البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

التكليف
مدخل
...
التكليف
لغة : من الكلفة بمعنى المشقة، وفي الاصطلاح: قال ابن سراقة من أصحابنا في أول كتابه أصول الفقه: حده بعض أهل العلم بأنه إرادة المكلف من المكلف فعل ما يشق عليه. ا هـ.
وقال الماوردي في أدب الدنيا والدين: الأمر بطاعة، والنهي عن معصية، ولذلك كان التكليف مقرونا بالرغبة والرهبة، وكان ما تخلل كتابه من القصص عظة واعتبارا تقوى معها الرغبة ويزداد بها الرهبة.
وقال القاضي: هو الأمر بما فيه كلفة: أو النهي عما في الامتناع عنه كلفة، وعد الندب والكراهة من التكليف.
وقال إمام الحرمين: هو إلزام فيه كلفة، وعلى هذا فالندب والكراهة لا كلفة فيهما، لأنها تنافي التخيير.
قال في المنخول: وهو المختار، وفيه نظر، لأن التخيير عبارة عما خير بين فعله وتركه، والندب مطلوب الفعل مثاب عليه، فلم يحصل التساوي، وما نقلنا عن القاضي تبعنا فيه إمام الحرمين، لكن الذي في التقريب للقاضي: أنه إلزام ما فيه كلفة كمقالة الإمام فلينظر، فلعل له قولين.
وزعم الإمام أن الخلاف لفظي.
والحاصل أنه يتناول الحظر والوجوب قطعا، ولا يتناول الإباحة قطعا إلا عند الأستاذ أبي إسحاق، وفي تناوله الندب والكراهة خلاف.
وسلكت الحنفية مسلكا آخر فقالوا: التكليف ينقسم إلى وجوب أداء، وهو المطالبة بالفعل إيجادا أو إعداما، وإلى وجوب في الذمة سابق عليه، وعنوا به اشتغال الذمة بالواجب، وإذا لم يصلح صاحب الذمة للإلزام، كالصبي إذا أتلف مال إنسان فإن ذمته تشتغل بالعوض، ثم إنما يجب الأداء على الولي.
وزعموا استدعاء التكليف الأول عقلا وفهما للخطاب بخلاف الثاني: قالوا: الأول متلقى من الخطاب، والثاني من الأسباب فمستغرق الوقت بالنوم يقضي الصلاة مع ارتفاع قلم التكليف عن النائم، ولكن لما كان الوجوب مضافا إلى أسباب شرعية

(1/274)


دون الخطاب وجب القضاء لذلك.
وزعموا أن سبب وجوب الصلاة الوقت، والصوم الشهر، وتسلقوا به إلى وجوب القضاء على المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر، إذ الوجوب بالسبب وهو الشهر، وقد وجد، وعندنا لا وجوب إلا بالخطاب لا بالأسباب.

(1/275)


مسألة: التكليف حسن في العقول
التكليف حسن في العقول إذا توجه إلى من علمت طاعته، واختلف في حسنه إذا توجه إلى من عرفت معصيته، فاستحسنه المعتزلة، لأن فيه تعريضا للثواب، ولم يستحسنه الأشعرية، لأنه بالمعصية معرض للعقاب. كذا حكاه صاحب دلائل أعلام النبوة. قال: والأول: أشبه بمذهب الفقهاء. قال: ولم أعرف لهم فيه قولا.

(1/275)


مسألة: التكليف هل يكون معتبرا بالأصلح؟
اختلف في التكليف هل يكون معتبرا بالأصلح؟
فالذي عليه أكثر المتكلمين أنه معتبر بالأصلح، لأن المقصود منه منفعة العباد. وذهب الفقهاء وجمع من المتكلمين وهو المنسوب إلى الأشعرية إلى أنه موقوف على مشيئة الله تعالى من مصلحة وغيرها، لأنه مالك لجميعها، فمن اعتبر بالأصلح منع من تكليف ما لا يطاق، وبه يصح تكليف ما لحقت فيه المشقة المحتملة.
واختلف في صحة التكليف بما لا مشقة فيه، فجوزها الفقهاء، ومنع منها بعض المتكلمين، وقد ورد التعبد بتحويل القبلة، من بيت المقدس إلى الكعبة، وليس فيه مشقة.
قال القاضي: ومتعلق التكليف اكتساب العبد الأفعال، ولا يتعلق بذواتها ولا بحدوثها، فإن ذلك بقدرة الله تعالى خلافا للمعتزلة في قولهم. التكليف متعلق بالإيجاد والإحداث، وأصل الخلاف خلق الأفعال عندهم. ولا يعقل التكليف إلا باجتماع أربعة أمور: التكليف وهو المصدر، والمكلف وهو من يقوم به التكليف، وأصله طالب ملزم، لكن قد حققنا أنه لا يجب إلا طاعة الله، وطاعة من أوجب طاعته المكلف، وهو الذي استدعى منه الفعل، والمكلف به هو المطلوب، وإنما يشتق

(1/275)


الركن الثالث: المكلف
وهو المحكوم عليه وله شروط:
أحدها: الحياة:
فالميت لا يكلف وإن جوزنا تكليف المحال كما قاله القاضي أبو بكر ونقل الإجماع عليه، ولهذا لو وصل عظمه بنجس لم ينزع على الصحيح، ولو ماتت المعتدة المحرمة جاز تطييبها نظرا إلى أن الخطاب سقط بالموت. نعم قد ينسحب عليه حكم التكليف، ولهذا يمتنع تكفين الرجل بالحرير، وكذا بالزعفران والمعصفر إن منعناه في الحياة كما هو المنصوص، وكذلك المحرم إذا مات يحرم تطييبه، وإزالة شعره وظفره. وعلله القفال بأن الحج ألزم العقود فبقي حكمه كما يبقى حكم الإسلام. ولو مات المحرم، وقد بقي عليه من أركان الحج الحلق فإذا حلق بعد موته ففي وقوعه الموقع نظر لبعض مشايخنا.
فرع: تكليف من أحيي بعد موته
من أحيي بعد موته كالذي مر على قرية وكالخارجين من ديارهم ألوف، قال الماوردي في تفسيره: اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته، فقيل: يبقى، لئلا يخلو عاقل من تعبد، وقيل: يسقط، فالتكليف معتبر بالاستدلال دون الاضطرار. ا هـ. وهو غريب.
وقال الإمام في تفسيره: إذا جاز تكليفهم بعد الموت فلم لا يجوز تكليف أهل الآخرة؟ وأجاب بأن المانع من الآخرة الاضطراب إلى المعرفة، وبعد العلم الضروري لا تكليف وأهل الصاعقة يجوز كونه تعالى لم يضطرهم فصح تكليفهم بعد ذلك. ا هـ.
وقال بعض مشايخنا: الحق أن الآيات المضطرة لا تمنع التكليف، و [اليهود] قد أبوا أخذ الكتاب، فرفع الجبل فوقهم، فآمنوا وقبلوه، ولا شك في أن هذا آية

(1/276)


مضطرة.
وقول الرازي بعدم التكليف في الآخرة ليس على إطلاقه، فإن التكليف بالمعرفة باق فيها، وقد جاء أنه تؤجج نار ويؤمرون بالدخول فيها1، فمن أقبل على ذلك صرف عنها، وهذا تكليف.
وقال بعضهم: قولهم: الآخرة دار جزاء، والدنيا دار تكليف محمول على الأغلب في كل دار في الآخرة الجزاء كما في الدنيا التكليف.
[الشرط] الثاني : كونه من الثقلين الإنس والجن والملائكة
فيخرج البهائم والجمادات.
وحكى القاضي وغيره الإجماع عليه، وحكى صاحب المعتمد عن أهل التناسخ، أن فرائض الله تجب على جميع الحيوانات، وأن جميعها عقلاء مكلفون لفرائض الله. وعن الآخرين تكليف الجبال والأشجار والحيطان والحجر والمدر. ورد بإجماع الصحابة على خلاف ذلك. وأما ما وقع في بعض نسخ البخاري أن قردة رجموا من زنى بينهم، فإن، صح فلعله من بقايا من كلف.
[الشرط] الثالث: البلوغ:
فالصبي ليس مكلفا أصلا لقصور فهمه عن إدراك معاني الخطاب. قال الإمام في الرسالة النظامية: ومدرك شرطه الشرع، ولو رددنا إلى العقل لم يستحل تكليف العاقل المميز من الصبيان.
وقال في باب الحجر من النهاية: كأن الشرع لم يلزم الصبي قضايا التكليف لأمرين:
أحدهما : أنه من مظنة الغباوة وضعف العقل فلا يستقل بأعباء التكليف.
ـــــــ
1 يشير إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده "4/24"، برقم "16396" بإسناده عن الأسود بن سريع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطعنه، فيرسل إليهم "أن أدخلوا النار" قال: "فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما" . ورواه الطبراني في المعجم الكبير "1/278"، وأورده الهيثمي في المجمع "7/216" وقال: رجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلي في مسنده "7/225" عن أنس بن مالك.

(1/277)


وثانيهما : أنه عرى عن البلية العظمى، وهي الشهوة فربط الشرع التزام التكليف بأمد وتركيب الشهوة، أما الأمد فيشير إلى التهذيب بالتجارب، وأما تركيب الشهوة فإنه يعرض للبلايا العظام، فرأى الشرع تثبيت التكليف معه زاجرا.
وقول الفقهاء: تجب الزكاة في مال الصبي مرادهم وجوب الأخذ من ماله لا خطاب الأداء.
ونقل ابن برهان أن الصبي مخاطب عند الفقهاء منا ومن الحنفية، ولعل مراده خطاب الوضع.
وقال صاحب البيان في الفقه من أصحابنا في باب كفارة القتل: الصبي والمجنون لا يدخلان في خطاب المواجهة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278] ويدخلان في خطاب الإلزام، كقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ} [النساء: 92] وقوله صلى الله عليه وسلم: "في كل أربعين شاة شاة" 1 وذكر ابن كج نحوه.
وقال القاضي عبد الوهاب والطرطوشي: الصبي لا يدخل في الخطاب المقصود منه التكليف إلا أن يكون عاما بالإخبار لا وجوب لا ينافيه الصغر لحقوق الآدميين من الزكاة وأرش الجناية فيتعلق الوجوب بماله، ويخاطب بذلك وليه. وكذلك العدة تدخل في حق الأطفال من النساء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] الآية. وعن أبي العباس بن سريج أن الصلاة تجب على ابن العشر وجوب مثله وإن لم يأثم بتركها، إذ لو لم تجب عليه لما ضرب عليها.
وقال القاضي الروياني في البحر قبيل باب اختلاف نية الإمام والمأموم: وأومأ الشافعي في الأم إلى أنها تجب قبل بلوغه، ولكن لا يعاقب على تركها عقوبة البالغ. ورأيت كثيرا من المشايخ مرتكبين هذا القول في المناظرة، وليس بمذهب، لأنه غير مكلف أصلا، وإنما هذا قول أحمد في رواية أنها تجب عليه إذا بلغ عشرا. ا هـ.
وقد صرح في "الرسالة"2 بأن الصلاة والصوم لا يجبان على الصبي والمجنون
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود "2/98" كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، حديث "1568"، والترمذي "3/17" حديث "621"، وابن ماجه "1/573" حديث "1798" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا. والحديث صححه الألباني.
2 انظر الرسالة ص "57".

(1/278)


واستصوب الإمام في الأساليب قول ابن سريج. قال: ومعناه أنه محمول عليها وملوم على تركها، وما حكاه عن النص يمكن تأويله على أنه يجب عليه من جهة وليه، لأنه يأمره بها والأمر للوجوب، والذي يستدعي التكليف إنما هو أمر الله. وأما أفهمية العقاب فهو الضرب على تركها.
وهذا كله في الوجوب. أما الإيجاب ودخوله في خطاب ما أوجبه الله تعالى فالذي يقتضيه كلام الأصوليين وغيرهم أن الصبي لا يدخل فيه، وذكر الإمام أبو الحسين السبكي أن الصبي داخل في عموم نحو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] فإن الخطاب لجميع المؤمنين والناس وهو منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لصبي: "يا بني سم الله وكل مما يليك" 1 قال: وعد الأصوليين ذلك في أمر التأديب لا يضرنا.
قال: والصبي مأمور بالصلاة أمر إيجاب، والمراد بالإيجاب الأمر الجازم، وهو موجود في الصبي لكن الوجوب تخلف عنه، لعدم قبول المحل إن لم يكن مميزا بالأدلة. على أن الفهم شرط التكليف، ولرفع القلم إن كان مميزا.
وإذا فسرنا الإيجاب بالأمر الجازم لم يمتنع تخلف الوجوب لمعنى التكليف عن الإيجاب بمعنى الجزم، ولا نعني بالجازم المنع من هذه إنما الجزم صفة للطلب من حيث هو بالنسبة إلى رتبة ذلك الفعل، فرتبة الفرض هي العليا، لأنه لا رخصة فيها، والمندوب فيه رخصة منحطة عن رتبة الواجب، وكلاهما سواء بالنسبة إلى البالغ والصبي: والشخص الذي يتعلق به ذلك الأمر يعتبر فيه أمور إن وجدت ترتب مقتضاه كالوجوب المترتب على الإيجاب وإلا فلا. ومن تأمل هذا المعنى لم يستبعده في حق الصبي المميز الذي اقتضت رخصة الله رفع القلم عنه. انتهى.
وذكر البيهقي في المعرفة في باب حج الصبي: قال الشافعي في القديم: وقد أوجب الله بعض الفرض على من لم يبلغ، وذكر العدة وذكر ما يلزمه فيما استهلك من أمتعة الناس.
قال: وإنما معنى قول علي رضي الله عنه: رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم أو يبلغ المأثم فأما غيره فلا. ألا ترى أن عليا هو أعلم بمعنى ما روى؟ كان يؤدي الزكاة عن أموال اليتامى الصغار.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، حديث "5376". ورواه مسلم "3/1599" حديث "2022".

(1/279)


قال البيهقي: وإنما نسب هذا الكلام إلى علي، لأنه عنه يصح، وقد رفعه بعض أهل الرواية من حديث علي، ووقفه عليه أكثرهم. ا هـ.
وسلك القفال طريقا آخر في الإيجاب، فقال: إن الصبي مأمور بالصلاة أمر إيجاب، لأنه آكد بالعقوبة على تركها.
قال القاضي الحسين في الأسرار: فقلت له: لم يأمر الله الصبي بالصلاة. قال: أمر الأولياء ليأمروه فهو كأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يلزم أمته. وفيما قاله القفال نظر، فإن المخاطب الولي، وفي أمر الأولياء بالضرب عند ترك الصلاة ما يصرح بنفي التكليف عنهم، إذ لو كانوا مكلفين لم يختص ذلك بالولي كما بعد البلوغ، وإنما هو ضرب استصلاح كالبهيمة.
وزعم الحليمي والبيهقي: أنه كان في صدر الإسلام الصبي مكلفا، وهو من يمكن أن يولد له، ثم اعتبر البلوغ بالسن، وحملا عليه حديث: "رفع القلم عن الصبي" 1 فإن الرفع يقتضي الوضع.
واختلف في البلوغ هل هو شرط عقلي للتكليف، لأن الصبي مظنة العبادة أو شرعي؟ على قولين.
تنبيهان:
التنبيه الأول:
لا يخاطب الصبي بالإيجاب والتحريم
على المشهور في الصبي فلا يخاطب من الأحكام بالإيجاب والتحريم، وهل انتفاء ذلك في حقه لعدم الحكم كما قبل الشرع أو حكم من الله تخفيفا عنه؟ لم يتعرضوا لذلك، وعليه ينبي ما سبق في معنى رفع القلم.
وهل يخاطب بالندب والكراهة؟.
الجمهور على المنع خلافا للغزالي، وهو مقتضى كلام أصحابنا في الفروع حيث قالوا: إنه مأمور من جهة الشرع بالندب، ولهذا جعلوا له إنكار المنكر ويثاب عليه.
ـــــــ
1 حديث صحيح: رواه أبو داود "4/140" كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا، حديث "4402"، عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يبرأ" .

(1/280)


التنبيه الثاني:
إذا علقنا التكليف بالبلوغ، فهل يصير مكلفا بمجرده أم لا بد من أن يمضي بعد البلوغ من الزمان ما يمكنه فيه التعريف والقبول؟ فيه وجهان. حكاهما الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن.
قال: وقولنا: إنه يصير مكلفا في الوقت إذا لم يكن فيه مانع، فإذا انقضى وقت أدائه ولم يعلمه كان عاصيا بتركه العلم والعمل به.
[الشرط] الرابع: العقل
فالمجنون ليس بمكلف إجماعا، ويستحيل تكليفه لأنه لا يعقل الأمر والنهي، ولا يبعد من القائلين تكليف ما لا يطاق جواز تكليفه كالغافل، وعن أحمد رواية بوجوب قضاء الصوم على المجنون. نص عليها في رواية حنبل، وضعفها محققو أصحابه، ومنهم من حملها على غير المجنون المطبق، كمن يفيق أحيانا.
قال ابن القشيري في المرشد: ويجوز أن يقال: المجنون مأمور بشرط الإفاقة كما يوجه على المعدوم بشرط الوجود، ويجيء مثله في الصبي، وسواء فيما ذكرنا الجنون الطارئ بعد البلوغ أو المقارن له. نعم طروء الجنون على الكافر لا يمنع التكليف، ولهذا لو جن المرتد لم يسقط عنه قضاء الصلوات، وإن سقطت عن المجنون المسلم.
قال القاضي أبو يعلى: ومقدار العقل المقتضي للتكليف أن يكون مميزا بين المضار والمنافع، ويصح منه أن يستدل ويستشهد على ما لم يعلم باضطرار، فمن كان هذا وصفه كان عاقلا، وإلا فلا.
قال الصيرفي: ولما كان الناس متفاوتين في تكامل العقول كلف كل واحد على قدر ما يصل إليه عقله، وقد جاء في الحديث: "إن الله تعالى يجازي كل إنسان على قدر عقله"1 وانظر إلى قول عمر لرجل عيي. أشهد أن خالقك وخالق عمرو بن
ـــــــ
1 موضوع: أورده الهروي في الموضوعات الكبرى "1/421" بلفظ "إن الرجل ليكون من أهل الصلاة والجهاد، وما يجزى إلا على قدر عقله". وأورده الكناني في تنزيه الشريعة "1/203" وابن الجوزي في الموضوعات "1/172". والسبكي في الأحاديث التي لا أصل لها في كتاب "الأحياء" "1/355" والشوكاني في الفوائد المجموعة "1/1342".

(1/281)


العاص واحد. وقال القاضي الحسين في باب الجمعة من "تعليقه": جاء عن علي: "علموا الناس على قدر عقولهم، أتحبون أن يكذب الله ورسوله"1؟ أي لا تنبوا الأفهام عنه، فيكذبون لذلك.
وقيل: إن الثواب والعقاب على العقل.
[الشرط] الخامس: الفهم
والمعنى فيه كما قال صاحب القواعد: إن الإتيان بالفعل على سبيل القصد والامتثال يتوقف على العلم به، وهو ضروري فيمتنع تكليف الغافل كالنائم والناسي لمضادة هذه الأمور الفهم، فينتفي شرط صحة التكليف، وهذا بناء على امتناع التكليف بالمحال، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 2.
وأما إيجاب العبادة على النائم والغافل فلا يدل على الإيجاب حالة النوم والغفلة، لأن الإيجاب بأمر جديد، فإن قيل: فالنائم يضمن ما يتلفه في نومه؟.
قلنا: الخطاب إنما يتعلق به عند استيقاظه، وهو منتف عنه حالة النوم، ولهذا قالوا: لو أتلف الصبي شيئا ضمنه مع أنه ليس بمكلف.
وقال القفال في الأسرار: النهي لا يلاقي الساهي، إذ لا يمكنه التحرز منه، وإنما لزمه بسجود السهو وكفارة الخطأ لكون الفعل محرما في نفسه من حيث إنه محظور عقده إلا أنه في نفسه غير منهي عنه في هذه الحالة.
وقال ابن الصلاح: ما قاله الأصوليون من أن الساهي لا يدخل تحت الخطاب لا ينافيه تحنيث الفقهاء له في اليمين على أحد القولين، فإن تحنيثه ليس من قبيل التكليف بل من خطاب الوضع، وهذا يثبت في حق المكلف وغيره كالصبي. وقال صاحب الذخائر: من زال عقله بالنوم وطبق الوقت، فهو غير مخاطب بتلك الصلاة.
وصار بعض الفقهاء إلى تكليف النائم في بعض الأحكام، فإن عنوا به ضمان المتلفات ونحوه فالمجنون غير مخاطب إجماعا، ويجب عليه ذلك، ثم قال: فإن قيل: لم
ـــــــ
1 الأثر ذكره البخاري تعليقا في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا، برقم "127".
2 حديث صحيح: رواه ابن ماجه في سننه "1/659" كتاب "الطلاق"، باب "طلاق المكره والناسي"، حديث "2043" عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" .

(1/282)


أوجبتم القضاء عليه؟.
قلنا: للأمر الجديد قال: والحكم في الساهي والجاهل كالنائم. قال ابن الرفعة: وكلام الشيخ أبي إسحاق ينازع فيه.
وقال ابن برهان في الأوسط: النائم والمغمى عليه والحائض والنفساء والمريض والمسافر هل يخاطبون أم لا؟ ذهب كافة الفقهاء من أصحابنا والحنفية إلى أنهم مخاطبون، ونقل عن المتكلمين من أصحابنا أنهم لا يخاطبون.
قال: والمراد بالخطاب عند الفقهاء ثبوت الفعل في الذمة ولما لم يتصور المتكلمون هذا منعوه. ا هـ.
قال بعضهم: ونسيان الأحكام بسبب قوة الشهوات لا يسقط التكليف، كمن رأى امرأة جميلة، وهو يعلم تحريم النظر إليها فنظر إليها غافلا عن تحريم النظر.
وكذا القول في الغيبة والنميمة والكبر والفخر وغيره من أمراض القلوب.
وقال الصيرفي: الخطأ والنسيان لا يقع الأمر فيه ولا النهي عنه، لامتناع الأمر بما لا يهيأ قصد، لأنه لو قصد تركه لم يكن ناسيا له، والمرتفع إنما هو الإثم، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وقال صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وكل ما أخطأت بينك وبين ربك فغير مؤاخذ به، وأما الخطأ المتعلق بالعباد فيضمنه، ولهذا يستوي فيه البالغ العاقل وغيره.
فرع: الانشغال عن الصلاة بلعب الشطرنج
الانشغال عن الصلاة بلعب الشطرنج لو شغله اللعب بالشطرنج حتى خرج وقت الصلاة وهو غافل، فإن لم يتكرر ذلك منه لم ترد شهادته، وإن كثر وتكرر فسق وردت شهادته.
قال الرافعي: هكذا ذكروه، وفيه إشكال، لما فيه من تعصية الغافل والساهي، ثم قياسه الطرد في شغل النفس بسائر المباحات.
قلت: وقد سبق أن نسيان العبادة لسبب الشهوة لا يسقط التكليف فلا يرد إشكال الرافعي.

(1/283)


تنبيه: [السكران]
السكران عند الأصوليين ليس بمكلف منهم القاضي في التقريب وإمام الحرمين في التلخيص والغزالي والشيخ أبو إسحاق وابن برهان في الوجيز وابن القشيري. وقال الإمام في الأساليب: السكران عندنا غير مخاطب فإنه يستحيل توجه الخطاب على من لا يتصور، ولكن غلظ الأمر في سكره ردعا ومنعا، فألحق بالصاحي. ممن قال: إنه غير مخاطب مجلي في الذخائر، وقال: إنه الصحيح من أقوال العلماء. قال: وإنما وجب القضاء تغليظا عليه، ونقله النووي في "الروضة"1 عن أصحابنا الأصوليين. قال: ومرادهم أنه غير مخاطب حالة السكر، ومرادنا أنه مكلف بقضاء العبادات بأمر جديد. قلت: والصحيح: أن السكران المعتدي بسكره مكلف مأثوم.
هذا هو مذهب الشافعي نص عليه في "الأم"2 فقال: ومن شرب خمرا أو نبيذا فأسكره فطلق لزمه الطلاق والحدود كلها والفرائض، ولا تسقط المعصية بشرب الخمر، والمعصية بالسكر من النبيذ عنه فرضا ولا طلاقا. فإن قال قائل: فهذا مغلوب على عقله، والمريض والمجنون مغلوب على عقله. قيل: المريض مأجور ومكفر عنه بالمرض مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله. وهذا آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم، فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب؟ والصلاة مرفوعة عن من غلب على عقله ولا ترفع عن السكران، وكذلك الفرائض من حج أو صوم أو غير ذلك. ا هـ.
ولهذا قال الشيخ أبو حامد في كتابه في الأصول: مذهب الشافعي أنه مكلف ونسب مقابله إلى أبي حنيفة، ولهذا صحح الشافعي تصرفاته، واحتج لذلك فيما نقله البيهقي بقوله: "رفع القلم عن ثلاثة" . قال: والسكران ليس في معنى واحد من هؤلاء، ولأنه يجب عليه قضاء الصلوات بخلاف المجنون. قال الشافعي في "الأم"3. المريض مأجور مكفر عنه مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله، وهذا آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم. ا هـ. قيل: وقول الشافعي مضروب على السكر: فيه تجوز إنما هو على الشرب سكر أم لم يسكر، لكنه يريد على سبب السكر. وقد استشكل بعضهم
ـــــــ
1 انظر روضة الطالبين "8/23".
2 انظر الأم "5/253".
3 السابق نفس الصفحة.

