهور الحنفية إلى أن للأحكام أسبابا تضاف إليها، والموجب في الحقيقة والشارع لها هو الله تعالى دون الأسباب، إذ الإيجاب إلى الشارع دون غيره.
ونقلوا عن جمهور الأشعرية التفصيل بين العبادات وغيرها، فالعبادات لا يضاف وجوبها إلا إلى الله وخطابه، لأنها وجبت لله على الخلوص فيضاف إلى إيجابه، والعقوبات وحقوق العباد أسباب يضاف وجوبها إليها، لأنها حاصلة بكسب العبد، وعلى هذا جوزوا إضافة العبادات المالية إلى الأسباب أيضا.
وفي المسألة قول ثالث: وهو إنكار الأسباب أصلا.
وقالوا: الحكم في المنصوص عليه ثابت بظاهر النص وفي غيره بالوصف المجعول علة، ويكون ذلك أمارة لثبوت حكم شرعي بإيجابه تعالى. قالوا: لأن الموجب للأحكام والشارع لها هو الله تعالى، وفي إضافة الإيجاب إلى غيره، وهو الأسباب قطعه عنه، وذلك لا يجوز، لكنه يقال: حصل ببعض الأوصاف أمارة على حكم الفرع، فيقال لها: أسباب أو علل موجبة مجازا، لظهور الأحكام عندها.
قيل: والتحقيق: أن الخلاف لفظي للإجماع على أن الموجب في الحقيقة هو الله تعالى لا غير، وعلى أن هذه الأسباب معرفات لحكم الله لا موجبة بذاتها، فلم يبق الخلاف إلا في اللفظ.
قلت: اتفق الأشعرية على أنه ليس السبب موجبا للحكم لذاته أو لصفة ذاتية بل المراد منه إما المعرف وعليه الأكثرون، وإما الموجب لا لذاته ولا لصفة ذاتية ولكن بجعل الشرع إياه موجبا وهو اختيار الغزالي، وصارت المعتزلة إلى القول بالتأثير.
وينبني الخلاف على أنه يعقل تأثير من غير أن يكون المؤثر مؤثرا بذاته، أو بصفة قائمة به، أو لا يعقل ذلك؟ وعليه يبنى كون العبد موجدا لفعل نفسه بإقدار الله تعالى أو خلقه له ما يقتضي تأثيره في الفعل من غير أن يكون العبد مؤثرا بذاته أو بصفة ذاتية، فأصحابنا ينكرون ذلك، ويقولون: الصادر عنه فعل الله، والمعتزلة لا ينكرونه.

(1/247)


فائدة: قد يتقدم الحكم على سببه
الأصل في أسباب الأحكام أن تتقدم على الأحكام، وقد يتقدم الحكم على سببه، وذلك إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من ضمان البائع، ولهذا كانت مغارمها عليه، لأن البيع ينفسخ بالتلف، لتعذر اقترانه به، ولا يصح أن يكون بعد التلف، لأن حقيقة الفسخ انقلاب الملك بعد تلف المبيع ولا يصح انقلاب الملكين بعد التلف، لأنه خرج عن أن يكون مملوكا بعد ذهابه بنفس انقلابه إلى ملك البائع قبل تلفه.

(1/248)


الشرط
الثاني: الحكم على الوصف بأنه شرط.
والشرط لغة : العلامة، ومنه أشراط الساعة، وهو الذي يلزم من انتفائه انتفاء المشروط، كالإحصان الذي هو سبب وجوب رجم الزاني ينتفي الرجم لانتفائه، فلا يرجم إلا محصن، وكالحول الذي هو شرط وجوب الزكاة ينتفي وجوبها بانتفائه.
أقسام الشرط:
ثم ينقسم إلى ما هو شرط السبب، وهو كل معنى يكون عدمه مخلا بمعنى السببية كشرائط المبيع من كونه منتفعا به وغيره، وإلى ما هو شرط الحكم، وهو كل معنى يكون عدمه مخلا بمقصود الحكم مع بقاء لمعنى السببية، كالقبض للمبيع للملك التام.
وهو على أربعة أقسام:
عقلي : كالحياة للعلم فإنها شرط له إذ لا يعقل عالم إلا وهو حي. ويسمى عقليا، لأن العقل أدرك لزومه لمشروطه.
ثانيها : لغوي، كدخول الدار لوقوع الطلاق، أو العتق المعلق عليه.
ثالثها : شرعي، كالطهارة للصلاة فإنه يلزم من انتقاء الطهارة انتقاء صحة الصلاة، ولا يلزم من وجودها وجود صحة الصلاة لجواز انتفائها لانتفاء شرط آخر.
رابعها : العادي، كالغذاء للحيوان، والغالب منه أنه يلزم من انتفاء الغذاء

(1/248)


انتفاء الحياة ومن وجوده وجودها. والشرط العادي واللغوي من قبيل الأسباب لا من قبيل الشروط صرح بذلك ابن القشيري.
وقال القرافي، وابن الحاجب: الشروط اللغوية أسباب، لأنه يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم بخلاف الشروط العقلية. وقد اختلف في الحيات في الشتاء تحت الأرض، فقيل: تغتذي بالتراب، وقيل: لا تغتذي مدة مكثها تحت الأرض، فعلى هذا لم يلزم من انتقاء الغذاء في حقها انتفاء الحياة فينعكس الحال، وتصير الحياة هي شرط الغذاء.

(1/249)


الثالث: الحكم على الوصف بكونه مانعا.
والمانع عكس الشرط، وهو ما يلزم من وجوده عدم وجود الحكم، كالدين مع وجوب الزكاة، والأبوة مع القصاص.
ووجه العكس فيه: أن الشرط ينتفي الحكم بانتفائه، والمانع ينتفي الحكم لوجوده، فوجود المانع وانتفاء الشرط سواء في استلزامها انتفاء الحكم، وانتفاء المانع ووجود الشرط سواء في أنهما لا يلزم منهما وجود الحكم ولا عدمه.
أقسام المانع
ثم ينقسم إلى مانع الحكم - وسيأتي إن شاء الله تعالى في القياس - وإلى مانع السبب، وهو كل وصف وجودي يخل وجوده بحكمة السبب التي لأجلها يقتضي السبب المسبب، كحيلولة النصاب الغصب والإباق، فإنها تمنع من انعقاد النصاب سببا للوجوب.
ثم الموانع الشرعية على ثلاثة أقسام:
أحدها : ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره، كالرضاع يمنع صحة النكاح ابتداء ويقطعه دواما.
ثانيها : ما يمنعه ابتداء لا دوما، كالعدة تمنع ابتداء النكاح لغير من هي منه، ولو طرأت على نكاح صحيح بوطء شبهة لم يقطعه، وكذلك الردة.
ثالثها : ما يمنعه دواما لا ابتداء، كالكفر بالنسبة لمالك الرقيق المسلم لا يمنع في الابتداء لتصويره بالإرث، وغيره من الصور التي تنتهي إلى نحو الأربعين، ويمتنع دوامه بل ينقطع بنفسه كشراء من يعتق عليه أو بالإجبار على إزالته.

(1/249)


تنبيه
هذه الأنواع الثلاثة متفق على أنها من خطاب الوضع عند القائلين به. وزاد الآمدي وغيره أربعة أنواع وهي الصحة، والبطلان، والعزيمة، والرخصة وسنذكرها. وزاد القرافي نوعين آخرين وهما التقديرات الشرعية والحجاج.
أما الأول: فهو إعطاء الموجود حكم المعدوم كالماء في حق المريض الخائف. وعكسه كالمقتول يورث عنه الدية، وإنما تجب بموته ولا يورث عنه إلا إذا دخلت في ملكه، وبعد موته لا يملك فيقدر دخولها في ملكه قبل موته حتى ينتقل لوارثه. فقدرنا المعدوم موجودا للضرورة.
وقال ابن التلمساني: الحكم التقديري ينقسم إلى تقدير صفة شرعية في المحل يظهر أثرها، كتقدير ملك النكاح واليمين، وإلى تقدير أعيان محسوسة كتقدير الدراهم في الذمة، قال: ومن العلماء من لا يثبت هذه التقادير، ويقول: حكم الفرع في المحل هو نفس ما ادعى كونه أمرا. أما تقدير صفات موجبه لها، فإثبات ما لا دليل عليه، ومن هذا النمط قولهم: الحدث أمر مقدر في أعضاء المحدث أثره المنع من الصلاة.
وأما الحجاج: فهي التي يستند إليها القضاة في الأحكام، كالبينة والإقرار واليمين مع النكول، أو مع الشاهد الواحد، فإذا نهضت تلك الحجة عند القاضي وجب عليه الحكم، وهذا في الحقيقة راجع إلى السبب.

