البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية المباحث اللغوية
مباحث اللغة
مدخل
...
مباحث اللغة
وإنما ذكرناها في أصول الفقه لأن معظم نظر الأصولي في دلالات
الصيغ، كالحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، وأحكام الأمر
والنهي، ودليل الخطاب ومفهومه. فاحتاج إلى النظر في ذلك تكميلا
للنظر في الأصول، ونسمه بمقدمتين:
إحداهما: تعلم اللغة فرض كفاية.
قال أبو الحسين بن فارس: تعلم علم اللغة واجب على أهل العلم
لئلا يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم عن سنن الاستقراء. قال:
وكذلك الحاجة إلى علم العربية فإن الإعراب هو الفارق بين
المعاني، ألا ترى إذا قلت: ما أحسن زيد لم تفرق بين التعجب
والاستفهام والنفي إلا بالإعراب؟.
ونازع الإمام فخر الدين في شرح المفصل في كونهما فرض كفاية،
لأن فرض الكفاية إذا قام به واحد سقط عن الباقين. قال: واللغة
والنحو ليس كذلك، بل يجب في كل عصر أن يقوم به قوم يبلغون حد
التواتر، لأن معرفة الشرع لا تحصل إلا بواسطة معرفة اللغة
والنحو، والعلم بهما لا يحصل إلا بالنقل المتواتر، فإنه لو
انتهى النقل فيه إلى حد الآحاد لصار الاستدلال على جملة الشرع
استدلالا بخبر الواحد، فحينئذ يصير الشرع مظنونا لا مقطوعا،
وذلك غير جائز.
الثانية: نبه الإبياري في كلام له على شيء ينبغي معرفته هنا،
وهو أن الأصولي إنما احتاج إلى معرفة الأوضاع اللغوية ليفهم
الأحكام الشرعية وإلا فلا حاجة بالأصولي إلى معرفة ما لا يتعلق
بالأحكام والألفاظ، وإذا كان كذلك افتقرنا إلى تقديم أمر آخر،
وهو أن الشرع هل له تصرف في اللغة أم لا؟.
فإن ثبت عدم التصرف اكتفى الأصولي بمعرفة وضع اللغة، فإن ذلك
مقنع في معرفة الأحكام، وإن ثبت تصرف الشرع اكتفى الأصولي
بمعرفة وضع الشرع للاسم ولا يحتاج معه إلى معرفة اللغة في ذلك
اللفظ، وإن عرف وضع اللغة والتبس عليه هل للشرع تصرف في الاسم
أم لا؟ لم يجز له الحكم بوضع اللغة حتى يستقر له وضع الشرع،
ولهذا إن الفقهاء قل ما يتكلمون على الألفاظ باعتبار وضع
اللغة، لأنهم يرون تصرف الشرع في الأسماء فتراهم يجنحون إلى
الإجماع وغيره، وهم في ذلك على بصيرة أن عرف الشرع مكتفى به
ومضاف إليه، وعرف اللغة على هذا التقدير عند احتمال التغيير لا
يفيد.
(1/391)
[مادة اللغة
ومقصودها وموضوعها]
ويتعلق النظر بمادتها ومقصودها وموضوعها .
أما مادتها: فتختلف بالنسبة إلى الأولين، إما التوقيف أو
الاصطلاح على الخلاف الآتي، وأما في حق من بعدهم فمادتها النقل
عن أهل اللغة.
وأما مقصودها : فالتشبيه بأهل تلك اللغة في إعلام ما في
أنفسهم.
وأما موضوعها: فالألفاظ وما يعرضها لذات الألفاظ وهو ما يبحث
اللغوي عنها في ذلك الموضوع إما في حال الإفراد ككون هذه
الكلمة حقيقة أو مجازا أو مشتركة أو مترادفة أو متباينة، وككون
فاء هذه الكلمة أو عينها أصليا أو مقلوبا عن غيره صحيحا أو
معتلا مفتوحا أو مضموما أو مكسورا، وغير ذلك مما يتعلق بعلم
التصريف، وأما في حال تركيبها ككون هذه الكلمة مبتدأ أو خبرا
أو فاعلا أو مفعولا إلى غير ذلك من الأعراض الذاتية للألفاظ،
فالألفاظ هي موضوع اللغة وهذه أعراض ذاتية للألفاظ.
[أمور مهمة تتعلق بمباحث اللغة]:
ثم الكلام في مهمات:
الأول : في الوضع وهو يطلق على أمرين:
أحدهما : جعل اللفظ دليلا على المعنى كتسمية الإنسان ولده
زيدا، وكإطلاقهم على الحائط مثلا الجدار، وما في معناه، وذلك
بأن يخطر المعنى ببال الواضع فيستحضر لفظا يعبر به عن ذلك
المعنى، ثم يعرفه غيره بطريق من الطرق، فمن تكلم بلغته يجب أن
يحمله على ذلك المعنى عند عدم القرائن.
والثاني : غلبة استعمال اللفظ على المعنى حتى يصير هو المتبادر
إلى الذهن حال التخاطب به، وذلك في العرف الشرعي، والعرف العام
والخاص.
[العرف الشرعي]:
أما العرف الشرعي: فكإطلاقهم الصلاة على الحركات المخصوصة،
والصوم على الإمساك المخصوص، والزكاة على إخراج مخصوص، فإن
الشارع لم يضع اللفظ لهذه المعاني، وإنما استعمله فيها من غير
وضع، وتكرر الاستعمال فيها حتى صارت هي المتبادرة إلى الذهن
حال التخاطب.
(1/392)
[العرف العام]:
وأما العرف العام: فكإطلاقهم الدابة على ذوات الأربع أو على
دابة مخصوصة عند قوم كالفرس والحمار، ومفهوم الدابة في اللغة
لكل ذات دبت سواء ذوات الأربع وغيرها، وأهل العرف لم يضعوا
اللفظ لهذا المعنى الذي هو ذوات الأربع، وإنما غلب استعمالهم
للفظ الدابة، حتى صار هو المتبادر إلى الذهن حالة التخاطب.