(1/284)


نص الشافعي على تكليفه مع إخراج الأصوليين له عن ذلك، والتسوية بينه وبين سائر من لا يفهم. قال الغزالي: بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكنه تنبيهه، فإما أن يكون ما قاله الشافعي قولا ثالثا مفصلا بين السكران وغيره للتغليظ عليه، وهو الأقرب، أو يحمل قوله على السكران الذي ينتقل عن رتبة التمييز دون الطافح المغشى عليه، ولا ينبغي أن يظن ظان من ذلك أن الشافعي يجوز تكليف الغافل مطلقا، فقدره رضي الله عنه يجل عن ذلك.
قلت: وبالثاني صرح أبو خلف الطبري كما سنذكره، والأقرب احتمال ثالث، وهو أن التكليف في حقه مستصحب لا واقع وقوعا مبتدأ كما قال إمام الحرمين في الخارج من الدار المغصوبة: إنه مرتبك في المعصية. القائلون بعدم تكليفه اختلفوا في الجواب عما احتج به الشافعي من التزامه بقضاء العبادات وصحة التصرفات، فقيل: لا دلالة دالة على ثبوتها في حقه بعد الإفاقة. وقال ابن سريج: لما كان سكره لا يعلم إلا من جهته، وهو متهم في دعوى السكر لفسقه ألزمناه حكم أقواله وأفعاله وطردنا ما لزمه في حال اليقظة. وقال الغزالي: إلزامنا له ذلك من قبيل ربط الحكم بالسبب ولا يستحيل ذلك في حق من لا تكليف عليه يعني أنه من خطاب الوضع. وأنكر بعض المتأخرين ذلك وقال: هذا الجواب ليس بصحيح، فإن خطاب الوضع لا يقتضي قتلا ولا إيقاع طلاق ولا إلزام حد، وكون الزنا جعل سببا لإيجاب الحد على الزاني لا يستطيع أحد أن يقول: إنه من باب خطاب الوضع. قلت: الطلاق مما اجتمع فيه الخطابان، لأنه إما مباح أو مكروه، وهو منصوب سببا للتحريم، فيكون من خطاب الوضع، وكذلك القتل هو محرم، وهو منصوب سببا لما ترتب عليه من القصاص والدية، وثبوت القصاص أو الدية خطاب وضع فقط لا تكليف. حقه كما في الإرث، والله أعلم.
وقال القفال الشاشي في محاسن الشريعة: اختلف في السكران، فقيل: لا يقع طلاقه، لزوال عقله، وقيل: يجوز طلاقه، لأنه في الشريعة مخاطب مكلف تلزمه الأحكام في حال سكره إذا كان زوال عقله بأمر عصى الله فيه، فعوقب بأن ألحق بالمكلفين ردعا له ولغيره عن شرب الخمر. قال: وكلا القولين جائز محتمل لورود الشريعة بهما. ا هـ. قلت: والظاهر أن الخلاف في غير المنتهي إلى ما لا يعقل ألبتة، وبذلك صرح أبو خلف الطبري في كتاب الطلاق من شرح المفتاح، فقال: قلت: والذي يجب أن يقال في تصرف السكران: إن السكران على نوعين:

(1/285)


أحدهما : يعقل ما يقول: فهذا مخاطب وتصح جميع تصرفاته.
والثاني : لا يعقل ما يقول، وقد زال عقله وذهب حسه بالكلية، فهذا غير مخاطب فلا يصح شيء من تصرفاته، ولا حكم لكلامه، وهذا أدون حالة من المجنون هذا هو اختياري. انتهى كلامه. وهذا هو قضية كلام الإمام في النهاية، وصرح بأنه إذا انتهى إلى حالة النائم والمغمى عليه، فالوجه القطع بإلحاقه بهما. قال: وأبعد من أجراه على الخلاف.
وقال ابن العربي في المحصول الخلاف في الملتج أما المنتشي، فمكلف إجماعا. قلت: ويدل عليه جوابهم عن الآية، وممن أطلق تكليف السكران شيخا المذهب أبو حامد والقفال، ونقلاه عن المذهب، وجزم به القاضي الحسين في فتاويه والبغوي والروياني والشيخ أبو محمد الجويني وأبو الفضل بن عبدان في كتاب الأذان من شرائط الأحكام وجزم به ابن السمعاني في القواطع، ونقله ابن برهان في الأوسط عن الفقهاء من أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة، ثم نقل المنع عن المتكلمين منا ومن المعتزلة.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي: قال الشافعي: وجدت السكران ليس بمرفوع عنه القلم، وكان أبي يعجبه هذا ويذهب إليه. ا هـ. وأطال القاضي أبو بكر في التقريب عدم تكليفه، ثم قال ما حاصله: إنه مكلف لكن بعد السكر بما كان في السكر، وهذا الكلام مجمع مذاهب الفريقين. وصرح الإمام في البرهان بأنه غير مكلف مع تقريره في كتب الفقه مؤاخذته المصرحة بالتكليف، وهو مؤول بما سبق. وقال ابن القشيري: هو غير مكلف بمعنى أنه يمنع توجه الخطاب إليه، أما ثبوت الأحكام في حقه، وتنفيذ بعض أقواله فلا يمنع. قال: وهذا مطرد في تكاليف الناسي في استمرار نسيانه، إذ لو كان ممن فهم الخطاب، لكان متذكرا لا ناسيا، قال: ولعل من قال بتكليفه بناه على جواز تكليف ما لا يطاق. وقال الإبياري: الظاهر عندنا تكليف السكران.
وقال بعض المحققين: التكليف بمعنى إيجاب القضاء عام في الناسي والنائم والسكران، وبمعنى عدم الخطاب حاصل في النائم والناسي. وأما السكران فعند الأصوليين يلحق بهما، وعندنا بخلافه، وظاهر كلام الشيخ أبي حامد أنه مخاطب حالة السكر، وكذلك الماوردي وابن عبدان. ولا شك أن القول بتكليف السكران باعتبار ترتب الأحكام لا إشكال فيه، وهو نوع من خطاب الوضع، وقد يدخلونه في خطاب التكليف كما أدخلته طائفة في حد واحد.

(1/286)


وأما باعتبار الإثم على ما يصدر منه حال السكر، فإن كان فيه نشاط فواضح، وإن كان طافحا أو مختلطا فمحل نظر. ولعل الفقهاء لا يرون الإثم، أو لعلهم يريدون الطافح، والأصوليون يريدون المختلط، فإن التكليف فيهما تكليف مع الغفلة.
[الشرط] السادس الاختيار.
فيمتنع تكليف الملجأ، وهو من لا يجد مندوحة عن الفعل مع حضور عقله كمن يلقى من شاهق فهو لا بد له من الوقوع، ولا اختيار له فيه، ولا هو بفاعل له، وإنما هو آلة محضة كالسكين في يد القاطع، وحركة كحركة المرتعش ومثله المضطر.
واتفق أئمتنا على أن المضطر إلى فعل ينسب إليه الفعل الذي اضطر إليه وهو عند المعتزلة فوق الملجأ، وعندنا مثله، كمن شد وثاقه وألقي على شخص فقتله بثقله لكن الفقهاء صرحوا بتكليفه، فقالوا: المضطر لأكل الميتة يجب عليه أكلها على الصحيح، وفي وجه لا يجب. قد يوجه بأصول المعتزلة، فيقال: لا فعل للمضطر ولا اختيار حتى يتعلق به الإيجاب ويكتفي بصورة الداعية، لكن جهة التكليف فيه سيأتي بيانها في المكره.
وكذلك يمتنع تكليف المكره ومن لا يجد مندوحة عن الفعل إلا بالصبر على إيقاع ما أكره به، كمن قال له قادر على ما يتوعد: اقتل زيدا وإلا قتلتك، لا يجد مندوحة عن قتله إلا بتسليم نفسه للهلاك، فإقدامه على قتل زيد ليس كوقوع الذي ألقى من شاهق، وإن اشتركا في عدم التكليف لكن تكليفه هذا أقرب من تكليف الملجأ، ولهذا أبيح له الإقدام على شرب الخمر، وكلمة الكفر.
وأما تأثيم المكره على القتل فليس من حيث إنه مكره وأنه قتل، بل من حيث إنه آثر نفسه على غيره، فهو ذو وجهين: الإكراه ولا إثم من ناحية، وجهة الإيثار ولا إكراه فيها، وهذا لأنك قلت: اقتل زيدا وإلا قتلتك، فمعناه التخيير بين نفسه وبين زيد، فإذا آثر نفسه فقد أثم، لأنه اختيار، وهذا كما قيل في خصال الكفارة: محل التخيير لا وجوب فيه، ومحل الوجوب لا تخيير فيه.
وهذا تحقيق حسن يبين أنه لا يحتاج لاستثناء صورة القتل من قولنا المكره غير مكلف.
وقول الفقهاء: الإكراه يسقط أثر التصرف إلا في صور إنما ذكروه لضبط تلك الصور، لا أنه مستثنى حقيقة. هذا هو الصحيح. واعلم أن ظاهر نص الشافعي يدل

(1/287)


على أنه غير مكلف فإنه احتج على إسقاط قوله بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106]. قال الشافعي: وللكفر أحكام، فلما وضعها الله تعالى عنه سقطت أحكام الإكراه عن القول كله، لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو أصغر منه، نقله البيهقي عنه في السنن وعضده بحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وقد أطلق جماعة من أئمتنا في كتبهم الأصولية أن المكره مكلف بالفعل الذي أكره عليه، ونقلوا الخلاف فيه عن المعتزلة منهم القاضي أبو بكر وإمام الحرمين في التلخيص، والشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع، وابن القشيري وابن السمعاني في القواطع، وبناه المعتزلة على أصلهم في وجوب الثواب على الفعل المأمور به عند الامتثال، وكيف يثاب على ما هو مكره عليه إذ لا يجب داعي الشرع؟ وإنما يجيب داعي الإكراه؟ وألحقوا هذا بالأفعال التي لا بد من وقوعها عادة كحصول الشبع عن الأكل والري عن الشرب، فكما يستحيل التكليف بالواجب عقلا وعادة، فكذا يستحيل بفعل المكره.
[المكره يصح تكليفه لفهم الخطاب]:
والصحيح عندنا: أن المكره يصح تكليفه لفهم الخطاب، وأن له اختيارا ما في الإقدام أو الانكفاف، ولا استحالة في تكليفه، وأما كونه متقربا فيرجع إلى نيته وهو غير الكلام في تكليفه. قال ابن القشيري: ونعني بالمكره من هو قادر على الإقدام والإحجام فيحمل مثلا على الصلاة بالإرجاف والخوف وقتل السيف، والذي به رعشة ضرورية لا يوصف بكونه مكرها في رعدته. وقالت المعتزلة: لا يصح تكليف المكره مع وفاقهم على اقتداره، وزادوا علينا: فقالوا: القدرة تتعلق بالضدين، وعلى هذا فلا معنى لتفصيل الإمام الرازي وأتباعه بين الإكراه الملجئ وغيره، ولا لمن جعله قولا ثالثا في المسألة. وكذا قال إمام الحرمين في "التلخيص": قال المحققون: لا يتحقق الإكراه إلا مع تصور اقتدار المكره، فمن به رعشة ضرورية لا يوصف بكونه مكرها، وإنما المكره المختار لتحريكها، ولا استحالة في تكليف ما يدخل تحت اقتداره واختباره خلافا للقدرية، وبالغوا حتى قالوا: إن القدرة تتعلق بالضدين، والمكره القادر على الفعل قادر على ضده.
وأما أصحابنا فقالوا: إذا قدر على ما أكره عليه لم تتعلق قدرته بتركه، وقد أجمع العلماء قاطبة على توجه النهي على المكره على القتل عن القتل، وهذا عين التكليف.

(1/288)


انتهى.
وهذا يعلم جوابه مما سبق أن تأثيم المكره على القتل ليس من حيث كونه مكرها.
وما نقلوه عن المعتزلة قد نازع فيه جماعة منهم إلكيا الطبري، فقال: نقل عن بعض المعتزلة أن الإكراه ينافي التكليف. قال: وليس هذا مذهبا لأحد وإنما مذهبهم أن الإلجاء الذي ينافي اختيار العبد ينافي التكليف كالإيمان حالة اليأس.
وقال ابن برهان في الأوسط المكره عندنا مخاطب بالفعل الذي أكره عليه، ونقل عن أصحاب أبي حنيفة أنه غير مكلف.
قال: وانعقد الإجماع على كونه مخاطبا بما عدا ما أكره عليه من الأفعال. ونقل عن المعتزلة أن المكره غير مخاطب، وهذا خطأ في النقل عنهم بل عندهم أنه مخاطب بل هو أولى بالخطاب من المختار، لأن التكليف تحميل ما فيه كلفة ومشقة، وحالة المكره أدخل في أبواب التكليف والمشاق من حالة المختار بسبب أنه مأمور بترك الفعل الذي أكره عليه وواجب الانقياد عليه والاستسلام، وموعود عليه الأجر والثواب. إلا أن العلماء رأوا في كتبهم أن الملجأ ليس بمخاطب، فظنوا أن الملجأ والمكره واحد. وليس كذلك بل الملجأ هو الذي لا يخاطب عندهم وهو الذي لا قدرة له على الترك بل يكون مدفوعا ومحمولا بأبلغ جهات الحمل. كمن شدت يداه ورجلاه رباطا وألقى على عنق إنسان بحيث لا يمكنه الاندفاع، فهذا ليس له الاختيار، وأما المكره فله قصد وقدرة فكان مكلفا.
ولهذا قالت المعتزلة: القدرة تصلح للضدين الفعل والترك، لأنها لو صلحت لفعل دون فعل صار الشخص مدفوعا إليه وملجأ، ولأمكنه الامتناع خلافا لأصحابنا، فإن القدرة عندهم لا تصلح للضدين، ولهذا المعنى قالوا: الإيمان حالة اليأس لا ينفع وهو إيمان الكافر يوم القيامة، لأن الإيمان النافع بظهر الغيب: أما يوم القيامة فتصير المعارف ضرورية فلا ينفع، لأنهم حينئذ ألجئوا. ا هـ.
وما قاله في الملجأ: إنه غير مكلف عند المعتزلة، فهو قول المحققين من الأصحاب، وإن كان الأولون أطلقوا القول ولم يفصلوا بل الأظهر التفصيل.
وقال في المحصول: إنه المشهور وجرى عليه أتباعه، وقال الآمدي: إنه الحق وقرره القرافي، وينبني كلام المطلقين على أحد القسمين فيه.
وأما قول ابن برهان: إن المعتزلة لا يخالفون في تكليف المكره فليس كذلك لما

(1/289)


سبق من نقل الفحول عنهم، وكذلك نقله عن الحنفية أنه غير مخاطب لا يوجد في مشاهير كتبهم، بل قال البزدوي في كتابه: المكره عندنا مكلف مطلقا، لأنه مبتلى بين فرض وحظر، وإباحة ورخصة إلخ، وقد قالوا بنفوذ طلاق المكره وعتقه وغير ذلك.
وسبق في فصل الأعذار المسقطة للتكليف كلام صاحب المبسوط منهم فيه ونقل الإبياري عن الحنفية التفصيل بين الإقرار والإنشاء، فالإكراه لا يؤثر عندهم في الإقرار ويؤثر في الإنشاء.
وأما المعتزلة فإنهم بنوا امتناع تكليف المكره بفعل ما أكره عليه على قاعدتين: إحداهما: القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
والأخرى: وجوب الثواب على الله، لأن شرط التكليف، عندهم الإثابة.
وقد نقض القاضي أبو بكر مذهب المعتزلة بالاتفاق على أنه يحرم القتل على من أكره عليه، وكذا الزنا عند الجمهور، فقد كلف حالة الإكراه، ولم يرتض إمام الحرمين هذا، وقال: إن القوم لا يمنعون من الشيء مع الحمل عليه، فإن ذلك أشد في المحنة واقتضاء الثواب، وإنما الذي منعوه الاضطرار إلى الفعل مع الأمر به.
[التكليف حالة الإكراه على قسمين]:
وقال ابن القشيري هذا النقض غير وارد، لأن التكليف حالة الإكراه على قسمين:
الأول: أن يكلف بالنهي عما أكره على فعله كمن أكره رجلا على قتل مسلم لا يحل قتله فهذا متفق على جواز التكليف به.
الثاني: أنه يؤمر بفعل ما أكره على إيقاعه، كمن تضيق عليه وقت الصلاة بحيث لم تبق فيه سعة لغيرها فأكرهه إنسان على فعلها لهذا هو الذي منعت المعتزلة صحة التكليف.
وقال القرطبي: موضع الخلاف ما إذا وافق داعية الإكراه داعية الشرع، كما لو أكره على قتل حية أو كافر، فالجمهور على جواز التكليف به خلافا للمعتزلة. أما ما خالف داعية الإكراه داعية الشرع كالإكراه على قتل المسلم وشرب الخمر فلا خلاف في جواز التكليف، وهذا أخذه من كلام الغزالي.
وقال السهيلي في "الروض": اختلفوا في المكره على الفعل الذي هو مخاطب به، فقالت المعتزلة: لا يصح الأمر بالفعل مع الإكراه عليه، وقالت الأشعرية بجوازه،

(1/290)


لأن العزم إنما هو فعل القلب، وقد يتصور منه في ذلك الجنس العزم والنية، وهي القصد إلى الامتثال، وإن كان في الظاهر أنه يفعله خوفا من الناس، وذلك كما إذا أكره على الصلاة، فقيل له صل، وإلا قتلت، أما إذا قيل له: إن صليت قتلت، فظن القاضي أن الخلاف بيننا وبين المعتزلة في ذلك، فغلطه بعض الأصحاب، وقالوا: لا خلاف في هذه المسألة، وأنه مخاطب بالصلاة مأمور بها. وإن رخص له في تركها، فليس الترخيص مما يخرجه عن حكم الخطاب، وإنما يرفع عنه الإكراه المأثم، وهذا الغلط المنسوب إلى القاضي ليس بقول له، وإنما حكاه في كتاب التقريب عن طائفة من الفقهاء. قالوا: لا يتصور القصد والإرادة إلى الفعل مع الإكراه عليه.
قال القاضي: وهذا باطل، لأنه يتصور انكفافه عنه مع الإكراه، فكذا يتصور منه القصد إلى الامتثال، وبه يتعلق التكليف، وإنما غلط إذن من نسب إليه من الأصوليين هذا القول الذي أبطله، وإنما ذكرت ما قالوه قبل أن أرى كلامه وقال بعض المتأخرين لا خلاف بين أئمتنا أن المضطر لا ينسب إليه الفعل الذي اضطر إليه.
تعريف المضطر:
ثم اختلفوا في تعريفه.
فقال الشيخ أبو الحسن: المضطر الملجأ إلى مقدوره لدفع ضرر متوقع بتقدير عدم المقدر الملجأ إليه.
وقال القاضي أبو بكر: المضطر المحمول على ما عليه فيه ضرر من مقدوراته لدفع ما هو أضر منه.
وزعمت المعتزلة قاطبة أن المضطر لا ينسب إليه فعل، وأنه هو الذي يفعل فيه الغير فعلا هو من قبيل مقدوراته، ثم اختلفوا فقال أبو علي: لا يشترط أن يكون المفعول فيه غير قادر على مدافعة الفعل، وخالفه ابنه أبو هاشم.
فإذا عرف هذا فقد اتفقوا على أن الملجأ قادر على ما ألجئ إليه وأنه لم يفعل فيه غيره فعلا، لا خلاف بين الأشعرية والمعتزلة في ذلك، وإن اختلفت عباراتهم في تعريفه، فالملجأ دون المضطر عند المعتزلة ومثله عند الأشاعرة، ودونهما المكره المذكور في كتب الفقهاء وعلى هذه الأصول من عدم اختياره بالكلية وصار كالآلة المحضة لا يتعلق به إثم، هو المضطر عند المعتزلة كمن شد وثاقه وألقى على شخص فقتله بثقله أو كان على دابة فمات وسقط على شيء فإنه لا يضمن. وليس كالمكره ولا كالمضطر فإن

(1/291)


انضم إلى عدم اختياره عدم إحساسه وشعوره فأبعد عن الضمان.
وقد خرج لنا من هذا أن الإكراه لا ينافي التكليف، وهو الحق، ثم اختار بعضهم أنه جائز غير واقع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" .
فإن قيل: إذا كان المكره والمختار سواء في الاختيار فما الفرق بينهما؟ قيل: قال القاضي في كتاب التقريب: الفرق بينها أن المختار مطلق الدواعي والإرادات، والمكره مقصور الدواعي والإرادة على فعل ما أكره عليه لا يختار غيره. فإن قيل: فلم صارت هذه حاله؟ قيل: لما يخافه من عظم الضرر فهو يدفع أعظم الضررين بأدونهما ودواعيه مقصورة عليه لأجل ذلك. انتهى.
وهاهنا أمور:
أحدها: هذا الإكراه الذي أسقط الشارع حكمه لا بد من بقاء حقيقته ليتحقق في نفسه، وقد ينضم إليه ما لا يزيل حقيقته فلا اعتبار به، أو ما يزيلها فلا يسقط الحكم، إذ ليس بإكراه، وهذا كمن قيل له: طلق زوجتك، فقال: طلقت زوجاتي كلهن، فيقع عليهن جميعا، لأنه مختار لا مكره. وقد ينضم إليه ما يتردد الذهن في أنه مزيل، لكونه إكراها أو غير مزيل فيقع الخلاف في أنه هل يسقط أثر التصرف به أم لا يسقط؟.
ومن أمثلته: ما لو أكره على شيء واحد من شيئين معينين كما لو قيل له: طلق إحدى زوجتيك، وحمل على تعين إحداهما لا على إبهام الطلاق، فإن المحمول على الإبهام محمول على شيء واحد في نفسه لا على أحد شيئين. فإذا قيل له: طلق إما هذه وإما هذه، فقال: طلقت هذه، فهل هو اختيار أم لا؟ وجهان: أصحهما: أنه اختيار.
الثاني : أن الإكراه لا يصح إلا في أعمال الجوارح الظاهرة دون القلبية، فلا يصح الإكراه على علم بشيء أو جهل به أو حب أو بغض أو عزم على شيء.
الثالث : يشترط لكون الإكراه مرفوع الحكم شروط:
أولها : أن يكون المتوعد به في نظر العقلاء أشق من المكره عليه، وهو ما يشهد له الشرع بالاعتبار فعلم من هذا أن الإكراه لا يرفع حكم القصاص، ولا يرفع الإثم عن المكره.
بيانه: أن نفسه ونفس من أكره على من يقتله مستويان في نظر الشارع،

(1/292)


فإيثاره نفسه ناشئ عن شهوات الأنفس وحظوظها، ومحبتها البقاء في هذه الدار أزيد من محبتها لبقاء غيرها، وهذا القول ليس من نظر العقلاء، الشرع الذي يتعبدون به. وبهذا خرج كثير من المسائل التي استثنيت من قولنا: الإكراه يسقط أثر التصرف كما سبق بيانه.
ثانيها : أن يكون الحكم مترتبا على فعل المكلف، فإن الشارع حينئذ جعل فعله كلا فعل، فإن كان الحكم مترتبا على أمر حسي لا ينسب إلى أفعال المكلف، وإن كان ناشئا عنها فلا يرتفع حكم الإكراه حينئذ، لأن موضع الإكراه الفعل ولم يترتب عليه شيء، وموضع الحكم الانفعال ولم يقع عليه الإكراه، لأنه ضروري الوقوع بعد الفعل، لأنه أثر الفعل، والشارع قد يرتب الحكم على الفعل، وقد رتبه على الانفعال وهو في الأول من خطاب التكليف الذي رفعه مشقة علينا عند الإكراه، وفي الثاني من خطاب الوضع فكيف يرتفع؟.
وبهذا خرج الإكراه على الرضاع وعلى الحدث، فإذا أكره امرأة حتى أرضعت خمس رضعات حرم رضاعها ذلك، لأن الحرمة بوصول اللبن إلى الجوف حتى لو حلب قبل موتها وشربه الصبي بعد موتها حرم، وإذا أكره فأحدث انتقض وضوءه، لأن الانتقاض منوط بالحدث وقد وجد.
ثالثها : أن يكون بغير حق فهذا موضع الرخصة والتخفيف من الشارع، أما إذا كان بحق فقد كان من حق هذا المكره أن يفعل، فإذا لم يفعل أكره ولم يسقط أثر فعله، وكان آثما على كونه أحوج إلى أن يكره، وهذا كالمرتد والحربي يكرهان على الإسلام، فإسلامهما صحيح وهما آثمان، لكونهما أحوجا إلى الإكراه عليه، ثم الإسلام إن وقع منهما عند الإكراه باطنا كما وقع ظاهرا فهو يجب ما قبله، وإلا فحكمهما في الظاهر حكم المسلمين، وفي الباطن كافران، لما أضمراه من حيث الطوية.
ومن الإكراه بالحق أمر السيد عبده بالبيع، فيمتنع فله جبره عليه، ويصح بيعه، لأنه من الاستخدام الواجب.
الرابع : في فتاوى ابن الصلاح: ذكروا في الأصول أن المكره يدخل تحت الخطاب والتكليف، وذكروا في الفقه أن طلاقه وإقراره وردته لا تصح، فكيف يجمع بينهما؟ وأجاب بأنه مكلف حالة الإكراه، ومع ذلك يخفف عنه بأن لا يلزم بحكم ما أكره عليه، ولم يختره من طلاق وبيع وغيرهما، لكونه معذورا.
الخامس : قيل: للخلاف في هذه المسألة مأخذان.