(1/250)


مسألة: الصحة والفساد
الصحة والفساد: من أنواع خطاب الوضع لأنهما حكم من الشارع على العبادات والعقود، ويبنى عليها أحكام شرعية.
ونازع بعض المتأخرين في كون ذلك حكما شرعيا، وقال: إذا كانت الصحة هي المطابقة والموافقة لمقتضى ما دل عليه الأمر، فالمطابقة والموافقة أمر عقلي اعتباري ليس من الأحكام الشرعية في شيء، بل نوع نسب وإضافة إلى موافقة الأمر.
قال ابن دقيق العيد: هذا سؤال حسن لجدي العلامة أبي الحسن مظفر بن عبد الله الشافعي المعروف بالمقترح - رحمه الله.

(1/250)


قلت: وبه جزم ابن الحاجب في مختصره وحينئذ فلم ينفرد به إذن كما زعم بعضهم، وأشار إليه ابن التلمساني في تعليقه على المنتخب فقال: موافقة الشريعة ليس حكما شرعيا حقيقيا، فإنها نسبة بين الفعل الواقع والأمر مثلا، فهي تستلزم الحكم الشرعي لا أنها نفس الحكم الشرعي، فتسمية الموافقة والمخالفة حكما مجاز.
وإذا ثبت هذا فنقول: المراد بالصحة في العقود ثبوتها على موجب الشرع ليترتب آثاره كالملك المرتب على العقود، أي: يثبت به الحكم المقصود من التصرف كالحل في النكاح، والملك في البيع والهبة.
وقول الفقهاء: نكاح الكفار صحيح، أي محكوم عليه بالصحة، وأثر كل شيء على حسبه، فأثر البيع المكنة من التصرف كالأكل، والبيع، والوقف ونحوه، وأثر الإجارة التمكن من الانتفاع، وفي القراض عدم الضمان واستحقاق الربح، وفي النكاح التمكن من الوطء، فكل عقد ترتب آثاره عليه فهو الصحيح، وإلا فهو الفاسد.
وقيل: إباحة الانتفاع، ولا يرد المبيع في زمن الخيار، لأنه قد يتوقف حصولها على شرط آخر وليس التصرف والانتقاع أثر العقد، وإنما أثره حصول الملك الذي ينشأ عنه إباحة الانتفاع بشرطه، ومن شرطه أن لا يكون له خيار. وكذا لو أقر بحرية امرأة في يد الغير، ثم قبل نكاحها ممن هي في يده، وهو يدعي رقها. قال الرافعي: لم يحل له وطؤها ولصاحبها المطالبة بالمهر، فهذا عقد صحيح لم يترتب عليه أثره، لكن لمانع.
الصحة في العبادات:
وأما الصحة في العبادات فاختلف فيها فقال الفقهاء: هي وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء، كالصلاة إذا وقعت بجميع واجباتها مع انتفاء موانعها، فكونها لا يجب قضاؤها هو صحتها.
وقال المتكلمون: هي موافقة أمر الشارع في ظن المكلف لا في نفس الأمر، وبه قطع القاضي والإمام في التلخيص فكل من أمر بعبادة توافق الأمر بفعلها كان قد أتى بها صحيحة وإن اختل شرط من شروطها أو وجد مانع، وهذا أعم من قول الفقهاء، لأن كل صحة هي موافقة للأمر، وليس كل موافقة الأمر صحة عندهم.
واصطلاح الفقهاء أنسب، فإن الآنية متى كانت صحيحة من جميع الجوانب إلا من جانب واحد فهي مكسورة لغة ولا تكون صحيحة حيث يتطرق إليها الخلل من جهة من الجهات، وهذه الصلاة يتطرق إليها الخلل من جهة ذكر الحدث، فلا تكون صحيحة

(1/251)


بل المستجمع لشروطه في نفس الأمر هو الصحيح. وبنوا على الخلاف صلاة من ظن أنه متطهر ثم تبين حدثه فإنها صحيحة عند المتكلمين دون الفقهاء.
قال ابن دقيق العيد: وفي هذا البناء نظر، لأن هذه الصلاة إنما وافقت الأمر بالعمل بمقتضى الظن الذي تبين فساده، وليست موافقة الأمر الأصلي الذي توجه التكليف به ابتداء، فعلى هذا نستفسر، ونقول: إن أردتم بالصحيح ما وافق أمرا ما فهذا الفعل صحيح بهذا الاعتبار، لكنه لا يقتضي أن يكون صحيحا مطلقا لعدم موافقته الأمر الأصلي، وإن أردتم ما وافق الأمر الأصلي فهذه غير موافقة فلا تكون صحيحة.
تنبيهات:
التنبيه الأول
ما حكيناه عن الفقهاء من أن الصحة إسقاط القضاء تبعنا فيه الأصوليين لكن كلام الأصحاب مصرح بخلافه، فإنهم قالوا: في باب صلاة الجماعة في الكلام على شروط الإمامة: وإن كان صلاته صحيحة فإما أن تكون مغنية عن القضاء أو لا إلخ، فجعلوا الصحيح ينقسم إلى ما يغني وإلى ما لا يغني، ولم يجعلوه ما لا يغني عن القضاء.
وحكوا وجهين في صلاة فاقد الطهورين هل توصف بالصحة؟ والصحيح: نعم واستبعد إمام الحرمين مقابله، وتابعه النووي مع أنه يجب القضاء على الجديد. قالوا: ويجري الخلاف في كل صلاة يجب قضاؤها.
وفائدة الخلاف في الأيمان وفي جواز الخروج منها، ولهذا يقولون: من صحت صلاته في نفسه صحة مغنية عن القضاء جاز الاقتداء به، وهذا كله تصريح بأن الصحة تجامع القضاء.
التنبيه الثاني
زعم الغزالي في المستصفى وتابعه القرافي أن النزاع لفظي. وهو أنه هل تسمى هذه صحيحة أم لا؟ قال القرافي: لاتفاقهم على، سائر أحكامها. فقالوا: المصلي موافق لأمر الله سبحانه وتعالى مثاب على صلاته وأنه يجب عليه القضاء إذا علم الحدث، فلم يبق النزاع إلا في التسمية.
قلت: ونفي الخلاف في القضاء مردود، فالخلاف ثابت، وممن حكاه ابن الحاجب في "مختصره" في مسألة: الإجزاء الامتثال، وكأن المتكلمين يقولون: إنها

(1/252)


