البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

تقسيم الألفاظ
[تقسيم الدلالة]:
الأول: في تقسيم الدلالة:
وقد اختلف فيها، فالصحيح أنها كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه المعنى من كان عالما بوضعه له.
وقال ابن سينا: إنها نفس الفهم، ورد بأن الدلالة نسبة مخصوصة بين اللفظ والمعنى. ومعناها موجبيته تخيل اللفظ لفهم المعنى، ولهذا يصح تعليل فهم المعنى من اللفظ بدلالة اللفظ عليه، والعلة غير المعلول، فإذا كانت الدلالة غير فهم المعنى من اللفظ لم يجز تفسيرها به.
وأجيب: بأن التعليل قد يكون مع الاتحاد كما في كل حد مع محدوده نحو هذا إنسان لأنه حيوان ناطق.
ورجح آخرون التفسير الثاني بأن اللفظ إذا دار بين مخاطبين، وحصل فهم السامع منه قيل: هو لفظ ذلك، وإن لم يحصل قيل: ليس بذلك، فقد دار لفظ الدلالة مع الفهم وجودا وعدما، فدل على أنه مسمى الدلالة.
ويتلخص من هذا الخلاف خلاف آخر في أن، الدلالة صفة للسامع أو اللفظ؟ والصحيح الثاني. وينبغي أن يحمل كلام ابن سينا على أن مراده بالفهم الإفهام، ولا يبقى خلاف، والفرق بينهما: أن الفهم صفة السامع، والإفهام صفة المتكلم، أو صفة اللفظ على سبيل المجاز، وهذه دلالة بالقوة. أما الدلالة بالفعل فهي إفادته المعنى الموضوع له.
وشرط بعضهم فيه شروطا ثلاثة: أن لا يبتدئه بما يخالفه، ولا يختمه بما يخالفه، وأن يصدر عن قصد فلا اعتبار بكلام الساهي النائم، والقصد من هذا: أن يجعل سكوت المتكلم على كلامه كالجزء من اللفظ، ويلتحق بالقرائن اللفظية، وهي على القولين غير الدلالة باللفظ، لأن الدلالة باللفظ هي الاستدلال به، هو استعماله في المعنى المراد، فهو صفة المتكلم، والدلالة صفة اللفظ أو السامع، وقد أطنب القرافي في الفرق بينهما بما حاصله هذا.
وهي تنقسم إلى لفظية وغير لفظية، والثانية قد تكون وضعية كدلالة وجود المشروط على وجود الشرط، وعقلية كدلالة الأثر على المؤثر كدلالة الدخان على النار

(1/416)


وبالعكس.
[دلالة المطابقة والتضمن والالتزام]:
والأول: أعني اللفظية تنقسم إلى عقلية كدلالة الصوت على حياة صاحبه، وطبيعية كدلالة أح على وجع في الصدر، ووضعية وتنحصر في ثلاثة: المطابقة والتضمن والالتزام، لأن اللفظ إما أن يدل على تمام ما وضع له أولا. والأول: المطابقة كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، والثاني إما أن يكون جزء مسماه أو لا والأول دلالة التضمن كدلالة الإنسان على الحيوان وحده أو الناطق وحده، وكدلالة النوع على الجنس، والثاني: أن يكون خارجا عن مسماه وهي دلالة الالتزام له كدلالته على الكاتب أو الضاحك، ودلالة الفصل على الجنس، وبهذا التقسيم تعرف حد كل واحد منها.
وقد اجتمعت الدلالة في لفظ العشرة، فإنها تدل على كمال الأفراد مطابقة على الخمسة تضمنا وعلى الزوجية التزاما.
والدليل على الحصر: أن المعنى من دلالة اللفظ على المعنى عند سماعه إما وحده كما في المطابقة، وإما مع القرينة كما في التضمن والالتزام، فلو فهم منه معنى عند سماعه ليس هو موضوعه، ولا جزء موضوعه، ولا لازمه لزم ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، لأن نسبة ذلك اللفظ إلى ذلك المعنى كنسبته إلى سائر المعاني، ففهمه دون سائر المعاني ترجيح من غير مرجح.
وهنا تنبيهات
[التنبيه] الأول
أن الإمام فخر الدين قيد دلالة التضمن والالتزام بقوله: من حيث هو كذلك واحترز به عن دلالة اللفظ على الجزء أو اللازم بطريق المطابقة إذا كان اللفظ مشتركا بين الكل والجزء أو بين الكل واللازم، ويمثلونه بلفظ الإمكان، فإنه موضوع للإمكان العام والخاص، والعام جزء الخاص كما تقرر في المنطق من أن الممكن العام في مقابلة الممتنع، فلذلك يطلق على الواجب وعلى ما ليس بممتنع ولا واجب الذي هو الممكن الخاص، فهو حينئذ موضوع للكل والجزء.
قال بعض الفضلاء: وفي النفس من هذا التمثيل شيء فلعله ما وضع لذلك،

(1/417)