(1/293)


أحدهما : الخلاف في خلق الأفعال فمن قال: إن الله خلقها، اتجه القول بتكليف المكره لأن جميع الأفعال المخلوقة لله تعالى على وفق إرادته فيصير التكليف بها مقدورا للعبد. ومن قال: إنها غير مخلوقة لله تعالى لم ير تكليف المكره، لأن المعتزلة سموا أنفسهم أهل العدل، لأنهم قالوا: أفعال العباد مخلوق لهم لا له سبحانه تحقيقا لعدله: إذ لو خلقها ثم عاب عليها كان ذلك جورا.
الثاني : أنه هل في التخويف والإكراه ما يتضمن ضرورية الفعل أي: ما يقتضي اضطرار المكره إلى الفعل لداعي الطبع أم لا؟.
[الشرط] السابع: [علم المخاطب بكونه مأمورا]
أن يعلم المخاطب كونه مأمورا قبل زمن الامتثال حتى يتصور منه قصد الامتثال، وإن لم يعلم وجود شرطه، وتمكنه في الوقت.
قال إلكيا الطبري: أجمع أصحابنا على اشتراطه، وقال أبو هاشم: لا نعلمه متمسكا بأن الإمكان شرط لتحقق الأمر، والجهل بالشرط محقق، وذلك يقتضي الجهل بالشروط، نعم. أجمع من قبلنا على إطلاق ورود الأمر بناء على تقدير بقاء أكثرهم، وظهور ذلك عندهم.
قال: وما ذكره أبو هاشم لا دافع له إلا أصل لأصحاب الأشعري في النسخ. ومذهبه فيه: أن الحكم ثبت قطعا، ثم رفع بعد ثبوته بالنسخ. فقال: ثانيا عليه إذا توجه أمر على المخاطب فقط تنجز الأمر، ثم إذا زال إمكانه فلا ريب في الأمر، وإنما الأمر في الشرط القضاء لا في شرط أصل الأمر. وهذا في غاية البعد، فإن الأمر ليس هو اللفظ ولكن الأمر، الطلب وذلك يستدعي شرطه الإمكان إلا أن ينكر كون الإمكان شرطا، ولا يتحقق الخلاف إلا به، وأبو هاشم لا ينكر وجوب الإقدام عليه، ونية الوجود والتردد لا يدفع ذلك، وما ذكرناه لا ينكر، فالخلاف يرجع إلى اللفظ. ا هـ.
وأما القاضي ففرض الخلاف في الصحة فقال: أجمعت الأمة على أن الأمر إذا اتصل بالمكلف ولا مانع يمنعه من الامتثال فيعلم أنه مأمور بالأمر الوارد عليه، ولكن يعتقد كونه مأمورا في الثاني والثالث من الأوقات المستقبلة بشرط أن يبقى على صفة التكليف، فنستيقن الحال توجه الأمر عليه، وأما في الاستقبال فإن بقي دام على

(1/294)


الوجوب، وإن مات انقطع عنه.
وقالت القدرية: لا يصح علمه بتوجه الأمر عليه إلا بعد الإقدام على الامتثال، أو بعد مضي زمن يسعه مع تركه، فقالوا: لا يصح أن يعلم كونه مأمورا قطعا. وأما نحن فإنا نقول: يقطع بذلك ويؤول توقعه في استدامة الوجوب إلى توقع الاحترام والبقاء.
وقال ابن برهان في الأوسط: الواحد منا يعلم كونه مأمورا على الحقيقة هذا مذهب كافة الأصوليين والفقهاء، ونقل عن أبي هاشم أنه قد لا يعلم ذلك وهو ينبني على تكليف العاجز هل يجوز أم لا؟ فعندنا أنه جائز، وعندهم لا يجوز، وأبو هاشم بناه على هذا الأصل، فإن سلم له، فالحق ما قاله وإن أبطل بطل مذهبه.
واستدل القاضي بأن الواحد منا يجب عليه الشروع في العبادة المأمور بها والتقرب بها بالإجماع، وهو يدل على علمه بكونه مأمورا بها، وإلا لما وجب عليه.
وشبهة أبي هاشم: أن الاستطاعة مع الأمر، وهي غير معلومة لنا فلا يكون المأمور عالما ا هـ.
وأما أبو نصر بن القشيري، فقال: الأصح عندنا أنه لا يشترط في المكتسب. علم المكتسب به خلافا لبعض الأصحاب، وإنما الشرط كون المقدور مما يصح العلم به.
قال: واختلفوا متى يصح علم المكلف بأنه مأمور بالفعل؟ فقال أصحابنا: إذا اتصل الخطاب به، ولا مانع من الامتثال علم أنه مأمور بالأمر الوارد عليه، فيقطع به لكن يفتقر كونه مأمورا إلى الثاني والثالث من الأوقات بشرط وفاء شرائط التكليف.
وقالت المعتزلة: لا يعلم ذلك في أول وقت توجه الخطأ عليه ما لم يمض زمن الإمكان حتى لو اشتغل بالامتثال في الحال لم يعرف الوجوب أيضا ما لم يمض زمن يتصور فيه الامتثال، وعمدتهم أنه غير عالم ببقاء الإمكان له إلى انقراض زمان يمتنع الفعل المأمور به والإمكان شرط التكليف، والجاهل بوقوع الشرط جاهل بوقوع المشروط لا محالة، وتمسك القاضي بإجماع المسلمين على توجه الأمر إلى المكلف، والنهي عن المحرمات وقولهم: يفضي إلى أنه ليس يعلم أحد على بسيط الأرض أنه ينهى عن القتل والزنا، وكما لا يعلم من نفسه لا يعلم غيره منه.
ومال الإمام إلى قول المعتزلة، وقال: تشغيب القاضي بالإجماع تهويل بلا تحصيل، فإن إطلاقات الشرع لا تعرض على مأخذ الحقائق بل تحمل على حكم العرف والتفاهم الظاهر كالإجماع على أن الخمر محرم، وإنما المحرم تعاطيها.

(1/295)


تنبيهات
[التنبيه] الأول
المراد بالعلم المختلف فيه: القطعي أي: أنه هل يقطع بكونه مكلفا قبل زمن الامتثال؟ كما صرح به القاضي وإمام الحرمين وابن القشيري وابن برهان، ونبه على أن أبا هاشم لا يخالف في الظن، فإن الشروع في الفعل لا يشترط فيه القطع بل تكفي غلبة الظن مهما بادر واستمر في حياته إلى الفراغ.
[التنبيه] الثاني
أن الخلاف فيما إذا كان الآمر عالما بأنه لا يبقى إلى وقت التمكن من الامتثال، فإن كان يعلم بقاءه فلا خلاف أن المأمور يعلم ذلك أيضا.
[التنبيه] الثالث.
أن الخلاف بالنسبة إلى الآحاد لا في حق الجنس، فقد وافق أبو هاشم على أنهم مأمورون، لأن الشرط وهو الاستطاعة معلوم هنا قطعا، لعلمنا بأن الله تعالى لا يعم الكل بالهلاك كذا نقله ابن برهان.
وفرض الإمام الخلاف فيما إذا خص بالخطاب واحدا وكان مندرجا مع آخر تحت عموم الخطاب، وهو في حالة اتصال الخطاب به مستجمع شرائط التكليف. ولم يقف الصفي الهندي على ما ذكرنا، فقال بعد ذكر الخلاف: هذا إذا كان الأمر خاصا، فإن كان عاما ولم يعلم انقراض الجميع بل بعضهم فأظن أنه لا خلاف فيه، إذ أكثر أوامر الله كذلك، فإن بعض المكلفين يموت قبل التمكن، وكلام بعضهم يشعر بخلاف فيه أيضا. انتهى.

(1/296)


مسألة: [هل يشترط في التكليف علم المكلف]
قيل: لا يشترط في التكليف علم المكلف بل يشترط تمكنه من العلم. وحكى بعضهم في حكم الخطاب هل يثبت في حق المكلف قبل أن يبلغه ثلاثة أقوال: ثالثها: يثبت المبتدأ دون الناسخ، قال: والمرجع أنه لا يثبت إلا بعد البلاغ، لقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، الصحابة باستدراك ما فعلوه

(1/296)


على خلاف الأمر حيث جهلوه كما لم يأمر المشمت العاطس في الصلاة والمصلي إلى قبلة بيت المقدس وغيره.
الرابع من التنبيهات
سبق عن إلكيا أن الخلاف لفظي، فإن أبا هاشم لا يمنع الإقدام لكن أبا هاشم بناه على مأخذ له كلامي، وهو أن الأمر تلازمه الإرادة، فإن كان يعلم انتقاء الشرط لم يتصور أن يكون مريدا للفعل المعلق طلبه على شرط، ونحن نخالفهم في الأصل، فلهذا خالفناه في الفرع.
وحاصل الخلاف: يرجع إلى أن التمكن من الامتثال هل هو شرط في توجه الخطاب أو شرط في إيقاع الفعل المكلف به وحصوله؟ فهم يقولون: إن المكلف إذا دخل عليه رمضان أو وقت الصلاة فإنه يجب عليه الشروع في العبادة لا على أنه يقطع بأنه يكون متمكنا منه، فإن القطع بذلك يقتضي القطع ببقائه بكونه وهو متعذر لإمكان الموت بل بناء على الظن الغالب، فإن الأصل بقاء الحياة واستمرار القدرة، فلو مات قبل إتمام العبادة تبين أنها لم تكن واجبة عليه، وأما على رأينا فإنه يدل على عدم الأمر بل يدل على عدم لزوم الإتمام.

(1/297)


مسألة: [التكليف بالفعل الذي ينتفي شرط وقوعه عند وقته]
الفعل الذي ينتفي شرط وقوعه عند وقته إن جهل الآمر انتفاءه، كالواحد منا يأمر غيره بشرط بقاء المأمور على صفات التكليف فيصح بالاتفاق كما قاله القاضي عبد الوهاب وغيره، لانطواء الغيب عنا.
قال الهندي: وفي كلام بعضهم إشعار بالخلاف فيه، وإن علم انتفاءه كما إذا أمر الله بصوم رمضان، وهو يعلم موته في رمضان، فهل يصح التكليف به؟ قال الجمهور منهم القاضي والغزالي: يصح ويقع، ولذلك يعلم المكلف قبل دخول الوقت وإن لم يعلم وجود شرطه وتمكنه من الوقت، ولولا أن تحقق الشرط في الوقت ليس شرطا في التكليف لما علم قبل وقته، إذا الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط.
وقالت المعتزلة: يمتنع ذلك، لأنه تكليف بالمحال، ولا فائدة فيه، وقالوا: إنما يصح الشرط منا لترددنا حتى لو علم الواحد منا بوحي أو إعلام نبي ما يكون من حال

(1/297)


مخاطبه. لا يصح أيضا تقييد الخطاب ببقاء المخاطب على صفة التكليف، ووافقهم إمام الحرمين.
والحق: صحته، وأنه ليس بالمحال في شيء ويجوز من القديم تعالى أن يأمر عبده بما علم أنه يكون.
وله فوائد ثلاثة:
إحداها : اعتقاد الوجوب، ويجوز التعبد بالاعتقاد كما يجوز بالفعل.
الثانية : العزم على أن يفعله إن أدركه الوقت على صفة التكليف، ومات على ذلك فيثاب، أو لا يعزم فيعاقب.
الثالثة : جواز أن يكون فيه للمكلف مصلحة ولطف، ويكون فيه فائدة مصححة لهذه القاعدة أيضا، وهو شك المكلف في بقائه إلى ذلك الوقت فإنه وقت الخطاب لا يدري هل يبقى إلى وقت الفعل أو لا؟ وينقطع هذا التكليف عنه بموته كانقطاع سائر التكاليف المتكررة.
وحاصل هذه المسألة: أن الله إذا علم أن زيدا سيموت غدا، فهل يصح أن يقال: إن الله أمره بالصوم غدا بشرط أن يعيش غدا أم لا؟ فرجع الخلاف إلى تحقيق الأمر بالشرط في حق الله تعالى، فأصحابنا جوزوه، والمعتزلة منعوه، وقالوا: يستحيل أن يرد الأمر مقيدا بشرط بقاء المكلف. وزعموا: أن الشرط في أمره تعالى محال، لأن الشرط إنما يقع حيث الشك، والبارئ سبحانه منزه عنه، وعند التحقيق لا شرط. فإن من علم أن الشمس طالعة لا يقول: إن كانت الشمس طلعت دخلت الدار، وإنما يحسن ذلك من الشاك كالواحد منا، ولهذا قالوا: لو حصل العلم للواحد منا بإخبار نبي امتنع الأمر بالشرط فيه أيضا، ولم يقصروا خلافهم على ما إذا علم الآمر انتفاءه بل عدوه إلى ما علم وجوده أيضا، فقالوا: إن كان الشرط مما علم الله أنه لا يكون لم يكن الأمر المعلق به أمرا به، بل هو جار: مجرى: صم غدا إن صعدت السماء وليس هو من الأمر في شيء إلا على رأي بعض من يجوز تكليف ما لا يطاق، وإن كان قد علم أنه سيكون لم يكن الأمر مشروطا به بل هو كقوله: صل إن كانت الشمس مخلوقة، وليس هو من المشروط في شيء، لأن الشرط هو الذي يكون على تردد في الحصول، ومعلوم أن التردد محال في حقه تعالى، فلا يتصور تعليق على الشرط ألبتة لا إن علم وقوعه، ولا إن علم عدم وقوعه.
وألزمهم القاضي أن لا يتقيد وعده ووعيده أيضا كما لا يتقيد أمره مع أن معظم

(1/298)


وعد القرآن ووعيده مقيد نحو قوله تعالى {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} [الكهف: 18] قال: ولا وجه للتردد في الشرط مع علم الرب سبحانه بأنه يعلم.
وله فائدة:
وهو أن يقصد بذلك ابتلاء المكلف وامتحانه في توطين النفس على الامتثال والعزم. واحتج بعض أصحابنا بالإجماع على أن الله كلف المعدوم والعاجز بشرط أن يقدر في حال الحاجة إلى القدرة.
وأجاب أبو الحسين بأنا نقول: إن الله كلفه بشرط أن يقدر. ومعنى ذلك: أن حكمنا بأن الله تعالى قد كلفه الفعل مشروطا بأن يكون ممن يقدر، فالشرط داخل على حكمنا لا على تكليف الله، فإن أراد المخالف هذا رجع النزاع إلى اللفظ.
وقال الإبياري: إنما حمل المعتزلة على ذلك أصلان:
أحدهما: أن الشرط هو الذي يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون، فأما ما تحقق ثبوتا أو نفيا فلا يصلح للشرطية.
الثاني : أن الأمر عندهم يلازم الإرادة فإن كان يعلم انتفاء الشرط لم يكن مريدا للفعل الذي علق طلبه على الشرط، وأما نحن فلا نقول باقتران الأمر بالإرادة، فيصح الأمر بما لم يرده. هذا تحرير المسألة بين الفريقين.
وترجم بعض مختصري البرهان وهو ابن عطاء الله المسألة بأن شرط التكليف عند الأصحاب أن يكون الفعل من جنس الممكن فيصح أن يعلم المخاطب كونه مأمورا قبل مضي زمن يسع الفعل وعند المعتزلة أن يكون ممكنا، ولا يعلم كونه مأمورا إلا بعد مضي ذلك.
قال: واعتقد الإمام أن القاضي سلم له كون الإمكان شرطا، فقال: يلزم إذا بان أن لا إمكان أنه لم يكن تكليف، وليس كما اعتقده، لأن كلام الغزالي يقتضي ترجمتها بأن المأمور بشرطه يسمى أمرا أم لا؟ ولهذا ذكرها في بحث الأوامر دون التكاليف.

(1/299)


تنبيهات
التنبيه الأول: [العلم قبل التمكن من الفعل]
منهم من جعل هذه المسألة أصلا للتي قبلها أعني مسألة العلم قبل التمكن من الفعل، فإن قلنا: يصح من الله تعالى الأمر بالشرط صح للعبد أن يعلم أنه مأمور من الله بشرط البقاء، وإن قلنا: لا يصح فكذلك هاهنا، لأنه إذا توجه الأمر نحو المكلف بحكم ظاهر البقاء فهو لا يدري أنه هل يبقى أم لا؟ وهو ظاهر كلام ابن الحاجب.
ومنهم من جعل هذه فرعا للتي قبلها، فمن قال: إن المأمور يعلم كونه مأمورا قبل التمكن جوز وروده، ومن لم يقل به لم يجوزه صرح به الهندي. وكذا الذي ذكره القاضي وإمام الحرمين في التلخيص وابن القشيري، فقالوا: هذه المسألة تنبني على التي قبلها، وهو أنا قلنا: نقطع المكلف بالتزام ما كلف مع التردد في حكم العاقبة فيترتب عليها المقصود، ونقول: لو ورد الأمر مطلقا هل يقولون: يتعلق بالمكلف في الحال قطعا أو يستريبون فيه؟ فإن استربتم عدنا إلى المسألة الأولى، وإن قطعتم مع انطواء العاقبة عن المكلف لزم منه أن يكون مكلفا مع ذهوله عما يكون، والأمر متوجه عليه، فإذا تصور ذلك الاعتقاد في الأمر المطلق فما المانع من تقييده بما يعتقد فيه عند إطلاقه؟.
[التنبيه] الثاني: [الأمر المقيد بالشرط له أحوال]
قال العبدري في شرح المستصفى: الأمر المقيد بالشرط له ثلاثة أحوال:
أحدها : أن يكون الشرط معلوما انتفاؤه عند الآمر والمأمور جميعا، فهذا ممنوع بالاتفاق.
الثاني : أن يكون مجهولا عندهما فجائر بالاتفاق.
الثالث: أن يكون معلوما عند الآمر مجهولا عند المأمور. فهذا موضع الخلاف جوزه الأشعرية ومنعته المعتزلة، وهم المصيبون في هذا اللفظ، لأن الأمر الذي فرضوا فيه الكلام ليس هو صيغة اللفظ، إنما فرضوا الكلام في المعنى القائم بالنفس، ولا يصح أن يقوم بنفس الآمر طلب ما يعلم قطعا أنه لا يقع، أو أنه قد وقع، بل طلب ما يجوز أن يقع وأن لا يقع.

(1/300)


والدليل على ذلك: أن الأمر لا يصح إلا بالممكن، فالمأمور لا يعلم كونه مأمورا عند توجه الأمر عليه بل عند وقوعه وهو المطلوب، وأيضا فإن علم المأمور بكونه مأمورا يؤدي إلى أن يكون ذلك الأمر واقعا لا محالة فبطل كونه ممكنا وصار واجبا، وهذا محال فنقيضه محال، وهو أن المأمور لا يعلم كونه مأمورا عند توجه الأمر عليه بل عند وقوعه وهو المطلوب. انتهى. وفيما ذكره نزاع.
وفاته قسم رابع: وهو أن يكون المأمور عالما بالانتفاء دون الآمر، فلا يصح وفاقا لانتفاء فائدته من جهة المأمور وهو الامتثال، وعدم صحة طلبه من جهة الآمر.
وقال الصفي الهندي: اتفق الكل على أن المأمور لو علم أنه لا يتمكن من فعل المأمور به فإنه لا يعلم أنه مأمور إلا على رأي من يقول بتكليف ما لا يطاق.
[تفريع الغزالي على هذا الأصل]
فرع الغزالي على هذا الأصل فروعا:
منها: لو علمت المرأة بالعادة أنها تحيض في أثناء النهار، أو بقول نبي حيضا أو موتا أو جنونا، فهل يلزمها نية الصوم حتى تصوم البعض؟.
قال: أما على مذهب المعتزلة فلا ينبغي اللزوم، لأن بعض اليوم غير مأمور به، وهي غير مأمورة بالكل، وأما عندنا فالأظهر وجوبه، لأن المرخص في الإفطار لم يوجد والأمر قائم في الحال، والميسور لا يسقط بالمعسور. ا هـ.
وقد نوزع في قوله: والأمر قائم في الحال بقوله: في كتاب النسخ: إن جهل المأمور شرطه فكيف يكون الأمر قائما في الحال والمكلف عالم بطريان الحيض، والآمر والمأمور كلاهما يعلمانه؟.
ومنها: لو قال: إن صليت أو شرعت في الصلاة أو في الصوم فزوجتي طالق، ثم شرع ثم أفسدها أو مات أو جن ففي وقوع الطلاق خلاف يلتفت إلى هذا الأصل فلا يحنث على قياس مذهب المعتزلة، ويحنث على قياس مذهبنا، وكذا ذكر الآمدي هذا فرعا على هذا الأصل. وفيه نظر، لأنه من باب وجود المشروط لوجود شرطه، وإنما يكون من فروع هذا الأصل بتقدير أن يقول: إن صمت يوما كاملا من رمضان فأنت طالق في أثناء اليوم لكنه في هذه الصورة لا يقع لتخلف الشرط فإنه لم يصم يوما كاملا.
ومنها: لو أفسد يوما من رمضان بما يوجب الكفارة ثم مات أو جن أو حاضت في أثنائه سقطت عنه على الأصح. لا يقال: هذا يخالف الأصل المذكور، فإن

(1/301)


السقوط يدل على عدم الأمر به، لأنا نقول: يحتمل أن يقال: وجوب الكفارة من خصائص وجوب صوم اليوم الذي لا يتعرض الانقطاع فيه.
ومنها: لو نذر الصيام يوم قدوم زيد، وتبين له أنه غدا، فنوى الصوم من الليل، فإنه يجزئ عن نذره على الأصح، ولم يقولوا: إنه يجب عليه بل اختلفوا في الإجزاء، وقياس هذا الأصل الوجوب. والظاهر أن الغزالي يقول به كالحائض.
[التنبيه] الرابع
استشكل الخلاف في هذه المسألة بحكايتهم في مسألة تكليف ما لا يطاق الإجماع على صحة التكليف بما علم الله أنه لا يقع كما قاله ابن الحاجب وغيره، كإيمان أبي لهب.
والجواب: أن الإجماع غير مسلم لما سنذكره هناك أن الخلاف فيهما واحد ثم الصورتان متغايرتان، لأن العلم هناك تعلق بعدم الوقوع مع بلوغ المكلف حالة التمكن، وهنا فيما إذا لم يبلغ حالة التمكن بأن يموت قبل زمن الامتثال. وأيضا فتلك في ورود التكليف منجزا غير مقيد بشرط، ولكن الامتناع جاء من أمر خارج. ومأخذ المنع فيها تكليف المحال، وهذه في الأمر المقيد بشرط هل يتحقق معه الأمر في نفسه؟ ومأخذ المانع فيها عدم تصور الشرط في حقه تعالى عند المخالف، ولهذا لم يقصر خلافه على ما علم عدم وقوعه بل عداه إلى ما علم وقوعه أيضا كما سبق بيانه.
[التنبيه] الخامس
ظهر بما ذكرناه أن تصوير المسألة بالأمر المقيد بشرط علم انتفاء وقوعه قاصر، فإن خلافهم لا يخص هذه الحالة، وإنما خلافهم في أنه هل يصح الأمر بشرط من الله تعالى أم لا؟
[التنبيه] السادس
كل من منع نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل كالمعتزلة فإنهم اتفقوا على أن التمكن من الفعل وقت وجوبه شرط تحقق الأمر.
قال الهندي: وهذا اللائق بأصولهم. قال: وأما من جوزه كمذهب أصحابنا، فاختلفوا فذهب الجمهور إلى عدم اشتراطه وذهب بعض كإمام الحرمين وبعض الأصوليين منا ومن الحنفية إلى اشتراطه، وكل واحد من القولين ليس مناقضا لذلك الأصل، وإن كان الأول أشد ملاءمة له.

(1/302)


فائدة: [تكليف المتمكن ووقوع التكليف بالممكن]
قال الإمام في البرهان: يكلف المتمكن ويقع التكليف بالممكن. قال بعض علمائنا: قوله: يكلف المتمكن، بناه على أصله في تقدم القدرة على المقدور، فإن مذهبه في البرهان صحة ذلك، وهو خلاف ما يراه في كتب الكلام. فأما على ما نراه نحن من اقتران القدرة بالمقدور فلا يشترط ذلك على معنى أنه لا يكلف إلا قادر، وإن أطلقنا أنه لا يكلف إلا متمكن، فإنما نريد به أنه لا يكلف في الواقع إلا من لا يتحقق عجزه عن إيقاع المطلوب. فأما اشتراط تحقيق الإمكان الذي هو الاقتدار فغير معتبر بل لا سبيل إلى علمه أبدا في جريان العادة إلا بعد العمل، ومن المتعذر أن يشترط في توجه التكليف علم ما لم يعلم إلا بعد الامتثال.