صحيحة، لأنه وافق الأمر المتوجه عليه في الحال، وهي مسقطة للقضاء لو لم يرد نص بالقضاء وإنما وجب بأمر جديد كما حكاه في المستصفى عنهم، ووصفهم إياها بالصحة صريح في ذلك، فإن الصحة هي الغاية من العبادة وعندنا قول مثله فيما إذا صلى بنجس لم يعلمه أو مكشوف العورة ساهيا إنها صحيحة ولا قضاء نظرا لموافقة الأمر حال التلبس.
وعكس هذه المسألة من صلى خلف الخنثى المشكل ثم تبين أنه رجل، وفرعنا على القول المرجوح أنه لا يجب القضاء فإنها على اصطلاح الفقهاء صحيحة لإسقاط القضاء، وعند المتكلمين باطلة، لأنها ليست موافقة لأمر الشارع. وذكر الأصفهاني في شرح المحصول أن ما يتخرج على هذا الخلاف صلاة من لم يجد ماء ولا ترابا إذا صلى على حسب حاله، وقلنا بالراجح: إنه يجب عليه الإعادة قال: فتلك الصلاة صحيحة عند المتكلمين فاسدة عند الفقهاء.
قلت: فيه وجهان نقلهما إمام الحرمين والمتولي وبنى عليهما ما لو حلف لا يصلي فصلى كذلك، وقد سبق.
وفي كلام الأصفهاني نظر، إذ كيف يؤمر بعبادة هي فاسدة؟
وبنى ابن الرفعة في المطلب على الخلاف في تفسير الصحة مسألة: لو تحير المجتهد في الأواني فلم يغلب على ظنه شيء، فتيمم، ثم إن كان قبل الصب وجب القضاء، أو بعده فلا.
وحكى الماوردي خلافا في وجوب الصب، ونسب الجمهور عدم الوجوب.
قال ابن الرفعة: والخلاف يلتفت على أن الصحة ما هي؟ فإن قلنا: موافقة الأمر لم يلزم الإراقة، لأن قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا غير واجد له، إذ الوجود ما يقدر على استعماله، وإن قلنا: هي ما أسقط القضاء وجب عليه الصب، لأنه مأمور بالإتيان بالصلاة صحيحة إذا قدر عليها، وهو قادر هاهنا. ا هـ.
وهذا يعطي أن الخلاف في تفسير الصحة ثابت عند الفقهاء أيضا وقال الآمدي: ولا بأس بتفسير الصحة في العبادات بما ذكروه في المعاملات من ترتب أحكامها المقصودة منها يعني لأمر مقصود العبادة إقامة رسم التعبد، وبراءة ذمة العبد منها. فإذا أفادت ذلك كان هو معنى قولنا: إنها كافية في سقوط التعبد، فتكون صحيحة.

(1/253)


التنبيه الثالث
قال أبو العباس بن تيمية: لم يرد في لفظ الكتاب والسنة الصحة والفساد، بل الحق والباطل، وإنما الصحة اصطلاح الفقهاء. قلت: وورد لفظ الإجزاء كثيرا، وهو قريب من الصحة ثم إن الجمهور لم يسمحوا بإطلاق الفاسد، وإنما قالوا: هي صلاة صحيحة أو شبيهة بها، كإمساك رمضان.
وقال إمام الحرمين في التلخيص: إنما صار الفقهاء إلى هذا في أصل، وهو أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة عندهم، وهي واقعة على خلاف مقتضى الشريعة، فدل على أن الصحيح: ما لا يجب قضاؤه، وإن لم يوافق مقتضى الشرع.
وذكر غيره التفات الخلاف على أصل وهو أن القضاء هل يجب بالأمر الأول أو لا بد من أمر جديد؟ والثاني: قول الفقهاء حكاه عنهم في "المنخول".

(1/254)


مسألة :
الحقائق الشرعية المتعلقة بالماهيات من عبادة وعقد هل يقع على الفاسد منها أو يختص بالصحيح؟.
فيه ثلاثة مذاهب حكاها الأصفهاني في شرح المحصول في بيان المجمل:
أحدها : لا يسمى الفاسد منها بيعا ولا نكاحا.
والثاني : يسمى وإن فسد شرعا.
والثالث : ما كان من أسماء الأفعال والأعيان لا يسلبهما الاسم عند انتفاء شروط شرعت فيه، وذلك كالغسل والوطء، وأما ما كان من أسماء الأحكام، كتسمية الغسل طهارة فيصح أن يقال: إن الغسل مع عدم النية ليس بطهارة. ا هـ.
والقولان وجهان للأصحاب في العقود، وأصحهما: اختصاصه بالصحيح، ولهذا لو حلف لا يبيع لا يحنث بالفاسد على الأصح. وأما العبادات، فقال الرافعي في كتاب الأيمان: سيأتي خلاف في أنها هل تحمل على الصحيح، كما إذا حلفه لا يصوم ولا يصلي؟ وقد استنكر ذلك منه، فإنه لا خلاف عندنا في اختصاصها بالصحيح، وإنما الخلاف في العقود. نعم قالوا: لو حلف لا يحج حنث بالفاسد، ويحتمل في كل ما فرق فيه بين الفاسد والباطل وقد يمنع، والفرق مخالفة الحج غيره من العبادات فلا يقاس عليه غيره.

(1/254)


مسألة: [الصحة لا تستلزم الثواب]
الصحة لا تستلزم الثواب بل يكون الفعل صحيحا ولا ثواب فيه، ولهذا قال الشافعي: الردة بعد الحج تحبط الثواب ولا تجب الإعادة، ومنه الصلاة في الدار المغصوبة. وكذا صوم المغتاب عند القفال والماوردي. وحكاه الإمام في باب الاعتكاف عن الصيدلاني، ثم قال: وليس الكلام في الأجر والفضيلة من شأن الفقهاء، والثواب غيب لا نطلع عليه، وإن ورد خبر في أن الغيبة تحبط الأجر فهو تهديد مؤول، وقد يرد مثله في الترغيب.
قلت: وكذا قال الصيمري في شرح الكفاية في الصلاة في الدار المغصوبة تصح، وأما الثواب فإلى الله.

(1/255)


مسألة: ثواب الصلاة الفاسدة
إذا صلى صلاة فاسدة هل يثاب عليها، قال الشيخ عز الدين: يثاب على الأفعال التي لا تفتقر إلى وجود الشرط من الطهارة وغيرها كالقراءة والأذكار. وقال الروياني في البحر: لو نوى نية صحيحة، وغسل بعض أعضائه، ثم أبطل الوضوء في أثنائه بحدث أو غيره هل له ثواب المفعول منه؟ قال: يحتمل أن يكون له ثوابه كالصلاة إذا بطلت في أثنائها، ويحتمل أن يقال: إذا بطلت بغير اختياره فله ثوابه وإلا فلا. ومن أصحابنا من قال: لا ثواب له بحال، لأنه يراد لغيره بخلاف الصلاة.

(1/255)


مسألة: الإجزاء هو الاكتفاء بالفعل في سقوط الأمر
الإجزاء هو الاكتفاء بالفعل في سقوط الأمر، ومعناه أن الخطاب متعلق بفعله على وجه مخصوص، فإذا أتى المكلف به على ذلك الوجه انقطع عنه تعلق الخطاب، وهذا هو على مذهب المتكلمين في تفسير الصحة بموافقة الأمر. وقيل: إسقاط القضاء، وهو مذهب الفقهاء في الصحة، ولا يصح تفسيره بالأداء، لأنا نعلل الإجزاء بأداء الفعل على الوجه المأمور به، فنقول: أدى ما أمر به كما أمر.

(1/255)


مسألة: الجائز ما وافق الشريعة
الجائز ما وافق الشريعة، فإذا قلنا: صوم جائز وبيع جائز، فإنما نريد أنه موافق للشريعة، وقد يقول الفقهاء: الوكالة عقد جائز، ويريدون به أنه ليس بلازم.

(1/256)


وضابط ذلك: أن كل عقد للعاقد فسخه بكل حال، أو لا ويئول إلى اللزوم، ولا يدخل على ذلك المبيع بشرط الخيار، فإنه يئول إلى اللزوم، وكذا إذا كان في المبيع عيب. قاله القاضي أبو الطيب في شرح جدله.
وقال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب: الجائز ما أذن في فعله فيشمل الواجب ويخرج الحرام، وقيل: ما لا يأثم بفعله ولا تركه.
قال: والحد الأول هو الصحيح لأنه من وصف واحد. قال: وكل صحيح جائز من حيث كونه مأذونا في فعله، وليس كل جائز صحيحا ككثير من المباحات. قال: وحد الجائز عند أهل الشريعة قريب مما قاله أهل المعقول.