[العرف الخاص]:
وأما العرف الخاص: فكاصطلاح كل ذي علم على ألفاظ خصوها بمعان
مخالفة للمفهوم اللغوي، كاصطلاح المتكلم في الجوهر والعرض،
واصطلاح الفقيه في الجمع والفرق، واصطلاح الجدلي في الكسر
والنقض والقلب، واصطلاح النحوي في الرفع والنصب والجر، فجميع
هذه الطوائف لم يضعوا هذه الألفاظ لتلك المعاني المخصوصة،
وإنما استعملوها استعمالا غالبا حتى صارت هي المتبادرة إلى
الذهن حالة التخاطب، فهذا هو معنى الوضع في العرف الشرعي
والعام والخاص، وزاد بعضهم للوضع معنى ثالثا وهو استعمال اللفظ
في المعنى ولو مرة واحدة، وهذا هو معنى قولهم: المجاز هل من
شرطه أن يكون موضوعا أم لا؟ وفيه قولان مبنيان على أن المجاز
هل من شرطه أن يكون مسموعا أو لا؟.
ويتعلق بالوضع مباحث :
أحدها في شروطه : وهي ثلاثة:
أحدها : أن لا يبتدئه بما يخالفه.
ثانيها : أن لا يختمه بما يخالفه.
ثالثها : أن يكون صادرا عن قصد فلا اعتبار بكلام الساهي
والنائم وعلى السامع التنبه لهذه الشروط.
وقد حكى الروياني عن صاحب الحاوي فيما إذا قال لزوجته: طلقتك،
ثم قال: سبق لساني، وإنما أردت طلبتك، أن المرأة إذا ظنت صدقه
بأمارة فلها أن تقبل قوله ولا تخاصمه، وأنه من عرف ذلك منه إذا
عرف الحال يجوز أن يقبل قوله، ولا يشهد عليه. قال الروياني
وهذا هو الاختيار.
الثاني في سببه: وهو أن الله تعالى خلق النوع الإنساني وصيره
محتاجا إلى أمور لا يستقل بها، بل يفتقر إلى المعاونة عليها،
ولا بد للمعاون من الاطلاع على ما في
(1/393)
النفس، وذلك إما باللفظ أو الإشارة أو
المثال، واللفظ أيسر لما سيأتي.
فالحاجة داعية إلى الوضع لأجل الإفهام بالمخاطبة، ويلزم من ذلك
كلما اشتدت الحاجة إلى التعبير عنه أنه يوضع له، وإلا كان ذلك
مخلا بمقصود الوضع الذي ذكرناه، وما لا تشتد الحاجة إليه جاز
فيه الأمران يعني الوضع وعدم الوضع، أما عدم الوضع، فلأنه ليس
مما تدعو الحاجة إليه، وأما الوضع فللفوائد الحاصلة به.
[الموضوع]:
الثالث : في الموضوع، وهو اللغات على اختلافها، وفيه نظران:
أحدهما : نظر كلي يشترك فيه كل اللغات، وهو من وجوه يعرف في
علم آخر.
والثاني : فيما يختص بآحاد اللغات.
ولما جاءت شريعتنا بلغة العرب وجب النظر فيها، وكيفية دلالتها
من حيث صيغها، ومن لطف الله تعالى حدوث الموضوعات، لأنها أكثر
إفادة من هذه الثلاثة وأيسرها، أما كثرة إفادتها فلأنها تعم كل
معلوم موجود ومعدوم وغيره بخلاف الإشارة، فإنها تختص بالموجود
المحسوس، وبخلاف المثال، وهو أن يجعل لما في الضمير شكلا
لتعذره، وأما كونها أيسر فلأنها موافقة للأمر الطبيعي، لأن
الحروف كيفيات تعرض للنفسي الضروري.
(1/394)
مسألة: [المفردات موضوعة]
لا خلاف أن المفردات موضوعة كوضع لفظ إنسان للحيوان الناطق،
وكوضع قام لحدوث القيام في زمن مخصوص، وكوضع لعل للترجي
ونحوها.
[اختلاف العلماء في المركبات هل هي موضوعة أم لا؟]:
واختلفوا في المركبات نحو قام زيد وعمرو منطلق، فقيل: ليست
موضوعة، ولهذا لم يتكلم أهل اللغة في المركبات، ولا في
تأليفها، وإنما تكلموا في وضع المفردات، وما ذاك إلا أن الأمر
فيها موكول إلى المتكلم بها، واختاره فخر الدين الرازي، وهذا
هو ظاهر كلام ابن مالك حيث قال: إن دلالة الكلام عقلية لا
وضعية، واحتج له في كتاب "الفيصل على المفصل" بوجهين:
(1/394)
أحدهما : أن من لا يعرف من الكلام العربي
إلا لفظين مفردين صالحين لإسناد أحدهما إلى الآخر، فإنه لا
يفتقر عند سماعهما مع الإسناد إلى معرف لمعنى الإسناد بل يدركه
ضرورة.
وثانيهما : أن الدال بالوضع لا بد من إحصائه ومنع الاستئناف
فيه كما كان ذلك في المفردات والمركبات القائمة مقامها، فلو
كان الكلام دالا بالوضع وجب ذلك فيه، ولم يكن لنا أن نتكلم إلا
بكلام سبق إليه، كما لا يستعمل في المفردات إلا ما سبق
استعماله، وفي عدم ذلك برهان على أن الكلام ليس دالا بالوضع. ا
هـ. وحكاه ابن إياز عن شيخه.
