البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

مباحث الكتاب العزيز
الكتاب
تعريف القرآن
...
الكتاب
[الكتاب] القرآن، وقيل: بل متغايران، ورد بقوله تعالى: عن الجن {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن: 1] وقال في موضع آخر: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] فدل على ترادفهما، وهو أم الدلائل، وفيه البيان لجميع الأحكام قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
قال الشافعي رضي الله عنه في "الرسالة"1: وليست تنزل بأحد نازلة في الدنيا إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، وأورد من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة، وأجاب ابن السمعاني بأنه مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة، لأنه أوجب عليه فيه اتباع الرسول، وحذرنا من مخالفته. قال الشافعي: فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قبل.
ويطلق القرآن، والمراد به المعنى القائم بالنفس الذي هو صفة من صفاته، وعليه يدل هذا المتلو، وذلك محل نظر المتكلمين، وأخرى ويراد به الألفاظ المقطعة المسموعة، وهو المتلو. وهذا محل نظر الأصوليين والفقهاء وسائر خدمة الألفاظ كالنحاة والبيانيين والتصريفيين واللغويين وهو مرادنا.
تعريف القرآن:
فنقول: هو الكلام المنزل للإعجاز بآية منه المتعبد بتلاوته.
فخرج بالمنزل الكلام النفسي، والألفاظ وإن كانت لا تقبل حقيقة النزول ولكن المراد المجاز الصوري.
وقولنا: للإعجاز خرج به المنزل على غير النبي صلى الله عليه وسلم موسى وعيسى عليهما السلام، فإنه لم يقصد به الإعجاز، والأحاديث النبوية. وقد صرح الشافعي في الرسالة: بأن السنة منزلة كالكتاب. قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. وخرج بقولنا: المتعبد بتلاوته ما نسخت تلاوته.
وقلنا بآية منه ولم نقل بسورة كما ذكره الأصوليون، لأن أقصر السور ثلاث آيات، والتحدي قد وقع بأقل منها في قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "20".

(1/356)


34]. وصرح أصحابنا في كتاب الصداق فيما لو أصدقها تعليم سورة فلقنها بعض آية، ثم نسيت لا يحسب له شيء، لأنه لا يسمى قرآنا، لعدم الإعجاز فيها. كذا قال ابن الصباغ. وقضيته أنه لا يحرم مثل ذلك على الجنب، لكن صرح الفوراني وغيره بالمنع.
وأما الآية والآيتان فحكى في الشامل: وجهين:
أحدهما : المنع، لأن الإعجاز إنما يقع بثلاث آيات وذلك قدر سورة قصيرة.
والثاني : يجوز، لأن الآية تامة من جنس له فيه إعجاز، فأشبه الثلاث. على أن أصحابنا اختلفوا في أن الإعجاز ممكن بالسورة، فإن البلغاء من العرب قد يقدرون على القليل دون الكثير.
وقال الآمدي، في الأبكار: التزم القاضي في أحد جوابيه الإعجاز في سورة الكوثر وأمثالها تعلقا بقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] والأصح: ما ارتضاه في الجواب الآخر، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق وجماعة من أصحابنا: أن التحدي إنما وقع بسورة تبلغ في الطول مبلغا يتبين فيه رتب ذوي البلاغة، فإنه قد يصدر من غير البليغ أو ممن هو أدنى في البلاغة من الكلام البليغ ما يماثل بعض الكلام البليغ الصادر عمن هو أبلغ منه، وربما زاد عليه، ولا يمكن ضبط الكلام الذي يظهر فيه تفاوت البلغاء، بل إنما ضبط بالمتعارف المعلوم بين أهل الخبرة والبلاغة.
قال الآمدي: ما ذكرناه إن كان ظاهر الإطلاق في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] غير أن تقييد المطلق بالدليل واجب، فإن حمل التحدي على ما لا يتفاوت فيه بلاغة البلغاء، ولا يظهر به التعجيز يكون ممتنعا. انتهى.
تنبيه
[الإعجاز في قراءة كلام الله]:
الإعجاز يقع عندنا في قراءة كلام الله لا في نفس كلامه على الصحيح من أقاويل أصحابنا كما قاله الأستاذ أبو منصور في المقنع. واحتج عليه بأن الإعجاز دلالة الصدق ودلالة الصدق لا تتقدم الصدق، وكلام الله تعالى أزلي، فوجب أن ينصرف ذلك إلى القراءة الحادثة، ولأن الإعجاز وقع في النظم، والنظم يقع في القراءة، وكلام الله ليس بحرف ولا صوت. فأما قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] فالمراد قراءة القرآن بدليل أنه تحدى بالسورة، والسورة ترجع إلى القرآن لا إلى المقروء.
قال: وذهب بعض أصحابنا إلى إثبات نفس كلام الله معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم،

(1/357)


واقتدى ببعض سلفنا في ذلك ممن كان يتعاطى التفسير. والتحقيق: ما ذكرناه.

(1/358)


مسألة: [الكلام]
الكلام عند جمهور الأشعرية مشترك بين الحروف المسموعة والمعنى النفسي، لأنه قد استعمل فيهما، والأصل في الإطلاق الحقيقة، أما استعماله في العبارات، فلقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 13] {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] وقيل: حقيقة في النفسي مجاز في اللساني، وقيل: عكسه، والثلاثة محكية عن الأشعري، حكاها ابن برهان عنه.
والكلام النفسي عند الأشعري نسبة بين مفردين قائمة بذات المتكلم، ويعنون بالنسبة بين المفردين تعلق أحدهما بالآخر وإضافته إليه على جهة الإسناد الإفادي. أي: بحيث إذا عبر عن تلك النسبة بلفظ يطابقها ويؤدي معناها كان ذلك اللفظ إسنادا إفاديا. ومعنى قيام هذه النسبة بالمتكلم: أن الشخص إذا قال لغيره: اسقني ماء، فقبل أن يتلفظ بهذه الصيغة قام بنفسه تصور حقيقة السقي وحقيقة الماء والنسبة الطلبية بينهما فهذا هو الكلام النفسي والمعنى القائم بالنفس، وصيغة قوله: اسقني ماء عبارة عنه ودليل عليه.
وقال القرافي: معنى الكلام النفسي أن كل عاقل في نفسه الأمر والنهي والخبر عن كون الواحد نصف الاثنين وعن حدث العالم، وهو غير مختلف، ثم يعبر عنه بعبارات ولغات مختلفة، فالمختلف هو الكلام اللساني، وغير المختلف هو الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى، ويسمى ذلك العلم الخاص سمعا، لأن إدراك الحواس إنما هو علوم خاصة أخص من مطلق [علم]، فكل إحساس علم وليس كل علم إحساسا. فإذا وجد هذا العلم الخاص في نفس موسى المتعلق بالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى سمي باسمه الموضوع له في اللغة وهو السماع.
وقال الغزالي في بعض عقائده: من أحال سماع موسى كلاما ليس بصوت ولا حرف فليحل يوم القيامة رؤية ذات ليست بجسم ولا عرض.

(1/358)


مسألة: [إنزال القرآن بلغة العرب]:
وأنزله الله تعالى بلغة العرب. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وأورد ابن السمعاني سؤالا حسنا، وهو أنه كان من تقدم من الأنبياء عليهم السلام مبعوثا إلى قومه خاصة فجاز أن يكون مبعوثا بلسانهم. أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمبعوث إلى جميع الأمم، فلم صار مبعوثا بلسان بعضهم؟
أجاب: بأنه لا يخلو إما أن يكون عليه السلام مبعوثا بلسان جميعهم، وهو خارج عن العرف والمعهود من الكلام، ويبعد بل يستحيل أن ترد كل كلمة من القرآن مكررة بكل الألسنة، فتعين أن يكون بلسان بعضهم، وكان اللسان العربي أحق من كل لسان، لأنه أوسع وأفصح، ولأنه لسان أولى بالمخاطبين.
قال الشيخ جمال الدين بن مالك: ونزل بلغة الحجازيين إلا قليلا، فإنه نزل بلغة التميميين فمن القليل إدغام {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 4] في سورة الحشر {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54] في قراءة غير نافع وابن عامر فإن الإدغام في المجزوم والأمر المضاعف لغة تميم، والفك لغة أهل الحجاز. وكذلك نحو {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [البقرة: 17] {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ} [البقرة: 282] و {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] و {يُمْدِدْكُمْ} [آل عمران: 120] و {مَنْ يُشَاقِقِ} [النساء: 115، والأنفال: 13] و {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} [التوبة: 63] و {اسْتَفْزِزْ} [الإسراء: 64] {فَلْيَمْدُدْ} [مريم: 75] {وَاحْلُلْ} [طه: 27] و {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ} [طه: 81].
قال: وقد أجمع القراء على نصب {إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] لأن لغة الحجازيين التزام النصب في المنقطع، وإن كان بنو تميم يتبعون، كما أجمعوا على نصب {مَا هَذَا بَشَراً} [يوسف: 31]، لأن القرآن نزل بلغة الحجازيين، وزعم الزمخشري أن قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] أنه استثناء منقطع جاء على لغة بني تميم، ثم نازعه في ذلك.