بل مجموع قولنا: إمكان عام لا أحدهما، ومجموع قولنا: إمكان خاص لا قولنا إمكان فقط، فلا اشتراك حينئذ. قال: وأخذ التمثيل بأحسن من ذلك بلفظ الحرف، فإنه موضوع لكل حروف المعاني ولجزئه، فإن ليت مثلا حرف، ولكل واحد من اللام والياء التاء يقال له: حرف فهذا هو اللفظ المشترك بين المسمى وجزئه، وأما المشترك بين اللفظ ولازمه فهو عسر. مع إمكانه. انتهى.
ويمكن أن يمثل له بلفظ مفعل فإن أهل اللغة نقلوا أنه اسم للزمان والمكان والمصدر، وهي متلازمة عادة فيكون اللفظ موضوعا للشيء ولازمه، إذ لا فعل إلا في زمان أو مكان عادة، ومثله الصفي الهندي بفعيل المشترك بين الفاعل والمفعول، كالرحيم فإنه يكون بمعنى المرحوم كما يكون بمعنى الراحم نص عليه الجوهري، هو إذا دل على أحدهما بطريق المطابقة دل على الآخر بطريق الالتزام، لكونه لازما له، وهو أيضا تمام مسماه، فلو لم يقل من حيث هو كذلك لزم أن تكون دلالة الالتزام دلالة المطابقة، فلم يكن التعريف مانعا.
إذا عرف هذا فقد أورد على القيد الذي ذكره الإمام أنه يجب أن يعتبره أيضا في المطابقة احترازا عن دلالة اللفظ المشترك بين الكل والجزء، وبين الكل واللازم على الجزء أو اللازم بطريق التضمن أو الالتزام، فإن كل واحدة من هاتين الدلالتين حينئذ دلالة على تمام المسمى، وليست مطابقة.
وقال الصفي الهندي: إنما لم يذكره فيها، لأن دلالة التضمن والالتزام لا يمكن معرفتهما إلا بعد معرفة المطابقة، لكونهما تابعين لها، فلو جعل القيد المذكور جزءا من معرفة المطابقة للاحتراز عنها لزم أن يكونا معلومين قبل المطابقة، فيلزم أن يكون الشيء معلوما قبل كونه معلوما، وهو محال. قال: ولا يخفى عليك ما فيه.
وبعضهم حذف القيد المذكور في الثلاث اعتبارا بقرينة ذكر التمام والجزء واللازم، وصاحب "التحصيل" ذكره في الثلاث.
قال القرافي: وهو قيد لم يذكره أحد ممن تقدم الإمام، وإنما اكتفى المتقدمون بقرينة التمامية والجزئية واللازمية، فيقال للإمام: إن كانت هذه القرائن كافية فلا حاجة إلى القيد، وإلا فيلزم الاحتياج إليه في الثلاث، فما وجه تخصيص التضمن والالتزام؟.
فإنا نقول في المطابقة: كما يمكن وضع العشرة للخمسة، يمكن وضعها للخمسة عشر، فيصير له على جميع ذلك دلالتان مطابقة باعتبار الوضع الأول، وتضمن

(1/418)


باعتبار الثاني. انتهى.
ويمكن أن يرد ما اعترض به على الإمام، فإنه يرى أن لا يمكن أن يدل اللفظ الواحد على المعنى الواحد بالمطابقة مع التضمن أو الالتزام، لأن دلالته على المعنى بالمطابقة بالذات وبهما بالواسطة ومن المحال اجتماع دلالتي الذات والواسطة، وإذا لم يجتمعا كان اللفظ في حال الاشتراك بين الكل والجزء دلالة واحدة، وهي المطابقة، لأنها أقوى فتدفع الأضعف.
وإذا صحت لك هذه القاعدة صح ما قاله، ولم يحتج أن يذكر القيد بالحيثية في دلالة المطابقة، لأنه في صورة الاشتراك بين الكل والجزء، وليس للفظ إلا دلالة المطابقة فقط لا التضمن والالتزام، فلم يحتج أن يحترز عنه بقوله: من حيث هو كذلك.
وأما في دلالة التضمن والالتزام فاحتاج إلى ذكر الحيثية، وإلا كان يلزمه أن دلالة المطابقة على الجزء دلالة التضمن والالتزام في صورة المشترك بين الكل والجزء.
وبيانه: أن اللفظ إذ دل بالمطابقة على الجزء في تلك الصورة فقد دل على جزء المسمى دلالة التضمن فدلالة المطابقة، دلالة التضمن هذا خلف، ولا يلزم هذا على إطلاق دلالة المطابقة.
وللبحث فيه محال، فقد نازع بعضهم الإمام في هذا التقييد، وقال: اللفظ إذا أطلق على الجملة فإن التضمن للجزء ثابت عند مراد المطلق المعنى المركب من ذلك الجزء وغيره، فإن مدلول اللفظ هو جملة مشتملة على أجزاء كل واحد منها إنما فهم ضمنا وتبعا للجملة، وإن كان للمستعمل أن يطلق ذلك اللفظ أيضا على الجزء، ولكن عند دلالته بهذا الإطلاق على ذلك الجزء لا يكون جزءا من أجزاء ذلك المعنى، بل مستقلا، ونحن لا نريد بدلالة التضمن إلا أن يفهم الجزء تضمنا، ويكون جزءا من أجزاء ذلك المعنى، ولا تكون الدلالة لفظية لكن تبعية، فإذا استقلت خرجت عن كونها تضمنا، ولم يبق جزء من أجزاء ذلك المعنى، وحينئذ فالقيد المذكور غير محتاج إليه.

(1/419)


[التنبيه] الثاني: [أقسام اللازم]
إن اللازم على قسمين: لازم في الذهن بمعنى أن الذهن ينتقل إليه عند فهم المعنى، ويلزم من تصور الشيء تصوره، كالفردية للثلاثة والزوجية للأربعة سواء كان لازما في الخارج أيضا، كالسرير في الارتفاع من الأرض، إذ السرير كلما وجد في الأرض فهو مرتفع، ومهما تصور في الذهن فهو مرتفع، أو لم يكن كالسواد إذا أخذ بقيد كونه ضدا للبياض، فإن تصوره من هذه الحيثية يلزمه تصور البياض، فهما متلازمان في الذهن متنافيان في الخارج، ولا يتصور ذلك في اللازم الخارجي فقط كالسرير مع الإمكان، فإنه مهما وجد السرير في الخارج فهو ممكن ضرورة، وقد يتصور السرير ويذهل عن إمكانه، فافهم هذا التقرير فإنه الصواب، وفي عباراتهم إيهام، واللازم الثاني في الوجود وهو كون المسمى بحيث يلزم من حصوله في الخارج حصول الخارجي فيه.
إذا عرفت ذلك فلا خلاف في أن المعتبر في دلالة الالتزام اللزوم الذهني، سواء كان في ذهن كل واحد كما في المتقابلين، أو عند العالم بالوضع، وزاد الإمام فخر الدين: ظاهرا لأن القطعي غير معتبر، وإلا لم يجز إطلاق اسم اليد على القدرة ونحوه، فإن اليد لا تستلزم القدرة قطعا، لأن اليد تكون شلاء بل ظاهرا، ومثله قول السكاكي في المفتاح: المراد باللزوم الذهني البين القرينة بحيث ينتقل الذهن من فهمه إلى فهمه، كالشجاعة للأسد، فإنها لازمة ظاهرة يصح إطلاق الأسد لإرادتها بخلاف البخر، وإن كان لازما للأسد لا أنه أخفى، فلا يجوز إطلاق الأسد لإرادته.
واختلفوا في اللازم الخارجي هل يعتبر في دلالة الالتزام؟ فذهب جماعة من الأصوليين إلى اعتباره، فيستدلون باللفظ على كل ما يلزم المسمى ذهنيا أو خارجيا، ورجحه ابن الحاجب.
وذهب المنطقيون ووافقهم الإمام فخر الدين الرازي والبيضاوي إلى أنه لا يشترط لحصول الفهم بدونه كما في الضدين، وإذا لم يمكن فهم فلا دلالة، ويرد عليهم أنواع المجازات.
والحق: التفات هذا الخلاف على أصل سبق في تفسير الدلالة هل يشترط فيها أنه مهما سمع اللفظ مع العلم بالوضع فهم المعنى أم لا، بل يكفي الفهم في الجملة؟ وبه