(1/257)


مسألة: يقابل الصحة البطلان
ويقابل الصحة البطلان فيأتي في تفسيره الخلاف السابق، فمن قال: الصحة وقوع الفعل كافيا في إسقاط القضاء قال: البطلان هو وقوعه غير كاف لإسقاط القضاء، ومن قال الصحة موافقة الأمر قال: البطلان مخالفته فعلى هذا لو صلى المتطهر يظن أنه محدث وجب القضاء على القولين، لكن عند المتكلمين لكونها باطلة بالمخالفة، وعند الفقهاء لفوات الشرط، وهو العلم بوجود الطهارة. والفاسد والباطل عندنا مترادفان، فكل فاسد باطل وعكسه. وعند الحنفية يفترقان فرق الأعم والأخص كالحيوان والإنسان، إذ كل باطل فاسد وليس كل فاسد باطلا. فقالوا: الباطل ما لا ينعقد بأصله كبيع الحر، والفاسد ما لا ينعقد دون أصله كعقد الربا فإنه مشروع من حيث إنه بيع، وممنوع من حيث إنه عقد ربا. والبيع الفاسد عندهم يشارك الصحيح في إفادة الملك إذا اتصل بالقبض فجعلوا الفاسد رتبة متوسطة بين الصحيح والباطل، وهو نظير مذهب الجاحظ. وعندنا لا فرق بين الباطل والفاسد بل هو سواء في المعنى والحكم، وبه قال أحمد وأصحابه.
وما ذهب إليه الحنفية فساده ظاهر من جهة النقل، فإن مقتضاه أن يكون الفاسد هو الموجود على نوع من الخلل، والباطل هو الذي لا تثبت حقيقته بوجه، وقد قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فسمى السماوات والأرض فاسدة عند تقدير الشريك ووجوده. ودليل التمانع يقتضي أن العالم على تقدير الشريك، ووجوده، يستحيل وجوده، لحصول التمانع لا أنه يكون موجودا على نوع من

(1/257)


الخلل، فقد سمى الله تعالى الذي لا تثبت حقيقته بوجه، فاسدا وهو خلاف ما قالوا في التفرقة، فإن كان مأخذهم في التفريق بمجرد الاصطلاح فهم مطالبون بمستند شرعي يقتضي اختلاف الحكم المرتب عليهما.
قلت: قد تقدم أمور في تفرقتهم بين الفرض والواجب ينبغي أن يتعرض بمثلها هنا. وأما المالكية فتوسطوا بين القولين، ولم يفرقوا بين الباطل والفاسد في التسمية، ولكنهم قالوا: البيع الفاسد يفيد شبهة الملك فيما يقبل الملك، فإذا لحقه أحد أربعة أشياء يقدر الملك بالقيمة وهي حوالة الأسواق، وتلف العين ونقصانها، وتعلق حق الغير بها على تفصيل لهم في ذلك.
وقال الإمام في التلخيص نقل عن الشافعي أنه قال في تحديد الفاسد: هو كل فعل محرم يقصد به التوصل إلى استباحة ما جعل الشرع أصله على التحريم. ثم أورد عليه الإمام العقد في وقت تضيق الصلاة، فإن المتلفظ بالعقد تارك لتكبيرة الإحرام، وترك التكبيرة محرم فهذا محرم توصل به إلى استباحة الأملاك والأبضاع؛ وأصولها على الحظر مع أنه ليس بفاسد.
التفرقة بين الفاسد والباطل:
واعلم أن أصحابنا فرقوا بين الفاسد والباطل في مواضع:
أولها، وثانيها : الخلع والكتابة، فالباطل منهما ما كان على غير عوض مقصود كالميتة، أو رجع إلى خلل في العاقد كالصغر والسفه، والفاسد خلافه، وحكم الباطل أن لا يترتب عليه مال، والفاسد يترتب عليه العتق والطلاق، ويرجع الزوج بالمهر والسيد بالقيمة.
وثالثها : الحج يبطل بالردة ويفسد بالجماع.
وحكم الباطل أنه لا يجب قضاؤه ولا يمضي بخلاف الفاسد. هذا حكم ما يطرأ، وأما الفاسد ابتداء، فيتصور فيما إذا أحرم بالعمرة ثم جامع، ثم أدخل عليها الحج، فالأصح أنه ينعقد فاسدا، وقيل: صحيحا، وقيل: لا ينعقد. قاله في الروضة في باب الإحرام وأما إذا أحرم مجامعا فينعقد فاسدا أيضا على الأصح. قاله الرافعي في باب المواقيت، وصحح النووي في باب محرمات الإحرام عدم الانعقاد.
ورابعها : العارية وقد صورها الغزالي في الوسيط فإنه حكى في صحة إعارة الدراهم والدنانير خلافا، ثم قال فإن أبطلناها ففي طريق أهل العراق أنها مضمونة، لأنها

(1/258)


إعارة فاسدة، وفي طريق المراوزة أنها غير مضمونة لأنها غير قابلة للإعارة فهي باطلة كذا حصرها جماعة في هذه الأربعة، وهو ممنوع بل يجري ذلك في سائر العقود.
ومن صورة الإجارة الفاسدة وتجب فيها أجرة المثل. أما إذا استأجر مثلا صبي رجلا بالغا فعمل عملا لم يستحق شيئا، لأنه الذي فوت على نفسه عمله وتكون باطلة.
ومنها: لو قال للمديون: اعزل قدر حقي، فعزله، ثم قال: قارضتك عليه لم يصح، لأنه لم يملكه بالعزل، فإذا تصرف المأمور فإن اشترى بالعين فهو ملك له، وإن اشترى في الذمة للقراض ونقده فيه وجهان:
أحدهما : الشراء للقراض ويكون قراضا فاسدا وله الأجرة والربح لبيت المال.
والثاني : لا يكون قراضا لا فاسدا ولا صحيحا بل هو باطل.
ومنها: لو قال: بعتك ولم يذكر ثمنا وسلم، وتلفت العين في يد المشتري هل عليه قيمتها؟ وجهان:
أحدهما : نعم، لأنه بيع فاسد.
والثاني : لا، لأنه ليس مبيعا فيكون أمانة.
ومنها: لو نكح بلا ولي فهو فاسد يوجب مهر المثل لا الحد، ولو نكح السفيه بلا إذن فباطل لا يترتب عليه شيء.
وقال الإمام أبو الحسن السبكي: عندي. أن أصحابنا لم يوافقوا الحنفية في هذا التفريق أصلا، لأن الحنفية يثبتون بيعا فاسدا يترتب عليه مع القبض أحكام شرعية، ونحن لا نقول ذلك، وإنما العقود لها صور لغة وعرفا من عاقد ومعقود عليه وصيغة، ولها شروط شرعية فإن وجدت كلها فهو الصحيح، وإن فقد العاقد أو المعقود عليه أو الصيغة أو ما يقوم مقامها فلا عقد أصلا، ولا يحنث به إذا حلف لا يبيع ونسميه بيعا باطلا مجازا، وإن وجدت وقارنها مفسد من عدم شرط ونحوه، فهو فاسد، وعندنا هو باطل خلافا لهم.
ووافقونا على البطلان إذا كان الفساد لصفة المعقود عليه كبيع الملاقيح. ونحن لا نرتب على الفاسد شيئا من الأحكام الشريعة، لأنه غير مشروع لكن لنا قاعدة، وهي إذا كان للفعل عموم وبطل الخصوص قد لا يعمل العموم. فالمسائل التي رتب الأصحاب عليها حكما من العقود الفاسدة هي من هذا القبيل. ا هـ.

(1/259)


فائدة: أقسام الباطل
قسم ابن القاص في كتاب أدب الجدل الباطل إلى خمسة: الإحالة والمناقضة والفحش والغلط، قال: وهذه الأربعة خارجة عن الأصول فمن صار إليها فهو منقطع، والخامس يسمى الخطأ، فعليه تدور المناظرات، وإليه يقصد بالمطالبات.
قال: فالإحالة: ما دفعه الحس، والمناقضة: ما شهد على نفسه بالاختلاف، والفحش: ما يستقبحه العقل، والغلط: ما طرحه المسلمون، والخطأ: كل متلبس قام فساده دليل.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: حد المحال كل جملة لا يتعلق بها غرض ولا فائدة قال: وإنما يطلقه أهل الشريعة على فعل لا بد له من شرط أو وصف ينضم إليه حتى يعتد به فإذا فعله من غير ذلك الشرط يقال: هذا فعل محال فيقال: الصلاة بلا طهارة محال، والبيع بلا ثمن محال، والصوم بالليل محال. انتهى.