(1/359)


مسألة: [الإعجاز في النظم والإعراب]:
ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله معجز، لأن العرب عجزوا عن معارضته. واختلفوا في سببه هل كان لكونه معجزا أو لمنع الله إياهم عن ذلك مع قدرتهم عليه، وهو المسمى بالصرف؟ على قولين: والثاني: قول المعتزلة. والأول: قول الجمهور. وقيل: الإعجاز لخروجه عن سائر أساليب العرب فزادهم أسلوبا لم يكن فيما بينهم في لغتهم، لأنها محصورة في الرجز، والشعر، والرسالة، والخط، ومنظوم الكلام ومنثوره، والقرآن خارج عن ذلك، فجرى مجرى إحياء الموتى في زمن عيسى، لأن في وقته كان الأطباء يدعون تصحيح المرضى، ولم يكن دعوى إحياء الموتى فزاد عليهم إحياء الموتى، وكذلك عصا موسى. وقيل: الإعجاز في بلاغته وجزالته وفصاحته المجاوزة لحدود جزالة كلام العرب.
قال إمام الحرمين في الأساليب: والمختار: أن الإعجاز في جزالته مع أسلوبه الخارج عن أساليب كلام العرب، والجزالة والأسلوب معا متعلقان بالألفاظ، والمعنى في حكم الشائع للفظ، واللفظ هو المتبوع، ومن ثم لا تقوم ترجمة القرآن مقامه في إقامة فرض الصلاة خلافا للحنفية، واختار ابن السمعاني في القواطع نحوه.
وحكي عن الجاحظ أن الإعجاز منع الخلق عن الإتيان به، وليس هذا قول الصرفة المعزو إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري والمعتزلة. فإن قول الصارفة معناه: أن قواهم كانت مجبولة على الإتيان بمثله، ثم سلبهم الله تلك القوة، فصاروا عاجزين، والإعجاز حاصل بهذا حصول ابتداء، لأن سلب الإنسان قدرته أعجز له وأبلغ من تحديه بما لم يقدر عليه.
وقيل: الإعجاز فيه غرابة النظم مع الإخبار عن الغيب وإتيانه بقصص الأولين والآخرين.

(1/360)


مسألة: هل الإعجاز في النظم وحده دون الإعراب
...
مسألة
وهل الإعجاز في النظم وحده دون الإعراب أو في النظم والإعراب معا؟ خلاف. حكاه المتولي في التتمة والروياني في البحر في باب صلاة الجماعة، وفرعا عليه ما لو لحن في الصلاة ولم يغير المعنى، كما لو قال: الحمد لله، ونصب الهاء، هل

(1/360)


تجزئه؟ وجهان بناء على هذا الأصل.
قالت الحنفية: القرآن عبارة عن النظم الدال على المعنى.

(1/361)


مسألة :
لا يجوز ترجمة القرآن بالفارسية وغيرها بل يجب قراءته على هيئته التي يتعلق بها الإعجاز لتقصير الترجمة عنه، ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذي خص به دون سائر الألسنة. قال الله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] هذا لو لم يكن متحدى بنظمه وأسلوبه، وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربي المتحدى بنظمه فأحرى أن لا تجوز بالترجمة بلسان غيره. ومن هاهنا قال القفال في فتاويه: عندي أنه لا يقدر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية. قيل له: فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن. قال: ليس كذلك، لأن هنا يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن البعض أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله. وفرق غيره بين الترجمة والتفسير، فقال: يجوز تفسير الألسن بعضها ببعضه، لأن التفسير: عبارة عما قام في النفس من المعنى للحاجة والضرورة.
والترجمة: هي بدل اللفظة بلفظة تقوم مقامها في مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ، فكأن الترجمة إحالة فهم السامع على الاعتبار، والتفسير تعريف السامع بما فهم المترجم، وهذا فرق حسن، وما أحاله القفال من ترجمة القرآن ذكره الإمام أبو الحسين أحمد بن فارس عن كتاب فقه العربية أيضا.
فقال: لا يقدر أحد من المترجمين على أن ينقل القرآن إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وترجمت التوراة، والزبور وسائر كتب الله تعالى بالعربية، لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب. ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله جل وعلا: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعت فيه حتى تبسط مجموعها، وتفك منظومها، وتظهر مستورها فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطته لهم، وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء. وكذلك قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11] ا هـ.
وظهر من هذا أن الخلاف المحكي عن أبي حنيفة في جواز قراءته بالفارسية لا

(1/361)


يتحقق لعدم إمكان تصوره على أنه قد صح عن أبي حنيفة الرجوع عن ذلك. حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي. والذين لم يطلعوا على الرجوع من أصحابه قالوا: أراد به عند الضرورة والعجز عن القرآن، فإن لم يكن كذلك امتنع، وحكم بزندقة فاعله.
وجعل القفال فيما حكاه القاضي الحسين في الأسرار مأخذ الخلاف في ذلك القول بخلق القرآن، وفيه نظر، ورأيت في كلام بعض الأئمة المتأخرين من المغاربة أن المنع مخصوص بالتلاوة، فأما ما ترجمته بالفارسية: فإن ذلك جائز للضرورة، وينبغي أن يقتصر من ذلك على بيان الحكم المحكم منه والقريب المعنى بمقدار الضرورة إليها من التوحيد وأركان العبادات، ولا يتعرض لما سوى ذلك ويؤمر من أراد الزيادة على ذلك بتعلم اللسان العربي.
قال: وهذا هو الذي يقتضيه الدليل، ولذلك لم يكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر إلا بآية واحدة محكمة1 بمعنى واحد وهو توحيد الله تعالى والتبري من الإشراك، لأن النقل من لسان إلى لسان قد تقصر الترجمة عنه لا سيما من العربي إلى العجمي. فإن كان معنى المترجم عنه واحدا عدم أو قل وقوع التقصير فيه بخلاف المعاني إذا كثرت لا سيما إذا اشتركت الألفاظ وتقاربت، أو تواصلت المعاني أو تقاربت. وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لضرورة التبليغ، أو لأن معنى تلك الآية كان عندهم مقررا في كتبهم وإن خالفوه: وإفراد هذه المسألة بكلامي هذا لا تجده في كتاب فاشكر الله على هذا المستطاب.
ـــــــ
1 يشير ما رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، حديث "7" وفيه "ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من أتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .

(1/362)


مسألة: [الألفاظ غير العربية في القرآن]:
لا خلاف أنه ليس في القرآن كلام مركب على غير أساليب العرب، وأن فيه أسماء أعلام لمن لسانه غير اللسان العربي كإسرائيل، وجبرائيل، ونوح، ولوط، وإنما اختلفوا هل في القرآن ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب؟ فذهب القاضي إلى

(1/362)


أنه لا يوجد ذلك فيه، وكذلك نقل عن أبي عبيدة، وادعى أن ما وجد فيه من الألفاظ المعربة مما اتفق فيه اللغات.
وبحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحوية، وذهب الشافعي إلى وجودها فيه، وستأتي المسألة في ذيل الحقيقة الشرعية.

(1/363)


مسألة
في القرآن المجاز خلافا للأستاذ، وأبي بكر بن داود الظاهري. وسيأتي أيضا إن شاء الله تعالى.