(1/303)


مسألة: [المعدوم الذي تعلق العلم بوجوده مأمور]
المعدوم الذي تعلق العلم بوجوده مأمور عندنا بالأمر الأزلي خلافا للمعتزلة.
وأصل الكلام في هذه المسألة: أن أصحابنا لما أثبتوا الكلام النفسي وأن الله تعالى لم يزل آمرا ناهيا مخبرا. قيل عليهم من قبل الخصوم القائلين بحدوثه: إن الأمر والنهي بدون المخاطب عبث، فاضطرب الأصحاب في التخلص من ذلك على فرقتين:
إحداهما: قالت: إن المعدوم في الأزل مأمور على معنى تعلق الأمر به في الأزل على تقدير الوجود، واستجماع شرائط التكليف لا أنه مأمور حال عدمه، فإن ذلك مستحيل بل هو مأمور بتقدير الوجود بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الأزل، ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر. وهذا مفرع على إثبات كلام النفس، ولم يقل به إلا الأشاعرة هكذا نقلوه عن الشيخ أبي الحسن منهم ابن القشيري.
قال إلكيا: تعلق الأمر على تقدير الوجود معه الأكثرون وجوزه الأشعري بل أوجبوه، لأن أمر الله قديم ولا مخاطب أزلا. وأنكره المعتزلة مستمسكين بأن الأمر طلب، ولا يعقل الطلب من المعدوم، فقيل: هذا الطلب لا متعلق له، فإن المعدوم يستحيل أن يكون مخاطبا أو متعلقا، فإنه نفي، وإذا قلت: النفي متعلق فكأنك قلت:

(1/303)


لا متعلق، فقيل لهم: المعدوم كيف يكون مأمورا به، ولا يجوز أن يكون متعلقا؟.
قلنا: هذا مبني على أصلنا.
فقيل: هذا أمر ولا مأمور.
قلنا: هو بتقدير أمر فإن الطلب من الصفات المتعلقة فلا يثبت دون متعلقه أصلا، كالعلم لا يثبت دون معلوم والكلام الأزلي ليس تقديرا. قال: وأصحاب الشيخ يقولون: معنى قولنا: إنه في الأزل آمر أنه صالح لأن يكون خطابا للموجود بعد وجوده كالقدرة والعلم وغيرهما من الصفات، وإنكار بعضها بهذا الطريق يجر إلى ما سواه. ا هـ.
وقد عظم النكير في هذه المسألة على الأشعري حتى انتهى الأمر إلى انكفاف طائفة من الأصحاب عن هذا المذهب منهم أبو العباس القلانسي، وجماعة من القدماء، فقالوا: كلام الله في الأزل لا يتصف بكونه أمرا أو نهيا ووعدا أو وعيدا، وإنما تثبت هذه الصفات عند وجود المخاطبين فيما لا يزال، وجعل ذلك من صفات الأفعال كالخالق والرازق، وهذا ضعيف، لأنه إثبات لكلام خارج عن أقسام الكلام، وهو يستحيل، ولئن جاز ذلك فما المانع من المصير إلى أن الصفة الأزلية ليست كلاما أزلا، ثم يستحيل كونها فيما لا يزال؟.
وسهل الطرطوشي أمر هذا الخلاف، فقال: ليس خلافا في معنى، وإنما خلاف عائد إلى لغة لاتفاقهما على وجود المعنى في النفس، وامتناع القلانسي من تسمية الله تعالى في الأزل آمرا ناهيا وتسمية كلامه أمرا ونهيا لم يمتنع من أجله أن يقول: إن هذا الاقتضاء قائم بذات البارئ تعالى في الأزل، وإنما قال: لا أطلق عليه آمرا ولا على كلامه أمرا حتى يتعلق بمتعلقه، فحينئذ أسميه آمرا من غير أن يتجدد في القديم شيء وهذا قريب. وعند هذا نقول: الأقوى أنه يطلق عليه آمر قبل التعليق، كما يطلق عليه تعالى قادر قبل وجود المقدور. ا هـ.
وما ذكرناه من أن الشيخ لم يرد تنجيز التكليف، وإنما أراد قيام التعلق العقلي، وهو قيام الطلب بالذات من المعدوم إذا وجد، صرح به ابن الحاجب أيضا من المتأخرين. ونازعه بعضهم. وقال: الحق أن الأشعري إنما أراد التنجيز، والتعلق عنده قديم، ولا يلزم من التنجيز تكليف المعدوم بأن يوجد الفعل في حال عدمه بل تعلق التكليف به على صفة، وهي أنه لا يوقعه إلا بعد وجوده واستجماع الشرائط، وذلك لا يوجب عدم التنجيز بل التنجيز واقع، وهذا معناه. ومن ظن أنه يلزم كونه مأمورا في

(1/304)


العدم أن يوجد في العدم فقد زل، فإن إتيانه به في العدم كما يستدعي الإمكان كذلك يستدعي أن يؤمر به على هذا الوجه، والأمر لم يقع كذلك بل على صفة أن الفعل يكون بعد استجماع شرائطه التي فيها الوجوب. وأقرب مثال لذلك: الوكالة فإن تعليقها باطل على الذهب، ولو نجز الوكالة وعلق التصرف على شرط جاز، وهو الآن وكيل وكالة منجزة، ولكنه لا يتصرف إلا على مقتضاها، وهو وجدان الشرط.
الفرقة الثانية: قالت: إنه كان في الأزل آمر من غير مأمور، ثم لما استمر وبقي صار المكلفون بعد دخولهم في الوجود مأمورين بذلك الأمر، وضربوا لذلك مثالا: وهو أن الإنسان إذا قرب موته قبل ولادة ولده، فربما يقول لبعض الناس: إذا أدركت ولدي، فقل له: إن أباك كان يأمرك بتحصيل العلم. فهاهنا قد وجد الآمر، والمأمور معدوم حتى لو بقي ذلك الأمر إلى أوان بلوغ ذلك الصبي لصار مأمورا به.
قال صاحب التنقيحات: وفيه بحث إذ الكلام فيما ليس هناك مأمور ولا من ينهى إليه.
وأجاب بعضهم على أصل الأشاعرة بأن كلام الله إنما هو الخبر، والخبر في الأزل واحد لكنه يختلف إضافته بحسب اختلاف الأوقات، وبحسب ذلك تختلف الألفاظ الدالة عليه كما في العلم فإنه صفة واحدة تختلف باختلاف المعلومات. ولعل الأشاعرة إنما ذهبوا إلى انحصار كلام الله في الخبر. لهذا الغرض والقائلون بجواز أمر المعدوم اختلفوا كما قاله القاضي أبو بكر. فذهب الفقهاء إلى أن الأمر قبل وجود المأمور أمر إنذار وإعلام، وليس بأمر إيجاب على الحقيقة. وذهب المحققون إلى أنه أمر إيجاب على شرط الوجود، فإن ما يتحاشى من الإيجاب يلزم مثله في الإعدام، وكما يتعذر إلزام المعدوم شيئا يتعذر إعلامه.
وحكى إمام الحرمين في التلخيص عن بعض من لا تحقيق له أن الأمر يتعلق بالمعدوم بشرط أن يتعلق بموجود واحد فصاعدا، ثم يتبعه المعدومون على شرط الوجود وسقوط هذا واضح.
قلت: وهو يضاهي قول الفقهاء: يصح الوقف على المعدوم تبعا لموجود كوقفت على ولدي فلان وعلى من سيولد لي. وأما المعتزلة فأنكروا خطاب المعدوم وتوصلوا بزعمهم إلى إبطال الكلام النفسي، وعلى، هذا فهم يقولون: إن أوامر الشرع الواردة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، تختص بالموجودين، وأن من بعدهم تناوله بدليل.
وحكى أبو الخطاب الحنبلي في "الهداية" عن الغزالي وأكثر الحنفية اختيار مذهب

(1/305)


المعتزلة: أن الأمر لا يتناول المعدومين وأنه يختص بالموجودين. قال: وفائدة الخلاف: أنه إذا احتج علينا بأمر أو خبر يلزمنا على الحد الذي كان يلزمنا لو كنا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، موجودين من غير قياس إن قلنا الأمر يتناول المعدوم، وإن قلنا: لا يتناوله فيحتاج إلى قياس أو دليل آخر لإلحاق الموجود في هذا الزمان بالموجود في ذلك الزمان.
واختار إمام الحرمين في الشامل مذهب الشيخ وأشار في البرهان إلى الميل إلى مذهب المعتزلة.
وقال القاضي: وعلى قضية هذا الاختلاف اختلف الصائرون إلى قدم كلام الرب تعالى وأن كلامه هل يتصف في أزله بكونه أمرا أو نهيا أم يتوقف ثبوت هذا الوصف على وجود المكلفين وتوفر شرائط التكليف؟ فمن جوز أمر المعدوم صار إلى أن كلام الرب تعالى لم يزل أمرا، ومن أنكر ذلك جعل كونه أمرا من الصفات الآيلة إلى الفعل، وهذا كما أن الرب سبحانه وتعالى لم يتصف في أزله بكونه خالقا، فلما خلق وصف بكونه خالقا.
قال: والذي نرتضيه جواز أمر المعدوم على التحقيق بشرط الوجود، وأنكرته المعتزلة قاطبة.
وقال ابن برهان في الأوسط الذي عليه أصحابنا أن المعدوم مأمور، ونقل عن بعض أصحابنا أنه مأمور بشرط الوجود وهو قول فاسد، لأنه إن أراد الخطاب بعد الوجود فليس أمر معدوم، وإن أراد خطابه حالة العدم فذلك، فقد تقدم المشروط على الشرط.
قال: وهذه المسألة فرع أصل عظيم، وهو إثبات كلام النفس للبارئ، فعندنا أن كلام الله صفة قديمة أزلية قائمة بذاته أبدا، وهو يتصف بكونه أمرا ونهيا خبرا واستخبارا، فإذا ثبت هذا الأصل فقد ثبت أنه أمر للمعدوم، لأن كلامه في الأزل اتصف بكونه أمرا ونهيا، ونحن معدومون إذ ذاك لا محالة.
وأما المعتزلة فصاروا إلى أن كلامه مخلوق حادث بخلقه إذا أمر أو نهى وهو عبارة عن الأصوات والحروف فلا أمر ولا نهي قبل المأمور.
ونقل عن القلانسي من أصحابنا أنه قال: البارئ تعالى متكلم بكلام قديم أزلي قائم بذاته أزلا وأبدا إلا أن كلامه لا يتصف بالأمر والنهي والخبر والاستخبار إلا إذا أمر ونهى ودخل المكلفون وحدث المخاطبون وهو قول باطل. وقال المازري: من هذه المسألة قالت المعتزلة بخلق القرآن، لأنهم أحالوا وجود أمر ولا مأمور، ولم يكن مع الله أحد في

(1/306)


الأزل حتى يأمره وينهاه فيستحيل حصول الأمر لاستحالة الكلام.
ودهش لهذا بعض المتقدمين من أئمتنا القلانسي وغيره حتى ركب مركبا صعبا فأنكر كون كلام الله في الأزل أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا، فخلص بهذا من إلزامهم، لأنه إذا نفى الأمر في الأزل لم تجد المعتزلة سبيلا إلى الطعن على مذهبه في قدم القرآن، لكنه استبعد أمرا وفر منه، فوقع في آخر أبعد منه، لأنه أثبت كلام الله سبحانه قديما في الأزل على غير حقائق الكلام من كونه أمرا ونهيا. وإثبات كلام ليس بأمر ولا نهي ولا خبر. ولا استخبار إلى غير ذلك من أقسام الكلام غير معقول، فكأن مثبته لم يثبت كلاما، وإنما أثبت صفة أخرى غير كلام.
فالحاصل: صعوبة هذه المسألة، فإنه إما أن ينشأ عنها نفي قدم الكلام كالمعتزلة وإما إثبات قدم الكلام، وفيه إثبات قدم الخلائق المأمورين أو إثبات أمر ولا مأمور، وإما إثبات كلام قديم عارض حقائق الكلام، فأما شيخ المذهب الأشعري فلم يستبعد إثبات أمر في الأزل ولا مأمور لأنا نجد من أنفسنا أمر الغائب، وإنما يتوجه عند حضوره.
وأجاب إمام الحرمين بأن الذي نجده من أنفسنا تقدير أمر إذا حضر لا نفس الأمر الحقيقي، وكلام الله وأوامره لا يصلح فيها التقدير.
واستدل شيخنا بأن الفعل المعدوم يأمر به. تقول به: زرني غدا، وبأن الخلق إلى يومنا لم يزالوا مأمورين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال المازري: والحق في هذه المسألة إنما يصفو بعد تصور أحكام التعلقات ومتعلقاتها، وصرف التعيين إلى المتعلقات لا المتعلق، وهو من الغوامض.
وأهل الحق أثبتوا هذه التعلقات أزلية، لأن نفيها عن الباري سبحانه في الأزل محال.
وقال المقترح في تعليقه على البرهان: التقدير هاهنا ليس عائدا إلى الباري سبحانه فإن التقدير حادث ويستحيل قيام الحادث بذاته تعالى، وإنما هو عائد إلى المكلف بمعنى أنه يقدر في نفسه احتمال وجود هذا المعدوم، واحتمال أن لا يوجد، فعلى تقدير وجوده يكون مأمورا قال: وإن صدقنا وحققنا قلنا: الأمر لم يتعلق بالمعدوم وإنما يتعلق بالموجود المتوقع كما أن العلم الأزلي يتعلق بالموجود الذي سيكون، كذلك المطلوب الأزلي متعلق بالتكليف الذي سيكون، فالأمر إذن يتعلق بالموجود، أو يتعلق الطلب بالموجود بالمعدوم، فإن نفي التنجيز يشعر بذلك.

(1/307)


تنبيهان
[التنبيه] الأول
هذا الخلاف في أن المأمور متى يصير مأمورا؟ هل من الأزل وإن كان معدوما أو يتوقف على وجوده وشروط أخرى؟ وإن كان أنشأ الأمر متقدما يضاهيه البحث في الطلاق المعلق.
الحنفية يقولون: بالتعليق ينعقد سببه، وعند الصفة تعذر إنشاؤه ويجعل كالنازل ذلك الوقت، وغيرهم من الشافعية والمالكية يقولون: إن التعليق المتقدم هو العلة فيؤثر عند وجود الصفة. هذا هو الصحيح.
ويتخرج عليها أن الطبقة الثانية من الموقوف عليهم يحتمل أن يقال: هو كذلك موقوف عليهم الآن، وإنما يتأخر مصرفه، ويحتمل أن يقال: إنما يصير موقوفا عليه إذا انقرض من قبله ولعل خلاف الحنفية لا يأتي في ذلك. وإذا قلنا: إنه موقوف عليهم في حياة الطبقة الأولى فهل نقول: إنه من أهل الوقف؟ ويحتمل أن لا يقال به، وهو الأظهر، لأن أهل الشيء هو المستقر في استحقاقه. ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأما أهل النار الذين هم أهلها" 1؟ فكذلك يقول: إن من شرط اسم الوقف الاستحقاق.
[التنبيه] الثاني
ليس بين هذه المسألة وبين مسألة لا حكم للأشياء قبل الشرع تناقض، كما قد يظن، فإنه إن فسر لا حكم بعدم العلم فظاهر وإن فسر بعدم الحكم، فكذلك، لأنا نقول: دال الحكم في الأزل وتعلقه بالمكلف موقوف على وجود بعثة الرسل عليهم السلام فمعنى لا حكم للأشياء قبل الشرع: أي لا تعلق للأمر فلا تناقض.
ـــــــ
1 رواه مسلم "1/172" كتاب الإيمان باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، حديث "185". وأصله في البخاري، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، حديث "22" كلاهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال الله رسول صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال: بخطاياهم – فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر ، فثبوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل ..." الحديث.

(1/308)


مسألة: لا يشترط في المكلف الحرية
ولا يشترط في المكلف الحرية بل يدخل العبيد في الخطاب العام نحو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 183] وهو كالحر إلا أن يقوم دليل على تخصيص الخطاب بالأحرار هذا هو الصحيح، وستأتي المسألة في العموم إن شاء الله تعالى. وحكم من فيه جزء من الرق حكم الرقيق. قاله القاضي أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك في "كتاب بيان" البرهان وقل من صرح به من الأصوليين. قال في الإرشاد: وما يشترط فيه المال لا يدخل فيه لعدم الملك.

(1/309)


مسألة: [دخول الذكور في الإناث في الخطاب]
لا يشترط الذكورية بل الخطاب يشمل الذكور والإناث. قال القاضي: ويتبع في ذلك وضع اللغة، فإن وردت لفظ تخص الرجال خصصنا بهم فإن وضعت شركة حملناها على الاشتراك سيأتي في العموم، ويتناول الخنثى، لأنه لا يخرج في نفس الأمر عنهما، ولم يتعرض له الأصوليون.

(1/309)


مسألة: [تكليف الجن]
ولا يشترط في التكليف الإنسية بل الجن مكلفون في الجملة، وقد وقع نزاع بين المتأخرين في أن الجن مكلفون بفروع الدين فقال بعض محققيهم: إنهم مكلفون بها في الجملة لكن لا على حد تكليف الإنس بها، لأنهم يخالفون الإنس بالحد والحقيقة، فبالضرورة يخالفونهم في بعض التكاليف. مثاله. أن الجن قد أعطي بعضهم قوة الطيران في الهواء فهو مخاطب بقصد البيت الحرام للحج طائرا، والإنسان لعدم تلك القوة لا يخاطب بذلك. هذا في طرف زيادة تكليفهم على تكليف الإنس، فكل تكليفه يتعلق بخصوص طبيعة الإنس ينتفي في حق الجن، لعدم تلك الخصوصية فيهم.
والدليل على تكليف الجن بالفروع الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بالقرآن إلى الإنس والجن، وجميع أوامره ونواهيه يتوجه إلى الجنسين، وقد تضمن ذلك أن كفار

(1/309)


الركن الرابع: [المكلف به]
وله شروط
[شروط المكلف به]:
أحدها: أن يكون معدوما من حيث هو يمكن حدوثه، إذ إيجاد الموجود تحصيل الحاصل، وليس المراد العدم الأصلي، إذ يستحيل أن يكون أثرا للقدرة.
ثانيها: أن يكون حاصلا بكسب المكلف، فلا يصح أمر زيد بكتابة عمرو، ولا يعترض على هذا بإلزام العاقلة دية خطأ وليها، لأن ذلك من باب ربط الحكم بالسبب.
ثالثها: أن يكون معلوما والمخالف فيه أبو العباس بن سريج. قال الرافعي في أول كتاب الفرائض: ذهب ابن سريج إلى أنه كان يجب على المحتضر أن يوصي لكل أحد من الورثة بما في علم الله تعالى من الفرائض، وكان من يوفق لذلك مصيبا ومن تعداه مخطئا.
قال الإمام: وهذا زلل لا يجوز مثله في الشرائع فإنه تكليف على عمائه.
رابعها: أن يكون بالفعل، والمكلف به في النهي الكف والكف فعل الإنسان داخل تحت كسبه يؤجر عليه ويعاقب على تركه، وقال بعضهم: الترك نفي محض لا يدخل تحت التكليف ولا الكسب، وهو ضعيف، وفي الحديث الصحيح: "تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك"1 نعم. لا يحصل الثواب على الكف إلا مع النية والقصد دون الغفلة والذهول.
خامسها: أن يكون مقدورا له على خلاف في هذا الشرط، وهذه مسألة تكليف ما لا يطاق، وبعضهم ترجمها بالتكليف بالمحال، ولا بد من تحقيقها.
فنقول: اعلم أن المعدوم إما ممكن أو واجب أو ممتنع، فالممكن ما استوت نسبته إلى الوجود والعدم فيحتاج في وجوده إلى مرجح ومخصص، والواجب ما ترجح وجوده على عدمه والممتنع ما ترجح عدمه على وجوده، ثم كل واحد من الواجب والممتنع إما أن
ـــــــ
1 رواه مسلم "1/89" كتاب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث "84" بلفظ المصنف، ورواه البخاري حديث "2518" عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله، وجهاد في سبيله". فأي الرقاب أفضل؟ قال: "أعلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها". قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين ضايعا أو تصنع لأخرق" قال: فإن لم أفعل. قال: "تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك" .

(1/310)


يكون وجوبه أو امتناعه لذاته أو لغيره، فالواجب لا لذاته ما توقف وجوده على سبب خارج عن ذاته كسائر الموجودات حال وجودها، والممتنع لذاته، كالجمع بين الضدين، والممتنع لغيره كتعلق العلم القديم أن فلانا يموت كافرا وهو أمثال المشهور في هذا الباب. فإذن المحال ضربان: محال لذاته ومحال لغيره، والخلاف موجود فيهما.
ويطلقه الأصوليون والمتكلمون على أربعة معان:
أحدها : ما لا يعقل على حال، وهو المستحيل لذاته كالجمع بين الضدين وقلب الأجناس، وإعدام القديم، وإيجاد الموجود.
الثاني : على ما لا يدخل تحت مقدور البشر، وإن كان ممكنا في نفسه كخلق الجواهر والأعراض، فإنه لا يدخل تحت القدرة الحادثة وإلا لما أدركوا من أنفسهم عجزا عنه.
الثالث : ما لا يقدر العباد عليه في العادة وإن كان من جنس مقدورهم، كالطيران في الهواء، والمشي على الماء.
الرابع : على جنس المقدور في العادة ولكن لم يخلق الله للعبد قدرة عليه، ومن هذا جميع الطاعات التي لم تقع، والمعاصي الواقعة، فإن الله تعالى لم يقدر العاصي على ترك المعصية، ولا الممتنع من الطاعة على فعلها.
ومنهم من زاد قسما آخر، وهو تكليف القاعد القيام والقائم القعود بناء على أن القدرة مع الفعل، وهذا راجع إلى عدم القدرة.
إذا علمت هذا فالنظر في شيئين أحدهما: الجواز العقلي، والثاني: الوقوع.
[جواز تكليف المحال]:
أما الجواز ففيه مذاهب:
أحدها : وهو مذهب الجمهور جوازه مطلقا، قال ابن برهان: وهو قول المتقدمين من أصحابنا كالقاضي أبي بكر والشيخ أبي الحسن الأشعري.
وقال إمام الحرمين في الشامل الذي مال إليه أكثر أجوبة شيخنا وارتضاه المحصلون من أصحابه أن تكليف المحال جائز عقلا، وكذلك تكليف الشيء مع تقدير المنع منه استمرارا، وفي بعض أجوبته لا يسوغ تكليف المحال كجمع الضدين، والإقدام على المأمور به مع استمرار المانع منه، ومع تحقق العجز ثم لم يصر في منعه إلى التقبيح الذي

(1/311)


ادعته المعتزلة، فإن هذا الأصل باطل عندنا. وقال الإرشاد: من صور تكليف ما لا يطاق اجتماع الضدين، وإيقاع ما يخرج عن قبيل المقدورات. والصحيح عندنا: أنه جائز عقلا غير مستحيل. ا هـ.
وقد نص الشيخ أبو الحسن في كتاب الوجيز على الجواز، فإنه استدل على القائلين باستحالته بقوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] فقال: ولو كان ذلك محالا لما استقام الابتهال إلى الله بدفعه. ا هـ. يعني لولا جوازه لما استعاذوا منه، إذ الاستعاذة من محال محال، والخصم يتأوله على ما فيه كلفة ومشقة، ثم هي معارضة بقوله تعالى في صدر الآية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وحاول بعض المتأخرين نفي هذا المذهب عن الشيخ أبي الحسن، وزعم أن الذي جوزه ورود صيغة مضاهية لصيغة الأمر، والغرض منها تعجيز وتبيين حلول العقاب الذي لا محيص عنه، وليس المراد طلبا واقتضاء، ومثل بقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] فإن ظاهره تعليق الخلاص من العقاب بانسلاك الجمل في سم الخياط، وليس هو على الحقيقة تعليقا، وإنما هو إبداء اليأس من النجاة.
ويدلك على ذلك صدر الآية {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهذا ما حكاه إمام الحرمين في الشامل عن والده الشيخ أبي محمد الجويني وارتضاه صاحب المحصول حيث قال في بعض الأجوبة في هذه المسألة: المراد بقولنا: التكليف بالمحال جائز أنه يجوز من الله تعالى الأمر بالمحال لذاته لا بمعنى أنه يتصور الطاعة منا في ذلك، بل بمعنى أنه يجوز من الله تعالى أن يأمر بأمر نعجز عنه قطعا وأنه متى أمرنا به حصل الإعلام بنزول العقاب لكن إمام الحرمين لما حكاه عن والده قال: وفيه نظر، وذلك لم يصح عقلا تسمية الطلب من المحال لزم مثله وتكليف من لا قدرة له على الفعل وإن ساغ تسمية ذلك طلبا ساغ في تكليف المحال.
ويعتضد ذلك بأصل عظيم من أصولنا، وهو أن التكليف الصادر ليس من شرط ثبوته كون المكلف مريدا لوقوع المكلف به، وإنما يستحيل إرادة وقوع المحال، وأما طلبه مع انتفاء إرادة امتناعه فلا استحالة فيه. والثاني: المنع مطلقا، وهو المنقول عن المعتزلة، قال ابن برهان في الأوسط: وساعدهم أبو حامد الغزالي.
قلت: والشيخ أبو حامد الإسفراييني وإمام الحرمين وابن القشيري، ونقله في المرشد عن كثير من أئمتنا ومن الأقدمين أبو بكر الصيرفي في كتاب "الدلائل والإعلام" وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه في الأم فإنه قال: يحتمل أن يكون قول النبي

(1/312)


صلى الله عليه وسلم: "فأتوا منه ما استطعتم"1 أن عليكم إتيان الأمر فيما استطعتم، لأن الناس إنما كلفوا فيما استطاعوا من الفعل استطاعة شيء؛ لأنه شيء مكلف. وأما النهي فالترك لكل ما أراد تركه منقطع، لأنه ليس بتكليف شيء يحدث، إنما هو شيء متكلف عنه. ا هـ لفظه2.
قال ابن القشيري: وليس مأخذ المانعين من الأصحاب التقبيح العقلي كما صار إليه المعتزلة بل مأخذهم: أن الفعل والترك لا يصحان من العاجز فبطل تقدير الوجوب وعلى هذا إنما كلف أبو لهب بأن يصدق بأن لا يصدق، بل كلف أن يصدق، ولو صدق لكان ممن لا يصدق، لقوله: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] أي إن لم يؤمن، وخلاف المعلوم مقدور، فلا يمكن تكليف العاجز.
والثالث: التفصيل بين أن يكون ممتنعا لذاته فلا يجوز، أو لغيره فيجوز، ونقل عن معتزلة بغداد واختاره الآمدي ونقله عن ميل الغزالي وقد رأيت في الإحياء له التصريح بالجواز، وقال خلافا للمعتزلة وحينئذ فقد وجد له الأقوال الثلاثة. ولذلك قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح العنوان المختار امتناع التكليف بالمحال، والذي يمنعه المحال بنفسه وإيمان أبي لهب ممكن في نفسه مستحيل لتعلق العلم بعدمه فلا يكون داخلا في ما منعناه، هذا كلامه، وغلط من نقل عنه المنع مطلقا.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه يجوز أن يرد التكليف بالمحال، فإن ورد لا نسميه تكليفا بل علامة نصبها الله على عذاب من كلفه بذلك.
قال ابن برهان: والخلاف على هذا لفظي، وعلى قول المعتزلة معنوي، وقال في الوجيز: إذا قلنا بالجواز فاختلفوا، فمنهم من منع تسميته تكليفا وإليه مال الأستاذ، والأكثرون من أصحابنا على تسميته تكليفا.
[وقوع التكلف بالمحال]:
وأما الوقوع السمعي، فاختلفوا فيه، والجمهور على عدم وقوعه، وقيل: إن
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث "7288"، ورواه مسلم "2/975" كتاب الحج، حديث "1337" عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا". فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قتل: نعم، لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" .
2 انظر الأم "5/143".