(1/260)


مسألة: الرخصة والعزيمة
الحكم يوصف بالعزيمة والرخصة وفيهما مباحث:
[المبحث] الأول في مدلولهما.
العزيمة
أما العزيمة فهي لغة: القصد المؤكد، ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] وشرعا: عبارة عن الحكم الأصلي السالم موجبه عن المعارض، كالصلوات الخمس من العبادات، ومشروعية البيع وغيرها من التكاليف.
قيل: وقضيته أن الإباحة حيث لا يقوم دليل المنع عزيمة، وهو لا يطابق الوضع اللغوي، ولا الاصطلاح الفقهي، فإنه في اللغة يدل على التأكيد والجزم كما يقال عزمت عليك بكذا وكذا، ولهذا يقابلونه بما فيه ترخيص، والإباحة بمجردها ليس فيها هذا المعنى.
وفي كلام الغزالي والآمدي ما يقتضي اختصاصها بالواجبات فإنهما قالا: ما لزم

(1/260)


العباد بإلزام الله تعالى. أي بإيجابه. وليس كما قالا، فإنها تذكر في مقابلة الرخصة، والرخصة تكون في الواجب وغيره، فكذلك ما يقابلها، ومثال دخول الإباحة فيها قولهم: ص من عزائم السجود، ودخول الحرام تحريم الميتة عند عدم المخمصة هو عزيمة، لأن حكمها ثبت بدليل خلا عن المعارض، فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التحريم، وهو راجح عليه حفظا للنفس، فجاز الأكل.
قال أصحابنا: ترك الصلاة في حق الحائض والنفساء عزيمة.
قال النووي: وإنما كان عزيمة لكونها مكلفة بتركها، ومقتضى الدليل أن من كلف بترك شيء لم يكلف بفعله في حال تكليفه بتركه، وأما القضاء فإنما يجب بأمر جديد، ولم يرد.
الرخصة
وأما الرخصة فهي لغة: اليسر والسهولة، ومنه رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء، وفيها لغات ثلاث: رخصة بضم الراء والخاء، ورخصة بإسكان الخاء، فيجوز أن تكون مخففة من الأولى، ويجوز أن تكون كل واحدة أصلا بنفسها، والثالثة: خرصة بتقديم الخاء حكاها الفارابي، والظاهر: أنها مقلوبة من الأولى، وقد اشتهر على ألسن الناس فتح الخاء ولا يشهد له سماع ولا قياس، لأن فعلة تكون للفاعل كهمزة ولمزة وضحكة، وللمفعول كلقطة، فقياسه إن ثبت هنا: أن يكون اسما للكثير الرخيص على غيره إذا فشا الرخص فيه.
وقال الآمدي في الإحكام: الرخصة بفتح الخاء: الأخذ بالرخصة، فيحتمل أنه أراد بالأخذ المصدر، ويحتمل أراد اسم الفاعل، والقياس الأول وهو المنقول.
وأما في الاصطلاح: فقد اختلف فيه، فقال الإمام الرازي: ما جاز فعله مع قيام المقتضي للمنع، وأورد عليه أن الرخصة هي الحكم، وأنها قد تكون بجواز الترك، وأن التكاليف كلها كذلك، لأنها على خلاف التخفيف الذي هو الأصل، كذا قاله القرافي، وفيه نظر، لأن التكاليف كلها بعض ما هو يستحق على العبد لله تعالى فهو ماش على الأصل.
وقال القرافي: طلب الفعل السالم عن المانع المشتهر، واحترز بالمشتهر عن نحو ما تقدم، ثم أورد على نفسه العقود المخالفة للقياس كالسلم والمسابقة.

(1/261)


وقال الهندي: ما جاز فعله أو تركه مع قيام المانع منه، ويرد عليه كثير مما تقدم.
وقيل: ما لزم العباد بإيجابه تعالى وفيه نظر.
وقيل: ما خرج عن الوضع الأصلي لعارض.
وقال ابن الحاجب: المشروع لعذر مع قيام المحرم لولا العذر، ويرد عليه التعبد بالتحريم.
وقيل: استباحة المحظور مع قيام المحرم، فإن أريد إباحة المحظور مع قيام المحرم بلا حرمة فهو قول بتخصيص العلة، وإن أريد إباحة المحظور مع قيام الحرمة، فهو قول بالجمع بين المتضادين، وكلاهما فاسد.
وقيل: الحكم مع المعارض أي مع قيام الدليل الدال على المنع.
وقيل: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر مع كونه حراما في حق غير المعذور، وهو المراد بقول الفقهاء ما ثبت على خلاف القياس أي الشرعي، لا القياس العقلي المصلحي، لأنه إنما عدل به عن نظائره لمصلحة راجحة. هذا في جانب الفعل، وفي جانب الترك أن يوسع للمكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المعذور تخفيفا وترفها سواء كان التغيير في وضعه أو حكمه.
وهو نوعان:
أحدهما : أن يتغير الحكم مع بقاء الوصف الذي كان عليه بأن يكون في نفسه محرما مع سقوط حكمه، كإجراء كلمة الكفر على لسانه حالة الإكراه مع قيام التصديق بالقلب.
والثاني : أن يسقط الحظر والمؤاخذة جميعا كأكل الميتة عند المخمصة حتى لو امتنع ومات فإنه يؤاخذ.
المبحث الثاني: الرخصة من أي الخطابين؟.
في أن الرخصة من أي الخطابين؟ فأما الآمدي فجعلها من أنواع خطاب الوضع والحق: أنها من خطاب الاقتضاء، ولهذا قسموها إلى واجبة ومندوبة ومباحة، وظاهر كلام الجمهور أنها من أقسام الحكم، وظاهر كلام الرازي أنها نفس فعل المكلف، والقولان غير خارجين عن المدلول اللغوي، فإن الأول يشهد له قول العرب: الرخصة التيسير، ويشهد للثاني قولهم: هذا رخصي من الماء أي: هذا شربي.

(1/262)


المبحث الثالث: في أقسام الرخصة:
في أقسام الرخصة: وقد قسمها الأصوليون إلى ثلاثة: واجبة، ومندوبة، ومباحة.
فالواجبة كإساغة اللقمة بالخمر لمن غص باللقمة، وكتناول الميتة للمضطر بناء على النفوس حق الله وهي أمانة عند المكلفين، فيجب حفظها ليستوفي الله حقه منها بالتكليف.
وقال ابن دقيق العيد: وهذا يقتضي أن تكون عزيمة لوجود الملزوم والتأكيد قال: ولا مانع أن يطلق عليه رخصة من وجه وعزيمة من وجه، فمن حيث قام الدليل المانع نسميه رخصة، ومن حيث الوجوب نسميه عزيمة.
وهذا التردد الذي أشار إليه سبقه إليه إمام الحرمين في النهاية وتردد في أن الواجبات هل يوصف شيء منها بالرخصة؟ وقال في باب صلاة المسافر من النهاية: يجوز أن يقال: أكل الميتة ليس برخصة، فإنه واجب، ولأجله قال صاحبه إلكيا الهراسي في أحكام القرآن: الصحيح عندنا: أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، كالفطر للمريض في رمضان، ويتحصل بذلك في مجامعة الرخصة للوجوب ثلاثه أقوال. والظاهر أن الوجوب والاستحباب يجامعها، ولا يكون داخلا في مسماها والمندوبة كالقصر في السفر إذا بلغ ثلاث مراحل، والمباحة كالفطر في السفر، وليس بتمثيل صحيح، لأنه يستحب عند مشقة الصوم ويكره عند عدم المشقة، فليس له إباحة. قال بعضهم: ولم أجد له مثالا بعد البحث الكثير إلا التيمم عند وجدان الماء بأكثر من ثمن المثل، فإنه يباح له التيمم، والوضوء مستويا على ما اقتضاه كلام أصحابنا.
قلت: هذا إن جعلنا التيمم رخصة، وفيه خلاف: والأولى: التمثيل بتعجيل الزكاة، وفي الحديث التصريح بالرخصة فيه للعباس. رواه أبو داود1.
وهذا بالنسبة إلى العبادات، أما المعاملات فرخصها كثيرة كالسلم والإجارة والحوالة والعرايا على أن الغزالي في المستصفى أبدى احتمالين في السلم، وكذلك كلام الشافعي في الأم بالنسبة إلى العرايا، وسنذكر في القياس على الرخص، بل يأتي في غير العبادات والمعاملات، ولهذا قال الإمام في النهاية لبن المأكول طاهر، وذلك عندي في حكم الرخص، فإن الحاجة ماسة إليها وقد امتن الله بإحلالها. وذكر في
ـــــــ
1 حديث حسن: رواه أبو داود "2/115" حديث "1624".