(1/363)


مسألة: [المحكم والمتشابه]
في القرآن محكم ومتشابه كما قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] وقد يوصف جميع القرآن بأنه متشابه بمعنى أنه متماثل في الدلالة والإعجاز، قال الله تعالى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، وقد يوصف بأنه محكم بمعنى أنه أحكم على وجه لا يقع فيه تفاوت. قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] والمحكم إما بمعنى المتقن كقوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} والقرآن كله محكم بهذا المعنى، وإما في مقابلة المتشابه كقوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} .
واختلف فيه بهذا المعنى على أقوال كثيرة منتشرة:
أحدها : أنه ما خلص لفظه من الاشتراك ولم يشتبه بغيره، وعكسه المتشابه.
الثاني : أن المحكم ما اتصلت حروفه، والمتشابه ما انفصلت، كالحروف المتقطعة في أوائل السور، وهو باطل فإن الكلمة قد تتصل ولا تستقل بنفسها، وتتردد بين احتمالات وتعد متشابهة.
الثالث : أن المحكم ما توعد به الفساق، والمتشابه ما أخفى عقابه، وقد حرمه كالكذبة والنظرة. حكاه الأستاذ أبو منصور عن واصل بن عطاء وغيره ومنهم من حكى عنه أن المحكم هو الوعيد على الكبائر والمتشابه على الصغائر، ونسبه لعمرو بن عبيد أيضا.
الرابع : أنه ما احتج به على الكفار حكاه الأستاذ أبو منصور عن الأصم.
الخامس : أنه الوعد والوعيد في الأحكام، والمتشابه: القصص وسير الأولين،

(1/363)


مسألة: [ورود المهمل في القرآن]
لا يجوز أن يرد في القرآن ما ليس له معنى أصلا، لأنه مهمل، والباري سبحانه منزه عنه، أو له معنى ولكن لا يفهم، أو يفهم لكن أريد به غيره خلافا، ولهذا أولوا آيات الصفات على مقتضى ما فهموه.
قال الغزالي: ولا يقال: إن فائدته في مخاطبة الخلق بما لا يفهمونه، لأنا نقول: المقصود به تفهيم من هو أهل له، وهم الأنبياء والراسخون في العلم وقد فهموه، وليس من شرط من يخاطب العقلاء بكلام أن يخاطبهم بما يفهم الصبيان والعوام بالإضافة إلى العارفين بل على من لم يفهم أن يسأل من له أهلية الفهم كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وأما الحروف التي في أوائل السور فقد اختلفوا فيها على نيف وثلاثين قولا، فقيل: إنما أسماء للسور.
وقيل: ذكرها الله لجمع دواعي العرب إلى الاستماع، لأنها تخالف عادتهم فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الإصغاء، فلم يذكرها لإرادة معنى.
وقيل: إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع كلام العرب تنبيها على أنه ليس يخاطبهم إلا بلغاتهم وحروفهم.
وقال ابن عباس: كل حرف منها مأخوذ منها اسم من أسماء الله، فالكاف من كاف، والهاء، من هاد، والعين من عليم، والصاد من صادق، فكأنه تعالى قال لنبيه: أنا كافيك وهاديك.

(1/369)


وقيل: إن الله تعالى أنزل هذه الأحرف إبطالا لحساب اليهود، فإنهم كانوا يحسبون هذه الأحرف حالة نزولها ويردونها إلى حساب الجمل، ويقولون: إن منتهى دولة الإسلام كذا، فأنزل الله هذه الأحرف تخبيطا للحساب عليهم. وقيل: ذكرها الله جريا على عادة العرب في ذكر النسيب في أوائل الخطب والقصائد، ولهذا اختصت بالأوائل.
وقيل: غير ذلك.
واعلم أن الرازي ترجم المسألة في المحصول بأنه يجوز أن يتكلم الله ورسوله بشيء، ولا يعني به شيئا، ثم استدل بما يقتضي أن الخلاف في التكلم بما لا يفيد، وبينهما فرق، فإنه يمكن أن يعني به شيئا، وهو يفيد في نفسه، ويمكن أن يفيد ولا يعني به شيئا، فمحل النزاع غير منقح، لأن في كلام القاضي عبد الجبار وأبي الحسين في المعتمد نصب الخلاف في أنه هل يجوز أن يتكلم الله بشيء ولا يعني به شيئا؟.
وقال الأصفهاني: والحق أرجو أن الكلام بما لا يعني به مفرع على التحسين والتقبيح العقليين، ووجهه ظاهر، ثم قال: وحينئذ فيسهل المنع على مذهب المعتزلة أما على رأي الأشاعرة، فكيف يستقيم لهم المنع مع أنهم لا يقولون التحسين والتقبيح العقليين؟.
قلت: لا جرم جزم ابن برهان بالجواز، فقال: يجوز عندنا أن يشتمل كلام الله على ما لا يفهم معناه. ثم نقل عن بعضهم أنه لا يجوز، ثم تمسك بأسماء السور.
قال: ومعلوم أنا لا نفهم معانيها، وقد تعبدنا بها، وخرج من كلامه أن الخلاف في أنه هل يجوز أن يشتمل كلام الله على ما لا يفهم معناه أم لا؟ وهذا خلاف ما سبق من أن الخلاف في أنه لا يعني به شيئا فإما أن يكونا مسألتين وهو الظاهر ويرتفع التخليط من كلامهم.
وفصل ابن برهان فقال: ما يتعلق بالتكليف فلا بد أن يكون معلوما عندنا وإلا لأدى إلى تكليف المحال، وبين ما لا يتعلق به هل يجوز أن يشمل الكتاب عليه وإن كان لا يفهم معناه؟.
وسلك الأصفهاني في تصوير موضع الخلاف بأنه لا يخلو إما أن يكون المراد الكلام اللساني أو النفساني، فإن كان النفساني فيستحيل أن لا يكون له معنى، وإن كان اللساني فجوازه، لأنه من قبيل الأفعال، ويجوز عندنا أن يفعل ما يهدي به ويضل به، وأن يفعل ما لا يضل به ولا يهدي به.

(1/370)


مسألة: [لا زائد في القرآن]
ولا يجوز أن يقال: فيه زائد إلا بتأويل، بل يقول: إن واضع اللغة لا يجوز عليه العبث، فليس فيها لفظ زائد لا لفائدة، وقول العلماء: ما زائدة و الباء زائدة ونحوها، فمرادهم أن الكلام لا يختل معناه بحذفها أي: لا تتوقف دلالته على معناه الأصلي على ذكر ذلك الزائد لا أنه لا فائدة فيه أصلا، فإن ذلك لا يجوز من واضع اللغة فضلا عن كلام الحكيم. وجميع ما قيل فيه زائد، ففائدته التوكيد، لأن الزيادة في الكلام تقتضي أن ذلك لم يصدر عن غفلة، وإنما صدر عن قصد وتأمل، وذلك من فوائد التوكيد اللفظي.
وقال ابن الخشاب في المعتمد: اختلف في هذه المساواة فذهب الأكثرون إلى جواز إطلاق الزائد في القرآن نظرا إلى أنه نزل بلسان القوم وبمتعارفهم، وهو في كلامهم كثير، ولأن الزيادة بإزاء الحذف هذا للاختصار والتخفيف، وذلك للتوكيد والتوطئة ولا خلاف بينهم أن في التنزيل محذوفات جاءت للاختصار لمعان رائقة، فكذلك تقول في الزيادة.
ومنهم من لا يرى الزيادة ف ي شيء من الكلام، ويقول: هذه الألفاظ التي يحملونها على الزيادة جاءت لفوائد ومعان تخصها، فلا أقضي عليها بالزيادة. وممن كان يرى هذا أبو محمد عبد الله بن درستويه، وكان عاليا في هذا الباب مغاليا في علم الاشتقاق، وكان يزاحم الزجاج فيه بمنكبه، ويذكر أنه ناظره فيه.
قال ابن الخشاب: والتحقيق: أنه إن أراد القائل بالزيادة إثبات معنى لا حاجة إليه فهذا باطل، ولا يقوله أحد، لأنه عبث فتعين أن إلينا به حاجة لكن الحاجة إلى الأشياء قد تختلف بحسب المقصد فليست الحاجة إلى اللفظ الذي عد هؤلاء زيادة كالحاجة إلى اللفظ الذي رأوها مزيدة عليه، لأن هذا بالاتفاق منا ومنهم إن اختل اختلفت به الفائدة فلم يكن الكلام دونه كلاما والذي سموه زائدا إن اختل به كانت الفائدة دونه، والجملة مقتصرا بها على ما يميزه أكثرية فائدة وأقرب، وعلى هذا يرتفع الخلاف.