(1/313)


الأستاذ حكى فيه الإجماع. قال الإمام في "الشامل": وإليه صار الدهماء من الأئمة، وعليه جل الفقهاء قاطبة، وصار كثير من المتكلمين إلى وقوعه. وفصل بعضهم بين الممتنع لذاته كقلب الحقائق مع بقاء الحقيقة الأولى، فيمتنع. وأما الممتنع لغيره فيجوز وهو ظاهر اختيار الإمام في الشامل. وقيل: وقع في حق الكفار دون المسلمين، حكاه ابن القشيري عن القاضي أبي جعفر بن السمناني.
واضطرب الناقلون عن الأشعرية فمنهم من نقل عنه أنه واقع، وهو ما نقله في الإرشاد، وأنه احتج للوقوع الشرعي بأن الله تعالى أمر أبا جهل أن يصدقه، ويؤمن به في جميع ما يخبر عنه، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن، فقد أمره بأن يصدقه بأنه لا يصدقه، وذلك جمع بين النقيضين ا هـ. وكذلك نقله الآمدي في الإحكام ومنهم من نقل الوقف وهو ما ذكره في الشامل، ومنهم من نقل عنه أنه لم يقع.
قال إمام الحرمين وأتباعه كابن القشيري والغزالي وابن برهان: وهو غلط عليه بل التكاليف بأسرها عنده لغير الممكن لوجهين:
أحدهما : أن فعل العبد لا يقع عنده إلا بقدرة الله تعالى، فالعبد إذن مخاطب بما ليس إليه إيقاعه. ثم قال: ولا معنى للتمويه بالكسب، ولا يخفى أن التكليف بفعل الغير تكليف ما لا يطاق.
وثانيهما : أن الاستطاعة عنده مع الفعل والتكليف به يتوجه قبل وقوعه، وهو إذ ذاك غير مستطيع، ولا يخفى أن التكليف بالفعل حال عدم القدرة تكليف ما لا يطاق. ثم اعترض على هذا الوجه وقال: الأمر بالشيء نهي عن ضده، وهو متلبس به حال الخطاب.
وأجاب بأنا لا نسلم بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولئن سلمناه لكن القدرة لم تقارن الفعل، وإن قارنت الضد.
قال الصفي الهندي: وهما ضعيفان.
أما الأول : فلأن الكلام إنما هو على رأي الشيخ لا على رأيه، وهو يرى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
وأما الثاني : فلأن فيه تسليما أن بعض التكاليف تكليف بالمحال لا كله وهو مقصود المسائل ونقيض مقصوده، بل الجواب عنه أن ما هو متلبس به عند ورود الخطاب ليس ضدا له، وهذا لأن ضده الوجودي المنهي عنه، وهو يستلزم التلبس به تركه في الزمان الذي أمر بإيقاع الفعل فيه، وهو في زمان ورود الخطاب لم يتلبس به،

(1/314)


لأن زمان الفعل هو الزمان الثاني إن كان الأمر للفور. سلمنا أن ذلك ضده المنهي عنه لكنه حاصل عند ورود الخطاب، والأمر بترك الحاصل محال. اللهم إلا أن يقال: إنه مأمور بترك ما هو متلبس به في المستقبل، وذلك إنما يكون بإقدامه على المأمور به، وحينئذ يعود المحذور المذكور.
ثم قال: واعلم أن الوجه الثاني غير لازم على الشيخ، لأن الاستطاعة وإن كانت مع الفعل لكن الأمر بالفعل ليس قبله عنده على ما أشعر به نقل الإمام فإن صح هذا من مذهبه كان التكليف بما لا يطاق غير لازم عليه من هذا الوجه.
وقال غيره: تكليفه قبل وقوع الفعل لا يدل على وقوع تكليف ما لا يطاق، لأن تلك الحالة تمكن من إيجاد الفعل، والاستدلال على فساد سبقها الفعل، أنها عرض، فلو بقيت لزم بقاء الأعراض، وهو ممنوع. ثم الشرع يدل على سبق استطاعة الفعل بأنا لا نحكم بها قبل الشروع في الفعل كما في الصلاة والحج وغيرهما.
وقال المازري: لم يغلط القوم في نقل مذهب الرجل، لأنهم أرادوا بقولهم: إن الأشعري أجاز تكليف ما لا يطاق أي في الحال لا في الاستقبال وما يكون إيقاعه من قبيل المحال، ولو قيد إطلاقه بهذا لم يتعقب عليهم نقلهم.
واعلم أن أخذ مذهب الأشعري من ذلك ليس بلازم، لأن لازم المذهب ليس بمذهب على الصحيح، وكلام الأشعري مصرح بوقوع الممتنع لغيره والاضطراب في النقل عنه إنما هو في الممتنع لذاته.
وقد صرح الشيخ في كتاب الإيجاز بأن تكليف العاجز الذي لا يقدر على شيء أصلا، وتكليف المحال الذي لا يقدر عليه المكلف صحيح وجائز. ثم قال: وقد وجد تكليف الله العباد بما هو محال لا يصح وجوده خلافا لبعض أصحابنا، ثم استدل بقضية أبي لهب وبإجماع الأمة على أن الكافر مكلف بالإيمان. واحتج غيره بالوقوع بقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] مع الإجماع على أن العدل بينهن واجب. ووجه الدليل أن الله تعالى نفى القدرة عن الاستطاعة، ومقتضى هذا الخبر الصادق أنه غير قادر على ذلك مع تكليفه بما لا قدرة له عليه، نقله الإمام في تفسيره وقصارى ما تمسك به المجوزون ظواهر لا تفضي إلى القطع وليس الامتناع فيها من حيث العقل بل من حيث العلم.
وقد ذهب قوم منهم الغزالي في "المنخول" إلى أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه لا يسمى مستحيلا. لأنه في ذاته جائز الوقوف.

(1/315)


فوائد
الأولى: [التكليف بما علم الله أنه لا يقع]
نقل الآمدي وابن الحاجب الإجماع على صحة التكليف عقلا بما علم الله أنه لا يقع، وهو ممنوع فإن برهان قال: إن جماعة من أصحابنا صاروا إلى أن ذلك لا يسمى تكليفا، فإن الله تعالى كلف الكفار بالإيمان، ولا قدرة لهم على الإيمان، لأن القدرة عند أصحابنا مع الفعل، وأيضا فإن الخلاف السابق في التكليف بفعل مشروط علم الآمر انتفاء وقوعه يجري هنا كما صرح به أبو الحسين في المعتمد. فقال: قال قاضي القضاة يعني عبد الجبار: لم يختلفوا في أنه لا يجوز أن يفرد الله سبحانه المكلف الواحد بالأمر بالفعل، وهو يعلم أنه يمتنع منه، قال: ولم يختلفوا في أنه لا يجوز أن يأمر من يعلم أنه يموت أو يعجز بشرط أن يبقى ويقدر. انتهى. وأيضا فقد حكى الإبياري وغيره خلافا في أن خلاف المعلوم هل هو مستحيل لذاته أو لغيره؟ فعلى الثاني يصح التكليف به، وعلى الأول يجيء فيه الخلاف المشهور في التكليف به.
وقال المازري: من علم الله سبحانه أنه لا يؤمن فقد صار إيمانه كالممتنع إيقاعه، لأنه لو وقع لخالف علم الله تعالى ومخالفة علمه لا تصح، ولكن هذا الامتناع ليس راجعا إلى عدم الإمكان. من ناحية الفعل بل هو ممكن في نفسه، وعلم الله لا يصير الممكن غير ممكن، فبقي على إمكانه، وإن تعلق العلم به، ألا ترى أنه لا يصير الإيمان في حقهم كالمعجوز عنه المستحيل لأجل تعلق علم الله بأنه لا يقع، لما تقرر في علم الكلام أن خلاف المعلوم مقدور على الصحيح من القولين.
قلت: ويدل له قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] فوصف نفسه بأنه قادر على ما علم أنه يكون، وكذا قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] لأن القدرة عند أصحابنا مع الفعل.
الثانية: [كيف يطلب الله من عباده ما يخالف علمه؟]
استشكل الشيخ عز الدين توجيه الجواز، فقال: إذا علم الله أن بعض الخلق أو أكثرهم لا يطيعون ولا يمتثلون فكيف يطلب منهم ما يخالف علمه؟ فعلى هذا فقد كلفهم

(1/316)


بما لا يطيقون، لأن ما علم أنه لا يكون فواجب لازم أن لا يكون وما علم أنه يكون فواجب أن يكون.
وأجاب: بأن أحسن ما قيل فيه أن توجيه الخطاب للأشقياء الذين لا يمتثلون ما أمروا به، ولا يجتنبون ما نهوا عنه ليس طلبا على الحقيقة، وإنما هو علامة وضعت على شقاوتهم، وأمارة نصبت، على تعذيبهم، إذ لا يبعد في كلام العرب أن يعبر بصيغة الأمر والنهي عن الخبر.
قلت: وهذه المقالة حكاها إمام الحرمين عن والده وزيفها، وابن برهان عن الأستاذ كما سبق، واستأنس لها ابن عطية بتكليف المصور يوم القيامة أن يعقد شعيرة... الحديث1.
الثالثة: [استحالة ورود الأمر بالكفر]
قال الإمام في الرسالة النظامية يستحيل ورود الأمر بالكفر بالله تعالى، وكيف يتصور مع العلم بالله الأمر بالجهل به؟ فهو من قبيل جمع الضدين.
الرابعة: [التكليف بالممكن المشروط مستحيل]
اختلفوا في أنه هل يجوز أن يكون التكليف بالممكن مشروط بشرط مستحيل أم لا؟.
أما القائلون بعدم جواز تكليف ما لا يطاق فاتفقوا على المنع هاهنا، وأما المجوزون فاختلفوا، فمنهم من جوزه كما يجوز تعلق الأمر بنفس المستحيل، ومنهم من منعه لتهافت الصيغة، وأنه إذا قيل: إن تحرك زيد في حال سكونه فقم، فإنه يؤول إلى
ـــــــ
1 يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع التصاوير؟ التي ليست فيها روح، حديث "2225" بإسناده عن سعيد بن أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ أتاه رجل فقال: يا أبا عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير؟ فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول: "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا" فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه، فقال: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر كل شيء ليس فيه روح. ورواه مسلم "3/1670" حديث "2110".

(1/317)


أن ذلك لا يكون، فلا يقم. فسلب من صيغة الأمر معنى الاقتضاء.
الخامسة: [تأقيت العبادة بوقت لا يسعها]
لا يجوز تأقيت العبادة بوقت لا يسعها إن منعنا تكليف المستحيل، وأما قول الفقهاء، من أدرك من أصحاب الضرورات قدر ركعة من آخر وقت العصر لزمته، فلم يريدوا به وجوب الأداء بل القضاء. قاله الإمام في التلخيص.
السادسة: [الفرق بين تكليف المحال والتكليف بالمحال]
فرق بين تكليف المحال والتكليف بالمحال، فتكليف المحال: أن يرجع الخلل إلى المأمور به، وهو موضع الخلاف، وأما التكليف بالمحال فهو أن يرجع الخلل إلى المأمور نفسه، كتكليف الميت والجماد والبهائم فلا يصح التكليف بالإجماع قاله القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين في التلخيص عند الكلام على ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
السابعة
تكرر في كلامهم في هذه المسألة التمسك بقضية أبي لهب وأبي جهل. وقال المازري: إنما خص الأصوليون ذكر أبي لهب بذلك مع أن سائر الكفار ممن لم يؤمن كذلك، لأنه اجتمع فيه أمران، علم الله أنه لا يؤمن وخبره بذلك، فلهذا أكثر استدلالهم بذلك. وأما غيره من الكفار كأبي جهل وغيره ممن علم الله أنه لا يؤمن، فقد صار إيمانه كالممتنع إيقاعه، لأنه لو وقع لخالف علم الله تعالى. وناقش القرافي في التمثيل بأبي لهب، وقال: إنما يتوهم أن الله أخبر بعدم إيمانه من قوله تعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] ولا دليل فيه، لأن التب هو الخسران، وقد يخسر الإنسان، ويدخل النار وهو مؤمن لمعاصيه، وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] فمخصوصة ولذلك أنكر ابن المنير في تفسيره صحتها وقال: هذا لا يثبت ولا يوجد في الكتاب العزيز، ولا في الخبر أن الله تعالى أخبر أن أبا جهل لا يؤمن وكلفه بالإيمان بأن لا يؤمن، وقال: إنما ينبغي التمثيل بقضية ثعلبة فإنه عاهد الله إن وسع عليه ليتصدق، فلما أعطاه الله وجاءه مصدق رسوله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الزكاة امتنع،

(1/318)


وقال: "ما هذه إلا والجزية سواء" 1، فرجع المصدق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره، فأنزل الله {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 75 - 77].
قال: فهذا الذي نبغي أن يمثل بها التكليف، بخلاف المعلوم مع انكشاف العاقبة لثبوتها في الكتاب العزيز. قال: وقد علمت اختلاف الأصوليين هل يستمر التكليف مع كشف العاقبة نظرا إلى أن الإيمان من جنس الممكن أو لا يستمر نظرا إلى ما يخلص من الجمع بين الضدين؟ أو نقول، كما قال الإمام: إن الله كلف هؤلاء بالإيمان على الإطلاق ولم يكلفهم الإيمان بعدم الإيمان، وهو مخلص ضعيف، فإنه إذا كلفهم على العموم أن يصدقوا بكل خبر، ومن جملة هذا العموم الخبر بأنهم لا يصدقون عاد الإشكال. والتحقيق: التزام رفع التكليف عن هؤلاء ويقدر أحدهم عند إخبار الله عنه بأن يؤمن أبدا في عدد الأموات الذين يئس منهم، وانقطع التكليف في حقهم، نقمة عليهم لا رحمة بهم. ا هـ.
وهو قول عجيب، وأقرب منه ما سبق عن الأستاذ والجويني وابن عبد السلام. وقوله: إنها نزلت في ثعلبة قد أنكره ابن عبد البر، فقال في كتابه المغازي: وقد عد ثعلبة بن حاطب فيمن شهد بدرا قال: ويعارضه قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77] الآية، ثم قال: ولعل قول من قال في ثعلبة: إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح.
ـــــــ
1 انظر تفسير الطبري "10/188 - 191".

(1/319)


مسألة: [ثبوت الوجوب في الذمة لا يشترط فيه الإمكان]
سبق في الكلام الوجوب أن الوجوب المتوقف على الإمكان هو وجوب الأداء أما ثبوت الوجوب في الذمة فلا يشترط فيه الإمكان بل يبنى على السبب، فإذا وجد سببه ثبت حكمه وترجم بعضهم هنا التمكن من الفعل هل هو شرط في إلزام الأمر؟ قال ابن العربي في المحصول: ذهب أحمد بن حنبل إلى أن المأمور به ثبت في ذمة المكلف قبل التمكن من الفعل، وقد فاوضت في ذلك علماءه، فقال لي شيخا مذهبه في ذلك الوقت

(1/319)


أبو الوفا ابن عقيل وأبو سعيد البرجاني: إن المسألة صحيحة في مذهبنا في إلزام المغمى عليه قضاء ما فاته من الصلاة في حال إغمائه.
قال: وهذا كله في الأمر، أما النهي فإن كان عن ترك، فكذلك يشترط التمكن، وإن كان عن فعل لم يكن لاشتراط التمكن معنى، لأن الترك لا يفتقر إلى التمكن. وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاحذروه" 1 فشرط الاستطاعة في الأمر، وأطلق القول في النهي تنبيها على هذا المعنى.
ـــــــ
1 سبق تخريجه قريبا.

(1/320)


مسألة: [خطاب الكفار بفروع الشريعة]
سبق أن حصول الشرط العقلي من التمكن والفهم ونحوهما شرط في صحة التكليف، أما حصول الشرط الشرعي فلا يشترط في صحة التكليف بالمشروط خلافا لأصحاب الرأي، وهي مفروضة في تكليف الكفار بالفروع، وإن كانت أعم منه.
ومنهم من عبر عنها بأنه هل يشترط التكليف في الإمكان في الجملة وهو قولنا، أو الإمكان ناجزا وهو وقول الحنفية؟ ثم اعلم أن المأمور به إما أن يكون مرتبا على ما قبله أو لا، فإن كان غير مرتب وهي أصول الشريعة فهم مكلفون بها إجماعا، ويلتحق بذلك كما قاله القاضي تصديق الرسل وعدم تكذيبهم، والكف عن قتلهم وقتالهم ا هـ.
مع أن الكف عن قتالهم من الفروع.
وحكى المازري عن قوم من المبتدعة أن الكفار غير مخاطبين بهذه المعارف. قال: واختلفوا فمنهم من رآها ضرورية، فلهذا لم يؤمروا بها، ومنهم من رآها كسبية، ولكنه منع الخطاب لما يذكر في غير هذا الفن. ا هـ.
وتردد بعض المتأخرين في كلمتي الشهادة هل هي من الفروع؟ حتى لا يكلفوا بها على قول، لأن الإيمان هو التصديق والشهادة شرط لصحته، وفيه نظر. ومقدمات الإيمان، كالنظر هل هي ملحقة بالإيمان حتى تكون واجبة عليه أو يأتي فيه الخلاف في مقدمة الواجب؟ فيه نظر، وإن كان مرتبا على ما قبله، وهي فروع الشريعة، فالكلام في الجواز والوقوع.

(1/320)


[جواز خطاب الكفار بالفروع عقلا] أما الجواز عقلا فمحل وفاق كما قاله إلكيا الطبري، ومراده وفاق أصحابنا، وإلا فقد نقل عن ابن برهان في الأوسط عن عبد الجبار وغيره أنه لا يجوز أن يخاطبوا عقلا بالفروع، وحكاه صاحب كفاية الفحول في علم الأصول من الحنفية فقال: أجازه عقلا قوم ومنعه آخرون.
[جواز خطاب الكفار بالفروع شرعا] أما شرعا ففيه مذاهب: أحدها: أنهم مخاطبون بها مطلقا في الأوامر والنواهي بشرط تقدم الإيمان، لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] الآيات، ولأنه تعالى ذم قوم شعيب بالكفر ونقص المكيال، وقوم لوط بالكفر وإتيان الذكور، وذم عادا قوم هود بالكفر وشدة البطش بقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] ونص عليه الشافعي في مواضع:
منها: تحريم ثمن الخمر عليهم، وقال في "الأم"1 في باب حج الصبي يبلغ، والمملوك يعتق، والذمي يسلم، فيما إذا أهل كافر بحج، ثم جامع، ثم أسلم قبل عرفة فجدد إحراما وأراق دما لترك الميقات أجزأته عن حجة الإسلام، لأنه لا يكون مفسدا في حال الشرك، لأنه كان غير محرم. قال: فإن قال قائل: فإذا زعمت أنه كان في إحرامه غير محرم، أفكان الفرض عنه موضوعا؟ قيل: لا بل كان عليه وعلى كل واحد أن يؤمن بالله عز وجل ورسوله ويؤدي الفرائض التي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه، غير أن السنة تدل، وما لم أعلم [المسلمين] اختلفوا فيه أن كل كافر أسلم ائتنف الفرائض من يوم أسلم، ولم يؤمر بإعادة ما فرط فيه في الشرك منها، وأن الإسلام يهدم ما قبله إذا أسلم ثم استقام. هذا لفظه. وهو قول أكثر أصحابنا كما حكاه القاضيان الطبري والماوردي وسليم الرازي في التقريب والشيخ أبو إسحاق والحليمي.
وقال في المنهاج: إنه مفرع على قولنا: إن الطاعات من الإيمان. قال: وقد ورد في الحديث: أن رجلا قال: يا رسول الله أيؤاخذ الله أحدا بما عمل في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" 2. قال: وهذا يدل على المؤاخذة بالنواهي إذا يحسن في الإسلام،
ـــــــ
1 انظر الأم "2/130".
2 رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين، باب إثم من أشرك بالله ...، حديث "6921" ورواه مسلم "1/111" حديث "120". بلفظ قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: " أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام" .

(1/321)


لانتفاء ما يحبطها بخلاف من أسلم وأحسن فإن. إسلامه يحبط كفره، وحسناته تحبط سيئاته ومجرد الإسلام لا ينافي المعاصي لجواز صدورها من السلم فلا يكون محبطا لها. ا هـ.
وقال القاضي عبد الوهاب وأبو الوليد الباجي: إنه ظاهر مذهب مالك وكذلك نقلوه عن أحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه، وهو محكي عن الكرخي والجصاص من الحنفية أيضا. وقال أبو زيد الدبوسي. إنه قول أهل الكلام، ومذهب عامة مشايخ أهل العراق من الحنفية، لأن الكفر رأس المعاصي فلا يستفيد به سقوط الخطاب.
والقول الثاني: أنهم غير مكلفين بالفروع وهو قول جمهور الحنفية، وبه قال عبد الجبار من المعتزلة والشيخ أبو حامد الإسفراييني من أصحابنا كما رأيته في كتابه. عبارته: إنه هو الصحيح عندي، ووقع في المنتخب نسبته لأبي إسحاق الإسفراييني، وهو غلط، فإن أبا إسحاق يقول بتكليفهم كما نقله الرافعي عنه في أول كتاب الجراح وهو كذلك موجود في كتابه في الأصول: ظاهر كلام الشافعي يدل عليه، قال: والصحيح من مذهبه: ما بدأنا به. ا هـ.
وقال الإبياري: إنه ظاهر مذهب مالك.
قلت: اختاره ابن خويز منداد المالكي، وقال في كتابه المسمى بالجامع إنه الذي يأتي عليه مسائل مالك أنه لا ينفذ طلاقهم، ولا أيمانهم ولا يجري عليهم حكم من الأحكام. وزاد حتى قال: إنهم إنما يقطعون في السرقة، ويقتلون في الحرابة من باب الدفع، فهو تعزير لا حد، لأن الحدود كفارات لأهلها وليست هذه كفارات. وزاد، فقال: إن المحدث غير مخاطب بالصلاة إلا بعد فعل الطهارة، واستدل على ذلك من كلام مالك رضي الله عنه بقوله في الحائض: إنها تنتظر ما بقي من الوقت بعد غسلها وفراغها من الأمر اللازم.
وقال أبو زيد الدبوسي: ليس عن أصحابنا المتقدمين في هذه المسألة نص، وإنما تؤخذ من فروعهم، وقد ذكر محمد بن الحسن أن من نذر الصوم، ثم ارتد ثم أسلم لم يلزمه قضاؤه، لأن الشرك أبطل كل عبادة، وإنما أراد وجوبها، لأنه لم يؤده بعد.
قال: ولم أر لهذا المذهب حجة يعتمد عليها، وقد تفكرت في ذلك فلم أجد إلا أن الكافر ليس بأهل للعبادة، لأنه لا يثاب كما لم يجعل العبد أهلا لملك المال فلما لم يكن من أهل الملك لم يكن من أهل الخطاب.
وقال العالم من الحنفية: لم ينقل عن ثقة من أصحابنا نص في المسألة، لكن

(1/322)


المتأخرين منهم خرجوا على تفريعاتهم، فإن محمدا قال: إن الكافر إذا دخل مكة فأسلم وأحرم لم يكن عليه دم لترك الميقات، لأنه لم يكن عليه، ولو كان للكافر عبد مسلم لا تجب عليه صدقة فطره، ويحل للمسلم وطء زوجته النصرانية إذا خرجت من الحيض لعادتها دون العشرة قبل أن تغتسل، ويمضي عليها وقت صلاة، لأنه ليس عليهم.
وقال السرخسي، لا خلاف أنهم مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات في الدنيا والآخرة، وأما في العبادات بالنسبة إلى الآخرة كذلك. أما في حق وجوب الأداء في الدنيا فهو موضع الخلاف، فذهب العراقيون من مشايخنا إلى أنهم مكلفون، لأنه لو لم تجب لم يؤاخذوا على تركها. قال: وهذه المسألة لم ينص عليها أصحابنا، لكن بعض المتأخرين استدلوا من مسائلهم على هذا، وعلى الخلاف بينهم وبين الشافعي، فإن المرتد إذا أسلم لا يجب عليه قضاء صلوات الردة خلافا للشافعي فدل على أن المرتد غير مخاطب بالصلاة عندنا، ثم ضعف الاستدلال. قال: ومنهم من جعل هذه المسألة فرعا لأصل معروف بيننا وبينهم: أن الشرائع عنده من نفس الإيمان، وهم مخاطبون بالإيمان، فيخاطبون بالشرائع، وعندنا ليست من نفس الإيمان فلا يخاطبون بأدائها ما لم يؤمنوا، وهذا ضعيف، فإنهم مخاطبون بالعقوبات والمعاملات وليس ذلك من الإيمان.
قال ابن القشيري: والقائلون بأنهم غير مخاطبين انقسموا فمنهم من صار إلى استحالة تكليفهم عقلا، ومنهم من لم يحله، ولكنهم مع الجواز لم يكلفوا.
وقال القاضي: أقطع بالجواز، ولا أقطع بأن هذا الجائز وقع، ولكن يغلب على الظن وقوعه.
والثالث : أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر، لأن الانتهاء ممكن في حالة الكفر، ولا يشترط فيه التقرب، فجاز التكلف بها دون الأوامر، فإن شرطها العزيمة، وفعل التقريب مع الجهل بالمقرب إليه محال، فامتنع التكليف بها.
وحكى النووي هذه الثلاثة في التحقيق أوجها للأصحاب، وسبق حكاية الأستاذ وابن كج الأولين قولين للشافعي، وعلله الشيخ أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك في كتاب بيان البرهان بأن العقوبات تقع عليهم في فعل المنهيات دون ترك المأمورات. ألا ترى أنهم يعاقبون على ترك الإيمان بالقتل والسبي وأخذ الجزية، ويحد في الزنا والقذف ويقطع في السرقة، ولا يؤمر بقضاء شيء من العبادات، وإن فعلها في كفره لم تصح منه؟ ونقله صاحب اللباب من الحنفية عن أبي حنيفة وعامة أصحابه.