قال: ولو كان حال الجمل حال المفردات في الوضع لكان استعمال
الجمل وفهم معناها متوقفا على نقلها عن العرب كما كان المفردات
كذلك، ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجمل ويودعوها كتبهم
كما فعلوا ذلك بالمفردات، ولأن المركبات دلالتها على معناها
التركيبي بالعقل لا بالوضع، فإن من عرف مسمى زيد، وعرف مسمى
قائم، وسمع زيد قائم بإعرابه المخصوص، فهم بالضرورة معنى هذا
الكلام وهو نسبة القيام إلى زيد. نعم يصح أن يقال: موضوعة
باعتبار أنها متوقفة على معرفة مفرداتها التي لا تستفاد إلا من
جهة الوضع، ولأن للفظ المركب أجزاء مادية وجزءا صوريا، وهو
التأليف بينهما، وكذلك لمعناه أجزاء مادية وجزء صوري، والأجزاء
المادية من اللفظ تدل على الأجزاء المادية من المعنى، والجزء
الصوري منه يدل على الجزء الصوري من المعنى بالوضع.
والثاني: أنها موضوعة فوضعت زيد قائم للإسناد دون التقوية في
مفرداته ولا تنافي بين وضعها مفردة للإسناد بدون التقوية
ووضعها مركبة للتقوية، ولأنها تختلف باختلاف اللغات، فالمضاف
مقدم على المضاف إليه في بعض اللغات، ومؤخر عنها في بعض، ولو
كانت عقلية لفهم المعنى واحدا سواء تقدم المضاف على المضاف
إليه أو تأخر، وهذا القول ظاهر كلام ابن الحاجب حيث قال:
أقسامها: مفرد ومركب.
قال القرافي: وهو الصحيح، وعزاه غيره للجمهور بدليل أنها حجرت
في التراكيب كما حجرت في المفردات، فقلت: إن من قال: إن قائم
زيدا ليس من كلامنا، ومن قال: إن زيدا قائم فهو من كلامنا، ومن
قال: في الدار رجل فهو من كلامنا، ومن قال: رجل في الدار فليس
من كلامنا إلخ إلى ما لا نهاية له في تراكيب الكلام، وذلك يدل
على تعرضها بالوضع للمركبات.
(1/395)
والحق: أن العرب إنما وضعت أنواع المركبات،
أما جزئيات الأنواع فلا، فوضعت باب الفاعل لإسناد كل فعل إلى
من صدر منه، أما الفاعل المخصوص فلا، وكذلك باب إن وأخواتها
أما اسمها المخصوص فلا، وكذلك سائر أنواع التركيب، وأحالت
المعين على اختيار المتكلم، فإن أراد القائل بوضع المركبات هذا
المعنى فصحيح وإلا فممنوع، ويتفرع على هذه القاعدة أن المجاز
هل يدخل في المركبات أم لا؟ وأنه هل يشترط العلاقة في الآحاد
أم لا؟ وحقيقة هذا الخلاف يرجع إلى أن دلالة الكلام المركب على
معناه هل هي عقلية كدلالة المتكلم من وراء الحائط على أنه
إنسان أو وضعية؟.
تنبيه
[المثنى والمجموع موضوعان]
لم أر لهم كلاما في المثنى والمجموع، والظاهر أنهما موضوعان،
لأنهما مفردان وهو الذي يقتضيه حدهم للمفرد، ولهذا عاملوا جموع
التكسير معاملة المفرد في الأحكام. لكن صرح ابن مالك في كلامه
على حدها بأنهما غير موضوعين، ويبعد أن يقال: فرعه على رأيه في
عدم وضع المركبات، لأنه لا تركيب فيها لا سيما أن المركب في
الحقيقة إنما هو الإسناد، وكذا القول في أسماء الجموع والأجناس
مما يدل على متعدد، فالقول بعدم وضعه عجيب، لأن أكثره سماعي.
وقد صرح ابن مالك بأن شفعا ونحوه مما يدل على اثنين موضوع.
وقال ابن الجويني: الظاهر لي أن التثنية وضع لفظها بعد الجمع
لمسيس الحاجة إلى الجمع كثيرا، ولهذا لم يوجد في سائر اللغات
تثنية، والجمع موجود في كل لغة، ومن ثم قال بعضهم: أقل الجمع
اثنان، لأن الواضع قال: الشيء إما واحد وإما كثير لا غير، فجعل
الاثنين في حد الكثرة.
[الموضوع له]:
الرابع: في الموضوع له.
وقد اختلف في أن اللفظ موضوع للمعنى الذهني أو الخارجي أو لأعم
منهما أو للقدر المشترك على مذاهب:
أحدها : أنه لم توضع الألفاظ للدلالة على الموجودات الخارجية
بل وضعت
(1/396)
للدلالة على المعاني الذهنية، وبواسطة ذلك
تدل على المعنى الخارجي، وهذا كالخط فإنه يدل على اللفظ،
وبواسطة ذلك يدل على المعنى، فإذا قلت: العالم حادث فلا يدل
على كونه حادثا، بل يدل على حكمك بحدوثه، وهذا مذهب الإمام فخر
الدين الرازي وتبعه البيضاوي وابن الزملكاني في البرهان،
والقرطبي في الوصول، واحتجوا عليه: أما في المفردات فلأنا لو
رأينا شبحا من بعيد ظنناه رجلا فإذا قرب رأيناه شبحا، فلما
اختلفت الأسامي عند اختلاف الصور الذهنية دل على أن اللفظ لا
دلالة له إلا عليها.
وأما في المركبات فلأن قولنا: قام زيد، لا يفيد قيام زيد،
وإنما يفيد الحكم به والإخبار عنه، ثم ننظر مطابقته للخارج أم
لا، وقد أجيب عن هذا الدليل بأن الاختلاف إنما عرض لاعتقاد
أنها في الخارج كذلك، لا لمجرد اختلافها في الذهن من غير نظر
إلى الخارج، وأيضا إنما يلزم أن يكون اللفظ مما يشخص في الخارج
مجازا.
وقال الأصفهاني: من نفى الوضع للمعنى الخارجي، إن أراد أنها لم
توضع للدلالة على الموجودات الخارجية ابتداء من غير توسط
الدلالة على المعنى الذهني، فهذا حق، لأن اللفظ إنما يدل على
وجود المعنى الخارجي بتوسط دلالته على المعنى الذهني، وإن أراد
أن الدلالة الخارجية ليست مقصودة من وضع اللفظ فباطل، لأن
المخبر إذا أخبر غيره بقوله: جاء زيد، فإن قصده الإخبار بمجيئه
في الخارج.