(1/371)


مسألة: [دلالة الكلام على خلاف ظاهره]
لا يجوز أن يعني بكلامه خلاف ظاهره مطلقا، ولا يدل عليه دليل خلافا للمرجئة، لأن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره لا يدل عليه فهو كالمهمل، والخطاب بالمهمل باطل. وفرعها أبو الحسين على قاعدة التحسين والتقبيح، والخلاف في آيات الوعيد والأحاديث الدالة على وعيد الفساق لا غير على ما فهم من أدلتهم.
أما الأمر والنهي فلا خلاف فيهما وإنما قلنا: مطلقا، لأنه يجوز ذلك عند إطلاق الظاهر كما سيأتي عند جواز ورود العموم وتأخر الخصوص عنه، وكذلك الحديث.
قال الشافعي في "الرسالة"1: وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظاهره، وقال الأستاذ أبو إسحاق: كل ما ورد في خطاب من يلزم المصير إليه فله وجه في اللغة.
واختلف أصحابنا فقال بعضهم: كل ما ورد منه فهو منه مجموعه وما اتصل به جملة قبله أو بعده يقتضي ظاهرا لا يحتاج معه إلى تأويل يحمل عليه، ومن ظن ذلك فيه فقد أخطأ الحق. ومن زعم أن كلام الله ورسوله ورد على وجه محتاج فيه إلى تأويل له بدليل يقترن به، فكأنه قال: إنه متكلم بكلام لا يصح الكلام بمثله.
وقال آخرون: إنه يصح أن يرد من كلامه ما لا يستعمل ظاهره، ويحمل على خلافه بدليل يبين مقصوده إذا جاز في تلك اللغة مثله، وهو اختلافهم في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فقال: ما كان أنهم يعرفون مجموع الخطاب في مقتضى الظاهر ويحكمون به، وقيل: معنى قوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} هو من عرف الأدلة والوجوه التي يحمل عليها الخطاب عرف ما أريد به وإن كان ظاهره يقتضي خلافه.
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "322".

(1/272)


مسألة: [بقاء المجمل في القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم]:
هل بقي في القرآن مجمل لا يعرف معناه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ منعه بعضهم، لأن الله تعالى أكمل الدين. وقال آخرون بإمكانه، وفصل إمام الحرمين وابن القشيري فجوزاه فيما لا يكلف فيه، ومنعاه فيما فيه تكليف خوفا من تكليف ما لا يطاق.

(1/272)


مسألة: [النص والظاهر]
وينقسم باعتبار آخر إلى نص وظاهر:
أما النص: فهو في اللغة: الظهور والارتفاع، ومنه يقال: نصصت بمعنى أظهرت، ومنه نصت الصبية جيدها إذا أظهرته، وقولهم للمنارة منصة، ومنها المنصة التي تجلس عليها العروس، وفي الحديث "كان إذا وجد فرجة نص" أي دفع السير وأسرع.
ويطلق باصطلاحات:
أحدها: مجرد لفظ الكتاب والسنة، فيقال: الدليل إما نص أو معقول وهو اصطلاح الجدليين. يقولون: هذه المسألة يتمسك فيها بالنص، وهذه بالمعنى والقياس.
الثاني : ما يذكر في باب القياس، وهو مقابل الإيماء.
الثالث : نص الشافعي فيقال: لألفاظه نصوص باصطلاح أصحابه قاطبة.
الرابع : حكاية اللفظ على صورته كما يقال: هذا نص كلام فلان.
الخامس : يقابل الظاهر وهو مقصودنا، وقد اختلف فيه، فقال إلكيا الطبري: نص الشافعي على أن النص كل خطاب علم ما أريد به من الحكم، قال: وهذا يلائم وضع الاشتقاق، لأنه إذا كان كذلك كان قد أظهر المراد به وكشف عنه، ثم على هذا ينقسم النص إلى ما يحتمل وإلى ما لا يحتمل.
وقال ابن برهان: لعل الشافعي إنما سمى الظاهر نصا، لأنه لمح فيه المعنى اللغوي، قال المازري: أشار الشافعي والقاضي أبو بكر إلى أن النص يسمى ظاهرا، وليس ببعيد، لأن النص في أصل اللغة الظهور، وقال الإبياري، يطلق النص على ما لا يتطرق إليه احتمال وسواء عضده بالدليل أم لا، وهذا الذي ذكره الشافعي هو اختيار القاضي، وقد يكون نصا بوضع اللغة، وقد يكون بالقرينة، وقيل: ما استوى ظاهره وباطنه، وأشار بالباطن إلى المفهوم، وإلا فليس للفظ ظاهر ولا باطن في الحقيقة، وقال أبو الحسين في المعتمد: قال الشافعي في حد النص: إنه خطاب يعلم ما أريد به من الحكم سواء كان مستقلا بنفسه، أو علم المراد به بغيره، ولا يسمى المجمل نصا، وبهذه حده الكرخي.
وذكر عبد الجبار أن النص هو خطاب يمكن أن يعرف المراد به. وشروطه ثلاثة: أن يتكون لفظا، وأن لا يتناول إلا ما هو نص فيه، وإن كان نصا في عين واحدة

(1/373)


وجب أن لا يتناول ما سواها، وإن كان نصا في أشياء كثيرة وجب أن لا يتناول ما سواها.
والثالث : أن تكون إفادته لما يفيده ظاهره غير محتمل. وقال الأستاذ أبو منصور: النص في عرف أهل اللغة: اللفظ الذي لا يمكن تخصيصه، كقولك: أعط زيدا أو خذ من عمرو، وافعل أنت ونحوه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: "ولن تجزي عن أحد بعدك" 1.
وأصله الظهور. قال: وحكي عن بعض أصحابنا قال: لا لفظ في كلام العرب إلا وأصله التخصيص، وذهب هذا القائل إلى أن الألفاظ كلها نصوص، عموما كان أو ظاهرا، وزعم أن الاحتمال في قوله عليه السلام لأبي بردة: يجزئك جواز قياس الدلالة على أن غيره في معناه. قال: وهذا لا ينفي الأول، لأن الاحتمال في غير النص. ا هـ.
[بعد قول من أنكر وجود النص].
ومقابل هذا في البعد قول من أنكر وجود النص، وحكاه الباجي عن أبي محمد بن اللبان الأصفهاني، وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن أبي علي الطبري أنه قال: يعز وجود النص إلا أن يكون كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الأخلاص: 1] قال: والصحيح: خلافه. قال في "المنخول": قال الأصوليون: لا يوجد النص في الكتاب والسنة إلا في ألفاظ متعددة، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الأخلاص: 1] {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] وقوله عليه السلام: "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا" 2 وقوله: "ولا يجزي عن أحد بعدك" .
قال: وأما الشافعي فإنه يسمي الظاهر نصا، ثم قسم النص إلى ما يقبل التأويل
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، حديث "5545"، ورواه مسلم "3/1552" حديث "1961".
2 الحديث رواه البخاري، كتاب الحدود، باب الشروط التي لا تحل في الحدود، حديث "2725" رواه مسلم "3/1324" حديث "1697" عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنما قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر – وهو أفقه منه – نعم، فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل" : قال: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها..." الحديث.

(1/374)


وإلى ما لا يقبله. قال: والمختار عندنا أن النص ما لا يتطرق إليه تأويل. وتسمية الظاهر نصا صحيح لغة وشرعا، لأنه ظاهر اللفظ.
قال: وقال الأستاذ أبو إسحاق: الظاهر هو المجاز والنص هو الحقيقة. ا هـ.
وقال القاضي أبو حامد المروزي: النص ما عري لفظه عن الشركة، وخلص معناه من الشبهة، حكاه القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وقيل: هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا، وقيل: التطوع على المراد. وقيل: ما استوى ظاهره وباطنه، حكاه الأستاذ أبو منصور قال: وإنما تصح هذه الأقوال على القول بأن الظاهر المجمل والعموم ليس بنص.
قال: والصحيح في حد النص عندنا: أنه الدال على الحكم باسم المحكوم فيه سواء كان ذلك النص محتملا للتأويل والتخصيص أو غير محتمل، قال: وإلى هذا ذهب الشافعي، وأشار إليه في كتاب "الرسالة"1، وكذلك حكاه أبو الحسن الكرخي عن أصحاب الرأي. وعلى هذا الأصل يكون العموم نصا، وكذلك المجمل في الإيجاب، وإن كان مجملا في صفة الواجب أو مقداره أو وقته.
وقال في كتاب "التحصيل": اختلف أصحابنا في تسمية العموم والظواهر المحتملة نصوصا، فقيل: إنه مختص بالذي لا يحتمل التخصيص كقوله عليه الصلاة والسلام: "ولن تجزئ عن أحد بعدك" 2. وقال الجمهور: إن العموم والظواهر كلها نصوص.
[الفرق بين النص والظاهر] وقال الروياني في البحر في الفرق بين النص والظاهر وجهان:
أحدهما : أن النص ما كان لفظه دليله، والظاهر: ما سبق مراده إلى فهم سامعه.
والثاني : النص ما لم يتوجه إليه احتمال، والظاهر ما توجه إليه احتمال.
وقال أبو نصر بن القشيري: اختلف الناس في النص، فقيل: ما لا يتطرق إليه تأويل، وقيل: ما استوى ظاهره وباطنه، ونوقض بالفحوى، فإنها تقع نصا وإن لم يكن معناه مصرحا به لفظا، وأجيب بأنه لا استقلال له، ثم صار الصائرون إلى عزة النصوص في الكتاب حتى لا يوجد إلا قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "359".
2 حديث صحيح، ما سبق تخريجه.