(1/420)


يظهر رجحان كلام الأصوليين، بل قد توسع البيانيون فأجروها فيما لا لزوم بينهما أصلا، لكن القرائن الخارجية استلزمته، ولهذا يجري فيها الوضوح والخفاء بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال، فحصل ثلاثة مذاهب أوسعها الثالث، وهو الأظهر.
واحتج الإمام بأن الجوهر والعرض متلازمان في الخارج، واللفظ الدال على أحدهما لا يدل على الآخر بالالتزام وهو ضعيف لوجهين:
أحدهما : أن دلالة اللفظ على المعنى غير استعماله فيه، فلا يلزم من انتفاء استعمال لفظ الجوهر في العرض وعكسه انتفاء دلالة أحدهما على الآخر بالالتزام، إذ ليس الاستعمال نفس الدلالة ولا لازمها كما في الوضع الأول قبل الاستعمال.
الثاني : أنه إنما يتم أن لو لزم من وجود الشرط وجود المشروط، فلم يلزم من وجود اللزوم الخارجي بدون دلالة الالتزام عدم كونه شرطا لها، لجواز أن يكون شرطا أو لازما أعم.
والعجب من الإمام أنه صرح عقيب هذا الاستدلال أن اللزوم الذهني شرط لا موجب، فبتقدير أن يكون اللزوم الخارجي معتبرا كان كذلك، فكيف استدل بوجوده مع عدم الاستعمال على عدم الاعتبار؟.

(1/421)


التنبيه الثالث: [الملازمة الذهنية شرط في الدلالة الالتزامية]
إذا شرطنا الملازمة الذهنية فهي شرط في الدلالة الالتزامية، وإطلاق اللفظ سبب، لأنه المناسب.
وقال الإمام: هذا اللازم شرط لا سبب، يعني أن مجرد اللزوم من غير إطلاق اللفظ ليس بسبب في حصول دلالة الالتزام، بل السبب إنما هو إطلاق اللفظ، فاللزوم شرط، وقيل: يعني أن الملازمة الذهنية يلزم من عدمها العدم، لأن اللفظ إذا أفاد معنى غير مستلزم لآخر لا ينتقل الذهن إلى ذلك الآخر إلا بسبب منفصل، فتكون إفادته مضافة لذلك المنفصل لا للفظ، فلا يكون فهمه دلالة اللفظ بل أثرا للمنفصل، ولا يلزم من وجود الملازمة وجود الدلالة عند عدم الإطلاق، فإن الملازمة في نفس الأمر، والفهم معدوم من اللفظ، إذ اللفظ معدوم، فهو حينئذ شرط، والإطلاق هو المسبب.

(1/421)


التنبيه الرابع: [دلالة المطابقة لفظية والخلاف]
[في دلالة التضمن والالتزام]
لا خلاف أن دلالة المطابقة لفظية، واختلفوا في التضمن والالتزام على ثلاثه مذاهب:
أحدهما : أنهما عقليان، لأن دلالة المعنى عليهما بالواسطة، وهذا ما ذهب إليه الغزالي وصاحب المحصول واختاره أثير الدين الأبهري في كشف الحقائق والصفي الهندي.
قال: وإنما وصفتا بكونهما عقليتين، إما لأن العقل يستقل باستعمال اللفظ فيهما من غير افتقار إلى استعمال أهل اللسان اللفظ فيهما وهذا يستقيم على رأي من لم يعتبر الوضع في المجاز، وإما لأن المميز بين مدلوليهما وهو الجزء واللازم هو العقل.
الثاني : أنهما لفظيان ونسبه بعضهم إلى الأكثرين، واختاره ابن واصل في "شرح جمل الخونجي".
والثالث : أن دلالة التضمن لفظية والالتزام عقلية، وبه قال الآمدي وابن الحاجب، لأن الجزء داخل فيما وضع له اللفظ بخلاف اللازم فإنه خارج عنه.
وقال الهندي: وهذا ضعيف، لأنه إن جعلت لفظية لأجل أن فهم الجزء منها إنما هو بواسطة اللفظ فدلالة الالتزام كذلك، لأن فهم اللازم إنما هو بواسطة اللفظ الدال على الملزوم، وإن كان لأجل أن اللفظ موضوع له بالوضع المختص بالحقيقة فباطل، أو بالوضع المشترك بين الحقيقة والمجاز، فاللازم أيضا كذلك إن اعتبر الوضع في المجاز، والأقيس منهما: الوضع، وإن كان لأجل أن الجزء داخل في المسمى، واللازم خارج عنه فهو تحكم محض واصطلاح من غير مناسبة.
وقال صاحب الدقائق: ومن جعل الالتزام لفظية فقد أخطأ، لأن الذهن ينتقل من اللفظ إلى معناه، ومن معناه إلى اللزوم، والتضمن غير خارج عن مسمى اللفظ بخلاف الالتزام، وإلا فكل منهما منسوب إلى اللفظ، وكل منهما عقلي بوجه واعتبار.