الثاني : أن اللفظ موضوع للمعنى الخارجي لا الذهني، لأنه مستقر
الأحكام، وهذا ما جزم به الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع، ويلزم
الرازي من نفيه الوضع للخارجي أن يكون دلالة اللفظ عليها في
الخارج ليست مطابقة ولا تضمنا، ويلزمه أيضا نفي الحقائق، لأن
الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له، وعنده إنما وضع للذهني،
ولكنه استعمل للخارجي، ويلزم على قول الشيخ أبي إسحاق أن لا
يكون الآن شيء موضوع، لأن الوضع زال وهو صحيح.
الثالث : أن اللفظ موضوع للمعنى من حيث هو أعم من الذهني
والخارجي، وليس لكل معنى لفظ، بل كل معنى محتاج إلى اللفظ،
واختاره بعض المتأخرين، ورد مذهب الإمام إليه.
الرابع : أنه للقدر المشترك، ونسب القاضي شمس الدين الخوبي
القول الأول للفلاسفة: قال: وأصله الخلاف في أن الاسم عين
المسمى أو غيره.
(1/397)
مسألة: [وضع اللفظ المشهور في معنى خفي
جدا]
منع الرازي أن يوضع اللفظ المشهور في معنى لمعنى خفي جدا،
فالغرض من هذه المسألة الرد على مثبتي الحال، لأنهم يقولون:
الحركة اسم لمعنى يجعل الاسم متحركا، والمشهور نفس الانتقال لا
معنى أوجب الانتقال، وجوزه الأصفهاني فإن أسماء الله تعالى
مشهورة، وبإزائها معان دقيقة غامضة لا يفهمها إلا الخواص
العارفون بالله، وبأن الإنسان يدرك معاني لطيفة فيخترع لها
ألفاظا بإزائها.
[فائدة الوضع] الخامس: في فائدة الوضع، والمعاني المفردة
معلومة في الذهن قبل وضع اللفظ، وفائدة وضع اللفظ تصورها عند
التلفظ لتوقف فهم النسبة التركيبية عليه، فإذن الفائدة الحاصلة
من الألفاظ المفردة تصور معانيها وشعور الذهن بها لا معرفة
معانيها، فلا يلزم الدور، وتصور النسبة موجود في الذهن قبل
وجود اللفظ، والفائدة الحاصلة باللفظ مع الحركات المخصوصة
والتركيب المخصوص معرفتها واقعة أو وقعت أو ستقع، فالموقوف
عليها التصديق لا التصور فلا دور أيضا.
[الواضع] السادس: في الواضع: وقد اختلف فيه على مذاهب:
أحدها : قول الشيخ أبي الحسن الأشعري وبعض أتباعه كابن فورك
أنها توقيفية، وأن الواضع هو الله تعالى وحده، وأعلمها للخلق
بالوحي إلى الأنبياء أو بخلق الأصوات في كل شيء أو بخلق علم
ضروري لهم، وحكاه ابن جني في الخصائص عن أبي علي الفارسي، وجزم
به ابن فارس.
والثاني : أنها إلهام من الله تعالى لبني آدم كأصوات الطيور
والبهائم حيث كانت أمارات على إرادتها فيما بينها بإلهام الله
تعالى، حكاه صاحب "الكبريت الأحمر" عن أبي علي الفارسي، ويشهد
له ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن جابر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم تلا {قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
[سورة فصلت: 2] ثم قال: "ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهاما" 1 ثم
قال: صحيح الإسناد، وقال الذهبي في مختصره: حقه أن يقول على
شرط مسلم، ولكن مدار الحديث على إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم
الغسيلي، وكان ممن
ـــــــ
1 رواه الحاكم في المستدرك "2/476"، برقك "3641" وقال عنه:
صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: مدار الحديث
على إبراهيم بن إسحاق العسيلى وكان ممن يسرق الحديث.
(1/398)
يسرق الحديث. انتهى.
والثالث : مذهب أبي هاشم وأتباعه أنها اصطلاحية على معنى أن
واحدا من البشر أو جماعة وضعها وحصل التعريف للباقين بالإشارة
والقرائن كتعريف الوالدين لغتهما للأطفال، وحكاه ابن جني في
الخصائص عن أكثر أهل النظر.
وقال إلكيا الطبري: معنى الاصطلاح أن يعرفهم الله مقاصد
اللغات، ثم يهجس في نفس واحد منهم أن ينصب أمارة على مقصوده،
فإذا نصبها وكررها واتصلت القرائن بها أفادت العلم، كالصبي
يتلقى من والده.
والقائلون بالتوقيف: يقولون لا بد وأن يلهموا الأمارات. قال:
ومن فهم المسألة وتصورها لا يحيل تصويرها، نعم يستحيل تواطؤ
العالمين على أمارة واحدة مع اختلاف الدواعي، فإن عني
بالاصطلاح هذا فمسلم، وإن عني ما ذكرناه، فلا، وإذا تعارض
الإمكانات توقف على السمع.
والرابع : أن بعضه من الله وبعضه من الناس، ثم اختلفوا هل
البداءة من الله والتتمة من الناس؟ ونسبه القرطبي إلى الأستاذ،
وإما عكسه، وقد ذهب إليه قوم فتصير المذاهب خمسة.
وقد اختلف في النقل عن الأستاذ، فحكى الآمدي وابن الحاجب عنه
أن القدر المحتاج إليه في التعريف توقيفي، والباقي محتمل
للتوقف وغيره، وحكى في المحصول عنه أن الباقي مصطلح وسبقه إلى
حكايته أيضا أبو نصر بن القشيري، والصواب عنه: الأول، فقد
رأيته في كتاب أصول الفقه للأستاذ أبي إسحاق، ونقله عن بعض
المحققين من أصحابنا، ثم قال: إنه الصحيح الذي لا يجوز غيره،
وعبارته: أنه لا بد من أن يعلمهم أو يخلق لهم علما بمقدار ما
يفهم بعضهم من بعض لمعنى الاصطلاح والوقوف على التسمية، فإذا
عرفوه جاز أن يكون باقيه توقيفا منه لهم عليه، وجاز أن يكون
اصطلاحا فيهم، ولا طريق بعده إلى معرفة ما كان منه فيه إلا
بخبر نبي عنه. هذا لفظه، وكذلك نقله عنه ابن برهان في الأوسط،
والأستاذ أبو منصور البغدادي في كتابه.