(1/375)


وفي السنة "لن تجزئ عن أحد بعدك" و "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا" وهذا ليس بشيء، بل كل ما أفاد معنى على قطع مع انحسام التأويل فهو نص. والشافعي قد يسمي الظاهر نصا في مجاري كلامه، وهو صحيح في وضع اللغة، لأن النص من الظهور ولكن الاصطلاح ما ذكرنا.
قال: ويلتحق بالنص ما حذف من الكلام لدلالة الباقي على المحذوف، ولكن لا يشك في معناه، كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فإن معناه: فأفطر.
وأما الظاهر، فقال القاضي: هو لفظة معقولة المعنى لها حقيقة ومجاز، فإذا وردت على حقيقتها كانت ظاهرا، وإن عدلت إلى جهة المجاز كانت مؤولة. وهذا صحيح في بعض الظواهر.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: الظاهر لفظ معقول يبتدر إلى فهم البصير لجهة يفهم الفاهم منه معنى، وله عنده وجه في التأويل مسوغ لا يبتدره الفهم.
قال ابن القشيري: وهذا أمثل.
قال: ومن الظواهر مطلق صيغ الأمر، فإن ظاهره الوجوب، ومنه صيغ العموم وفحوى الخطاب لا يدخله التخصيص والتأويل، لأنه نص.
قال: والظهور قد يقع في الأسماء وفي الأفعال والحروف مثل إلى، فإنه ظاهر في التحديد والغاية، مؤول في الحمل على الجمع.

(1/376)


مسألة: [القراءات السبع]
القراءات عن الأئمة السبعة متواترة عند الأكثرين، منهم إمام الحرمين في البرهان، خلافا لصاحب البديع من الحنفية، فإنه اختار أنها مشهورة. وقال السروجي في باب الصوم من الغاية: القراءات السبع متواترة عند الأئمة الأربعة، وجميع أهل السنة خلافا للمعتزلة فإنها آحاد عندهم. وقال في باب الصلاة: المشهور عن أحمد كراهة قراءة حمزة لما فيها من الكسر والإدغام وزيادة المد، ونقل عنه كراهة قراءة الكسائي، لأنها كقراءة حمزة في الإمالة والإدغام. وهذا خطأ، لأن الأمة مجمعة ما عدا المعتزلة على أن كل واحدة من السبع ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتواتر فكيف تكره؟. ا هـ.

(1/376)


وقال بعض المتأخرين: التحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة، وأما تواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم ففيه نظر، فإن إسناد الأئمة السبعة لهذه القراءات موجودة في كتبهم، وهي نقل الواحد عن الواحد، فلم تستكمل شروط التواتر.
وقد يجاب عن هذا على تقدير التسليم بأن الأمة تلقتها بالقبول، واختاروها لمصحف الجماعة، وقطعوا بأنها قرآن، وأن ما عداها ممنوع من إطلاقه، والقراءة به، قاله القاضي أبو بكر في الانتصار. وبهذا الطريق حكم ابن الصلاح أن أحاديث الصحيحين مقطوع بها وإن رويت بالآحاد، لتلقي الأمة لها بالقبول، وهو قول جمهور الأصوليين، أي: أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول أفاد القطع، وإذا كان كذلك فيما يثبت بالواحد، فما ظنك فيما وجد فيه غالب شروط التواتر أو كلها؟ لكن كلام ابن الصلاح هذا قد رده كثير من الناس كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتاب المرشد الوجيز: كل فرد فرد منها متواتر، أما المجموع منها فلا حاجة إلى البينة على تواتره. قال: وقد شاع ذلك على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم. قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب.
قال: ونحن نقول بهذا، ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق، واتفقت عليه الفرق مع أنه شائع من غير نكير، فإن القراءات السبع المراد بها: ما روي عن الأئمة السبعة القراء المشهورين، وذلك المروي عنهم ينقسم إلى ما أجمع عليه عنهم لم تختلف فيه الطرق، وإلى ما اختلف فيه بمعنى أنه بقيت نسبته إليهم في بعض الطرق، فالمصنفون لكتب القراءات يختلفون في ذلك اختلافا كثيرا، ومن تصفح كتبهم أحاط بذلك، فلا ينبغي أن يقرأ بكل قراءة تعزى إلى إمام من هؤلاء السبعة حتى يثبت ذلك ويوافق لغة العرب.
قال: وأما من يهول في عبارته قائلا: بأن القراءات السبعة متواترة، لأن القرآن أنزل على سبعة أحرف فخطؤه ظاهر، لأن الأحرف المراد بها غير القراءات السبعة.
والحاصل : أنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء، بل القراءات كلها تنقسم إلى متواتر وغيره، وغاية ما يبديه مدعي تواتر المشهور منها كإدغام أبي عمرو، ونقل الحركة لورش، ووصل ميمي الجمع وهاء الكناية لابن كثير، أنه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءات إليه بعد أن يجهد نفسه في استقراء الطرق

(1/377)


والواسطة إلا أنه يبقى عليه التواتر من ذلك الإمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل فرد فرد من ذلك. وهاهنا تسكب العبرات، فإنها من ثم لم تنقل إلا آحادا إلا اليسير منها، بل الضابط: أن كل قراءة اشتهرت بعد صحة إسنادها وموافقتها خط المصحف، ولم ينكر من جهة العربية فهي القراءة المعتمدة، وما عدا ذلك شاذ وضعيف. ا هـ.
وكذا كلام غيره من القراء يوهم أن القراءات السبعة ليست متواترة كلها وأن أعلاها ما اجتمع فيه صحة السند وموافقة خط المصحف والإمام، والفصيح من لغة العرب، وأنه يكفي فيها الاستفاضة، وليس الأمر كما ذكر هؤلاء، والشبه دخلت عليهم من انحصار أسانيدها في رجال معروفين، فظنوها كأخبار الآحاد.
وقد أوضح الإمام كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله ذلك. فقال: انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم، فقد كان يتلقاه أهل كل بلد بقراءة إمامهم الجم الغفير عن مثلهم، وكذلك دائما، فالتواتر حاصل لهم، ولكن الأئمة الذين قصدوا ضبط الحروف، وحفظوا عن شيوخهم منها جاء السند من جهتهم، وهذا كالأخبار الواردة في حجة الوداع هي آحاد، ولم تزل حجة الوداع منقولة عمن يحصل بهم التواتر عن مثلهم في عصر، فهذه كذلك، وهذا ينبغي التفطن له، وأن لا يغتر بقول القراء فيه، والله أعلم.
وقال القاضي ابن العربي في القواصم: وقال بعضهم كيفية القراءة اليوم أن يقرأ بما اجتمع فيه ثلاثة شروط: ما صح نقله، وصح في العربية لفظه، ووافق خط المصحف، وذكر خلافا كثيرا في ذلك. قال: وإنما أوجب ذلك كله أن جميع السبع لم يكن بإجماع، وإنما كان بإخبار واحد واحد، والمختار: أن يقرأ المسلمون على خط المصحف فكل ما صح في النقل لا يخرجون عنه، ولا يلتفتون إلى ما سواه. قال: والمختار لنفسي إذا قرأت بما نسبت لقالون أن لا أهمز ولا أكسر منونا ولا غير منون، فإن الخروج من كسرة إلى ياء مضمومة لم أقدر عليه، وما كنت لأمد مد حمزة، ولا أقف على الساكن، ولا أقرأ بالإدغام الكبير، ولو رواه سبعون ألفا، ولا أمد ميم ابن كثير ولا أضم هاء عليهم وإليهم، وهذه كلها أو أكثرها عندي لغات لا قراءات، لعدم ثبوتها، وإذا تأملتها رأيتها اختيارات مبنية على معان ولغات. قال: وأقوى القراءات سندا قراءة عاصم وابن عامر، وقراءة أبي جعفر ثابتة لا كلام فيها.
قال: وطلبت أسانيد الباقين فلم أجد فيها مشهورا، ورأيت بناء أمرها على اللغات، وأطلق الجمهور تواتر السبع، واستثنى ابن الحاجب وغيره ما ليس من قبيل

(1/378)