(1/323)


[تكليف الكفار بالنواهي] وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا خلاف في تكليفهم بالنواهي، وإنما الخلاف في تكليفهم بالأوامر. قاله الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه الأصول والبندنيجي في أول كتاب قسم الصدقات من تعليقه قال: وأما المعاصي فمنهيون عنها بلا خلاف بين المسلمين، وهذه طريقة جيدة.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتابه في الأصول: لا خلاف أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه على الكفار كما يتوجه على المسلمين. ا هـ.
وهذا يوجب التوقف فيما حكاه الرافعي عن الأستاذ أبي إسحاق فيما إذا قتل الحربي مسلما أو أتلف عليه مالا ثم أسلم أنه يجب ضمانها إذا قلنا: إن الكفار مخاطبون بالفروع. قال: وذكر العبادي أنه يعزى ذلك أيضا للمزني في المنثور. وقال المازري: لا وجه لهذا التفضيل، لأن النهي في الحقيقة أمر، وكأنهم قالوا: إن التروك لا تفتقر إلى تصور بخلاف الفعل.
والرابع : أنهم مخاطبون بالأوامر فقط. حكاه ابن المرحل في الأشباه والنظائر ولعله انقلب مما قبله، ويرده الإجماع السابق على تكليفهم بالنواهي.
والخامس : أن المرتد مكلف دون الكافر الأصلي. حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص والطرطوشي في العمدة، لالتزام أحكام الإسلام. ولا معنى لهذا التفصيل، لأن مأخذ النقي فيهما سواء، وهو جهله بالله تعالى، ومقتضى هذا أن الخلاف يطرق الأصل والمرتد لكن ظاهر عبارة الإمام في المحصول أن الخلاف لا يطرق المرتد، والأشبه الأول. ولهذا نقل الأصحاب عن الحنفية أن الردة تسقط الأعمال السابقة وتمنع الوجوب في الحال. ولهذا قالوا: إن المرتد لا يقضي صلاة أيام ردته، وعندنا تلزمه.
وقال القاضي الحسين في تعليقه: يمكن بنا الخلاف في إحباط الردة الأعمال على أن الكفار مخاطبون بالشرائع أم لا؟ فإن قيل: لو ساوى المرتد الأصلي لم يجب عليه قضاء أيام ردته.
قلت: إنما وجب القضاء على المرتد، لأن الإسلام بخروجه منه لا يسقط بخلاف الأصلي، وقد قال الشافعي: في الزكاة على المرتد قولان أحدهما: يجب، والثاني موقوف. قال ابن أبي هريرة: وهو نظير الصلاة، لأنه كما إذا أسلم يزكي فكذا إذا أسلم يصلي.
والسادس : أنهم مكلفون بما عدا الجهاد، أما الجهاد فلا، لامتناع قتالهم

(1/324)


أنفسهم، حكاه القرافي. قال: ولا أعرف أين وجدته.
قلت: صرح به إمام الحرمين في النهاية، فقال: والذمي ليس مخاطبا بقتال الكفار، وكذا قال الرافعي في كتاب السير: الذمي ليس من أهل فرض الجهاد.
ولهذا إذا استأجره الإمام على الجهاد لا يبلغ به سهم راجل على أحد الوجهين، كالصبي والمرأة. نعم يجوز للإمام استئجاره على الجهاد على الأصح، وهذا يدل على أنه غير فرض عليه، وإلا لما جاز كما لا يجوز استئجار المسلم عليه.
السابع: الوقف. حكاه سليم الرازي في تقريبه عن بعض الأشعرية، وحكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن الأشعري نفسه.
وقال إمام الحرمين في المدارك: عزي إلى الشافعي ترديد القول في خطاب الكفار بالفروع ونصه في الرسالة: الأظهر أنهم مخاطبون بها.
قلت: وقد يخرج من تصرف الأصحاب في الفروع مذهب ثامن: وهو التفصيل بين الحربي فليس بمكلف دون غيره، ولهذا يقولون في القصاص والسرقة والشرب وغير ذلك: لا يجب حدها على الحربي، لعدم التزامه الأحكام بخلاف الذمي. وحكى الطرطوشي في العمدة أن الواقفية من علمائهم وافقوا على كونهم مخاطبين إلا أنهم قالوا: إن دخولهم في الخطاب لم يكن بظواهرها، وإنما دخلوها بدليل. ا هـ وبه يخرج مذهب تاسع.
وقال إمام الحرمين في التلخيص: الصائرون إلى أنهم مخاطبون لا يدعون ذلك عقلا وجوبا بل يجوزون في حكم العقل خروجهم عن التكليف في أحكام الشرع. كيف وقد أخرج كالحائض عن التزام الصلاة والصيام؟ ولكن هؤلاء يزعمون أن تكليفهم سائغ عقلا وترك تكليفهم جائز عقلا غير أن في أدلة السمع ما يقتضي تكليفهم، وأما الذين صاروا إلى منع تكليفهم، فاختلفوا، فمنهم من صار إلى استحالته، ومنهم من جوزه عقلا ومنع إبطال أدلة السمع بهم.

(1/325)


تنبيهات
التنبيه الأول: [استحالة مخاطبة الكافر بإنشاء فرع على الصحة]
في تحقيق مقالة أصحابنا: قال إمام الحرمين: التحقيق أن الكافر مستحيل أن يخاطب بإنشاء فرع على الصحة، وكذا المحدث يستحيل أن يخاطب بإنشاء الصلاة الصحيحة مع بقاء الحدث، ولكن هؤلاء مخاطبون بالتوصل إلى ما يقع آخرا، ولا يتنجز

(1/325)


الأمر عليهم بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط، ولكن إذا مضى من الزمان ما يسع الشرط والمشروط والأوائل والأواخر، فلا يمنع أن يعاقب الممتنع على حكم التكليف معاقبة من يخالف أمرا نوجبه عليه ناجزا. فمن أبى ذلك قضى عليه قاطع العقل بالفساد، ومن جوز تنجز الخطاب بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط فقد سوغ تكليف ما لا يطاق، ومن أراد أن يفرق بين الفروع وأواخر العقائد وبين صلاة المحدث فهو مبطل مطلقا.
وقال في كتاب الفرائض من النهاية: من زعم أنهم مخاطبون، أراد ربط المأثم بهم في درئهم بالشرع المشتمل على تفصيل الأحكام ولم يتعرضوا لاستحقاق العقاب على كل محرم في الشرع اقتحموه وكل واجب تركوه، فأما ما يتعلق بهم بقواعد الشريعة وشرائطها فلا سبيل إلى التزامها انتهى.
وقال إلكيا الطبري: إطلاق القول بتكليفهم لا يصح، لأنه كيف يكلفون بما لو فعلوه لما صح؟ ولأنه تكليف ما لا يطاق.
والصواب: أن نقول: مكلفون بالتوصل إلى الفروع به وتقدم الأصل، فإذا مضى زمن يمكن فيه تحصيل الأصل والفرع أثموا عليها معا كالمحدث على ترك الصلاة وهذا نافع في الجمع بين إطلاق أصحابنا في الأصول التكليف وفي الفروع أن الصلاة والزكاة والصيام والحج لا تجب على الكافر الأصلي، ولم يزل هذا الإشكال يدور في النفس.
وجمع الإمام فخر الدين الرازي والنووي وغيرهما بأن مراد الفقهاء أنه لا يطالب بها في الدنيا مع كفرهم، فإذا أسلم أحدهم لا يلزمه قضاء الماضي ولم يتعرضوا لعقوبة الآخرة. ومراد الأصوليين العقاب الأخروي زيادة على عقاب الكفر، ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا، وهذه الطريقة فاسدة أوقعهم فيها قول الأصوليين: فائدته مضاعفة العقاب في الآخرة، وهو صحيح. ولم يريدوا به أنه لا تظهر فائدة الخلاف في خطاب الكفار بالفروع إلا في الآخرة، بل هو جواب عما التزم الخصم في مسائل خاصة لا تظهر للخلاف فيها فائدة دنيوية كالزكاة ونحوها، وذلك الأمر الخاص، ولا يستلزم من ذلك عدم الفائدة مطلقا، فإن الفقهاء فرعوا على هذا الخلاف أحكاما كثيرة تتعلق بالدنيا: وما ذكره هؤلاء في الجمع يقتضي أن لا يصح التخريج أصلا للتصريح بأن المراد هنا غير مراد ثم.

(1/326)


التنبيه الثاني: [هل يخاطب الكافر بالفروع]
زعم الشيخان أبو حامد الإسفراييني في كتابه وأبو إسحاق في "شرح اللمع"، وإمام الحرمين في باب السير من النهاية، ووالده الشيخ أبو محمد في الفروق، وأبو الحسين في المعتمد، والقاضي عبد الوهاب في الملخص، والإمام في المحصول، وغيرهم: هل الخلاف إنما يظهر في استحقاق العقاب لأجل إخلاله بالشرعيات أم لا؟ للاتفاق على أنه لا يلزم الفعل حال الكفر على أن يكون قضاء منه لكفره، وعلى أنه لا يلزم القضاء إذا أسلم، وحكاه صاحب المصادر أيضا عن الشريف المرتضى، فقال: فائدة الخلاف: أن من قال. بالخطاب قال: يستحقون الذم منا والعقاب منه تعالى على الإخلال بها، كما يستحقون ذلك بالإخلال بالإيمان، ومن قال: ليسوا مخاطبين فإنهم لا يستحقون ذلك على الإخلال بالعبادات بل على الكفر وترك الإيمان لا غير.
وقال القرافي: له فوائد:
منها : تيسير الإسلام، فإنه إذا علم أنه مخاطب وهو خير النفس بفعل الخيرات كان ذلك سببا في تيسير إسلامه.
ومنها : الترغيب في الإسلام وغير ذلك.
وقد قال أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا في كتاب شرائط الأحكام: إن عدم وجوب الصلاة وغيرها من العبادات على الكافر مفرع على القول بأنهم غير مخاطبين. قال: فإن قلنا بالصحيح إنهم مخاطبون فليس الإسلام من شروط وجوب الصلاة بل تجب الصلاة على الكافر كلما دخل الوقت.
فإن قيل: كيف تجب عليه وهي لا تصح منه؟
قلنا: كالمحدث لا تصح منه ومع ذلك تجب عليه بشريطة الوضوء، فيقال له: أسلم وصل، يقال للمحدث: توضأ وصل.
وقال القاضي أبو القاسم بن كج في التجريد والماوردي في باب قسم الصدقات: اختلف أصحابنا في المشركين هل هم مخاطبون بالزكاة وإن لم تؤخذ منهم؟ على وجهين. بناء على اختلاف أصحابنا هل خوطبوا مع الإيمان بالعبادات؟ فذهب أكثر أصحابنا إلى ذلك لمخاطبتهم بالإيمان وأنهم يعاقبون على تركه.

(1/327)


وقال آخرون وهو قول العراقيين: إنهم في حال الكفر إنما خوطبوا بالإيمان وحده ولم يتوجه إليهم الخطاب بالعبادات إلا بعد الإيمان. ا هـ.
وقال القاضي الحسين في تعليقه في كتاب الزكاة: الإسلام شرط في وجوب الإخراج لا في وجوب الزكاة، لأن الكفار مخاطبون بالشرائع، فأما الإخراج فلا يجب عليهم إلا المرتد في أحد القولين هذا كلامه وبه يجتمع كلام الأصوليين والفقهاء أيضا.
وبنى القفال عليه فيما حكاه القاضي الحسين في الأسرار إذا غنم الكفار أموال المسلمين لا يملكونها عندنا خلافا لأبي حنيفة.
قال القاضي: قلت: لو كانوا مخاطبين لما سقط الضمان عنهم، فقال القفال: الضمان واجب غير أنه سقط بالإسلام لئلا يرغبوا عنه خيفة انتزاع ما ملكوه من أيديهم. وبنى عليه القاضي الحسين إحباط العمل بالردة كما سبق. وبنى عليه المتولي حرمة التصرف في الخمر عليهم. قال: وعندنا أن التصرف في الخمر حرام عليهم. خلافا لأبي حنيفة.
وبنى عليه القاضي مجلي في الذخائر أنه إذا أسلم هل يصلي على قبر من مات من المسلمين في كفره؟ إذا قلنا: لا يصلي عليه إلا من كان من أهل الفرض. وبنى عليه أيضا صحة النذر من الكافر، وقضية البناء تصحيحه، لكن الأصح: المنع، لأنه قربة.
وتقدم عن الأستاذ أبي إسحاق أن إيجاب الضمان على الحربي إذا أسلم مفرع على خطابهم.
ومنها : لو مر الكافر بالميقات وهو مريد النسك فجاوزه، ثم أسلم وأحرم ولم يعد إليه، فعليه دم مع أنه حالة مروره لم يكن مكلفا عندهم بمعنى أنه يلزمه ذلك، وقال أبو حنيفة والمزني: لا دم عليه جريا على هذا الأصل.
ومنها : لو قهر حربي حربيا ملكه، ويخالف المسلم إذا قهر حربيا، فإنه لا يجري على من قهره الرق حتى يرقه الإمام أو نائبه، لأن للإمام اجتهادا في أسارى الكفار، والمسلم مأمور برعايته، والحربي لا يؤاخذ بمثل ذلك.
إذا عرف هذا فلو قهر الحربي أباه الحربي أو ابنه فهل يعتق عليه. بمجرد ذلك كما لو ملك المسلم فرعه أو أصله أو لا؟ بل يجوز له بيعه لأنه غير مكلف وجهان. أشبههما في الرافعي وغيره: الأول.
ومنها: يحرم على المسلم نكاح الوثنية قطعا، وهل تحل للذمي؟ فيه وجهان في الكفاية لابن الرفعة ولعل مدركها هذا الأصل.
ومنها : تحريم نظر الذمية إلى المسلمة على الأصح.
ومنها : أن المضطر المسلم إذا لم يجد إلا ميتة آدمي فيه وجهان أصحهما: نعم،

(1/328)


لأن حرمة الحي أعظم. قال الدارمي: والخلاف في ميتة المسلم. أما الكافر فيحل قطعا انتهى.
ولو كان المضطر كافرا ووجد ميتة مسلم ففي حله وجهان. أقيسهما في زوائد الروضة: المنع.
ومنها : أن الكافر يمنع من مس المصحف. قاله النووي في باب نواقض الوضوء من شرح المهذب، والتحقيق وقياسه: أنه لا يمكن من قراءته جنبا.
وقال الماوردي: الكافر لا يمنع من تلاوة القرآن ويمنع من مس المصحف ذكره في باب نية الوضوء. وفيه نظر مع جزمه بجواز تعليمه ممن يرجى إسلامه. وظاهر إطلاقهم ذلك تمكينه من حمل المصحف واللوح اللذين يتعلم فيهما، وقد يكون جنبا.
ومنها : إذا وجبت عليه كفارة فأداها حال كفره، ثم أسلم لا تجب عليه الإعادة، وهذا بخلاف ما لو اغتسل عن جنابته، أو توضأ أو تيمم ثم أسلم، فالمذهب الصحيح: وجوب الإعادة خلافا لأبي بكر الفارسي.

(1/329)


التنبيه الثالث: [استثناء بعض الصور]
إن القائلين بتكليفه ورجوع الفائدة لأحكام الدنيا استثنوا صورا لا يجري عليه فيها أحكام المسلمين، لأجل عقيدتهم بإباحته في صور:
منها : شرب الخمر لا يحدون به على المذهب لاعتقادهم إباحته. ومنها: لو غصب منه الخمر ردت عليه. ومنها: لا يمنع من لبس الحرير في الأصح. ومنها: الحكم بصحة أنكحتهم على ما يعتقدون. ومنها: لا يمنع من لبس الحرير في الأصح. مساجدنا. ومنها: أنه لا يحرم على الكافر الجنب اللبث في المسجد، لأن الكفار كانوا يدخلون مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويطيلون الجلوس، ولا شك أنهم كانوا يجنبون. ويخالف المسلم، فإنه يعتقد حرمة المسجد فيؤاخذ بموجب اعتقاده والكافر لا يعتقد حرمته ولا يلزم تفاصيل التكليف فجاز أن لا يؤاخذ به كذا علله الرافعي.
ثم قال: وهذا كما أن الكافر لا يحد على شرب الخمر، لأنه لا يعتقد تحريمه والمسلم يحد.
ومنها : تفضيل معاملتهم على معاملة المسلمين، فإنا إذا قلنا: ليسوا مخاطبين كانت معاملتهم فيما أخذوه على خلاف القواعد الشرعية أخف من معاملة المسلم، لأنه

(1/329)


عاص بذلك العقد، وقد نهاه الله عنه ولم ينه الكافر. ولذلك قال الشيخ عز الدين: ما يأخذه الإفرنج من أموال بعضهم بعضا يملكونه بالقهر بخلاف أخذهم أموال المسلمين لا يملكونها بالقهر، فيكون الحلال الذي بأيديهم أوسع من الحلال الذي بأيدي المسلمين. وظهر بما ذكرنا أن الخلاف نشأ في هذه الفروع من كونه غير ملتزم لأحكام المسلمين لا من أنه مخاطب أو لا.
ولهذا قال الشيخ أبو محمد في الفروق: وقد جزم بجواز المكث في المسجد للجنب. فإن قيل: أليس الصحيح أنهم مخاطبون بالفروع كالمسلمين؟.
قلنا: التعظيم ينشأ ويتصور من أصل العقيدة، والكافر غير معتقد سواء قلنا: إنهم مخاطبون أو لا، وفائدة الخطاب زيادة عقوبتهم في الآخرة.
قلت: ولهذا إذا ترافعوا إلينا وفرعنا على وجوب الحكم بينهم وهو الأصح، فإنا نجريهم على أحكامنا.

(1/330)


التنبيه الرابع: [إذا أسلم الكافر سقط عنه حق الله تعالى]
أن القائلين بتعلق الخطاب بهم قالوا: يشترط ما وجب منها عند الإسلام. قاله ابن الرفعة في كتاب النذر من المطلب، ثم استشكل ذلك بتخريج مجلي مسألة نذر الكافر على هذا الأصل من جهة أن القائل بصحة النذر إنما يقول بوجوب الوفاء إذا أسلم، ثم أجاب أن ذلك فيما إذا ألزمهم الشارع. أما إذا ألزمهم ذلك بالتزامهم فلا يسقط بالإسلام، ولهذا لو أتلف الحربي مال المسلم، ثم أسلم لا ضمان عليه، ولو عامله أسلم وجب قضاء دين المعاملة. ا هـ.
وأقول: لا ينبغي إطلاق القول هكذا بل إذا أسلموا سقط عنهم حقوق الله تعالى البدنية كالصلاة والصوم بمعنى أنه لا يجب عليهم قضاؤها.
أما المالية: فإن كانت زكاة فكذلك، لأن المغلب فيها حق الله تعالى، وإن كانت كفارة، كقتل الخطأ والظهار لم تسقط. ولو جاوز الميقات، ثم أسلم وأحرم دونه لزمه دم، نص عليه، وقال المزني: لا دم عليه ولو قتل صيدا في الحرم لزمه الجزاء على الأصح فلو أسلم لم يسقط.
وأما حقوق الآدميين: فإن كان قد التزم حكمنا بجزية أو أمان لم يسقط نفسا ولا مالا. ولهذا لو قتل ذميا ثم أسلم القاتل لم يسقط القصاص على المعروف. وفيه وجه في

(1/330)


"الذخائر". وإن لم يلتزم حكمنا سقط كالحربي إذا أتلف مالا أو نفسا في حال الحرب مع المسلمين. وعن الأستاذ أبي إسحاق أنه يجب. قال الرافعي: ويعزى للمزني في "المنثور".
أما حدود الله تعالى: فنص الشافعي في الأم على أن الذمي إذا زنى ثم أسلم لا يسقط عنه الحد، وأما ما وقع في الروضة من سقوط الحد والتعزير عنه عن نص الشافعي، وأن ابن المنذر نقله في الإشراف، فقد راجعت كلام ابن المنذر فوجدته نسبه لقوله إذ هو بالعراق فهو قديم قطعا، ونص الأم جديد فحصل في المسألة قولان. حكاهما الدارمي في الاستذكار وجهين.

(1/331)


التنبيه الخامس: [جريان الخلاف في خطاب التكليف]
إن الخلاف جار في خطاب التكليف بأسره، فكل واجب أو محرم هو من محل الخلاف وكذا المندوب والمباح بمعنى أن كل ما أبيح فهو مباح في حقهم عند من يرى شمول الخطاب لهم. واستشكل بعضهم تعلق الإباحة بهم إذا قلنا بتكليفهم، وقلنا: الإباحة تكليف، فإنه حكى الإجماع على أنه لا يجوز للمكلف الإقدام على فعل وإن كان مباحا في نفس الأمر حتى يعلم حكم الله فيه، والكفار لا يعتقدون حكم الله فيه حكما صحيحا، لأنهم يستندون فيه إلى شرعنا اللازم لنا ولهم، وشرعهم منسوخ. ومقتضى هذا البحث أن يأثموا في جميع أفعالهم حتى يؤمنوا، وفي كلام الشافعي عن بعض أهل العلم ما يشهد له.
أما خطاب الوضع: فمنه ما يرجع إليه لكون الطلاق سببا لتحريم الزوجة، فكذلك، ومنه ما يكون من باب الإتلافات والجنايات فلا يجري فيها الخلاف بل هي أسباب للضمان بالإجماع، وكذا ثبوت الدين في ذمتهم من هذا النوع، ووجوب الحدود عليهم.
والحدود إنما تكون كفارة للمسلمين كما صرح به الشافعي، والكافر ليس من أهل الأجر والثواب، وإنما هي في حقه كالدين اللازم، ولهذا تجب عليه كفارة الظهار ونحوها، وينبغي أن يكون الطلاق والأيمان من هذا القبيل. كذا قاله بعض المتأخرين.
قلت: ولا تصح دعوى الإجماع في الإتلاف والجناية بل الخلاف جار في الجميع. وقد سبق عن الأستاذ أبي إسحاق: أن الحربي إذا قتل مسلما أو أتلف عليه مالا ثم أسلم أنه يجب عليه ضمانها إذا قلنا: الكفار مخاطبون بالفروع. ونقلوا وجهين أيضا فيما لو دخل الكافر الحرم وقتل صيدا هل يضمنه؟ أصحهما: نعم. قال صاحب "الوافي":

(1/331)


وهما شبيهان بالوجهين في تمكينه من المسجد إن كان جنبا. يعني نظرا لعقيدته، بل قال إمام الحرمين في الأساليب من كتاب السير: إن الكفار إذا استولوا على مال المسلمين فلا حكم لاستيلائهم، وأعيان الأموال لأربابها، وكأنهم في استيلائهم وإتلافهم كالبهائم.
قال: ومن تقويم هذه المسألة على الخلاف في تكليفهم بالفروع. وقال: هم منهيون عن استيلائهم. ا هـ. ثم قال هذا المتأخر: ومنه الإرث والملك به، ولولا ذلك لما ساغ بيعهم لوارثهم وما يشترونه، ولا معاملتهم وكذا صحة أنكحتهم إذا صدرت على الأوضاع الشرعية، والخلاف في ذلك لا وجه له.
ومنه كون الزنا سببا لوجوب الحد وذلك ثابت في حقهم، ولهذا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين1، ولا يحسن القول ببناء ذلك على تكليفهم بالفروع، فإنه كيف يقال بإسقاط الإثم عنهم فيما يعتقدون تحريمه لكفرهم؟ وقد تقدم عن الأستاذ حكاية الإجماع أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه عليهم.
وأما تعلق الزكاة بأموالهم: قلنا: خلاف هل هو تعلق رهن أو جناية أو شركة؟ وهو الأصح، فالظاهر أنه لا يثبت في حقهم. وإن قلنا: إنهم مخاطبون بالزكاة، لأن المقصود تأثيمهم بتركها لا أخذها منهم حالة كفرهم، والتعلق المذكور إنما يقصد به تأكد الوجوب لأجل أخذ النصاب الواجب عن الضياع فلا معنى لإبقائه في حق الكافر، لأنه إن دام على الكفر لم يؤخذ منه، وإن أسلم سقطت، وما كان كذلك فلا معنى للتعلق الذي هو يوثقه فيه، والموجود في حق الكافر إنما هو الأمر بأدائها وهذا مشترك بينهم وبين المسلمين، وثبوتها في الذمة قدر زائد على ذلك.
قد يقال به في الكافر أيضا، وإثبات تعلقها بالدين أمر ثالث يختص بالمسلم، ولأن المعتمد في ثبوت الشركة قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] ولا يدخل الكافر في ذلك. والحاصل: أن الأدلة تنقسم إلى ما يتناولهم نحو {يَا أَيُّهَا
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ... حديث "6841" بإسناده عن أبي عمر قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" . فقالوا: نفضحهم ويجلدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. ورواه مسلم "3/1326" حديث "1699".

(1/332)


النَّاسُ} إذا قلنا بتكليفهم بالفروع، وإلى ما لا يتناولهم نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ونحوه فلا يتناولهم لفظا ولا يثبت حكمها لهم إلا بدليل منفصل.

(1/333)


التنبيه السادس: [حصول الشرط الشرعي هل هو شرط في التكليف؟]
إن من الناس من ترجم هذه المسألة بأن حصول الشرط الشرعي هل هو شرط في التكليف أم لا؟ وفيه نظر من وجهين:
أحدهما : أن الطهارة عن الحيض والنفاس شرط شرعي مع أن حصولها شرط التكليف بالصلاة والصوم، ولهذا استثنى بعضهم هذه المسألة من هذه الترجمة.
والثاني : قاله الصفي الهندي أن المحدث مكلف بالصلاة إجماعا يعني، وقضية هذه الترجمة وجود خلاف فيه.
قلت: زعم أبو هاشم: أن المحدث غير مخاطب بالصلاة إجماعا ولو بقي سائر دهره محدثا، وأنه لو مات عوقب على ترك الطهارة فقط، لأن الخطاب بالصلاة لا يتوجه إلا بعد تحصيل الطهارة.
قال الإمام: وخرق الإجماع في ذلك، فإن أراد أنه غير مخاطب بفعل الصلاة ناجزا مع بقاء حدثه، فصحيح.
قال المازري: وهذا الذي قاله ابن الجبائي صرح به ابن خويز منداد من أصحابنا، فقال: إن المحدث غير مخاطب بالصلاة ولو دخل الوقت، وأشار إلى أنه مذهب مالك، لقوله في الحائض: إذا طهرت قبل الغروب أعني في إدراكها الصلاة أن يبقى من الوقت قدر ما تغتسل فيه وتدرك ركعتين من العصر.
قلت: وهو أحد قولي الشافعي. أعني اعتبار إدراك زمن الطهارة للوجوب وهذا كله وإن كان خلافا واهيا لكن شمول الترجمة له أولى.
ومنهم من ترجمها بأن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان وقال ابن برهان: وهو خطأ لأن الصلاة غير صحيحة من الكافر وهو منهي عنه، فكيف يخاطب بها؟ وهذا أخذه من كلام إمام الحرمين السابق في تحقيق المذهب.
وقد يقال: بأنه خلاف قريب، لأن الإمام مسلم أنهم يعاقبون بترك الفروع لتركهم التوصل إليها على ما صرح به في المحدث لا لتنجيز الأمر عليهم بإيقاعها حالة الكفر وهذا عين مذهب الأصحاب وإنما الخلاف في أنا نقول: هم معاقبون بترك الفروع،

(1/333)


والإمام يقول بترك التوصل إليها، قال الخلاف إلى اللفظ. وقد قالوا: لو أتى الكافر الميقات مريدا لنسك، فأحرم منه لم ينعقد إحرامه. وقال في الشامل: في انعقاد إحرامه قولان. قال في البحر: وهو غلط عندي ولم يذكره غيره.