(1/422)


التنبيه الخامس: [ودلالة المطابقة قد تنفك عن التضمن]
إن دلالة المطابقة قد تنفك عن التضمن، وذلك بكون مدلول اللفظ بسيطا لا جزءا له، وهل تنفك عن دلالة الالتزام أم لا؟.
قال الهندي: ذهب الأكثرون إلى أنه لا ينفك، لأن كل ماهية لا بد وأن يكون لها لازم أقله أنها ليست غيرها، ومنهم من جوز الانفكاك زاعما أن شرط دلالة الالتزام أن يكون اللازم بحيث يكون تصوره لازما لتصور الملزوم، وهو ممنوع فيما ذكر من اللازم، هذا لأنه يمكننا أن نعقل الماهية مع الذهول عن الاعتبار المذكور، وأما المطابقة فلازمة لاستحالة وجود التابع من حيث إنه تابع بدون المتبوع.
وقيل: أصل الخلاف أن لكل ماهية لازما أو بعض الماهيات لا لازم لها؟ فإن قلنا: لكل شيء لازم، فالمطابقة والالتزام متساويان، قال الإمام في التلخيص: لكل شيء لازم، وأدناه أنه ليس غيره، ورد عليه بأن الكلام في اللازم البين الذي يلزم من حضور الملزوم حضوره، وإن قلنا: إن بعض الماهيات لا لازم لها فالمطابقة أعم.

(1/423)


التنبيه السادس: [دلالة المطابقة لا تحتاج إلى نية]
إن دلالة المطابقة هي الصريح من اللفظ فلا يحتاج إلى نية، وأما دلالة التضمن فتحتاج إلى نية عندنا، ومن ثم لو قال: أنت طالق، ونوى الثلاث وقع، خلافا لأبي حنيفة.
لنا أن طلقت فعل يدل على الحدث والزمان، والحدث الذي هو المصدر جزؤه ودلالته عليه بالتضمن، فيصح نية الثلاث كما لو ذكر المصدر صريحا، فقال: أنت الطلاق.
وأما دلالة الالتزام كدلالة البيت على الأرض، فقال صاحب المقترح من أصحابنا: في الخلاف: لا تعويل عليها في الأحكام وهو صحيح، لأن النية إنما تعمل في الملفوظ، والملتزم غير ملفوظ، والطلاق بالنية المجردة عن اللفظ لا يقع.

(1/423)


التنبيه السابع: [دلالة الاستدعاء]
ما ذكرناه من انحصار الدلالات في الثلاث هو المشهور، وزاد الجزولي من النحويين دلالة رابعة وسماها: بالاستدعاء، وجعل دلالة الفعل على المحل وهو المفعول به، وعلى الباعث يعني الذي بعث على الفعل، وهو المفعول لأجله، وعلى المصاحب وهو المفعول معه من قبيل هذه الدلالة، وأنكره الآمدي، وقال: دلالة الفعل على المحل والباعث والمصاحب من قبيل دلالة الالتزام عندنا إلا أن المكان يلزم جميع الأفعال متعديها ولازمها ما وقع فيها عمدا وسهوا، والمحل إنما يلزم من الأفعال المتعدي خاصة، والباعثة إنما تلزم من الأفعال ما يوقعه القاصد للإيقاع، ولا يلزم فعل الساهي والنائم، والمصاحب إنما يلزم ما يشرك فيه الفاعل غيره.
وقد أورد القرافي على الحصر في الثلاث دلالة العام على أفراده. وقال: إنها خارجة عنهن، وجوابه يعلم من باب العام.
ومنهم من أورد دلالة اللفظ المركب على مفرداته، فإن الواضع لم يضعه لمفهومه ولا لشيء ذلك المفهوم داخل فيه، ولا لخارج عنه لازم له.
وأجيب بأن المراد بوضع اللفظ للمعنى وضع عينه لعينه، أو وضع أجزائه لأجزائه بحيث يطابق مجموع اللفظ مجموع المعنى، والثاني موجود في المركب، فإن الواضع وإن لم يضع مجموع زيد قائم لمدلوله، فقد وضع كل جزء من أجزائه لجزء من مفهومه، فإنه وضع زيدا للذات وقائما للصفة والحركة المخصوصة، أعني دفعهما لإثبات الثاني للأول.

(1/424)


القسم الثاني: باعتبار التركيب والإفراد
ويطلق المفرد باصطلاح النحويين على أربعة معان:
أحدها : مقابل المثنى والمجموع، وهو اللفظ بكلمة واحدة.
الثاني : مقابل المضاف في باب النداء ولهذا يقولون: المنادي مفرد ومضاف.
والثالث : مقابل الجملة في باب المبتدأ وهو المراد بقولهم: الخبر قد يكون مفردا وقد يكون جملة.
الرابع : مقابل المركب.
أما المفرد باصطلاح المنطقيين فهو ما دل على معنى ولا جزء من أجزائه يدل بالذات على جزء من أجزاء ذلك المعنى كإنسان، وإن شئت فقل: هو ما لا يراد بالجزء منه دلالة أصلا على معنى حين هو جزؤه كأحمد.
[تعريف المركب]:
وأما المركب فما دل جزؤه على جزء المعنى المستفاد منه حين هو جزؤه سواء كان تركيب إسناد كقام زيد، وزيد قائم، أم تركيب مزج كخمسة عشر، أو إضافة كغلام زيد، وأما عبد الله فإن كان دالا على الذات فهو مفرد، وإن كان دالا على الصفات فهو مركب.
والمراد بالجزء ما صار به اللفظ مركبا كحروف زيد، فلا يرد الزاي من زيد قائم، فإنها لا تدل على جزء المعنى، وكذلك أوردوا على أنفسهم كون الماضي يجب أن يكون مركبا، لأن مادته تدل على المصدر وزنته على خصوص الزمن، فأجابوا بأن المعنى بقولنا الجزء ليس مطلق الجزء، بل الأجزاء المترتبة في السمع، وقالوا: ونحو بعلبك مركب عند النحويين، لأنه كلمتان ومفرد عند الأصوليين، لأنه لا يدل جزؤه على جزء معناه، و أقوم و نقوم و يقوم مركب عند الأصوليين، لأن جزأه يدل على جزء معناه، لأن حرف المضارعة منها يدل على الفاعل المتكلم وحده والمتكلم ومعه غيره، والمخاطب منها ونفس الكلمة تدل على الحدث والزمان، ومفرد عند النحويين، لأنه لفظ بكلمة واحدة.