الأداء، كالمد، واللين، والإمالة، وتخفيف الهمز يعني أنها ليست بمتواترة، وهذا ضعيف.
والحق: أن المد والإمالة لا شك في تواتر المشترك منها وهو المد من حيث هو مد، والإمالة من حيث هي إمالة، ولكن اختلفت القراء في تقدير المد في اختياراتهم، فمنهم من رآه طويلا، ومنهم من رآه قصيرا، ومنهم من بالغ في القصر، ومنهم من تزايد كحمزة وورش بمقدار ست ألفات، وقيل خمس، وقيل: أربع، وعن عاصم: ثلاث، وعن الكسائي: ألفين ونصف.
وقالون: ألفين، والسوسي: ألف ونصف. وقال الداني في التيسير أطولهم مدا في الضربين جميعا يعني المتصل والمنفصل ورش وحمزة، ودونهما عاصم، ودونه ابن عامر والكسائي، ودونهما أبو عمرو من طريق أهل العراق، قال: وقالون من طريق أبي نشيط بخلاف عنه، وهذا كله على التقريب من غير إفراط، وإنما هو على مقدار مذاهبهم من التحقيق والحذف. ا هـ.
فعلم بهذا أن أصل المد متواتر، والاختلاف والطرق إنما هو في كيفية التلفظ.
وكان الإمام أبو القاسم الشاطبي "رحمه الله" يقرأ بمدين طولي لورش وحمزة، ووسطي لمن بقي، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه كره قراءة حمزة لما فيها من طول المد وغيره، وقال: لا تعجبني، ولو كانت متواترة لما كرهها. إلا أن يقال. إنما كره كيفيتها لا أصلها.
وكذلك أجمعوا على أصل الإمالة، وإنما اختلفوا في حقيقتها مبالغة وقصرا، فإنها عندهم قسمان: محضة، وهي أن ينحى بالألف إلى الياء، وبالفتحة إلى الكسرة، وبين بين، وهي كذلك إلا أن الألف والفتحة أقرب وهي أصعب الإمالين، وهي المختارة عند الأئمة، وكذلك تخفيف الهمزة أصله متواتر، وإنما الخلاف في كيفيته.
وأما الألفاظ المختلفة فيها بين القراء فهي ألفاظ قراءة واحدة، والمراد تنوع القراء في أدائها، فإن منهم من يرى المبالغة في تشديد الحرف المشدد، فكأنه زاد حرفا، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يرى الحالة الوسطى، فهذا هو الذي ادعى أبو شامة عدم تواتره، ونوزع فيه، فإن اختلافهم ليس إلا في الاختيار، ولا يمنع قوم قوما.

(1/379)


مسألة: [يجوز إثبات قراءة حكما لا علما بخبر الواحد]:
قال القاضي أبو بكر في الانتصار: قال قوم من الفقهاء والمتكلمين: يجوز إثبات قراءات وقراءة حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة، وكره ذلك أهل الحق، وامتنعوا منه.
وقال قوم من المتكلمين: إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة وأوجه وأحرف إذا كان صوابا في اللغة، ومما سوغ التكلم بها ولم يقحم حجة بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قرأ بها بخلاف موجب رأي القائسين واجتهاد المجتهدين، وأبى ذلك أهل الحق ومنعوه وخطئوا من قال بذلك وصار إليه. ا هـ.

(1/380)


مسألة: [ليست القراءات اختيارية].
وليست القراءات اختيارية، ولهذا قال سيبويه في كتابه في قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً} [يوسف: 31] وبنو تميم يرفعونها إلا من درى كيف هي في المصحف، وإنما كان ذلك، لأن القراءة سنة مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تكون القراءة بغير ما روي عنه. ا هـ. خلافا للزمخشري حيث اعتقد أن القراءات اختيارية تدور مع اختيار الفصحاء واجتهاد البلغاء.
ورد على حمزة قراءته {وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] بالخفض، ومثله ما حكي عن أبي زيد، والأصمعي، ويعقوب الحضرمي أنهم خطئوا حمزة في قراءته {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] بكسر الياء المشددة. وقالوا: إنه ليس ذلك في كلام العرب، وأنه كان يلحن في القراءات، وما يروى أيضا أن يزيد بن هارون أرسل إلى أبي الشعثاء بواسط لا تقرأ في مسجدنا قراءة حمزة.
وما حكي عن المبرد أنه قال: لا تحل القراءة بها يعني قراءة "والأرحامِ" [النساء: 1] بالكسر.
والصواب : أن حمزة إمام مجمع على جلالته ومعقود على صحة روايته، ولقد هجن المبرد فيما قال، إن صح عنه، فقد ند قلت: هذه القراءة عن جماعة من الصحابة والتابعين، منهم ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد وقتادة، والنخعي،

(1/380)


والأعمش، والقراءة سنة متبوعة متلقاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، توقيفا، فلا يجوز لأحد أن يقرأ إلا بما سمعه، ولا مجال للاجتهاد في ذلك، وقراءة حمزة متواترة، وهي موافقة لكلام العرب. وقد جاء في أشعارهم ونوادرهم مثلها كثيرا، ولهذا اعتد بها ابن مالك في هذه المسألة، واختار جواز العطف على المضمر المجرور من غير إعطاء الجار وفاقا للكوفيين.

(1/381)


مسألة: [البسملة في القرآن]:
البسملة من أول الفاتحة بلا خلاف عندنا، وفيما عداها من السور سوى براءة للشافعي أقوال:
أصحها : أنها آية من كل سورة، ومن أحسن الأدلة فيه ثبوتها في سواد المصحف وأجمع الصحابة أن لا يكتب في المصحف ما ليس بقرآن، وأن ما بين الدفتين كلام الله.
الثاني : بعض آية.
والثالث : ليست من القرآن بالكلية، وعزي للأئمة الثلاثة.
والرابع : أنها آية منفردة أنزلت للفصل بين السور، وهذا غريب لم يحكه أحد من الأصحاب، لكنه يؤخذ مما حكاه ابن خالويه في الطارقيات عن الربيع سمعت الشافعي يقول: أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم، وأول البقرة ألم.
قال العلماء: وله وجه حسن، وهو أن البسملة لما ثبتت أولا في سورة الفاتحة فهي في باقي السور إعادة لها وتكرار، فلا يكون من تلك السور ضرورة، ولا يقال: هي آية من أول كل سورة، بل هي آية في أول كل سورة.
قال بعض المتأخرين: وهذا القول أحسن الأقوال، وبه تجتمع الأدلة، فإن إثباتها في المصحف بين السور منتهض في كونها من القرآن، ولم يقم دليل على كونها آية من أول كل سورة.
وحكى المتولي من أصحابنا وجها: أنه إن كان الحرف الأخير من السورة قبله ياء ممدودة كالبقرة، فالبسملة آية كاملة، وإن لم يكن منها ك {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} فبعض آية.
وحكى الماوردي وغيره وجهين في أنها هل هي قرآن على سبيل القطع كسائر القرآن أم على سبيل الحكم، لاختلاف العلماء فيها؟ ومعنى سبيل الحكم أنه لا تصح الصلاة إلا بها في أول الفاتحة، ولا يكون قارئا لسورة بكمالها غير الفاتحة إلا إذا ابتدأها بالبسملة سوى براءة، لإجماع المسلمين على أن البسملة ليست بآية فيها.

(1/381)


وضعف الإمام وغيره قول من قال: إنها قرآن على القطع. قال الإمام: هذه غباوة عظيمة من قائله، لأن ادعاء العلم حيث لا قاطع محال.
وقال الماوردي: قال جمهور أصحابنا: هي آية حكما لا قطعا، فعلى قول الجمهور يقبل في إثباتها خبر الواحد كسائر الأحكام، وعلى القول الآخر بخلافه كسائر القرآن، وهو ضعيف كما قال الإمام، إذ لا خلاف بين المسلمين أنه لا يكفر نافيها، ولو كانت على سبيل القطع لكفر. على أن ابن الرفعة حكى وجها عن صاحب الفروع أنه قال بتكفير جاحدها، وتفسيق تاركها.
ولنا مسلكان:
أحدهما : القطع بأنها منه، فإن الصحابة أثبتوها في المصحف على الوجه الذي أثبتوا به سائر القرآن، وأجمعوا. على أن ما بين الدفتين كلام الله مع شدة اعتنائهم بتجريده عما ليس منه، فيجب أن يكون من القرآن كسائر الآي المكررة، في الشعراء، والرحمن، والمرسلات.
وأما الخلاف فيها، فإنه لا يهتك حرمة القطع، فكم من حكم يقيني قد اختلف فيه. أما في العقليات وما مبناه اليقين كالحسيات فكثير، وأما في الفروع فإن القائلين بأن المصيب فيها واحد ذهب أكثرهم إلى أنه لا يتعين. وكان القاضي أبو الطيب يقطع بخطأ مخالفه. ونقل مثل ذلك عن أحمد بن حنبل، وربما حلف على المسألة.
والحق: أنها منقسمة إلى يقينية وظنية كما سبق، لكن لما غلب على مسائل الخلاف الظن ظن أن جميعها كذلك، وليس كذلك.
وأما فصل التكفير فلازم لهم حيث لم يكفروا المثبتين كما يكفر من زاد شيئا من المكررات، ثم الجواب أن مناط التكفير غير مناط القطع، فكم من قطعي لا يكفر منكره بل لا بد أن يكون مجمعا عليه معلوما من الدين بالضرورة.
والثاني : أنه يكتفى بالظن كما فعل غير واحد.
ثم نقول: نفس الآية لا تثبت إلا بقاطع، فأما تكرارها في المحال فلا يتوقف على القاطع.