الخامس : قول القاضي وإمام الحرمين وابن القشيري وابن السمعاني
وابن برهان وجمهور المحققين كما قاله في المحصول التوقف، بمعنى
أن الجميع ممكن لتعارض الأدلة، وأما تعيين المواقع من هذه
الأقسام، فليس فيه نص قاطع، ومال إليه ابن جني في أواخر الأمر.
(1/399)
وقال الآمدي: والحق أنه كان المطلوب في هذه
المسألة تعيين الواقع، فالحق ما قاله الشيخ.
وقال ابن دقيق العيد: الواقف إن توقف عن القطع فلا بأس به، وإن
أراد التوقف عن الظن فظاهر الآية ينفيه.
وقال التلمساني في الكفاية: قال المتأخرون من الفقهاء: هذا
الخلاف إن كان في الجواز العقلي فهو ثابت بالنسبة إلى جميع
المذاهب، إذ لا يلزم منه محال أصلا، وإن كان في الوقوع السمعي
فباطل، لأن الوقوع إنما يكون بالنقل، ولم يوجد فيه خبر متواتر،
ولا برهان عقلي بنفي رجم الظنون بلا فائدة.
وحكى الأستاذ أبو منصور قولا آخر أن ما وقع التوقيف في
الابتداء على لغة واحدة، وما سواها من اللغات وقع التوقيف
عليها بعد الطوفان من الله في أولاد نوح حتى تفرقوا في أقطار
الأرض. قال: وقد روي عن ابن عباس أن أول من تكلم بالعربية
المحضة إسماعيل، وأراد بها عربية قريش التي نزل بها القرآن،
وأما عربية قحطان وحمير فكانت قبل إسماعيل عليه السلام.
وقال في شرح الأسماء: قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين
من المفسرين: إنها كلها توقيف من الله، وقال أهل التحقيق من
أصحابنا: لا بد من التوقيف في أصل لغة واحدة لاستحالة وقوع
الاصطلاح على أول اللغات من غير معرفة من المصطلحين، يعني ما
اصطلحوا عليه، وإذا حصل التوقيف على لغة واحدة جاز أن يكون ما
بعدها من اللغات اصطلاحا، وأن يكون توقيفا، ولا يقطع بأحدهما
إلا بدلالة.
قال: واختلفوا في لغة العرب، فمن زعم أن اللغات كلها اصطلاح،
فكذا قوله في لغة العرب، ومن قال بالتوقيف على اللغة الأولى
وأجاز الاصطلاح فيما سواها من اللغات اختلفوا في لغة العرب،
فمنهم من قال: هي أول اللغات وكل لغة سواها حدثت بعدها إما
توقيفا أو اصطلاحا، واستدلوا بأن القرآن كلام الله وهو عربي،
وهو دليل على أن لغة العرب أسبق اللغات وجودا.
ومنهم من قال: لغة العرب نوعان:
أحدهما : عربية حمير وهي التي تكلموا بها في عهد هود ومن قبله،
وبقي بعضها إلى وقتنا.
(1/400)
والثاني: العربية المحضة التي نزل بها
القرآن، وأول من أطلق لسانه بها إسماعيل فعلى هذا القول يكون
توقيف إسماعيل على العربية المحضة محتملا أمرين: إما أن يكون
اصطلاحا بينه وبين جرهم النازلين عليه بمكة، وإما أن يكون
توقيفا من الله، وهو الصواب. ا هـ.
وحكى ابن جني في الخصائص قولا آخر أن أصل اللغات إنما هو من
الأصوات والأسماع، كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء ونهيق
الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونحوه، ثم تولدت اللغات عن
ذلك فيما بعد.
قال: وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل. قال: وأبو الحسن الأخفش
يذهب إلى أنها توفيقية، لكنه لم يمنع القول بالاصطلاح.
(1/401)
تنبيهات
[التنبيه] الأول
أن للمسألة مقامين:
أحدهما : الجواز على اللغة: لا يجوز أن يكون إلا توقيفا أو إلا
اصطلاحا.
الثاني : أنه ما الذي وقع على تقدير كل من الأمرين؟ والقول
بتجويز كل من الأمرين هو مذهب المحققين، ونقلوه عن الأشعري،
وقيل: إنه إنما تكلم في الوقوع مع تجويز صدور اللغة اصطلاحا،
ولو منع الجواز لنقله عنه القاضي وغيره، وذكر إمام الحرمين
الخلاف في الجواز، ثم قال: إن الوقوع لم يثبت وتبعه ابن
القشيري وغيره.
[التنبيه] الثاني
معنى التوقيف:
في معنى التوقيف، قال ابن فارس: لعل ظانا يظن أن اللغة التي
دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد،
وليس كذلك، بل وقف الله آدم عليه الصلاة والسلام على ما شاء أن
يعلمه إياه ثم احتاج إلى علمه في زمانه فانتشر من ذلك ما شاء
ثم علم بعد ذلك آدم من عرف من الأنبياء - صلوات الله عليهم
نبيا نبيا - ما شاء أن يعلمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا صلى
الله عليه وسلم، فآتاه من ذلك ما لم يؤت أحدا، ثم قر الأمر
قراره، فلا نعلم لغة من بعده حدثت.