(1/263)


البسيط مثله في شعر المأكول البائن في حياته أنه رخصة لمسيس الحاجة إليه في الملابس.
وأهمل الأصوليون رابعا، وهو خلاف الأولى كالإفطار في السفر عند عدم التضرر بالصوم، وكترك الاقتصار على الحجر في الاستنجاء.
وقضية كلام الأصوليين أن الرخصة لا تجامع التحريم، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" 1. ولهذا قال الفقهاء:
الرخص لا تناط بالمعاصي، لكن لو ألقى نفسه من شاهق جبل فانكسر وصلى قاعدا، فلا قضاء عليه على المذهب، كما قاله ابن الرفعة مع أن إسقاط القضاء عن القاعد رخصة إلا أن يقال: إن المعصية انتهت.
وقال العبادي: لو حلف لا يأكل الحرام فأكل الميتة للضرورة حنث في يمينه، لأنه حرام إلا أنه رخص له فيه، حكاه القاضي الحسين في فتاويه، وفيه نظر لأن الأعيان لا توصف بحل ولا حرمة فيبقى التناول وهو واجب فكيف يكون حراما وليس ذا وجهين.
تنبيه: [في تقسيم الرخصة]
اعلم أن جميع الأصوليين يقسمون الرخصة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة، وكان بعض الفضلاء يثير في ذلك بحثا، وهو أنه إما أن يكون مقصودهم ذكر ما وقع به الترخيص أو ذكر الحالة التي صارت إليه العبادة بعد الترخيص.
فإن كان الأول فالظاهر أن الرخصة إنما هي مجرد الإحلال، لأن الإحلال هو الذي جعل له التيسير والسهولة، وكون ذلك الذي حل يعرض له أمر آخر يصيره واجبا ليس من الرخصة في شيء، فالترخيص للمضطر من الميتة، وإنما هو إحلالها بعد أن كانت حراما، وكونها يجب عليه أمر آخر نشأ عن وجوب حفظ النفس، فلا يكون الرخصة عند التحقيق إلا بمجرد الإحلال.
وإن كان مرادهم ذكر الأحوال التي صارت إليها العبادة بعد الترخيص فتقسيمها
ـــــــ
1 حديث صحيح: رواه أحمد في مسنده "2/108" حديثه "5866" ورواه ابن خزيمة في صحيحه "2/73"، برقم "950"، والبيهقي في الكبري "3/140"، برقم "5199" كلهم عن ابن عمر مرفوعا. ورواه ابن حبان في صحيحه "8/333"، برقم "3568" والحديث صححه ابن خزيمة.

(1/264)


إلى ثلاثة فيه نظر، فإنها تنقسم بالاعتبار المذكور إلى أربعة عشر نوعا، لأن الأحكام خمسة، وكل منها إذا صار إلى حكم آخر يخرج منه خمس أقسام في الخمسة السابقة، فهي خمسة وعشرون قسما. يسقط منها انتقال كل حكم إلى نفسه، فهو محال صارت عشرين، يسقط منها الترخيص في المباح إلى الأربعة، وهو محال، لأنه لا شيء أحق من الإباحة، فلا رخصة فيها صارت ستة عشر، ويسقط منها تخفيف المستحب إلى الواجب فإنه لا تسهيل فيه، وكذلك تخفيف المكروه إلى الحرام محال أيضا فيبقى أربعة عشر قسما.
الأول : رخصة واجبة أصلها التحريم، كأكل الميتة للمضطر.
الثاني : رخصة مستحبة أصلها التحريم، كالقصر في السفر بعد ثلاثة أيام.
الثالث : رخصة مكروهة أصلها التحريم، كالقصر دون ثلاثة أيام والترخيص في النفل عن التحريم إلى الكراهة.
الرابع : رخصة مباحة أصلها التحريم، كالتيمم عند وجود الماء بأكثر من ثمن المثل، وكذلك عند بذل ثمن الماء له، أو بذل آلة الاستقاء، أو إقراض الثمن، وكذلك إذا وجد المضطر المحرم صيدا فذبحه وميتة فيتخير بينهما.
الخامس : رخصة مستحبة أصلها الوجوب، كإتمام الصلاة قبل ثلاثة أيام، وكالصوم في السفر للقوي والترخيص في النفل في القعود.
تنبيه
[قد يكون سبب الرخصة اختياريا]
قد يكون سبب الرخصة اختياريا، كالسفر. واضطراريا كالاغتصاص باللقمة المبيح لشرب الخمر، وهذا أولى من قول القرافي: قد يباح سببها كالسفر وقد لا يباح كالغصة، لأن الغصة أمر ضروري لا يوصف بإباحة ولا حظر.
قيل: والعجب من الفقهاء كيف رجحوا الأخذ بالرخصة في الفطر وقصر الصلاة في السفر مع سهولة الخطب فيها؟ ورجحوا العزيمة فيما يأتي على النفس كالإكراه على الكفر وشرب الخمر، فإما أن يرجحوا الرخصة مطلقا أو العزيمة مطلقا.
أما الفرق فلا يظهر له كبير فائدة، فإن قيل: له فائدة عظيمة وهي أن المقصود من الأخذ بالرخصة أو العزيمة هي العبادة، ففي أيهما كانت العبادة أعظم رجحنا الأخذ به، والعبادة في الصبر على القتل دون كلمة الكفر أعظم، لأنه جهاد في سبيل الله،

(1/265)


والجود بالنفس أقصى غاية الجود، قيل: هذا يبطل بالصوم في السفر فإنه أعظم عبادة، وقد رجحتم الفطر عليه، ولأن العبادة في استيفاء حق الله في النفس أعظم لأنها إذا بقيت وجد منها [الشهوات] المتعددة الأنواع، أضعاف ما يحصل من ترك التلفظ بكلمة الكفر من العبادة.
فائدة: الرخصة إما كاملة أو ناقصة
تنقسم الرخصة إلى كاملة وهي التي لا شيء معها كالمسح على الخف، وإلى ناقصة وهي بخلافه كالفطر للمسافر وهذا تلمحته من كلام الشافعي في "الأم"1 فإنه قال: والمسح رخصة كمال، وعلى هذا فالتيمم لعدم الماء فيما لا يجب معه القضاء رخصة كاملة ومع ما يجب فيه القضاء رخصة ناقصة.
تنبيه: [تشكيك الآمدي في تحقيق الرخصة]
شكك الآمدي في تحقيق الرخصة بأن العذر المرخص إن كان راجحا على السبب المحرم كان موجبه عزيمة، وإلا لكان كل حكم ثابت راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة، وإن كان مساويا أو مرجوحا فأي شيء يرجح دليل الرخصة؟، ثم قال: القول بأنه مرجوح قال: هو أشبه بالرخصة لما فيه من التيسير بالعمل بالمرجوح، أجاب الهندي بالتزام أن العذر المرخص راجح.
قوله: يلزم أن يكون كل راجح رخصة.
قلنا: الراجح قسمان: راجح شرع لعذر، واستفيد رجحانه من دليل خاص فهو رخصة أبدا، وكل خاص عارض العام، وكان خروجه لعذر فهو رخصة، وراجح شرع لا لعذر وتسهيل فلا يلزم منه هذا.
ـــــــ
1 انظر الأم "1/33".