(1/382)


مسألة: [في القراءة الشاذة]
حقيقة الشاذ لغة: المنفرد.
وفي الاصطلاح عكس المتواتر، وقد سبق أن المتواتر قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة النقل فيها ومجيئها على الفصيح من لغة العرب.
قال الشيخ أبو شامة: فمتى اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة. قال: وقد أشار إلى ذلك جماعة من الأئمة المتقدمين ونص عليه أبو محمد مكي بن أبي طالب القيرواني. ذكره شيخنا أبو الحسن السخاوي في كتاب "جمال القراء".
ثم الكلام في مواضع:
أحدها : بالنسبة إلى المراد بها والمعروف أنها ما وراء السبع، والصواب: ما وراء العشر، وهي ثلاثة أخر: يعقوب وخلف وأبو جعفر يزيد بن القعقاع، فالقول بأن هذه الثلاثة غير متواترة ضعيف جدا، وقد ذكر البغوي في تفسيره الإجماع على جواز القراءة بها.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في العواصم: ضبط الأمر على سبع قراءات ليس له أصل في الشرع، وقد جمع قوم ثماني قراءات، وقوم عشرا، أصل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم، قال: "أنزل القرآن على سبع أحرف" 1 فظن قوم أنها سبع قراءات وهذا باطل، وتيمن آخرون بهذا اللفظ فجمعوا سبع قراءات. وبعد أن ضبط الله الحروف والسور، فلا مبالاة بهذه التكليفات. وسبق عنه أن قراءة أبي جعفر ثابتة لا كلام فيها. ا هـ.
الثاني : بالنسبة إلى القراءة بها. قال الشيخ أبو الحسن السخاوي: ولا تجوز
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث "4992". ورواه مسلم "1/560" حديث "818" عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها – وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها – فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى أنصرف، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله اقرأ" ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت" . ثم قال لي: "اقرأ" ، فقرأت، فقال : "هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" .

(1/383)


القراءة بشيء من الشواذ لخروجها عن إجماع المسلمين وعن الوجه الذي ثبت به القرآن، وهو المتواتر وإن كان موافقا للعربية وخط المصحف، لأنه جاء من طريق الآحاد، إن كانت نقلته ثقات. قال أبو شامة: والشأن في الضبط ما تواتر من ذلك وما اجتمع عليه، ونقل الشاشي في المستظهري عن القاضي الحسين أن الصلاة بالقراءة الشاذة لا تصح، وقال النووي في فتاويه: تحرم.
الثالث : في الاحتجاج بها في الأحكام وتنزيلها منزلة الخبر.
اعلم أن الآمدي نسب القول بأنها ليست بحجة إلى الشافعي. وكذا ادعى الإبياري في شرح البرهان أنه المشهور من مذهب مالك والشافعي وتبعه ابن الحاجب وكذلك النووي، فقال في شرح مسلم مذهبنا: أن القراءة الشاذة لا يحتج بها، ولا يكون لها حكم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وإذا لم يثبت قرآنا لم يثبت خبرا، والموقع لهم في ذلك دعوى إمام الحرمين في البرهان: أن ذلك ظاهر مذهب الشافعي، وتبعه أبو نصر بن القشيري والغزالي في المنخول وإلكيا الطبري في التلويح، وابن السمعاني في القواطع وغيرهم، فقال إلكيا: القراءة الشاذة مردودة لا يجوز إثباتها في المصحف، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
قال: وأما إيجاب أبي حنيفة التتابع في صوم كفارة اليمين لأجل قراءة ابن مسعود، فليس على تقدير أنه أثبت نظمه من القرآن، ولكن أمكن أنه كان من القرآن في قديم الزمان، ثم نسخت تلاوته، فاندرس مشهور رسمه فنقل آحادا، والحكم باق، وهذا لا يستنكر في العرف.
قال: والشافعي لا يرد على أبي حنيفة اشتراط التتابع على أحد القولين من هذه الجهة، ولكنه يقول: لعل ما زاده ابن مسعود تفسيرا منه، ومذهبا رآه، فلا بعد في تقديره، ولم يصرح بإسناده إلى القرآن. فإن قالوا: لا يجوز ضم القرآن إلى غيره، فكذلك لا يجوز ضم ما نسخت تلاوته إلى القرآن تلاوة. وهذا قد يدل من وجهة على بطلان نقل هذه القراءة عن ابن مسعود، فإنا على أحد الوجهين نبعد قراءة ما ليس من القرآن مع القرآن.
وقال: والدليل القاطع على إبطال نسبة القراءات الشاذة إلى القرآن أن الاهتمام بالقرآن من الصحابة الذين بذلوا أرواحهم في إحياء معالم الدين يمنع تقدير دروسه وارتباط نقله بالآحاد.

(1/384)


قلت: وذكر أبو بكر الرازي في كتابه أنهم إنما عملوا بقراءة ابن مسعود لاستفاضتها وشهرتها عندهم في ذلك العصر، وإن كان، إنما نقلت إلينا الآن بطريق الآحاد، لأن الناس تركوا القراءة بها، واقتصروا على غيرها، وكلامنا إنما هو في أصول القوم. ا هـ.
وذكر أبو زيد في الأسرار وصاحب المبسوط من الحنفية اشتراط الشهرة في القراءة عند السلف، ولهذا لم يعملوا بقراءة أبي بن كعب، فعدة من أيام أخر متتابعة لأنها قراءة شاذة غير مشهورة، وبمثلها لا يثبت الزيادة على النص، فأما قراءة ابن مسعود فقد كانت مشهورة في زمن أبي حنيفة حتى كان الأعمش يقرأ ختما على حرف ابن مسعود، وختما من مصحف عثمان، والزيادة عندنا تثبت بالخبر المشهور. ا هـ.
تنبيهان:
[التنبيه] الأول:
إن الحامل لهم على نسبة أنها ليست بحجة للشافعي عدم إيجابه التتابع في صوم كفارة اليمين مع علمه بقراءة ابن مسعود، وهو ممنوع، فقد سبق من كلام إلكيا إبطال استنباطه منه، وقد نص رحمه الله في مختصر البويطي على أنها حجة في باب الرضاع، وفي باب تحريم الجمع، فقال: ذكر الله الرضاع بلا توقيت. وروت عائشة التوقيت بخمس، وأخبرت أنه مما أنزل من القرآن، وهو وإن لم يكن قرآنا فأقل حالاته أن يكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن القرآن لا يأتي به غيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأقضين بينكما بكتاب الله" 1، فحكمنا به على هذا، وليس هو قرآنا يقرأ ا هـ.
وظاهره أنه يعمل بها من جهة كونها خبرا لا قرآنا، وجرى عليه جمهور الأصحاب منهم الشيخ أبو حامد والماوردي، والروياني في الصيام والرضاع، والقاضي أبو الطيب في الصيام ووجوب العمرة، والقاضي الحسين في الصيام، والمحاملي والرافعي في كتاب السرقة، واحتجوا في إيجاب قطع اليمين من السارق بقراءة ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما".
وقال الروياني في "البحر" في كتاب الصلاة أنها تجري مجرى الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو الأثر عن الصحابة، نعم الشرط عند الشافعي في ذلك أن لا يخالف رسم المصحف، ولا يوجد غيرها مما هو أقوى منها، ولذلك لم يحتج بقراءة ابن عباس: وعلى الذين يطيقونه فدية مع أن مذهبه وجوب الفدية كما نص عليه في المختصر. قال شارحوه
ـــــــ
1 سبق تخريجه.