(1/401)
[التنبيه] الثالث
[الأسماء التي علمها الله آدم]:
قال ابن عطية: اختلفوا في أي الأسماء علم الله آدم؟ فقيل: جميع
المخلوقات حقيرها وجليلها، وقيل: أسماء الأجناس، وقيل: علم
الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته، وقد غلا قوم في هذا المعنى
حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال: علم الله آدم كل
شيء حتى أنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه، ونحو هذا
من القول الذي هو بين الخطأ. وقال أكثر العلماء: علمه منافع كل
شيء وما يصلح.
[التنبيه] الرابع
إن الخلاف في هذه المسألة يوجب الظن بأن لا فائدة للخوض فيه
لأحد أمرين: إما تكميل العلم بهذه الصناعة إذ معظم النظر فيها
يتعلق بدلالة الصيغ، أو جواز قلب ما لا تعلق له بالشرع فيها،
كتسمية الفرس ثورا، والثور فرسا إلى غير ذلك، وقيل: الخلاف
فيها طويل الذيل قليل النيل، ولا يترتب عليها معرفة عمل من
أعمال الشريعة، وإنما ذكرت في علم الأصول، لأنها تجري مجرى
الرياضيات التي يرتاض العلماء بالنظر فيها، كما يصور الحيسوب
مسائل الجبر والمقابلة، فهذه من أصول الفقه من رياضياته بخلاف
مسألة: الأمر للوجوب أو الفور، والنهي يقتضي الفساد، فإنها من
ضروراته.
ومنهم من خرج عليها مسائل من الفقه، كما لو عقدا صداقا في
السر، وآخر في العلانية، أو استعملا لفظ المفاوضة، وأرادا شركة
العنان حيث نص الشافعي على الجواز، أو تبايعا بالدنانير وسميا
الدراهم، قال ابن الصباغ: لا يصح، وكما لو قال لزوجته: إذا
قلت: أنت طالق ثلاثا لم أرد به الطلاق، وإنما غرضي أن تقومي
وتقعدي، ثم قال لها: أنت طالق ثلاثا وقع.
وحكى الإمام في باب الصداق وجها: أن الاعتبار بما تواضعا عليه.
ولو سمى أمته حرة ولم يكن ذلك اسمها، ثم قال بعد ذلك: يا حرة،
ففي البسيط أن الظاهر أنها لا تعتق إذا قصد النداء، وجعله
ملتفتا على هذه القاعدة.
قال في المطلب: والأشبه عدم بنائه على ذلك لأنا نفرع على جواز
وضع الاسم بالاصطلاح، وإذا جاز صار كالاسم المستمر ولو كان
اسمها بعد الرق حرة وناداها به، وقصد ذلك لم يقع، فكذا هنا،
وغير ذلك من الصور.
(1/402)
والحق : أنه لا يتخرج شيء من ذلك على هذه
القاعدة لأن مسألتنا في أن اللغات هذه الواقعة بين أظهرنا هل
هي بالاصطلاح أو التوقيف؟ لا في شخص خاص اصطلح مع صاحبه على
تغيير الشيء عن موضوعه، نعم يضاهيها قاعدة في الفقه وهي أن
الاصطلاح الخاص هل يرفع الاصطلاح العام أم لا؟ فيه خلاف،
وعليها تتفرع هذه الفروع، كما بينته في كتاب الأشباه والنظائر.
ومنهم من قال: فائدتها النظر في جواز قلب اللغة، فالقائلون
بالتوقيف يمنعونه مطلقا والقائلون بالاصطلاح يجوزونه إلا أن
يمنع الشرع منه، ومتى لم يمنع كان للشيء اسمان. أحدهما: متوقف
عليه، والآخر متواضع عليه، وبذلك قال القاضي وإمام الحرمين
وغيرهما، وأما المتوقفون، فقال المازري: اختلفت إشارة
المتأخرين فذهب الأزدي إلى التجويز كمذهب الاصطلاح، وأشار أبو
القاسم عبد الجليل الصابوني إلى المنع وجوز كون التوقيف واردا
على أنه وجب أن لا يقع النطق إلا بهذه الألفاظ.
وقال ابن الأنباري: الصحيح عندي أنه لا فائدة في هذه المسألة
وقال الماوردي في تفسيره: فائدة الخلاف أن من جعل الكلام
توقيفيا جعل التكليف مقارنا لكمال العقل، ومن جعله اصطلاحيا
جعل التكليف متأخرا عن العقل مدة الاصطلاح على معرفة الكلام،
ثم فيه وجهان:
أحدهما : أن التعليم إنما كان مقصورا على الاسم دون المعنى.
الثاني : أنه علم الأسماء ومعانيها، إذ لا فائدة في تعليم علم
الأسماء بلا معان، لتكون المعاني هي المقصودة، والأسماء دلائل
عليها، وإذا قلنا بالأول، وهو أن التعليم إنما كان مقصودا على
ألفاظ الأسماء دون معانيها، ففيه وجهان. أحدهما : أنه علمه
إياها باللغة التي يتكلم بها.
والثاني : أنه علمه بجميع اللغات، وعلمها آدم ولده فلما تفرقوا
تكلم كل قوم منهم بلسان استسهلوه منها وألفوه، ثم نسوا غيره
بتطاول الزمان. وزعم قوم أنهم أصبحوا وكل قوم منهم يتكلمون
بلغة قد نسوا غيرها في ليلة واحدة، ومثل هذا في العرف ممتنع. ا
هـ.
وعزا بعض الحنفية التوقيف لأصحابهم، والاصطلاح لأصحابنا، ثم
قال: وفائدة الخلاف أنه يجوز التعليق باللغة عند الحنفية
لإثبات حكم الشرع من غير رجوع إلى الشرع، وبنوا أن حكم الرهن
الحبس، لأن اللفظ ينبئ عنه، وعند أصحاب الشافعي أن التعليق
باللغة لإثبات الحكم الشرعي لا يجوز، لأن الواضعين في الأصل
كانوا جهالا،
(1/403)
وضعوا عبارات لمعبرات لا لمناسبات، ثم
استعملت وصارت لغة. انتهى.