(1/334)


التنبيه السابع
أن هذه المسألة فرعية، وذكرها في الأصول لبيان أصل مختلف فيه، وهو أن الإمكان المشترط في التكليف هل يشترط فيه أن يكون ناجزا مع الخطاب أو لا؟ وقال إلكيا الهراسي في مطالع الأحكام: مأخذ هذه المسألة أنه ليس في ترتيب الثواني على الأوائل ما يخرجها عن أن تكون ممكنة. يعني أن ترتيب التكليف على اشتراط تقديم الإيمان، وهو ترتيب أمر ثان على وجود أمر أول، وليس ذلك ممتنعا، ولا موجبا للامتناع كالآحاد المترتبة في مراتب العداد كل واحد منها مرتب الوجود على ما قبله. الثاني على الأول، والثالث على الثاني، وهلم جرا.

(1/334)


التنبيه الثامن
أن المسألة ظنية عند القاضي لتعلقها بالظواهر من مسألة الاجتهاد، وخالفه إمام الحرمين، ورأى أنها قطعية، وقال: نحن نقطع بتكليفهم بالشرع جملة ونعامله تفصيلا، واختاره الغزالي في المنخول ونقل عن القاضي التردد في القطع.

(1/334)


التنبيه التاسع
أنه قد كثر استدلال الناس من القرآن على تكليفهم، وطال النزاع فيه وليس فيه أصرح من قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].

(1/334)


التنبيه العاشر
إن القائلين بالتكليف يحتاجون إلى الجواب عن حديث الجبة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لعمر، وكساها أخا له مشركا بمكة إلا أن يقال: عمر لم يأذن لأخيه في لبسها1،
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب يلبس أحسن ما يجد ، حديث "886" بإسناده عن عبد الله بن عمر "أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال: يا رسول الله، لو..... اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة" ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل، فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أكسكها لتلبسها" ، فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخا له بمكة مشركا. ورواه مسلم "3/1638" حديث "2068".

(1/334)


[التنبيه] الحادي عشر: [قرب الكفار]
ما يقع من الكفار من القرب التي لا تحتاج إلى النية فإنها تصح كالصدقة والضيافة والعتق، ولا يثاب على شيء في الآخرة إن مات كافرا وتوسع دنياه وإن أسلم. قال النووي: الصحيح الذي عليه أكثر العلماء أنه يثاب عليها أي بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير" 1 قال: وأما ما يحتاج إلى النية فلا تصح منه لعدم أهليته ا هـ.
ويرد عليه المرتد إذا قلنا بوجوب الزكاة عليه فأخرجها في حال الردة، فإنها تجزئ، وذلك يقتضي أن الكفر لا يمنع من اعتبار النية، فإذا أخرجها الأصلي فهلا نقول: إنه يوضع إثمها عنه في الآخرة، ثم نقول: نية التقرب ليست بشرط وغيرها يمكن منه في الزكاة والصوم ونحوها فهلا صحت، ولا سيما إذا صام يوما من رمضان يعتقد وجوبه لموافقته لوقت الصيام.
وقال ابن عطية: لا خلاف أن للكافر حفظة يكتبون سيئاته، واختلف في حسناته. فقيل: ملغاة يثاب عليها بنعم الدنيا فقط، وقيل: محصاة من أجل ثواب
ـــــــ
رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب من تصدق في الشرك ثم أسلم، حديث "1436"، ورواه مسلم "1/113" حديث "123" عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أمور كنت أتحنث بها في الجاهلية، هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير" .

(1/335)


الدنيا، ومن أجل أنه يسلم فيضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحد التأويلين في قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير" 1. وقيل: المعنى على إسقاط ما سلف من خير إذ جوزيت بنعيم دنياك.
وقال غيره في معنى هذا الحديث: يحتمل أن يكون تركه ما سبق لك من خير، والصحيح: الأول.
ولفظ أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله تعالى بكل حسنة كان زلفها، ومحا عنه كل سيئة كان زلفها، وكان عليه بعد الحسنة بعشر أمثالها أو لسبعمائة ضعف، والسيئة مثلها إلا أن يجاوز الله عنه" 2 رواه البخاري.
وأما المؤاخذة بما سلف في الكفر من أسباب معفو عنها بالإسلام بالاتفاق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" وقد ورد ما يشعر بخلافه، وهو ما في الصحيحين عن ابن مسعود قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يحسن الإسلام أيؤاخذ بما عمل في الجاهلية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر". قال المحب الطبري: والظاهر أنه منسوخ بما تقدم، وقال أبو الفرج: هو محمول على وجهين:
إحداهما: الإساءة في الإسلام بالشرك فإنه إذا أشرك في الإسلام عاد إلى ما كان عليه قبل الإسلام، وهذا بعيد، لأنا فيه تحققنا فيه الجب والهدم بالإسلام، فلا نحكم بعوده، وما من الله به فلا رجوع فيه.
والثاني: إذا جنى في الإسلام مثل جنايته في الكفر، فإنه يعير بذلك، ويقال له: هذا الذي كنت تفعله في الكفر، فهلا منعك منه الإسلام؟ فيكون هذا التوبيخ معنى المؤاخذة.
ـــــــ
1 سبق تخريجه.
2 رواه النسائي في سننه كتاب الإيمان وشرائعه، باب حسن إسلام المرء، حديث "4998" عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عز وجل عنها" . وذكره البخاري تعليقا في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حسن إسلام المرء.

(1/336)


فروع
الأول: [جنون الكافر قبل البلوغ يرفع عنه القلم]:
لو جن الكافر قبل البلوغ كان القلم مرفوعا عنه، وإن جن بعد البلوغ والكفر لم يرتفع القلم عنه، لأن رفع القلم عن المجنون بعد ثبوته رخصة، والكافر ليس من أهل الرخصة. ويشهد لهذا من كلام الأصحاب قولهم: إن المرتد يقضي الصلوات الفائتة في حال الجنون وينشأ من هذا أن من ولد كافرا، ولا أقول كافرا، بل بين كافرين بحيث يحكم له بالكفر الظاهر، وجن قبل بلوغه، واستمر كذلك حتى صار شيخا ومات على حاله دخل النار. كذا قاله الإمام السبكي في فتاويه وقال: إنه لم يجده منقولا. وفيما قاله أخيرا نظر، لأنه لم يوجد له حالة تكليف بل حكمه حكم الصبي يموت في صباه، فينبغي أن يكون على الخلاف المشهور في حكم أطفال الكفار في الآخرة.
[الفرع] الثاني
إذا قلنا: إنهم مخاطبون، فهل يجري في حقهم التخفيفات عن هذه الأمة من رفع الإثم المخطئ والناسي منهم أم لا؟ فيه نظر. وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" اختصاصه بالمسلمين إلا أن تفسر الأمة بأمة الدعوة لا أمة الإجابة، لكن نص الشافعي على أن الحدود إنما تكون كفارة لأهلها إذا كانوا مسلمين، وهو ظاهر، لأن الكافر ليس من أهل الأجر والثواب. والطهرة إنما هي في حقه كالديون اللازمة، ولذلك تلزمه بكفارة الظهار ونحوها ولا يزول عنه بها الإثم.
[الفرع] الثالث
[هل يوصف مال الكافر على الكافر بالحرمة؟].
هل يوصف مال الكافر بالحرمة إذا قلنا: إنهم مخاطبون؟ توقف فيه الشيخ أبو الفتح القشيري بناء على نقلهم: أن فائدة الخطاب إنما تظهر في الآخرة لكنا قد بينا فساده، ثم مال إلى التحريم لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه تبارك وتعالى: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما" 1 وهو عام.
ـــــــ
1 رواه مسلم "4/1994" كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث "2577".

(1/337)


[الفرع] الرابع
قولهم: فائدة التكليف عقابهم في الآخرة هذا إن لم يأتوا بها، وكذا إن أتوا بها فيما يشترط فيه نية القربة، وأما ما لا يشترط فيه كأداء الديون، والودائع، والعواري والغصوب والكفارة إذا غلب فيها شائبة القربة، فإذا فعلوها لم يعاقبوا في الآخرة على تركها. وكذلك إذا اجتنبوا المحرمات لم يعذبوا على ارتكابها إذا لم يرتكبوها. وقوله تعالى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] أي: على كفرهم الذين عذبوا لأجله.

(1/338)


مسألة: [التكليف هل يتوجه حال مباشرة الفعل أو قبلها؟].
التكليف هل يتوجه حال مباشرة الفعل المكلف به أو قبلها؟.
هذه المسألة من غوامض أصول الفقه تصويرا ونقلا.
ونقل المحصول مخالف لنقل الإحكام، وفيهما توقف على معرفة الفرق بين أمر الإعلام وأمر الإلزام، وقد ذكرناه في بحث الأمر.
فنقول: فعل المكلف ينقسم بانقسام الزمان إلى ثلاثة أقسام: ماض وحال ومستقبل.
أما باعتبار الاستقبال فلا شك أن الفعل يوصف بكونه مأمورا به قبل وجوده قطعا سوى شذوذ من أصحابنا. كذا قال الآمدي. وهذا أحد شقي ما اختاره إمام الحرمين، ونصب محل النزاع مع المعتزلة، فقال: ذهب بعض أصحابنا إلى أن المأمور به إنما يصير مأمورا حالة زمان الفعل، وأما قبل ذلك فلا يكون أمرا بل إعلام له بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورا. وقالت المعتزلة: إنما يكون مأمورا بالفعل قبل وقوعه. ثم استدل على أنه لا يمتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل وظن العبدري في شرح المستصفى الخلاف في هذه الحالة، فقال: أثبت المعتزلة ونفاه الأشعرية، فالقائم عند المعتزلة قادر على القعود، وعند الأشعرية غير قادر، ولم يتواردا على محل واحد، فإن مراد المعتزلة: قادر بالقوة، ومراد الأشعرية: قادر بالفعل ولا يصح إلا كذلك، فلا خلاف بينهما. ا هـ.
وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص: وأما تقدم الأمر على وقت المأمور به، فاختلفوا، فقال كثير من شيوخنا المثبتة: إن الأمر على الحقيقة الذي هو الإيجاب

(1/338)


والإلزام لا يتقدم على وقت الفعل، لأن ما تقدم فإنما هو إعلام وإنذار، وأن الأمر على الحقيقة ما قارن الفعل.
وقال الباقون من أصحابنا: إنه يتقدم على وقت الفعل.
واختلف المعتزلة في مقدار ما يتقدم عليه الأوقات بعد اتفاقهم مع أصحابنا على وجوب تقديمه بوقت يحصل به للمأمور فهمه والعلم بما يقتضي منه، فمنهم من قال: لا يجوز تقديمه عليه بأوقات كثيرة، ولا يجوز إلا بوقت واحد إلا لمصلحة، ومنهم من شرط في ذلك شروطا أخرى من كون تقدمه صلاحا للمكلف، ولغيره، وكون المكلف في جميع تلك الأوقات حيا سليما قادرا بجميع شرائط التكليف.
والذي يختاره القاضي أن الأمر المتقدم يجب تقديمه على الفعل بوقتين.
أحدهما : وقت إدراك واستكمال سماعه.
والثاني : لحصول فهمه والعلم بالمراد به. قال: ويبعد أن يقال: إنه يصح إيقاع الفعل في حال العلم بتضمن الأمر، لأنه يحتاج المكلف إلى تقدم دليل له على وجوب الفعل المقتضي لمدة شاملة، ثم تقدم على إيقاع ما حصل له العلم بوجوبه، وإلا لكان مقدما على ما لم يستقر له العلم به.
والكلام في هذا من وجوه:
أحدهما : في وجوب تقديم الأمر على وقت المأمور به.
والثاني : في أن تقدمه لا يخرجه عن أن يكون أمرا وإن كان إعلاما وإنذارا.
والثالث : في تصور تعلق الأمر بالفعل حال إيجاده.
الرابع : في مقدمات ما يتقدم الأمر به على الفعل من الأوقات. قال: والكلام في هذه المسألة إذا تعلق بأوامر الله لم يتصور فيه الخلاف، لأنه يتقدم عندنا على الفعل المأمور به بما لا غاية له من الأوقات، ولأنا لا نعتبر المصلحة في ذلك ولا نوجبها. تقدم الأمر على وقت المأمور به.
وقال القاضي أبو بكر في التقريب: قال المحققون من أصحابنا: الأمر قبل حدوث الفعل المأمور به أمر إيجاب وإلزام، ولكنه يتضمن الاقتضاء والترغيب والدلالة على امتثال المأمور به.
قال: وذهب بعض من ينتمي إلى الحق إلى أن الأمر حقيقة إذا قارن حدوث الفعل، وإذا تقدم عليه فهو أمر إنذار، وإعلام الوجوب عند الوقوع، وهذا باطل.

(1/339)


والذي نختاره: تحقق الوجوب قبل الحدوث وفي حال الحدوث، وإنما يفترق الحالتان في أمر. وهو أنه حالة المقارنة وإن تعلق به لكن لا يقتضي ترغيبا واقتضاء، بل يقتضي كونه طاعة بالأمر المتعلق به.
وزعمت القدرية بأسرها: أن الفعل في حال حدوثه يستحيل أن يكون مأمورا به. ولا يتعلق به الأمر إلا قبل وجوده. ثم طردوا مذهبهم في جملة الأحكام الشرعية، فلم يصفوا كائنا يحظر، ولا وجوب ولا ندب، وإنما أثبتوا هذه الأحكام قبل تحقق الحدوث، ثم حكى الخلاف الذي سبق عن القاضي عبد الوهاب، ومنه أخذ القاضي عبد الوهاب.
واختار الرازي: أن الأمر إنما يكون أمرا حال الفعل، وقبله إعلام بالأمر، وليس بأمر، وكذلك اختاره ابن عقيل من الحنابلة.
ورد عليهم بأن الفعل يجب بالأمر، فلو لم يكن ما يقدمه أمرا لاحتاج مع الفعل إلى تجديد أمر.
وأما الحال، أي: حالة وقوع الفعل، فقال أصحابنا: يوصى بكونه مأموما به. قال ابن برهان: وهو قول أهل السنة، ونفاه المعتزلة، وكذا حكاه القاضي أبو بكر، والقاضي عبد الوهاب، وإلكيا الطبري وغيرهم. ونقل عن المعتزلة أنه لا يتعلق الأمر بالفعل حال حدوثه، ولا بد أن يكون متقدما على وقت الفعل، وينقطع التعلق منه حال المباشرة.
وذكر الإمام في البرهان عن الشيخ أبي الحسن الأشعري أن الفعل في حال حدوثه مأمور به، ثم علله بما يقتضي أنه ليس مأمورا به. وهذا هو الذي يقتضيه أصله في أن الاستطاعة مع الفعل لا قبله. وأما أصله الآخر، وهو جواز تكليف ما لا يطاق، فهو يقتضي جواز التكليف بالفعل قبل الاستطاعة فلعله بناه على عدم الوقع.
ونقل ابن الحاجب عن الشيخ عدم انقطاع التكليف حال حدوث الفعل وليس بجيد، فليس للشيخ في المسألة صريح كلام، وإنما تلقي من قضايا مذهبه.
وقد نقل الإمام فخر الدين عنه أنه مكلف حال المباشرة، كذا قاله الهندي.
وقال الأصفهاني المتأخر في مصنفه المفرد في هذه المسألة: اعلم أن الأصوليين من الأشعرية والمعتزلة متفقون على أن المأمور بالفعل على وجه الامتثال إنما يكون مأمورا عند القدرة والاستطاعة، لكن للمعتزلة أصل: وهو أن الحادث لا يكون متعلقا للقدرة حال حدوثه كالباقي المستمر الوجود، فإنه لا يكون متعلقا للقدرة.

(1/340)


وللشيخ أصل، وهو أن القدرة الحادث تقارن المقدور الحادث ولا تسبقه، لأن القدرة الحادثة عرض، والعرض استحال بقاؤه، فلو تقدمت القدرة الحادثة على وجود الحادث، لعدمت عند وجود الحادث ضرورة استحالة بقائها، فلا يكون الحادث متعلقا للقدرة.
فلزم على أصل الشيخ: أن المأمور إنما يصير مأمورا بالفعل حال حدوثه لا قبله.
ولزم على أصل المعتزلة: أنه إنما يكون مأمورا بالفعل قبل حدوثه لا حالة حدوثه.
قال إمام الحرمين: لا حاصل لمتعلق حكم الأمر بالقدرة على مذهب أبي الحسن، فإن القاعد في حال قعوده مأمور بالقيام باتفاق أهل الإسلام، ولا قدرة له على القيام فكيف يتصور تعلق الأمر بالقدرة ومن لا قدرة له مأمور عنده؟.
قال: وهذا هو سبب اختلاف نقل صاحب المحصول و الإحكام، فكأن الإمام فخر الدين اعتبر مذهب الأصوليين من أصحاب الشيخ، والآمدي اعتبر ما قاله إمام الحرمين، وهو أن القاعد في حال القعود مأمور بالقيام بالاتفاق، فحصل الخلاف بين نقليهما. ا هـ.
وأما ابن الحاجب فإنه نسب خلاف المعتزلة للشيخ أبي الحسن، وجعل إمام الحرمين موافقا للمعتزلة، ورد ما نسبه إلى الشيخ، فقال: قال الشيخ الأشعري: لا ينقطع التكليف بالفعل حال حدوثه، واختاره وزيف قول الشيخ بأن قال: إن أراد الشيخ بعدم انقطاع التكليف حال حدوث الفعل أن تعلق التكليف بالفعل لنفس التكليف، وما يتعلق لنفسه بالشيء امتنع انقطاعه عنه. فيلزم أن لا ينقطع التكليف بعد حدوث الفعل أيضا، وهو باطل بالإجماع وإن أراد الشيخ أن تنجيز التكليف أي: كون المكلف مكلفا بالإتيان بالفعل حال حدوثه لعدم صحة الابتلاء، لأن الابتلاء إنما يصح قبل الشروع في الفعل فينتفي فائدة التكليف، لأن فائدة التكليف إما الامتثال أو الابتلاء وكل واحد منهما منتف. ولقائل أن يقول: مراد الشيخ أن التكليف حال حدوث الفعل تكليف بالإتيان بالكلي المجموعي، لا بإيجاد واحد من أجزاء الفعل، فلا يكون التكليف حال الحدوث تكليفا بإيجاد الموجود، لأن الكلي المجموعي لم يوجد حال حدوث الفعل فلم يمتثل بالكلية. فإن قيل: ما وجد من الفعل فقد انقطع عنه التكليف فيكون تعليق التكليف بالباقي، بالمجموع من حيث هو مجموع.

(1/341)


قلنا: التكليف بالذات قد تعلق بالمجموع من حيث هو مجموع وبأجزائه بالعرض، فما لم يحدث لم ينقطع التكليف.
وقال المازري: مذهب الأشعري أن القدرة المحدثة لا تتقدم المقدور، وعنده أن الأمر يتقدم الفعل المأمور به ويقارنه. وألزمه الإمام كون المكلف مأمورا بالقيام غير مقدور له قبل شروعه فيه، ومع هذا فهو مأمور به، فقد صار المأمور به غير مرتبط بكونه مقدورا عليه، وهذا غير لازم لشيخ، لأنه إذا استدل على صحة تعلق القدرة به لم يلزم أن يقول: إن عدم تعلقها به بعدم تعلق الأمر به، لأن هذا عكس الاستدلال، وهو غير لازم.
وقال إلكيا: اختلفوا في أن الحادث حال حدوثه هل يكون مأمورا به؟ فقال أصحاب الأشعري: مأمور به في تلك الحالة. وقالت المعتزلة: مأمور به قبل الحدوث، وإذا حدث خرج عن أن يكون مأمورا به، لأن الأمر استدعى التحصيل، والحاصل لا يحصل.
وأصحابنا بنوا ذلك على أن الاستطاعة مع الفعل، وأن المعدوم مأمور به، وعلى هذا فلا أمر عندهم قبل الفعل، وإنما هو إعلام على معنى تعلق الأمر الأزلي به انتهى.
وقال ابن برهان: الحادث حال حدوثه مأمور به خلافا للمعتزلة. ا هـ. ولم يتعرض للخلاف قبل الحدوث.
واعلم أنا إذا فسرنا حال حدوث الفعل بأنه أول زمن وجوده صح التكليف به، وكان في الحقيقة تكليفا بإتمامه وإيجاده بما لم يوجد منه، وإن أريد بحال حدوثه زمن وجوده من أوله إلى آخره لم يصح مطلقا، بل يصح في أول زمن وجوده وإن كلف بإتمامه كما مر، وعند آخر زمن وجوده يكون قد وجد وانقضى، فيصير من باب إيجاد الموجود، وهو محال.
وهذا المبحث ينزع إلى مسألة الحركة وأنها تقبل أم لا؟ وكأن الخلاف فيها لفظي، لأن من أجاز التكليف علقه بأول زمن الحدوث ومن منعه علقه بآخره.
واعلم أن للقرافي في المسألة طريقة أخرى، وهي أن قول الأشعرية: الأمر يتعلق حال الملابسة، ليس المراد أن حصول زمان الملابسة شرط في تعلق الأمر، بل الأمر متعلق في الأزل، فضلا عما قبل زمن الحدوث، وإنما البحث هاهنا عن صفة ذلك التعلق المتقدم لما تعلق في الأزل كيف تعلق؟ هل تعلق بالفعل زمن الملابسة أو قبله؟ فالتعلق سابق، والطلب متحقق، والمكلف مأمور بأن يعمر زمانا بوجود الفعل بدلا عن

(1/342)


عدمه، وهو زمن الملابسة، فإن لم يفعل ذلك في الزمن الأول أمر به في الزمن الثاني كذلك إلى آخر العمر إن كان الأمر موسعا، وإن كان على الفور فهو مأمور بأن يجعل الزمن الذي يلي زمان الأمر وجود الفعل، فإن لم يفعل فهو عاص، فزمن الملابسة ذكر لبيان صفة الفعل، لا لأنه شرط التعلق، وإنما يلزم نفي العصيان لو كان شرطا في التعلق.
قال: وبهذا التقرير يظهر عدم ورود الاستشكال المشهور على هذا القول أنه يؤدي إلى سلب التكاليف، إذ لو كان حصول الملابسة شرطا في تعلق الأمر لم يكن أحد عاصيا، لأنه يقول: الملابسة شرط في كونه مأمورا، وأنا لا ألابس الفعل، فلا يكون عاصيا، وذلك خلاف الإجماع فظهر أن التحقيق ما تقدم. ا هـ.
[حاصل ما تقدم]:
وحاصله: أن الأمر تعلق من الأزل بالفعل زمن الملابسة، وقيل: زمن الملابسة، وقيل: زمان ورود الصيغة تعلق مطالبة في الزمن الذي يلي ورود الصيغة، فإن لابس تعلق الأمر حال الملابسة، وإن أخر فإن كان الأمر مضيقا تعلق بالتأخير التأثيم وإن كان موسعا إلى أن لا يبقى من زمن السعة إلا قدر ما يسع الفعل تضيق، وجاء التأثيم، ولم يذكر هو إلا المضيق، ولكن يحتمله كلامه.
وأما الماضي وهو تعلق التكليف بالفعل بعد حدوثه كالحركة بعد انقضائها بانقضاء المتحرك فممتنع اتفاقا، لأنه تكليف بإيجاد الموجود، ولا يوصف بهذه الأوصاف إلا مجازا باعتبار ما كان عليه، وقال المازري: يوصف قبل وجوده بأنه مأمور به ومطلوب، وأما قبل وجوده فلا يصح وصفه بالاقتضاء والترغيب، لأنه إنما يمكن مما لم يوجد. والحاصل لا يطلب.
وهذا كقول المتكلمين: إن النظر يضاد العلم بالمنظور فيه، لأن النظر بحث عن العلم وابتغاء له، والحاصل لا يطلب، ويصح وصفه بأنه طاعة، وهل يصح وصفه بأنه مأمور به حال وقوعه؟ فيه الخلاف بيننا وبين المعتزلة وهم ينفونه. وأما تقضي الفعل فيصح وصفه بما سبق على معنى أنه كان عليها. وإذا قلنا: إنه حال الإيقاع وقبله مأمور به، فهل تعلق الأمر بهاتين الحالتين يكون متعلقا متساويا؟ على مذهبين:
أحدهما : نعم. فيتعلق الأمر بهما تعلق إيجاب وإلزام، وحكاه القاضي في مختصر التقريب عن المحققين من أصحابنا.