(1/385)


: إنما عدل الشافعي عن الاستدلال بهذه القراءة، لأنها تشذ عن الجماعة، وتخالف رسم المصحف.
قلت: أو لأنه رأى أنه لا استدلال بها مع وجود ما هو أقوى منها، فإن الله تعالى كان قد خير أولا بين الصيام وبين الإفطار والفدية، ثم ختم الصيام بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وبقي من لم يطق على حكم الأصل في جواز الفطر ووجوب الفدية.
ويخرج من كلام الشيخ أبي إسحاق الشيرازي شرط آخر، فإنه قال في كتابه التذكرة في الخلاف: القراءة الشاذة إنما تلحق بخبر الواحد إذا قرأها قارئها على أنه قرآن، فإن ذكرها على أنها تفسير فلا، كقراءة ابن عمر: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها وقراءة أبي بن كعب: فعدة من أيام متتابعات. ا هـ.
وفيما قاله في التفسير نظر على رأي من يجعله في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وممن صرح بها من الأصوليين أبو بكر الصيرفي فقال في كتاب "الدلائل والأعلام": ما روي آحادا من آي القرآن كرواية ابن عمر آية الرجم 1 وخبر عائشة في الرضاع 2 وخبر زيد بن أرقم: "لو كان لابن آدم واديان من الذهب لابتغى لهما ثالثا" 3 فإنها ثابتة الأسانيد صحيحة من جهة النقل. ونحن نثبت ما قالوا على ما قالوا غير متأولين عليهم ما لم يظهر لنا إلا أن لا نجد وجها غير التأويل، وذلك لأن من القرآن ما نسخ رسمه وبقي حكمه، وإنما تجب تلاوة المرسوم، فأما ما بقي حكمه فلا تجب تلاوته.
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، برقم "7323" وفيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل آية الرجم". ورواه مسلم "3/1317"، برقم "1691" ورواه ابن ماجه "2/853"، برقم "2553" مطولا بلفظ " لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: ما أجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا يترك فريضة من فرائض الله، ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل وقامت البينة، أو كان حمل، أو اعتراف. وقد قرأتها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فرجموهما البتة". رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده.
2 يشير إلى ما رواه مسلم في صحيحه "3/1075" كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، حديث "1452" عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن "عشر رضعات معلومات يحرمن" ثم نسخ بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.
3 الحديث رواه البخاري، كتاب الرقاق باب ما يتقى من فتنة المال، حديث "6436" ورواه مسلم "2/725" حديث "1048".

(1/386)


والذي أجمع المسلمون عليه في الرسم هو الواجب تلاوته، والذي لم يرسم يتلى وينقل حكمه إذ كان القرآن المتلو يوجب شيئين:
أحدهما: إثبات حكمه وتلاوته والقطع عليه بما يعمل به والتسمية بما سماه الناقل، وليس يثبت المتلو بخبر الواحد، وإذا كان خبر الواحد قد يخص ظاهر المتلو ويثبته تثبيت الأحكام كان أيضا كذلك ما أثبت حكمه من جهة الخبر أنه قرآن في الحكم لا في الرسم والتلاوة. انتهى.
وقال الماوردي في موضع آخر: إن أضافها القارئ إلى التنزيل أو إلى سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، أجريت مجرى خبر الواحد، وإلا فهي جارية مجرى التأويل. ا هـ.
ويخرج من هذا التفصيل مذهب ثالث، وبه صرح الباجي في المنتقى فقال: القراءة الشاذة هل تجري مجرى خبر الواحد؟ فيه ثلاثة أقوال: ثالثها: التفصيل بين أن تسند أم لا. ا هـ.
ويخرج من كلام أبي الحسين في المعتمد مذهب رابع، فإنه قال في باب الأخبار: القرآن المنقول بالآحاد إما أن يظهر فيه الإعجاز أو لا، فإن لم يظهر جاز أن يعمل بما تضمنه من عمل إذا نقل إلينا بالآحاد، كقراءة ابن مسعود: متتابعات وإن ظهر فهو حجة للنبوة، ولا يكون حجة إلا وقد علم أنه لم يعارض في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، مع سماع أهل عصره له، ولا يعلم ذلك إلا وقد تواتر نقل ظهوره في ذلك العصر. وأطلق القاضي ابن العربي دعوى الإجماع على أنها لا توجب علما ولا عملا، وليس كما قال.
وجعل القرطبي شارح مسلم محل الخلاف بين الحنفية وغيرهم فيما إذا لم يصرح الراوي بسماعها وقطع بعدم حجيتها. قال: فأما لو صرح الراوي بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فاختلفت المالكية في العمل بها على قولين، والأولى الاحتجاج بها تنزيلا لها منزلة الخبر.
[التنبيه] الثاني:
أن هاهنا سؤالا، وهو أن يقال: إن كان مذهب الشافعي أنها حجة فهلا أوجب التتابع في صوم الكفارة اعتمادا على قراءة ابن مسعود متتابعات وهلا قال في الصلاة الوسطى: إنها صلاة العصر اعتمادا على قراءة عائشة: وصلاة العصر؟ وإن كان مذهبه أنها ليست بحجة فكيف اعتمد في التحريم في الرضاع بخمس على حديث عائشة؟ وكيف قال: إن الأقراء هي الأطهار؟ واعتمد في "الأم"1 على أنه عليه الصلاة
ـــــــ
1 انظر الأم "5/180".

(1/387)


والسلام قرأ: لقبل عدتهن والذي يفصل عن هذا الإشكال أن لا يطلق القول في ذلك، بل يقال: لا يخلو إما أن تكون القراءة الشاذة وردت لبيان حكم أو لابتدائه، فإن وردت لبيان حكم، فهي عنده حجة، كحديث عائشة في الرضاع وقراءة ابن مسعود: أيمانهما، وقوله: لقبل عدتهن. وإن وردت ابتداء حكم، كقراءة ابن مسعود: متتابعات، فليس بحجة إلا أنه قد قيل: إنها لم تثبت عن ابن مسعود، ويدل له ما رواه الدارقطني بإسناد صحيح عن عائشة كان مما أنزل: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"1 فسقطت "متتابعات".
أو يقال: القراءة الشاذة إما أن ترد تفسيرا أو حكما، فإن وردت تفسيرا فهي حجة كقراءة ابن مسعود: أيمانهما وقوله: وله أخ أو أخت من أم وقراءة عائشة: والصلاة الوسطى صلاة العصر، وإن وردت حكما فلا يخلو إما أن يعارضها دليل آخر أم لا، فإن عارضها فالعمل للدليل كقراءة ابن مسعود في صيام المتمتع: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات، فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن شئت فتابع أو لا" ، وإن لم يعارضها دليل آخر فللشافعي قولان، كوجوب التتابع في صوم الكفارة.
وأما تحرير مذهب أبي حنيفة فنقل إمام الحرمين وابن القشيري، عنه أنه ينزلها منزلة خبر الواحد، قال ابن القشيري: وهذا يناقض قوله: إن الزيادة في الحديث من بعض النقلة لا تقبل، وقال أبو زيد الدبوسي في كتاب تقديم الأدلة: لا تثبت القراءة بخبر الواحد، ولهذا قالت الأئمة، فيمن قرأ في صلاته بكلمات تفرد بها ابن مسعود: إن صلاته لا تجوز كما لو قرأ خبرا من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وإنما أخذنا بقراءة ابن مسعود: متتابعات لإيجاب التتابع في الكفارة، فأخذنا بها عملا كما لو روى خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه إنما قرأها ناقلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يثبت قرآنا لفوات شرطه بقي خبرا، فإن قيل: ينبغي أن يفعلوا كذلك في البسملة ليجب الجهر بها في الصلاة، وحرمة قراءتها على الجنب والحائض الذي هو حكم القرآن.
قلنا: لأنا لو فعلنا ذلك لم يكن حكما بظاهر ما توجبه التسمية، بل كان عملا بمقتضى أنها من الفاتحة، ولا عموم للمقتضى عندنا، وإنما لا يعمل فيما لا بد منه.
ـــــــ
1 رواه الدار قطني في سننه "2/192" بإسناده عن عائشة قالت: نزلت "فعدة من أيام آخر متتابعات" فسقطت "متتابعات". وقال الدار قطني: هذا إسناد صحيح. ورواه البيهقي في السنن الكبرى "4/258"، برقم "8023". قال البيهقي: قولها: "سقطت" تريد "نسخت"، لا يصح له تأويل غير هذا.

(1/388)