وعلى القول بأنها اصطلاحية أو توقيفية فاختار ابن جني في
الخصائص أنها متلاحقة بعضها يتبع بعضا، لا أنها وضعت في وقت
واحد، قال: وهو قول أبي الحسن الأخفش وهو الصواب على معنى أن
الواضع وضع في أول الأمر شيئا ثم احتيج للزيادة عليه لحصول
الداعية إليه فزيد فيه شيئا فشيئا إلا أنه على قياس ما سبق
منها في حروفه، وقد سبق مثله عن ابن فارس.
(1/404)
فائدة: [أسماء الله توقيفية]
ذكرها الأستاذ أبو منصور في كتاب التحصيل فقال: أجمع أصحابنا
على أن أسماء الله توقيفية، ولا يجوز إطلاق شيء منها بالقياس،
وإن كان في معنى المنصوص، وجوزه معتزلة البصرة.
قال: وأما أسماء غيره، فالصحيح من مذهب الشافعي جواز القياس
فيها.
وقال بعض أصحابه مع أكثر أهل الرأي بامتناع القياس.
وأجمعوا على أنه لو حدث في العالم شيء بخلاف الحوادث كلها جاز
أن يوضع له اسم، واختلفوا في كيفيته، فمنهم من قال: نسميه باسم
الشيء القريب منه في صورته، ويكون ذلك من جملة اللغة التي قيس
عليها، ومنهم من قال: ابتدأ له اسما كيف كان، ويكون ذلك لغة
مختصة بالمسمى بها. ا هـ.
وقال المقترح في شرح الإرشاد: أطلق أئمتنا أن القياس يجري في
أسماء الله فانحصر مداركها في الكتاب والسنة والإجماع، وهل
يشترط أن يكون الخبر الوارد في السنة في أسماء الله متواترا؟
فيه خلاف والصحيح: أنه غير شرط.
[كيفية معرفة الطريق إلى معرفة وضع الألفاظ]:
السابع: في كيفية معرفة الطريق إلى معرفة وضع الألفاظ
لمعانيها، وهو إما بالنقل الصرف أو بالعقل الصرف أو المركب
منهما.
الأول : النقل، وهو إما متواتر كالأرض والسماء والحر والبرد
وهو مفيد للقطع، وإما آحاد كالقرء ونحوه، وهو مفيد للظن بشروطه
الآتية عند الجمهور. وحكى القاضي من الحنابلة عن السمناني في
مسألة العموم: أن اللغة لا تثبت بالآحاد، وكأنه قول الواقفية
في صيغ العموم والأمر.
(1/404)
والحق: أنه إنما يكون حجة في باب العمليات
والأحكام. أما ما يتعلق بالعقائد فلا، لأنها لا تفيد القطع.
قال في المحصول: والعجب من الأصوليين حيث أقاموا الدليل على أن
خبر الواحد حجة في الشرع، ولم يقيموا الدليل على ذلك في اللغة
وكان هذا، لأن إثبات اللغة كالأصل للتمسك بخبر الواحد.
قال الأصفهاني: وهذا ضعيف، لأن الذي دل على حجية خبر الواحد في
الشرع على التمسك به في نقل اللغة آحادا إذا وجدت الشرائط،
فلعلهم أهملوا ذلك اكتفاء منهم بالأدلة الدالة على أن خبر
الواحد حجة في الشرع.
وأورد في المحصول تشكيكات كثيرة على نقل اللغة وناقلها، ومن
جيد أجوبتها: أنها على قسمين: فمنه ما يعلم بالضرورة مدلوله
فيندفع عند جميع التشكيكات إذ لا تشكيك في الضروريات، والأكثر
في اللغة هو هذا، ومنه ما ليس كذلك فيكتفى فيه بالظن، ونقل
الآحاد. وقال أبو الفضل بن عبدان في شرائط الأحكام وتبعه
الجيلي في الإعجاز: ولا يلزم اللغة إلا بخمس شرائط:
أحدها : ثبوت ذلك عن العرب بنقل صحيح بوجوب العمل.
والثاني : عدالة الناقلين كما يعتبر عدالتهم في الشرعيات.
والثالث : أن يكون النقل عمن قوله حجة في أصل اللغة كالعرب
العاربة مثل قحطان ومعد وعدنان، فأما إذا نقلوا عمن بعدهم بعد
فساد لسانهم واختلاف المولدين، فلا.
قلت: ووقع في كلام الزمخشري وغيره الاستشهاد بشعر أبي تمام بل
في الإيضاح للفارسي، ووجه بأن الاستشهاد بتقرير النقلة كلامهم
وأنه لم يخرج عن قوانين العرب. وقال ابن جني: يستشهد بشعر
المولدين في المعاني كما يستشهد بشعر العرب في الألفاظ.
والرابع : أن يكون الناقل قد سمع منهم حسا، وأما بغيره فلا
يثبت.
والخامس : أن يسمع من الناقل حسا. ا هـ.
الثاني : العقل: قال البيضاوي وغيره: وهو لا يفيد وحده، إذ لا
مجال له في معرفة كيفية الموضوعات اللغوية.
الثالث : المركب منهما كما إذا نقل أن الجمع المعرف باللام
يدخله الاستثناء، وأن الاستثناء إخراج ما لولاه لتناوله اللفظ،
فإن العقل يدرك ذلك وأن الجمع المعرف للعموم، وهو يفيد القطع
إن كانت مقدماته كلها قطعية، والظن إن كان منها شيء
(1/405)
ظني. واعترض في المحصول بأن الاستدلال
بالمقدمتين النقليتين على النتيجة لا يصح إلا إذا ثبت أن
الناقضة ممنوعة على الواضع، وهذا إنما يثبت إذا قلنا: إن
الواضع هو الله تعالى، وقد بينا أن ذلك غير معلوم.
والتحقيق: أن هذا القسم لا يخرج عن القسمين قبله، إذ ليس
المراد بالنقل أن يكون النقل مستقلا بالدلالة من غير مدخل
للعقل فيه، ألا ترى أن صدق المخبر لا بد منه وهو عقلي؟ وقد قال
سليم في باب المفهوم من التقريب: تثبت اللغة بالعقل، لأن له
مدخلا في الاستدلال بمخارج كلامهم على مقاصدهم وموضوعاتهم.