(1/343)


والثاني : أنه حال الوقوع تعلق إلزام، وأما قبله تعلق إعلام بأنه سيصير في زمان الحال مأمورا، ونسبه القاضي إلى بعض من ينتمي إلى الحق. قال: هو باطل.
وادعى القرافي أن إمام الحرمين قال فيه: إنه لا يرتضيه لنفسه عاقل.
وقال القاضي: والذي نختاره تحقق الوجوب على الحدوث، وفي حالة الحدوث، وإنما يفترق الحال في الترغيب والاقتضاء والدلالة، فإن ذلك يتحقق قبل الفعل، ولا يتحقق منه، وما أبطله القاضي اختاره الإمام الرازي في المحصول. ولأجله قال البيضاوي في المنهاج: التكليف يتوجه حالة المباشرة، وهو قضية نقل إمام الحرمين عن الأصحاب.
واختار إمام الحرمين والغزالي مذهب المعتزلة، ورأيا أن الفعل حال الإيقاع لا يتعلق الأمر به، ومدركهم فيه خلاف مدرك المعتزلة، فالمعتزلة بنوه على أصلهم: أن القدرة تتقدم على الفعل وانقطاع تعلقها حال وجوده، وأما الإمام فكاد يوافقهم، لأنه يقول: ما ليس بمقدور لا يؤمر به من يثبت قدرة، ويقول: الحال غير مقدور فلزم تقدم القدرة، فصرح من أجلها بتوجه الأمر قبل الفعل وانقطاعه معه. وأما الغزالي فإنه سلم مقارنة القدرة للمقدور، ووافق مع هذا على انتفاء الأمر حال الوقوف، فتوافقا في الأصل، وتخالفا في الفروع، ثم اعتمد هو وإمامه على أن حقيقة الأمر الاقتضاء والطلب، والحاصل لا يطلب.
وجوابه : أنه غير مقتضى حال الإيقاع، ولكنه مع هذا مأمور به بمعنى أنه طاعة وامتثال، وهذا لا ينكره أحد، لأن الطاعة موافقة الأمر، وهذا موافق.
والحاصل: أن الإمام والغزالي قد رأوا أن لا حقيقة للأمر إلا الاقتضاء، وقد يطلب، فبطل بنفسه، وتبعهم ابن الحاجب، وليس كذلك، بل له حقيقة، وهو كونه مأمورا به، وقد اعترض على من قال بتوجه الأمر قبل الفعل على سبيل الإعلام والإلزام بأنه يؤدي إلى أن لا يعصي بترك المأمور به، لأنه إن أتى به فذاك، وإلا فهو غير مكلف.
وأجيب عنه بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، والتارك مباشر للترك، وهو فعل منهي عنه حرام، فإثمه من هذه الجهة، وعلى ما سبق من طريقة القرافي لا إشكال.
وقال الشيخ شمس الدين الأصفهاني المتأخر: الحق أن تعلق الأمر بالفعل حال حدوثه لا قبله ليس بصحيح.
أما أولا: فإنهم بنوا على الاستطاعة والقدرة، ولا حاصل لتعلق الأمر بالقدرة رأي الأشعري قاله الإمام، فإن القاعد حال قعوده مأمور بالقيام بالاتفاق، ولا قدرة له

(1/344)


على القيام عند الشيخ في حال القعود، فكيف يستقيم تعلق الأمر بالقدرة؟ ومن لا قدرة له مأمور عندنا.
وأما ثانيا : فلأنه لا معنى لكون فعل العبد مقدورا له على أصل الشيخ، فإن فعل العبد مخلوق الله، فلا يكون واقعا بقدرة العبد، فلا يكون مقدورا له.
وأما ثالثا: فلأنه لا معنى لإثبات القدرة في العبد، فإنه إذا لم يكن للوصف الذي هو مقارن الفعل مدخل في الفعل فجميع الأوصاف المقارنة للفعل متشاركة في كونها مقارنة للفعل، فتميز بعضها عن بعض بكونها قدرة دون غيره، يكون تميزا من غير مميز وهو غير معقول.
وأما رابعا: فلأنه مبني على استحالة بقاء الأعراض وهو ممنوع.
وأما خامسا: فلأنه مبني على تقدير ثبوت هذا الأصل وكون قدرة العبد ثابتة، وكون الفعل مقدورا للعبد باعتبار الكسب يلزم أن تكون القدرة عند حدوث الفعل، بل يجوز أن تكون قبله.
وأما قولهم: لو تقدمت القدرة الحادثة على وجود الحادث لعدمت عند وجود الحادث ضرورة استحالة بقائها، فلا يكون الحادث متعلقا للقدرة، فلا طائل له. وذلك لأن القدرة إذا لم يكن لها مدخل في الفعل فكما جاز أن يقال: الفعل مقدور للعبد باعتبار مقارنة القدرة للفعل فكذلك جاز أن يقال: الفعل مقدور للعبد باعتبار تقدم القدرة على الفعل، بل لو فرضنا أن للقدرة مدخلا في الفعل لجاز أن تكون متقدمة بالزمان على الفعل كسائر الأسباب العدة.
والحق: أن طلب الفعل سابق على حدوثه، وكذلك القدرة على الفعل، ونعني بالقدرة على الفعل صفة خلقها الله في العبد، وجعلها بحيث لها مدخل في الفعل، بل كونها بحيث لها مدخل في الفعل بخلق الله تعالى، وأن جميع المحدثات بخلقه تعالى بعضها بلا أوساط ولا أسباب، وبعضها بوسائط وأسباب، لا بأن تكون تلك الوسائط والأسباب لذاتها اقتضت أو يكون لها مدخل في وجود المسببات، بل خلقها الله بحيث لها مدخل. فتكون الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله ومقدورة للعبد بقدرة خلقها الله فيه، والقدرة مميزة عن سائر الصفات من حيث لها مدخل في الفعل على هذا الوجه بخلاف سائر الصفات، فيكون المأمور مأمورا بالفعل قبل حدوثه، لكن هل ينقطع التكليف حال حدوث الفعل أم لا؟.
فنقول: الفعل المطلوب يكون آتيا قبل الآن طرف الزمان أو جزأه علم ذلك

(1/345)


باستقراء الأفعال المطلوبة في الشرع، بل يكون زمانيا إما على سبيل الاستمرار كالقيام في الصلاة أو على سبيل التدريج كقراءة الفاتحة في الصلاة. وعلى التقديرين يكون ذلك ذا أجزاء، ويكون الأمر بالذات متعلقا بذلك الفعل تعلقا بأجزائه محال الحدوث، وإن وقع بعض أجزاء الفعل لم يقع البعض بها، والأمر المتعلق بالفعل بالذات لا ينقطع ما لم يحدث الفعل، ولا يحدث الفعل إلا بعد حدوث أجزائه، فلا ينقطع التكليف إلا بعد حدوث جميع أجزائه، وبيان أن أفعال العباد مخلوقة لله ومقدرة للعبد على الوجه المذكور في أصول الدين.
تنبيهات
[التنبيه] الأول
أن إمام الحرمين لما حكى القول بأن الفعل حال حدوثه مأمور به، ثم ذكر مذهب الشيخ في القدرة، ثم قال: ومذهبه مختبط في هذه المسألة.
ثم قال: لو سلم مسلم لأبي الحسن ما قاله في القدرة جدلا فلا يتحقق معه كون الحادث مأمورا، هذا حاصله. ومذهبه في القدرة مخالف لمذهب أبي الحسن، ثم ألزم الشيخ تحصيل الحاصل. ثم قال: فقال في الحادث: هذا هو الذي أمر به المخاطب، فأما أن يتجه القول في تعلق الأمر طلبا واقتضاء مع حصوله، فلا يرضى هذا المذهب الذي لا يرتضيه لنفسه عاقل. ا هـ.
ومراده بالمذهب الذي لا يرتضيه عاقل إيجاب تحصيل الحاصل الذي ألزم به الشيخ، ولم يرد القول بأنه لا يتوجه إلا عند المباشرة، فإن ذلك هو المأثور عن الشيخ.
وقال القاضي: إنه الحق، وإن عليه السلف من الأمة وسائر الفقهاء، وهذا التأويل يتعين.
وتوهم القرافي وغيره أن مراد الإمام بذلك القول بالوجوب عند المباشرة، وشنعوا به على القائلين به، ومعاذ الله أن يقول الإمام ذلك، وهو مذهب شيخه. وإنما الشأن في أن مذهب الشيخ في الوجوب حالة المباشرة هل يلزم تحصيل الحاصل أم لا؟.
والصواب: أنه لا يلزم، وقد تقدم أنه ليس للشيخ نص صريح في تخصيص التكليف بحالة المباشرة، وأصل الوهم عليه في ذلك.

(1/346)


[التنبيه] الثاني:
[بناء المسألة على الاستطاعة مع الفعل].
إن إمام الحرمين وغيره ادعوا أن أصحابنا بنوا هذه المسألة على الاستطاعة مع الفعل. قال أبو نصر بن القشيري: وهذه الدعوة غير سديدة، وكيف تشيد وعند الأصحاب يمتنع تقدم القدرة على الفعل؟.
وصرحوا بجواز تقدم الأمر على الفعل، وقالوا: الفاعل قد يؤمر بالقيام بتحقق الأمر بالقيام في حالة القعود حتى اختلفوا. فقال الأكثرون: الأمر الذي تعلق بالفعل قبل حدوثه أمر إيجاب. وقال الأقلون: أمر إعلام، وإنما يتحقق الوجوب عند الحدوث، فإذن ليس بناء هذه المسألة عند الأصحاب مسألة الاستطاعة. نعم المعتزلة يبنون ويقولون: كما القدرة لا تتعلق بالموجود بزعمهم، فالأمر لا يتعلق بالموجود، ثم عول الإمام بعد التسفيه في البناء على أن الأمر طلب واقتضاء، والحاصل لا يطلب ولا يقتضى. وهذا اعتساف، لأن القاضي قال: معنى قولنا: إن الفعل في حال الحدوث مأمور به أنه طاعة، فتعلق الأمر قبل الحدوث يتضمن اقتضاء وترغيبا، وفي حال الحدوث يتضمن كونه طاعة، وهذا مما لا ينكره عاقل، فلا خلاف إذن. هذا كلام ابن القشيري.
واعلم أن الخلاف في أن القدرة مع الفعل أو قبله لا يكاد يتحقق، لأنه إن أريد بالقدرة سلامة الأعضاء والصحة فهي متقدمة على الفعل قطعا، فإذا انضمت الداعية إليه صارت تلك القدرة مع هذه علة للفعل المعين، ثم إن ذلك الفعل يجب وقوعه مع حصول ذلك المجموع، لأن المؤثر التام لا يتخلف عند أثره. وإن أريد بها مجموع ما لا يتم الفعل إلا به فليست سابقة على الفعل لفقدان الداعية إذ ذاك.
[التنبيه] الثالث: [الخلاف لفظي]
قيل: إن الخلاف في هذه المسألة لفظي، ولا يتفرع عليه حكم قطعا، فإنه لا خلاف بين المسلمين في أن المكلف مأمور بالإتيان بالفعل المأمور به قبل أن يشرع فيه، ولا يخرج عن عهدة الأمر إلا بالامتثال، ولا يحصل الامتثال إلا بالإتيان بالمأمور به. ويلزم منه أن يكون التكليف متوجها إلى الفعل قبل المباشرة، ولا ينقطع إلا بالفراغ عنه،

(1/347)


لأن الأمر بالذات يتعلق بمجموع المأمور به من حيث هو مجموع، وتعلقه بالأجزاء إنما هو بالعرض، فما لم يأت بمجموع المأمور به لا يكون ممتثلا، وما لا يكون ممتثلا لا ينقطع عنه التكليف.
[التنبيه] الرابع:
قولنا: إن الأمر إنما يصير أمرا حال الحدوث ولا يناقضه قولنا: لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع. كما قال الأصفهاني في شرح المحصول، لأننا إذا فسرنا النفي بعدم العلم بالحكم فواضح، وإن فسرناه بعدم الحكم فالخطاب في الأزل وتعلقه بالمكلف موقوف على بعثة الرسل. فمعنى قولنا: لا حكم للأشياء قبل الشرع، أي: لا يتعلق، فلا تناقض.
[التنبيه] الخامس
سبق أيضا أن المعدوم مأمور بشرط الوجود، وهو يناقض قولنا: الأمر إنما يتحقق حال حدوث الفعل قال الأصفهاني: دفعه أنا إن قلنا: الأمر الأزلي إعلام فواضح. وإن قلنا: إن خصوص كونه أمرا حادثا كمذهب القلانسي فكذلك، وإلا فنقول: يعرض له نسب يختلف بها، ففي الأزل له نسبة بها صار إلزاما خاصا، وهو إنه إلزام المأمور الفعل على تقدير وجوده، واستجماعه لشرائط التكليف عند حدوث الفعل. ثم يعرض له نسب أخرى في وجود المكلف وبحدوث الفعل يصير أمرا حينئذ، والأول كان إلزاما على تقدير، وأما إذا باشر المكلف الفعل فقد وقع ذلك بالتقدير، فالأمر المقدر صار محققا. وقولنا: إنما يكون أمرا عند وجود الفعل وقبله ليس بأمر كان نفيا لهذا الأمر الخاص لا الأمر المطلق.

(1/348)


مسألة: [النيابة في العبادات البدنية]:
مذهب الشافعي رضي الله عنه الأصل امتناع النيابة في العبادات البدنية إلا ما خرج بدليل، فقال في "الأم"1 في باب الإطعام في الكفارة: ولو أن رجلا صام عن رجل بأمره لم يجزه الصوم عنه، وذلك أنه لا يعمل أحد عن أحد عمل الأبدان، لأن
ـــــــ
1 انظر الأم "7/65".

(1/348)


الأبدان تعبدت بعمل، فلا يجزئ عنها أن يعمل عنها غيرها ليس الحج والعمرة بالخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وبأن فيهما نفقة، وأن الله فرضهما على من وجد إليهما السبيل، والسبيل بالمال. ا هـ.
وأغفل الأصحاب هذا ولم يحفظوا للشافعي فيه نصا وهذا في الجواز الشرعي. وأما العقلي: فقال ابن برهان: مذهب أصحابنا جريان النيابة في التكاليف والعبادات البدنية عقلا، ومنعه المعتزلة وساعدهم الحنفية.
والمسألة مبنية على حرف، وهو أن الثواب معلول الطاعة، والعقاب معلول المعصية عندهم، وعندنا: الثواب فضل من الله والعقاب عدل من الله، وإنما الطاعة أمارة عليه، وكذلك المعصية.
وذكر الآمدي نحوه وحرره الصفي الهندي، فقال: اتفقوا على جواز دخول النيابة في المأمور به إذا كان ماليا، وعلى وقوعه أيضا لاتفاقهم على أنه يجوز للغير صرف زكاة ماله بنفسه، وأن يوكل فيه، وكيف لا، وصرف زكاة الأموال الظاهرة إلى الإمام إما واجب أو مندوب؟ ومعلوم أنه لم يصرفها إلى الفقراء إلا بطريق النيابة.
واختلفوا في جواز دخولها فيه إذا كان بدنيا، فذهب أصحابنا إلى الجواز والوقوع معا محتجين بأنه غير ممتنع لنفسه، إذ لا يمتنع قول السيد لعبده: أمرتك بخياطة هذا الثوب، فإن خطته بنفسك أو استنبت فيه أثبتك، وإن تركت الأمرين عاقبتك، واحتجوا بالنيابة في الحج، وفيه نظر، فإنها لا تدل على جواز النيابة في المأمور به إذا كان بدنيا محضا، بل إنما يدل على ما هو بدني ومالي معا كالحج، ولعل الخصم يجوز ذلك، فلا يكون دليلا عليه كذا قال الهندي لكن الخلاف موجود فيه عند الحنفية.
فقالت طائفة منهم: إن الحج يقع عن المباشر، وللآمر ثواب الإنفاق، لأن النيابة لا تجزئ في العبادات البدنية إلا أن في الحج شائبة مالية من جهة الاحتياج إلى الزاد والراحلة. فمن جهة المباشرة تقع عن المأمور، ومن جهة الإنفاق تقع عن الآمر. لكن المرجح عندهم أنه يقع عن الآمر عملا بظواهر الأحاديث.
واحتج المانع بأن القصد من إيجاب العبادة البدنية امتحان المكلف، والنيابة تخل بذلك. وأجيب بأنه يخل به مطلقا فإن في النيابة امتحانا أيضا.
وزادها بعض المتأخرين تحقيقا، فقال: الأفعال المستندة إلى الفاعلين لا تخلو إما أن تكون شرعية أو لغوية، فإن كانت شرعية فلا تخلو إما أن تكون عبادة أو غيرها،

(1/349)


وغير العبادة لا تخلو إما أن ينظر فيها إلى جهة الفاعلية أو إلى جهة الفعل فقط من غير نظر إلى الفاعل. فمن الأول: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" 1 فأناط الشارع ذلك بالفاعل، فالعبرة فيه به، فتكون عهدة الفعل متعلقة به ولو وكيلا.
ومن الثاني: من باع عبدا وله مال فقصد الشارع تحصيل الفعل، واجتمعا في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فالتطليق المراد به تحصيل الفعل سواء كان بنفسه أو بنيابة أو بغيره كما تقرر في الفقه وهذا من الثاني. وحتى تنكح: المراد به الإسناد الحقيقي المتعلق بالفاعل.
وأما العبادات: فلا تخلو إما أن تكون وسيلة أو تقصد، فإن كانت وسيلة فلا تخلو إما أن تكون وسيلة تبعد عن العبادة جدا أو تقرب منها جدا، فإن كانت تبعد جدا، كتحصيل التراب والماء في الوضوء والتيمم، والصب عليه فالإجماع على جواز دخول النيابة فيها، وإن كانت تقرب منها جدا، فإما أن يعتبر فيها القصد أو لا يعتبر. فإن لم يعتبر كتوضئة الغير له أو تغسيله، فالإجماع على جواز الدخول.
وأما القصد فلا يخلو إما أن يكون بدنيا محضا أو مترددا بينهما. فإن كان الأول امتنعت النيابة، كالصلاة والصوم إلا في صورة واحدة، وهي ركعتا الطواف تبعا للحج، وكذا الصوم عن الميت على أصح القولين. وإن كان ماليا محضا كالزكاة دخلت النيابة في تفريقه، لأنه يشبه الوسيلة، إذ المال هو المقصود، وإن كان مترددا بينهما كالحج جاز عند اليأس والموت على ما تقرر في الفقه.
وأما اللغويات: فإن حقيقتها عند الإطلاق مصروفة إلى ما استند إليه الفعل حيث لم يبق ما يعم المجاز، ولا تعتبر العادة على المشهور، لأنها لا تصلح رافعة للحقيقة لتأدية ذلك إلى النسخ، ويمكن أن تجعل مخصصة على طريقة، والقدر المشترك لا يصح، لأنه إنما يكون إذا كان معنا حقيقتان دار الأمر بين أن يجعلهما مشتركين اشتراكا لفظيا، أو يأخذ بينهما قدرا مشتركا، فهنا يقال: القدر المشترك أولى، وأما في حقيقة ومجاز فلا.
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، حديث "2110". ورواه مسلم "3/164" حديث "1532".

(1/350)


مسألة: في الأعذار المسقطة للتكليف
السفر :
فمنها: السفر مسقط لشطر الصلاة الرباعية ومسوغ لإخراجها عن وقتها، إذ جوز له الشرع التأخير بنسبة الجمع ترخيصا، ثم منه ما ثبت لمطلق السفر وإن قصر. وعدها الغزالي أربعة: النفل لغير القبلة، وترك الجمعة، والتيمم، وأكل الميتة، وقد ينازع في هذين فإنهما لا يختصان بالسفر.
ومنه ما يختص بالطويل. وهي أربعة: القصر، والفطر، والجمع، والمسح على الخف ثلاثة أيام.
[الاضطرار]:
ومنها: الاضطرار لاستبقاء المهجة، رخص له الشرع بتناول الميتة بل أوجبه، لأنها إنما حرمت لأن تناولها يخل بمكارم الأخلاق، وذلك لا يقاوم استبقاء المهجة.
[الجهل]:
ومنها: الجهل، ولهذا لم يجب الحد على من جهل تحريم الزنا والخمر إذا كان ممن يخفى عليه، ولا تبطل الصلاة بجهله تحريم الكلام، ولا تبطل فورية الخيار بجهله ثبوته، ولا يكفر منكر حكم الإجماع الخفي كتوريث بنت الابن مع البنت، السدس.
وفي "تعليق" القاضي الحسين في الكلام على خيط الخياط كل مسألة تدق وتغمض معرفتها هل يعذر فيها العامي؟ على وجهين. وشرط الشافعي في تعصيته البيع على بيع أخيه العلم بالنهي 1 وعذره بالجهل، وكذا في النجش كما نقله الشافعي. خلافا للرافعي في قوله: إنه لم يشرطه.
والصواب: أن ذلك شرط في جميع المناهي، وقد روى النسائي: "آكل الربا وموكله وكاتبه إذا علموا بذلك ملعونون على لسان محمد يوم القيامة"2.
ـــــــ
1 يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب لا يبيع على بيع أخيه، حديث "2139" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبيع بعضكم على بيع أخيه" .
2 الحديث رواه النسائي في سننه "8/147" كتاب الزينة، باب الموتشمات، حديث "5102" بإسناده عن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: آكل الربا وموكله وكاتبه - إذا علموا ذلك -.... والواشمة والموشومة للحسن ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد الهجرة: ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. والحديث أصله في البخاري، حديث "4886"، ومسلم "2125" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ... الحديث.

(1/351)


[الخطأ]:
ومنها: الخطأ بأن يصدر منه الفعل بغير قصد، ولهذا لا يجب فيه القصاص لكن حكى الشيخ أبو حامد الإجماع على أنه حرام، وأن لا إثم فيه. حكاه عنه صاحب البيان في كفارة القتل. وينبغي أن يكون على الخلاف في وطء الشبهة ونحوه حتى لا يوصف لا بحل ولا حرمة على الأصح.
[الحيض]:
ومنها: الحيض مسقط للصلاة وكذا الصوم على الأصح المنصوص، وإنما وجب قضاؤه بأمر جديد.
[المرض]:
ومنها: المرض مسقط للقيام في الفرض ومسوغ لإخراج الصوم عن وقته، ويلتحق به دائم الحدث كالمستحاضة، والسلس مسقط لحكم الطهارتين في الصلاة.
[الرق]:
ومنها: الرق يسقط الجمعة، وكذلك الجماعة فلا تجب عليه قطعا.
[الإكراه]:
ومنها: الإكراه المبيح له التلفظ بكلمة الكفر، ولا خلاف في وجوب الاستسلام عند الإكراه على القتل والزنا.
وفي المبسوط للحنفية الإكراه أثره عند الشافعي في إلغاء عبارته كتأثير الصبا والجنون. وعندنا تأثيره في سلب الرضا، لا في إهدار عبارته، حتى كأن متصرفاته منعقدة، ولكن ما يعتمد لزومه الرضا كالبيع والشراء ونحوهما لا يلزم، وما لا يعتمد الرضا يلزم كالنكاح، والطلاق، والعتاق.
قال السرخسي: قد استكثر محمد - رحمه الله - الاستدلال بالآثار في أول كتاب الإكراه، وهذا لا يزيل الخطاب حتى يتنوع أفعاله إلى مباح وواجب وحرام. فالواجب

(1/352)


شرب الخمر وأكل الميتة وتارة قتل النفس والزنا، وذلك لا يكون إلا باعتبار الخطاب.
قال إلكيا الطبري: وجملة حقوق الله تعالى على الإنسان النظر أولا، ثم المعرفة ثانيا، ثم العبادات. فالشافعي يقول: العبادات البدنية ساقطة عن الصبي دون العبادات المالية، والعبادات المالية إذا أخذت من ماله، فلا نقول: يستحق بها ثواب من يمتحن بتنقيص الملك، ومراغم الشيطان الذي يعد الفقر، ولكن يؤخذ من ماله نظرا للفقراء لا نظرا للصبي المؤدي. وهذا معنى قولنا: إنما تؤخذ منه باعتبار المواساة لا باعتبار العبادة. فعلى هذا ليس على الصبي عبادة مالية ولا بدنية، وإنما المأخوذ من ماله نفقة أخوة الدين.
ثم لا يلزم قضاء العبادات بعد البلوغ، لعلم الشرع بأن ذلك يجر حرجا عظيما من حيث إن الصبي عام في أصل الفطرة، وقد صح قطعا مدة مديدة. والجنون عند الشافعي يسقط القضاء مع أنه لا يقطع بدوامه، ولا أنه عام فليس ملتحقا بالصبي مع الفرق القاطع. ولكن لأن أصله مسقط للقضاء ومقاديره ملحقة بأصله. وأبو حنيفة يلحق تفاصيله بأصل آخر: وهو الإغماء، ونظر الشافعي أولى. ويتصل بذلك أن عقله وتمييزه يقتضي تصحيح عبارته إلا أن الشافعي يقول: فسدت عبارته فيما صار بولي عليه فيها، وأما ما لم يصر مولى عليه فيها ففاسد فيما يضره، صحيح فيما ينفعه، حتى لو قال: أنا جائع يسمع منه ويطعم وأبو حنيفة فصل فقال: والأعذار المسقطة للوجوب بعد البلوغ تسعة: جنون ونوم وإغماء ونسيان وخطأ وإكراه وجهل بأسباب الوجوب وحيض ورق.
فالجنون رآه أبو حنيفة شبيها بالصبي في عدم العقل بالجنون من أصله، والصبي في كماله، وألحقه به من وجه دون وجه، والصبا يمنع وجوب حقوق الله كلها ماليها وبدنيها، وعندنا لا يمنع وجوب الحقوق المالية.
والسفه لا يؤثر في العبادات إجماعا وفي الطلاق والإقرار بالدم، ويؤثر في التصرفات عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة.
والنوم والإغماء يمنعان استكمال العقل، فلم نعتبر النوم لشيء من الأعذار المسقطة للعبادة، وفي العبادة كلام.
والسكر وإن شابه الإغماء في الصورة ولكنه لما كان مقصودا للعقلاء صار السكران كالصاحي وما يقتضي النسيان والإكراه والرق عذر يستقصى في الفقه.
والكفر ليس مسقطا للخطاب عندنا ولكن الشرع رخص مع وجود سبب الوجوب بإسقاط القضاء بعد الإسلام ورخص بإسقاط ضمان المتلفات، ورخص تصحيح أنكحتهم

(1/353)


ومعاملتهم كثيرا مما يخالف وضع الشرع ترغيبا لهم في الإسلام. وكل ذلك مستقصى في الفقه. فهذا مجموع الأعذار المسقطة مع وجود السبب الموجب إلا أن الشرع رجح سببا على سبب من غير أن يظهر عند تفاوت مراتب الأدلة في بعضها.
[الصبا]:
واعلم أن الصبا، إنما ينتصب عذرا في العبادات التي تقرر وجوبها بالشرع، ومن قال: إن وجوب الإسلام بالعقل فلا يتصور أن يقدر الصبا عذرا أصلا، ويقول: يجب على الله أن يعاقبه وهو قول باطل، وبنى عليه الحنفية صحة إسلامه على معنى تعلق الأحكام به لترتبها على الإسلام المرفوع، وأبطله الشافعي، لأنه لم يظهر انطواء ضميره، أو يقول: لا يحتمل الإسلام إلا فرضا، ولا يمكن تقديره فرضا فخرج لذلك عن كونه مشروعا.

(1/354)