(1/425)


أما يقوم بالغيبة، ففيه قولان عند المنطقيين، فقيل: هو مفرد، وقيل: هو مركب، ونقل عن ابن سينا، والصحيح عند المتأخرين: أنه مركب كسائر الأفعال المضارعة، وإنما قالوا: حين هو جزؤه ليحترزوا من مثل أبكم، وإنسان، فإن كل واحد من جزئه يدل على معنى لكن لا على جزء مسماه حين هو جزؤه، وإنما يدل على معنى في الجملة، ألا ترى أن الأب اسم للوالد، و كم اسم للعدد؟ لكن لا من حيث إن كل واحد من اللفظين جزء من الآخر حين هو جزؤه، وكذلك: إنسان، ألا ترى أن إن حرف شرط يدل على الشرطية؟ لكن لا من حيث هي جزء إن.
وزعم الزمخشري وتبعه ابن يعيش في أول شرح المفصل وابن إياد أن الرجل مركب فإنه يدل على معنيين التعريف والمعرف، وهو من جهة النطق لفظة واحدة وكلمتان، وكذلك ضربا و ضربوا، قال الزنجاني في الهادي: وهذا غلط، لأن الرجل ونظائره لفظتان لا لفظة واحدة، ثم ينتقض ما ذكره بنحو ضرب، فإنه يدل على معنيين الحدث والزمان، وأنه كلمة باتفاق.
قلت: لعل الزمخشري بناه أن المعرف اللام وحدها، وحينئذ فهي لفظة واحدة، واللام كالتنوين في زيد، فإن قلنا: إن المعرف أل فهو لفظتان لإمكان التلفظ بها وحدها.
والحاصل : أن أمثلة المضارع خلا الغائب مركبات قطعا، وأمثلة الماضي مفردات قطعا، وأمثلة الأوامر مركبات عند المنطقيين.
وصرح ابن مالك في أول شرح التسهيل بأن ياء النسب، و ألف ضارب وميم مكرم، يدل على معنى، ولكن لا بالوضع.
وقال ابن الساعاتي: المجموع هو الدال على شخص مسمى بذلك، لا أن الحرف دل بنفسه.
ومأخذ الخلاف بينهم أن النحاة يترجح نظرهم في جانب الألفاظ، وأولئك يترجح نظرهم في جانب المعاني، وعلى هذا عبد الله ونحوه، إن أريد به العلمية كان مفردا بمثابة زيد وعمرو، لأن جزأها لا يدل على معناها، وإن أريد به نسبة العبودية إلى مستحقها، فهي مركبة، لدلالة جزئها على جزء معناها.
وقد اجتمع الأمران في حديث رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، فقال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن زيد بن أسلم، قال: كان ابن عمر يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه وعليه إزار يتقعقع، يعني جديدا، فقال: "من هذا؟" فقلت: عبد

(1/426)


الله فقال: "إن كنت عبد الله فارفع إزارك"، قال: فرفعته وكان طويلا.
فقول ابن عمر: عبد الله، يعني أنا عبد الله فهو مفرد، لأنه أراد العلمية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن كنت عبد الله" فهو مركب تركيبا إضافيا، لأن مراده نسبة العبودية إلى الله، فالإفراد العلمي طار على التركيب الإضافي، وهو يلوح فيه.
ويقال للمركب: مؤلف لا فرق بينهما عند المحققين كما قاله الأصفهاني، ومنهم من فرق بينهما بأن المركب ما دلت أجزاؤه إذا انفردت، ولا تدل إذا كانت أجزاء كعبد الله، فإنه إذا كان علما كان بمنزلة زيد، فلا تدل أجزاؤه في هذه الحالة على شيء، ولو انفردت الأجزاء كانت دالة، لأن عبدا دل على ذات اتصفت بالعبودية، والمؤلف ما دلت الأجزاء في حال البساطة وحال التركيب، كقولنا: الإنسان حيوان، فإن كل واحد من هذه الأجزاء يدل إذا انفرد، وإذا كان جزءا.
[انقسام المفرد باعتبار أنواعه]:
وينقسم المفرد باعتبار أنواعه إلى اسم وفعل وحرف، وبعضهم يزيد رابعا ويسميه خالفا، وهو الظرف والجار والمجرور أو أسماء الأفعال.
والصواب : أنهما من قبيل الأسماء، قالوا: ودليل الحصر أن المعاني ثلاثة: ذات، وحدث، ورابطة للحدث بالذات. فذات: الاسم، والحدث: الفعل، والرابطة: الحرف.
قال ابن الخباز: ولا يختص انحصار الكلمة في الأنواع الثلاثة بلغة العرب، لأن الدليل الذي دل على الانحصار في الثلاثة عقلي، والأمور العقلية لا تختلف باختلاف اللغات.
قلت: وفي كتاب الإيضاح لأبي القاسم الزجاجي في قول سيبويه: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، قيل: قصد به الكلم العربي دون غيره، وقيل: أراد الكلم العربي والعجمي. ا هـ.
[الكلي والجزئي]:
ثم الاسم ينقسم إلى كلي وجزئي، لأنه إما أن لا يمنع نفس تصوره من اشتراك كثيرين فيه أو يمنع، والأول الكلي، ومعنى اشتراك الأشخاص فيه أن معناه مطابق لمعانيها بالاسم والحد، لا بمعنى أنه موجود فيها، وهو تارة تقع فيه الشركة كالحيوان، وتارة لا تقع، أما مع الإمكان كالشمس عند من يجوز وجود مثلها أو الاستحالة كهي

(1/427)