(1/266)


مسألة: الأداء والقضاء والإعارة
من لواحق خطاب الوضع تقسيم الحكم إلى أداء وقضاء وإعادة.
والضابط: أن العبادة إن فعلت في وقتها المحدود شرعا سميت أداء، كفعل

(1/266)


المغرب ما بين غروب الشمس وغروب الشفق، فخرج ما لم يقصد فيه الوقت فلا يوصف بأداء ولا قضاء، لأن المقصود منه الفعل في أي زمان كان، كالإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد عند حضور العدو. بخلاف الأداء فإنه قصد منه الفعل والزمان.
وقالت الحنفية: غير المؤقت يسمى أداء شرعا. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] نزلت في تسليم مفتاح الكعبة، وهو غير مؤقت، ولأصحابنا أن هذا معنى اللغوي، والكلام في الاصطلاحي، ولا يشترط وقوع الجميع في الوقت بل لو وقع بعضه كركعة، فالصحيح: أن الجميع أداء تبعا للركعة، فإنها لمعظم الصلاة وقيل: بل يحكم ببقاء الوقت بالنسبة إليه، وتكون العبادة كلها مفعولة في الوقت، وهذا أمر تقديري ينافيه قولهم: بعضها خارج الوقت، وسواء كان مضيقا كصوم رمضان، أو موسعا كالصلاة وسواء فعل قبل ذلك مرة أخرى أم لا.
هذا هو قضية إطلاق الفقهاء والأصوليين منهم القاضي أبو بكر في التقريب والغزالي في المستصفى والإمام في المحصول.
ثم قال الإمام: فإن فعل ثانيا بعد ذلك سمي إعادة، فظن أتباعه أنه مخصص للإطلاق السابق فقيدوه وليس كذلك.
فالصواب: أن الأداء اسم لما وقع في الوقت مطلقا مسبوقا كان أو سابقا، وإن سبقه أداء مختل سمي إعادة، فالإعادة قسم من أقسام الأداء، فكل إعادة أداء من غير عكس، ولا تغتر بما تقتضيه عبارة التحصيل والمنهاج من كونه قسيما له.
وهل المراد بالخلل في الإجزاء كمن صلى بدون شرط أو ركن، أو في الكمال كمن صلى منفردا ثم أعادها في جماعة في الوقت؟ خلاف، والأول: قول القاضي.
فالحاصل: أن الإعادة فعل مثل ما مضى فاسدا كان الماضي أو صحيحا على القولين، وقيل: لا يعتبر الوقت في الإعادة. فعلى هذا بين الأداء والإعادة عموم وخصوص من وجه، فينفرد الأداء في الفعل الأول، وتنفرد الإعادة بما إذا قضى صلاة، وأفسدها، ثم أعادها، ويجتمعان في الصلاة الثانية في الوقت على ما سبق.
وقال سليم في "التقريب": الإعادة اسم للعبادة يبتدأ بها، ثم لا يتم فعلها إما بأن لا يعقدها صحيحة، وإما بأن يطرأ الفساد عليها، وقد. يعيدها في الوقت فتكون أداء، وبعد الوقت فتكون قضاء، وربما عبر بالإعادة عن العبادة التي تؤخر، أما إن

(1/267)


أدى خارج وقته المضيق أو الموسع المتعين له سمي قضاء سواء كان التأثير بعذر أو بغيره، وسواء سبق بنوع من الخلل أم لا.
وخرج بالمقدر: المعين عن المقدر بغيره، بل بضرب من الاجتهاد كالموسع في الحج إذا تضيق وقته بغلبة الظن، ثم بقي بعد ذلك وأداه فإنه لا يكون قضاء على المختار، وسيأتي، وسواء وجب أداؤه أو لم يجب ولكن وجد سبب الأمر، ولا يصح عقلا كالنائم أو شرعا كالحائض، أو يصح لكنه سقط لمانع باختيار العبد كالسفر، أو لا باختياره كالمرض، وما لا يوجد فيه سبب الأمر به لم يكن فعله بعد انقضاء الوقت قضاء إجماعا لا حقيقة ولا مجازا، كما لو صلى الصبي الصلاة الفائتة في حالة الصبا، وإن انعقد سبب وجوبه ووجب كان فعله خارج الوقت قضاء حقيقة بلا خلاف، وإن انعقد سبب وجوبه ولم يجب لعارض سمي قضاء أيضا ومنه قول عائشة: "كنا نؤمر بقضاء الصوم"1 لكن اختلف فيه هل هو قضاء حقيقة أو مجازا؟.
والأكثرون على أن المعتبر في تسمية العبادة قضاء تقدم سبب وجوب أدائها لا وجوب أدائها، وإلا لم تصح تسمية عبادة المجنون والحائض قضاء، إذ لم يخاطب واحد منهما، وهذا ما ذكره الإمام الرازي والمازري وغيرهما، وهو الصحيح المنصوص أن الصوم لا يجب عليها حالة الحيض، وخالف القاضي عبد الوهاب، فقال: الحيض يمنع صحة الصوم دون وجوبه، ونسبه إلى الحنفية ومأخذ الخلاف في أن القضاء في محل الوفاق هل كان لاستدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه فيكون هاهنا حقيقة لانعقاد سبب الوجوب، أو لاستدراك مصلحة ما وجب فيكون هاهنا مجازا لعدم الوجوب؟.
وذكر سليم الرازي: أن مأخذ الخلاف أن القضاء هل يجب بأمر جديد أم بالأمر الأول؟ فمن أوجبه الأمر الأول أطلق اسم القضاء عليه حقيقة وعلى مقابله يكون مجازا، ثم إذا قلنا باشتراط سبق الوجوب في القضاء، فهل يعتبر وجوبه على المستدرك أو وجوبه في الجملة؟ قولان. ويتحصل من ثلاثة مذاهب:
الأول: وعليه الجمهور أن فعلهم في الزمان الثاني قضاء بناء على أن المعتبر في القضاء سبق الوجوب في الجملة لا سبق الوجوب على ذلك الشخص.
ـــــــ
1 رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، حديث "335" عن معاذ قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. والحديث أصله في البخاري، برقم "321".

(1/268)


والثاني: أنه ليس بقضاء لعدم الوجوب عليهم بدليل الإجماع على جواز الترك.
والثالث: أنه واجب عليهم في الزمان الأول بسببه، وفعلهم في الزمن الثاني قضاء.
قلنا: لو كانت الصلاة والصوم واجبان عليهم بأسبابهما لما جاز لهم تركهما لكن يجوز لهم تركهما إجماعا. قالوا: شهود الشهر موجب، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهم قد شهدوا الشهر. قلنا: شهود الشهر وإن كان موجبا للصوم عليهم لكن العذر مانع من الوجوب، والشيء قد لا يترتب على موجبه لمانع فلا يلزم من شهود الشهر وجوب الصوم عليهم.
قال في المحصول: ففي جميع هذه المواضع اسم القضاء إنما جاء لأنه وجد سبب الوجوب منفكا عن الوجوب، لا لأنه وجد سبب الوجوب كما يقول بعض الفقهاء، لأن المنع من الترك جزء ماهية الوجوب، فيستحيل تحقق الوجوب مع جواز الترك.
ثم تقدم السبب قد يكون مع التأثيم بالترك كالقاتل المتعمد المتمكن من الفعل، وقد لا يكون كالحائض، ثم قد يصح مع الإجزاء وقد لا يصح إما شرعا كالحيض أو عقلا كالنوم، ثم قيل: القضاء لا يوصف إلا بالواجب، وقيل: لا يوصف بشيء من الثلاثة غيره وهما فاسدان.
والصواب: أن الواجب والمندوب كل منهما يوصف بالثلاثة، ولهذا يقولون: يقضي الرواتب على الأظهر.
تنبيه: [لا فرق بين تسمية القضاء أداء وبالعكس]
ما ذكر من الفرق بين الأداء والقضاء راجع إلى التلقيب والاصطلاح، وإلا فعندنا لا فرق بين أن يسمى القضاء أداء والأداء قضاء، ولهذا يجوز أن يعقد القضاء بنية الأداء، فإذن لا فرق بينهما في الحقيقة وإنما هي ألفاظ وألقاب تطلق والحقيقة واحدة، كذا قاله ابن برهان في الأوسط ذيل الكلام في أن القضاء هل يجب بأمر جديد؟ وهو منازع فيه.