تنبيهان
[التنبيه] الأول
قد تعلم اللغة بالقرائن
قال ابن جني في الخصائص من قال: إن اللغة لا تعرف إلا نقلا فقد
أخطأ، فإنها قد تعلم بالقرائن أيضا، فإن الرجل إذا سمع قول
الشاعر: قوم إذا الشر أبدا ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات
ووحدانا يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات.
[التنبيه] الثاني
قال عبد اللطيف البغدادي في شرح الخطب النباتية: اعلم أن
اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه، وأما النحوي
فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه، ومثالهما المحدث
والفقيه، فشأن المحدث نقل الحديث برمته، ثم إن الفقيه يتلقاه
ويتصرف فيه ويبسط علله ويقيس عليه الأمثال والأشباه. قال أبو
علي فيما حكاه ابن جني: يجوز لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم
وشعرنا على شعرهم.
ـــــــ
انظر الرسالة ص "42".
(1/406)
مسألة: [لسان العرب أوسع الألسنة]
قال الشافعي في الرسالة: لسان العرب أوسع الألسنة لا يحيط
بجميعه إلا نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، والعلم به
عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل
(1/406)
الفقه، لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب
منها عليه شيء، وتوجد مجموعة عند جميعهم.
وقال ابن فارس في كتاب فقه العربي: قال بعض الفقهاء: كلام
العرب لا يحيط به إلا نبي. قال: وهذا كلام حقيق أن لا يكون
صحيحا، وما بلغنا عن أحد من الماضين أنه ادعى حفظ اللغة كلها،
وأما ما وقع في آخر كتاب الخليل: هذا آخر كلام العرب، فالخليل
أتقى لله من أن يقول ذلك.
قال: وذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أن الذي انتهى إلينا من كلام
العرب هو الأقل، ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاء شعر كثير، وكلام
كثير وأحرى بهذا القول أن يكون صحيحا.
(1/407)
مسألة: [الاحتجاج باللغة العربية]
قال ابن فارس: لغة العرب يحتج بها فيما اختلف فيه إذا كان
التنازع في اسم أو صفة أو شيء مما يستعمله العرب من سننها في
حقيقة أو مجاز ونحوه، فأما ما سبيله الاستنباط، وما فيه لدلائل
العقل مجال، فإن العرب وغيرهم فيه سواء، وأما خلاف الفقهاء في
القرء والعود في الظهار ونحوه فمنه ما يصلح للاحتجاج فيه بلغة
العرب، ومنه ما يوكل إلى غير ذلك.
قال: ويقع في الكلمة الواحدة لغتان كالصرام، وثلاث كالزجاج،
وأربع كالصداق، وخمس كالشمال، وست كالقسطاس ولا يكون أكثر من
هذا. ا هـ.
قلت: وهذا غريب، فقد حكوا في الأصبع عشر لغات، وكذا الأنملة،
ونظائره كثيرة، وقيل: في أف خمسون لغة.
(1/407)
مسألة: [ثبوت اللغة بالقياس]
لا خلاف في ثبوت اللغة بالنقل والتوقيف، وهل تثبت بالقياس؟ فيه
قولان للأصوليين، وهما وجهان لأصحابنا كما قاله الشيخ في اللمع
والماوردي في الحاوي، والروياني في البحر، فذهب أبو بكر
الصيرفي والقاضي أبو بكر وتلميذه ابن حاتم من أصحابنا في كتابه
اللامع، وأبو الحسين بن القطان وإمام الحرمين والغزالي وابن
القشيري
(1/407)
مسألة: [تغيير الألفاظ اللغوية].
حكى بعض المغاربة من شارحي البرهان: أن الناس اختلفوا في أن
الألفاظ اللغوية هل يجوز تغييرها حتى يسمى الثوب دارا مثلا؟
قال: فالذي أجمع عليه العلماء أن ما تعلق به حكم من الألفاظ لا
يجوز تغييره إذ يؤدي إلى تغيير الحكم، وما لم يتعلق به حكم،
فإن كان توقيفيا فمن الناس من يقول: لا يجوز تغييره وكان
التوقيف حكما، ومنهم من جوز التغيير، وقال: إمكان الحكم ليس
بحكم، وإنما الحكم بالخطاب والعلم به عند توجه الخطاب، وقد
سبقت هذه المسألة في فوائد الخلاف في أن اللغات توقيفية أم
لا؟.
(1/413)
مسألة: [ثبوت الاسم الشرعي بالاجتهاد].
هذا في الاسم اللغوي فأما في الاسم الشرعي فكما يثبت بالتوقيف
يثبت بالاجتهاد، لأن الحكم إذا ثبت تبعه الاسم كما أن الشرع
أثبت الربا في الأعيان الستة، ثم ألحق العلماء غيرها بها
بالاجتهاد، وثبت بذلك اسم الربا. قاله المحاملي من أصحابنا في
كتاب السلم من كتابه المسمى بالأوسط.
[المناسبة في الوضع]:
الثامن : في عدم المناسبة في الوضع: ذهب الجمهور إلى أن دلالة
اللفظ على المعنى ليست لمناسبة بينهما، بل لأنه جعل علامة
عليه، ومعرفا به بطريق الوضع.
وذهب عباد بن سليمان الصيمري وغيره إلى أن دلالة اللفظ على
المعنى لمناسبة طبيعية بينهما.
وعبر ابن الجويني عن هذا الاختلاف بأن اللغات الموضوعة
لمعانيها هل هو لأمر معقول أو لا؟ والأول: قول عباد، ثم نقل
صاحب المحصول عنه أن اللفظ يفيد المعنى بذاته من غير واضع لما
بينهما من المناسبة الطبيعية. قال الأصفهاني: وهو الصحيح عنه،
ونقل صاحب الأحكام عنه أن المناسبة حاملة للواضع على أن يضع.
(1/413)
|