عند من لا يجوزه، وحذفت تمثيل المنطقيين عمدا أدبا، وليس الكلي وهميا مرسلا، بل له وجود في العقل، وهو ما يجده كل عاقل من نفسه من المعاني التي لو نسبها إلى الشخصيات المناسبة لكانت مطابقة لها، كالمتمثل من معنى الإنسان والفرس، ولا معنى لكونه في العقل غير تميزه في النفس، لا بمعنى أن صورته قائمة بنفس العاقل، وإلا لكان من يعقل الحرارة والبرودة حارا وباردا.
[الطبيعي والمنطقي والعقلي]:
وينقسم إلى طبيعي ومنطقي وعقلي، لأنا إذا قلنا: الإنسان حيوان مثلا، وأنه كلي وأردت الحصة من الحيوانية التي شارك باعتبارها الإنسان غيره فطبيعي وهو موجود في الخارج، لأنه جزء من الإنسان الموجود وجزء الموجود موجود، وإن أردت به أنه غير مانع من الشركة فهو المنطقي، ولا وجود له في الخارج لاشتماله على ما لا يتناهى.
وقيل: بل هو موجود. ومدرك الخلاف في أن الإضافة هل لها وجود في الأعيان؟ والكلي المنطقي نوع من مقولة المضاف.
قال الإمام فخر الدين: ونازعه ابن واصل، وقال: بل الكلي المنطقي لا وجود له في الأعيان سواء قلنا: إن الإضافة موجودة في الأعيان أم لا، لأن الكلي الطبيعي موجود في الخارج، فلو كان المنطقي موجودا في الخارج، كان المركب منهما ضرورة موجودا في الخارج والمركب منهما هو الكلي العقلي، فيكون أيضا موجودا في الخارج لتركبه من جزأين موجودين، وسنبين أنه ليس كذلك. ا هـ.
وإن أردت الأمرين أعني الحيوانية التي وقعت بها الشركة مع كونها غير مانعة فهو العقلي فعند الحكماء: أنه موجود في الذهن لا في الخارج. قاله ابن واصل، وحكى غيره في وجوده في الخارج خلافا أيضا، والصحيح: أنه لا وجود له لاشتماله على ما لا يتناهى، وهو غير متشخص.
وزعم أفلاطون أنه موجود في الأعيان وأن الإنسان الكلي موجود في الخارج.
[الفرق بين الكلي والكل]:
والفرق بين الكلي والكل من أوجه:
أحدها : أن الكل موجود في الخارج، ولا شيء من الكلي بموجود في الخارج كذا قيل، وهو منازع بما سبق.
وثانيها : أجزاء الكل متناهية وأجزاء الكلي غير متناهية.

(1/428)


وثالثها: الكل لا بد من حضور أجزائه معا بخلاف الكلي.
[أقسام الكلي]:
ثم الكلي ينقسم باعتبارات:
أحدها: إلى متواطئ ومشكك، لأنه إن كان حصول معناه في أفراده الذهنية أو الخارجية على السواء، كالإنسان فهو المتواطئ، وإن لم يكن على السواء بل في بعض أفراده أقدم وأولى وأشد فهو المشكك، وسمي بذلك، لأنه يشكك الناظر هل هو متواطئ لوحدة الحقيقة فيه أو مشترك لما بينهما من الاختلاف؟ وذلك كالبياض الذي هو في الثلج أشد منه في العاج، وجوز الهندي فيه فتح الكاف وكسرها. إما أنه اسم فاعل للتشكيك أو اسم مفعول، لكون الناظر يتشكك فيه.
ومنهم من أنكر حقيقة هذا القسم، لأنه إما أن تستعمل مع ضميمة تلك الزيادة أو لا، فإن لم يكن فهو المتواطئ، وإن كان فهو المشترك.
والصحيح: أنه قسم ثالث.
قيل: وأول من قال به ابن سينا، لأن تركب الشبهين يخرجه إلى حقيقة أخرى كالخنثى، فالمتواطئ أن يضع الواضع للقدر المشترك بقيد عدم الاختلاف في المحال مع اختلاف المحال في أمور من غير جنس المسمى، كامتياز أفراد الإنسان بالذكورة والأنوثة، وهذا معنى قولهم: المتواطئ ما استوى محاله، ويسمى: اسم الجنس كالرجل، ويسمى المطلق.
وقيل: هو الموضوع لمعنى كلي مستوفى محاله، فكلي احتراز من العلم ومستو احتراز من المشكك ويسمى بذلك، لأن معناه في كل محل موافق لمعناه في الآخر.
والتواطؤ التوافق. قال تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [سورة التوبة: 37] والمشكك أن يضع للقدر المشترك بقيد الاختلاف في المحال بأمور من جنس المسمى كالنور في الشمس، واستحالة التغيير في الواجب، فاشترك القسمان في أن الوضع في كل منهما للقدر المشترك وافترقا بقيديهما.

(1/429)


تنبيهات
[التنبيه] الأول
[إطلاق المتواطئ على أفراده هل هو حقيقة أو مجاز؟]
إطلاق المتواطئ على كل من أفراده هل حقيقة أو مجاز؟ فيه بحث لكثير من المتأخرين، فقيل: إنه مجاز، لأنه موضوع للقدر المشترك فإذا استعمل في الخصوص فقد استعمل في غير ما وضع له فيكون مجازا، وقيل: إن استعمل فيه بحسب ما فيه من القدر المشترك فهو حقيقة، وإن استعمل فيه بخصوص كان مجازا.
والمختار: الأول: ولا تحقيق في هذا التفصيل، فإن الاستعمال في الخصوص إنما هو بحسب الخصوص، أما إذا أردت العموم فلم تستعمله، فلا وجه للخصوص، فلا حاجة إلى التفصيل، وإن كان حقا.
الثاني : أن المتواطئ قد يغلب استعماله في بعض أفراده دون بعض.
[التنبيه] الثاني
[ينقسم الكلي باعتبار لفظه إلى مشتق وغيره]
باعتبار لفظه إلى مشتق وغيره لأنه إما أن يدل على الماهية بصفة فهو المشتق كالأسود، ويسمى في اصطلاح النحويين صفة، وإما أن لا يدل، وحينئذ إن دل على نفس الماهية فقط فهو اسم الجنس، كالإنسان والفرس إذا كان الألف واللام لتعريف الماهية، وإن دل على الماهية وعلى قيد آخر زائد عليها بأن كان ذلك القيد هو الوحدة أو الكثرة الغير المعينة فهو النكرة، وإن كان هو الكثرة المعينة الغير المنحصرة، فهو العام، وإن كانت منحصرة فهو اسم العدد.
قال الأصفهاني: والدال على الجنس ينقسم إلى اسم جنس كأسد، وعلم جنس كأسامة، وليسا مترادفين، لأن اسم الجنس موضوع للماهية الكلية، وعلم الجنس موضوع لتلك الماهية بقيد تشخصها في الذهن، فإن تلك الماهية لا بد أن تمتاز عن غيرها وتتشخص في الذهن، ومع ذلك فإنها تصدق على الأفراد الجزئية والخارجية على ما تلخص في علم المنطق من صدق المعاني الكلية على الجزئيات.