(1/269)


فرع: تأخير المأمور به هل يكون قضاء؟
إذا قلنا بالفور في الأوامر فإذا أخر المأمور به، فهل يكون قضاء لأنه أوقعها في غير وقتها؟.
قال الشيخ عز الدين في أماليه: الوقت على قسمين: وقت يستفاد من الصيغة الدالة على المأمور مع قطع النظر عن كون الشرع حد للعبادة ذلك الوقت أو لم يحد، ووقت يحده الشرع للعبادة مع قطع النظر عن كون اللفظ اقتضاه أو لا.
والمراد بالوقت في حد القضاء هو الثاني دون الأول وحينئذ، فتقول: لا نسلم أنها تكون قضاء بل إنما تكون إن خرجت عن وقتها المضروب لها لا أنها خرجت عن الوقت الذي دل عليه اللفظ.
فائدة: العبادة التي تقع قبل الوقت وتكون اداء
ليس لنا عبادة تقع قبل الوقت وتكون أداء غير صدقة الفطر إذا عجلها قبل ليلة الفطر، وليس لنا عبادة يتوقف قضاؤها إلا في مسألتين على قول: إحداهما: إذا ترك رمي يوم تداركه في باقي الأيام ويكون أداء على الأظهر، والقول الثاني قضاء، واتفقوا على أنه لا يقضى فيما عدا أيام التشريق. الثانية: النوافل المؤقتة فيها قول أنها لا تقضى إذا دخل عليها وقت صلاة أخرى.

(1/270)


مسألة: من غلب على ظنه عدم البقاء
وإذا كان الاعتبار بالتعيين من جهة الشارع في الوقت فمن غلب على ظنه عدم البقاء تعين عليه فعل الواجب الموسع، فإن أخره عصى، فلو لم يفعله وبقي بعده، قال الغزالي: هو أداء، لأنه تبين خطأ ظنه، ورجحه الهندي، ونقله ابن الحاجب عن الجمهور، وقال القاضيان أبو بكر بن الطيب والحسين بن محمد: قضاء، لأنه تضيق بتأخيره فهو كما لو تأخر عن زمنه المحدود.
ومنشأ الخلاف: النظر إلى الحال أو المآل؟ فإن نظرنا إلى الحال فقد ضاق

(1/270)


الوقت، أو إلى المآل فقد زالت غلبة الظن، وانكشف خلاف ذلك، فبقي الأمر على التوسع، ورجح ما قاله الغزالي: إن اعتبار الموجود محقق بخلاف اعتبار القاضي، فإنه لما تبين خلافه اعتبر غير محقق.
وقد ذكر الرافعي فيما إذا صلى بالاجتهاد، ثم بان أنه بعد الوقت: وجهين في أنه يكون قضاء أو أداء أصحهما، قضاء، وهو يقتضي ترجيح اعتبار ما في نفس الأمر. ثم قال ابن الحاجب: فإن أراد القاضي وجوب نية القضاء فبعيد، لوقوعها في الوقت، ويلزمه لو اعتقد انقضاء الوقت قبل الوقت أنه يعصى بالتأخير وقد يلتزمهما.
أما الأول: فلا نسلم أن وقت الأداء باق حتى يكون إيجاب نية القضاء عليه بعيدا، بل وقت الأداء خرج بمقتضى ظنه فإذا كذب ظنه، واستمرت حياته صار كما لو مات، ثم عاش في الوقت فإنه يفعل الصلاة بتكليف ثان منقطع عن الأول، فكذلك هنا. وقد قال القاضي الحسين في تعليقه: مقتضى كلام أصحابنا أنه ينوي القضاء، لأنه يقضي ما التزمه في الذمة بشروعه قال: وعلى قول القفال يتخير بين نية القضاء والأداء.
وأما الثاني : أنه يعصي بالتأخير الذي ظنه إلى آخر الوقت، لعدوله عما ظنه الحق، لأن التكليف يتبع الظنون لا ما في نفس الأمر.
وصرح القرطبي عن القاضي بأن معناه وجوب نية القضاء، لأنه قد تقدم وقته شرعا، فأشبه ما لو كان مقدرا بأصل الطلب.
قال: وكلام القاضي ظاهر لولا أنه يقال على من لزمه قضاء صلاة فأخره: قاضي القضاء.
ورد الآمدي طريقة القاضي بأن جميع الوقت كان وقتا للأداء قبل ظن المكلف تضيقه بالموت، والأصل بقاء ما كان على ما كان، ثم ظن المكلف المذكور إنما أثر في تأثيمه بالتأخير، ولا يلزم من تأثيمه بالتأخير مخالفة الأصل المذكور، وهو بقاء الوقت الأصلي وقتا للأداء في حقه، كما لو أخر الواجب الموسع من غير عزم، فإن وقت الأداء الأصلي باق في ذمته، وقد وافق القاضي على ذلك.
قيل: وخرج عن هذا منزع صعب على القاضي: وهو أن الأداء والقضاء من خطاب الوضع، والإثم على التأخير من باب خطاب التكليف، وظن المكلف إنما يناسب تأثيره في الأمور التكليفية، فتقلب حقائقها، لأنها أمور تقديرية أو تقريبية كالإثم والثواب جاز أن يتبع الظنون والاعتقادات أما الأمور الوضعية كأوقات الصلوات فلا

(1/271)


يقوى المكلف على قلب حقائقها.
تنبيه
يشبه أن يكون محل الخلاف إذا مضى من وقت الظهر إلى حين الفعل زمن يسع الفرض حتى يتجه القول بالقضاء، فلو لم يكن كذلك ففعله، فليكن على الخلاف فيما إذا وقع بعض الصلاة في الوقت وبعضها خارجه.
ولا شك أن قول القاضي بمقتضى ظن هذا المكلف صار وقت الأداء الأصلي وقت قضاء في حقه هو قلبا لحقيقة أمر وضعي، ولا دليل على ثبوته. وأما الصور التي قاس عليها الآمدي وهي تأخير الموسع بدون العزم، فللقاضي أن يفرق بينهم بحصول الظن المناسب لترتيب الحكم الشرعي عليه في مسألة القاضي، والظن وجودي بخلاف مسألة الآمدي فإنه قد عصى معصية عدمية، وهو مع ذلك يعتقد تحريمها فلا يقوى على مناسبة تغيير أمر وضعي.
فرع
لو شرع في الصلاة في الوقت، ثم أفسدها وأتى بها في الوقت. قال القاضي الحسين والمتولي والروياني: يكون قضاء، لأن بالشروع يضيق الوقت بدليل امتناع الخروج منها فلم يكن فعلها بعده إلا قضاء، وهو قريب من قول القاضي أبي بكر فيما سبق.
وذكر ابن الرفعة أن في نص الأم إشارة إليه حيث منع الخروج بعد التلبس فقال: فإن خرج منها بلا عذر كان مفسدا آثما، وظاهر كلام أكثر الأصوليين والفقهاء أنه لا ينسلب عنها اسم الأداء، لبقاء الوقت المحدود شرعا، وبه صرح صاحب التنبيه في اللمع فقال: فأما إذا دخل فيها فأفسدها نسي شرطا من شروطها فأعادها والوقت باق سمي إعادة وأداء. انتهى.
وأشار في شرحها إلى أن الخلاف لفظي، وهو حق، وبه يتضح أنه لا يسلم للقاضي الحسين وأتباعه دعواهم تفريعا على قولهم بالقضاء في مقيم شرع في الصلاة في البلد، ثم أفسدها، ثم سافر لا يقصر، أو مسافر أتم واقتدى بمقيم، ثم أفسد الصلاة لا يقضي إلا تماما بناء على منع قصر الفوائت، بل الجاري على وفق الفقه القصر واستئناف الجمعة إذا وقع ذلك فيها ما بقي الوقت.

(1/272)