(1/430)


[التنبيه] الثالث
باعتبار معناه
والكلي إما تمام الماهية أو جزء منها أو خارج عنها، والمراد أن الماهية إما أن تعتبر من حيث إنها ماهية مع قطع النظر عما يعرض لها من العوارض كالجزئية والخارجية، أو يعتبر مع العارض نحو كونها جزءا لغيرها أو خارجا عن ماهية غيرها، فالأول تمام الماهية، والثاني جزء منها، والثالث خارج عنها.
واعلم أن المقول في جواب ما هو، إنما هو الأول، لأنه سؤال عما به هوية الشيء وهو تمام الماهية، وأما الكلي الذي هو جزء الماهية فهو المسمى بالذاتي على رأي الأكثرين، فتمام المشترك هو الجنس، وتمام التمييز هو الفصل.
وأما الخارج فإن اختص بنوع واحد لا يوجد في غيره فهو الخاصة، وإن لم يختص فهو العرض العام.
ومما يغلظ فيه كون العرض هاهنا هو المقابل للجوهر، وليس كذلك فإن العرضي قد يكون جوهرا كالأبيض، وقد لا يكون كالبياض، والعرض لا يكون جوهرا كالبياض، ثم العرض قد يكون لازما لحقيقة الشيء، كالضحك للإنسان أعني بالقوة.
[الفرق بين العرضي اللازم والذاتي]:
والفرق بين العرضي اللازم والذاتي: أن العرض اللازم يكون بعد تحقيق الشيء والذاتي يكون مقدما على حقيقة الشيء، فإن الضحك وصف للإنسان بعد تحققه إنسانا، والحيوان وصف له مقدم ذهنا على كون الإنسان إنسانا، وقد يكون لازما لوجوده كسواد الحبشي، وكون الإنسان موجودا.
والعرض قد يكون غير لازم في الوجود ولا في الوهم لجواز زواله إما سريعا كالقيام، أو بطيئا كالسواد.
[الجزئي]:
وأما الجزئي: فإما أن يستقل في دلالته على المعنى الجزئي فهو العلم كزيد، وإلا فإن احتاج إلى قرينة، إما تكلم أو خطاب أو غيبة، فهو وهو الموصول. هذا هو الذي عليه الأكثرون، منهم الرازي وأتباعه، أعني أن المضمر جزئي، وقد رأيته مصرحا به في كتاب القفال الشاشي في أول باب العموم.

(1/431)


وحجتهم، أن الكلي نكرة والمضمرات أعرف المعارف، ولأنه لو كان موضوعا لكلي لما أفاد الشخص، لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص، ورجح القرافي والأصفهاني كونه موضوعا لكلي، لأنه لو كان لجزئي لما دل على شخص آخر إلا بوضع آخر، فلما صدقت لفظة أنا على ما لا يتناهى من المتكلمين وكذلك أنت على ما لا يتناهى من المخاطبين، و هو على ما لا يتناهى من الغائبين من غير احتياج لوضع دل على أنه كلي، ومال إليه أبو بكر بن طلحة من النحاة. فقال: إن المضمر لا ينعت، لأنه لا يقع فيه عموم فيفتقر إلى تخصيص ولا اشتراك فيفتقر إلى إزالة كذا يقول النحويون المتقدمون، وفيه نظر، فإنه يبدل منه للبيان، ولو لم يقع فيه اشتراك لما أبدل منه أصلا، وكذا قولهم: المتكلم أعرف من المخاطب، والمخاطب أعرف من الغائب، اعتراف مبهم بدخول الاشتراك، وإنما لم ينعت لأمر آخر.
وقال الشيخ أبو حيان: هو كلي في الوضع جزئي في الاستعمال، وهو حسن، وبه يرتفع الخلاف.
والحق: أن الضمير بحسب ما يعود إليه، فإن عاد على عام كان عاما في كل فرد، أو على جمع فهو له، وإن عاد على خاص كان خاصا، وأما إطلاقهم أن العلم جزئي، فهو في علم الشخص، أما علم الجنس فلا شك أنه كلي.
[الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص واسم الجنس]:
واعلم أنه مما يكثر السؤال عنه الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص واسم الجنس، وهو من نفائس المباحث.
قال القرافي: وكان الخسرو شاه يقرره، ولم أسمعه من أحد إلا منه، وما كان في البلاد المصرية من يعرفه، وهو أن الوضع فرع التصور فإذا استحضر الواضع صورة الأسد ليضع لها، فتلك الصورة الثابتة في ذهنه هي جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد، فإن هذه الصورة واقعة في هذا الزمان، ومثلها يقع في زمان آخر، وفي ذهن شخص آخر، والجمع مشترك في مطلق صورة الأسد، فهذه الصورة جزئية من مطلق صورة الأسد، فإن وقع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس، وهي من حيث عمومها وخصوصها تطلق على كل أسد في العالم، لأنا إنما أخذناها في الذهن مجردة عن جميع الخصوصيات فتطلق على الجميع، فلا جرم يطلق لفظ الأسد وأسامة على جميع الأسود لوجود الشركة فيها كلها فيقع الفرق بين اسم الجنس

(1/432)


وعلم الجنس بخصوص الصورة الذهنية.
والفرق بين علم الجنس وعلم الشخص: أن علم الشخص موضوع للحقيقة بقيد التشخص الخارجي، وعلم الجنس موضوع للماهية بقيد التشخص الذهني. ا هـ.
وقال ابن إياز ردا على من فرق بين اسم الجنس وعلم الجنس: أن علم الجنس وهو أسامة موضوع للحقيقة الذهنية من غير نظر للأفراد، وعكسه اسم الجنس.
قال: فيلزم أن أسامة إذا استعمل في الأفراد الخارجية أن يكون مجازا، وليس كذلك بل هو حقيقة.
وقال الشيخ أثير الدين في الرد على من فرق بينهما: الوضع مسبوق بالتصور، فإن كان للأفراد الخارجية فيلزم وضعه من غير قصد، وهو باطل.
وقال صاحب البسيط من النحويين: إنما حكم لعلم الجنس بالعلمية، لأنهم عاملوه معاملة الأعلام في أربعة أمور: دخول "أل" عليها، وإضافتها، وفي نصب الحال عنها نحو هذا أسامة مقبلا، وامتناع صرفها عند وجود علتين فيها، وفي تحقق علميتها أربعة أقوال: أحدها لأبي سعيد، وبه قال ابن بابشاذ وابن يعيش أنه موضوع على الجنس بأسره بمنزلة تعريف الجنس باللام في نحو الدينار والدرهم، ولهذا يقال: ثعالة يفر من أسامة، أي أشخاص هذا الجنس يفر من أشخاص هذا الجنس، وإنما لم يحتاجوا في هذا النوع إلى تعيين الشخص كغيرها من الأعلام، لأنها لا تحتاج إلى تعيين أفرادها.
قال ابن يعيش: وتعريفها لفظي، وهي في المعنى نكرات، لأن اللفظ وإن أطلق على الجنس فقد يطلق على أفراده، ولا يخص شخصا بعينه، وعلى هذا فيخرج عن حد العلم.
والثاني : لابن الحاجب أنها موضوعة للحقائق المتحدة في الذهن بمنزلة التعريف باللام للمعهود الذهني نحو أكلت الخبز وشربت الماء، فإذا أطلق على الواحد في الوجود فلا بد من القصد إلى الحقيقة، فالتعدد باعتبار الوجود لا باعتبار الوضع، والفرق بين أسد وأسامة أن أسدا موضوع لكل فرد من أفراد النوع على طريق البدل، فالتعدد فيه من أصل الوضع، وأما أسامة فإنه لزم من إطلاقه على الواحد في الوجود التعدد، فالتعدد جاء فيه ضمنا لا مقصودا بالوضع.
والثالث : أنه لما لم يتعلق بوضعه غرض صحيح بل الواحد من حفاة العرب إذا وقع طرفه على وحش عجيب، أو طير غريب أطلق عليه اسما يشتقه من خلقته أو فعله أو

(1/433)


وصفه، فإذا رآه مرة أخرى أجرى عليه ذلك الاسم باعتبار شخصه، ولا يتوقف على تصور أن هذا الموجود هو المسمى أولا أو غيره، فصارت مشخصات كل نوع مندرجة تحت الأول.
والرابع : قلته أنا: أن لفظ علم الجنس موضوع للقدر المشترك بين الحقيقة الذهنية والوجودية، فإن لفظ أسامة يدل على الحيوان المفترس عريض الأعالي، فالافتراس وعرض الأعالي مشترك بين الذهني والوجودي، فإذا أطلق على الواحد في الوجود، فقد أطلق على ما وضع له لوجود القدر المشترك، ويلزم من إخراجه إلى الوجود التعدد، فيكون التعدد من اللوازم لا مقصودا بالوضع بخلاف أسد، فإن تعدده مقصود بالوضع.
فإذا تقرر ذلك فالفرق بين علم الجنس واسم الجنس بأمور:
أحدها : امتناع دخول اللام على أحدهما وجوازه في الآخر، ولذلك كان ابن لبون وابن مخاض اسم جنس بدليل دخول لام التعريف عليهما.
الثاني : امتناع الصرف يدل على العلمية.
الثالث : نصب الحال عنها.
الرابع : نص أهل اللغة على ذلك. وأما الإضافة فلا دليل فيها، لأن الأعلام جاءت مضافة. ا هـ.
وأحسن ما قيل فيه: أن اللفظ إن كان موضوعا بإزاء الحقيقة فلا بد أن يتصور الحقيقة، ويحضر فرد من أفرادها في الذهن متشخصا، فالواضع تارة يضع للحقيقة لا بقيد التشخص الخاص في ذهنه، فيكون ذلك اسم جنس كمن حضر في ذهنه حقيقة الأسد، وتشخص في ذهنه فرد من أفراده، فوضع للحقيقة لا لذلك الفرد، وتارة يضع للتشخص الخاص في ذهنه بقيد ذلك الشخص الذي هو حاصل في أفراد كثيرة خارجية، فهذا علم الجنس، وتارة يضع للشخص الخارجي، فهو علم الشخص، وسمي هذا علما، لأن الوضع فيه للشخص، ليكون التشخيص للوضع الذهني والخارجي.
وذهب الزمخشري إلى أن علم الجنس هو الذي لوحظ فيه خاصة من خواص ذلك الجنس، وضعف بأن العلم هو الموضوع للحقيقة بقيد التشخص الذهني، وليس هذا من باب الاصطلاح حتى لا يمنع، لأنا قدمنا أن العلم حقيقته الوضع للتشخص الذهني والخارجي، فاعتبار الوصف لا مدخل له فيه، فهذا هو الفرق الصحيح بين الثلاثة. وعبارة سيبويه تعطي ذلك حيث قال: هذا باب من المعرفة يكون فيه الاسم

(1/434)


الخاص شائعا في أمته ليس واحد منها به من الآخر، نحو قولك للأسد أبو الحارث وأسامة، وللثعلب ثعالة وأبو الحصين، وذكر أمثلة. وفرق بين أسامة وزيد بأن زيدا قد عرفه المخاطب بحليته أو أنه قد بلغه، وإذا قال أسامة، فإنما يريد هذا الأسد ولا يريد أن يشير إلى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك كمعرفته زيدا، ولكنه أراد ب هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم، فهذا الكلام منه يعطي ما قلنا، وانظر قوله: يكون فيه الاسم خاصا شائعا، فجعله خاصا باعتبار الصورة المشخصة الموضوع وشائعا باعتبار الصورة الخارجية، وإلى قوله: يريد هذا الأسد ولا يريد إلى شيء قد عرفته، وبهذا الفرق يتضح أن علم الجنس معرفة لفظا ومعنى، وأن قول ابن مالك: إنه معرفة لفظا ونكرة معنى وأنه في أسامة في السباع كأسد ممنوع، ووافقه أبو حيان على أن أسامة نكرة في المعنى، وفيه ما تقدم، فإذا ثبت، هذا فلا إشكال في أن علم الجنس كلي، لأنه يشترك في مفهومه كثيرون.

(1/435)